(( العدد الجديد - عدد 35)) يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد من مجلة كلمة حق، ومعه مختصر كتاب قصة الاقتصاد المصري، لجلال أمين (من يواجه مشكلة في التحميل هناك روابط بديلة في التعليقات) حمّل العدد t.me/klmtu/60 الهدية t.me/klmtu/61 الأعداد السابقة t.me/klmtu
(( العدد الجديد - عدد 35))

يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد من مجلة كلمة حق، ومعه مختصر كتاب قصة الاقتصاد المصري، لجلال أمين

(من يواجه مشكلة في التحميل هناك روابط بديلة في التعليقات)

حمّل العدد
t.me/klmtu/60

الهدية
t.me/klmtu/61

الأعداد السابقة
t.me/klmtu
‏٠١‏/٠٦‏/٢٠٢٠ ٩:٤٧ م‏
ملف: أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب عالقون بلا استراتيجية (3-3) ● كان لدى بوش وأوباما خُطط على طرفي نقيض لكسب الحرب وقد فشلت كلها تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1] ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم ________________________________________ [1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء. الذي يقولونه في العلن 27 يوليو 2010 "يجب علينا تصنيفهم إلى عنيد لا يقبل المساومة، وإلى طرف يمكن التفاهم معه، وسوف نحيّد القسم الأول منهم". جنرال البحرية آنذاك جيم ماتيس، عن طالبان خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ. افتقر أوباما -كسابقه بوش- إلى استراتيجية دبلوماسية فعالة للتفاهم مع طالبان. كانت إدارة أوباما في العلن تدعو إلى "مصالحة" بين الحكومة الأفغانية وقادة التمرد، لكن مقابلات الدروس المستفادة تظهر أن مستشاري أوباما اختلفوا بشدة حول ما يعنيه ذلك. وقال روبين، الذي فضّل التحدث إلى طالبان، للمقابلات إن بعض المتشددين حصروا المصالحة في شريحة معينة وصفها قولهم: "سنكون لطيفين مع الأشخاص الذين يستسلمون". وقال على وجه الخصوص إن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون كانت "مترددة جداً في المضي قدماً في هذا"، بسبب تطلعاتها الرئاسية. وقال روبن: "النساء يشكلن دائرة انتخابية مهمة للغاية بالنسبة لها، لم تستطع الترويج لعقد صفقة مع طالبان". "إذا كنت تريد أن تكون أول امرأة تترأس، فلا يمكنك التلميح أو فعل ما يشكك في أنك أقوى شخص في الأمن القومي". جادل دبلوماسيون آخرون بأن محاولة الاتفاق مع طالبان ما هي إلا مضيعة للوقت. وقال ريان كروكر، الذي عمل سفيراً لأوباما في أفغانستان في الفترة من 2011 إلى 2012، لمحاوري الحكومة: "لم أصدق أبداً أن المفاوضات مع طالبان، أياً كان من يجريها، ستقود إلى أي نجاح". شعرت أن المفاوضات على الأكثر يمكنها أن تحيد عدداً من أفراد طالبان وتجعلهم في صف الحكومة، وأن هذا سيحدث بالتدريج". في مقابلات الدروس المستفادة، أقر مسؤولو إدارة أوباما أنهم فشلوا في مواجهة تحدٍ استراتيجي آخر أزعج بوش، وهو ما يجب فعله حيال باكستان. واصلت واشنطن منح باكستان مليارات الدولارات سنوياً للمساعدة في مكافحة الإرهاب. ومع ذلك، لم يتوقف القادة العسكريون والاستخباراتيون الباكستانيون عن دعم طالبان الأفغانية وتوفير الملاذ لقادتها. قال مسؤول سابق بالبيت الأبيض لمحاورين حكوميين عام 2015: "اعتقدت إدارة أوباما أنه إذا بقيتْ هناك سترى باكستان النور". في مقابلة منفصلة عام 2015، اشتكى مسؤول آخر لم يذكر اسمه من أن إدارة أوباما لن تسمح للقوات الأمريكية بمهاجمة معسكرات طالبان على الجانب الباكستاني من الحدود. وقال المسؤول "وما زلنا حتى اليوم نتساءل ما المشكلة!". "لقد تحدثت إلى الجنرال بتريوس وقلت لو كنت جنرالًا وأُطلقت رصاصة على رجالي سأطارد مصدرها، فقال بتريوس نعم، حسنًا، تحدث إلى واشنطن!". وقال كروكر، الذي عمل أيضًا سفيرًا للولايات المتحدة في باكستان من عام 2004 إلى عام 2007، لمحاوري الحكومة: "إن القادة الباكستانيين لم يكلفوا أنفسهم عناء إخفاء ازدواجيتهم". وقد روى محادثة أجراها مع الجنرال أشفق كياني، الذي كان آنذاك رئيس المخابرات الباكستانية، والذي كان يتابع معه شأن طالبان، قال فيها: "أتعلم؟ أعرف أنك تعتقد أننا نحوط رهاناتنا، أنت على حق، لأنكم في يوم من الأيام سترحلون، الأمر سيكون مثل أفغانستان في المرة الأولى، سوف ينتهي أمركم، لكننا سنبقى هنا ولا نستطيع نقل بلادنا إلى مكان آخر. ولا يمكن أن نضيف إلى كل مشاكلنا الأخرى تحويل طالبان إلى عدو مميت، لذا، نعم، نحن نحوط رهاناتنا". قال كروكر في مقابلات الدروس المستفادة في ديسمبر 2016: "إن الطريقة الوحيدة لإجبار باكستان على التغيير تكون بإبقاء ترامب القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى، ومنحها الضوء الأخضر لمطاردة طالبان على الأراضي الباكستانية". إن ذلك سيسمح له بالقول: "أنت قلق بشأن مصداقيتنا، ومن انسحابنا من أفغانستان، أنا هنا لأخبرك أنني سأبقي القوات هناك طالما أشعر أننا بحاجة إليها". "هذه هي الأخبار الجيدة، أما الأخبار السيئة بالنسبة لك فهي أننا سنقتل قادة طالبان أينما وجدناهم: بلوشستان، البنجاب، وسط إسلام آباد، سنذهب للعثور عليهم، لذلك ربما تريد إعادة التفكير في استراتيجيتك". الذي يقولونه في العلن 2 فبراير 2015 "التكتيك بدون استراتيجية طريق جيدة للفشل". مسؤول ألماني غير مذكور اسمه لمقابلات الدروس المستفادة في البداية، كانت الآمال كبيرة أن تؤدي استراتيجية أوباما إلى تغيير الاتجاه، لكن المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين اشتركوا في مقابلات مشروع SIGAR قالوا إنه سرعان ما أصبح واضحًا أن الدروس المستفادة من منطقة حرب ما لا تنطبق بالضرورة على الأخرى. قال ضابط مجهول الهوية من القوات الخاصة عمل في أفغانستان عام 2013، إن جميع القوات هناك كانت تعتقد أن أفغانستان ستكون مثل العراق تمامًا. قال: "كانوا يشيرون إلى العراق باستمرار، ولكن كون القرويين يرتدون الروب ويتحدثون لغة ديركا ديركا[1] لا يعني أنها البلد نفسه". قال الضابط لمقابلة الحكومة إن الاستراتيجية الجديدة لمكافحة التمرد كانت متعجلة، إذ تلقت القوات توجيهات شحيحة من الأعلى: "لم نُعطَ أي وثائق تعلمنا كيفية القيام بعملنا، لقد أُعطينا الأولويات الاستراتيجية الغامضة للقائد، لكن ذلك كان بمثابة "اذهب وافعل أفعالاً جيدة". فالقيام بالأمور على وجهها الصحيح سواء على المستوى الاستراتيجي أو التشغيلي، تأخر لصالح فعلها بسرعة. وقال آخرون إن الاستراتيجية قائمة على الكلمات الطنانة وتفتقر إلى الجوهر. تبنى القادة العسكريون الأمريكيون نهجًا وصفوه بأنه "واضح، متماسك، مبني"، إذ ستطهر القوات المناطق من المتمردين وتبقى حتى يتمكن مسؤولو الحكومة المحلية وقوات الأمن الأفغانية من تحقيق الاستقرار بالمناطق بتدفق المساعدات. ونظرًا لأنهم كانوا يعملون وفقًا لجدول زمني ضيق، حاول القادة الأمريكيون أولاً تطهير المناطق التي ترسخت فيها طالبان بشدة، مثل مقاطعتي هلمند وقندهار في جنوب أفغانستان، وقد أدى هذا النهج إلى نتائج عكسية عندما ألقى المسؤولون الأمريكيون المساعدة في المناطق التي ظلت داعمة لطالبان ولكنها أهملت المناطق السلمية التي انحازت إلى الحكومة في كابول. وفي مقابلة مع "الدروس المستفادة"، قال مسؤول كبير بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إن حكامًا مستقرين من مقاطعات مستقرة سيأتون إلى كابول ويسألون: "ما الذي يجب علي فعله للحصول على حب الأمريكيين؟ هل نقوم ببعض الفوضى؟". مسؤول الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، مقابلة الدروس المستفادة، 2016/11/18. وقال نفس المسؤول: "كنا بحاجة إلى الذهاب أولاً حيث المسالمون ونكافئ أصحاب السلوك الإيجابي منهم"، مضيفًا أن الأمريكيين وحلفاءهم بحاجة إلى "تعزيز الأشخاص الذين يتعاونون مع الحكومة، وبذلك يمكننا أن نبرهن عن نجاحنا، ثم نطلب المثل في المناطق غير الآمنة، لكن هذا يستغرق وقتًا كما ينبغي، ونحن لم يكن لدينا وقت أو صبر". عام 2014، مع تراكم الأدلة على أن خطة أوباما كانت متعثرة، أخبرت مسؤولة كبيرة في وزارة الخارجية مقابلات الحكومة أن المهمة كانت غير مركزة منذ البداية. وقالت الدبلوماسية الكبيرة: "لقد سئمت من قول أوباما: (لقد سئمنا الحرب). 5٪ فقط من الأمريكيين مشاركون في الحرب، إنها لا تؤثر على معظم الأمريكيين". وأضافت: "لو كنت مؤلفةً كتابًا، فإن غلافه سيكون: "أمريكا تذهب إلى الحرب دون أن تعرف لماذا تفعل ذلك". “لقد دخلنا بشكل لا إرادي بعد أحداث 11 سبتمبر دون معرفة ما كنا نحاول تحقيقه. أود أن أكتب كتابًا عن أهمية وجود خطة ونهاية متوقعة". أخبر عشرات المسؤولين الأمريكيين والأفغان الذين أجروا المقابلات أن المشاكل تعكس خللاً أعمق بكثير. على الرغم من سنوات من الحرب، ما زالت الولايات المتحدة لا تفهم ما الذي يحفز أعداءها على القتال. قال مسؤول لم تسمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مقابلة مع الدروس المستفادة عام 2016 إن وجود طالبان "كان عرضًا، لكن نادرًا ما حاولنا فهم ماهية المرض". في مقابلة منفصلة ذلك العام، قال ضابط الشؤون المدنية بالجيش: «من أجل التوضيح، عليك أن تعرف عدوك. أنت لا تعرف عدوك، أنت فقط تدمر ما حولك وتبعد الناس من أمامك". وقال شهم محمود ميخائيل، وهو مسؤول أفغاني كبير يعمل الآن حاكمًا لإقليم نانجاهار، للمقابلات إن هناك طريقة بسيطة لمعرفة ما إذا كانت استراتيجية الولايات المتحدة ناجحة. وقال: "أخبرت بتريوس أنك ستفشل في مكافحة التمرد التي لا تعرف فيها صديقك، ولا عدوك ولا البيئة المحيطة". "أخبرته بالتحقق من قائمته التي تحتوي الأشخاص الذين يستحقون القتل أو الاعتقال، وقلت له انظر هل أصبحت أطول أم أقصر؟ لو أصبحت أطول فهذا يعني أن استراتيجيتك قد فشلت". في مارس 2011، عندما كان قائدًا لقوات الولايات المتحدة وقوات الناتو، قدر بتريوس أعداد مقاتلي طالبان بـنحو 25000، وفقًا لشهادة أدلى بها للكونجرس. اليوم، يقدر الجيش الأمريكي أن العدد قد تضاعف إلى نحو 60،000. *** [هنا ينتهي الملف الثاني من تحقيق "أوراق أفغانية.. التاريخ السري للحرب". ونبدأ في ترجمة الملف الثالث في العدد القادم بحول الله وقوته. (المترجم)] ________________________________________ [1] "يستخدم قطاع من الأمريكيين لفظة "ديركا ديركا" للإشارة إلى اللغة التي يتحدث بها المسلمون بالعراق وأفغانستان وما شابههما من البلدان، وبعضهم يصفها بأنها لغة الإرهابيين". المترجم
ملف: أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب
عالقون بلا استراتيجية (3-3)

● كان لدى بوش وأوباما خُطط على طرفي نقيض لكسب الحرب وقد فشلت كلها

تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1]

ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم
________________________________________
[1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء.





الذي يقولونه في العلن
27 يوليو 2010

"يجب علينا تصنيفهم إلى عنيد لا يقبل المساومة، وإلى طرف يمكن التفاهم معه، وسوف نحيّد القسم الأول منهم".

جنرال البحرية آنذاك جيم ماتيس، عن طالبان خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ.


افتقر أوباما -كسابقه بوش- إلى استراتيجية دبلوماسية فعالة للتفاهم مع طالبان.

كانت إدارة أوباما في العلن تدعو إلى "مصالحة" بين الحكومة الأفغانية وقادة التمرد، لكن مقابلات الدروس المستفادة تظهر أن مستشاري أوباما اختلفوا بشدة حول ما يعنيه ذلك.

وقال روبين، الذي فضّل التحدث إلى طالبان، للمقابلات إن بعض المتشددين حصروا المصالحة في شريحة معينة وصفها قولهم: "سنكون لطيفين مع الأشخاص الذين يستسلمون".

وقال على وجه الخصوص إن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون كانت "مترددة جداً في المضي قدماً في هذا"، بسبب تطلعاتها الرئاسية.

وقال روبن: "النساء يشكلن دائرة انتخابية مهمة للغاية بالنسبة لها، لم تستطع الترويج لعقد صفقة مع طالبان". "إذا كنت تريد أن تكون أول امرأة تترأس، فلا يمكنك التلميح أو فعل ما يشكك في أنك أقوى شخص في الأمن القومي".

جادل دبلوماسيون آخرون بأن محاولة الاتفاق مع طالبان ما هي إلا مضيعة للوقت.

وقال ريان كروكر، الذي عمل سفيراً لأوباما في أفغانستان في الفترة من 2011 إلى 2012، لمحاوري الحكومة: "لم أصدق أبداً أن المفاوضات مع طالبان، أياً كان من يجريها، ستقود إلى أي نجاح".

شعرت أن المفاوضات على الأكثر يمكنها أن تحيد عدداً من أفراد طالبان وتجعلهم في صف الحكومة، وأن هذا سيحدث بالتدريج".

في مقابلات الدروس المستفادة، أقر مسؤولو إدارة أوباما أنهم فشلوا في مواجهة تحدٍ استراتيجي آخر أزعج بوش، وهو ما يجب فعله حيال باكستان.
واصلت واشنطن منح باكستان مليارات الدولارات سنوياً للمساعدة في مكافحة الإرهاب. ومع ذلك، لم يتوقف القادة العسكريون والاستخباراتيون الباكستانيون عن دعم طالبان الأفغانية وتوفير الملاذ لقادتها.

قال مسؤول سابق بالبيت الأبيض لمحاورين حكوميين عام 2015: "اعتقدت إدارة أوباما أنه إذا بقيتْ هناك سترى باكستان النور".

في مقابلة منفصلة عام 2015، اشتكى مسؤول آخر لم يذكر اسمه من أن إدارة أوباما لن تسمح للقوات الأمريكية بمهاجمة معسكرات طالبان على الجانب الباكستاني من الحدود.

وقال المسؤول "وما زلنا حتى اليوم نتساءل ما المشكلة!". "لقد تحدثت إلى الجنرال بتريوس وقلت لو كنت جنرالًا وأُطلقت رصاصة على رجالي سأطارد مصدرها، فقال بتريوس نعم، حسنًا، تحدث إلى واشنطن!".

وقال كروكر، الذي عمل أيضًا سفيرًا للولايات المتحدة في باكستان من عام 2004 إلى عام 2007، لمحاوري الحكومة: "إن القادة الباكستانيين لم يكلفوا أنفسهم عناء إخفاء ازدواجيتهم".

وقد روى محادثة أجراها مع الجنرال أشفق كياني، الذي كان آنذاك رئيس المخابرات الباكستانية، والذي كان يتابع معه شأن طالبان، قال فيها: "أتعلم؟ أعرف أنك تعتقد أننا نحوط رهاناتنا، أنت على حق، لأنكم في يوم من الأيام سترحلون، الأمر سيكون مثل أفغانستان في المرة الأولى، سوف ينتهي أمركم، لكننا سنبقى هنا ولا نستطيع نقل بلادنا إلى مكان آخر. ولا يمكن أن نضيف إلى كل مشاكلنا الأخرى تحويل طالبان إلى عدو مميت، لذا، نعم، نحن نحوط رهاناتنا".

قال كروكر في مقابلات الدروس المستفادة في ديسمبر 2016: "إن الطريقة الوحيدة لإجبار باكستان على التغيير تكون بإبقاء ترامب القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى، ومنحها الضوء الأخضر لمطاردة طالبان على الأراضي الباكستانية".

إن ذلك سيسمح له بالقول: "أنت قلق بشأن مصداقيتنا، ومن انسحابنا من أفغانستان، أنا هنا لأخبرك أنني سأبقي القوات هناك طالما أشعر أننا بحاجة إليها".

"هذه هي الأخبار الجيدة، أما الأخبار السيئة بالنسبة لك فهي أننا سنقتل قادة طالبان أينما وجدناهم: بلوشستان، البنجاب، وسط إسلام آباد، سنذهب للعثور عليهم، لذلك ربما تريد إعادة التفكير في استراتيجيتك".


الذي يقولونه في العلن
2 فبراير 2015

"التكتيك بدون استراتيجية طريق جيدة للفشل".
مسؤول ألماني غير مذكور اسمه لمقابلات الدروس المستفادة

في البداية، كانت الآمال كبيرة أن تؤدي استراتيجية أوباما إلى تغيير الاتجاه، لكن المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين اشتركوا في مقابلات مشروع SIGAR قالوا إنه سرعان ما أصبح واضحًا أن الدروس المستفادة من منطقة حرب ما لا تنطبق بالضرورة على الأخرى.

قال ضابط مجهول الهوية من القوات الخاصة عمل في أفغانستان عام 2013، إن جميع القوات هناك كانت تعتقد أن أفغانستان ستكون مثل العراق تمامًا. قال: "كانوا يشيرون إلى العراق باستمرار، ولكن كون القرويين يرتدون الروب ويتحدثون لغة ديركا ديركا[1] لا يعني أنها البلد نفسه".

قال الضابط لمقابلة الحكومة إن الاستراتيجية الجديدة لمكافحة التمرد كانت متعجلة، إذ تلقت القوات توجيهات شحيحة من الأعلى: "لم نُعطَ أي وثائق تعلمنا كيفية القيام بعملنا، لقد أُعطينا الأولويات الاستراتيجية الغامضة للقائد، لكن ذلك كان بمثابة "اذهب وافعل أفعالاً جيدة". فالقيام بالأمور على وجهها الصحيح سواء على المستوى الاستراتيجي أو التشغيلي، تأخر لصالح فعلها بسرعة.

وقال آخرون إن الاستراتيجية قائمة على الكلمات الطنانة وتفتقر إلى الجوهر. تبنى القادة العسكريون الأمريكيون نهجًا وصفوه بأنه "واضح، متماسك، مبني"، إذ ستطهر القوات المناطق من المتمردين وتبقى حتى يتمكن مسؤولو الحكومة المحلية وقوات الأمن الأفغانية من تحقيق الاستقرار بالمناطق بتدفق المساعدات.

ونظرًا لأنهم كانوا يعملون وفقًا لجدول زمني ضيق، حاول القادة الأمريكيون أولاً تطهير المناطق التي ترسخت فيها طالبان بشدة، مثل مقاطعتي هلمند وقندهار في جنوب أفغانستان، وقد أدى هذا النهج إلى نتائج عكسية عندما ألقى المسؤولون الأمريكيون المساعدة في المناطق التي ظلت داعمة لطالبان ولكنها أهملت المناطق السلمية التي انحازت إلى الحكومة في كابول.

وفي مقابلة مع "الدروس المستفادة"، قال مسؤول كبير بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إن حكامًا مستقرين من مقاطعات مستقرة سيأتون إلى كابول ويسألون: "ما الذي يجب علي فعله للحصول على حب الأمريكيين؟ هل نقوم ببعض الفوضى؟". مسؤول الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، مقابلة الدروس المستفادة، 2016/11/18.

وقال نفس المسؤول: "كنا بحاجة إلى الذهاب أولاً حيث المسالمون ونكافئ أصحاب السلوك الإيجابي منهم"، مضيفًا أن الأمريكيين وحلفاءهم بحاجة إلى "تعزيز الأشخاص الذين يتعاونون مع الحكومة، وبذلك يمكننا أن نبرهن عن نجاحنا، ثم نطلب المثل في المناطق غير الآمنة، لكن هذا يستغرق وقتًا كما ينبغي، ونحن لم يكن لدينا وقت أو صبر".

عام 2014، مع تراكم الأدلة على أن خطة أوباما كانت متعثرة، أخبرت مسؤولة كبيرة في وزارة الخارجية مقابلات الحكومة أن المهمة كانت غير مركزة منذ البداية.

وقالت الدبلوماسية الكبيرة: "لقد سئمت من قول أوباما: (لقد سئمنا الحرب). 5٪ فقط من الأمريكيين مشاركون في الحرب، إنها لا تؤثر على معظم الأمريكيين".

وأضافت: "لو كنت مؤلفةً كتابًا، فإن غلافه سيكون: "أمريكا تذهب إلى الحرب دون أن تعرف لماذا تفعل ذلك". “لقد دخلنا بشكل لا إرادي بعد أحداث 11 سبتمبر دون معرفة ما كنا نحاول تحقيقه. أود أن أكتب كتابًا عن أهمية وجود خطة ونهاية متوقعة".

أخبر عشرات المسؤولين الأمريكيين والأفغان الذين أجروا المقابلات أن المشاكل تعكس خللاً أعمق بكثير. على الرغم من سنوات من الحرب، ما زالت الولايات المتحدة لا تفهم ما الذي يحفز أعداءها على القتال.

قال مسؤول لم تسمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مقابلة مع الدروس المستفادة عام 2016 إن وجود طالبان "كان عرضًا، لكن نادرًا ما حاولنا فهم ماهية المرض".

في مقابلة منفصلة ذلك العام، قال ضابط الشؤون المدنية بالجيش: «من أجل التوضيح، عليك أن تعرف عدوك. أنت لا تعرف عدوك، أنت فقط تدمر ما حولك وتبعد الناس من أمامك".

وقال شهم محمود ميخائيل، وهو مسؤول أفغاني كبير يعمل الآن حاكمًا لإقليم نانجاهار، للمقابلات إن هناك طريقة بسيطة لمعرفة ما إذا كانت استراتيجية الولايات المتحدة ناجحة.

وقال: "أخبرت بتريوس أنك ستفشل في مكافحة التمرد التي لا تعرف فيها صديقك، ولا عدوك ولا البيئة المحيطة". "أخبرته بالتحقق من قائمته التي تحتوي الأشخاص الذين يستحقون القتل أو الاعتقال، وقلت له انظر هل أصبحت أطول أم أقصر؟ لو أصبحت أطول فهذا يعني أن استراتيجيتك قد فشلت".

في مارس 2011، عندما كان قائدًا لقوات الولايات المتحدة وقوات الناتو، قدر بتريوس أعداد مقاتلي طالبان بـنحو 25000، وفقًا لشهادة أدلى بها للكونجرس.

اليوم، يقدر الجيش الأمريكي أن العدد قد تضاعف إلى نحو 60،000.
***

[هنا ينتهي الملف الثاني من تحقيق "أوراق أفغانية.. التاريخ السري للحرب". ونبدأ في ترجمة الملف الثالث في العدد القادم بحول الله وقوته. (المترجم)]

________________________________________
[1] "يستخدم قطاع من الأمريكيين لفظة "ديركا ديركا" للإشارة إلى اللغة التي يتحدث بها المسلمون بالعراق وأفغانستان وما شابههما من البلدان، وبعضهم يصفها بأنها لغة الإرهابيين". المترجم
‏٠١‏/٠٦‏/٢٠٢٠ ١:٠٨ م‏
فتاوى كورونا التي هدمت الشعائر د. مجدي شلش [حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507 هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtu] سيل من الفتاوى المتعلقة بنازلة كورونا، منها ما يتعلق بالفرائض كصلاة الجمعة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنها ما يتعلق بالنوافل كصلاة الجماعة في المساجد والتراويح في شهر رمضان، هذه الفتاوى بعضها صدر من أشخاص والبعض الآخر صدر من مجامع أو هيئات علمية. لا عتب أبداً على أناس لا صلة لهم بالعلم وخاضوا بأهوائهم في غلق المساجد وهدم الشعائر التي هي أصلاً مهدومة في قلوبهم قبل سلوكهم، إنما العتب واللوم على من يتصدر للفتوى ويدلي بدلوه وهو منسوب لأهل العلم، وقد قدم بفتواه التي تمنع مطلقاً الشعائر في المساجد فرضاً أو نفلاً، وخاضت في ترك الصيام أو الحج لمنع الضرر المترتب على أداء الشعائر جماعة على طبق من ذهب لهدم الشعائر تأصيلاً وتفصيلاً. قد يقول قائل إنني أفتيت بالحق، والحق أحق أن يتبع، وافق أهواء المجرمين الذين يتربصون بالإسلام الدوائر والدواهي أو خالف، هذا دين، ويجب أن نفتي به، وهذا المنهج له عندي عدة نصائح: أولها: الفتاوى التي منعت الشعائر وقالت بحرمة الاجتماع في المساجد لصلاة الجمعة أو الجماعة إنما قامت على أدلة ظنية الثبوت أو الدلالة، وليس لها دليل قاطع يدل على المنع، إنما هي من قبيل الاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ، وليس من قبيل الحق المطلق، حتى يقال إن الفتوى بالمنع دين وحق وافق أهل الأهواء أو لم يوافقهم. ثانيها: غالب من قرأت لهم بالمنع ليسوا من أهل الفتوى، الذين توافرت فيهم شروط الاجتهاد، إنما منهم سادة خطباء من أهل الدعوة إلى الله، ومنهم من تخصص في الثقافة العامة، أو نشط في مجال التزكية، ومجال الفتوى وبالأخص في النوازل الكبرى يحتاج إلى تخصص دقيق، يشمل: 1- العلم بجميع النصوص التي وردت في النازلة، أو التي تشبهها في غالب أوصافها، حتى يصح التنزيل الصحيح. 2- فقه هذه النصوص وعللها في ضوء شرائط الاستدلال التي تمكن الشخص من الاستنباط الصحيح. 3- فقه الواقع والوقوف على التحديات التي تحياها الأمة الآن، فمن المعلوم أن الجهل بالواقع وبمفرداته يؤثر في صحة الفتوى، والواقع الذي تعيشه الأمة من الظلم والقتل والهدم لا يخفى على أحد، وفي مقدمة ذلك استهداف الشعائر الإسلامية التي القصد الأول منها إعلاء كلمة الله وإظهار التوجه الإسلامي للأمة. غالب الأنظمة المتحكمة في رقاب المسلمين الآن لا يرقبون في شعيرة من الشعائر إلّاً ولا ذمة، والواقع خير شاهد ودليل، فهل نقدم لهم على طبق من ذهب هدم الشعائر بأيدينا، أو أن الأمر يحتاج منا إلى تريث وفقه وإنزال الحكم على ما يناسبه، بحيث لا نقع في مخالفة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولا مقصد ضروري من المقاصد التي أجمع على رعايتها الشرع الحنيف، من حفظ دين أو نفس أو مال أو نسب أو عقل. الفتوى في النوازل من قبيل الاجتهاد قطعاً، ولما لم يجمع أهل العلم فيها على قول معين، تبقى في حيز الأخذ والرد، والقطع في محل الظن ليس من دأب الأفذاذ من العلماء، إنما من دأب بعض طلبة العلم الذين لم يتقنوا فن الفتوى. 4- الاستشهاد بالقواعد الشرعية التي لم تحظَ باتفاق العلماء في المنع من الشعائر وتصويرها للعامة على أنها من قبيل القواعد المتفق عليها، وأنها قاطعة في المنع من الشعيرة نوع من الغش والتدليس والاحتكام إلى مظنون لمنع ما هو ثابت بيقين ألا وهم تعظيم شعائر الله وأنها علامة على تقوى القلوب. 5- نعم نفي الضرر مقدم على جلب المنفعة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وارتكاب أخف الضررين أهون من ارتكاب أشدهما، كلها قواعد صحيحة، لكن من الذي عنده المكنة العلمية على تطبيقها على النازلة، هذا ليس للأفراد أو الهيئات المسيسة والتي تدافع عمن يملك قرارها، أو المؤسسات التي تعيش من أجل الأمن ولقمة العيش التي فقدته في بلادها. تنزيل الواقعة على النصوص الشرعية أو القواعد الشرعية يحتاج على سبيل الوجوب لهيئة علمائية مستقلة، تجمع أهل الاختصاص المحترفين في الفتوى، لا مجموعة هواة ليسوا من أهل التخصص وتلعب بهم الأهواء النفسية من حب الشهرة بالسبق إلى الفتوى والتسرع فيها حتى يكون من أهل السبق. القدوة في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم إذا جد جديد أو نزلت نازلة جمعوا لها أولي الأمر من أهل العلم، فإن اتفقوا صار إجماعاً، وإن تعددت الأقوال فالأمر فيه سَعة، مع وضع الضوابط والمحاذير لمن منع ولمن أجاز حتى لاتكون فتنة ويقع الضرر. 6- عرض مذاهب العلماء السابقين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من أئمة الاجتهاد المطلق في النازلة أمر مقدر ومحترم، لكن القطع به لزماننا والإلزام به لوقتنا وقد اختلفت الظروف والأحوال، فهؤلاء الأئمة غالبهم عاش في ظل خلافة تحترم الشعائر الإسلامية وبالأخص ما يتعلق منها بأمور العبادات من صلاة وصيام وحج، ولم يروا المهازل التي تعيشها الأمة في زمن حل فيه الاستخراب العقدي والفكري والأخلاقي والسياسي والمالي، وأصبحت الأمة رهينة عند أبناء القردة والخنازير، فهل تلزم الأمة الآن بما أفتى به المجتهدون في العصر الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع الهجري، أو أن ذلك يقدر ويحترم ويكون موضع الاستئناس عند الفتوى؟ 7- ألا من جديد في الفتوى يقدمه العلماء في النوازل، يحترموا فيه النصوص الشرعية والقواعد الفقهية واجتهادات السابقين من أولي العلم من أئمتنا وسادتنا، أم أننا ما زلنا عالة على فكرهم وجهدهم، العصمة للنص وحده، وما عدا ذلك فكل يؤخذ من كلامه ويترك حسب الواقع الذي نرى بأم أعيننا تحدياته وصعوباته تجاه الأمة الإسلامية. 8- الجديد الذي نستطيع أن نقدمه الآن هو: أن يكون القصد الأول من الفتوى ملاءمة المقاصد العامة مع فقه الواقع، والشرع أعطى بل ألزم الاجتهاد في كل نازلة بما يناسبها، والمناسب في نظري الآن هو: تنادي العلماء الأحرار الذين عرف عنهم إتقان التخصص في إخراج المنتج العلمي المتعلق بالفتوى، وفقههم للواقع بكل ظروفه وأحواله، فإن اتفقوا فقد بدأنا خطوة على طريق الاختصاص ولم شمل أهل العلم، وبداية لما أهم وأعظم، وإن اختلفوا فالأمر فيه مندوحة وسعة. قد يقول البعض هذا حلم لن يتحقق، أقول: ليس مستحيلاً أبداً، وكثير من الأحلام تحققت على أرض الواقع وأصبحت حالة وعرف، إلى أن يأتي ذلك الأمر أقول برأيي - فإن كان صواباً فمن توفيق الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله - بكل وضوح وصراحة في نازلة كورونا فيما يخص المنع من الصلاة في المساجد وصلاة التراويح والصيام وغير ذلك: بِحسْب علمي وتخصصي أفتي بالآتي: أولاً: صلاة الجمعة واجبة باتفاق أهل العلم، وإقامتها واجبة في المساجد بالصورة التي لا يتحقق بها ضرر قطعي، أو يغلب على الظن تحققه، وهذا ممكن، بالتباعد في الصفوف، وأخذ المسافة المناسبة بين المصلين، أما تركها بالكلية أرى فيه إثم كبير لمن أفتى بالمنع المطلق، وبالأخص إذا كان من غير أهل الاختصاص، ومن رواد الإعلام الذي يستضيف المتخصص وغير المتخصص، وإنما يركز على أهل الشهرة. ثانياً: صلاة الجماعة فرض كفاية في حق أهل البلد، إن تعمدوا تركها جميعاً يحاسبوا على ذلك، وعليهم من الإثم والوزر في ترك فرض من فرائض الإسلام وشعيرة من شعائره، أما على مستوى الأفراد فأهل التحقيق على أنها سنة مؤكدة، لا يصح المواظبة على تركها، فالسنن المؤكدة وإن جاز تركها بالجزء لا يجوز تركها بالكل، وبناء عليه: يلزم أهل كل بلد أن يقيموا ولو جماعة واحدة في بلدتهم، مع أخذ التدابير والاحتياط لمنع انتقال الفيروس لهم، وعلى المستوى الفردي يؤدي كل مسلم على الأقل صلاة واحدة في المسجد يومياً، وإن تيسر له أكثر من ذلك فهو أفضل لا شك. ثالثاً: صلاة التروايح سنة مؤكدة في رمضان، والاجتماع لها يمثل شعيرة خاصة بالمسلمين في رمضان، ويجب ألا تهدم بالكلية، والعرف فيها أنها في المسجد وليست في البيت، ولا يجري عليها أحكام النوافل الفردية التي جاءت الأحاديث تدل على فضلها في البيت، فما كان شعيرة كصلاة العيدين والكسوف والخسوف والتراويح الجماعة في خارج البيت لا شك أفضل، وبالأخص لو كانت في المسجد، ويتخذ فيها من التدابير ما سبق أن قلته في صلاة الجماعة، وبناء عليه: الفتوى التي تمنع مطلقاً لا حظ لها في نظري من الصواب. رابعاً: الصلاة خلف المذياع بخصوص صلاة التراويح: ليس فيها إجماع على المنع أو الجواز ممن تكلموا في حكمها، وأرى فيها بالآتي: ليس فيها نص قاطع بالمنع، وغاية ما استدل به المانعون من أوجه الدلالة لبعض النصوص أو بعض القواعد الفقهية لا يرقى إلى المنع المطلق فيها، فتبقى المسألة في حيز الاجتهاد والأخذ والرد، وبناء عليه: أفتي بجواز قيامها؛ للآتي: 1- لعدم وجود النص القاطع بالمنع، والشروط التي اشترطها العلماء في صحة اقتداء المأموم بالإمام ليس مجمعاً عليها، وغالبها لا يؤدي إلى بطلان الصلاة، وهذه الشروط وضعها العلماء في الأمور العادية وليست جارية في النوازل، فالنوازل لها حكمها بدليل صلاة الخوف التي لها كيفية تختلف عن الصلاة في الأمور العادية، ولا يقولن أحد إن ذلك من قبيل اختراع عبادة جديدة أو هيئة غير معهودة، فالفقهاء في أمر العبادات لهم اجتهادات كثيرة في مثل هذه المسائل عند كثرة الأعداد للمصلين قالوا بجواز التبليغ، وبعد صحة اشتراط رؤية الإمام لصحة الصلاة، وفي ذلك نماذج اجتهادية مناسبة للوقت في كتب الفقه كثيرة، فالاجتهاد الفقهي لا يوسم بالبدعة حيث سمح الاختلاف في المسألة. 2- في إقامتها تعظيم لما هو قطعي، إذ إنها من جملة الشعائر التي يجب أن تحترم وتقدر، وفي إقامتها تحقيق مقاصد شرعية كثيرة لا تخفى على من كان من أهل العلم. 3- إقامتها مشروطة بعدم تحقق الضرر القطعي أو الظني من انتقال الفيروس، وإما إذا تحقق عدم الضرر فإقامتها في المساجد وما يلحق بها هو الأولي، فمن المعلوم فقها أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، في العبادات والمعاملات، وبناء عليه: فالفتوى بالمنع المطلق فتوى جامدة صلبة لم تتحر الواقع المحلي ولا الإقليمي ولا العالمي، وتماهت مع أصحاب الأهواء وإن لم تقصد ذلك. خامساً: يجري على الحج كشعيرة ما قلته في أمر صلاة الجمعة وصلاة الجماعة. سادساً: الصيام فريضة تركها لأدنى ملابسة خطر عظيم وبهتان كبير، وما يجري على الفرد فيها إن كان مريضاً أو مسافراً لا يجري على جميع الأمة، وقد ثبت بيقين أن الصوم له تأثير إيجابي على الصحة وبالأخص فيما يتعلق بالمناعة، وبناء عليه: كل من أفتى بحرمة الصوم في نازلة كورونا لا حظ لفتواه من الصحة.
فتاوى كورونا التي هدمت الشعائر
د. مجدي شلش

[حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507
هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511
الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtu]

سيل من الفتاوى المتعلقة بنازلة كورونا، منها ما يتعلق بالفرائض كصلاة الجمعة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنها ما يتعلق بالنوافل كصلاة الجماعة في المساجد والتراويح في شهر رمضان، هذه الفتاوى بعضها صدر من أشخاص والبعض الآخر صدر من مجامع أو هيئات علمية.

لا عتب أبداً على أناس لا صلة لهم بالعلم وخاضوا بأهوائهم في غلق المساجد وهدم الشعائر التي هي أصلاً مهدومة في قلوبهم قبل سلوكهم، إنما العتب واللوم على من يتصدر للفتوى ويدلي بدلوه وهو منسوب لأهل العلم، وقد قدم بفتواه التي تمنع مطلقاً الشعائر في المساجد فرضاً أو نفلاً، وخاضت في ترك الصيام أو الحج لمنع الضرر المترتب على أداء الشعائر جماعة على طبق من ذهب لهدم الشعائر تأصيلاً وتفصيلاً.

قد يقول قائل إنني أفتيت بالحق، والحق أحق أن يتبع، وافق أهواء المجرمين الذين يتربصون بالإسلام الدوائر والدواهي أو خالف، هذا دين، ويجب أن نفتي به، وهذا المنهج له عندي عدة نصائح:

أولها: الفتاوى التي منعت الشعائر وقالت بحرمة الاجتماع في المساجد لصلاة الجمعة أو الجماعة إنما قامت على أدلة ظنية الثبوت أو الدلالة، وليس لها دليل قاطع يدل على المنع، إنما هي من قبيل الاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ، وليس من قبيل الحق المطلق، حتى يقال إن الفتوى بالمنع دين وحق وافق أهل الأهواء أو لم يوافقهم.

ثانيها: غالب من قرأت لهم بالمنع ليسوا من أهل الفتوى، الذين توافرت فيهم شروط الاجتهاد، إنما منهم سادة خطباء من أهل الدعوة إلى الله، ومنهم من تخصص في الثقافة العامة، أو نشط في مجال التزكية، ومجال الفتوى وبالأخص في النوازل الكبرى يحتاج إلى تخصص دقيق، يشمل:

1- العلم بجميع النصوص التي وردت في النازلة، أو التي تشبهها في غالب أوصافها، حتى يصح التنزيل الصحيح.

2- فقه هذه النصوص وعللها في ضوء شرائط الاستدلال التي تمكن الشخص من الاستنباط الصحيح.

3- فقه الواقع والوقوف على التحديات التي تحياها الأمة الآن، فمن المعلوم أن الجهل بالواقع وبمفرداته يؤثر في صحة الفتوى، والواقع الذي تعيشه الأمة من الظلم والقتل والهدم لا يخفى على أحد، وفي مقدمة ذلك استهداف الشعائر الإسلامية التي القصد الأول منها إعلاء كلمة الله وإظهار التوجه الإسلامي للأمة.

غالب الأنظمة المتحكمة في رقاب المسلمين الآن لا يرقبون في شعيرة من الشعائر إلّاً ولا ذمة، والواقع خير شاهد ودليل، فهل نقدم لهم على طبق من ذهب هدم الشعائر بأيدينا، أو أن الأمر يحتاج منا إلى تريث وفقه وإنزال الحكم على ما يناسبه، بحيث لا نقع في مخالفة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولا مقصد ضروري من المقاصد التي أجمع على رعايتها الشرع الحنيف، من حفظ دين أو نفس أو مال أو نسب أو عقل.

الفتوى في النوازل من قبيل الاجتهاد قطعاً، ولما لم يجمع أهل العلم فيها على قول معين، تبقى في حيز الأخذ والرد، والقطع في محل الظن ليس من دأب الأفذاذ من العلماء، إنما من دأب بعض طلبة العلم الذين لم يتقنوا فن الفتوى.

4- الاستشهاد بالقواعد الشرعية التي لم تحظَ باتفاق العلماء في المنع من الشعائر وتصويرها للعامة على أنها من قبيل القواعد المتفق عليها، وأنها قاطعة في المنع من الشعيرة نوع من الغش والتدليس والاحتكام إلى مظنون لمنع ما هو ثابت بيقين ألا وهم تعظيم شعائر الله وأنها علامة على تقوى القلوب.

5- نعم نفي الضرر مقدم على جلب المنفعة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وارتكاب أخف الضررين أهون من ارتكاب أشدهما، كلها قواعد صحيحة، لكن من الذي عنده المكنة العلمية على تطبيقها على النازلة، هذا ليس للأفراد أو الهيئات المسيسة والتي تدافع عمن يملك قرارها، أو المؤسسات التي تعيش من أجل الأمن ولقمة العيش التي فقدته في بلادها.
تنزيل الواقعة على النصوص الشرعية أو القواعد الشرعية يحتاج على سبيل الوجوب لهيئة علمائية مستقلة، تجمع أهل الاختصاص المحترفين في الفتوى، لا مجموعة هواة ليسوا من أهل التخصص وتلعب بهم الأهواء النفسية من حب الشهرة بالسبق إلى الفتوى والتسرع فيها حتى يكون من أهل السبق.

القدوة في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم إذا جد جديد أو نزلت نازلة جمعوا لها أولي الأمر من أهل العلم، فإن اتفقوا صار إجماعاً، وإن تعددت الأقوال فالأمر فيه سَعة، مع وضع الضوابط والمحاذير لمن منع ولمن أجاز حتى لاتكون فتنة ويقع الضرر.

6- عرض مذاهب العلماء السابقين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من أئمة الاجتهاد المطلق في النازلة أمر مقدر ومحترم، لكن القطع به لزماننا والإلزام به لوقتنا وقد اختلفت الظروف والأحوال، فهؤلاء الأئمة غالبهم عاش في ظل خلافة تحترم الشعائر الإسلامية وبالأخص ما يتعلق منها بأمور العبادات من صلاة وصيام وحج، ولم يروا المهازل التي تعيشها الأمة في زمن حل فيه الاستخراب العقدي والفكري والأخلاقي والسياسي والمالي، وأصبحت الأمة رهينة عند أبناء القردة والخنازير، فهل تلزم الأمة الآن بما أفتى به المجتهدون في العصر الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع الهجري، أو أن ذلك يقدر ويحترم ويكون موضع الاستئناس عند الفتوى؟

7- ألا من جديد في الفتوى يقدمه العلماء في النوازل، يحترموا فيه النصوص الشرعية والقواعد الفقهية واجتهادات السابقين من أولي العلم من أئمتنا وسادتنا، أم أننا ما زلنا عالة على فكرهم وجهدهم، العصمة للنص وحده، وما عدا ذلك فكل يؤخذ من كلامه ويترك حسب الواقع الذي نرى بأم أعيننا تحدياته وصعوباته تجاه الأمة الإسلامية.

8- الجديد الذي نستطيع أن نقدمه الآن هو: أن يكون القصد الأول من الفتوى ملاءمة المقاصد العامة مع فقه الواقع، والشرع أعطى بل ألزم الاجتهاد في كل نازلة بما يناسبها، والمناسب في نظري الآن هو:

تنادي العلماء الأحرار الذين عرف عنهم إتقان التخصص في إخراج المنتج العلمي المتعلق بالفتوى، وفقههم للواقع بكل ظروفه وأحواله، فإن اتفقوا فقد بدأنا خطوة على طريق الاختصاص ولم شمل أهل العلم، وبداية لما أهم وأعظم، وإن اختلفوا فالأمر فيه مندوحة وسعة.

قد يقول البعض هذا حلم لن يتحقق، أقول: ليس مستحيلاً أبداً، وكثير من الأحلام تحققت على أرض الواقع وأصبحت حالة وعرف، إلى أن يأتي ذلك الأمر أقول برأيي - فإن كان صواباً فمن توفيق الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله - بكل وضوح وصراحة في نازلة كورونا فيما يخص المنع من الصلاة في المساجد وصلاة التراويح والصيام وغير ذلك:
بِحسْب علمي وتخصصي أفتي بالآتي:

أولاً: صلاة الجمعة واجبة باتفاق أهل العلم، وإقامتها واجبة في المساجد بالصورة التي لا يتحقق بها ضرر قطعي، أو يغلب على الظن تحققه، وهذا ممكن، بالتباعد في الصفوف، وأخذ المسافة المناسبة بين المصلين، أما تركها بالكلية أرى فيه إثم كبير لمن أفتى بالمنع المطلق، وبالأخص إذا كان من غير أهل الاختصاص، ومن رواد الإعلام الذي يستضيف المتخصص وغير المتخصص، وإنما يركز على أهل الشهرة.

ثانياً: صلاة الجماعة فرض كفاية في حق أهل البلد، إن تعمدوا تركها جميعاً يحاسبوا على ذلك، وعليهم من الإثم والوزر في ترك فرض من فرائض الإسلام وشعيرة من شعائره، أما على مستوى الأفراد فأهل التحقيق على أنها سنة مؤكدة، لا يصح المواظبة على تركها، فالسنن المؤكدة وإن جاز تركها بالجزء لا يجوز تركها بالكل، وبناء عليه: يلزم أهل كل بلد أن يقيموا ولو جماعة واحدة في بلدتهم، مع أخذ التدابير والاحتياط لمنع انتقال الفيروس لهم، وعلى المستوى الفردي يؤدي كل مسلم على الأقل صلاة واحدة في المسجد يومياً، وإن تيسر له أكثر من ذلك فهو أفضل لا شك.

ثالثاً: صلاة التروايح سنة مؤكدة في رمضان، والاجتماع لها يمثل شعيرة خاصة بالمسلمين في رمضان، ويجب ألا تهدم بالكلية، والعرف فيها أنها في المسجد وليست في البيت، ولا يجري عليها أحكام النوافل الفردية التي جاءت الأحاديث تدل على فضلها في البيت، فما كان شعيرة كصلاة العيدين والكسوف والخسوف والتراويح الجماعة في خارج البيت لا شك أفضل، وبالأخص لو كانت في المسجد، ويتخذ فيها من التدابير ما سبق أن قلته في صلاة الجماعة، وبناء عليه: الفتوى التي تمنع مطلقاً لا حظ لها في نظري من الصواب.

رابعاً: الصلاة خلف المذياع بخصوص صلاة التراويح: ليس فيها إجماع على المنع أو الجواز ممن تكلموا في حكمها، وأرى فيها بالآتي:

ليس فيها نص قاطع بالمنع، وغاية ما استدل به المانعون من أوجه الدلالة لبعض النصوص أو بعض القواعد الفقهية لا يرقى إلى المنع المطلق فيها، فتبقى المسألة في حيز الاجتهاد والأخذ والرد، وبناء عليه: أفتي بجواز قيامها؛ للآتي:

1- لعدم وجود النص القاطع بالمنع، والشروط التي اشترطها العلماء في صحة اقتداء المأموم بالإمام ليس مجمعاً عليها، وغالبها لا يؤدي إلى بطلان الصلاة، وهذه الشروط وضعها العلماء في الأمور العادية وليست جارية في النوازل، فالنوازل لها حكمها بدليل صلاة الخوف التي لها كيفية تختلف عن الصلاة في الأمور العادية، ولا يقولن أحد إن ذلك من قبيل اختراع عبادة جديدة أو هيئة غير معهودة، فالفقهاء في أمر العبادات لهم اجتهادات كثيرة في مثل هذه المسائل عند كثرة الأعداد للمصلين قالوا بجواز التبليغ، وبعد صحة اشتراط رؤية الإمام لصحة الصلاة، وفي ذلك نماذج اجتهادية مناسبة للوقت في كتب الفقه كثيرة، فالاجتهاد الفقهي لا يوسم بالبدعة حيث سمح الاختلاف في المسألة.

2- في إقامتها تعظيم لما هو قطعي، إذ إنها من جملة الشعائر التي يجب أن تحترم وتقدر، وفي إقامتها تحقيق مقاصد شرعية كثيرة لا تخفى على من كان من أهل العلم.

3- إقامتها مشروطة بعدم تحقق الضرر القطعي أو الظني من انتقال الفيروس، وإما إذا تحقق عدم الضرر فإقامتها في المساجد وما يلحق بها هو الأولي، فمن المعلوم فقها أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، في العبادات والمعاملات، وبناء عليه: فالفتوى بالمنع المطلق فتوى جامدة صلبة لم تتحر الواقع المحلي ولا الإقليمي ولا العالمي، وتماهت مع أصحاب الأهواء وإن لم تقصد ذلك.

خامساً: يجري على الحج كشعيرة ما قلته في أمر صلاة الجمعة وصلاة الجماعة.

سادساً: الصيام فريضة تركها لأدنى ملابسة خطر عظيم وبهتان كبير، وما يجري على الفرد فيها إن كان مريضاً أو مسافراً لا يجري على جميع الأمة، وقد ثبت بيقين أن الصوم له تأثير إيجابي على الصحة وبالأخص فيما يتعلق بالمناعة، وبناء عليه: كل من أفتى بحرمة الصوم في نازلة كورونا لا حظ لفتواه من الصحة.
‏٣١‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ٥:٤٦ م‏
محمد عمارة ... راهب الفكر وفارس الميدان [2-4]. د. وصفي عاشور أبو زيد [حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507 هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtu] في الحلقة الأولى تحدثنا عن قيمة الراحل الكبير د. محمد عمارة الفكرية والاجتهادية، وما يمثله رحيله من خسارة كبيرة للفكر الإسلامي وقضايا المسلمين، وتحدثنا عن نذْر والده له قبل ميلاده أن يجعله للعلم الديني، واستعرضنا المسيرة التعليمية له باختصار، وذكرنا مشايخه ومكتبة حازها فيها أربعة آلاف كتاب في وقت مبكر من حياته قرأها كلها، وطبيعة عمله الوظيفي الذي مكنه من إنجاز سلاسل الأعمال الكاملة، وتأثره بعدد من العمالقة منهم: العقاد والغزالي. وفي هذه الحلقة نواصل الحديث عن فقيدنا الكبير، ومعالم مشروعه الفكري. معالم المشروع الفكري لعمارة لقد أثمر الانقطاع الذي انقطعه محمد عمارة مشروعا فكريا مترامي الأطراف تمثل في أكثر من 300 كتاب؛ فضلا عن آلاف المقالات والأبحاث والمداخل الموسوعية في الموسوعات والدوريات والمجلات والصحف والشبكة العنكبوتية؛ وهو الذي قال: "آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حراً مشتغلاً بالعلم، وأن أكون كالجالس على «الحصيرة»؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها!". وهذا الانقطاع والعكوف – الذي لم ينفك عن الواقع ولا الميدان يوما كما سنبين لاحقا – استطاع أن يقوم بما لا تقوم به مؤسسات ولا مراكز أبحاث، وهو ما قاله المستشار طارق البشري يوم تكريمه في مركز الإعلام العربي في 2 من نوفمبر 2011م؛ حيث قال: "الدكتور محمد عمارة ممكن تسميته بمؤسسة محمد عمارة وليس الدكتور عمارة؛ نظرا لأن ما قام به في مجال الفكر الإسلامي تعجز مؤسسة بأكملها عن القيام به". معنى "المشروع الفكري": وحتى تكون المصطلحات محررة وواضحة – وهو الذي كتب كتبا عن المصطلحات - فإن معنى" المشروع الفكري" قد سئل هو عنه: ما أهم ملامح هذا المشروع الفكري الذي تتحدث عنه باستمرار؟ فكانت إجابته: "أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري"، ونحاول أن نرصد لكل جانب من هذه الجوانب في المشروع ما يناسبه من مؤلفات د. عمارة على النحو الآتي: أولا: بيان حقيقة فكرة الإسلام: ومن خلال التأمل في عنوانات الكتب التي تعبر عن منجزه الفكري فإننا نلحظ اهتماما كبيرا وواسعا بـ "الفكرة الإسلامية" وعرضها وبيانها، وقد تجلى ذلك من خلال سلسلات كثيرة، منها: "سلسلة التنوير الإسلامي"، و"سلسلة هذا هو الإسلام"، وسلسلة: "رسائل الوعي الحضاري"، هذه سلسلات وفيها عناوين كثيرة، فضلا عن عنواناته الأخرى، مثل: الإسلام والشريعة الإسلامية، الإسلام وضرورة التغيير، إسلامية المعرفة ماذا تعنى، الإسلام والمستقبل، الإسلام في مواجهة التحديات، الإسلام والثورة، الإسلام بين التنوير والتزوير، الإسلام و الفنون الجميلة، الإسلام والأمن الاجتماعي، الإسلام في عيون غربية، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام و حقوق الإنسان..ضرورات لا حقوق، الإسلام والعروبة، الإسلام والأقليات، الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، الإسلام وحقوق الإنسان، الإسلام والأخر، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام والتعددية، الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، الإصلاح بالإسلام، العطاء الحضاري للإسلام، المشروع الحضاري الإسلامي، السماحة الإسلامية... حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب، الدين والحضارة، عوامل امتياز الإسلام، مقام العقل في الإسلام، معالم المنهج الإسلامي... كل هذا وغيره يعرض فيه مفكرنا العظيم رؤية الإسلام للقضايا التي يقرنها بالإسلام في عنوانات الكتب. ثانيا: رصد الواقع وتلبية حاجاته: أما من ناحية فقع الواقع فكانت عيناه دائمة الرصد لقضايا الواقع وحاجات المجتمع، ولم يغب يوما عن قضايا الواقع وما يموج به من أفكار، وما يطرحه من رؤى وقضايا وإشكالات، وقد كانت معاركه الفكرية مبنية على وعيه بالواقع وتحدياته، ومن ذلك معركته مع الكنيسة، ومعركته مع التنصير، ومعركته مع الصهيونية، ومعركته مع المشروع الشيعي الإيراني، وغير ذلك، وقد أصدر في ذلك عدة كتب، منها: الغارة الجديدة على الإسلام، الفاتيكان والإسلام، فتنة التكفير، صيحة نذير من فتنة التكفير، تحليل الواقع بمنهاج العاهات المزمنة، استراتيجية التنصير فالعالم الإسلامي، الأقباط في مصر، في المسألة القبطية حقائق وأوهام، عروبة مصر وأقباطها، أكذوبة الاضطهاد الديني في مصر، الأقباط المتطرفون في مصر، الفتنة الطائفية... متى وكيف ولماذا؟. ومن استجاباته للواقع وتلبيته لحاجاته أنه تداعى لتأييد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2001م، وأصدر فيها كتابا بعنوان: ثورة 25 يناير وكسر حاجز الخوف. كما كان له اهتمام خاص بقضية فلسطين، وكتب فيها أو مقال له بعنوان: "جهاد" نشر في صحيفة مصر الفتاة عام 1948م، كما كان له كتب عنها، ومن ذلك: فلسطين والقدس، في فقه الصراع على القدس و فلسطين، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، القدس.. أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، القدس بين اليهودية و الإسلام. ثالثا: التصدي للتحديات التي تواجه الإسلام: وهذا المحور هو منبثق عن السابق، فالوعي بالواقع يثمر إدراك التحديات ومن ثم التصدي لها، وقد كان يتابع في حركة دائبة التحديات التي تواجه الإسلام، والمخاطر التي تهدده سواء من حقد الكنيسة الغربية والشرقية، وقد أسلفنا عناوين كتب في هذا، أو مؤامرات الصهيونية العالمية، أو ضلالات وجهالات العلمانيين والمتغربين، ومعاركه الفكرية التي خاضها في حياته ضد هذه الجهات جميعا شاهدة على رصده الحثيث للواقع المثمر وعيا بالتحديات والاستجابة لها. وقد أصدر في ذلك عددا من الكتب منها: التفسير الماركسي للإسلام، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكانى، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، مقالات الغلو الديني و الادينى، الإصلاح الديني في القرن العشرين، في فقة المواجهة بين الغرب والإسلام، الغارة الجديدة على الإسلام، العلمانية، سقوط الغلو العلماني، علمانية المدفع و الإنجيل، فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين، العلمانية بين الغرب والإسلام، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، مأزق المسيحية و العلمانية في أوروبا، تحرير المرأة بين الغرب والإسلام، الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ، الحضارات العالمية تدافع أم صراع. رابعا: الرد على الشبهات: إذا كان المفكر صاحب المشروع يهتم ببيان الفكرة وإقامة الدليل عليها، ورصد الواقع والاستجابة لاحتياجاته، ويقف أمام التحديات التي تواجه الإسلام، فإنه مطالب بالقدر نفسه بالرد على الشبهات التي تثار حول الفكرة وحقيقتها وطبيعتها وأدلتها. وقد أسهم مفكرنا العظيم د. محمد عمارة بنصيب وافر في الرد على الشبهات، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: حقائق الإسلام في مواجهة المشككين، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام، رد الشبهات عن الإسلام، شبهات حول القران الكريم، شبهات حول الإسلام، حقائق وشبهات حول السنة النبوية، إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات. خامسا: الكتابة عن الأعلام: هذا المحور خارج عن إطار العناصر التي تكون المشروع الفكري، وإنما يستعرض تاريخ هؤلاء الأعلام، ومشروعاتهم الفكرية، ومواقفهم، ومكانتهم وعلمهم. وقد كتب د. محمد عمارة عن كثير جدا من الأعلام قديما وحديثا، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: أعلام الفكر الإسلامي والحديث، عبد الرحمن الكواكبى، عبد الرحمن الكواكبى... طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبى - شهيد الحربة ومجدد الإسلام، الشيخ عبد الرحمن الكواكبى هل كان علمانيا؟، علي مبارك مؤرخ و مهندس العمران، الإمام محمد عبده.. مجدد الدنيا بتجديد الدين، جمال الدين الافغانى موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، جمال الدين الافغانى المفترى عليه، أبو حيان التوحيدي بين الزندقة والإبداع، الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري و المعارك الفكرية، قاسم أمين... تحرير المرأة والتمدن الإسلامي، معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، الدكتور عبد الرازق السنهوري .. إسلامية الدولة والمدنية والقانون، رفاعة الطهطاوي - رائد التنوير في العصر الحديث، من أعلام الإحياء الإسلامي، شخصيات لها تاريخ، رفع الملام عن شيخ الإسلام ابن تيمية، عمر بن عبد العزيز .. ضمير الأمة وخامس الخلفاء الراشدين، ابن رشد بين الغرب والإسلام. *** هذه الجوانب التي تشكل معالم المشروع الفكري للدكتور عمارة يحتاج كل معلم منها إلى دراسة مستقلة بل دراسات تبين منهجه فيها، وعطاءه الذي أعطاه، والجهد الذي بذله، واستمداد كل محور من هذه المحاور، وامتداداتها وآثارها في الفكر والواقع والحياة، وبيان المآخذ التي تؤخذ على كل جانب سواء أكانت هذه المآخذ نواقص تحتاج لتكميل، أم أخطاء تحتاج لتصحيح، أم غوامض تحتاج لتوضيح، وهو بشر ليس معصوما، ويؤخذ من كلامه ويرد عليه. (في الحلقة الثالثة سيكون الحديث بإذن الله عن الأسرار العشرة لتميز مشروع د. عمارة الفكري، وفي الحلقة الرابعة والأخيرة حول معالم فروسيته في الميادين ونورد معها مصادر الدراسة).
محمد عمارة ... راهب الفكر وفارس الميدان [2-4].
د. وصفي عاشور أبو زيد

[حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507
هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511
الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtu]

في الحلقة الأولى تحدثنا عن قيمة الراحل الكبير د. محمد عمارة الفكرية والاجتهادية، وما يمثله رحيله من خسارة كبيرة للفكر الإسلامي وقضايا المسلمين، وتحدثنا عن نذْر والده له قبل ميلاده أن يجعله للعلم الديني، واستعرضنا المسيرة التعليمية له باختصار، وذكرنا مشايخه ومكتبة حازها فيها أربعة آلاف كتاب في وقت مبكر من حياته قرأها كلها، وطبيعة عمله الوظيفي الذي مكنه من إنجاز سلاسل الأعمال الكاملة، وتأثره بعدد من العمالقة منهم: العقاد والغزالي.

وفي هذه الحلقة نواصل الحديث عن فقيدنا الكبير، ومعالم مشروعه الفكري.

معالم المشروع الفكري لعمارة

لقد أثمر الانقطاع الذي انقطعه محمد عمارة مشروعا فكريا مترامي الأطراف تمثل في أكثر من 300 كتاب؛ فضلا عن آلاف المقالات والأبحاث والمداخل الموسوعية في الموسوعات والدوريات والمجلات والصحف والشبكة العنكبوتية؛ وهو الذي قال: "آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حراً مشتغلاً بالعلم، وأن أكون كالجالس على «الحصيرة»؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها!".

وهذا الانقطاع والعكوف – الذي لم ينفك عن الواقع ولا الميدان يوما كما سنبين لاحقا – استطاع أن يقوم بما لا تقوم به مؤسسات ولا مراكز أبحاث، وهو ما قاله المستشار طارق البشري يوم تكريمه في مركز الإعلام العربي في 2 من نوفمبر 2011م؛ حيث قال: "الدكتور محمد عمارة ممكن تسميته بمؤسسة محمد عمارة وليس الدكتور عمارة؛ نظرا لأن ما قام به في مجال الفكر الإسلامي تعجز مؤسسة بأكملها عن القيام به".

معنى "المشروع الفكري":

وحتى تكون المصطلحات محررة وواضحة – وهو الذي كتب كتبا عن المصطلحات - فإن معنى" المشروع الفكري" قد سئل هو عنه: ما أهم ملامح هذا المشروع الفكري الذي تتحدث عنه باستمرار؟ فكانت إجابته: "أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري"، ونحاول أن نرصد لكل جانب من هذه الجوانب في المشروع ما يناسبه من مؤلفات د. عمارة على النحو الآتي:

أولا: بيان حقيقة فكرة الإسلام:

ومن خلال التأمل في عنوانات الكتب التي تعبر عن منجزه الفكري فإننا نلحظ اهتماما كبيرا وواسعا بـ "الفكرة الإسلامية" وعرضها وبيانها، وقد تجلى ذلك من خلال سلسلات كثيرة، منها: "سلسلة التنوير الإسلامي"، و"سلسلة هذا هو الإسلام"، وسلسلة: "رسائل الوعي الحضاري"، هذه سلسلات وفيها عناوين كثيرة، فضلا عن عنواناته الأخرى، مثل: الإسلام والشريعة الإسلامية، الإسلام وضرورة التغيير، إسلامية المعرفة ماذا تعنى، الإسلام والمستقبل، الإسلام في مواجهة التحديات، الإسلام والثورة، الإسلام بين التنوير والتزوير، الإسلام و الفنون الجميلة، الإسلام والأمن الاجتماعي، الإسلام في عيون غربية، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام و حقوق الإنسان..ضرورات لا حقوق، الإسلام والعروبة، الإسلام والأقليات، الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، الإسلام وحقوق الإنسان، الإسلام والأخر، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام والتعددية، الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، الإصلاح بالإسلام، العطاء الحضاري للإسلام، المشروع الحضاري الإسلامي، السماحة الإسلامية... حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب، الدين والحضارة، عوامل امتياز الإسلام، مقام العقل في الإسلام، معالم المنهج الإسلامي... كل هذا وغيره يعرض فيه مفكرنا العظيم رؤية الإسلام للقضايا التي يقرنها بالإسلام في عنوانات الكتب.

ثانيا: رصد الواقع وتلبية حاجاته:

أما من ناحية فقع الواقع فكانت عيناه دائمة الرصد لقضايا الواقع وحاجات المجتمع، ولم يغب يوما عن قضايا الواقع وما يموج به من أفكار، وما يطرحه من رؤى وقضايا وإشكالات، وقد كانت معاركه الفكرية مبنية على وعيه بالواقع وتحدياته، ومن ذلك معركته مع الكنيسة، ومعركته مع التنصير، ومعركته مع الصهيونية، ومعركته مع المشروع الشيعي الإيراني، وغير ذلك، وقد أصدر في ذلك عدة كتب، منها: الغارة الجديدة على الإسلام، الفاتيكان والإسلام، فتنة التكفير، صيحة نذير من فتنة التكفير، تحليل الواقع بمنهاج العاهات المزمنة، استراتيجية التنصير فالعالم الإسلامي، الأقباط في مصر، في المسألة القبطية حقائق وأوهام، عروبة مصر وأقباطها، أكذوبة الاضطهاد الديني في مصر، الأقباط المتطرفون في مصر، الفتنة الطائفية... متى وكيف ولماذا؟.

ومن استجاباته للواقع وتلبيته لحاجاته أنه تداعى لتأييد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2001م، وأصدر فيها كتابا بعنوان: ثورة 25 يناير وكسر حاجز الخوف.

كما كان له اهتمام خاص بقضية فلسطين، وكتب فيها أو مقال له بعنوان: "جهاد" نشر في صحيفة مصر الفتاة عام 1948م، كما كان له كتب عنها، ومن ذلك: فلسطين والقدس، في فقه الصراع على القدس و فلسطين، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، القدس.. أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، القدس بين اليهودية و الإسلام.

ثالثا: التصدي للتحديات التي تواجه الإسلام:

وهذا المحور هو منبثق عن السابق، فالوعي بالواقع يثمر إدراك التحديات ومن ثم التصدي لها، وقد كان يتابع في حركة دائبة التحديات التي تواجه الإسلام، والمخاطر التي تهدده سواء من حقد الكنيسة الغربية والشرقية، وقد أسلفنا عناوين كتب في هذا، أو مؤامرات الصهيونية العالمية، أو ضلالات وجهالات العلمانيين والمتغربين، ومعاركه الفكرية التي خاضها في حياته ضد هذه الجهات جميعا شاهدة على رصده الحثيث للواقع المثمر وعيا بالتحديات والاستجابة لها.

وقد أصدر في ذلك عددا من الكتب منها: التفسير الماركسي للإسلام، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكانى، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، مقالات الغلو الديني و الادينى، الإصلاح الديني في القرن العشرين، في فقة المواجهة بين الغرب والإسلام، الغارة الجديدة على الإسلام، العلمانية، سقوط الغلو العلماني، علمانية المدفع و الإنجيل، فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين، العلمانية بين الغرب والإسلام، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، مأزق المسيحية و العلمانية في أوروبا، تحرير المرأة بين الغرب والإسلام، الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ، الحضارات العالمية تدافع أم صراع.

رابعا: الرد على الشبهات:

إذا كان المفكر صاحب المشروع يهتم ببيان الفكرة وإقامة الدليل عليها، ورصد الواقع والاستجابة لاحتياجاته، ويقف أمام التحديات التي تواجه الإسلام، فإنه مطالب بالقدر نفسه بالرد على الشبهات التي تثار حول الفكرة وحقيقتها وطبيعتها وأدلتها.

وقد أسهم مفكرنا العظيم د. محمد عمارة بنصيب وافر في الرد على الشبهات، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: حقائق الإسلام في مواجهة المشككين، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام، رد الشبهات عن الإسلام، شبهات حول القران الكريم، شبهات حول الإسلام، حقائق وشبهات حول السنة النبوية، إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات.

خامسا: الكتابة عن الأعلام:

هذا المحور خارج عن إطار العناصر التي تكون المشروع الفكري، وإنما يستعرض تاريخ هؤلاء الأعلام، ومشروعاتهم الفكرية، ومواقفهم، ومكانتهم وعلمهم.

وقد كتب د. محمد عمارة عن كثير جدا من الأعلام قديما وحديثا، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: أعلام الفكر الإسلامي والحديث، عبد الرحمن الكواكبى، عبد الرحمن الكواكبى... طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبى - شهيد الحربة ومجدد الإسلام، الشيخ عبد الرحمن الكواكبى هل كان علمانيا؟، علي مبارك مؤرخ و مهندس العمران، الإمام محمد عبده.. مجدد الدنيا بتجديد الدين، جمال الدين الافغانى موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، جمال الدين الافغانى المفترى عليه، أبو حيان التوحيدي بين الزندقة والإبداع، الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري و المعارك الفكرية، قاسم أمين... تحرير المرأة والتمدن الإسلامي، معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، الدكتور عبد الرازق السنهوري .. إسلامية الدولة والمدنية والقانون، رفاعة الطهطاوي - رائد التنوير في العصر الحديث، من أعلام الإحياء الإسلامي، شخصيات لها تاريخ، رفع الملام عن شيخ الإسلام ابن تيمية، عمر بن عبد العزيز .. ضمير الأمة وخامس الخلفاء الراشدين، ابن رشد بين الغرب والإسلام.
***

هذه الجوانب التي تشكل معالم المشروع الفكري للدكتور عمارة يحتاج كل معلم منها إلى دراسة مستقلة بل دراسات تبين منهجه فيها، وعطاءه الذي أعطاه، والجهد الذي بذله، واستمداد كل محور من هذه المحاور، وامتداداتها وآثارها في الفكر والواقع والحياة، وبيان المآخذ التي تؤخذ على كل جانب سواء أكانت هذه المآخذ نواقص تحتاج لتكميل، أم أخطاء تحتاج لتصحيح، أم غوامض تحتاج لتوضيح، وهو بشر ليس معصوما، ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.

(في الحلقة الثالثة سيكون الحديث بإذن الله عن الأسرار العشرة لتميز مشروع د. عمارة الفكري، وفي الحلقة الرابعة والأخيرة حول معالم فروسيته في الميادين ونورد معها مصادر الدراسة).
‏٣٠‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ٤:٢٧ م‏
سورة المائدة وهُوية الأمة الإسلامية د. عطية عدلان الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لكل سورة في كتاب الله تعالى موضوع واحد، جامع لما تفرق فيها من موضوعات، حتى السور الطوال كالبقرة والنساء والمائدة، لكل سورة منها موضوع تدور في فلكه كل موضوعات السورة على تنوعها واختلافها، فما هو موضوع سورة المائدة الذي منه انبثقت موضوعاتها العديدة والمتشعبة؟ لا بد أولاً أن نستصحب الظروف والملابسات التاريخية التي نزلت فيها هذه السورة، فهي من السور المدنية باتفاق، وقد بدأ نزولها في العام السادس من الهجرة وظلت مفتوحة حتى نزل منها في حجة الوداع قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة 3)، والعام السادس من الهجرة عام استقرار نسبيّ؛ حيث رد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التصريح السياسي العسكري المشخص للواقع: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)، وحيث انتهى إلى حد بعيد خطر اليهود داخل المدينة بسقوط بني قريظة آخر معاقلهم داخل المدينة، ولم يتبقَ منهم إلا خيبر وهي خارج المدينة. فالظرف إذاً ملائم للالتفات إلى المجتمع المسلم من داخله؛ واستكمال بنائه وتمتينه وشدّ أركانه، وقد كان المجتمع المسلم قوياً بالدعوة وبوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وباستمرار نزول الوحي، لكنه كان مجتمعاً جديداً وسط محيط من العداوات، وكان سريع النمو تنضاف إليه كل يوم شرائح جديدة تغير باستمرار من طبيعته وصورته؛ الأمر الذي يستدعي تكرار عملية إعادة البناء، وتدارك ما يحدث من خلل؛ لكونه المجتمع الذي سيظل على مدى التاريخ النموذج الذي يحتذى. والسورة الكريمة إن تأملتها وتفحصت موضوعاتها تبين لك أنّها معنية بهوية المجتمع المسلم وصبغته؛ إذْ من الضروريّ أن يبقى المجتمع المسلم - رغم انفتاحه وتفاعله مع الآخرين - مميزاً بهويته الإسلامية وصبغته الربانية، صحيح أنّ الهوية كانت ظاهرة وأنّ الصيغة كانت بارزة وأنّ المجتمع المسلم كان مميزاً عن الجاهلية وعن سائر المجتمعات بهويته الإسلامية وصبغته الربانية، لكن بقيت بعض الزوايا في الصورة العامة تحتاج إلى وضوح وبروز، وبقيت بعد الخطوط في الخريطة المجتمعية والثقافية والفكرية والنفسية تحتاج إلى مرور القلم عليه لتزداد بروزاً ووضوحاً وتحديداً، وإلى جانب ذلك بعض التداخل في الأفكار بسبب البيئة التي تعددت فيها هويات رعايا الدولة الإسلامية الشابة. الآن ستبدأ الانطلاقة الكبرى للأمة الإسلامية، اليوم تضع الأمة قدمها على أول درجة في سلم العالمية، عالمية الرسالة والدعوة والتمكين؛ فلا بد من الاطمئنان على سلامة القاعدة ومتانة البناء، ومن هنا جاءت الحاجة للتأكيد على صبغة المجتمع وهويته، ولا سيما مع كثرة المؤثرات المحيطة، فاليهود رغم جلاء معظمهم لا يزال أثرهم باقياً، والنصارى رغم قلة التماس حتى ذاك الوقت إلا أنّ دينهم له شهرة وذيوع لكونه دين الامبراطورية العظمى، إلى جانب موروثات الجاهلية العربية من حولهم. ومن اللافت للنظر أنّ السورة تبدأ بهذا النداء المميز (يا أيها الذين آمنوا) ولم يبدأ بهذا النداء في القرآن إلا سورة المائدة وسورة الحجرات، وكلتاهما تركز على صبغ المجتمع المسلم بالصبغة الإسلامية الخاصة، غير أنّ ريشة الحجرات أكثر دقة، وريشة المائدة أوسع تغطية، فالحجرات تضع اللمسات الأخيرة بالتأكيد على أخلاقيات سامية ونبذ ما يضادها مما لا يليق بالمسلمين، بينما المائدة تضع الألوان الرئيسية للصورة العامة للمجتمع المسلم، وتؤكد على الخطوط الكبيرة الفاصلة. ولنبدأ بما بدأت به السورة الكريمة، فَلِأَنَّ الثقافات التي أحاطت بالمجتمع المسلم وتماست معه بشدة لا تعطي عناية كبيرة بالعهود والعقود والمواثيق؛ مما ترتب عليه النسيان والتبديل والعدوان والبغي، وبما أنَّ أصحاب الديانات الأقرب من الإسلام زماناً والأكثر خطراً عليه كانوا على هذا النحو الذي صورته سورة المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)) (المائدة 12-14) (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (المائدة 70)؛ ما دام الوضع على هذا النحو الخطير فلابد من هذه البداية الباهرة للسورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة 1). إنّ الوفاء بالعهود والعقود كافّة صبغة للمسلمين على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وما أكثر الآيات التي جاءت صارمة وحاسمة بصورة قطعت على المسلمين كل سبيل إلى التأويل، فإذا كانت آية المائدة موجزة مما يشعر بالقطع والحزم، فإن آيات أخرى في مواضع أخرى من كتاب الله أسهبت بما لا يدع لأحد فرصة للفرار من المعنى المطبق المحيطـ كقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96)) (النحل 91-96). والمجتمع المسلم متميز غاية التميز في مآكله ومشاربه وسمته وطهارته وعاداته وتقاليده، فالطهارة ركيزة من ركائزه وشعيرة من شعائره: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ..) الآية (المائدة 6)، ولا يسوغ للمجتمع المسلم أن يستوي مع غيره في شيوع القمار والميسر والخمر ومظاهر الجاهلية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة 9) كما لا يسوغ أن يقع خلط في المآكل تجعل المجتمع المسلم قريب الشبه من المجتمعات الجاهلية: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة 3). والصبغة الأبرز للأمة الإسلامية وللمجتمع هي سيادة الشريعة وحاكمية الكتاب والسنة، لذلك بسطت السورة الكريمة في بيان هذه الركيزة بما لم تبسطه في موضع آخر، فلا بد من بيان أنّه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة 44) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة 45) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (المائدة 47) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة 48) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة 49) (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة 50). ولكي تبقة هوية المجتمع المسلم وصبغته واضحة ومميزة فلابد من مواجهة المخاطر التي تهددها، أول هذا المخاطر هو تذبذب الولاء والبراء، فإنّ ضعف الولاء للمسلمين مع موالاة الكافرين يعد الجسر الذي تعبر عليه كل الملوثات التي تغير من طبيعة المجتمع المسلم وتطمس هويته، لذلك ركزت السورة تركيزا شديداً على هذه القضية، فكانت الأحكام الواضحة الحاسمة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (المائدة 51) (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة 55) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) (المائدة 57). أمّا الخطر الأكبر على هوية المجتمع المسلم وصبغة الأمة العامة فهو التشوش الفكري تجاه أهل الملل والنحل التي لها مساس بالمسلمين أو الذين يخالطون المسلمين، فما لم يعلم المسلمون الفرق بين عقيدتهم وعقيدة هؤلاء الذين يخالطونهم، وما لم يعلموا قبح هذه العقائد ومنافاتها للإسلام؛ فإنّهم حتماً سيقعون في الخلط والتساهل الذي يشوه الصبغة الإسلامية ويطمس الهوية، ومن هنا أسهبت السورة في التشنيع على أهل الكتاب في عقائدهم وأفعالهم، ومن ذلك تصريحها بكفرهم وبسبب هذا الكفر، من مثل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة 72) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (المائدة 73) (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (المائدة 78). إنّنا بحاجة إلى إدراك هذه المعاني وإلى الانطلاق منها في طريق استعادة هوية الأمة الإسلامية، وفي استعادة التمكين لها، ولا ريب أنّ شرط التمكين الأول هو عودة الأمة لما كانت عليه، وفي مقدمة ذلك الهوية الإسلامية والصبغة الربانية، والله المستعان.
سورة المائدة وهُوية الأمة الإسلامية

د. عطية عدلان



الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لكل سورة في كتاب الله تعالى موضوع واحد، جامع لما تفرق فيها من موضوعات، حتى السور الطوال كالبقرة والنساء والمائدة، لكل سورة منها موضوع تدور في فلكه كل موضوعات السورة على تنوعها واختلافها، فما هو موضوع سورة المائدة الذي منه انبثقت موضوعاتها العديدة والمتشعبة؟

لا بد أولاً أن نستصحب الظروف والملابسات التاريخية التي نزلت فيها هذه السورة، فهي من السور المدنية باتفاق، وقد بدأ نزولها في العام السادس من الهجرة وظلت مفتوحة حتى نزل منها في حجة الوداع قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة 3)، والعام السادس من الهجرة عام استقرار نسبيّ؛ حيث رد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التصريح السياسي العسكري المشخص للواقع: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)، وحيث انتهى إلى حد بعيد خطر اليهود داخل المدينة بسقوط بني قريظة آخر معاقلهم داخل المدينة، ولم يتبقَ منهم إلا خيبر وهي خارج المدينة.

فالظرف إذاً ملائم للالتفات إلى المجتمع المسلم من داخله؛ واستكمال بنائه وتمتينه وشدّ أركانه، وقد كان المجتمع المسلم قوياً بالدعوة وبوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وباستمرار نزول الوحي، لكنه كان مجتمعاً جديداً وسط محيط من العداوات، وكان سريع النمو تنضاف إليه كل يوم شرائح جديدة تغير باستمرار من طبيعته وصورته؛ الأمر الذي يستدعي تكرار عملية إعادة البناء، وتدارك ما يحدث من خلل؛ لكونه المجتمع الذي سيظل على مدى التاريخ النموذج الذي يحتذى.

والسورة الكريمة إن تأملتها وتفحصت موضوعاتها تبين لك أنّها معنية بهوية المجتمع المسلم وصبغته؛ إذْ من الضروريّ أن يبقى المجتمع المسلم - رغم انفتاحه وتفاعله مع الآخرين - مميزاً بهويته الإسلامية وصبغته الربانية، صحيح أنّ الهوية كانت ظاهرة وأنّ الصيغة كانت بارزة وأنّ المجتمع المسلم كان مميزاً عن الجاهلية وعن سائر المجتمعات بهويته الإسلامية وصبغته الربانية، لكن بقيت بعض الزوايا في الصورة العامة تحتاج إلى وضوح وبروز، وبقيت بعد الخطوط في الخريطة المجتمعية والثقافية والفكرية والنفسية تحتاج إلى مرور القلم عليه لتزداد بروزاً ووضوحاً وتحديداً، وإلى جانب ذلك بعض التداخل في الأفكار بسبب البيئة التي تعددت فيها هويات رعايا الدولة الإسلامية الشابة.

الآن ستبدأ الانطلاقة الكبرى للأمة الإسلامية، اليوم تضع الأمة قدمها على أول درجة في سلم العالمية، عالمية الرسالة والدعوة والتمكين؛ فلا بد من الاطمئنان على سلامة القاعدة ومتانة البناء، ومن هنا جاءت الحاجة للتأكيد على صبغة المجتمع وهويته، ولا سيما مع كثرة المؤثرات المحيطة، فاليهود رغم جلاء معظمهم لا يزال أثرهم باقياً، والنصارى رغم قلة التماس حتى ذاك الوقت إلا أنّ دينهم له شهرة وذيوع لكونه دين الامبراطورية العظمى، إلى جانب موروثات الجاهلية العربية من حولهم.

ومن اللافت للنظر أنّ السورة تبدأ بهذا النداء المميز (يا أيها الذين آمنوا) ولم يبدأ بهذا النداء في القرآن إلا سورة المائدة وسورة الحجرات، وكلتاهما تركز على صبغ المجتمع المسلم بالصبغة الإسلامية الخاصة، غير أنّ ريشة الحجرات أكثر دقة، وريشة المائدة أوسع تغطية، فالحجرات تضع اللمسات الأخيرة بالتأكيد على أخلاقيات سامية ونبذ ما يضادها مما لا يليق بالمسلمين، بينما المائدة تضع الألوان الرئيسية للصورة العامة للمجتمع المسلم، وتؤكد على الخطوط الكبيرة الفاصلة.

ولنبدأ بما بدأت به السورة الكريمة، فَلِأَنَّ الثقافات التي أحاطت بالمجتمع المسلم وتماست معه بشدة لا تعطي عناية كبيرة بالعهود والعقود والمواثيق؛ مما ترتب عليه النسيان والتبديل والعدوان والبغي، وبما أنَّ أصحاب الديانات الأقرب من الإسلام زماناً والأكثر خطراً عليه كانوا على هذا النحو الذي صورته سورة المائدة:

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)) (المائدة 12-14)

(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (المائدة 70)؛ ما دام الوضع على هذا النحو الخطير فلابد من هذه البداية الباهرة للسورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة 1).

إنّ الوفاء بالعهود والعقود كافّة صبغة للمسلمين على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وما أكثر الآيات التي جاءت صارمة وحاسمة بصورة قطعت على المسلمين كل سبيل إلى التأويل، فإذا كانت آية المائدة موجزة مما يشعر بالقطع والحزم، فإن آيات أخرى في مواضع أخرى من كتاب الله أسهبت بما لا يدع لأحد فرصة للفرار من المعنى المطبق المحيطـ كقوله تعالى:

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96)) (النحل 91-96).

والمجتمع المسلم متميز غاية التميز في مآكله ومشاربه وسمته وطهارته وعاداته وتقاليده، فالطهارة ركيزة من ركائزه وشعيرة من شعائره: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ..) الآية (المائدة 6)، ولا يسوغ للمجتمع المسلم أن يستوي مع غيره في شيوع القمار والميسر والخمر ومظاهر الجاهلية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة 9)

كما لا يسوغ أن يقع خلط في المآكل تجعل المجتمع المسلم قريب الشبه من المجتمعات الجاهلية: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة 3).

والصبغة الأبرز للأمة الإسلامية وللمجتمع هي سيادة الشريعة وحاكمية الكتاب والسنة، لذلك بسطت السورة الكريمة في بيان هذه الركيزة بما لم تبسطه في موضع آخر، فلا بد من بيان أنّه: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة 44) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة 45) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (المائدة 47) (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة 48) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة 49) (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة 50).

ولكي تبقة هوية المجتمع المسلم وصبغته واضحة ومميزة فلابد من مواجهة المخاطر التي تهددها، أول هذا المخاطر هو تذبذب الولاء والبراء، فإنّ ضعف الولاء للمسلمين مع موالاة الكافرين يعد الجسر الذي تعبر عليه كل الملوثات التي تغير من طبيعة المجتمع المسلم وتطمس هويته، لذلك ركزت السورة تركيزا شديداً على هذه القضية، فكانت الأحكام الواضحة الحاسمة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (المائدة 51) (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة 55) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) (المائدة 57).

أمّا الخطر الأكبر على هوية المجتمع المسلم وصبغة الأمة العامة فهو التشوش الفكري تجاه أهل الملل والنحل التي لها مساس بالمسلمين أو الذين يخالطون المسلمين، فما لم يعلم المسلمون الفرق بين عقيدتهم وعقيدة هؤلاء الذين يخالطونهم، وما لم يعلموا قبح هذه العقائد ومنافاتها للإسلام؛ فإنّهم حتماً سيقعون في الخلط والتساهل الذي يشوه الصبغة الإسلامية ويطمس الهوية، ومن هنا أسهبت السورة في التشنيع على أهل الكتاب في عقائدهم وأفعالهم، ومن ذلك تصريحها بكفرهم وبسبب هذا الكفر، من مثل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة 72) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (المائدة 73) (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (المائدة 78).

إنّنا بحاجة إلى إدراك هذه المعاني وإلى الانطلاق منها في طريق استعادة هوية الأمة الإسلامية، وفي استعادة التمكين لها، ولا ريب أنّ شرط التمكين الأول هو عودة الأمة لما كانت عليه، وفي مقدمة ذلك الهوية الإسلامية والصبغة الربانية، والله المستعان.
‏٢٩‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١٠:٤٣ م‏
الحجر الصحي في السنة النبوية أ.د.رشيد كهوس يعتبر الحجر الصحي من أهم الإجراءات الوقائية للحد من انتشار العدوى في هذه الفترة التي يواجه فيها العالم كله "فيروس كورونا". وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم طريقة تطبيقه بالبيان الواضح والمنهاج اللاحب، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْض فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»([1]). وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضا: « لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»([2]). يَحكِي الشَّرِيدُ بنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه «كان في وَفْدِ ثَقِيفٍ» وهي قَبِيلَةٌ مشهورةٌ «رَجُلٌ مَجذُوم»، أي: مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ، وهو مَرَضٌ مُعْدٍ، وأراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُبايِعَه على الإسلام والجِهاد، «فأرسَلَ إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا قد بَايَعْناك»([3])، أي: بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ، «فارْجِعْ». قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس مِن رَجُلٍ يَقَعَ الطاعونُ فيَمكُثُ في بَيتِه صابِرًا مُحتَسِبًا يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللهُ له إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ الشَّهيدِ»([4]). وفي رواية: (فيَمكُثُ في بَلَدِه صابِرًا) ([5]). قال الإمام ابن حجر في الفتح: "اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت"اهـ. وبمعنى آخر فمن لزم بيته وقت نزول الوباء يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت. فكل هذه الأحاديث تبين لنا المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، ومواجهة الأقدار الإلهية (الأمراض، الوباء، البلاء...) بأقدار إلهية أخرى (اتخاذ الأسباب)، وهذه الأحاديث الشريفة تنطبق على واقعنا هذا، في ظل انتشار "وباء كورونا" في سائر بقاع العالم. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، طريقة الحجر الصحي ؛ فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، كما دعا إلى عدم الخروج من البيوت حتى لا يتفشى الوباء فتنتقل العدوى بين الناس. ولهذا قال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: "(من) اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا"اهـ. أي على الإنسان ألا يستسلم للقدر، بل يواجه القدر بقدر آخر، ذلك بأن المسببات مرتبطة بأسبابها شرعا وقدرا، لذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم. ومن ثم فإن إنكار سنن الله في الأسباب يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم وحقائق علوم الطب، وهذا مذموم في ديننا الحنيف. قال ابن الخطيب: "إنه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين، ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضا أن جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء"اهـ. وهذا مستنبط من الأحاديث النبوية السابقة التي تأمر بالأخذ بالسنن الإلهية في الأسباب من خلال الحجر الصحي على المصابين بالوباء، مع عزلهم عن غيرهم، وعزل المكان المصاب (بؤرة انتشار الوباء)، ومراقبة القادمين من أماكن انتشار الوباء... هذا وقد نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية، مقالا حول تعاليم نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حول النظافة الشخصية وتوجيهاته إذا حل الوباء ببلد ما، أي (الحجر الصحي). وكتب أستاذ قسم الاجتماع بجامعة رايس كريج كونسيدين مقالا بعنوان: "هل يمكن لقوة الصلاة وحدها إيقاف وباء مثل كورونا؟ حتى الرسول محمد كان له رأي آخر" .أكد فيه أن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من نصح بالحجر الصحي والنظافة الشخصية في حالات انتشار الوباء. وأثار كونسيدين سؤالًا حاول الإجابة عنه قائلًا: «هل تعلمون من الذي أوصي بالتزام النظافة، والحجر الصحي الجديد أثناء تفشي الأوبئة؟ فأجاب قائلًا: نبي الإسلام مُحمد، قبل 1400 عام». ورأى الكاتب إنَّه «على الرغم من أنَّ نبي الإسلام ليس بأي حالٍ من الأحوال خبيرًا «تقليديًا» في المسائل المُتعلقة بالأمراض الفتَّاكة؛ إلَّا أنَّه كان لدية نصيحة جيدة؛ لمنع ومُكافحة تطور الأوبئة مثل فيروس كورونا الجديد». واستشهد الكاتب بحديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» [رواه الشيخان]. وأشار الكاتب إلى أنَّ النبي قد أوصي بعزل المُصابين بالأمراض المُعدية عن الأصحاء. كما حث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، البشر على الالتزام بعادات يومية للنظافة، تسهم في حمايتهم من العدوى. ثم ذكر مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة، ودعا إلى التأمل فيها: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[صحيح مسلم]. «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»[متفق عليه]. «بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده»[سنن أبي داود]. فليس المقصود بالوضوء فيه : المعنى الشرعي المعروف للوضوء ؛ وإنما المراد به غسل اليدين، قبل الأكل. ويسترسل الكاتب الأمريكي في قوله مُتسائلًا: «في حال مرض شخص ما فما النصيحة التي سيُسديها النبي مُحمد إلى البشر الذين يتكبدون الألم؟»، فأجاب الكاتب إنَّه: «بالفعل سيُشجعهم –بالفعل على السعي للحصول على العلاج الطبي والأدوية»، واستشهد بالحديث النبوي الشريف عن أسامة بن شريك- رضي الله عنه- قال: قَالَتْ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرِمُ»[سنن ابن ماجه]. وقال الكاتب الأمريكي إنَّ نبي الإسلام كان حكيما في المُوازنة ما بين الإيمان والعقل. فخلال الأسابيع الأخيرة، ظن بعضهم أنَّ الصَّلاة وحدها قادرة على حمايتنا من فيروس كورونا، وليس الالتزام بالقواعد الأساسية للتباعد الاجتماعي، والعزل المنزلي. وفي ختام مقاله حثَّ «كونسيدين» على تأمل العبرة من القصة التي رواها الترمذي في سننه أنَّه ذات يوم جاء أعربي يستشير النبي في أمر ناقته «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ له: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل». وهي دعوة إلى الموازنة بين التوكل والأخذ بالأسباب. وقال الكاتب إنَّه على الرغم من أنَّ نبي الإسلام أوصى بأنَّ الدين دستور جامع لحياة البشرية؛ إلَّا أنَّه حثَّ أيضًا على اتباع الأسباب الاحترازية اللازمة لضمان استقرار الجميع وسلامتهم.اهـ. كما نشر موقع صحيفة “ABC” الإسبانية تقريرا حول (نصائح النبي محمد المذهلة) في مواجهة الأوبئة، التي تنطبق تماما على الإجراءات الوقائية والطبية التي تنصح بها الجهات الرسمية والطبية الناس اليوم للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19). واعتبر الكاتب الإسباني (خوسيه مانويل نيفز) أنه من المذهل أن النبي محمد الذي عاش قبل أكثر من 1400 عام، والذي كان أميا ولم يتلق أي تدريب علمي -بحسبه-، "كان يعرف بالفعل، خطوة بخطوة، ما يجب فعله أثناء الوباء". واستشهد "نيفز" بتقرير نيوزويك، واقتبس منه ترجمة عدد من التوجيهات التي وردت في أحاديث نبوية، شريفة، أهمها حديث الطاعون، وعدم الدخول أو الخروج من البلد الذي أصيب به. وأشار إلى ما ذهب إليه الكاتب الأمريكي "كريغ كونسيدين"، وهو أن "النبي محمد عرف قيمة الموازنة بين العقل والإيمان، والأخذ بالأسباب مع الصلاة والدعاء". وهذه الملامح التي قدمها الكاتبان الأمريكي والإسباني حول المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، تؤكد سبق الإسلام إلى هذه الإجراءات الطبية الصحية، كما تؤكد اهتمام الإسلام بالعلم، وعنايته بالعقل العلمي، وحثه على العمل بمقتضى السنن الإلهية التي أقام الله عليها نظام الكون والحياة البشرية، ودعوته إلى اتخاذ الأسباب التي تحفظ للناس صحتهم وحياتهم وسلامة مجتمعاتهم واستقرارها وأمنها. وقد سار على الهدى النبوي الصحابة رضي الله عنهم، لذلك لما حل الطاعون بالشام رجع الفاروق عمر رضي الله عنه بالناس ولم يدخلها، فقَالَ له أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه: "أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: "لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ"([6]). وهكذا كان الفاروق t فقيها في السنن الإلهية، وأخذ بسنن الأسباب للحفاظ على الناس من إصابتهم بالطاعون، وهذه نتيجة وعيه السنني، وهذا الفقه العمري نحن في حاجة إليه اليوم، مع انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) في العالم، فنحن في حاجة إلى المباعدة الاجتماعية، ولزوم البيوت، منعا من انتشار العدوى بين الناس، وحفاظا على صحتهم وأرواحهم، إذ الأمن الصحي مقصد عظيم من مقاصد الرسالة الخاتمة. واتخاذ الإجراءات اللازمة، والأخذ بالأسباب الصحية والوقائية من الوباء، لا ينافي الرضا بالقضاء والقدر، ولا التوكل على الله، بل هو من صميم الدين ومن صميم الرضا بالقدر. ذلك بأن القول بالتنافي بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب جهل بالدين، والتوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب هو الدين. ومسك الختام: إن التعامل مع هذا الوباء الذي انتشر في العالم كله (كورونا)، لا يكون بالسخرية واللامبالاة، ولا بالذعر والخوف والهلع.. وإنما: -بإصلاح العلاقة مع الله، والتوبة إليه، والدعاء والتذلل بين يديه.. [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم]. (الرعد: 11). -واتخاذ الأسباب الاحترازية اللازمة، واتباع الإجراءات الطبية الوقائية، والالتزام بمبادئ النظافة والحجر الصحي والعزل الاجتماعي، (نَفِر من قَدَر الله إلى قَدَر الله). -ثم بعد ذلك بالاطمئنان واليقين في الله تعالى، وأن لا شيء يحصل في الكون بدون علمه وحكمته ومشيئته الأزلية. وأن الأمل ينبثق من ثنايا الألم، وأن المنح تخرج من طي المحن، وأن اليسر يأتي على مطايا العسر، وأن العطايا تجيء على أقدام البلايا، وأن النعم تتنكر في أثواب النقم. (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).(إن الله بالغ أمره). اللهم اصرف عنّا الوباء، وقِنا شر الداء، ونجنا من الطعن والطاعون والبلاء، بلطفك يا لطيف إنك على كل شيء قدير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397. صحيح مسلم، كتاب السلام، بَابُ الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا، ح2219. ([2]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا هامة، ح5437. صحيح مسلم، كتاب السلام، ح2221. ([3]) صحيح مسلم، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه، ح2231. ([4]) مسند أحمد بن حنبل، 43/235. ([5]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر في الطاعون، ح5402. ([6]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397.
الحجر الصحي في السنة النبوية

أ.د.رشيد كهوس



يعتبر الحجر الصحي من أهم الإجراءات الوقائية للحد من انتشار العدوى في هذه الفترة التي يواجه فيها العالم كله "فيروس كورونا".

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم طريقة تطبيقه بالبيان الواضح والمنهاج اللاحب، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْض فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»([1]). وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضا: « لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»([2]).

يَحكِي الشَّرِيدُ بنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه «كان في وَفْدِ ثَقِيفٍ» وهي قَبِيلَةٌ مشهورةٌ «رَجُلٌ مَجذُوم»، أي: مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ، وهو مَرَضٌ مُعْدٍ، وأراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُبايِعَه على الإسلام والجِهاد، «فأرسَلَ إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا قد بَايَعْناك»([3])، أي: بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ، «فارْجِعْ».

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس مِن رَجُلٍ يَقَعَ الطاعونُ فيَمكُثُ في بَيتِه صابِرًا مُحتَسِبًا يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللهُ له إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ الشَّهيدِ»([4]). وفي رواية: (فيَمكُثُ في بَلَدِه صابِرًا) ([5]).

قال الإمام ابن حجر في الفتح: "اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت"اهـ. وبمعنى آخر فمن لزم بيته وقت نزول الوباء يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت.

فكل هذه الأحاديث تبين لنا المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، ومواجهة الأقدار الإلهية (الأمراض، الوباء، البلاء...) بأقدار إلهية أخرى (اتخاذ الأسباب)، وهذه الأحاديث الشريفة تنطبق على واقعنا هذا، في ظل انتشار "وباء كورونا" في سائر بقاع العالم.

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، طريقة الحجر الصحي ؛ فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، كما دعا إلى عدم الخروج من البيوت حتى لا يتفشى الوباء فتنتقل العدوى بين الناس.

ولهذا قال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: "(من) اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا"اهـ.

أي على الإنسان ألا يستسلم للقدر، بل يواجه القدر بقدر آخر، ذلك بأن المسببات مرتبطة بأسبابها شرعا وقدرا، لذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم.

ومن ثم فإن إنكار سنن الله في الأسباب يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم وحقائق علوم الطب، وهذا مذموم في ديننا الحنيف.

قال ابن الخطيب: "إنه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين، ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضا أن جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء"اهـ.
وهذا مستنبط من الأحاديث النبوية السابقة التي تأمر بالأخذ بالسنن الإلهية في الأسباب من خلال الحجر الصحي على المصابين بالوباء، مع عزلهم عن غيرهم، وعزل المكان المصاب (بؤرة انتشار الوباء)، ومراقبة القادمين من أماكن انتشار الوباء...

هذا وقد نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية، مقالا حول تعاليم نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حول النظافة الشخصية وتوجيهاته إذا حل الوباء ببلد ما، أي (الحجر الصحي).

وكتب أستاذ قسم الاجتماع بجامعة رايس كريج كونسيدين مقالا بعنوان: "هل يمكن لقوة الصلاة وحدها إيقاف وباء مثل كورونا؟ حتى الرسول محمد كان له رأي آخر" .أكد فيه أن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من نصح بالحجر الصحي والنظافة الشخصية في حالات انتشار الوباء.

وأثار كونسيدين سؤالًا حاول الإجابة عنه قائلًا: «هل تعلمون من الذي أوصي بالتزام النظافة، والحجر الصحي الجديد أثناء تفشي الأوبئة؟ فأجاب قائلًا: نبي الإسلام مُحمد، قبل 1400 عام».

ورأى الكاتب إنَّه «على الرغم من أنَّ نبي الإسلام ليس بأي حالٍ من الأحوال خبيرًا «تقليديًا» في المسائل المُتعلقة بالأمراض الفتَّاكة؛ إلَّا أنَّه كان لدية نصيحة جيدة؛ لمنع ومُكافحة تطور الأوبئة مثل فيروس كورونا الجديد».
واستشهد الكاتب بحديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» [رواه الشيخان].

وأشار الكاتب إلى أنَّ النبي قد أوصي بعزل المُصابين بالأمراض المُعدية عن الأصحاء. كما حث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، البشر على الالتزام بعادات يومية للنظافة، تسهم في حمايتهم من العدوى.

ثم ذكر مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة، ودعا إلى التأمل فيها:
«الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[صحيح مسلم].

«إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»[متفق عليه].

«بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده»[سنن أبي داود]. فليس المقصود بالوضوء فيه : المعنى الشرعي المعروف للوضوء ؛ وإنما المراد به غسل اليدين، قبل الأكل.

ويسترسل الكاتب الأمريكي في قوله مُتسائلًا: «في حال مرض شخص ما فما النصيحة التي سيُسديها النبي مُحمد إلى البشر الذين يتكبدون الألم؟»، فأجاب الكاتب إنَّه: «بالفعل سيُشجعهم –بالفعل على السعي للحصول على العلاج الطبي والأدوية»، واستشهد بالحديث النبوي الشريف عن أسامة بن شريك- رضي الله عنه- قال: قَالَتْ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرِمُ»[سنن ابن ماجه].

وقال الكاتب الأمريكي إنَّ نبي الإسلام كان حكيما في المُوازنة ما بين الإيمان والعقل. فخلال الأسابيع الأخيرة، ظن بعضهم أنَّ الصَّلاة وحدها قادرة على حمايتنا من فيروس كورونا، وليس الالتزام بالقواعد الأساسية للتباعد الاجتماعي، والعزل المنزلي.

وفي ختام مقاله حثَّ «كونسيدين» على تأمل العبرة من القصة التي رواها الترمذي في سننه أنَّه ذات يوم جاء أعربي يستشير النبي في أمر ناقته «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ له: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل». وهي دعوة إلى الموازنة بين التوكل والأخذ بالأسباب.

وقال الكاتب إنَّه على الرغم من أنَّ نبي الإسلام أوصى بأنَّ الدين دستور جامع لحياة البشرية؛ إلَّا أنَّه حثَّ أيضًا على اتباع الأسباب الاحترازية اللازمة لضمان استقرار الجميع وسلامتهم.اهـ.

كما نشر موقع صحيفة “ABC” الإسبانية تقريرا حول (نصائح النبي محمد المذهلة) في مواجهة الأوبئة، التي تنطبق تماما على الإجراءات الوقائية والطبية التي تنصح بها الجهات الرسمية والطبية الناس اليوم للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19).

واعتبر الكاتب الإسباني (خوسيه مانويل نيفز) أنه من المذهل أن النبي محمد الذي عاش قبل أكثر من 1400 عام، والذي كان أميا ولم يتلق أي تدريب علمي -بحسبه-، "كان يعرف بالفعل، خطوة بخطوة، ما يجب فعله أثناء الوباء".

واستشهد "نيفز" بتقرير نيوزويك، واقتبس منه ترجمة عدد من التوجيهات التي وردت في أحاديث نبوية، شريفة، أهمها حديث الطاعون، وعدم الدخول أو الخروج من البلد الذي أصيب به.

وأشار إلى ما ذهب إليه الكاتب الأمريكي "كريغ كونسيدين"، وهو أن "النبي محمد عرف قيمة الموازنة بين العقل والإيمان، والأخذ بالأسباب مع الصلاة والدعاء".

وهذه الملامح التي قدمها الكاتبان الأمريكي والإسباني حول المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، تؤكد سبق الإسلام إلى هذه الإجراءات الطبية الصحية، كما تؤكد اهتمام الإسلام بالعلم، وعنايته بالعقل العلمي، وحثه على العمل بمقتضى السنن الإلهية التي أقام الله عليها نظام الكون والحياة البشرية، ودعوته إلى اتخاذ الأسباب التي تحفظ للناس صحتهم وحياتهم وسلامة مجتمعاتهم واستقرارها وأمنها.

وقد سار على الهدى النبوي الصحابة رضي الله عنهم، لذلك لما حل الطاعون بالشام رجع الفاروق عمر رضي الله عنه بالناس ولم يدخلها، فقَالَ له أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه: "أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: "لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ"([6]). وهكذا كان الفاروق t فقيها في السنن الإلهية، وأخذ بسنن الأسباب للحفاظ على الناس من إصابتهم بالطاعون، وهذه نتيجة وعيه السنني، وهذا الفقه العمري نحن في حاجة إليه اليوم، مع انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) في العالم، فنحن في حاجة إلى المباعدة الاجتماعية، ولزوم البيوت، منعا من انتشار العدوى بين الناس، وحفاظا على صحتهم وأرواحهم، إذ الأمن الصحي مقصد عظيم من مقاصد الرسالة الخاتمة.

واتخاذ الإجراءات اللازمة، والأخذ بالأسباب الصحية والوقائية من الوباء، لا ينافي الرضا بالقضاء والقدر، ولا التوكل على الله، بل هو من صميم الدين ومن صميم الرضا بالقدر.

ذلك بأن القول بالتنافي بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب جهل بالدين، والتوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب هو الدين.


ومسك الختام:

إن التعامل مع هذا الوباء الذي انتشر في العالم كله (كورونا)، لا يكون بالسخرية واللامبالاة، ولا بالذعر والخوف والهلع.. وإنما:

-بإصلاح العلاقة مع الله، والتوبة إليه، والدعاء والتذلل بين يديه.. [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم]. (الرعد: 11).

-واتخاذ الأسباب الاحترازية اللازمة، واتباع الإجراءات الطبية الوقائية، والالتزام بمبادئ النظافة والحجر الصحي والعزل الاجتماعي، (نَفِر من قَدَر الله إلى قَدَر الله).

-ثم بعد ذلك بالاطمئنان واليقين في الله تعالى، وأن لا شيء يحصل في الكون بدون علمه وحكمته ومشيئته الأزلية. وأن الأمل ينبثق من ثنايا الألم، وأن المنح تخرج من طي المحن، وأن اليسر يأتي على مطايا العسر، وأن العطايا تجيء على أقدام البلايا، وأن النعم تتنكر في أثواب النقم. (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).(إن الله بالغ أمره).

اللهم اصرف عنّا الوباء، وقِنا شر الداء، ونجنا من الطعن والطاعون والبلاء، بلطفك يا لطيف إنك على كل شيء قدير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397. صحيح مسلم، كتاب السلام، بَابُ الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا، ح2219.
([2]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا هامة، ح5437. صحيح مسلم، كتاب السلام، ح2221.
([3]) صحيح مسلم، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه، ح2231.
([4]) مسند أحمد بن حنبل، 43/235.
([5]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر في الطاعون، ح5402.
([6]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397.
‏٢٦‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ٢:٢١ م‏
عيد سعيد علينا وعليكم وعلى أمتنا الإسلامية
عيد سعيد علينا وعليكم وعلى أمتنا الإسلامية
‏٢٣‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١١:٤٧ م‏
إخوة علي خط الدفاع الأول ضد الاحتلال البريطاني في الهند صبغة الله الهدوي [حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507 هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtu] حتى في الظروف الصعبة تجد الأمة قائداً مناسباً لها، كما حدث في معركة حطين وعين جالوت وفي كل الفتوحات الإسلامية التي فتحت القلوب قبل أن تفتح البلدان والأمصار. وفي عشرينات القرن الماضي، وفي أعقاب انهيار الخلافة العثمانية وصعود الطوائف المتناحرة على العروش العربية والإسلامية، واندلاع صراعات دامية في المجتمعات الدولية التي أطاحت بعروش الإمبراطوريات، كانت الهند تتجه اتجاهاً آخر إذ هبت لجمع شمل المسلمين والتضامن معهم ضد الأطماع البريطانية التي اتسعت رقعتها على الخريطة الإسلامية، فكانت مهد انطلاق حركة الخلافة الإسلامية في الهند تضامناً مع الخلافة العثمانية التي انقض جدارها وتآكل جسدها. وربما لم يرهف التاريخ إلى تلك البطولات التي قام بها مسلمو الهند، في الوقت الذي انشغل العالم العربي بالتكالب على أنقاض الخلافة العثمانية، واجتمع محيطه وخليجه في خيام المستعمرين بحثاً عن الثغرات في صرح الخلافة، حقاً كانت تلك البطولات لحظة حاسمة في سجل تاريخ الأمة، وكانت أقوى وأعجب من الأفلام الهندية. فحركة الخلافة التي بدأت بداية عشرينات القرن الماضي كان لها صدى كبير في المجتمع الهندي كافة، بل عملت كهمزة وصل للملمة شتات الهند شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، واندفعت عشرات الآلاف تضامناً مع هذه الحركة التي رفعت معنويات الثوار ضد الاحتلال البريطاني، ولا تذكر هذه الحركة إلا بذكر اسمين جليلين، علقوا بأذهان الأمة، والمعروفين في تاريخ الهند بـ"إخوة علي".. إنهما الأخوان الشقيقان محمد علي جوهر وشوكت علي، توليا قيادة الأمة في فترة حاسمة مشتعلة وأركعا جبروت الطغاة بهمة تزن الجبال. الأسرة المقاومة إخوة علي ينتمون إلى قبيلة فاتان المعروفة في التاريخ ببطولاتها ومغامراتها في ميادين الحرب، ولها جذور عميقة في الهند وباكستان وأفغانستان، وأمهم عابدة بيغم التي ربت هؤلاء الأبطال على قصص عظماء الأمة وأعلامها الأمجاد، ورغم وفاة والدهم مبكراً لم تزل الوالدة تسعى جاهدة بكل ما لديها من الممتلكات، وهي تنفق على أولادها في سبيل دراستهم، فأرسلتهم إلى جامعة عليكرة الإسلامية التي كانت هي الأولى والكبرى من بين الجامعات الهندية آنذاك، فاطلعوا على العلوم الحديثة والثقافة الغربية اطلاعاً واسعاً، ثم غادر محمد علي إلى لندن والتحق بجامعة أكسفورد ونال منها شهادة في التاريخ الحديث. و"إخوة علي" هم: محمد علي وشوكت علي وذو الفقار علي، إلا أن الثالث منهم لم يحظ بصيت كبير ولم يكن له دور يذكر في السياسة، وامتاز منهم محمد علي بمواقفه الجريئة وخططته المحكمة وخطاباته الهزازة التي ظلت كابوساً يواجهه الاحتلال البريطاني حتى آخر أنفاسه. ومن الجميل أن نذكر دور أمهم عابدة بيغم التي أصرت على تربية أبنائها حتى ولو كلفها ذلك حياتها، فباعت حُليها وألحقت أبناءها بالجامعات الهندية المشهورة آنذاك، وأرسلت محمد علي للدراسات الدينية بدار العلوم بديوبند، ولا يخفى أن حياة محمد علي لها نكهة خاصة من بين إخوة علي الآخرين، إذ هو الرمز الحقيقي لهذه الثلاثية، وهو الذي خلد اسم إخوة علي في صفحات التاريخ. محمد علي جوهر: حياة على متن المقاومة عاش محمد علي جوهر حاملاً في قلبه كل المعاناة والمصاعب التي واجهت عائلته في الثورة الاستقلالية الكبرى التي حدثت عام 1857م، وقتل من عائلته أكثر من مائتين أثناء مواجهة الاحتلال للثوار، إلى جانب ما علمته أمه الشجاعة عابدة بيغم، المحرك الحقيقي وراء تشكيل هذه الشخصية الخالدة. خاض محمد علي مضمار السياسة مبكراً، وتلمس نبض الشعب الهندي الذي تململ من وطأة الاحتلال، وانتظر ميلاد زعيم يواسي جراحهم، وآمن محمد علي بأن الوطن المهيب لا يصنع من الخضوع والخنوع بل يبنى على معنويات سامية، وأحلام أبية على الاستسلام عصية على الترويض. في أولى مراحل حياته تماشى مع حزب كونجرس الذي ضم ملايين الهنود، لكن في العشرينات بعد أن لاحظ تغيرات جذرية في مواقف كونجرس وانحياز لمصالح الهندوس، فارقه وودعه وداع البطل، فمن أول تجاربه السياسية أنه اشترك في المؤتمر الذي أقيم لانطلاق رابطة المسلمين لعموم الهند عام 1906م وقدم في ذلك المؤتمر كتابه الموسوم بـ"الكتاب الأخضر" الذي يوضح منهجيته ومسار فكره واتجاهاته السياسية. وعندما أوشكت الخلافة العثمانية على الانهيار وشاخت وانمحت آثار قوتها من العالم الإسلامي، وأقبلت الإمبراطوريات الكبرى تتقاسم أجزاءها تحت خطط ومشروعات مشؤومة، نهضت الهند بشرقها وغربها تدين هذه الهجمات الضروس، وتستنكر فعاليات بريطانيا وحاشيتها. غادر إلى لندن كل من محمد علي وسليمان الندوي للتفاوض مع بريطانيا وطلبوا إقامة الخلافة لكن الطلب رفض، فبعد عودتهم إلى الهند أعلنت انطلاق حركة الخلافة في مومباي عام 1921م ليسجل خارج العالم الإسلامي ميلاد موعد جديد، ومضى فضيلته يجوب دنيا الهند بحثاً عن المتضامنين مع هذه الحركة، وحتى في كيرالا أقصى جنوب الهند اصطف الآلاف في هذه الحركة، وفتحوا مكاتب للخلافة، حتى حركت ساكن الاحتلال وهددت سيطرتهم حتى أن أحرق بعض نشطاء الخلافة مراكز جنود الاحتلال، فأهم شيء فعلته حركة الخلافة أنها رفعت معنويات الثوار، وغرست فيهم روح العزم وطوت المسافة نحو الاستقلال وعلمتهم بأن همم الرجال تهدم الجبال وأن القلب المصر سيهزم الجيش الذي لا يقهر. فلخطابات محمد علي جوهر دور كبير في تحميس الشباب لا سيما أواسط الشرائح المثقفة، حيث أثارت خطاباته موجة احتجاج واستنكار من الاحتلال لا سيما بعد أن سلك أبو الكلام آزاد في هذا السلك السياسي الحاسم، فمما تدل على شدة وفائه للخلافة وللأمة أنه بعث طاقماً طبياً يضم خمسين متطوعاً إلى تركيا في الوقت الذي كانت تركيا تمر بظروف صعبة اقتصادياً واجتماعياً. وتعد حادثة هدم مسجد كانبور النقطة الفارقة في حياته السياسية، إذ استغل الاحتلال هذه الفرصة لتفريق الشعب وإثارة موجة طائفية بينهم، حتى راح من المسلمين عدة ضحايا جراء القمع والعنف الذي مارسه الاحتلال، فاحتجاجاً على هذه الممارسات القمعية، أقام كل من محمد علي وشبلي نعماني وسليمان ندوي احتجاجاً شديداً ضد مواقف الاحتلال المتعصبة. وكان لفضيلته ملكة قوية في إبداء الآراء وفي توضيحها حتى دبج سلسلة من المقالات التي تنتقد الإمبراطورية الإنجليزية التي تتربص بالخلافة وبالأمة، فلم يمضِ طويلاً حتى أصدر الاحتلال قراراً باعتقال وزجه في السجون، وفي أيام سجنه انتُخب رئيساً لرابطة المسلمين لتشهد الهند بزوغ سياسي محنك وفي. وكان دبلوماسياً ماهراً، وفي عام 1926 م حين دب الخلاف بين الشريف حسين وحكومة السعودية استدعاه ملك السعودية ضمن ممثلي الخلافة، وفي عام 1930م مثل مسلمي الهند في مؤتمر الطاولة المستديرة، فسافر إلى الهند غير آبه بصحته وحالته المتعبة، ويحكي عن تلك اللحظات قائد الملة محمد إسماعيل صاحب مؤسس رابطة المسلمين في الهند المستقلة في كتابه "ذكرياتي": "رأيت الأخ محمد علي في ميناء ممباي، يريد المغادرة إلى لندن، وقد أضناه العمر وأتعبه السفر، وعيناه تكاد لا تفتح، لكن رأينا قامة تمشي، فلما سألنا عنه وطلبنا منه الرجوع أصر وقال "على قدر ما أفضل حياتي أفضل وطني هذا"، ثم ركب السفينة وكأنه غادر حتى لا يعود إلى الهند المستعبدة". عاش مدافعاً عن الأمة ولم يتاجر بقضاياها ولم يرتزق، ولم يسمح لأحد أن يغل من حقها أو يغتالها. ومن مقولاته الشهيرة التي هزت كيان الإمبراطورية: "أنا لا أريد العودة إلى وطن مستعبد، بل سأموت في أي وطن ذاق حلاوة الحرية". رحيله وكان مريض السكر، عانى في حياته منه لزمن طويل، ومات عام 1931 م في لندن، وهو القائل "إما وطن محرر أو مكان لأقبر"، ودفن بأكناف المسجد الأقصى ولم يرجع إلى الهند كما أقسم فأبر، وعنه قال المؤرخ المستشرق اتش جي ويلس: "له قلب نابليون، وقلم ميكالا، ولسان بيرك". وزوجته أمجد بيغم لا بد من ذكر سيرتها العطرة، وقفت بكل قلبها وروحها وراء زوجها البطل، وكانت تشترك في النشاطات السياسية، حتى اشتركت كمندوب ولاية أتار برديش في مؤتمرات كونجرس، وعاشت على خطى أم زوجها عابدة بيغم أم الأبطال، وكان لهما الدور الكبير في تنشيط الفعاليات الاستقلالية وتبليغ رسالة المؤتمرات التي تنعقد من أجل الحرية بين النساء، وكانت هي الظل الظليل والوزيرة الناصرة لزوجها الشجاع أينما حل وارتحل، اشتركت في جنازة زوجها بلندن وسافرت إلى فلسطين بعد جهد وتعب لمراسم دفنه بأكناف المسجد الأقصى، إنها يا سادة سيرة العظماء الذين عاشوا في الأرض أعلاماً وماتوا بهدوء كراماً، وإن لقصص العظماء بقية.
إخوة علي
خط الدفاع الأول ضد الاحتلال البريطاني في الهند

صبغة الله الهدوي

[حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507
هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511
الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtu]

حتى في الظروف الصعبة تجد الأمة قائداً مناسباً لها، كما حدث في معركة حطين وعين جالوت وفي كل الفتوحات الإسلامية التي فتحت القلوب قبل أن تفتح البلدان والأمصار.

وفي عشرينات القرن الماضي، وفي أعقاب انهيار الخلافة العثمانية وصعود الطوائف المتناحرة على العروش العربية والإسلامية، واندلاع صراعات دامية في المجتمعات الدولية التي أطاحت بعروش الإمبراطوريات، كانت الهند تتجه اتجاهاً آخر إذ هبت لجمع شمل المسلمين والتضامن معهم ضد الأطماع البريطانية التي اتسعت رقعتها على الخريطة الإسلامية، فكانت مهد انطلاق حركة الخلافة الإسلامية في الهند تضامناً مع الخلافة العثمانية التي انقض جدارها وتآكل جسدها.

وربما لم يرهف التاريخ إلى تلك البطولات التي قام بها مسلمو الهند، في الوقت الذي انشغل العالم العربي بالتكالب على أنقاض الخلافة العثمانية، واجتمع محيطه وخليجه في خيام المستعمرين بحثاً عن الثغرات في صرح الخلافة، حقاً كانت تلك البطولات لحظة حاسمة في سجل تاريخ الأمة، وكانت أقوى وأعجب من الأفلام الهندية.

فحركة الخلافة التي بدأت بداية عشرينات القرن الماضي كان لها صدى كبير في المجتمع الهندي كافة، بل عملت كهمزة وصل للملمة شتات الهند شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، واندفعت عشرات الآلاف تضامناً مع هذه الحركة التي رفعت معنويات الثوار ضد الاحتلال البريطاني، ولا تذكر هذه الحركة إلا بذكر اسمين جليلين، علقوا بأذهان الأمة، والمعروفين في تاريخ الهند بـ"إخوة علي".. إنهما الأخوان الشقيقان محمد علي جوهر وشوكت علي، توليا قيادة الأمة في فترة حاسمة مشتعلة وأركعا جبروت الطغاة بهمة تزن الجبال.

الأسرة المقاومة

إخوة علي ينتمون إلى قبيلة فاتان المعروفة في التاريخ ببطولاتها ومغامراتها في ميادين الحرب، ولها جذور عميقة في الهند وباكستان وأفغانستان، وأمهم عابدة بيغم التي ربت هؤلاء الأبطال على قصص عظماء الأمة وأعلامها الأمجاد، ورغم وفاة والدهم مبكراً لم تزل الوالدة تسعى جاهدة بكل ما لديها من الممتلكات، وهي تنفق على أولادها في سبيل دراستهم، فأرسلتهم إلى جامعة عليكرة الإسلامية التي كانت هي الأولى والكبرى من بين الجامعات الهندية آنذاك، فاطلعوا على العلوم الحديثة والثقافة الغربية اطلاعاً واسعاً، ثم غادر محمد علي إلى لندن والتحق بجامعة أكسفورد ونال منها شهادة في التاريخ الحديث.

و"إخوة علي" هم: محمد علي وشوكت علي وذو الفقار علي، إلا أن الثالث منهم لم يحظ بصيت كبير ولم يكن له دور يذكر في السياسة، وامتاز منهم محمد علي بمواقفه الجريئة وخططته المحكمة وخطاباته الهزازة التي ظلت كابوساً يواجهه الاحتلال البريطاني حتى آخر أنفاسه.

ومن الجميل أن نذكر دور أمهم عابدة بيغم التي أصرت على تربية أبنائها حتى ولو كلفها ذلك حياتها، فباعت حُليها وألحقت أبناءها بالجامعات الهندية المشهورة آنذاك، وأرسلت محمد علي للدراسات الدينية بدار العلوم بديوبند، ولا يخفى أن حياة محمد علي لها نكهة خاصة من بين إخوة علي الآخرين، إذ هو الرمز الحقيقي لهذه الثلاثية، وهو الذي خلد اسم إخوة علي في صفحات التاريخ.

محمد علي جوهر: حياة على متن المقاومة

عاش محمد علي جوهر حاملاً في قلبه كل المعاناة والمصاعب التي واجهت عائلته في الثورة الاستقلالية الكبرى التي حدثت عام 1857م، وقتل من عائلته أكثر من مائتين أثناء مواجهة الاحتلال للثوار، إلى جانب ما علمته أمه الشجاعة عابدة بيغم، المحرك الحقيقي وراء تشكيل هذه الشخصية الخالدة.

خاض محمد علي مضمار السياسة مبكراً، وتلمس نبض الشعب الهندي الذي تململ من وطأة الاحتلال، وانتظر ميلاد زعيم يواسي جراحهم، وآمن محمد علي بأن الوطن المهيب لا يصنع من الخضوع والخنوع بل يبنى على معنويات سامية، وأحلام أبية على الاستسلام عصية على الترويض.

في أولى مراحل حياته تماشى مع حزب كونجرس الذي ضم ملايين الهنود، لكن في العشرينات بعد أن لاحظ تغيرات جذرية في مواقف كونجرس وانحياز لمصالح الهندوس، فارقه وودعه وداع البطل، فمن أول تجاربه السياسية أنه اشترك في المؤتمر الذي أقيم لانطلاق رابطة المسلمين لعموم الهند عام 1906م وقدم في ذلك المؤتمر كتابه الموسوم بـ"الكتاب الأخضر" الذي يوضح منهجيته ومسار فكره واتجاهاته السياسية.

وعندما أوشكت الخلافة العثمانية على الانهيار وشاخت وانمحت آثار قوتها من العالم الإسلامي، وأقبلت الإمبراطوريات الكبرى تتقاسم أجزاءها تحت خطط ومشروعات مشؤومة، نهضت الهند بشرقها وغربها تدين هذه الهجمات الضروس، وتستنكر فعاليات بريطانيا وحاشيتها.

غادر إلى لندن كل من محمد علي وسليمان الندوي للتفاوض مع بريطانيا وطلبوا إقامة الخلافة لكن الطلب رفض، فبعد عودتهم إلى الهند أعلنت انطلاق حركة الخلافة في مومباي عام 1921م ليسجل خارج العالم الإسلامي ميلاد موعد جديد، ومضى فضيلته يجوب دنيا الهند بحثاً عن المتضامنين مع هذه الحركة، وحتى في كيرالا أقصى جنوب الهند اصطف الآلاف في هذه الحركة، وفتحوا مكاتب للخلافة، حتى حركت ساكن الاحتلال وهددت سيطرتهم حتى أن أحرق بعض نشطاء الخلافة مراكز جنود الاحتلال، فأهم شيء فعلته حركة الخلافة أنها رفعت معنويات الثوار، وغرست فيهم روح العزم وطوت المسافة نحو الاستقلال وعلمتهم بأن همم الرجال تهدم الجبال وأن القلب المصر سيهزم الجيش الذي لا يقهر.

فلخطابات محمد علي جوهر دور كبير في تحميس الشباب لا سيما أواسط الشرائح المثقفة، حيث أثارت خطاباته موجة احتجاج واستنكار من الاحتلال لا سيما بعد أن سلك أبو الكلام آزاد في هذا السلك السياسي الحاسم، فمما تدل على شدة وفائه للخلافة وللأمة أنه بعث طاقماً طبياً يضم خمسين متطوعاً إلى تركيا في الوقت الذي كانت تركيا تمر بظروف صعبة اقتصادياً واجتماعياً.

وتعد حادثة هدم مسجد كانبور النقطة الفارقة في حياته السياسية، إذ استغل الاحتلال هذه الفرصة لتفريق الشعب وإثارة موجة طائفية بينهم، حتى راح من المسلمين عدة ضحايا جراء القمع والعنف الذي مارسه الاحتلال، فاحتجاجاً على هذه الممارسات القمعية، أقام كل من محمد علي وشبلي نعماني وسليمان ندوي احتجاجاً شديداً ضد مواقف الاحتلال المتعصبة.

وكان لفضيلته ملكة قوية في إبداء الآراء وفي توضيحها حتى دبج سلسلة من المقالات التي تنتقد الإمبراطورية الإنجليزية التي تتربص بالخلافة وبالأمة، فلم يمضِ طويلاً حتى أصدر الاحتلال قراراً باعتقال وزجه في السجون، وفي أيام سجنه انتُخب رئيساً لرابطة المسلمين لتشهد الهند بزوغ سياسي محنك وفي.

وكان دبلوماسياً ماهراً، وفي عام 1926 م حين دب الخلاف بين الشريف حسين وحكومة السعودية استدعاه ملك السعودية ضمن ممثلي الخلافة، وفي عام 1930م مثل مسلمي الهند في مؤتمر الطاولة المستديرة، فسافر إلى الهند غير آبه بصحته وحالته المتعبة، ويحكي عن تلك اللحظات قائد الملة محمد إسماعيل صاحب مؤسس رابطة المسلمين في الهند المستقلة في كتابه "ذكرياتي":

"رأيت الأخ محمد علي في ميناء ممباي، يريد المغادرة إلى لندن، وقد أضناه العمر وأتعبه السفر، وعيناه تكاد لا تفتح، لكن رأينا قامة تمشي، فلما سألنا عنه وطلبنا منه الرجوع أصر وقال "على قدر ما أفضل حياتي أفضل وطني هذا"، ثم ركب السفينة وكأنه غادر حتى لا يعود إلى الهند المستعبدة". عاش مدافعاً عن الأمة ولم يتاجر بقضاياها ولم يرتزق، ولم يسمح لأحد أن يغل من حقها أو يغتالها.

ومن مقولاته الشهيرة التي هزت كيان الإمبراطورية: "أنا لا أريد العودة إلى وطن مستعبد، بل سأموت في أي وطن ذاق حلاوة الحرية".

رحيله

وكان مريض السكر، عانى في حياته منه لزمن طويل، ومات عام 1931 م في لندن، وهو القائل "إما وطن محرر أو مكان لأقبر"، ودفن بأكناف المسجد الأقصى ولم يرجع إلى الهند كما أقسم فأبر، وعنه قال المؤرخ المستشرق اتش جي ويلس: "له قلب نابليون، وقلم ميكالا، ولسان بيرك".

وزوجته أمجد بيغم لا بد من ذكر سيرتها العطرة، وقفت بكل قلبها وروحها وراء زوجها البطل، وكانت تشترك في النشاطات السياسية، حتى اشتركت كمندوب ولاية أتار برديش في مؤتمرات كونجرس، وعاشت على خطى أم زوجها عابدة بيغم أم الأبطال، وكان لهما الدور الكبير في تنشيط الفعاليات الاستقلالية وتبليغ رسالة المؤتمرات التي تنعقد من أجل الحرية بين النساء، وكانت هي الظل الظليل والوزيرة الناصرة لزوجها الشجاع أينما حل وارتحل، اشتركت في جنازة زوجها بلندن وسافرت إلى فلسطين بعد جهد وتعب لمراسم دفنه بأكناف المسجد الأقصى، إنها يا سادة سيرة العظماء الذين عاشوا في الأرض أعلاماً وماتوا بهدوء كراماً، وإن لقصص العظماء بقية.
‏٢٣‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١١:٠٨ م‏
عسكر مصر والثورة.. للقصة بقية (الجزء الأول) حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507 هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtuhaq/480 محمود جمال مقدمة: تعاملت المؤسسة العسكرية منذ أول لحظة من اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير 2011م، بخطة محكمة مدروسة حتى تصل في نهاية الأمر إلى إعادة تموضعها مرة أخرى والسيطرة على زمام الأمور من جديد. حتى وإن تعاملت المؤسسة العسكرية بشكل إيجابي مع الثوار في بداية الثورة وكانت عامل ضغط على الرئيس الأسبق حسني مبارك للتخلي عن الحكم لوجود مصالح كانت تبحث عنها المؤسسة العسكرية في أواخر مدة حكمه، من العمل على "عدم المضي قدماً في مشروع التوريث". إلا أن تلك الخطوات كانت محسوبة بدقة واتضح هذا جلياً في تفتيت القوى الثورية من خلال "صناعة الفرقة" التي عملت عليها المؤسسة العسكرية منذ تولي المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي إدارة البلاد في 11 فبراير 2011م، بما في ذلك ما حدث في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس 2011م، والانتخابات البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري نهاية عام 2011م ثم الانتخابات الرئاسية في جولتيها في مايو- يونيو 2012م. واستمرت تلك الخطة في التعامل مع الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب حكم الدولة المصرية، منذ اللحظات الأولى من توليه الحكم في يونيو 2012م؛ فوضعوا أمامه العقبات، وصنعوا له الأزمات لخلق حالة من الضجر الشعبي عليه، حتى يصبح مطلب رحيل النظام مطلباً شعبياً يشكل غطاءً للمجلس العسكري لتدخل الجيش والانقضاض على الحكم من جديد بعد التخلص من أول تجربة ديمقراطية حقيقية شهدتها الدولة المصرية. جدير بالذكر أنه عند قراءة الانقلابات العسكرية التي تمت في مصر وهي على الترتيب: انقلاب 1952م، ووقوف الجيش مع ثورة يناير للانقلاب على مبارك، ثم انقلاب 03 يوليو 2013م، نرى أن الجيش كان يأخذ حراك الشارع ستاراً من أجل التحرك وتحقيق أهدافه، ولكن الضجر الشعبي والحراك في الميادين كان حقيقياً عام 2011م، ولكن في انقلاب 2013م، صنع الجيش ظهيراً شعبياً حتى يكون مبرراً لحراكه، ومن أجل هذا أنشأت المخابرات الحربية حركة تمرد ومولتها دولة الإمارات لتصبح هي الغلاف كحركة شبابية تقود الحراك. قبل البدء في الكتابة حول ذلك الموضوع، الذي أحاول من خلاله أن أقدم تفسيراً لبعض أهم الأحداث في مرحلة هامة في تاريخ الدولة المصرية، وتحديداً فترة ما قبل يوليو 2013م، ومحاولة الكشف عن المسارات التي وضعتها قيادات المؤسسة العسكرية، لتصل في نهاية المطاف للقضاء على أول تجربة ديمقراطية شهدتها الدولة المصرية، وصولاً إلى مايو 2014م، بتنصيب عبدالفتاح السيسي على رأس الدولة، وما نتج عن هذا التنصيب وما أحدثه من تافقات وخلافات داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية، أود أن أشير إلى أن بعض المعلومات التي ستذكر في هذه السطور ، هي نتاج لمقابلات مع بعض المطلعين على تلك المرحلة من العسكريين السابقين، بطرق مباشرة، وغير مباشرة. أولاً: أسباب وقوف الجيش مع ثورة يناير: قبل الدخول في مرحلة فترة حكم الرئيس محمد مرسي، يجب الوقوف على أسباب وقوف الجيش مع ثورة يناير، ومن وجهة نظر الباحث، أنه لولا وقوف الجيش المصري الإيجابي مع ثورة يناير ما كان لحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك أن ينتهي. ويرى الباحث أن هناك عدة نقاط هامة كانت ضمن أسباب وقوف الجيش المصري مع ثورة يناير وإجبار مبارك على التخلي عن الحكم، هي: 1- عدم شعور الجيش بتوجه الاحتجاجات نحوه بشكل مباشر، وهذا بسبب أن الجيش المصري لم يكن أداة من أدوات النظام لقمع الشعب أو المعارضة أيام مبارك، على الرغم من كونه حامياً للنظام. 2- عدم تأييد الجيش للتوريث لأن في ذلك خروجاً على مبدأ "الحاكم ذي الخلفية العسكرية"، بالإضافة إلى أن التوريث يهدد امتيازات الجيش، وتقديره أن الاحتجاجات ستوقف التوريث فقط، وأنه قادر على استعادة زمام الأمور مرة أخرى. 3-اتصاف الثورة بالشعبية منذ جمعة الغضب 28 يناير 2011م، وسلميتها.[1] تلك الأسباب من وجهة نظري، فضلاً عن وجود إشارات واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية تفيد بعدم الوقوف أمام التغيير، كانت الدافع الأساس لوقوف الجيش مع ثورة يناير، ولا أرى أن الجيش وقف مع ثورة يناير 2011م من أجل تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، أو ليصبح الحكم حكماً مدنياً متعاقباً، ويعود الجيش إلى مهامه المنوط بها في حماية البلاد من المخاطر والتهديدات؛ وربما هذا ما يفسر أسباب وقوف الجيش ضد الرئيس محمد مرسي من أول لحظات حكمه، إذ يرى العسكريون ممن أُجريت المقابلات معهم، أنه لو فاز أحمد شفيق على الرئيس الأسبق مرسي في جولة الإعادة يونيو 2012م، لكان تعامل الجيش معه مختلفاً تماماً، إذ قال أحد العسكريين "هؤلاء لم ولن يسمحوا أبدأ أن يحكم مصر رئيس مدني، ولن يعطوا التحية العسكرية أبداً لشخص ذي قميص وبنطال". أود أن أشير هنا إلى نقطة هامة، لم يتطرق لها الكثيرون، فالمجلس العسكري الذي كان يتكون من 24 عضواً أثناء ثورة يناير 2011م، كانوا جميعاً بلا استثناء، نظرياً وبدون أي خلاف حول هذا الأمر، مع رحيل مبارك من أجل التخلص من قصة التوريث التي كان مبارك يجهز لها حتى يصبح جمال مبارك رئيساً لمصر؛ ولكن كانت هناك وجهتا نظر داخل المجلس: وجهة النظر الأولى: كانت ترى استغلال الحراك للتخلص من مبارك، وملف التوريث. وجهة النظر الثانية: كانت ترى أن خروج مبارك في توقيت ثورة يناير 2011م سيدفع الناس للتجرؤ على منظومة الحكم العسكري ويصبح الحراك عادة يقوم بها الشعب في الفترات المقبلة، وهذا سيكون تهديداً حقيقياً للحكم العسكري على المدى القريب والبعيد، وكانوا يرون مواجهة الحراك بالقوة وكان اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية وقت ثورة يناير 2011م، يتبنى وجهة النظر تلك.[2] جدير بالذكر أن مبارك كان يسير على نفس المنهاج الذي أسسه عبدالناصر منذ عام 1954م، وسار عليه أنور السادات الذي خلفه في الحكم عام 1970م، فكانت المؤسسة العسكرية مستقلة عن مؤسسة الرئاسة، وكانت الدولة المصرية تُدار عن طريق مؤسستين هما مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، ولكن القائد الأعلى لتلك المؤسستين هو رئيس الدولة والذي كان يعطي لكل مؤسسة أدوار اً معينة، لذلك كانت المؤسسة العسكرية بشكل فعلي شريكة في الحكم ولها صلاحيات وأدوار في مختلف الملفات، ولم تكن لها الكلمة العليا في إدارة شئون البلاد. ثانياً: المؤسسة العسكرية بعد ثورة يناير "فترة المجلس العسكري": تنحى حسني مبارك، وفوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة شئون البلاد، في 11 فبراير 2011م، ومنذ تلك اللحظة الفارقة مضت قيادات المجلس العسكري قدماً في تنفيذ مخططها المدروس لكي تمسك بزمام الأمور مرة أخرى. المخطط بالأساس كان يسعى لتحقيق عدة أهداف بشكل متوازٍ، للتحكم في السلطة عن طريق "انقلاب ناعم" على ثورة يناير، كان من أبرز خطوات ذلك المخطط: 1-تنفيذ استراتيجية "صناعة الفرقة" بين رفقاء الميدان من الإسلاميين والليبراليين وكافة القوى المدنية الأخرى، فالمجلس العسكري عمل على تفتيت تلك القوى إعمالاً لمبدأ "فرق تسد". تلك الاستراتيجية كانت تعتمد بالأساس على التقارب في بداية الأمر مع القوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين كما حدث في استفتاء مارس 2011م، فالمؤسسة العسكرية صورت الأمر على أن تفاهمات وتوافقات جرت بين الجيش والإسلاميين، بشكل عام في الموافقة على التعديلات الدستورية التي كانت ترفضها أغلبية القوى المدنية والثورية، حتى يحدث ذلك شرخاً بين القوى الإسلامية والقوى المدنية والعلمانية والثورية (من خلال الحديث عن التقارب بين القوى الإسلامية والمؤسسة العسكرية) وتقف تلك القوى في صف المعارضة للقوى الإسلامية وتصطف لمواجهتها. وبعد إحداث ذلك الشرخ تتباعد المؤسسة العسكرية شيئاً فشيئاً من القوى الإسلامية حتى تكون أقرب للقوى المدنية والقوى الأخرى لكي يقفوا أمام القوى الإسلامية التي أصبحت تقف وحيدة. فكانت خطة المؤسسة العسكرية المدروسة في التعامل مع الملف السياسي تهدف أولاً إلى القضاء على أكبر فصيل سياسي شارك في الثورة، وبعد ذلك تتخلص من القوى الأخرى شيئاً فشيئاً من حيث الأهمية، وهذا ما حدث بالفعل. 2- فرض إعلانات ووثائق فوق دستورية تعطي المؤسسة العسكرية، صلاحيات وامتيازات، تمكنها من إدارة المرحلة بشكل منفرد، لذلك أصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري المكمل في يونيو 2012 الذي كان بمثابة انقلاب على الثورة، بعد وثيقة السلمي التي صدرت في النصف الثاني من عام 2011، والتي صيغت "بالتنسيق مع الجيش" وكانت تهدف إلى "دسترة" السيطرة العسكرية على الأمور في البلاد. 3- إفشال وتعطيل المؤسسات المنتخبة التي ستأتي بها الثورة، ولذلك عمل المجلس العسكري على حل مجلس الشعب الذي انتُخب بعد ثورة يناير، لضمان استمرارية المؤسسة العسكرية في سيطرتها على الأوضاع بالسيطرة على السلطة التشريعية، ومحاولة إطالة المرحلة الانتقالية، ولكي تظل السلطة التنفيذية والتشريعية في يد المؤسسة العسكرية. 4- حسم الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح تدعمه المؤسسة العسكرية، على أن يكون رجلاً ذا خلفية عسكرية، وأكد البعض في تلك الجلسات، أن المؤسسة العسكرية قدمت كل أنواع الدعم للفريق أحمد شفيق حتى يكون هو الفائز في الانتخابات الرئاسية في مايو 2012م، ولكن بسبب ارتباط أحمد شفيق بمنظومة حسني مبارك التي قامت الثورة للقضاء على رموزها، فضلاً عن شعبية جماعة الإخوان داخل الشارع المصري في ذلك الوقت، كانت النتيجة لصالح الرئيس محمد مرسي. ويرى البعض أن المؤسسة العسكرية رأت في ذلك التوقيت، ربما بضغوط خارجية، أن تزوير الانتخابات سيكون خطئاً استراتيجياً، وسيُدخل الدولة في حالة فوضى، وسيكون الضرر على المؤسسة العسكرية أكثر من نفعه، وكانت تري أن المنطقة ما زالت تمر بحالة ثورية، وبالتالي رأت تأجيل المواجهة لوقت آخر، مع إيمانها بقدرتها على إنهاء حكم الإخوان في أسرع وقت. ثالثاً: المؤسسة العسكرية وحكم الرئيس مرسي: المؤسسة العسكرية منذ اللحظة الأولى لحكم الرئيس محمد مرسي، لم تتقبل ذلك الأمر، وكانت تخطط للوصول إلى اللحظة الحاسمة التي تنهي فيها تلك التجربة، وتعطي درساً لمن يحاول أن يسير على نفس المنوال مرة أخرى. قال لي أحد العسكريين إنن أغسطس 2012م كان تاريخاً هاماً داخل المؤسسة العسكرية، وصراعهم مع التجربة الديمقراطية، وتحديداً عند إقالة المشير محمد حسين طنطاوي من منصبه كوزير للدفاع، والفريق سامي عنان من منصبة كرئيس للأركان، وكذلك قادة الأفرع الرئيسية بالجيش المصري، أسباب تلك الإقالات وتحديداً إقالة كل من المشير طنطاوي والفريق عنان يتحدث عنها الكثيرون، ولكن من وجهة نظري الرواية الصحيحة التي دفعت الرئيس مرسي للإطاحة بالمشير طنطاوي لم تُروَ إلى الآن. وبناء على ما ذكره بعض العسكريين السابقين، فإن قرار إقالة المشير طنطاوي، سبّب ضجراً كبيراً داخل الجيش المصري، في مختلف المستويات "قيادات، ضباط" وهذا بسبب أن طنطاوي بالأساس له رصيد وشعبية داخل المؤسسة العسكرية فهو صاحب أكبر فترة يقضيها وزير دفاع داخل الجيش المصري "1991-2012”، فضلاً عما عدوه من الرئيس مرسي "تجاوزاً لحدوده"، وذلك القرار استغلته قيادات الجيش فيما كانت تردده بعد ثورة يناير، بما في ذلك المشير طنطاوي نفسه واللواء حسن الرويني[3]، أن الثورة تهدف إلى هدم وتفكيك الجيش. وبعد ذلك القرار كانت الندوات التثقيفية داخل الجيش الخاصة بالضباط تؤكد أن الرئيس مرسي وجماعة الإخوان يهدفون إلى السيطرة على الجيش أو هدمه، وأن هذه القرارات جاءت من أجل تحقيق أهدافهم تلك وأن قادة الجيش لن تسمح بذلك المخطط. إذن فمعظم قيادات الجيش كانت مع قرار إنهاء حكم الرئيس محمد مرسي، إلا أن قرار الرئيس مرسي "غير المدروس" بتعيين مدير المخابرات الحربية "عبدالفتاح السيسي" وزيراً للدفاع في أغسطس 2012م، ساعد وأسهم كثيراً في تضييق الخناق عليه بشكل أكبر. الغريب في تلك الواقعة كما يصفها العسكريون، أنها كانت سابقة في التاريخ المصري الحديث أن يصبح مدير مخابرات حربية وزيراً للدفاع، بل عادة ما ينصح الأمنيون والعسكريون أن مديري المخابرات لا يجب أن يتولوا بعد خروجهم من مناصبهم مهاماً كمهام وزير الدفاع أو رئيس أركان، لأن مديري المخابرات تكون لديهم معلومات هامة ومفصلية عن الدولة، وإذا عينوا بعد خروجهم من مناصبهم في مناصب أعلى كوزراء دفاع أو رؤساء أركان وأصبح لهم صلاحيات بتحريك قوات فهذا خطأ استراتيجي كبير لأنهم سيصبحون ذوي قدرات وإمكانيات تؤهلهم للقيام بأي عمل ضد رأس السلطة في أوقات الاختلاف، وهذا ما فعله السيسي، ولكن مع غياب المعلومة يصبح كل شيء محتملاً، ويبدو أن الرئيس محمد مرسي ومساعديه لم يكن لديهم هذا الإدراك، و لا زالت حيثيات اختيار السيسي تحديدا لهذا المنصب من الأمور التي لم يكشف عنها النقاب حتى الان. تشير الدلائل والمعلومات المتوافرة من مصادرنا المختلفة أن الجيش قد حسم القرار بشكل نهائي ووضع الجدول الزمني لرحيل نظام الرئيس مرسي في أوائل يونيو 2013م، ولكن ما قيل لي في أحد المقابلات، أن المجلس العسكري المكون من 24 عضو في يونيو 2013م، كانت خطته بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي أن يكون البديل رجلا عسكريا أخر، ولم يطرح اسم السيسي بأي شكل من الأشكال أنه سيكون هو ذلك الرجل العسكري الذي سيتولى الحكم بعد الانقلاب. رابعاً: ما بعد 03 يوليو 2013م: بعد تحقيق الهدف الأساس في 03 يوليو 2013م، بزغت بذور الخلافات بين قيادات الجيش المصري، وظهر لبعض قيادات المجلس العسكري أن خطة يوليو 2013م، تلك الخطة الحقيقية، كان يعلمها السيسي وطنطاوي بالأساس ومعهم عدد قليل من قيادات المجلس العسكري، وتلك الخطة كانت تهدف لتصعيد السيسي وليس غيره رئيساً للجمهورية، وهو ما لم يرحب به لاحقا بعض قيادات المجلس العسكري "حالية كانت أو مستدعاة" لأنها كانت ترى بأحقية وصولها إلى هذا المنصب، أو بأن السيسي لا يتميز عليهم بشيء يبرر تفضيله. وكانت وجهة النظر السائدة أن يبقى السيسي في منصبه ويحصن، ولذلك مُرر قانون تحصين وزير الدفاع في ذلك التوقيت، ولكن السيسي واصل الاستمرار في خطته حتى يصل في نهاية الأمر لتحقيق مبتغاه وحلمه الذي تحدث عنه مع الصحفي ياسر رزق في ذلك التوقيت وسُرب: “حلمت إني كنت مع السادات بكلمه وقالي أنا كنت عارف إني هبقى رئيس الجمهورية، وقلت له: وأنا كمان عارف إني هبقى رئيس جمهورية”، و يرى البعض أن لقاء السيسي مع الصحفي ياسر رزق في ذلك التوقيت كان تمهيداً من السيسي للشعب بأنه سيكون الرئيس القادم، وذلك بعد نفيه أكثر من مرة أنه لا يطمع في الحكم.[4] الخلاف بين قيادات المجلس العسكري في ذلك التوقيت، لم يكن حول سيطرة الحكم العسكري، فمعظمهم كانوا يرون وجوب عودة السيطرة العسكرية سواء بشكل مباشر أو من وراء ستار، ولكن الاختلاف كان حول من هو الحاكم الذي سيتولى الحكم. ويري البعض أن المواجهة بين الطرفين، الطرف غير المرحب بالسيسي وطرف السيسي ومن معه ويتفقون معه في خطته بدأت مباشرة بعد فترة قليلة من أحداث 03 يوليو 201م، وما صرح به اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني "الأسبق" مع عمرو أديب بعد 03 يوليو 2013م: "لو السيسي أخذ رتبة زيادة أو اترشح للرئاسة قولوا انقلاب عسكري". كانوا يرون أنها رسالة للسيسي بأنهم مصرون على تنفيذ الاتفاق بأنه لن يكون البديل[5]، وحرصوا أنها تكون رسالة عن طريق الإعلام حتى يسببوا له إحراجاً أمام الشعب لو استمر في مخططه ورشح نفسه، وكان عنان من الأسماء المطروحة لتولي زمام الأمور في 2014م، لذلك رشح عنان نفسه في انتخابات 2014م، ولكنه تراجع بسبب الضغط الذي مورس عليه. إلا أن المجلس العسكري في 2014م، صوت لصالح السيسي وليس لعنان للترشح لانتخابات الرئاسة في 2014م، بناء على دور كبير لعبه المشير حسين طنطاوي وما لديه من رصيد عند كلا الطرفين، وهو من أقنع معظم أعضاء المجلس العسكري والمستدعين في حينه بالتصويت للسيسي كي يكون هو مرشح المؤسسة في 2014م. الجزء الثاني سيكون فى العدد القادم بإذن الله ________________________________________ [1] قراءة في كتاب العلاقات المدنية - العسكرية والتحول الديموقراطي في مصر بعد ثورة 25 يناير، نون بوست، تاريخ النشر 03 يوليو 2016م،تاريخ الدخول 10 سبتمبر 2018م [2] المرصد العسكري – 31 يناير 2020، محمود جمال، المرصد، الرابط [3] التسـريب الكامل لعضو المجلس العـسـكري اللواء حسن الرويني – (الرابط) [4] السيسي حلم بأنه الرئيس المقبل [5] اللواء أحمد وصفي في لقاء سابق: لو السيسي أخذ رتبة زيادة أو اترشح للرئاسة قولوا انقلاب عسكري
عسكر مصر والثورة.. للقصة بقية
(الجزء الأول)

حمّل العدد 34 t.me/klmtuhaq/507

هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511

الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtuhaq/480

محمود جمال

مقدمة:

تعاملت المؤسسة العسكرية منذ أول لحظة من اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير 2011م، بخطة محكمة مدروسة حتى تصل في نهاية الأمر إلى إعادة تموضعها مرة أخرى والسيطرة على زمام الأمور من جديد.

حتى وإن تعاملت المؤسسة العسكرية بشكل إيجابي مع الثوار في بداية الثورة وكانت عامل ضغط على الرئيس الأسبق حسني مبارك للتخلي عن الحكم لوجود مصالح كانت تبحث عنها المؤسسة العسكرية في أواخر مدة حكمه، من العمل على "عدم المضي قدماً في مشروع التوريث".

إلا أن تلك الخطوات كانت محسوبة بدقة واتضح هذا جلياً في تفتيت القوى الثورية من خلال "صناعة الفرقة" التي عملت عليها المؤسسة العسكرية منذ تولي المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي إدارة البلاد في 11 فبراير 2011م، بما في ذلك ما حدث في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس 2011م، والانتخابات البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري نهاية عام 2011م ثم الانتخابات الرئاسية في جولتيها في مايو- يونيو 2012م.

واستمرت تلك الخطة في التعامل مع الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب حكم الدولة المصرية، منذ اللحظات الأولى من توليه الحكم في يونيو 2012م؛ فوضعوا أمامه العقبات، وصنعوا له الأزمات لخلق حالة من الضجر الشعبي عليه، حتى يصبح مطلب رحيل النظام مطلباً شعبياً يشكل غطاءً للمجلس العسكري لتدخل الجيش والانقضاض على الحكم من جديد بعد التخلص من أول تجربة ديمقراطية حقيقية شهدتها الدولة المصرية.
جدير بالذكر أنه عند قراءة الانقلابات العسكرية التي تمت في مصر وهي على الترتيب: انقلاب 1952م، ووقوف الجيش مع ثورة يناير للانقلاب على مبارك، ثم انقلاب 03 يوليو 2013م، نرى أن الجيش كان يأخذ حراك الشارع ستاراً من أجل التحرك وتحقيق أهدافه، ولكن الضجر الشعبي والحراك في الميادين كان حقيقياً عام 2011م، ولكن في انقلاب 2013م، صنع الجيش ظهيراً شعبياً حتى يكون مبرراً لحراكه، ومن أجل هذا أنشأت المخابرات الحربية حركة تمرد ومولتها دولة الإمارات لتصبح هي الغلاف كحركة شبابية تقود الحراك.

قبل البدء في الكتابة حول ذلك الموضوع، الذي أحاول من خلاله أن أقدم تفسيراً لبعض أهم الأحداث في مرحلة هامة في تاريخ الدولة المصرية، وتحديداً فترة ما قبل يوليو 2013م، ومحاولة الكشف عن المسارات التي وضعتها قيادات المؤسسة العسكرية، لتصل في نهاية المطاف للقضاء على أول تجربة ديمقراطية شهدتها الدولة المصرية، وصولاً إلى مايو 2014م، بتنصيب عبدالفتاح السيسي على رأس الدولة، وما نتج عن هذا التنصيب وما أحدثه من تافقات وخلافات داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة السيادية، أود أن أشير إلى أن بعض المعلومات التي ستذكر في هذه السطور ، هي نتاج لمقابلات مع بعض المطلعين على تلك المرحلة من العسكريين السابقين، بطرق مباشرة، وغير مباشرة.

أولاً: أسباب وقوف الجيش مع ثورة يناير:

قبل الدخول في مرحلة فترة حكم الرئيس محمد مرسي، يجب الوقوف على أسباب وقوف الجيش مع ثورة يناير، ومن وجهة نظر الباحث، أنه لولا وقوف الجيش المصري الإيجابي مع ثورة يناير ما كان لحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك أن ينتهي.

ويرى الباحث أن هناك عدة نقاط هامة كانت ضمن أسباب وقوف الجيش المصري مع ثورة يناير وإجبار مبارك على التخلي عن الحكم، هي:

1- عدم شعور الجيش بتوجه الاحتجاجات نحوه بشكل مباشر، وهذا بسبب أن الجيش المصري لم يكن أداة من أدوات النظام لقمع الشعب أو المعارضة أيام مبارك، على الرغم من كونه حامياً للنظام.

2- عدم تأييد الجيش للتوريث لأن في ذلك خروجاً على مبدأ "الحاكم ذي الخلفية العسكرية"، بالإضافة إلى أن التوريث يهدد امتيازات الجيش، وتقديره أن الاحتجاجات ستوقف التوريث فقط، وأنه قادر على استعادة زمام الأمور مرة أخرى.

3-اتصاف الثورة بالشعبية منذ جمعة الغضب 28 يناير 2011م، وسلميتها.[1]
تلك الأسباب من وجهة نظري، فضلاً عن وجود إشارات واضحة من الولايات المتحدة الأمريكية تفيد بعدم الوقوف أمام التغيير، كانت الدافع الأساس لوقوف الجيش مع ثورة يناير، ولا أرى أن الجيش وقف مع ثورة يناير 2011م من أجل تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، أو ليصبح الحكم حكماً مدنياً متعاقباً، ويعود الجيش إلى مهامه المنوط بها في حماية البلاد من المخاطر والتهديدات؛ وربما هذا ما يفسر أسباب وقوف الجيش ضد الرئيس محمد مرسي من أول لحظات حكمه، إذ يرى العسكريون ممن أُجريت المقابلات معهم، أنه لو فاز أحمد شفيق على الرئيس الأسبق مرسي في جولة الإعادة يونيو 2012م، لكان تعامل الجيش معه مختلفاً تماماً، إذ قال أحد العسكريين "هؤلاء لم ولن يسمحوا أبدأ أن يحكم مصر رئيس مدني، ولن يعطوا التحية العسكرية أبداً لشخص ذي قميص وبنطال".

أود أن أشير هنا إلى نقطة هامة، لم يتطرق لها الكثيرون، فالمجلس العسكري الذي كان يتكون من 24 عضواً أثناء ثورة يناير 2011م، كانوا جميعاً بلا استثناء، نظرياً وبدون أي خلاف حول هذا الأمر، مع رحيل مبارك من أجل التخلص من قصة التوريث التي كان مبارك يجهز لها حتى يصبح جمال مبارك رئيساً لمصر؛ ولكن كانت هناك وجهتا نظر داخل المجلس:

وجهة النظر الأولى: كانت ترى استغلال الحراك للتخلص من مبارك، وملف التوريث.

وجهة النظر الثانية: كانت ترى أن خروج مبارك في توقيت ثورة يناير 2011م سيدفع الناس للتجرؤ على منظومة الحكم العسكري ويصبح الحراك عادة يقوم بها الشعب في الفترات المقبلة، وهذا سيكون تهديداً حقيقياً للحكم العسكري على المدى القريب والبعيد، وكانوا يرون مواجهة الحراك بالقوة وكان اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية وقت ثورة يناير 2011م، يتبنى وجهة النظر تلك.[2]

جدير بالذكر أن مبارك كان يسير على نفس المنهاج الذي أسسه عبدالناصر منذ عام 1954م، وسار عليه أنور السادات الذي خلفه في الحكم عام 1970م، فكانت المؤسسة العسكرية مستقلة عن مؤسسة الرئاسة، وكانت الدولة المصرية تُدار عن طريق مؤسستين هما مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، ولكن القائد الأعلى لتلك المؤسستين هو رئيس الدولة والذي كان يعطي لكل مؤسسة أدوار اً معينة، لذلك كانت المؤسسة العسكرية بشكل فعلي شريكة في الحكم ولها صلاحيات وأدوار في مختلف الملفات، ولم تكن لها الكلمة العليا في إدارة شئون البلاد.

ثانياً: المؤسسة العسكرية بعد ثورة يناير "فترة المجلس العسكري":
تنحى حسني مبارك، وفوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة شئون البلاد، في 11 فبراير 2011م، ومنذ تلك اللحظة الفارقة مضت قيادات المجلس العسكري قدماً في تنفيذ مخططها المدروس لكي تمسك بزمام الأمور مرة أخرى.

المخطط بالأساس كان يسعى لتحقيق عدة أهداف بشكل متوازٍ، للتحكم في السلطة عن طريق "انقلاب ناعم" على ثورة يناير، كان من أبرز خطوات ذلك المخطط:

1-تنفيذ استراتيجية "صناعة الفرقة" بين رفقاء الميدان من الإسلاميين والليبراليين وكافة القوى المدنية الأخرى، فالمجلس العسكري عمل على تفتيت تلك القوى إعمالاً لمبدأ "فرق تسد". تلك الاستراتيجية كانت تعتمد بالأساس على التقارب في بداية الأمر مع القوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين كما حدث في استفتاء مارس 2011م، فالمؤسسة العسكرية صورت الأمر على أن تفاهمات وتوافقات جرت بين الجيش والإسلاميين، بشكل عام في الموافقة على التعديلات الدستورية التي كانت ترفضها أغلبية القوى المدنية والثورية، حتى يحدث ذلك شرخاً بين القوى الإسلامية والقوى المدنية والعلمانية والثورية (من خلال الحديث عن التقارب بين القوى الإسلامية والمؤسسة العسكرية) وتقف تلك القوى في صف المعارضة للقوى الإسلامية وتصطف لمواجهتها.


وبعد إحداث ذلك الشرخ تتباعد المؤسسة العسكرية شيئاً فشيئاً من القوى الإسلامية حتى تكون أقرب للقوى المدنية والقوى الأخرى لكي يقفوا أمام القوى الإسلامية التي أصبحت تقف وحيدة. فكانت خطة المؤسسة العسكرية المدروسة في التعامل مع الملف السياسي تهدف أولاً إلى القضاء على أكبر فصيل سياسي شارك في الثورة، وبعد ذلك تتخلص من القوى الأخرى شيئاً فشيئاً من حيث الأهمية، وهذا ما حدث بالفعل.

2- فرض إعلانات ووثائق فوق دستورية تعطي المؤسسة العسكرية، صلاحيات وامتيازات، تمكنها من إدارة المرحلة بشكل منفرد، لذلك أصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري المكمل في يونيو 2012 الذي كان بمثابة انقلاب على الثورة، بعد وثيقة السلمي التي صدرت في النصف الثاني من عام 2011، والتي صيغت "بالتنسيق مع الجيش" وكانت تهدف إلى "دسترة" السيطرة العسكرية على الأمور في البلاد.

3- إفشال وتعطيل المؤسسات المنتخبة التي ستأتي بها الثورة، ولذلك عمل المجلس العسكري على حل مجلس الشعب الذي انتُخب بعد ثورة يناير، لضمان استمرارية المؤسسة العسكرية في سيطرتها على الأوضاع بالسيطرة على السلطة التشريعية، ومحاولة إطالة المرحلة الانتقالية، ولكي تظل السلطة التنفيذية والتشريعية في يد المؤسسة العسكرية.

4- حسم الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح تدعمه المؤسسة العسكرية، على أن يكون رجلاً ذا خلفية عسكرية، وأكد البعض في تلك الجلسات، أن المؤسسة العسكرية قدمت كل أنواع الدعم للفريق أحمد شفيق حتى يكون هو الفائز في الانتخابات الرئاسية في مايو 2012م، ولكن بسبب ارتباط أحمد شفيق بمنظومة حسني مبارك التي قامت الثورة للقضاء على رموزها، فضلاً عن شعبية جماعة الإخوان داخل الشارع المصري في ذلك الوقت، كانت النتيجة لصالح الرئيس محمد مرسي.

ويرى البعض أن المؤسسة العسكرية رأت في ذلك التوقيت، ربما بضغوط خارجية، أن تزوير الانتخابات سيكون خطئاً استراتيجياً، وسيُدخل الدولة في حالة فوضى، وسيكون الضرر على المؤسسة العسكرية أكثر من نفعه، وكانت تري أن المنطقة ما زالت تمر بحالة ثورية، وبالتالي رأت تأجيل المواجهة لوقت آخر، مع إيمانها بقدرتها على إنهاء حكم الإخوان في أسرع وقت.

ثالثاً: المؤسسة العسكرية وحكم الرئيس مرسي:

المؤسسة العسكرية منذ اللحظة الأولى لحكم الرئيس محمد مرسي، لم تتقبل ذلك الأمر، وكانت تخطط للوصول إلى اللحظة الحاسمة التي تنهي فيها تلك التجربة، وتعطي درساً لمن يحاول أن يسير على نفس المنوال مرة أخرى.

قال لي أحد العسكريين إنن أغسطس 2012م كان تاريخاً هاماً داخل المؤسسة العسكرية، وصراعهم مع التجربة الديمقراطية، وتحديداً عند إقالة المشير محمد حسين طنطاوي من منصبه كوزير للدفاع، والفريق سامي عنان من منصبة كرئيس للأركان، وكذلك قادة الأفرع الرئيسية بالجيش المصري، أسباب تلك الإقالات وتحديداً إقالة كل من المشير طنطاوي والفريق عنان يتحدث عنها الكثيرون، ولكن من وجهة نظري الرواية الصحيحة التي دفعت الرئيس مرسي للإطاحة بالمشير طنطاوي لم تُروَ إلى الآن.

وبناء على ما ذكره بعض العسكريين السابقين، فإن قرار إقالة المشير طنطاوي، سبّب ضجراً كبيراً داخل الجيش المصري، في مختلف المستويات "قيادات، ضباط" وهذا بسبب أن طنطاوي بالأساس له رصيد وشعبية داخل المؤسسة العسكرية فهو صاحب أكبر فترة يقضيها وزير دفاع داخل الجيش المصري "1991-2012”، فضلاً عما عدوه من الرئيس مرسي "تجاوزاً لحدوده"، وذلك القرار استغلته قيادات الجيش فيما كانت تردده بعد ثورة يناير، بما في ذلك المشير طنطاوي نفسه واللواء حسن الرويني[3]، أن الثورة تهدف إلى هدم وتفكيك الجيش. وبعد ذلك القرار كانت الندوات التثقيفية داخل الجيش الخاصة بالضباط تؤكد أن الرئيس مرسي وجماعة الإخوان يهدفون إلى السيطرة على الجيش أو هدمه، وأن هذه القرارات جاءت من أجل تحقيق أهدافهم تلك وأن قادة الجيش لن تسمح بذلك المخطط.

إذن فمعظم قيادات الجيش كانت مع قرار إنهاء حكم الرئيس محمد مرسي، إلا أن قرار الرئيس مرسي "غير المدروس" بتعيين مدير المخابرات الحربية "عبدالفتاح السيسي" وزيراً للدفاع في أغسطس 2012م، ساعد وأسهم كثيراً في تضييق الخناق عليه بشكل أكبر.

الغريب في تلك الواقعة كما يصفها العسكريون، أنها كانت سابقة في التاريخ المصري الحديث أن يصبح مدير مخابرات حربية وزيراً للدفاع، بل عادة ما ينصح الأمنيون والعسكريون أن مديري المخابرات لا يجب أن يتولوا بعد خروجهم من مناصبهم مهاماً كمهام وزير الدفاع أو رئيس أركان، لأن مديري المخابرات تكون لديهم معلومات هامة ومفصلية عن الدولة، وإذا عينوا بعد خروجهم من مناصبهم في مناصب أعلى كوزراء دفاع أو رؤساء أركان وأصبح لهم صلاحيات بتحريك قوات فهذا خطأ استراتيجي كبير لأنهم سيصبحون ذوي قدرات وإمكانيات تؤهلهم للقيام بأي عمل ضد رأس السلطة في أوقات الاختلاف، وهذا ما فعله السيسي، ولكن مع غياب المعلومة يصبح كل شيء محتملاً، ويبدو أن الرئيس محمد مرسي ومساعديه لم يكن لديهم هذا الإدراك، و لا زالت حيثيات اختيار السيسي تحديدا لهذا المنصب من الأمور التي لم يكشف عنها النقاب حتى الان.

تشير الدلائل والمعلومات المتوافرة من مصادرنا المختلفة أن الجيش قد حسم القرار بشكل نهائي ووضع الجدول الزمني لرحيل نظام الرئيس مرسي في أوائل يونيو 2013م، ولكن ما قيل لي في أحد المقابلات، أن المجلس العسكري المكون من 24 عضو في يونيو 2013م، كانت خطته بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي أن يكون البديل رجلا عسكريا أخر، ولم يطرح اسم السيسي بأي شكل من الأشكال أنه سيكون هو ذلك الرجل العسكري الذي سيتولى الحكم بعد الانقلاب.

رابعاً: ما بعد 03 يوليو 2013م:

بعد تحقيق الهدف الأساس في 03 يوليو 2013م، بزغت بذور الخلافات بين قيادات الجيش المصري، وظهر لبعض قيادات المجلس العسكري أن خطة يوليو 2013م، تلك الخطة الحقيقية، كان يعلمها السيسي وطنطاوي بالأساس ومعهم عدد قليل من قيادات المجلس العسكري، وتلك الخطة كانت تهدف لتصعيد السيسي وليس غيره رئيساً للجمهورية، وهو ما لم يرحب به لاحقا بعض قيادات المجلس العسكري "حالية كانت أو مستدعاة" لأنها كانت ترى بأحقية وصولها إلى هذا المنصب، أو بأن السيسي لا يتميز عليهم بشيء يبرر تفضيله.

وكانت وجهة النظر السائدة أن يبقى السيسي في منصبه ويحصن، ولذلك مُرر قانون تحصين وزير الدفاع في ذلك التوقيت، ولكن السيسي واصل الاستمرار في خطته حتى يصل في نهاية الأمر لتحقيق مبتغاه وحلمه الذي تحدث عنه مع الصحفي ياسر رزق في ذلك التوقيت وسُرب: “حلمت إني كنت مع السادات بكلمه وقالي أنا كنت عارف إني هبقى رئيس الجمهورية، وقلت له: وأنا كمان عارف إني هبقى رئيس جمهورية”، و يرى البعض أن لقاء السيسي مع الصحفي ياسر رزق في ذلك التوقيت كان تمهيداً من السيسي للشعب بأنه سيكون الرئيس القادم، وذلك بعد نفيه أكثر من مرة أنه لا يطمع في الحكم.[4]

الخلاف بين قيادات المجلس العسكري في ذلك التوقيت، لم يكن حول سيطرة الحكم العسكري، فمعظمهم كانوا يرون وجوب عودة السيطرة العسكرية سواء بشكل مباشر أو من وراء ستار، ولكن الاختلاف كان حول من هو الحاكم الذي سيتولى الحكم. ويري البعض أن المواجهة بين الطرفين، الطرف غير المرحب بالسيسي وطرف السيسي ومن معه ويتفقون معه في خطته بدأت مباشرة بعد فترة قليلة من أحداث 03 يوليو 201م، وما صرح به اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني "الأسبق" مع عمرو أديب بعد 03 يوليو 2013م: "لو السيسي أخذ رتبة زيادة أو اترشح للرئاسة قولوا انقلاب عسكري".

كانوا يرون أنها رسالة للسيسي بأنهم مصرون على تنفيذ الاتفاق بأنه لن يكون البديل[5]، وحرصوا أنها تكون رسالة عن طريق الإعلام حتى يسببوا له إحراجاً أمام الشعب لو استمر في مخططه ورشح نفسه، وكان عنان من الأسماء المطروحة لتولي زمام الأمور في 2014م، لذلك رشح عنان نفسه في انتخابات 2014م، ولكنه تراجع بسبب الضغط الذي مورس عليه. إلا أن المجلس العسكري في 2014م، صوت لصالح السيسي وليس لعنان للترشح لانتخابات الرئاسة في 2014م، بناء على دور كبير لعبه المشير حسين طنطاوي وما لديه من رصيد عند كلا الطرفين، وهو من أقنع معظم أعضاء المجلس العسكري والمستدعين في حينه بالتصويت للسيسي كي يكون هو مرشح المؤسسة في 2014م.

الجزء الثاني سيكون فى العدد القادم بإذن الله

________________________________________
[1] قراءة في كتاب العلاقات المدنية - العسكرية والتحول الديموقراطي في مصر بعد ثورة 25 يناير، نون بوست، تاريخ النشر 03 يوليو 2016م،تاريخ الدخول 10 سبتمبر 2018م
[2] المرصد العسكري – 31 يناير 2020، محمود جمال، المرصد، الرابط
[3] التسـريب الكامل لعضو المجلس العـسـكري اللواء حسن الرويني – (الرابط)
[4] السيسي حلم بأنه الرئيس المقبل
[5] اللواء أحمد وصفي في لقاء سابق: لو السيسي أخذ رتبة زيادة أو اترشح للرئاسة قولوا انقلاب عسكري
‏٢١‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ٧:٤٧ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
بل الميتة الجاهلية في بيعة هؤلاء (1/2)
عبد الله الصعيدي

يتعلق علماء السلطة وعملاء الشرطة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن ماتَ وليس في عُنُقِه بيعةٌ، ماتَ مِيتَةً جاهليةً"([1]). وفَهِمَ الظاهريةُ الجُدُد من الحديث أنَّ تاركَ البَيْعَة وتاركَ الإسلام سواءً بسواء! فَنَفَروا خِفافاً وثِقالاً إلى بَيْعة وُكَلاء الغرب، وحَرَّضوا على مُخالِفيهم واسْتَعْدَوا عليهم الأُمراءَ والرؤساءَ!

والحديث ليس على ظاهِره، ولا يُرادُ بالْمِيتة الجاهلية الْمَوتُ على غير الإسلام، وإنما قُصِد بالنَّصِّ إرساءُ مبدئيَّة الطاعة والانقياد إلى تعاليم السلطة النائبة عن مقام النبوة في إقامة الفرض وعِمارة الأرض، ولا ريبَ أنَّ هذا لازمٌ من لوازِمِ بِناءِ الدولة وترسيخِ هَيْبَتِها، وقد كان أهلُ الجاهلية يَأنَفُون من أصلِ الانقياد لأيِّ جِهة. قال القاضي عياض: "ماتَ مِيتةً جاهلية"، أي: على هيئة ما ماتَ عليه أهل الجاهلية، مِن كونهم فوضى لا يَدِينون لإمام"([2]).

وهذا الحديثُ الشريفُ وما جرى مجراه من الأخبار المنْصُوصَة والآثار المنْصُوبَة؛ التي تَنْطِقُ بفريضة الطاعة وتَفيضُ بها دواوين الإسلام؛ دالٌّ على مركزية الرعيَّة في نَحْتِ معالِم الإمامة، وأنها أثْقَلُ طَرَفَيْ العَقْدِ، لأنَّ الرعيةَ عاقِدٌ، والراعي معقودٌ له، وأَثَرُ العاقِد في الإبرام والنَّقْضِ آكَدُ مِن أثَر المعقود له، قال ابن هانئ: "سَأَلتُ أَبا عبد اللَّه عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» ما معناه؟ قال أبو عبد الله: تَدْري ما الإمام؟ الإمام الذي يُجْمِع المسلمون عليه، كُلُّهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه"([3]).

قال الإمام الغزالي في انعِقادِ الخلافة البَكْرِية: "وَلَو لم يُبايِعْه غيرُ عُمَر، وبقيَ كَافَّةُ الخَلْق مخالفين أو انقَسَموا انقساماً متكافئا؛ لَا يتَمَيَّز فِيهِ غَالبٌ عَن مغلوب، لما انْعَقَدَت الإمامةُ، فإنَّ شَرط ابْتِدَاء الِانْعِقَاد قيامُ الشَّوْكَة وانصرافُ الْقُلُوب إلى المشايعة، ومُطابقَةُ البواطن والظواهر على الْمُبَايعَة"([4]).

وقال شيخ الإسلام: "إنما صار- عُمَرُ- إماماً لماَّ بايَعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم يُنفِّذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يَصِرْ إماماً... وإنما صارَ إماماً بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القُدْرة والشوكة"([5]).

وفي الحديث: "يَدُ الله على الجماعة، فعليكم بالسواد الأعظم، فإنه من شذَّ شَذَّ في النار"([6]). قال المناوي: "أيْ: الزَمُوا متابعةَ جماهير المسلمين، فهو الحق الواجب والفرض الثابت الذي لا يجوز خلافُهُ، فمَنْ خالَفَ ماتَ مِيتةً جاهلية"([7]).

وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لحذيفة بن اليمان: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"([8]). ومما فُسِّرت به الجماعةُ السوادُ الأعظمُ من أهل الإسلام، قال العلامة المحقِّق محمد أنور شاه الكشميري: "اعلم أن الحديثَ يَدُلُّ على أن العِبْرَةَ بمعظم جماعة المسلمين، فلو بايَعَه رجلٌ واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثةٌ، فإنه لا يكون إمامًا ما لم يُبَايِعْهُ مُعظمُهُمْ، أو أهلُ الحَلِّ والعقدِ"([9]).

وقال الإمام الشوكاني: "مَن لم يُبايِعْه المسلمون فلا ولاية له، ولا يَستحقُّ أن يُباشر ما يُباشرُه الإمامُ كُلاًّ ولا جُزءً، لأنَّ الولاية سَبَبُها البيعةُ وإلزامُ المسلمين أنفُسَهُم بها بما يَجِبُ من الطاعة"([10]).

وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "وَالْقُرْآنُ يُخَاطِب جمَاعَةَ الْمُؤمنِينَ بِالْأَحْكَامِ التِي يشرعها؛ حَتَّى أَحْكَام الْقِتَال وَنَحْوهَا من الْأُمُور الْعَامَّة التِي لَا تتعلَّق بالأفراد، وَقد أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر - وهُمُ الْجَمَاعَة- لَا وليَّ الْأَمر، وَذَلِكَ أَن وليَّ الْأَمر وَاحِدٌ مِنْهُم، وإنما يُطاع بتأييد جمَاعَةِ الْمسلمين الَّذين بَايعُوهُ"([11]).

وتَعْتَضِدُ هذه النُّقُول بِفِعْلِ راوي الحديث نفسِهِ؛ عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما؛ لأنه عَلَّقَ البيعَةَ أيامَ علِيٍّ وأيامَ معاوية، وأيامَ ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، حتى اتفقَ الأمر لعليٍّ، وحتى اصطَلَحَ معاويةُ مع الحَسَنِ عامَ الجماعة، وحتى قُتِلَ ابن الزبير واسْتَتَبَّ الأمرُ لعبد الملك، قال الحافظ العسقلاني: "وكان عبدُ الله بن عُمر في تلك المدَّة امتَنَع أن يُبَايِع لابن الزبير أو لعبد الملك، كما كان امتَنَع أن يُبايِع لِعَليٍّ أو معاويةَ؛ ثم بايَعَ لمعاويةَ لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس؛ وبايَعَ لابنه يزيد بعد موت معاويةَ لاجتماع الناس عليه، ثم امتَنَعَ من المبايعة لأحدٍ حال الاختلاف إلى أن قُتِل بن الزبير وانتَظَم الْمُلك كُلُّه لعبد الملك، فبايَعَ له حينئذ"([12]).

فَقد كانت الرعِيَّةُ مَركَزَ الثِّقل وعَمودَ السارية في صياغةِ رأسِ الهَرَم وإفرازِ قِمَّتِه، لأنها الحقلُ الذي تُسْتَنْبَتُ فيه القيادة العلمية والعسكرية والسياسية، بخلاف ما نحن عليه اليوم؛ فإنَّ النظامَ العربيَّ المعاصرَ يُسْتَولَدُ في محاضِن التمثيل السياسي التي تُسَمَّى مجازاً بـ "السَّفَارات"، وهي في الحقيقة "غُرَفُ عمليات" تُرَكَّبُ فيها "القراراتُ الوطنيةُ" مِنْ قِطَع غيارٍ مُستَوْرَدَة!

لذلك يلزمُ تحريرُ مفهوم الجماعة في منظور الشريعة، هل هي جماعةٌ مُطلَقَةٌ؟ أمْ تُشتَرط لها شروطٌ في الاعتداد والاعتبار؟ لا رَيْبَ أنها جماعةٌ مَوْصُوفةٌ بأوصاف تُقَيِّدُ إطلاقها، واستجلاءُ تلك النُّعُوت إنما يكون بتقرير معنى الجماعة في أيام التنزيل، والجماعةُ يومئذٍ جماعةٌ ناهِضَةٌ بالحق، أمَّارةٌ بالقِسْط، مُؤَثِّرَةٌ في نَصْبِ الأئمَّة وتعيين الحُكَّامِ، فهل يَجْري هذا المفهوم على واقعنا المعاصر؟ لاسيما إذا تقرَّر أن مفهوم البيعة مفهومٌ عمليٌّ لا عَقَديٌّ، وليس من لوازمه اعتقادُ إمامة فلان أو علان، بل الواجب السعيُ في نصبِ الحاكم الشرعي، إلا ما كان مِن شأنِ الخلفاء الراشدين، فأَمرُهُم على التعيين لما تعلَّق بذواتهم من خصوصية الرشد والشهادة لأعيانهم بالجنان، والتوصية النبوية بالاستمساك بمسالكهم المهدية. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "لفظ الجماعة إنما كان يُراد به جماعةُ المسلمين؛ التي تُقِيم أمرَ الإسلام بإقامة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكنْ صارت كلُّ دولةٍ أو إمارةٍ مِن دُوَل المسلمين تحمل كلمةَ الجماعة على نفسها، وإن هَدَمَت السُّنَّةَ وأقامت البدعةَ وعَطَّلَت الحدودَ وأَبَاحَت الفجور"([13])!

ويشهد لهذا التحرير قوله صلى الله عليه وسلم في توصيف الْمُرتَدّ: "التاركُ لدينه المفارقُ للجماعة"([14]). فالمقصودُ بمفارقة الجماعة هنا الارتدادُ عن الدين والمروقُ مِن الإسلام المعَبَّرِ عنه بالجماعة، ومعلومٌ أنَّ الإسلامَ حَقٌّ مطلقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفِهِ. لذلك ينبغي تخريجُ كافَّة معاني الجماعة الواردة في النصوص على هذا المعنى الكُلِّي، ورَدِّ المعاني الفرعية إلى هذا الأصل الجامع في تحرير مفهوم الجماعة. وما وَقَع في تفاسير أهل العلم لـ: "الجماعة" بأنهم أصحاب رسول الله، أو فقهاء الْمِلَّة، أو الأئمة والخلفاء، أو السواد الأعظم من أهل الإسلام ([15])، فَمَوْئِلُ ذلك كُلِّه إلى اتِّباع الخطاب الشرعي تَلَقِّياً واستدلالاً، إذْ هو المعنى الناظِم لكافَّة الأقاويل المذكورة في تعيين معنى الجماعة. وفي الحديث: «إنَّ أمتي سَتَفْتَرق على اثنتين وسبعين فِرقةً، كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة([16])» وفي لفظٍ: فقيل له: ما الواحدة؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي([17])».

قال ابنُ مسعود: «الجماعةُ الكتابُ والسنةُ وإنْ كنتَ وحدَكَ([18])».

وقال رضي الله عنه: "الجماعةُ ما وافَقَ الحقَّ وإن كنتَ وحدك"([19]). قال نعيم بن حماد مُعلِّقاً: "إذا فَسَدَت الجماعةُ فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يَفْسُدوا، وإن كنتَ وحْدَك، فإنك أنت الجماعةُ حينئذٍ"([20]).

وقال أبو شامة المقدسي: "وحيث جاء الأمرُ بلزوم الجماعة، فالمرادُ لُزُوم الحق واتِّباعُه، وإن كان المتمسِّكُ به قليلاً والمخالفُ له كثيراً؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، ولا نَظَرَ إلى كثرة أهل الباطل"([21]). فالجماعة في ميزان الوحي جماعةُ أفهامٍ لا جماعة أجسام، وإنما الجُسُوم تَبَعٌ للفُهُوم، ولا يَحِلُّ أن تَنعَقِدَ القلوبُ على غير مضمون الرسالة. ومما حَبَّره الإمام الشافعي في شرحه لحديث: "من أراد منكم بَحْبَحَةَ([22]) الجنةَ فليلزم الجماعةَ"([23]). قوله: "إذا كانت جماعَتُهُم متفرقةً في البلدان، فلا يَقْدِر أحدٌ أن يَلزَم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وإِنْ وُجِدَت الأبدانُ تكون مجتمعةً من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يُمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً فلم يكن لِلُزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعَتُهُم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ومَن قال بما تَقُول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعَتَهم، ومن خالَفَ ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعَتَهم التي أُمِرَ بلزومها"([24]).

ومن النماذج التطبيقية على اعتبار مفهوم الجماعة في ميزان الإسلام، والتقيُّد بطبيعة الجماعة الْمُفَوَّضة حَلاًّ وعقداً، نَكْثاً وفَتْلاً، إبطالُ بيعةِ أهل الشام للملك حسين، لأنهم كانوا تحت وطْأةِ الإنجليز، والملك حسين يومها موظَّف بريطاني برتبة ملِك! قال الشيخ محمد رشيد رضا: "أما مَن بايَعَه مِن أهل سورية وفلسطين والعراق، فَهُم تحت سيطرة دولتين أجنبيتين قويتين؛ لا يملكون من أمرهم طاعةَ حاكمٍ آخَر. وإنما المبايعة على السمع والطاعة في الجهاد وأموال الزكاة وإقامة الحدود وغير ذلك من الأحكام، فلا الملك حسين يستطيع أن يقيمَ شيئاً من هذه الأحكام في هذه البلاد، ولا أهلُهَا قادرون على إعطائه هذه الاستطاعة، ولا على طاعته إذا هو أمَرَ بشيءٍ منها"[25].

والحديثُ بعد التي واللُّتَياَّ ليس على ظاهره، لجريان لفظه في سياقات حديثِيَّةٍ متعدِّدةٍ؛ بعضُها مُجمَلٌ؛ وبعضها أقرب إلى التَّبيِين والتفصيل، اشتَمَلَت على الخروج بالسيف والارتداد عن الإسلام والانحياز إلى عُصَبٍ عُمِّيَةٍ... كقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن رأى مِن أميره شيئا يَكْرَهه فليصبر عليه، فإنه مَن فارق الجماعة شِبراً فمات، إلا مات مِيتةً جاهليةً"([26]).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن خَلَع يَداً مِن طاعة لَقِي الله يوم القيامة لا حُجَّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ، مات مِيتةً جاهلية"([27]).

وقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن خرج من الطاعة وفارَقَ الجماعةَ فمات، مات مِيتةً جاهلية، ومَن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ؛ يَغضَبُ لعصبةٍ؛ أو يدعو إلى عُصبةً؛ أو ينصر عُصبةً، فقُتِل، فَقِتْلَةٌ جاهلية، ومَن خرج على أمتي، يَضرِبُ بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"([28]). وهذا في الاحتراب على الدنيا والاقتتال على الْمُلك، قال أبو العباس القرطبي: "وقد أبعَدَ مَن قال إنهم الخوارج؛ فإنهم إنما حَمَلَهم على الخروج الغيرةُ للدِّين لا شيءٍ من العَصَبِية والملك، لكنهم أخطئُوا التأويلَ وحَرَّفوا التنزيل"([29]).

ونظير هذا ما ذَكَرَه الشوكاني في براءة ساحة الحسين رضي الله عنه من شُبهة الخروج، فقال: "لا ينبغي لمسلمٍ أن يَحُطَّ على مَن خَرَج من السلف الصالح؛ مِن العِترة وغيرهم؛ على أئمة الجَوْر، فإنهم فَعَلوا ذلك باجتهادٍ منهم، وهُم أتقى لله وأطوعُ لسنة رسول الله مِن جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم، ولقد أَفْرَط بعضُ أهل العلم كالكرامية ومَن وافَقَهُم في الجمود على أحاديث الباب، حتى حكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغٍ على الخِمِّير السِّكِّير الهاتِكِ لِحُرَم الشريعة المطهرة؛ يزيد بن معاوية لعنهم الله؛ فيا لله العَجَبُ من مقالاتٍ تقشعرُّ منها الجلود، ويتصدَّعُ من سماعها كل جُلْمُود"([30]).

قال الإمام النووي: "والتشديداتُ الواردةُ في الخروج عن طاعة الإمام وفي مخالفته؛ كحديث: «من حمل علينا السلاح فليس منا» وحديث: «من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» وحديث: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمِيتَتُه جاهلية» كلها محمولةٌ على مَن خرج عن الطاعة وخالَفَ الإمامَ بلا عُذرٍ ولا تأويل"([31]).

ثم ما مضمونُ البَيْعَة التي مَنْ ماتَ دُونَها كانت مِيتَتُهُ جاهليةً؟ أَهِي بَيْعةٌ على أصول الشريعة وصريحِ الوحي؟ أم بيعَةٌ على امتِدادِ النفوذ الغربيِّ وهَيْمَنةِ نُظُمِهِ الوضْعِيَّة على جُمهور أهلِ الإسلام؟

هذا ما نتابع الجواب عنه في المقال القادم إن شاء الله


ــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، (3/1478/ح1851).
([2]) إكمال المعلم، ط1 دار الوفاء، (6/258).
([3]) مسائل ابن هانئ، ط المكتب الإسلامي، (2/185)، وانظر: السنة للخلال، ط1 دار الراية، (1/80).
([4]) فضائح الباطنية، ط مؤسسة دار الكتب الثقافية، (ص177).
([5]) منهاج السنة، ط1 جامعة الإمام، (1/530).
([6]) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب: الفتن، باب: مَا جَاءَ فِي لُزُومِ الجَمَاعَةِ، (4/466/ح2167)، وحسَّنه الألباني بمجموع الطرق في الصحيحة (3/405/ح1331)، دون زيادة: "ومَن شذَّ شذَّ في النار".
([7]) فيض القدير، ط1 المكتبة التجارية الكبرى، (2/431).
([8]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، (4/199/ح3606)، ومسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، (3/1475/ح1847).
([9]) فيض الباري، ط1 دار الكتب العلمية، (4/455).
([10]) السيل الجرار، ط1 دار ابن حزم، (ص819).
([11]) الخلافة، ط الزهراء للإعلام العربي، (ص21).
([12]) فتح الباري، ط دار المعرفة، (13/195).
([13]) تفسير المنار، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، (6/303).
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين...} (9/5/ح6878)، ومسلم في صحيحه، كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم، (3/1302/ح1676) واللفظ له.
([15]) ممن عدَّد هذه الوجوه في شرح معنى الجماعة الإمامُ الطبري، واختارَ أنَّ لزوم الجماعة بلزوم إمام المسلمين والوفاء ببيعته، كما في شرح البخاري لابن بطال، ط2 مكتبة الرشد، (10/35-33). واختيارُهُ فَسَّرَهُ الإمامُ الشاطبيُّ وجَعَلَه آيِلاً إلى التزام الحق كما أسلَفنا تقريره، فقال: "وحاصله أن الجماعة راجعةٌ إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهِرٌ في أنَّ الاجتماعَ على غير سنة خارجٌ عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث". الاعتصام، ط المكتبة التجارية الكبرى، (2/265). وانظر: مجموع الفتاوى، ط المجمع، (3/347)، إتحاف الجماعة، ط2 دار الصميعي، (1/267).
([16]) أخرجه أحمد في المسند، مسند الشاميين، (28/135/ح16937)، وصححه الألباني في الصحيحة، (1/404)، وله فيه بحث نفيس.
([17]) أخرجه الترمذي في السنن، أبواب: الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، (4/323)، والحاكم في المستدرك، كتاب العلم، (1/218/ح444)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (2/943/ح5343).
([18]) أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه، ط2 دار ابن الجوزي، (2/404).
([19]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد، ط8 دار طيبة، (1/121/ح160).
([20]) المدخل للبيهقي، ط1 دار المنهاج، (1/420/ح910).
([21]) الباعث، ط1 دار الهدى، (ص22).
([22]) البَحْبَحَةُ من التَّبَحْبُحُ وهو التمكن في الحلول والْمُقام، وبَحبوحة الدار وسَطُها. انظر: مختار الصحاح، ط5 المكتبة العصرية، (ص29).
([23]) أخرجه أحمد في المسند، مسند العشرة المبشرين، (1/269/ح115)، وصححه الألباني في الصحيحة، (1/792/ح430).
([24]) الرسالة، ط1 مكتبة الحلبي، (ص473).
[25] مجلة المنار، (25/257)، عدد رمضان 1342ه.
([26]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، (3/1476/ح1848).
([27]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، (3/1478/ح1851).
([28]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، (9/62/ح7143)، ومسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن، (3/1477/ح1849).
([29]) المفهم، ط1 دار ابن كثير، (4/60).
([30]) نيل الأوطار، ط1 دار الحديث، (7/208).
([31]) روضة الطالبين، ط3 المكتب الإسلامي، (10/50)، وانظر: دليل المحتاج، (3/334).
‏١٨‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١٠:٣٤ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
اشترك في قناة (أرشيف مجلة كلمة حق) وحمّل جميع ما صدر من أعداد وكتب:

رابط القناة: t.me/klmtu
‏١٦‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١٢:٤١ ص‏
العمل الخيري بين الرسالية والوظيفيّة (01) الصغير منير ⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507 ⚫️ هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtuhaq/480 لم يعرف الشعب الجزائري الجمعيات والنشاط الجمعويّ إلا بعد انتفاضة 1988 وتعديل الدستور الذي فتح المجال أمام تأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات. وكلّ ما كان موجوداً من الجمعيات قبل هذا التاريخ – على قلّته – كان تابعاً للحزب الحاكم الواحد ويدور في فلك السلطة ويخدم أهدافها وخططها مع رداءة واضحة وغياب شبه تامّ في الميدان مع حضور وتسويق إعلاميّين لنفخ هذه الجمعيات وتلميعها. ولأنّ فترة الانفتاح السياسي والحريات العامة بعد أحداث أكتوبر 1988 لم تدُم أكثر من ثلاث سنوات فقد كان عدد الجمعيات الخيريّة – وهي موضوع حديثنا في هذه المقالة – قليلاً وكان تأثيرها محدوداً. ومما يمكن ملاحظته أن أكثر الجمعيات التي تأسست كانت في الحقيقة تابعة لأحزاب سياسية أو تيارات فكرية وكانت بمثابة الأذرع التي تمكّن هذه الأحزاب والتيارات من التغلغل والانتشار في أوساط الشعب. وقد كان من أشهر الجمعيات التي تأسست في هذه الفترة (جمعية الإرشاد والإصلاح) وجمعية (كافل اليتيم) التي كانت في حقيقتها أكبر من مجرّد جمعية. فقد كانت تمثّل الغطاء القانوني لنشاط الإخوان المسلمين المرتبطين بمكتب الإرشاد في مصر وبالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وكان نشاطها ثقافياً وتربوياً وفكرياً وسياسيّاً قبل تأسيس حركة حماس (حركة المجتمع الإسلامي) بقيادة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى، مع حضور بارز ومتميّز للعمل الخيري والإغاثيّ. غير أنّه وفي وجود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسيّ قوي ذي شعبية جارفة وحضور طاغٍ في الساحة واكتساح للمجالس البلدية والولائيّة فقد كان نشاط جمعية الإرشاد والإصلاح غير معروف بما يكفي إلا للمنتسبين إليها والقريبين منها أو المستفيدين من خدماتها، أو الإعلاميين والسياسيين المتابعين للأحداث والتفاصيل. ولأن حركة (حماس) الجزائرية لم تكن قد تأسست بعد كحزب سياسي، ولأن حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يكن يمتلك ذراعاً أو امتداداً جمعوياً بينما كانت تمتلك ذراعاً نقابياً ممثلاً في (النقابة الإسلامية للعمل)، وذراعاً طلابياً ممثلاً في (الرابطة الإسلامية للطلبة)، ولأنّ تلك الفترة عرفت هبوطاً في أسعار النفط أثّرت في المستوى المعيشي للشعب الجزائري وفي مداخيل الدولة الجزائرية باعتبارها دولة ريعية تعتمد بشكل شبه كلي على النفط؛ فقد كانت مظاهر الفقر والعوز تظهر وتنتشر بوضوح لا تخطئه عين المراقب العادي فضلاً عن عين السياسي ورجل الاستخبارات والخبير الاقتصادي. في عام 1990؛ وفي الفترة التي كانت فيها أكثر البلديات تسيّرها مجالس يهيمن عليها منتخبو الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ظهرت فكرة (أسواق الرحمة) أو ما صار يُعرف لاحقاً بالأسواق الإسلامية. وهي أسواق تتفاوت في حجمها وانتشارها بين بلدية وأخرى لكنها يجمعها أن المشرف عليها هم منتسبو الجبهة الإسلامية. وقد كانت فكرة المبادرة بتوجيه من قيادة الجبهة، وتُركت التفاصيل للمنتسبين ليتصرفوا بما تسمح به مواردهم وإمكاناتهم. وقد حاول العلمانيون واليساريّون وحزب جبهة التحرير يومها أن يتّهموا منتخبي الجبهة باستغلال ميزانيات البلديات في شراء الخضر والفواكه وغيرها من أجل دعم وتموين أسواق الرحمة واستغلالها لاحقاً في الدعاية السياسية والانتخابية للجبهة الإسلامية. بينما كان واضحاً جدّاً يومئذ أن البلديات التي كانت تسيّرها الجبهة كانت تعاني من حصار مالي تسبّب في شللها وتعطيل مشاريعها، وأن قانون البلديات نفسه صيغ بطريقة تجعل رئيس البلدية أقرب للموظّف الذي لا يملك أي سلطة حقيقية في بلديته حتى لو انتخبته الأغلبية المطلقة، وأن رؤساء البلديات أنفسهم لم يكونوا يتقاضون مرتباتهم من طرف وزارة الداخلية، حتى أن مناضلي الجبهة الإسلامية كانوا يجمعون من أموالهم ومن الشعب أجور رؤساء البلديات. وأقصى ما كانت تقدمه البلديات لأسواق الرحمة هو الشاحنات والمركبات المتوسطة لنقل المؤونة والسلع أو إصدار الرخص لنشاط هذه الأسواق. كانت (أسواق الرحمة) رحمة للفقراء والمساكين والبطالين. وكانت أسعار السلع فيها منخفضة حتى كانت أشبه ما تكون بالتبرعات المجانية. وكان العاملون فيها في أغلبهم متطوعين والعاملون منهم يتلقون أجرتهم من مداخيل البيع. وكان الفلاحون والمزارعون يتنافسون في التبرع والصدقات لهذه الأسواق بسخاء وتناقل الجزائريون يومها حكايات أشبه بأحاديث حاتم الطائي. تسببت أسواق الرحمة في حرج كبير للسلطة التي أوعزت للصحف والجرائد بمهاجمتها والتشكيك فيها. وأظهرت عجز السلطة عن توفير الحدّ الأدنى من الرعاية للطبقات الشعبية الفقيرة. وقد كانت هذه الأسواق مستقلة تماماً عن مؤسسات الدولة وحتى عن تسيير حزب الجبهة الإسلامية المباشر في التفاصيل، ورفعت من أسهم الجبهة في الانتخابات التشريعية التي انقُلب عليها سنة 1992. إن تجربة أسواق الرحمة كانت أول تجربة يشعر فيها النظام بالحرج من مبادرة خيرية محدودة في الزمان والمكان، لأنه لا يريد مبادرات وجمعيات خارج هيمنته ولا تخدم أهدافه بل ربما تفعل عكس ذلك تماماً. حدث الانقلاب ومرّت عشر سنوات عجاف من القمع والمجازر والحرب واستفرد النظام بكلّ شيء وكاد العمل الخيري الشعبي أن يتوقف، لولا جهود بُذِلت وكانت محفوفة بالمخاطر أبقت عليه حيّاً في أدنى مستوياته. ثم جاءت سنة 1999 ووصل معها سيّء الذكر عبدالعزيز بوتفليقة إلى رئاسة الدولة في الجزائر، بتخطيط وتحضير واتفاق بين جنرالات العسكر والمخابرات النافذين يومها، والذين ما كان أحد يجرؤ في الداخل أن يرفض لهم أمراً أو يخالف لهم قراراً. وكانت أول أعمال بوتفليقة أن يعطي انطباعاً بأن الدولة تتخلّص من العسكرة والتوجّه الأمني الاستئصالي، إلى التوجّه المدني الذي تتبوّأ فيه الجمعيات والنقابات والأحزاب مكانة بارزة ومؤثّرة في الحياة العامّة. طبعاً لم يكن بوتفليقة يريد من وراء هذا سوى التسويق لانفتاح موهوم وحياة مدنية مزعومة، تكون في خدمة أهدافه في التسلّط والهيمنة والانتقام من أعدائه وتلمّع صورته أمام الإعلام والساسة الغربيين، الذين كان حريصاً أشدّ الحرص على إرضائهم. حدث إذن بعد عام 2000 أن تأسست مئات الجمعيات الخيرية بين وطني وولائي وبلدي، تعتني بالأيتام والأرامل والفقراء والمرضى والأمّيين، وتغيث الجزائريين في النكبات والكوارث، وترفع عنهم آثار الفاقة في المناسبات مثل رمضان والعيدين ودخول المدارس. وكان واضحاً أن هذه الجمعيات سدّت نقصاً هائلاً وغياباً شبه كامل للدولة في العناية بهذه الفئات ومرافقتها. كما كان واضحاً أنها لم تكن تحصل من الدولة إلا على الفتات من الدعم المالي بينما كانت الأموال توزّع بسخاء على جمعيات التملّق للرئيس وحاشيته وعلى الفنانين والمهرجانات الفنية والثقافية، زعموا. ولعل من أبرز ما يمكن ملاحظته أن الغالبية العظمى من هذه الجمعيات كان مؤسسوها ومنتسبوها والناشطون فيها إما الإسلاميين، أو من الشباب والكهول المتدينين والمحافظين الذين لا يُعرف لهم انتساب تنظيمي واضح للتيار الإسلامي. وقد كان مفهوماً توجّه الإسلاميين شباباً وكهولاً إلى العمل الخيري بقوة، فقد حرمهم النظام من أي مشاركة حقيقية وفعّالة في الشأن العام وهمّشهم وأقصاهم ولم يُبقِ لهم باباً مفتوحاً لخدمة شعبهم والحضور في الميدان إلا من خلال العمل الخيري بتأسيس الجمعيات، التي كان يتحكّم في منحها الاعتماد القانوني ويتعسّف أحياناً كثيرة في ذلك لأوهى الأسباب ويتشدّد في تجديد مكاتبها ومراقبة وثائقها والتدقيق في حساباتها بما لا يفعله إلا نادراً مع الجمعيات الموالية له أو السائرة في ركابه. كما أن هناك سبباً آخر لتوجّه شباب وكهول الإسلاميين نحو العمل الخيري، وهو أنه كان المجال الأبعد عن المخاطرة ومصادمة النظام، وأن كثيراً جداً منهم كانوا ناقمين على ما آلت إليه أحوال العمل الإسلامي سواء في شقّه الجهادي المسلّح الذي كان ظاهراً أنه انهزم وفُكك، أو في شقّه السياسي الذي كان ظاهراً أيضاً أن النظام استطاع احتواءه وسحبه إلى مربّعه؛ بل والتحالف معه في معادلة غريبة نشاز ما زالت غير مفهومة في كثير من تفاصيلها إلى يوم الناس هذا. عشرون سنة كاملة مضت من العمل الخيري. مئات الجمعيات التي ما تركت نشاطاً خيرياً إلا أسهمت فيه. آلاف من الشباب المستقيم النزيه المتديّن أو المحافظ الذي يصل ليله بنهاره في جمع الأموال والمساعدات وتوزيعها. أوقات وجهود وموارد ضخمة تُنفَق في هذه الجمعيات. ضغوط وتعقيدات إدارية كبيرة ومثبّطة تتحملها هذه الجمعيات وتصبر عليها وتتعامل معها بخليط من الذكاء والصبر والملاعبة والمداهنة والمهادنة بل والإذلال أحياناً. وبرغم ذلك كلّه وصل إحسانها وخيرها إلى كل بادية وقرية ومدينة وريف؛ بل إن جمعيات مثل (هيئة الإغاثة) التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين و(الإرشاد والإصلاح) و(جزائر الخير) و(البركة) وغيرها تعدّى نفعها إلى شعوب أخرى، في البوسنة والهرسك وفلسطين وبورما ومخيمات اللاجئين من الصحراء الغربية وغيرها. ويبقى السؤال الملحّ: ماذا استفادت هذه الجمعيّات بعد بذل كلّ هذه الجهود؟ من يستفيد من هذه الأموال والموارد والنفقات الضخمة؟ الشعب أم السلطة أو هما معًا؟ هل تتعامل السلطة ببراءة وحيادية مع بذل وعطاء وتوسع هذه الجمعيات؟ أم هي توظّفها في مشروعها الكبير وتجعلها ترساً في منظومتها الغالبة المتسلّطة؟ هل تدرك وتعي قيادات هذه الجمعيات أين تنتهي الرسالية في مشروعاتها وأين تبدأ الوظيفية؟ أم ترى ذلك غير مؤثّر ولا مهمّ؟ وأسئلة أخرى كلها متفرّع عن هذه الأسئلة أو مرتبط بها بشكل أو بآخر. من منطلق إيمانيّ صِرف لا شكّ أن الأجر والثواب مضمون لكلّ من يفعل الخير، ويغيث الملهوف ويحمل الكَلّ ويتعاون على البرّ ويدخل السرور على المسلمين ويقضي عنهم ديونهم ويسعف مرضاهم، إذا صدقت المقاصد وخلصت النيّات. ومن منطلق اجتماعي لا شكّ أن العمل الخيري يحيي مشاعر التراحم والتكافل، التي هي أحد مرتكزات البناء الاجتماعي للأمة المسلمة. ومن منطلق أخلاقيّ لا شك أن بذل المال من طرف الأغنياء أو بذل الجهد والتنظيم والإحصاء والتحرّي من طرف الجمعيات، يطهّر الأنفس من الشحّ والتعلّق بالمال ويخلّصها من فردانيتها وانكفائها على ذاتها. هذه المقاصد الجميلة والغايات النبيلة متحققة كلها في العمل الخيريّ. ويشعر بها ويعيشها من انتدبوا أنفسهم وسخروا جهودهم في هذا الباب لسدّ هذه الثغرات والثغور. لكن هل يكفي جمال القصد ونبل الغاية وحده في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية والشاذّة غير السويّة التي تعيشها شعوب الأمّة المسلمة؟ في أي نهر تصبّ جهود الجمعيات؟ وأيّ مشروع تخدم؟ لا أحد لديه مسكة من عقل ويشعر بالانتماء إلى شعبه وأمته ويدرك روابط الولاء ومقتضياته، يدعو إلى وقف الإحسان أو قبض الأيدي والشحّ بالمال وترك المسلمين يموتون جوعاً وبرداً ومرضاً وتشرداً بلا مأوى؛ بل لعلّ ذلك قد يكون جريمة إيمانية وأخلاقية وإنسانيّة عند تحقق القدرة ووجود الموارد الماديّة والبشريّة. في وضعٍ لا تأبه فيه الأنظمة ومؤسساتها بمئات الآلاف من الفقراء والمشردين وتجد من الحجج والمبررات الاقتصادية والسياسية والحسابات والإكراهات الحقيقية أو المتوهمة أو الكاذبة، ما يجعل السذّج والطيبين يصدقونها ويلتمسون لها الأعذار ويرجعون باللوم على أنفسهم ويتّهمون عقولهم، بينما يجتهد إعلام الأنظمة وسحرته في التدليس والتلبيس وإخفاء الحقائق وتبرئة المجرمين الحقيقيين. إن المطلوب هو توجيه هذه الأموال والموارد والجهود والعطاء السخي والبذل الكريم نحو وجهة ترضي الله تعالى، وتحقق مقتضيات الإيمان به والولاء للمؤمنين والبراءة من الظالمين والمجرمين، وترشيدها بحيث تؤدي دورها في إحياء الأمة ونهضتها وخلاصها من الاستبداد والفساد والطغيان وأداء دورها في الشهادة على الأمم. فكيف تنظر الجمعيات لهذا الأمر؟ وهل تفكّر فيه وتستحضره في تخطيطها ومشروعاتها أصلاً؟ وما التحدّيات التي تنتج عن هذه الغفلة؟ سيكون ذلك موضوع الجزء الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى..
العمل الخيري بين الرسالية والوظيفيّة (01)
الصغير منير

⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507
⚫️ هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtuhaq/480

لم يعرف الشعب الجزائري الجمعيات والنشاط الجمعويّ إلا بعد انتفاضة 1988 وتعديل الدستور الذي فتح المجال أمام تأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات. وكلّ ما كان موجوداً من الجمعيات قبل هذا التاريخ – على قلّته – كان تابعاً للحزب الحاكم الواحد ويدور في فلك السلطة ويخدم أهدافها وخططها مع رداءة واضحة وغياب شبه تامّ في الميدان مع حضور وتسويق إعلاميّين لنفخ هذه الجمعيات وتلميعها.

ولأنّ فترة الانفتاح السياسي والحريات العامة بعد أحداث أكتوبر 1988 لم تدُم أكثر من ثلاث سنوات فقد كان عدد الجمعيات الخيريّة – وهي موضوع حديثنا في هذه المقالة – قليلاً وكان تأثيرها محدوداً. ومما يمكن ملاحظته أن أكثر الجمعيات التي تأسست كانت في الحقيقة تابعة لأحزاب سياسية أو تيارات فكرية وكانت بمثابة الأذرع التي تمكّن هذه الأحزاب والتيارات من التغلغل والانتشار في أوساط الشعب.

وقد كان من أشهر الجمعيات التي تأسست في هذه الفترة (جمعية الإرشاد والإصلاح) وجمعية (كافل اليتيم) التي كانت في حقيقتها أكبر من مجرّد جمعية. فقد كانت تمثّل الغطاء القانوني لنشاط الإخوان المسلمين المرتبطين بمكتب الإرشاد في مصر وبالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وكان نشاطها ثقافياً وتربوياً وفكرياً وسياسيّاً قبل تأسيس حركة حماس (حركة المجتمع الإسلامي) بقيادة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى، مع حضور بارز ومتميّز للعمل الخيري والإغاثيّ.

غير أنّه وفي وجود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسيّ قوي ذي شعبية جارفة وحضور طاغٍ في الساحة واكتساح للمجالس البلدية والولائيّة فقد كان نشاط جمعية الإرشاد والإصلاح غير معروف بما يكفي إلا للمنتسبين إليها والقريبين منها أو المستفيدين من خدماتها، أو الإعلاميين والسياسيين المتابعين للأحداث والتفاصيل.

ولأن حركة (حماس) الجزائرية لم تكن قد تأسست بعد كحزب سياسي، ولأن حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يكن يمتلك ذراعاً أو امتداداً جمعوياً بينما كانت تمتلك ذراعاً نقابياً ممثلاً في (النقابة الإسلامية للعمل)، وذراعاً طلابياً ممثلاً في (الرابطة الإسلامية للطلبة)، ولأنّ تلك الفترة عرفت هبوطاً في أسعار النفط أثّرت في المستوى المعيشي للشعب الجزائري وفي مداخيل الدولة الجزائرية باعتبارها دولة ريعية تعتمد بشكل شبه كلي على النفط؛ فقد كانت مظاهر الفقر والعوز تظهر وتنتشر بوضوح لا تخطئه عين المراقب العادي فضلاً عن عين السياسي ورجل الاستخبارات والخبير الاقتصادي.

في عام 1990؛ وفي الفترة التي كانت فيها أكثر البلديات تسيّرها مجالس يهيمن عليها منتخبو الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ظهرت فكرة (أسواق الرحمة) أو ما صار يُعرف لاحقاً بالأسواق الإسلامية. وهي أسواق تتفاوت في حجمها وانتشارها بين بلدية وأخرى لكنها يجمعها أن المشرف عليها هم منتسبو الجبهة الإسلامية. وقد كانت فكرة المبادرة بتوجيه من قيادة الجبهة، وتُركت التفاصيل للمنتسبين ليتصرفوا بما تسمح به مواردهم وإمكاناتهم.

وقد حاول العلمانيون واليساريّون وحزب جبهة التحرير يومها أن يتّهموا منتخبي الجبهة باستغلال ميزانيات البلديات في شراء الخضر والفواكه وغيرها من أجل دعم وتموين أسواق الرحمة واستغلالها لاحقاً في الدعاية السياسية والانتخابية للجبهة الإسلامية. بينما كان واضحاً جدّاً يومئذ أن البلديات التي كانت تسيّرها الجبهة كانت تعاني من حصار مالي تسبّب في شللها وتعطيل مشاريعها، وأن قانون البلديات نفسه صيغ بطريقة تجعل رئيس البلدية أقرب للموظّف الذي لا يملك أي سلطة حقيقية في بلديته حتى لو انتخبته الأغلبية المطلقة، وأن رؤساء البلديات أنفسهم لم يكونوا يتقاضون مرتباتهم من طرف وزارة الداخلية، حتى أن مناضلي الجبهة الإسلامية كانوا يجمعون من أموالهم ومن الشعب أجور رؤساء البلديات. وأقصى ما كانت تقدمه البلديات لأسواق الرحمة هو الشاحنات والمركبات المتوسطة لنقل المؤونة والسلع أو إصدار الرخص لنشاط هذه الأسواق.

كانت (أسواق الرحمة) رحمة للفقراء والمساكين والبطالين. وكانت أسعار السلع فيها منخفضة حتى كانت أشبه ما تكون بالتبرعات المجانية. وكان العاملون فيها في أغلبهم متطوعين والعاملون منهم يتلقون أجرتهم من مداخيل البيع. وكان الفلاحون والمزارعون يتنافسون في التبرع والصدقات لهذه الأسواق بسخاء وتناقل الجزائريون يومها حكايات أشبه بأحاديث حاتم الطائي.

تسببت أسواق الرحمة في حرج كبير للسلطة التي أوعزت للصحف والجرائد بمهاجمتها والتشكيك فيها. وأظهرت عجز السلطة عن توفير الحدّ الأدنى من الرعاية للطبقات الشعبية الفقيرة. وقد كانت هذه الأسواق مستقلة تماماً عن مؤسسات الدولة وحتى عن تسيير حزب الجبهة الإسلامية المباشر في التفاصيل، ورفعت من أسهم الجبهة في الانتخابات التشريعية التي انقُلب عليها سنة 1992.

إن تجربة أسواق الرحمة كانت أول تجربة يشعر فيها النظام بالحرج من مبادرة خيرية محدودة في الزمان والمكان، لأنه لا يريد مبادرات وجمعيات خارج هيمنته ولا تخدم أهدافه بل ربما تفعل عكس ذلك تماماً.

حدث الانقلاب ومرّت عشر سنوات عجاف من القمع والمجازر والحرب واستفرد النظام بكلّ شيء وكاد العمل الخيري الشعبي أن يتوقف، لولا جهود بُذِلت وكانت محفوفة بالمخاطر أبقت عليه حيّاً في أدنى مستوياته.

ثم جاءت سنة 1999 ووصل معها سيّء الذكر عبدالعزيز بوتفليقة إلى رئاسة الدولة في الجزائر، بتخطيط وتحضير واتفاق بين جنرالات العسكر والمخابرات النافذين يومها، والذين ما كان أحد يجرؤ في الداخل أن يرفض لهم أمراً أو يخالف لهم قراراً.

وكانت أول أعمال بوتفليقة أن يعطي انطباعاً بأن الدولة تتخلّص من العسكرة والتوجّه الأمني الاستئصالي، إلى التوجّه المدني الذي تتبوّأ فيه الجمعيات والنقابات والأحزاب مكانة بارزة ومؤثّرة في الحياة العامّة.

طبعاً لم يكن بوتفليقة يريد من وراء هذا سوى التسويق لانفتاح موهوم وحياة مدنية مزعومة، تكون في خدمة أهدافه في التسلّط والهيمنة والانتقام من أعدائه وتلمّع صورته أمام الإعلام والساسة الغربيين، الذين كان حريصاً أشدّ الحرص على إرضائهم.

حدث إذن بعد عام 2000 أن تأسست مئات الجمعيات الخيرية بين وطني وولائي وبلدي، تعتني بالأيتام والأرامل والفقراء والمرضى والأمّيين، وتغيث الجزائريين في النكبات والكوارث، وترفع عنهم آثار الفاقة في المناسبات مثل رمضان والعيدين ودخول المدارس.

وكان واضحاً أن هذه الجمعيات سدّت نقصاً هائلاً وغياباً شبه كامل للدولة في العناية بهذه الفئات ومرافقتها. كما كان واضحاً أنها لم تكن تحصل من الدولة إلا على الفتات من الدعم المالي بينما كانت الأموال توزّع بسخاء على جمعيات التملّق للرئيس وحاشيته وعلى الفنانين والمهرجانات الفنية والثقافية، زعموا.

ولعل من أبرز ما يمكن ملاحظته أن الغالبية العظمى من هذه الجمعيات كان مؤسسوها ومنتسبوها والناشطون فيها إما الإسلاميين، أو من الشباب والكهول المتدينين والمحافظين الذين لا يُعرف لهم انتساب تنظيمي واضح للتيار الإسلامي.

وقد كان مفهوماً توجّه الإسلاميين شباباً وكهولاً إلى العمل الخيري بقوة، فقد حرمهم النظام من أي مشاركة حقيقية وفعّالة في الشأن العام وهمّشهم وأقصاهم ولم يُبقِ لهم باباً مفتوحاً لخدمة شعبهم والحضور في الميدان إلا من خلال العمل الخيري بتأسيس الجمعيات، التي كان يتحكّم في منحها الاعتماد القانوني ويتعسّف أحياناً كثيرة في ذلك لأوهى الأسباب ويتشدّد في تجديد مكاتبها ومراقبة وثائقها والتدقيق في حساباتها بما لا يفعله إلا نادراً مع الجمعيات الموالية له أو السائرة في ركابه.

كما أن هناك سبباً آخر لتوجّه شباب وكهول الإسلاميين نحو العمل الخيري، وهو أنه كان المجال الأبعد عن المخاطرة ومصادمة النظام، وأن كثيراً جداً منهم كانوا ناقمين على ما آلت إليه أحوال العمل الإسلامي سواء في شقّه الجهادي المسلّح الذي كان ظاهراً أنه انهزم وفُكك، أو في شقّه السياسي الذي كان ظاهراً أيضاً أن النظام استطاع احتواءه وسحبه إلى مربّعه؛ بل والتحالف معه في معادلة غريبة نشاز ما زالت غير مفهومة في كثير من تفاصيلها إلى يوم الناس هذا.

عشرون سنة كاملة مضت من العمل الخيري. مئات الجمعيات التي ما تركت نشاطاً خيرياً إلا أسهمت فيه. آلاف من الشباب المستقيم النزيه المتديّن أو المحافظ الذي يصل ليله بنهاره في جمع الأموال والمساعدات وتوزيعها. أوقات وجهود وموارد ضخمة تُنفَق في هذه الجمعيات. ضغوط وتعقيدات إدارية كبيرة ومثبّطة تتحملها هذه الجمعيات وتصبر عليها وتتعامل معها بخليط من الذكاء والصبر والملاعبة والمداهنة والمهادنة بل والإذلال أحياناً.

وبرغم ذلك كلّه وصل إحسانها وخيرها إلى كل بادية وقرية ومدينة وريف؛ بل إن جمعيات مثل (هيئة الإغاثة) التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين و(الإرشاد والإصلاح) و(جزائر الخير) و(البركة) وغيرها تعدّى نفعها إلى شعوب أخرى، في البوسنة والهرسك وفلسطين وبورما ومخيمات اللاجئين من الصحراء الغربية وغيرها.

ويبقى السؤال الملحّ: ماذا استفادت هذه الجمعيّات بعد بذل كلّ هذه الجهود؟

من يستفيد من هذه الأموال والموارد والنفقات الضخمة؟ الشعب أم السلطة أو هما معًا؟

هل تتعامل السلطة ببراءة وحيادية مع بذل وعطاء وتوسع هذه الجمعيات؟ أم هي توظّفها في مشروعها الكبير وتجعلها ترساً في منظومتها الغالبة المتسلّطة؟

هل تدرك وتعي قيادات هذه الجمعيات أين تنتهي الرسالية في مشروعاتها وأين تبدأ الوظيفية؟ أم ترى ذلك غير مؤثّر ولا مهمّ؟

وأسئلة أخرى كلها متفرّع عن هذه الأسئلة أو مرتبط بها بشكل أو بآخر.

من منطلق إيمانيّ صِرف لا شكّ أن الأجر والثواب مضمون لكلّ من يفعل الخير، ويغيث الملهوف ويحمل الكَلّ ويتعاون على البرّ ويدخل السرور على المسلمين ويقضي عنهم ديونهم ويسعف مرضاهم، إذا صدقت المقاصد وخلصت النيّات.

ومن منطلق اجتماعي لا شكّ أن العمل الخيري يحيي مشاعر التراحم والتكافل، التي هي أحد مرتكزات البناء الاجتماعي للأمة المسلمة.

ومن منطلق أخلاقيّ لا شك أن بذل المال من طرف الأغنياء أو بذل الجهد والتنظيم والإحصاء والتحرّي من طرف الجمعيات، يطهّر الأنفس من الشحّ والتعلّق بالمال ويخلّصها من فردانيتها وانكفائها على ذاتها.

هذه المقاصد الجميلة والغايات النبيلة متحققة كلها في العمل الخيريّ. ويشعر بها ويعيشها من انتدبوا أنفسهم وسخروا جهودهم في هذا الباب لسدّ هذه الثغرات والثغور.

لكن هل يكفي جمال القصد ونبل الغاية وحده في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية والشاذّة غير السويّة التي تعيشها شعوب الأمّة المسلمة؟

في أي نهر تصبّ جهود الجمعيات؟

وأيّ مشروع تخدم؟

لا أحد لديه مسكة من عقل ويشعر بالانتماء إلى شعبه وأمته ويدرك روابط الولاء ومقتضياته، يدعو إلى وقف الإحسان أو قبض الأيدي والشحّ بالمال وترك المسلمين يموتون جوعاً وبرداً ومرضاً وتشرداً بلا مأوى؛ بل لعلّ ذلك قد يكون جريمة إيمانية وأخلاقية وإنسانيّة عند تحقق القدرة ووجود الموارد الماديّة والبشريّة.

في وضعٍ لا تأبه فيه الأنظمة ومؤسساتها بمئات الآلاف من الفقراء والمشردين وتجد من الحجج والمبررات الاقتصادية والسياسية والحسابات والإكراهات الحقيقية أو المتوهمة أو الكاذبة، ما يجعل السذّج والطيبين يصدقونها ويلتمسون لها الأعذار ويرجعون باللوم على أنفسهم ويتّهمون عقولهم، بينما يجتهد إعلام الأنظمة وسحرته في التدليس والتلبيس وإخفاء الحقائق وتبرئة المجرمين الحقيقيين.

إن المطلوب هو توجيه هذه الأموال والموارد والجهود والعطاء السخي والبذل الكريم نحو وجهة ترضي الله تعالى، وتحقق مقتضيات الإيمان به والولاء للمؤمنين والبراءة من الظالمين والمجرمين، وترشيدها بحيث تؤدي دورها في إحياء الأمة ونهضتها وخلاصها من الاستبداد والفساد والطغيان وأداء دورها في الشهادة على الأمم.

فكيف تنظر الجمعيات لهذا الأمر؟

وهل تفكّر فيه وتستحضره في تخطيطها ومشروعاتها أصلاً؟

وما التحدّيات التي تنتج عن هذه الغفلة؟

سيكون ذلك موضوع الجزء الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى..
‏١٥‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١١:٥١ م‏
رمضان ولجام الشهوات د. صلاح سلطان فك الله أسره ⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507 ⚫️ هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtuhaq/480 في هذا المقال نورد بعض البرامج المهمة التي أوردها د. صلاح سلطان فك الله أسره والتي تعين على الاستفادة القصوى من شهر رمضان المبارك: يقول فرج الله عنه: "البرنامج الأول: الإخلاص: الإخلاص أن تحول العادة إلى عبادة خالصة لله تعالى؛ فعادة الطعام والشراب، تكون عبادة لله عز وجل، نأكل لله عند الغروب ونمتنع عن الطعام لله عند الفجر ، بعض المسلمين يصومون لأن رمضان أتى، وهيئة الإفتاء أعلنت أن رمضان غدًا، ونحن نصوم مع الناس، لكن الأصل أن نصوم لرب الناس، لما ذكره النبي فيما يرويه عن ربه: "الصوم لي وأنا أجزي به". لا تجعلها عادة أن تصوم لأن كل الأحاديث في البخاري ومسلم "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". كل مرة توجد عبارة "إيمانًا واحتسابُا"، إذن الإخلاص يجعلك لا تصوم عادة وإنما زلفى وقربى وتوسل لله تبارك وتعالى الذي يحبنا، ويعلم أننا نخطئ فيقول لنا أعطيت لكم فرصة الصيام لتعودوا إلى أتقياء أنقياء أصفياء، وليس فقط صفاء من الذنوب وإنما ارتقاء في الحسنات، جبال من الحسنات تنتظرنا إن كان الإخلاص سرًا مدفونًا في قلوبنا يدفعنا إلى العمل لله عز وجل. الإخلاص هذا سر يقذفه الله في قلب من يشاء ممن أحب من عبادة فيجعل العمل القليل جدًا كبيرًا جدًا، أما العمل الكبير بلا إخلاص فلا فائدة منه؛ تخيل أن أول من تسعر بهم النار ليسوا الظلمة، ليسوا الفسقة، ليسوا الزناة، ليسوا أصحاب المخدرات، ليسوا الذين يقتلون الناس بغير الحق، وإنما ثلاثة: رجل أنفق ليقال: جواد، و رجل قاتل ليقال: شجاع ، وعالم عّلم العلم ليقال: عالِم ، هؤلاء المراؤون أول من تسعر بهم النار، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. ومن هنا لابد من الإخلاص عنوانا لكل عمل. البرنامج الثاني: الاقتصاد في الطعام والشراب: هذا مِفتاح مهم جدًا لأن من الممكن أن يكون عندك إخلاص ولا تأخذ قراراً بالاقتصاد في السحور والفطور، ومن رحمات الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السحور أكُله بركة، فلا تدَعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين". كي نطعم قلوبنا وجبة من الرحمة، من السعادة، من الانشراح، عندما نقوم في السحر نطعم أجسادنا، لكن الله يطعمنا في قلوبنا وفي عقولنا نورًا ورحمة فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين، والأصل أن يستحضر كلٌّ منا هذا المعنى ولا يملأ بطنه عند السحور اعتقادًا بأن اليوم طويل، والعمل كثير، والإجهاد شديد. استعن بالله ولا تعجز، هي مسألة تحتاج إلى عزم وإرادة، وفيك هذه الإرادة أن تقوم عن الطعام قبل أن تشبع، جِرب مرة واستطعم هذه الخفة في جسدك، وستجد أنك صرت نشيطًا إلى صلاة الفجر في المسجد، صرت نشيطًا إذا أفطرت، عجلت الفطر، صليت المغرب ثم أكلت بعد ذلك دون أن تمتلئ، تذهب لصلاة التراويح بخشوع وخضوع لله سبحانه وتعالى، تستلذ معاني القرآن، تستشعر كل آية تقرأ من كتاب الله عز وجل. لكن البطنة تذهب الفطنة، الدم الذي يجب أن يصعد إلى العقل ينزل إلى البطن ليهضم فلا يقوى على قيام ولا على قرآن ولا على شيء، فهذا مفتاح ضروري جدًا تعاهد الله عليه. هناك مسلمون كثر يقولون نحن نصوم ولا نجوع، وهذا من الشره الذي أصابوه قبل الفجر وبعد المغرب؛ المحلات ممتلئة بأنواع جديدة وعديدة ومكسرات وأنواع لا تظهر إلا في رمضان! أقول يا إخواني إن الصيام يجعل الإنسان يحس بآلام الفقراء، آلام الجوعى، آلام المحتاجين، نجوع يومًا فنذكر ربنا، ونشبع يومًا فنشكر ربنا، الذكر والشكر مطلوبان لكن الإنسان يمتلئ ويفخر أنه لا يجوع طوال اليوم. "فمن أكثر من الإفطار بعد صيام طويل كمن بنى قصرًا وهدم مصرًا"، بنى قصراً وهدم بلداً بالكامل، بنيت قصرًا طوال اليوم وتأتي المغرب وترى المائدة مليئة فتهجم، ابدأ بتمرة ، أو شربة ماء أو لبن ، لأن النبي يقول: "من وجد تمراً، فليفطر عليه، ومن لا يجد فليفطر على الماء، فإنه طهور". وهذه مادة سكرية تصل بسرعة إلى العين، وتعطى المخ إشارة بأن السكريات الموجودة في التمر كافية وخالية من الدهون وتذهب إلى العقل، وتعطي إشارة أن الإنسان أخذ قسطاً كبيراً لم يعد جوعاناً كما كان، ثم تصلي المغرب و تعود ، تكون المعدة قد هضمت التمرة مع جرعة الماء ، ويرجى أن يتحقق ما جاء في الحديث "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله". وليس كهذا الذي يرى أن الحياة شراب وطعام ولهو ومنام فإذا لم تنلها فعلى الدنيا السلام! لا! الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12] ولسنا كذلك، نحن آدميون ونحن مسلمون لنا صبغة خاصة كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة: ١٣٨). البرنامج الثالث: قراءة القرآن: ما كُرم شهر رمضان إلا من أجل القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: من الآية ١٨٥)، وروى البيهقي وأحمد والحاكم بسندهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أَيْ رَبِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفعان". لو اقتصدنا في الطعام، نسمع القرآن غضًا طريًا كما أنزل، نذهب إلى البيت ونمسك بالمصحف، أريد من كل أخ وكل أخت أن يمسك القرآن ويعزم أن يختم القرآن مرة في رمضان إذا كنت تقود السيارة إلى عمل في مكان بعيد ضع شريطًا في السيارة واستمع بإنصات: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: ٢٠٤) مهم جدًا أن تختم القرآن في رمضان كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كان جبريل يراجعه القرآن في كل عام، لا بد أن نسعى لهذا لأقصى ما نستطيع لأن القرآن حقيقة هذا النور الذي بغيره لا نستطيع إلا أن نكون أشقياء لقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: ٢٦ ). وقد كان أحد الصحابة يقول: لي ختمة كل أسبوع، وختمة كل شهر، وختمة كل سنة، وختمة بدأتها منذ عشرين عامًا لم أنتهِ منها إلى الآن. اليوم أريد من كل أخ وهو يقرأ ورده القرآني بالليل أو بعد الفجر أن يلتقط آية انفعلت بها مشاعره، ونبض لها قلبه، والتفت إليها عقله، يرددها طوال اليوم، يعيش معها، ستصنعه من جديد، ستغير كثيرًا جدًا من العادات المركوزة في النفس. ستنقل الإنسان من الانشغال بأشياء تافهة حقيرة، إلى معالي الأمور، "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها". أريد أن نرتاد مقارئ القرآن بالمساجد، ونتعلم الترتيل {ورتِّلِ الُْقرآن َترتِيًلا} [المزمل:4]، {...وأُمِرت أَن أَكون مِن الْمسلِمِين* وأَن أَتُْلوَ القُرآن...}[النمل:91-92]، والتلاوة قراءة بنغم حتى تمتع العينين والقلب والعقل والوجدان فيتحول القرآن إلى جزء من كيانك، من حياتك، لا تستطيع أن تأكل يوماً ثم تهجر القرآن، لا تستطيع أن تمتد بك الأيام دون أن تختم القرآن من أوله إلى آخره، حالاً على أوله مرتحلًا إلى آخره، قراءة أواستماعاً أو هما معًا، ثم تدبر بالعقل، وتأثر بالقلب وتغير بالنفس في رمضان شهر القرآن. البرنامج الرابع: القيام: لا تعط موعدًا وقت صلاة التراويح، حرره لله تعالى، واجعل موعدك مع الله في القيام في رمضان موعدًا ثابتًا، هل هناك أحد عنده امتحان يعطي موعدًا في وقت الامتحان؟ لم يحدث أن أحدًا عنده مقابلة مع شخص مسئول وأعطى موعداً آخر في نفس الوقت. نحن في موعد مع الله كل صلاة، وبخاصة صلاة القيام؛ لأن هناك أحاديث خاصة في الصحيحين: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". تخيل لو صلينا ٣٠ ركعة كل يوم، ١٧ فريضة، و١٣ ركعة نافلة في شهر من الشهور العادية تأخذ ثواب ٣٠٠ ركعة، إلا في شهر رمضان تضاعف سبعين ضعفًا، هذا كم هائل من الحسنات يفوتنا لو تركنا التراويح! قل لي يا أخي: هل جلوسك أمام التلفاز أو جلوسك مع الأصحاب أو في المقاهي أو في السيارات أو في غيرها يمكنك أن تنال مثل هذا الأجر الوفير الكثير؟ يا أخي الكريم أوقف حياتك في هذه الأوقات لله تعالى، وإذا كنت مشغولاً وقت صلاة التراويح صلِها في البيت مع الأهل، أو صلها وحدك لكن لا تتركها تفوتك أبدًا، فهي غنيمة باردة غنيمة كبيرة تصنع في الفؤاد قوة هائلة جدًا" .
رمضان ولجام الشهوات

د. صلاح سلطان
فك الله أسره

⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507
⚫️ هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtuhaq/480

في هذا المقال نورد بعض البرامج المهمة التي أوردها د. صلاح سلطان فك الله أسره والتي تعين على الاستفادة القصوى من شهر رمضان المبارك:

يقول فرج الله عنه:

"البرنامج الأول: الإخلاص:

الإخلاص أن تحول العادة إلى عبادة خالصة لله تعالى؛ فعادة الطعام والشراب، تكون عبادة لله عز وجل، نأكل لله عند الغروب ونمتنع عن الطعام لله عند الفجر ، بعض المسلمين يصومون لأن رمضان أتى، وهيئة الإفتاء أعلنت أن رمضان غدًا، ونحن نصوم مع الناس، لكن الأصل أن نصوم لرب الناس، لما ذكره النبي فيما يرويه عن ربه: "الصوم لي وأنا أجزي به".

لا تجعلها عادة أن تصوم لأن كل الأحاديث في البخاري ومسلم "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". كل مرة توجد عبارة "إيمانًا واحتسابُا"، إذن الإخلاص يجعلك لا تصوم عادة وإنما زلفى وقربى وتوسل لله تبارك وتعالى الذي يحبنا، ويعلم أننا نخطئ فيقول لنا أعطيت لكم فرصة الصيام لتعودوا إلى أتقياء أنقياء أصفياء، وليس فقط صفاء من الذنوب وإنما ارتقاء في الحسنات، جبال من الحسنات تنتظرنا إن كان الإخلاص سرًا مدفونًا في قلوبنا يدفعنا إلى العمل لله عز وجل.

الإخلاص هذا سر يقذفه الله في قلب من يشاء ممن أحب من عبادة فيجعل العمل القليل جدًا كبيرًا جدًا، أما العمل الكبير بلا إخلاص فلا فائدة منه؛ تخيل أن أول من تسعر بهم النار ليسوا الظلمة، ليسوا الفسقة، ليسوا الزناة، ليسوا أصحاب المخدرات، ليسوا الذين يقتلون الناس بغير الحق، وإنما ثلاثة: رجل أنفق ليقال: جواد، و رجل قاتل ليقال: شجاع ، وعالم عّلم العلم ليقال: عالِم ، هؤلاء المراؤون أول من تسعر بهم النار، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
ومن هنا لابد من الإخلاص عنوانا لكل عمل.

البرنامج الثاني: الاقتصاد في الطعام والشراب:

هذا مِفتاح مهم جدًا لأن من الممكن أن يكون عندك إخلاص ولا تأخذ قراراً بالاقتصاد في السحور والفطور، ومن رحمات الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السحور أكُله بركة، فلا تدَعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين".

كي نطعم قلوبنا وجبة من الرحمة، من السعادة، من الانشراح، عندما نقوم في السحر نطعم أجسادنا، لكن الله يطعمنا في قلوبنا وفي عقولنا نورًا ورحمة فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين، والأصل أن يستحضر كلٌّ منا هذا المعنى ولا يملأ بطنه عند السحور اعتقادًا بأن اليوم طويل، والعمل كثير، والإجهاد شديد.

استعن بالله ولا تعجز، هي مسألة تحتاج إلى عزم وإرادة، وفيك هذه الإرادة أن تقوم عن الطعام قبل أن تشبع، جِرب مرة واستطعم هذه الخفة في جسدك، وستجد أنك صرت نشيطًا إلى صلاة الفجر في المسجد، صرت نشيطًا إذا أفطرت، عجلت الفطر، صليت المغرب ثم أكلت بعد ذلك دون أن تمتلئ، تذهب لصلاة التراويح بخشوع وخضوع لله سبحانه وتعالى، تستلذ معاني القرآن، تستشعر كل آية تقرأ من كتاب الله عز وجل. لكن البطنة تذهب الفطنة، الدم الذي يجب أن يصعد إلى العقل ينزل إلى البطن ليهضم فلا يقوى على قيام ولا على قرآن ولا على شيء، فهذا مفتاح ضروري جدًا تعاهد الله عليه.

هناك مسلمون كثر يقولون نحن نصوم ولا نجوع، وهذا من الشره الذي أصابوه قبل الفجر وبعد المغرب؛ المحلات ممتلئة بأنواع جديدة وعديدة ومكسرات وأنواع لا تظهر إلا في رمضان! أقول يا إخواني إن الصيام يجعل الإنسان يحس بآلام الفقراء، آلام الجوعى، آلام المحتاجين، نجوع يومًا فنذكر ربنا، ونشبع يومًا فنشكر ربنا، الذكر والشكر مطلوبان لكن الإنسان يمتلئ ويفخر أنه لا يجوع طوال اليوم.

"فمن أكثر من الإفطار بعد صيام طويل كمن بنى قصرًا وهدم مصرًا"، بنى قصراً وهدم بلداً بالكامل، بنيت قصرًا طوال اليوم وتأتي المغرب وترى المائدة مليئة فتهجم، ابدأ بتمرة ، أو شربة ماء أو لبن ، لأن النبي يقول: "من وجد تمراً، فليفطر عليه، ومن لا يجد فليفطر على الماء، فإنه طهور". وهذه مادة سكرية تصل بسرعة إلى العين، وتعطى المخ إشارة بأن السكريات الموجودة في التمر كافية وخالية من الدهون وتذهب إلى العقل، وتعطي إشارة أن الإنسان أخذ قسطاً كبيراً لم يعد جوعاناً كما كان، ثم تصلي المغرب و تعود ، تكون المعدة قد هضمت التمرة مع جرعة الماء ، ويرجى أن يتحقق ما جاء في الحديث "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله".

وليس كهذا الذي يرى أن الحياة شراب وطعام ولهو ومنام فإذا لم تنلها فعلى الدنيا السلام! لا! الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12] ولسنا كذلك، نحن آدميون ونحن مسلمون لنا صبغة خاصة كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة: ١٣٨).

البرنامج الثالث: قراءة القرآن:

ما كُرم شهر رمضان إلا من أجل القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: من الآية ١٨٥)، وروى البيهقي وأحمد والحاكم بسندهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أَيْ رَبِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفعان".

لو اقتصدنا في الطعام، نسمع القرآن غضًا طريًا كما أنزل، نذهب إلى البيت ونمسك بالمصحف، أريد من كل أخ وكل أخت أن يمسك القرآن ويعزم أن يختم القرآن مرة في رمضان إذا كنت تقود السيارة إلى عمل في مكان بعيد ضع شريطًا في السيارة واستمع بإنصات: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: ٢٠٤)

مهم جدًا أن تختم القرآن في رمضان كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، كان جبريل يراجعه القرآن في كل عام، لا بد أن نسعى لهذا لأقصى ما نستطيع لأن القرآن حقيقة هذا النور الذي بغيره لا نستطيع إلا أن نكون أشقياء لقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: ٢٦ ).

وقد كان أحد الصحابة يقول: لي ختمة كل أسبوع، وختمة كل شهر، وختمة كل سنة، وختمة بدأتها منذ عشرين عامًا لم أنتهِ منها إلى الآن. اليوم أريد من كل أخ وهو يقرأ ورده القرآني بالليل أو بعد الفجر أن يلتقط آية انفعلت بها مشاعره، ونبض لها قلبه، والتفت إليها عقله، يرددها طوال اليوم، يعيش معها، ستصنعه من جديد، ستغير كثيرًا جدًا من العادات المركوزة في النفس. ستنقل الإنسان من الانشغال بأشياء تافهة حقيرة، إلى معالي الأمور، "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها".

أريد أن نرتاد مقارئ القرآن بالمساجد، ونتعلم الترتيل {ورتِّلِ الُْقرآن َترتِيًلا} [المزمل:4]، {...وأُمِرت أَن أَكون مِن الْمسلِمِين* وأَن أَتُْلوَ القُرآن...}[النمل:91-92]، والتلاوة قراءة بنغم حتى تمتع العينين والقلب والعقل والوجدان فيتحول القرآن إلى جزء من كيانك، من حياتك، لا تستطيع أن تأكل يوماً ثم تهجر القرآن، لا تستطيع أن تمتد بك الأيام دون أن تختم القرآن من أوله إلى آخره، حالاً على أوله مرتحلًا إلى آخره، قراءة أواستماعاً أو هما معًا، ثم تدبر بالعقل، وتأثر بالقلب وتغير بالنفس في رمضان شهر القرآن.

البرنامج الرابع: القيام:

لا تعط موعدًا وقت صلاة التراويح، حرره لله تعالى، واجعل موعدك مع الله في القيام في رمضان موعدًا ثابتًا، هل هناك أحد عنده امتحان يعطي موعدًا في وقت الامتحان؟ لم يحدث أن أحدًا عنده مقابلة مع شخص مسئول وأعطى موعداً آخر في نفس الوقت.

نحن في موعد مع الله كل صلاة، وبخاصة صلاة القيام؛ لأن هناك أحاديث خاصة في الصحيحين: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

تخيل لو صلينا ٣٠ ركعة كل يوم، ١٧ فريضة، و١٣ ركعة نافلة في شهر من الشهور العادية تأخذ ثواب ٣٠٠ ركعة، إلا في شهر رمضان تضاعف سبعين ضعفًا، هذا كم هائل من الحسنات يفوتنا لو تركنا التراويح!

قل لي يا أخي: هل جلوسك أمام التلفاز أو جلوسك مع الأصحاب أو في المقاهي أو في السيارات أو في غيرها يمكنك أن تنال مثل هذا الأجر الوفير الكثير؟ يا أخي الكريم أوقف حياتك في هذه الأوقات لله تعالى، وإذا كنت مشغولاً وقت صلاة التراويح صلِها في البيت مع الأهل، أو صلها وحدك لكن لا تتركها تفوتك أبدًا، فهي غنيمة باردة غنيمة كبيرة تصنع في الفؤاد قوة هائلة جدًا" .
‏١٣‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١٠:٠٢ م‏
من تراث الأزهر رمضان بين تقاليد الماضي وهزائم الحاضر للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507 ⚫️ هدية العدد t.me/klmtuhaq/511 ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة t.me/klmtuhaq/480 للجسد الإنساني وقوده الذي يحيا به ويتحرك، ويستحيل حرمان هذا الجسد من مصادر وجوده ونمائه وتنقله هنا وهناك! التجويع التام يقتله، والحرمان من عناصر رئيسية يثير الاعتلال في كيانه، ويفرض عليه الذبول واللغوب. ولم يجئ في شرع الله تكليف من هذا النوع المحرج، بل جاء في السنة استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء: ((أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت)). لكن الواجدين من الناس عندما يطعمون لا يكتفون بتناول الغذاء المطلوب لأبدانهم، بل يلتهمون مقادير أكبر.. كلٌّ على قدر نهمته وطاقته!! ونحن نفتنُّ في تزويد أنفسنا بأزيد من حاجتها، والرغبات تمتدُّ مع التلبية المستمرة، وتألف ما اعتادت، وتطلبه إن فاتها !! وهذا الجسد قادر على اكتناز ما يفرض عليه إما بدانة مفرطة، أو قبولاً لما يشحن به، ثم عملا صوريًّا فيه، ثم خلاصا معنتاً منه!! وهو الخاسر في هذا الجهد الضائع، والحياة العاقلة من حوله تقول: لو كان هذا نصيب معدة فارغة لكان خيرا له ولها، ولكان أسعد وأرشد، وقديما قيل: والنفس طامعة إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع!! لعل فريضة الصيام تذكرنا بهذه الحقيقة النفسية التائهة، لكن هناك شيء آخر يجيء رمضان ليذكرنا به نحن- العرب والمسلمين- في أقطار الأرض كلِّها. نعم، إذا كانت شهية بعض الناس مفتوحة للمزيد من ملذات الدنيا، فما أحرى المنهزمين بأن تنكمش أيديهم، وتغصَّ حلوقهم، وإذا كان أهل الأديان كلها يمرحون ويهشون، فما أحرى بني الإسلام بالصيام عن فنون المتع وألوان السرور. ذلك أنَّ المرحلة التي يمرون بها لا تتحمل من ذلك قليلًا ولا كثيرًا.. في أعقاب المتاعب التي تصيب الأمم، وتنتظم آلامها الأفراد والجماعات، يحدث تغير شامل في السلوك القومي العام، ويزهد الصغار والكبار في فنون من المتع كانوا من قبل يألفونها، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا أيام السلام بها. وهذه عادة عربية قديمة، كان أسلافنا الأوائل إذا نال منهم عدو أو حل بهم مكروه، هجروا تقاليد السرف والترف، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون، وما يسمح أحدهم لنفسه بسرور غامر، وضحك عال إلا إذا نال ثأره، أو استردَّ ما فقده، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به، فإذا تمَّ له ما يبغى قال وهو مستريح: فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أكَادُ أغَصُّ بالماءِ الفُراتِ وقد نزل أبو سفيان، وجمهور أهل مكة على هذه العادة بعد هزيمتهم في معركة بدر، فحلف أبو سفيان أن يحرم نفسه شتى الملذات حتى يدرك ثأره من محمد... إنَّ الأثر النفسي العظيم لفريضة الصيام هو تدريب المؤمن على ضبط نفسه، وإحكام أمره وتقييد شهواته، فهو إذ يترك بعض الأعمال المباحة يتمرَّن على ترك جميع الأعمال المحظورة، أو التي تفرض ظروف المروءة وأعباء الكفاح أن يتركها، وقديما قال رجل عزيز صلب: يَقُولُونَ هَذَا مَوْرِدٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ولكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا !! ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب طاقة كبيرة على الحياة مهما تباينت ظروفها، واختلف عليها العسر واليسر، والانكسار والانتصار، ولقد علَّم أصحابه أنَّ الاستسلام للشهوات المادية، والحرص على نمط معين من الملذات سقوط بالهمة، وخور في العزيمة، واسترخاء مع الشيطان. قال عليه الصلاة والسلام ... (( إنَّما أخشَى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بطونِكم وفروجِكم ومُضلَّاتِ الهوَى)) ... وقال- يصف عشاق الليونة والرخاوة والمظاهر الجوفاء- (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة). والقطيفة والخميصة أنواع من الأقمشة الملبوسة والمفروشة، تمتاز بالفخامة والنعومة، يحرص عليها طلاب الراحة وعبيد المثل الدنيا لا المثل العليا. ويظهر أنَّ بعض المسلمين لا يستفيدون من صيامهم هذه الآثار النفسية والاجتماعية التي تعين على خلق شعوب مجاهدة تتحمل متاعب الحصار الاقتصادي والعسكري، وأنهم حريصون في جوانب كثيرة من حياتهم على تقاليد اليسار والسعة والتشبث بما ألفوه أيام السلام والسلامة! وما نفكر في تحريم مباح، ولا في زجر الناس عن طيبات أُحلَّت لهم، ولكنا نفكر في مواجهة العدو المتربص وضرورة وعي الأساس الأوحد للقائه، وهو أنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. عندما أعلن غاندي المقاطعة السلبية، وحمل شعبه على الرضا بخيوط المغزل الهندي، وهجر الإنتاج الرائع لمصانع إنجلترا ونسيجها الرقيق الجيد- كان ذلك (الصيام) بداية التحرر ونهاية الاستعمار، ولذلك يقول الشاعر العربي رشيد سليم الخوري: لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمُ مِلْيون مُسْلِمِ إنني ألفت أنظار قومي إلى أننا أمام جهاد شاق المراحل، ثقيل التكاليف، وأنَّ النجاح فيه يتطلب من الآن نظرة عابسة، ورفضًا لصنوف المباهج!! ترى هل أستطيع أن أقترح إلغاء أفراح الأعياد؟ والاكتفاء بشعائرها الدينية الرصينة وحسب؟ إنَّ ولع العرب الشديد باللهو واللعب منتهٍ بهم بتة إلى التلاشي، ودلالته واضحة على موت القلوب وقبول الدنايا، وعشق الدنيا وكراهية الموت.. إنَّ عبادة الحياة، وتكريس القوة والوقت لها وحدها، علة قديمة بين الناس، وهي العلة التي أرخصت القيم الرفيعة، وألهبت الغرائز الوضيعة، وصرفت القصد عن الله، وعلَّقت الهمة بالحاضر القريب، ونسيت ما عداه!! في المجتمعات التي فتكت بها هذه العلة يقول جلَّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] ويقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29، 30]. ومظاهر هذه العلة معروفة في انتهاب اللذات من غير شبع، والبحث عنها دون اكتراث بحل أو حرمة، واعتبار الوجود الأرضي هو الإطار الأوحد للحس والإدراك. فإن فات فليس عنه عوض، وإن أقبل فيجب التفاني فيه، وارتشافه حتى الثمالة! إنَّه لا شيء بعده يرتقب!! وأحسب أنَّه في هؤلاء يقول جلَّ شأنه وهو يذيقهم عذابه: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين} [غافر: 75، 76]. والمدنية الحديثة قد ضاعفت لأبنائها الفرص لعبادة الحياة والعبِّ منها دون ارتواء، وذلك أنَّ الشهوة تُغري بالشهوة كما أشرنا آنفًا، والرغبات الإنسانية قد يضرُّ بها القرب، ولا يزيدها الظفر إلا اشتعالًا ... والأديان في أوربا وأمريكا عجزت عجزًا تامًّا عن علاج هذا السعار لقصورها الذاتي أولًا، ولاشتغالها مع ذلك بمحاربة الإسلام بدل أن تتعاون معه على فعل شيء ما يحفظ على الإنسانية مستقبلها المتداعي.. والغريب أن المسلمين نافسوا غيرهم في التهاوى على هذه المتع، والتشبع منها جهد المستطاع. قد تقول: وما الغرابة في ذلك؟ أليسوا بشرًا كالبشر؟ وأجيب: إنني لا أنكر على المسلمين – خاصة – أن يشاركوا الأوروبيين والأمريكيين في ألوان المتاع التي اخترعوها. إنني قد أفهم أن يعود رواد الفضاء من رحلة مضنية ليلتمسوا بعض النزه البريئة أو المريبة في ليل أو نهار. أما الذين يتسكعون بين دورهم وأجران القمح والأرز، أو الذين يتركون خيامهم على مدى سهم في مراعيهم الساذجة، أو الذين يركبون سيارتهم ليجلسوا في الدواوين محسودين لا مجهودين .. أو .. أو فما لهؤلاء والبحث عن اللذات المخترعة في الشرق أو الغرب؟ إنَّ بعض الناس يذهب إلى العواصم العالمية المرموقة، ثم يعود ليتحدث عن لياليها الصاخبة!! فهلا تحدث عن أيامها الجادة، وعن العرق المتصبب من أجساد الكادحين للصغار والكبار على سواء؟؟ إنَّ المهندس هناك قد يغبر وجهه وملبسة كله طوال النهار، ثم ينطلق بعد ذلك ليستجم وفق ما يفهم ويعتاد. ويوجد عندنا من يقلده في الانطلاق الأخير، ولا يتأسى به قيد أنملة في الكفاح الذي سبقه!! أيُّ بلاء أصاب العرب والمسلمين حتى عموا عما يجب أن يرى، وحملقوا عيونهم فيما يجب أن تغضَّ عنه، وتسترخي بإزائه؟ إنهم لو فقهوا سرَّ الصيام وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه لكان لهم موقف آخر.. بل لو أنهم أدركوا ما كانوا عليه، وما صاروا إليه، وما تبيته القوى المتربصة بهم، لكان لهم قبل الصيام صيام، وقبل القيام سهر يطير معه المنام!! من سنين طوال ورمضان يستقبله العرب والمسلمون بطريقة رتيبة: روايات أقلُّها جاد وأكثرها هازل، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية. أغانٍ بعضها ديني، والآخر لا دين له تشنِّف الآذان. فكاهات تخلق الأجواء الضاحكة وتسلي الجماهير التائهة. مواعظ تقليدية ممجوجة يفرُّ أغلب الناس من سماعها، أو كتابات إسلامية في موضوعات مختارة عن عمد لتخدير الفكر، وتفتير الهمم. صور جميلة أو دميمة للمساجد والآثار الإسلامية.. أحفال باهتة جرى رسمها وإخراجها بحيث تنعدم فيها الروح ويضعف التأثير. إنَّ أعداء الإسلام لا يطلبون من أمَّة الإسلام أن تفعل بنفسها أكثر من ذلك. لما مات أبو امرئ القيس الخليع الضليل، قال هذا الشاعر يصف ما سيفعل: اليوم خمر وغدًا أمر! لقد جعل لسكره حدًّا ينتهي عنده، إنه اليوم وحسب. وما امرؤ القيس وهو يجاهد لاستعادة مجده، ويقول لصاحبه يسليه عن هموم الكفاح ومشقات الضرب في الأرض: فقلتُ لَهُ لا تبكِ عينُكَ إنَّما ... نُحاول مُلكاً أو نموتُ فنُعذرا !! لكن جمهرة كبيرة من شباب العرب لا يزالون يقولون: اليوم خمر وغدًا خمر.. فمتى الصحو؟ ألا يستحق المسجد الأقصى وقفة تدبر واستعبار، يتلاوم فيها المفرطون ثم يغضبون لله غضبة تمحو العار، وتدرك الثأر؟! * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الشيخ محمد الغزالي، رمضان بين تقاليد الماضي وهزائم الحاضر، مجلة الوعي الإسلامي، السنة الثامنة، عدد93، رمضان 1392، الموافق 8 أكتوبر 1972م.
من تراث الأزهر

رمضان بين تقاليد الماضي وهزائم الحاضر

للشيخ محمد الغزالي رحمه الله


⚫️ حمّل العدد الجديد t.me/klmtuhaq/507

⚫️ هدية العدد
t.me/klmtuhaq/511

⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
t.me/klmtuhaq/480

للجسد الإنساني وقوده الذي يحيا به ويتحرك، ويستحيل حرمان هذا الجسد من مصادر وجوده ونمائه وتنقله هنا وهناك!

التجويع التام يقتله، والحرمان من عناصر رئيسية يثير الاعتلال في كيانه، ويفرض عليه الذبول واللغوب.

ولم يجئ في شرع الله تكليف من هذا النوع المحرج، بل جاء في السنة استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء: ((أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت)).

لكن الواجدين من الناس عندما يطعمون لا يكتفون بتناول الغذاء المطلوب لأبدانهم، بل يلتهمون مقادير أكبر.. كلٌّ على قدر نهمته وطاقته!! ونحن نفتنُّ في تزويد أنفسنا بأزيد من حاجتها، والرغبات تمتدُّ مع التلبية المستمرة، وتألف ما اعتادت، وتطلبه إن فاتها !!

وهذا الجسد قادر على اكتناز ما يفرض عليه إما بدانة مفرطة، أو قبولاً لما يشحن به، ثم عملا صوريًّا فيه، ثم خلاصا معنتاً منه!! وهو الخاسر في هذا الجهد الضائع، والحياة العاقلة من حوله تقول: لو كان هذا نصيب معدة فارغة لكان خيرا له ولها، ولكان أسعد وأرشد، وقديما قيل:

والنفس طامعة إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع!!

لعل فريضة الصيام تذكرنا بهذه الحقيقة النفسية التائهة، لكن هناك شيء آخر يجيء رمضان ليذكرنا به نحن- العرب والمسلمين- في أقطار الأرض كلِّها.

نعم، إذا كانت شهية بعض الناس مفتوحة للمزيد من ملذات الدنيا، فما أحرى المنهزمين بأن تنكمش أيديهم، وتغصَّ حلوقهم، وإذا كان أهل الأديان كلها يمرحون ويهشون، فما أحرى بني الإسلام بالصيام عن فنون المتع وألوان السرور.

ذلك أنَّ المرحلة التي يمرون بها لا تتحمل من ذلك قليلًا ولا كثيرًا.. في أعقاب المتاعب التي تصيب الأمم، وتنتظم آلامها الأفراد والجماعات، يحدث تغير شامل في السلوك القومي العام، ويزهد الصغار والكبار في فنون من المتع كانوا من قبل يألفونها، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا أيام السلام بها.

وهذه عادة عربية قديمة، كان أسلافنا الأوائل إذا نال منهم عدو أو حل بهم مكروه، هجروا تقاليد السرف والترف، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون، وما يسمح أحدهم لنفسه بسرور غامر، وضحك عال إلا إذا نال ثأره، أو استردَّ ما فقده، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به، فإذا تمَّ له ما يبغى قال وهو مستريح:

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً أكَادُ أغَصُّ بالماءِ الفُراتِ

وقد نزل أبو سفيان، وجمهور أهل مكة على هذه العادة بعد هزيمتهم في معركة بدر، فحلف أبو سفيان أن يحرم نفسه شتى الملذات حتى يدرك ثأره من محمد...

إنَّ الأثر النفسي العظيم لفريضة الصيام هو تدريب المؤمن على ضبط نفسه، وإحكام أمره وتقييد شهواته، فهو إذ يترك بعض الأعمال المباحة يتمرَّن على ترك جميع الأعمال المحظورة، أو التي تفرض ظروف المروءة وأعباء الكفاح أن يتركها، وقديما قال رجل عزيز صلب:

يَقُولُونَ هَذَا مَوْرِدٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ولكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا !!

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب طاقة كبيرة على الحياة مهما تباينت ظروفها، واختلف عليها العسر واليسر، والانكسار والانتصار، ولقد علَّم أصحابه أنَّ الاستسلام للشهوات المادية، والحرص على نمط معين من الملذات سقوط بالهمة، وخور في العزيمة، واسترخاء مع الشيطان.

قال عليه الصلاة والسلام ... (( إنَّما أخشَى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بطونِكم وفروجِكم ومُضلَّاتِ الهوَى)) ... وقال- يصف عشاق الليونة والرخاوة والمظاهر الجوفاء- (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة). والقطيفة والخميصة أنواع من الأقمشة الملبوسة والمفروشة، تمتاز بالفخامة والنعومة، يحرص عليها طلاب الراحة وعبيد المثل الدنيا لا المثل العليا.

ويظهر أنَّ بعض المسلمين لا يستفيدون من صيامهم هذه الآثار النفسية والاجتماعية التي تعين على خلق شعوب مجاهدة تتحمل متاعب الحصار الاقتصادي والعسكري، وأنهم حريصون في جوانب كثيرة من حياتهم على تقاليد اليسار والسعة والتشبث بما ألفوه أيام السلام والسلامة!

وما نفكر في تحريم مباح، ولا في زجر الناس عن طيبات أُحلَّت لهم، ولكنا نفكر في مواجهة العدو المتربص وضرورة وعي الأساس الأوحد للقائه، وهو أنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. عندما أعلن غاندي المقاطعة السلبية، وحمل شعبه على الرضا بخيوط المغزل الهندي، وهجر الإنتاج الرائع لمصانع إنجلترا ونسيجها الرقيق الجيد- كان ذلك (الصيام) بداية التحرر ونهاية الاستعمار، ولذلك يقول الشاعر العربي رشيد سليم الخوري:

لَقد صامَ هِنْدِيٌّ فَجَوَّعَ دَوْلَةً فهَلْ ضارَ عِلْجاً صَوْمُ مِلْيون مُسْلِمِ

إنني ألفت أنظار قومي إلى أننا أمام جهاد شاق المراحل، ثقيل التكاليف، وأنَّ النجاح فيه يتطلب من الآن نظرة عابسة، ورفضًا لصنوف المباهج!!

ترى هل أستطيع أن أقترح إلغاء أفراح الأعياد؟ والاكتفاء بشعائرها الدينية الرصينة وحسب؟

إنَّ ولع العرب الشديد باللهو واللعب منتهٍ بهم بتة إلى التلاشي، ودلالته واضحة على موت القلوب وقبول الدنايا، وعشق الدنيا وكراهية الموت..

إنَّ عبادة الحياة، وتكريس القوة والوقت لها وحدها، علة قديمة بين الناس، وهي العلة التي أرخصت القيم الرفيعة، وألهبت الغرائز الوضيعة، وصرفت القصد عن الله، وعلَّقت الهمة بالحاضر القريب، ونسيت ما عداه!!

في المجتمعات التي فتكت بها هذه العلة يقول جلَّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] ويقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29، 30].

ومظاهر هذه العلة معروفة في انتهاب اللذات من غير شبع، والبحث عنها دون اكتراث بحل أو حرمة، واعتبار الوجود الأرضي هو الإطار الأوحد للحس والإدراك.

فإن فات فليس عنه عوض، وإن أقبل فيجب التفاني فيه، وارتشافه حتى الثمالة! إنَّه لا شيء بعده يرتقب!!

وأحسب أنَّه في هؤلاء يقول جلَّ شأنه وهو يذيقهم عذابه: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين} [غافر: 75، 76].

والمدنية الحديثة قد ضاعفت لأبنائها الفرص لعبادة الحياة والعبِّ منها دون ارتواء، وذلك أنَّ الشهوة تُغري بالشهوة كما أشرنا آنفًا، والرغبات الإنسانية قد يضرُّ بها القرب، ولا يزيدها الظفر إلا اشتعالًا ...

والأديان في أوربا وأمريكا عجزت عجزًا تامًّا عن علاج هذا السعار لقصورها الذاتي أولًا، ولاشتغالها مع ذلك بمحاربة الإسلام بدل أن تتعاون معه على فعل شيء ما يحفظ على الإنسانية مستقبلها المتداعي.. والغريب أن المسلمين نافسوا غيرهم في التهاوى على هذه المتع، والتشبع منها جهد المستطاع.

قد تقول: وما الغرابة في ذلك؟ أليسوا بشرًا كالبشر؟

وأجيب: إنني لا أنكر على المسلمين – خاصة – أن يشاركوا الأوروبيين والأمريكيين في ألوان المتاع التي اخترعوها.

إنني قد أفهم أن يعود رواد الفضاء من رحلة مضنية ليلتمسوا بعض النزه البريئة أو المريبة في ليل أو نهار.

أما الذين يتسكعون بين دورهم وأجران القمح والأرز، أو الذين يتركون خيامهم على مدى سهم في مراعيهم الساذجة، أو الذين يركبون سيارتهم ليجلسوا في الدواوين محسودين لا مجهودين .. أو .. أو فما لهؤلاء والبحث عن اللذات المخترعة في الشرق أو الغرب؟

إنَّ بعض الناس يذهب إلى العواصم العالمية المرموقة، ثم يعود ليتحدث عن لياليها الصاخبة!! فهلا تحدث عن
أيامها الجادة، وعن العرق المتصبب من أجساد الكادحين للصغار والكبار على سواء؟؟

إنَّ المهندس هناك قد يغبر وجهه وملبسة كله طوال النهار، ثم ينطلق بعد ذلك ليستجم وفق ما يفهم ويعتاد.

ويوجد عندنا من يقلده في الانطلاق الأخير، ولا يتأسى به قيد أنملة في الكفاح الذي سبقه!!

أيُّ بلاء أصاب العرب والمسلمين حتى عموا عما يجب أن يرى، وحملقوا عيونهم فيما يجب أن تغضَّ عنه، وتسترخي بإزائه؟

إنهم لو فقهوا سرَّ الصيام وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه لكان لهم موقف آخر..

بل لو أنهم أدركوا ما كانوا عليه، وما صاروا إليه، وما تبيته القوى المتربصة بهم، لكان لهم قبل الصيام صيام، وقبل القيام سهر يطير معه المنام!!

من سنين طوال ورمضان يستقبله العرب والمسلمون بطريقة رتيبة: روايات أقلُّها جاد وأكثرها هازل، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية. أغانٍ بعضها ديني، والآخر لا دين له تشنِّف الآذان. فكاهات تخلق الأجواء الضاحكة وتسلي الجماهير التائهة. مواعظ تقليدية ممجوجة يفرُّ أغلب الناس من سماعها، أو كتابات إسلامية في موضوعات مختارة عن عمد لتخدير الفكر، وتفتير الهمم.

صور جميلة أو دميمة للمساجد والآثار الإسلامية.. أحفال باهتة جرى رسمها وإخراجها بحيث تنعدم فيها الروح ويضعف التأثير.

إنَّ أعداء الإسلام لا يطلبون من أمَّة الإسلام أن تفعل بنفسها أكثر من ذلك.

لما مات أبو امرئ القيس الخليع الضليل، قال هذا الشاعر يصف ما سيفعل:

اليوم خمر وغدًا أمر!

لقد جعل لسكره حدًّا ينتهي عنده، إنه اليوم وحسب.

وما امرؤ القيس وهو يجاهد لاستعادة مجده، ويقول لصاحبه يسليه عن هموم الكفاح ومشقات الضرب في الأرض:
فقلتُ لَهُ لا تبكِ عينُكَ إنَّما ... نُحاول مُلكاً أو نموتُ فنُعذرا !!

لكن جمهرة كبيرة من شباب العرب لا يزالون يقولون: اليوم خمر وغدًا خمر.. فمتى الصحو؟

ألا يستحق المسجد الأقصى وقفة تدبر واستعبار، يتلاوم فيها المفرطون ثم يغضبون لله غضبة تمحو العار،

وتدرك الثأر؟! *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ محمد الغزالي، رمضان بين تقاليد الماضي وهزائم الحاضر، مجلة الوعي الإسلامي، السنة الثامنة، عدد93، رمضان 1392، الموافق 8 أكتوبر 1972م.
‏١٠‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١:٤٧ م‏
لقراءة المقال كاملاً: fb.com/Klmtuhaq/posts/679756899216846
لقراءة المقال كاملاً:
fb.com/Klmtuhaq/posts/679756899216846
‏٠٩‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ٦:٠٣ م‏
متابعينا الأعزاء.. أولاً: كل عام أنتم بخير وتقبل الله منا ومنكم ثانياً: تتعرض صفحتنا لتضييق مستمر بواسطة إدارة فيسبوك زعماً منها أننا "ننتهك معايير المجتمع"، ويقصدون بالطبع حديثنا المتعلق بمقاومة هذه الأمة والتنظير لتحليها بالقوة على كافة الأصعدة، وتقرير عدم ذوبانها وبيان أنها أمة عصية على الانمحاء والاختفاء، وفضحنا لأعدائها سواء من الصهاينة أعداء الله أو عملائهم من الخونة. لذلك وكما ترون في الصورة المرفقة قد وصلت جودة صفحتكم "مجلة كلمة حق" إلى اللون الأحمر وأعلى درجات العُرضة للحذف، وذلك بعد مراحل سابقة عملت فيها إدارة فيسبوك على تقليل انتشار الصفحة وتقييد وصولها إلى حتى المعجبين بها (ضمن عقوبات مقررة ومكتوبة لديهم تبعاً لمستويات جودة الصفحة). ومسؤوليتنا أن نطلعكم على ذلك كون هذه المجلة هي مجلتكم في المقام الأول وليست تابعة والحمد لله لأي جهة أو حزب وقائمة ومستمرة حتى الآن بفضل تشجيعكم ونشركم لها. في حالة حذف فيسبوك لهذه الصفحة، تجدوننا على الروابط التالية: صفحتنا البديلة على فيسبوك fb.com/klmtuhaq2 تويتر: twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: t.me/klmtuhaq نتشرف بمتابعتكم
متابعينا الأعزاء..

أولاً: كل عام أنتم بخير وتقبل الله منا ومنكم

ثانياً: تتعرض صفحتنا لتضييق مستمر بواسطة إدارة فيسبوك زعماً منها أننا "ننتهك معايير المجتمع"، ويقصدون بالطبع حديثنا المتعلق بمقاومة هذه الأمة والتنظير لتحليها بالقوة على كافة الأصعدة، وتقرير عدم ذوبانها وبيان أنها أمة عصية على الانمحاء والاختفاء، وفضحنا لأعدائها سواء من الصهاينة أعداء الله أو عملائهم من الخونة.

لذلك وكما ترون في الصورة المرفقة قد وصلت جودة صفحتكم "مجلة كلمة حق" إلى اللون الأحمر وأعلى درجات العُرضة للحذف، وذلك بعد مراحل سابقة عملت فيها إدارة فيسبوك على تقليل انتشار الصفحة وتقييد وصولها إلى حتى المعجبين بها (ضمن عقوبات مقررة ومكتوبة لديهم تبعاً لمستويات جودة الصفحة).

ومسؤوليتنا أن نطلعكم على ذلك كون هذه المجلة هي مجلتكم في المقام الأول وليست تابعة والحمد لله لأي جهة أو حزب وقائمة ومستمرة حتى الآن بفضل تشجيعكم ونشركم لها.

في حالة حذف فيسبوك لهذه الصفحة، تجدوننا على الروابط التالية:

صفحتنا البديلة على فيسبوك
fb.com/klmtuhaq2
تويتر:
twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام:
t.me/klmtuhaq

نتشرف بمتابعتكم
‏٠٣‏/٠٥‏/٢٠٢٠ ١:٢٩ م‏
الإسلام ومنطق القوة د. عطية عدلان الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. ليس خافياً على أحد من العالمين أنّ ما يسمى بالمجتمع الدوليّ الآن لا يحترم إلا القويّ ولا يدين إلا للقوة، ومع أنّ القوة الحقيقية هي القوة في مداها الواسع الذي يشمل الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والعلمية؛ فإنّنا نجد أنّ القوة الخشنة التي تقوم على الأذرع الأمنية والعسكرية للسياسة الواعية المحنكةِ مقدمةٌ على كل اعتبار آخر من اعتبارات القوة. وقد أمدتنا التجارب العديدة بالأدلة التي تبلغ حدّ التواتر والقطع على ثبوت هذه الحقيقة واستقرارها، ولقد سعد هذا الجيل بتوافر هذه الشواهد الواقعية البالغة في الإقناع حدّ الإشباع، لكنه لم يسعد - إلا في القليل النادر من النماذج - بثمرتها وفوائدها، وهذه النماذج ذاتها صارت من جمهرة الأدلة والشواهد، أولها تجربة المقاومة الفلسطينية المتمثلة في حماس والجهاد، والتي رغم كل التحديات التي ربما أعقبت بعض الهنات لا تزال صاعدة وواعدة وملهمة، وثانيها نموذج طالبان، تلك الحركة التي نسيها الخلق فترة من الزمان كانت كافية بأن تخرج بعدها على الدنيا لتجلس بنديّة شامخة على طاولة المفاوضات مع الدولة المتألهة على العالم المعاصر (أمريكا)، وثالثها: ما يسطره الأتراك الآن على أرض سوريا وشرقي المتوسط مما يعد إرهاصاً لميلاد قوة جديدة على المسرح الدوليّ. فما موقف الإسلام من هذا المنطق الذي يجبر المتصلف العنيد على أن ينحني ويلين، ويحمل من أعطى ظهره على أن يستدير ليُقبل بوجهه، ويلزم من اعتاد التجاوز بأن يقف عند حدّه وأنفه راغم؟ أي: ما موقف الإسلام وشريعة الإسلام من منطق القوة؟ لو إنَّ إنساناً لا يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام وفتوحات المسلمين وأمجادهم العسكرية، وقرأ القرآن الكريم مجرداً من كل ما يدور حوله من تفاسير وتطبيقات وأقاويل وتأويلات، وكان لديه من العقل ما يسمح له بمطالعة الصحف اليومية فقط؛ لأيقن أنّ الأمّة التي أخرجها هذا الكتاب ملكت الكوكب الأرضيّ حتى لم تشرق الشمس يوماً على رقعة من الأصقاع نادَّةٍ عن سلطانها أو شاذّةٍ عن هيمنتها. إنّ القرآن الكريم - ابتداء - ليس فيه آية واحدة ولا بعض آية تشتمل على نفي أو استبعاد لمبدأ استخدام القوة في الدعوة إلى هذا الدين وفي التمكين له، ومن زعم شيئاً من ذلك فدونه القرآنُ مكيُّهُ ومدنيُّهُ على السواء؛ فليشمر عن ساعديه وليأتنا بشيء يرفع عنه الاتهام بأنه عريض القفا، قد يقول قائلهم - وكم بالأقوال من فظائع أهوال - إنّ القرآن المكيّ دعا في أكثر من موضع إلى الصفح والعفو والإعراض، ومع أنّ هذه الدعوة إن صحت لا تضر بأصل القضية؛ لأنّ جميع مَن حملها على نفي القتال قال بأنّها منسوخة بآيات الجهاد ولاسيما آية السيف، لكنني مُصِرٌّ على الذهاب بالحقيقة إلى ما هو أبعد وأعمق من هذا كله. أجل؛ لقد قال الله تعالى في آيات كثيرة: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وغير ذلك من التوجيهات الإلهية للمسلمين التي نزل معظمها في مكة وبعضها في المدينة، لكن لا علاقة لهذه الآيات بمسألتي السلم والحرب ولا بمبدأ استخدام القوة من حيث إقراره أو إنكاره، إنّما هي توجيهات أخلاقية وحسب، فالعفو والصفح والإعراض لا يعني قط أنّ الدعوة هذه لا اعتماد لها على القوة ولا سبيل لها إلا الوعظ والنصح والإرشاد، وليس فيها وعد للكافرين المشركين بأنّ المسلمين سيتركون لهم الأرض يعيثون فيها فساداً كما يشاءون وحسابهم على الله. إنّ المسلم الذي يدعو إلى الله تعالى يصيبه من الناس أذى؛ فلا يصح أن يتحرك بدافع الغضب لنفسه، أو بدوافع اختلط فيها الغضب لله مع الغضب للذات؛ فينتقم ويعاقب، وإنّما عليه أن يصفح الصفح الجميل، وأن يعرض عن الجاهلين، وأن يعفو ما وسعه العفو، ولا علاقة بين ذلك وبين الجهاد إذا جاء أوانه لإماطة الفتنة التي يمارسها الطغاة ليحرموا الناس من دين الله. بل إنّ القرآن المكيّ اشتمل على آيات فيها تلميح يقارب التصريح بأنّ القوة هي الدواء لما أصاب البشرية من أدواء، فهذه على سبيل المثال سورة العاديات وهي مكية بلا خلاف، انظر كيف بدأت وكيف بدأت معهم وإلى أي غاية أسلمتهم؟! (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) ففيها يقسم الله تعالى بالخيل التي تضبح في عدوها، وتوري الشرر باصطكاك سنابكها بالأرض، وتصبّح القوم بالغيرة، فتثير النقع والرعب معه وتتوسط الجمع لتدير رحى المعارك، فإذا سألت: لماذا؟ جاءك الجواب سريعاً بلا إبطاء ولا إمهال: (إنّ الإنسان لربه لكنود)، فالكنود إذا لا علاج له إلا القوة. أمّا القرآن المدنيّ فالحديث فيه عن الجهاد في غزارته يكاد يعدل الحديث عن التوحيد في القرآن المكيّ، إلا أنّ اللافت للنظر ليس كثرة الآيات وحسب، وإنّما علو النبرة وشدتها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة 73) (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة 14) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة 123) (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة 5) (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة 29) (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد 4). هذا هو ديننا وهذا هو كتابنا، ولقد جاء تاريخ الأمة الإسلامية من لدن غزوة بدر إلى فتوح الدولة العثمانية الأخيرة في أوربا والتي بلغت حدود النمسا، جاء هذا التاريخ الزاخر بالأمجاد العسكرية والحافل بالانتصارات والفتوحات مؤكداً تلك الحقائق، وكاشفاً عن طبيعة هذا الدين وطبيعة هذه الأمّة؛ فهذا الدين ما نزل ليكون نِـحلة ينطوي عليها عرب الحجاز، بل نزل ليكون منهاجاً للبشرية كلها إلى يوم الدين، وهذه الأمة ليست أمة منشغلة بمعاشها تاركةً مصير البشرية للأهواء والفتن، بل هي أمة أُخرجت للناس، وعُلمت ولُقنت كيف تنفع الناس. ولا خشية من وجود هذا المبدأ في الدين الإسلاميّ، بل الخشية من سوء التأويل وسوء التنزيل الذي يسيء لهذا المبدأ ويسيء للإسلام بالضرورة، لقد شهدت كثيرٌ من التجارب انحرافاتٍ أحبطت ثمرة الجهاد، بسبب الغلو أو بسبب سوء التطبيق وعدم الالتزام بأحكام الإسلام، والسنن الإلهية لا تحابي أحداً، فللقوة وللدولة وللصراع سنن وقوانين لابد من مراعاتها وإلا نكون مقصرين في واجب الإعداد بل ربما في واجب الجهاد نفسه. هذا تبيان لأمر غاية في الوضوح والبيان، لكن لأننا صرنا نألف الأوهام ونتعايش معها تعايش الغرباء في سفر تتحفه المخاطر والأهوال؛ وجدنا من اللائق المبالغة في التبيان، والله المستعان.
الإسلام ومنطق القوة
د. عطية عدلان
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس خافياً على أحد من العالمين أنّ ما يسمى بالمجتمع الدوليّ الآن لا يحترم إلا القويّ ولا يدين إلا للقوة، ومع أنّ القوة الحقيقية هي القوة في مداها الواسع الذي يشمل الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والعلمية؛ فإنّنا نجد أنّ القوة الخشنة التي تقوم على الأذرع الأمنية والعسكرية للسياسة الواعية المحنكةِ مقدمةٌ على كل اعتبار آخر من اعتبارات القوة.
وقد أمدتنا التجارب العديدة بالأدلة التي تبلغ حدّ التواتر والقطع على ثبوت هذه الحقيقة واستقرارها، ولقد سعد هذا الجيل بتوافر هذه الشواهد الواقعية البالغة في الإقناع حدّ الإشباع، لكنه لم يسعد - إلا في القليل النادر من النماذج - بثمرتها وفوائدها، وهذه النماذج ذاتها صارت من جمهرة الأدلة والشواهد، أولها تجربة المقاومة الفلسطينية المتمثلة في حماس والجهاد، والتي رغم كل التحديات التي ربما أعقبت بعض الهنات لا تزال صاعدة وواعدة وملهمة، وثانيها نموذج طالبان، تلك الحركة التي نسيها الخلق فترة من الزمان كانت كافية بأن تخرج بعدها على الدنيا لتجلس بنديّة شامخة على طاولة المفاوضات مع الدولة المتألهة على العالم المعاصر (أمريكا)، وثالثها: ما يسطره الأتراك الآن على أرض سوريا وشرقي المتوسط مما يعد إرهاصاً لميلاد قوة جديدة على المسرح الدوليّ.
فما موقف الإسلام من هذا المنطق الذي يجبر المتصلف العنيد على أن ينحني ويلين، ويحمل من أعطى ظهره على أن يستدير ليُقبل بوجهه، ويلزم من اعتاد التجاوز بأن يقف عند حدّه وأنفه راغم؟ أي: ما موقف الإسلام وشريعة الإسلام من منطق القوة؟
لو إنَّ إنساناً لا يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام وفتوحات المسلمين وأمجادهم العسكرية، وقرأ القرآن الكريم مجرداً من كل ما يدور حوله من تفاسير وتطبيقات وأقاويل وتأويلات، وكان لديه من العقل ما يسمح له بمطالعة الصحف اليومية فقط؛ لأيقن أنّ الأمّة التي أخرجها هذا الكتاب ملكت الكوكب الأرضيّ حتى لم تشرق الشمس يوماً على رقعة من الأصقاع نادَّةٍ عن سلطانها أو شاذّةٍ عن هيمنتها.
إنّ القرآن الكريم - ابتداء - ليس فيه آية واحدة ولا بعض آية تشتمل على نفي أو استبعاد لمبدأ استخدام القوة في الدعوة إلى هذا الدين وفي التمكين له، ومن زعم شيئاً من ذلك فدونه القرآنُ مكيُّهُ ومدنيُّهُ على السواء؛ فليشمر عن ساعديه وليأتنا بشيء يرفع عنه الاتهام بأنه عريض القفا، قد يقول قائلهم - وكم بالأقوال من فظائع أهوال - إنّ القرآن المكيّ دعا في أكثر من موضع إلى الصفح والعفو والإعراض، ومع أنّ هذه الدعوة إن صحت لا تضر بأصل القضية؛ لأنّ جميع مَن حملها على نفي القتال قال بأنّها منسوخة بآيات الجهاد ولاسيما آية السيف، لكنني مُصِرٌّ على الذهاب بالحقيقة إلى ما هو أبعد وأعمق من هذا كله.
أجل؛ لقد قال الله تعالى في آيات كثيرة: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وغير ذلك من التوجيهات الإلهية للمسلمين التي نزل معظمها في مكة وبعضها في المدينة، لكن لا علاقة لهذه الآيات بمسألتي السلم والحرب ولا بمبدأ استخدام القوة من حيث إقراره أو إنكاره، إنّما هي توجيهات أخلاقية وحسب، فالعفو والصفح والإعراض لا يعني قط أنّ الدعوة هذه لا اعتماد لها على القوة ولا سبيل لها إلا الوعظ والنصح والإرشاد، وليس فيها وعد للكافرين المشركين بأنّ المسلمين سيتركون لهم الأرض يعيثون فيها فساداً كما يشاءون وحسابهم على الله.
إنّ المسلم الذي يدعو إلى الله تعالى يصيبه من الناس أذى؛ فلا يصح أن يتحرك بدافع الغضب لنفسه، أو بدوافع اختلط فيها الغضب لله مع الغضب للذات؛ فينتقم ويعاقب، وإنّما عليه أن يصفح الصفح الجميل، وأن يعرض عن الجاهلين، وأن يعفو ما وسعه العفو، ولا علاقة بين ذلك وبين الجهاد إذا جاء أوانه لإماطة الفتنة التي يمارسها الطغاة ليحرموا الناس من دين الله.
بل إنّ القرآن المكيّ اشتمل على آيات فيها تلميح يقارب التصريح بأنّ القوة هي الدواء لما أصاب البشرية من أدواء، فهذه على سبيل المثال سورة العاديات وهي مكية بلا خلاف، انظر كيف بدأت وكيف بدأت معهم وإلى أي غاية أسلمتهم؟! (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)) ففيها يقسم الله تعالى بالخيل التي تضبح في عدوها، وتوري الشرر باصطكاك سنابكها بالأرض، وتصبّح القوم بالغيرة، فتثير النقع والرعب معه وتتوسط الجمع لتدير رحى المعارك، فإذا سألت: لماذا؟ جاءك الجواب سريعاً بلا إبطاء ولا إمهال: (إنّ الإنسان لربه لكنود)، فالكنود إذا لا علاج له إلا القوة.
أمّا القرآن المدنيّ فالحديث فيه عن الجهاد في غزارته يكاد يعدل الحديث عن التوحيد في القرآن المكيّ، إلا أنّ اللافت للنظر ليس كثرة الآيات وحسب، وإنّما علو النبرة وشدتها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة 73) (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة 14) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة 123) (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة 5) (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة 29) (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد 4).
هذا هو ديننا وهذا هو كتابنا، ولقد جاء تاريخ الأمة الإسلامية من لدن غزوة بدر إلى فتوح الدولة العثمانية الأخيرة في أوربا والتي بلغت حدود النمسا، جاء هذا التاريخ الزاخر بالأمجاد العسكرية والحافل بالانتصارات والفتوحات مؤكداً تلك الحقائق، وكاشفاً عن طبيعة هذا الدين وطبيعة هذه الأمّة؛ فهذا الدين ما نزل ليكون نِـحلة ينطوي عليها عرب الحجاز، بل نزل ليكون منهاجاً للبشرية كلها إلى يوم الدين، وهذه الأمة ليست أمة منشغلة بمعاشها تاركةً مصير البشرية للأهواء والفتن، بل هي أمة أُخرجت للناس، وعُلمت ولُقنت كيف تنفع الناس.
ولا خشية من وجود هذا المبدأ في الدين الإسلاميّ، بل الخشية من سوء التأويل وسوء التنزيل الذي يسيء لهذا المبدأ ويسيء للإسلام بالضرورة، لقد شهدت كثيرٌ من التجارب انحرافاتٍ أحبطت ثمرة الجهاد، بسبب الغلو أو بسبب سوء التطبيق وعدم الالتزام بأحكام الإسلام، والسنن الإلهية لا تحابي أحداً، فللقوة وللدولة وللصراع سنن وقوانين لابد من مراعاتها وإلا نكون مقصرين في واجب الإعداد بل ربما في واجب الجهاد نفسه.
هذا تبيان لأمر غاية في الوضوح والبيان، لكن لأننا صرنا نألف الأوهام ونتعايش معها تعايش الغرباء في سفر تتحفه المخاطر والأهوال؛ وجدنا من اللائق المبالغة في التبيان، والله المستعان.
‏٢٩‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٩:٥٣ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
جائحة كورونا .. كيف وجد العالم طعم الحصار؟!
أحمد قنيطة

يستمر فيروس كورونا الصغير الخفيّ في اجتياح بلاد العالم دولةً بعد دولة، ومدينةً تلو مدينة، وقرية تلو أخرى، حتى بات انتشاره يغطّي معظم جغرافيا العالم، دون تمييزٍ بين دولةٍ مسلمة وأخرى كافرة، فقيرة أو غنية، عظيمةٍ أو وضيعة، ودون تفريقٍ بين ذكرٍ أو أنثى، أبيضٍ أو أسود، صالحٍ أو طالح.
فالجميع أمامه قهره سواسية كأسنان المشط، والكل أمام جبروته خاضعٌ، ومن عظيم بطشه خائف، هذا الجندي من جنود الله قد أصاب العالم بالشلل التام، وجمّد جميع مظاهر الحياة والحيوية في هذا الكوكب، الذي كان قبل أسابيع يضج بالحياة والقوة والعنفوان، ويشهدُ تسارعاً كبيراً في التقنية والتكنولوجيا، ومنافسة حثيثة في الاقتصاد والتسلُّح، حتى باتت القوى العظمى تتنافس للسيطرة على القمر والكواكب، بينما يعيش الملايين من البشر تحت الجوع والقهر والفقر والحصار!

هذا الفيروس الخطير الذي لا يعرف العلماء والخبراء حقيقته بعد، ولم يشعروا بإرهاصات نشأته وتطورّه، ولم يستطيعوا حتى هذا الوقت تفسير تداعياته ولا ظروف انتشاره، ولم يتوصّلوا إلى طرق لعلاجه؛ ما زال يطوف العالم طولاً وعرضاً، ويخطف أرواح المئات من البشر كل يوم، ويصيب الآلاف من الناس في الدول المتطورة التي ظنّ أهلها أنهم قادرون عليها؛ حتى أتاهم هذا المخلوق المجهول ليعلّمهم حقيقة ضعفهم، وعظيم انكسارهم، ويخبرهم بمدى عجزهم، وحجم وهنهم، مهما بلغت قدرتهم وقوتهم، وليجري عليهم سنة الله في الأمم الظالمة التي عتت عن أمرها ربها واستكبرت عن هدي رُسلها.
فهذه الآية البسيطة والرسالة الهيّنة – على عِظمها - لم تصل حد الخسف والنسف، والمسخ والإغراق والإهلاك، علّها تحيي قلوباً غلفاً وعيوناً عمياً وآذاناً صماً، فيعود الناس إلى رشدهم ويؤوب الناس إلى ربهم، فيعطي غنيهم فقيرهم، ويرحم قويهم ضعيفهم: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".

يمضي فيروس كورونا في مهمته - التي لا يعلمُ أحد متى تنتهي إلا الله – ضارباً طوقاً شديداً وحصاراً قاسياً على معظم دول العالم، حيثّ أُغلقت الحدود، وأُوصدت المعابر، وحُظر السفر، وتوقّفت التجارة، ومُنعت التجمعات، وألغيت الحفلات، وعُطّلت المدارس والجامعات، وأجبر الناس على التزام بيوتهم طوعاً أو كرها، لا حول لهم ولا قوة إلا مناجاة الخالق العظيم، أن يكشف عنهم هذا الضر، وأن يرفع عنهم هذا البلاء، وأن يزيح عن البشرية جمعاء هذه الغمّة التي كبّلت الحياة بأغلالٍ من فولاذ.
فها هي إيطاليا تستغيث بجيرانها في أوروبا فلا يرتد إليها سوى صدى صوتها، وها هي إسبانيا تغرق في وحل الأزمة، فتمدّ يدها إلى أصدقائها فلا تعود إلا خائبة، وتلكم فرنسا وألمانيا وسويسرا والمملكة المتحدة يقفون عاجزين خائرين أمام تفشي المرض وسرعة انتشاره، وهاكم أمريكا التي أخضعت معظم دول العالم بقوتها وجبروتها وتطورها العلمي والتكنولوجي تقف صاغرة حائرة لا تستطيع حتى توفير أجهزة التنفّس الصناعي لعشرات الآلاف من الحالات المصابة، شأنها شأن معظم دول العالم.

هذا الحصار الذي يذوق اليوم العالم بأسره مرارته، ويتجرّع الناس علقمه، ويشتكي البشر من قسوته وقهره، هو نفس الحصار الذي يعيش تفاصيله القاتلة الفلسطينيون في غزة، والسوريون في حلب وإدلب، والإيغور في تركستان الشرقية، والروهينغا في أراكان، والأحوازيون في إيران وغيرها، لكنه حصارٌ أشد قسوة وأعظم وطأة، فهو حصارٌ مصحوبٌ بالصواريخ والقنابل، ومقرونٌ بالجوع والحرمان، ومعقودٌ بالقتل والتهجير، ومرتبطٌ بالسجن والتعذيب، ومُجتمِعٌ مع القهر والظلم.
فهل عرف العالم الظالم معنى أن يحاصر في غزة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كم مربع 2 مليون إنسان منذ أربعة عشر عام، وهل ذاقت الشعوب الخائرة الصامتة شيئاً مما عاناه السوريون من حصارٍ خانقٍ عاشوه في مضايا والزبداني والغوطة الشرقية وغيرها، وهل عَلِم العرب والمسلمون الذين أغلقوا مساجدهم وأسواقهم خوفاً من كورونا؛ معنى أن يُغلق السوريون مساجدهم وأسواقهم خوفاً من الصواريخ والبراميل المتفجّرة؟!

هذه هي عاقبة الخذلان للشعوب المقهورة في شتى بقاع الأرض، وتلك هي مآلات التآمر على البلاد الضعيفة والفقيرة، فقوى الظلم والقهر بدلاً من أن تنفق ملياراتها على التنمية والتعليم ومحاربة الجوع والفقر في العالم؛ تستمر في حصار الدول الضعيفة ومحاربتها في أقواتها، وتمضي في سرقة ثرواتها وخيراتها، في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وغيرها، حيث يموت كل يوم في العالم 28.000 طفل يومياً وفق تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، فدول العالم الثالث التي تُخفي في باطنها الذهب والمعادن والثروات تتعرض لجريمة عالمية منظّمة تقودها بعض الحكومات الغربية والعربية كأمريكا وفرنسا وبريطانيا الذين يستمرون في نهب خيرات الدول الإفريقية وسرقة ثرواتها، ثم تهريبها للخارج بينما يموت أهلها جوعاً جراء سوء التغذية، أو قهراً وقتلاً في الحروب والصراعات الداخلية التي تغذيها المخابرات العالمية، بينما تنام الشعوب في تلك الدول الظالمة ملء جفونها غافلة عن عذابات الناس وآلامها وجراحها حتى يعاجلها الله بقدره وعقابه، يقول الشيخ الأسير في سجون القهر السعودية "عبد العزيز الطريفي": "من العقوبات العاجلة عقوبة خذلان المظلومين، وكثيراً ما تنزل العقوبات بالدول ويجهلون أسبابها، يظنون أن الله لا يُعاقب إلا من باشر الظلم بنفسه!".

هذه المقالة ليست من باب الشماتة بمصاب الدول المجرمة الظالمة التي لا تفتأ تخطط وتدبّر لفرض هيمنتها والاستيلاء على كل مقدرات العالم؛ في وقت تسحق فيه دباباتها كل معاني العدالة والحرية، وتبيدُ طائراتها كل قيم الكرامة والإنسانية، ولا هي من قبيل الفرح بمآسي الشعوب التائهة الضائعة التي انشغلت عن جرائم حكوماتها في حق الشعوب الأخرى؛ باللهث خلف جمود المادة وحيوانية الشهوة بعيداً عن روح الضمير وحيوية المشاعر، فهذا البلاء لم ينزل على دولةٍ دون دولة، أو شعبٍ دون شعب، ونحن كمسلمين لنا خصومة وثارات مع الدول الظالمة المحتلة التي قلت شعوبنا وشرّدت إخواننا ودمّرت بلادنا، لكننا أسمى وأرقى من أن نشمت بمصاب وآلام الشعوب الأخرى جراء الكوارث والأوبئة التي تجتاح بلادهم، فبيننا وبين جيوشهم الظالمة ساحاتٌ للرجولة والبطولة نذيقهم فيها بأس رجالنا وصلابة أبطالنا وثبات شعوبنا حتى يكتب الله نصرنا.
وإنما جاءت هذه المقالة لتذكّر الناس بإنسانيتهم التي وأدتها الحضارة المتوحشّة وقتلها الرقي الزائف، وتعيدهم إلى أصل فطرتهم السليمة وضمائرهم الحية التي تدعوهم إلى الرحمة وتحضّهم على الخير، وتمنعهم من الظلم وتصرفهم عن الشر.

وأخيراً.. نسأل الله أن يكون العالم بعد هذه الأزمة القاسية خيراً مما كان عليه من قبل، ولن يكون ذلك إلا بهلاك القوى الظالمة المجرمة التي لا تقيم وزناً للإنسانية ولا الأخلاق، وأن تتبدل موازين القوى في العالم سياسياً واقتصادياً بعد هذه الجائحة، وأن يكون أهل الإسلام ذوي شأن ورأي بعد اجتماع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ليعود للعالم توازنه واستقراره بعيداً عن هيمنة الظالمين والمجرمين.
‏٢٥‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٩:٥١ م‏
رابط المقال كاملاً: goo.gl/6daZbJ
رابط المقال كاملاً:

goo.gl/6daZbJ
‏١٥‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٣:٤٢ م‏
رابط المقال كاملاً: fb.com/Klmtuhaq/photos/a.214388305753710/589048598287677/?type=3&theater
‏١٣‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٣:٢٤ م‏
جائحة كورونا.. تداعيات مزلزلة ومستمرة د. هشام كمال [حمّل العدد الجديد bit.ly/2xIQrAg هدية العدد bit.ly/39zxa1h] مع تفشي وباء "كوفيد-19 (COVID-19)"، الناتج عن فيروس كورونا المستجد، على نطاق دولي، وإعلان منظمة الصحة العالمية له كوباء عالمي في 11 مارس 2020م، تتزايد معه حدوث التداعيات ليس الصحية فحسب، بل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يصنفها بعض الخبراء على أنها قد تؤدي إلى إحداث تغيير جيوسياسي كبير على مستوى العالم كله، وربما ينتج عنها تغيير في النظام العالمي الحالي برمته. بعض العوامل المتسببة في اتساع رقعة انتشار الوباء حتى الآن: 1- تعامل بعض أنظمة الدول مع المرض في بدايات انتشاره على أنه مسألة أمن قومي، بما في ذلك الصين – منبع الوباء – ومصر وإيران، ما سمح بانتشار المرض على نطاق عالمي في وقت قياسي. 2- تعامل بعض الدول باستخفاف مع المرض، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا – التي أصبحت من أكبر البؤر العالمية الحالية فيما يتعلق بانتشار ونشر المرض. 3- استمرار تعامل بعض الأنظمة الدولية بنظام الاتهامات المتبادلة، والمكايدات السياسية، ومحاولاتهم الاستفادة من الأزمة لتكريس سيادتهم عالمياً، وذلك على حساب التركيز في مكافحة الوباء. 4- العولمة، والتي انقلبت ميزاتها المتعلقة بسهولة وسرعة السفر من وإلى مختلف بلاد العالم إلى أسباب تزيد من معدل انتشار الوباء عالمياً. 5- استمرار فشل العديد من الدول على الصعيد الداخلي فيها في تطبيق نظام التباعد الاجتماعي والعزل الصحي – الاختياري والإجباري - بشكل متناسب مع سهولة انتشار الفيروس بين السكان. 6- النقص الحاد في وسائل وأدوات الكشف عن حالات الإصابة في مختلف دول العالم، وكذلك النقص الحاد في المعدات والتجهيزات الطبية اللازمة لعلاج الحالات المصابة. 7- جهل العديد من الدول – لاسيما في بداية الكشف عن المرض – بالوسائل الصحيحة للكشف عن المرض. 8- عدم وجود لقاح للوقاية من المرض، والحاجة لوقت طويل نسبياً – قد يمتد من 12 إلى 18 شهراً – لإيجاد لقاح وتصنيعه بشكل يبدأ معه منحنى تفشي الوباء في الهبوط. التداعيات الاقتصادية للجائحة حتى الآن، تعد التداعيات الاقتصادية للوباء أكبر التداعيات بعد خسارة الأرواح، حيث تعدت تلك التداعيات حدود الدول، ولم تقف عند دولة بعينها، مع زيادة كبيرة للآثار في الدول صاحبة معدلات الانتشار المتزايدة والواسعة للمرض. وكان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) قد كشف في دراسة تحليلية أن الصدمة التي تتسبب بها كورونا ستؤدي إلى ركود في بعض الدول، وستخفّض النمو السنوي العالمي هذا العام إلى أقل من 2.5%، وربما تؤدي إلى عجز في الدخل العالمي بقيمة 2 تريليون دولار. ومن التداعيات والآثار الاقتصادية: 1- زيادة معدلات البطالة بشكل كبير للغاية: اضطرت الكثير من الشركات والمؤسسات والأعمال الصغيرة والمطاعم وأماكن تقديم الخدمات العامة والخاصة لإجبار الموظفين على العمل من المنزل في إطار المحاولات المبذولة للحد من انتشار العدوى، علاوة على الاضطرار إلى تسريح الكثير من الموظفين والعمال، وهو ما أدى إلى معدلات بطالة مرتفعة في العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، والتي تزداد معدلات تسجيل طلبات التأمين ضد البطالة فيها بشكل يومي، حيث سجلت الأسبوع الماضي فقط أكثر من 280 ألف طلب، بزيادة تقارب 70 ألف طلب عن الأسبوع السابق، والذي سُجّل فيه حوالي 211 ألف طلب، وقد سجلت ولاية بنسلفانيا وحدها 121 ألف طلب في الأسبوع الماضي. وتنبع مخاوف كبيرة بالولايات المتحدة إزاء تسارع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق (تعدت في سرعتها أزمة 2008-2009)، ما يجعل من الصعب على الخبراء التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل، لاسيما في ظل مخاوف بشأن احتمال انهيار نظام التأمين ضد البطالة ما لم يتخذ الكونجرس إجراءات سريعة لضخ الأموال وتغيير قواعد النظام التقليدي لذلك التأمين. ولا يتوقف الأمر بطبيعة الحال على الولايات المتحدة، فمعدلات البطالة تزيد بوتيرة كبيرة على المستوى العالمي، ومرشحة للتزايد مع تفاقم الجائحة. 2- تقلص معدلات العرض، وضعف الطلب في الأسواق بشكل كبير: مع إغلاق المصانع والشركات وغيرها من المؤسسات، يقل المعروض من البضائع والسلع في الأسواق، ويزداد الطلب بشكل كبير في بداية الأمر، ثم يتقلص بعد ذلك لأسباب عديدة، منها ازدياد معدلات البطالة، وانخفاض القوة الشرائية مع حاجة الناس لتقليص نفقاتهم نظرا لقلة أو انعدام الدخل. 3- توقع حدوث موجات إفلاس متتالية للعديد من المصانع والشركات والمؤسسات الكبيرة والصغيرة: والتي يمكن أن تحدث نتيجة انخفاض الطلب بشكل كبير أو انعدامه في العديد من البقع الجغرافية مع تفاقم الجائحة، وتزايد أزمة الديون، وانخفاض قيمة الأصول، لاسيما في الدول المتأثرة بشدة بانتشار العدوى، ومن المعروف أن تعرض تلك المؤسسات للإفلاس يعد من العوامل المهمة في زيادة معدلات البطالة، فهي دائرة مفرغة تدور في فلكها الأعمال التجارية والعاملون فيها. ومن جهتها، لم تستبعد دراسة الأونكتاد سالفة الذكر حدوث إفلاس واسع النطاق، والذي يمكن أن يتسبب في انهيار مفاجئ لقيم الأصول. 4- التأثر السلبي لسلاسل الإمداد لكثير من المنتجات بشكل كبير: ويأتي هذا التأثر كنتيجة كبرى للعولمة في المجال الاقتصادي، حيث أدت العولمة إلى خلق حالة من التخصصية المفرطة على مستوى العالم، وأصبح المنتج الواحد، يُصنَّع في أكثر من دولة، سواء في مصانع تابعة لشركة واحدة تتواجد أماكن إنتاجها وتوريدها في عدة دول، أو في عدة شركات متفرقة في عدة دول. وكمثال على ذلك: تأثر إنتاج العديد من طرازات السيارات الأوروبية في الفترة السابقة بإغلاق مصنع تابع للشركة الإيطالية "إم تي أيه أدفانسيد أوتوموتيف سوليوشنز MTA Advanced Automotive Solutions"- المتخصصة في إنتاج إلكترونيات حيوية لازمة لتشغيل سيارات رينو، وبيجو، وبي إم دبليو، وجاكوار، ولاندروفر - في شنغهاي في الصين إبان معدلات الانتشار الواسعة للوباء فيها، ثم بعد حلول 17 فبراير وإعادة فتح المصنع، تم إغلاق مصنع الشركة في إيطاليا بعد ضرب الوباء لها، ما تسبب في توقف أكبر سلسلة توريد لإلكترونيات السيارات في غرب أوروبا. كما حدث نقص حاد في سلسلة إمداد الكواشف المستخدمة في تشخيص "كوفيد-19" على المستوى العالمي، بسبب عدم استطاعة الشركتين المتخصصتين في إنتاج وتصنيع هذه الكواشف، وهما شركتا "روش Roche" السويسرية، و"كياجن Qiagen" الهولندية (استحوذت عليها حاليا الشركة الأمريكية "ثيرمو فيشر ساينتيفيك [Thermo Fisher Scientific])، في تلبية الطلب العالمي المتزايد على خلفية تسارع معدل انتشار الوباء. وكذلك حدث نقص في سلسلة الإمدادات الخاصة بأجهزة الحاسوب، حيث قل إنتاج أجهزة الحاسوب المحمولة بنسبة 50% في فبراير، وتقلص كذلك إنتاج الهواتف الذكية بنسبة 12%، علاوة على إشارة "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)" بأن انخفاض الإنتاج في الصين له آثار غير مباشرة في جميع أنحاء العالم، نظرا لدور الصين في إنتاج أجهزة الحاسوب والإلكترونيات والأدوية ومعدات النقل، وكونها مصدرا أساسيا للطلب على العديد من السلع. ولعل الأهمية الكبيرة لسلاسل الإمداد في ظل العولمة هو ما حدا بمسؤولين دبلوماسيين دوليين إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية العالمية من جهة، وضرورة التعاون لإبقاء سلاسل الإمداد والتوريد مفتوحة، وعدم تعريضها للكسر. 5- مخاوف من انهيار سعر النفط: وهو الهاجس المسيطر على كثير من الأسواق العالمية، والذي طغى في بعض البلدان على المخاوف الصحية، ما يشير إلى كونه عاملا مثيرا للقلق والذعر، وهو ما يؤدي كذلك إلى صعوبة التنبؤ بحالة الأسواق. ومن المتوقع تبعا لذلك أن تتأثر الدول المصدرة للنفط بشكل كبير، حيث يمكن أن تفقد تقدر بأكثر من 1% من نموها. 6- تأثر قطاع الطيران على مستوى العالم: مع الوقف الإجباري لمعظم رحلات الطيران من وإلى العديد من دول العالم، وكذلك الرحلات الداخلية في كثير من الدول، تتفاقم أزمة شركات الطيران، حيث توقع "الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا، IATA)" انخفاض إيرادات قطاع الطيران على المستوى الدولي لعام 2020 بما يقارب 250 مليار دولار، كما يتوقع مركز (CAPA) للطيران الاستشاري إفلاس معظم شركات الطيران في العالم - والتي قامت بتسريح أعداد كبيرة من العاملين بها - بحلول مايو 2020 في حال استمرار الأزمة وعدم تدخل الحكومات لدعم شركات الطيران. وعلى ناحية أخرى، خسرت شركات الطيران في الشرق الأوسط إيرادات بقيمة 7.2 مليارات دولار. وفيما يتعلق بمصر، قد يؤدي فيروس كورونا إلى خسائر تقدر بنحو 2 مليار دولار من الإيرادات الأساسية، حسب توقعات مجموعة من أصحاب شركات الطيران المصرية الخاصة، وتهديد 138 ألف وظيفة، حسبما أفاد الاتحاد الدولي للنقل الجوي. 7- تأثر قطاع السياحة بشكل شبه كامل في معظم بلاد العالم: تأثر قطاع السياحة بشكل كبير للغاية في العديد من بقاع العالم، بما في ذلك مصر وتركيا والإمارات (دبي) وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، وغيرها من الدول، بسبب الحجر الصحي الذاتي وتوقف رحلات الطيران. وقد صرح بولوت باغجي، رئيس معهد منتدى السياحة العالمي في تركيا، بأن خسائر سوق السياحة العالمية قد تبلغ تريليون دولار هذا العام، حيث بلغت فعليا حتى الآن ما يقارب 600 مليار دولار، مع وجود تهديد بفقدان ما يقارب 50 مليون وظيفة في القطاع على مستوى العالم، وكذلك وجود مشكلة أخرى كبيرة تتمثل في بطء التعافي المستقبلي للقطاع حتى بعد انتهاء الأزمة بشكل كامل. وفي تركيا نفسها، تأثر قطاع السياحة بشدة، والذي يمثل نسبة لا تقل عن 10% من الاقتصاد التركي، وأغلقت العديد من الأماكن والشركات السياحية، علاوة على تسريح بعض الشركات للعاملين فيها. وعلى ناحية أخرى، كان من ضمن الأسباب التي جعلت النظام المصري يتباطأ في إعلان وجود إصابات بمصر هو الخوف على القطاع السياحي الذي يعتبره النظام مسألة أمن قومي. ومن جهته، طلب حاكم ولاية هاواي من المسافرين تأجيل رحلاتهم إلى هاواي لمدة 30 يوما، في سابقة لم تحدث من قبل في ولاية تعيش على السياحة الترفيهية، ما يشير إلى فداحة الوضع فيما يتعلق بالسياحة في أمريكا. 8- تأثر الأسواق الناشئة سلبيا بشكل كبير: مع تأثر العرض والطلب، وإغلاق الدول لحدودها، وتقلص معدلات التبادلات التجارية الدولية، علاوة على تأثير حرب أسعار النفط الجارية منذ فترة بين المملكة العربية السعودية وروسيا، وكذلك انخفاض الطلب على الطاقة المتعلق بالتباطؤ الاقتصادي الناجم عن الجائحة، تتأثر الأسواق الناشئة بشدة من هذه الأزمة، وهو ما يؤثر بدوره كذلك على الأسواق العالمية، حيث يشير صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة مساهمة الأسواق الناشئة في الاقتصاد العالمي حاليا تصل لما يقارب 60%، وبالتالي فالتباطؤ الحادث – والمتوقع زيادته مع تفاقم الجائحة – في الأسواق الناشئة سيؤثر بدوره كذلك في الاقتصاد العالمي. 9- تقويض النظام الاقتصادي في العديد من الدول: في حالة استمرار الجائحة لفترة طويلة، مع زيادة معدلات إفلاس الشركات، وتأثر الأسواق الناشئة، وغيرها من المؤثرات الحادثة، والمتوقع تفاقمها، ربما تحدث حالة من تقويض الأنظمة الاقتصادية في العديد من الدول من قاع تلك الأنظمة لقمتها (ابتداءً من الشركات والمؤسسات المتأثرة في أسفل النظام الاقتصادي إلى أعلى هرم ذلك النظام)، لاسيما في الدول الضعيفة، والدول التي تعاني أزمات اقتصادية، بما في ذلك الدول النامية. تداعيات اجتماعية للجائحة: 1- على مستوى الحكومات: من الأمور المنتظرة اجتماعيا في الأزمات رؤية التكافل والتضامن بين فئات المجتمع من جهة، وبين المجتمعات المختلفة المتأثرة من جهة أخرى. ومع الانخراط منذ سنوات عديدة في إطار العولمة تتوقع العديد من الدول مساعدة بعضها البعض في ظل هذه الجائحة، ولكن العكس هو المسيطر حاليا على صعيد الكثير من دول العالم، فقد أظهرت الأزمة أسوأ ما عند الحكومات من سلوكيات الأنانية وانعدام التضامن، فروسيا وألمانيا منعتا تصدير أقنعة الوجه "الكمامات" وأجهزة التنفس (تمثل أجهزة التنفس أزمة كبرى للغاية في العديد من الدول ذات معدل العدوى المرتفع، وأصبحت تلك الأجهزة من المستلزمات الملحة والضرورية بها، مع وجود عجز ضخم لدى العديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة وإيطاليا) على الرغم من كون ألمانيا عضوةً في الاتحاد الأوروبي، كما استولت فرنسا من جهتها على مخزون الكمامات كاملا من الأسواق الداخلية بها، وفعلت الصين صنيعها من قبل إبان ذروة أزمتها، لكنها تفعل العكس حاليا لتسويق نفسها كقائدة جديدة، حيث أسرعت بالاستجابة لطلب إيطاليا العاجل بشأن المعدات الطبية، كما أرسلت مساعدات لكل من إيران، وصربيا، التي وصف رئيسها التضامن الأوروبي بأنه "قصة خيالية ". 2- على مستوى المجتمع: مع ارتفاع الخسائر البشرية بشكل كبير، وارتفاع معدلات البطالة، والركود الاقتصادي غير المسبوق، قد تحدث موجات غضب شديدة، ومحاولات فوضى للحصول على مستلزمات الحياة الأساسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى استخدام العديد من الدول لقواتها العسكرية أو شبه العسكرية، مع احتمال بداية التفكك المجتمعي بالمواجهات الأهلية التي قد تستمر لفترات غير معروفة. 3- على مستوى الأفراد والجماعات: أ‌- المخاطر الاجتماعية المترتبة على الإجبار على العمل من المنزل، والدراسة المدرسية والجامعية عبر الإنترنت، ما سيخلق عالما افتراضيا إجباريا لملايين البشر عبر العالم، وما يترتب على ذلك من تداعيات انعدام التواصل الحقيقي، وانعزال مجتمعي على مستوى الأفراد والأسر والجماعات الإنسانية. ب‌- إغلاق الحدود ليس بين الدول فحسب، بل داخل الدولة الواحدة، لاسيما الدول الفيدرالية، وما ينتج عن ذلك مما يسميه بعض العلماء "العزلة القومية"، والتي يترتب عليها غياب التضامن الاجتماعي مع بقية الولايات أو المحافظات، وكذلك غياب التضامن مع بقع العالم الأخرى في ظل الانكفاء على الذات القومية، بل سيصبح الانكفاء على الذات البشرية المنفردة سمتا غالبا مع تفاقم الأزمة. تداعيات سياسية للجائحة: لم تتوقف التداعيات السياسية على مجرد إصابة بعض كبار الشخصيات أو المسؤولين ببعض الدول بالعدوى، ودخول آخرين حجرا صحيا اختياريا بعد مخالطتهم مسؤولين أو أقارب ثبتت إصابتهم، ولكن تعدت ذلك إلى وجود خطورة على قيام بعض الأنظمة في العديد من الدول، حيث أعدت الولايات المتحدة سبع خطط لفرض أحكام عرفية - تتخطى درجة سري للغاية - تفصل سيطرة قواتها المسلحة على الحكم في حالة تعطيل الجائحة لعمل الحكومة، حيث سيتم إخلاء الرئيس وعائلته، ووزير الدفاع وعائلته، وقادة مجلسي الشيوخ والنواب، وسيترتب على ذلك تخطي سلاسل القيادة المنصوص عليها في الدستور الأمريكي، واتخاذ القادة العسكريين لقرارات تسيير شؤون البلاد، وسيكون المسؤول وقتئذ هو قائد القيادة الأمريكية الشمالية (نورثكوم NORTHCOM) - حاليا هو الجنرال تيرانس أوشونيسي - الذي سيتم تفويضه لإدارة شؤون البلاد لحين القدرة على تنصيب زعيم مدني جديد. وفي مصر، تتزايد مخاوف النظام العسكري المسيطر على الحكم فيها مع تزايد معدلات الإصابات داخل القوات المسلحة، ووفاة لواءين على الأقل من جملة عدد من القادة العسكريين سربت قائمة بإصابتهم بالعدوى يوم 13 مارس 2020، مع ترشح زيادة عدد الإصابات والوفيات وسط ضباط وجنود القوات المسلحة، والمسؤولين المدنيين الذين خالطوهم في الفترة الماضية. من جهة أخرى، أدت الجائحة إلى إلغاء اجتماعات دولية عديدة، والاضطرار للجوء إلى عقد بعض الاجتماعات عبر الفيديو كونفرانس، علاوة على إثارة بعض الدول لنظرية المؤامرة فيما يتعلق بنشر الفيروس من أجل إضعاف دول أخرى، أو تحصيل مكاسب معينة. تداعيات أمنية واستخباراتية: 1- على مستوى الأجهزة والشركات الاستخباراتية: أ‌- تداعيات تفشي فيروس كورونا وصلت لأجهزة الاستخبارات، حيث تعاني العديد منها على مستوى العالم من عدم استطاعة القيام بالمهام المطلوبة كما كان سابقا، فعلى سبيل المثال: • تعاني "المديرية العامة للأمن الخارجي (DGSE)" [وكالة الاستخبارات الخارجية الفرنسية] عدة مشكلات، منها: وقف المديرية لحملة التوظيفات الجديدة التي كانت قد بدأتها منذ فترة، وهي عملية حيوية لها في الوقت الحالي، علاوة على إجبار عملاء المديرية على العمل من المنزل، مما صعب مهامهم، حيث يحتاجون للولوج إلى ملفات مصنفة على أنها "سرية للغاية"، ولا يستطيعون الولوج إليها سوى من أجهزة الحاسوب المتواجدة داخل مقار المديرية نفسها، بالإضافة إلى تعطل عمل "الاستخبارات البشرية (HUMINT)"، والتي تعتمد على جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الجواسيس على الأرض، وبخاصة في البلاد التي تعاني من تفشي الوباء بشدة، بما في ذلك الصين وإيران. • ومن جهتها، بدأت "وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA)" الأمريكية في بث مقاطع مرئية داخلية لاختصاصيين نفسيين، في إطار محاولاتها للتغلب على بعض التداعيات النفسية، مثل التوتر والقلق، بسبب تفشي الوباء وما يحدثه من آثار وتداعيات تطال عملاء الوكالة. • كما تعاني شركات الكيان الصهيوني العاملة في مجالات الاستخبارات السيبرانية من تقلص مبيعاتها بشكل كبير، وتعليق العديد من العقود [تعتمد تلك الشركات بشكل كبير على المبيعات الخارجية]، لاسيما مبيعات وعقود خدمات ما بعد البيع الخارجية، وبخاصة مع إغلاق العديد من الدول لحدودها وتأثر اقتصاداتها، حيث تشمل العقود المعلقة خدمات ما بعد البيع للأدوات والأجهزة الحساسة. كما سرحت بعض الشركات العديد من موظفيها. وعلى ناحية أخرى، أغلقت العديد من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مقارها كذلك حاليا، في إطار الحد من تفشي الوباء بين منتسبيها. ب‌- تداعيات على خصوصيات الشعوب عبر الرقابة الأمنية الصارمة والجماعية: في ظل الأزمة، اتجهت عدد من الدول إلى ما يمكن أن يسمى "المراقبة الحيوية" أو المراقبة البيومترية، ومع أن الأمر لا يعتبر غريبا بالكلية من حيث توسع الدول الاستبدادية في استخدام تقنيات التعرف على الوجه وتقنيات التعرف على الصوت، كالصين مثلا، إلا أن البدء في إقرار برامج المراقبات والتتبع الأمني من قبل دول أخرى، والتوسع فيه، بحجة مراقبة الأشخاص المصابين بالعدوى قد يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ المراقبات الأمنية الجماعية، التي ستؤدي حتى إلى رقابة ألصق من أي وقت مضى للشعوب، ما سيعمق من الاستبداد وخنق الحريات، بما في ذلك عبر تخيير الشعوب بين الصحة والحرية. التداعيات الجيوسياسية للجائحة: كشفت الجائحة مبدئيا عن مدى هشاشة العولمة، حيث تعد سببا كبيرا في الانتشار السريع للمرض من جهة، علاوة على التسبب في تعريض الشركات والدول للصدمات بسبب الربط المباشر والكبير الحادث بين الدول والشركات، ما جعل أيا منهما يتعرض للصدمة التي تؤثر في الآخر، وكذلك اتجاه الدول للانغلاق على نفسها للحد من انتشار المرض، والذي ربما يطول أمده لفترات طويلة، ما يعكس تقويضا لأساس العولمة القائم على جعل العالم كالقرية الواحدة على صُعد مختلفة. ومع طريقة التعامل مع الأزمة على المستوى العالمي، أصبحت هناك اتجاهات تُنظّر لأثر الجائحة على النظام العالمي برمته، سواء من ناحية استمراريته كنظام، أو من ناحية تأثر مواقع القوى الكبرى المسيطرة عليه، وتبني تلك الاتجاهات تنظيرها على رؤيتها لواقع الأزمة من جهة، وعلى رؤيتها من خلال تداعيات لجوائح أو أزمات كبرى مشابهة تاريخيا من جهة أخرى. حيث يتخوف عدد من الخبراء الأمريكيين من تراجع الدور الأمريكي بشكل ملحوظ في ظل غياب سياسة واضحة للتعامل مع الأزمة من جهة، وفي ظل عدم إدراك ترامب لجوانب الأزمة من جهة ثانية، وكذلك لتراجع الإدارة الأمريكية عن التصدر لمساعدة دول أخرى لصالح دور صيني حالي يحاول سد هذه الفجوة، من جهة ثالثة. وفيما يتعلق بالنظام العالمي ككل، يدرك العديد من المسؤولين السياسيين الدوليين أهمية الاستجابة الدولية القوية للأزمة، حتى تخرج "الحوكمة الدولية" قوية من الأزمة، وإلا فسيكون مصيرها الضعف. خاتمة تتسارع وتيرة التداعيات المترتبة على تفشي فيروس كورونا المستجد، وبخاصة مع عدم وجود إشارة لانتهاء الجائحة على المدى القريب، بل على العكس، يتوقع زيادة تفشي الوباء عالميا في ظل غياب مستلزمات الوقاية، فضلا عن النقص الحاد في مستلزمات علاج الحالات المصابة، مع استحالة تطبيق العزل الكامل لأغلب سكان العالم. ومن أخطر التداعيات التي تثير مخاوف في العديد من البلدان حالات الغضب الشعبي التي يمكن أن تنشأ نتيجة التردي الشديد في الحالة الاقتصادية، وسوء إدارة الحكومات للأزمة، مع التغيرات الكبيرة التي قد تحدث في الخريطة الجيوسياسية العالمية، وفي النظام العالمي برمته.
جائحة كورونا.. تداعيات مزلزلة ومستمرة
د. هشام كمال

[حمّل العدد الجديد
bit.ly/2xIQrAg
هدية العدد
bit.ly/39zxa1h]

مع تفشي وباء "كوفيد-19 (COVID-19)"، الناتج عن فيروس كورونا المستجد، على نطاق دولي، وإعلان منظمة الصحة العالمية له كوباء عالمي في 11 مارس 2020م، تتزايد معه حدوث التداعيات ليس الصحية فحسب، بل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يصنفها بعض الخبراء على أنها قد تؤدي إلى إحداث تغيير جيوسياسي كبير على مستوى العالم كله، وربما ينتج عنها تغيير في النظام العالمي الحالي برمته.

بعض العوامل المتسببة في اتساع رقعة انتشار الوباء حتى الآن:
1- تعامل بعض أنظمة الدول مع المرض في بدايات انتشاره على أنه مسألة أمن قومي، بما في ذلك الصين – منبع الوباء – ومصر وإيران، ما سمح بانتشار المرض على نطاق عالمي في وقت قياسي.

2- تعامل بعض الدول باستخفاف مع المرض، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا – التي أصبحت من أكبر البؤر العالمية الحالية فيما يتعلق بانتشار ونشر المرض.

3- استمرار تعامل بعض الأنظمة الدولية بنظام الاتهامات المتبادلة، والمكايدات السياسية، ومحاولاتهم الاستفادة من الأزمة لتكريس سيادتهم عالمياً، وذلك على حساب التركيز في مكافحة الوباء.

4- العولمة، والتي انقلبت ميزاتها المتعلقة بسهولة وسرعة السفر من وإلى مختلف بلاد العالم إلى أسباب تزيد من معدل انتشار الوباء عالمياً.

5- استمرار فشل العديد من الدول على الصعيد الداخلي فيها في تطبيق نظام التباعد الاجتماعي والعزل الصحي – الاختياري والإجباري - بشكل متناسب مع سهولة انتشار الفيروس بين السكان.

6- النقص الحاد في وسائل وأدوات الكشف عن حالات الإصابة في مختلف دول العالم، وكذلك النقص الحاد في المعدات والتجهيزات الطبية اللازمة لعلاج الحالات المصابة.

7- جهل العديد من الدول – لاسيما في بداية الكشف عن المرض – بالوسائل الصحيحة للكشف عن المرض.

8- عدم وجود لقاح للوقاية من المرض، والحاجة لوقت طويل نسبياً – قد يمتد من 12 إلى 18 شهراً – لإيجاد لقاح وتصنيعه بشكل يبدأ معه منحنى تفشي الوباء في الهبوط.

التداعيات الاقتصادية للجائحة

حتى الآن، تعد التداعيات الاقتصادية للوباء أكبر التداعيات بعد خسارة الأرواح، حيث تعدت تلك التداعيات حدود الدول، ولم تقف عند دولة بعينها، مع زيادة كبيرة للآثار في الدول صاحبة معدلات الانتشار المتزايدة والواسعة للمرض.

وكان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) قد كشف في دراسة تحليلية أن الصدمة التي تتسبب بها كورونا ستؤدي إلى ركود في بعض الدول، وستخفّض النمو السنوي العالمي هذا العام إلى أقل من 2.5%، وربما تؤدي إلى عجز في الدخل العالمي بقيمة 2 تريليون دولار.

ومن التداعيات والآثار الاقتصادية:

1- زيادة معدلات البطالة بشكل كبير للغاية:

اضطرت الكثير من الشركات والمؤسسات والأعمال الصغيرة والمطاعم وأماكن تقديم الخدمات العامة والخاصة لإجبار الموظفين على العمل من المنزل في إطار المحاولات المبذولة للحد من انتشار العدوى، علاوة على الاضطرار إلى تسريح الكثير من الموظفين والعمال، وهو ما أدى إلى معدلات بطالة مرتفعة في العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، والتي تزداد معدلات تسجيل طلبات التأمين ضد البطالة فيها بشكل يومي، حيث سجلت الأسبوع الماضي فقط أكثر من 280 ألف طلب، بزيادة تقارب 70 ألف طلب عن الأسبوع السابق، والذي سُجّل فيه حوالي 211 ألف طلب، وقد سجلت ولاية بنسلفانيا وحدها 121 ألف طلب في الأسبوع الماضي.

وتنبع مخاوف كبيرة بالولايات المتحدة إزاء تسارع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق (تعدت في سرعتها أزمة 2008-2009)، ما يجعل من الصعب على الخبراء التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل، لاسيما في ظل مخاوف بشأن احتمال انهيار نظام التأمين ضد البطالة ما لم يتخذ الكونجرس إجراءات سريعة لضخ الأموال وتغيير قواعد النظام التقليدي لذلك التأمين.

ولا يتوقف الأمر بطبيعة الحال على الولايات المتحدة، فمعدلات البطالة تزيد بوتيرة كبيرة على المستوى العالمي، ومرشحة للتزايد مع تفاقم الجائحة.

2- تقلص معدلات العرض، وضعف الطلب في الأسواق بشكل كبير:
مع إغلاق المصانع والشركات وغيرها من المؤسسات، يقل المعروض من البضائع والسلع في الأسواق، ويزداد الطلب بشكل كبير في بداية الأمر، ثم يتقلص بعد ذلك لأسباب عديدة، منها ازدياد معدلات البطالة، وانخفاض القوة الشرائية مع حاجة الناس لتقليص نفقاتهم نظرا لقلة أو انعدام الدخل.

3- توقع حدوث موجات إفلاس متتالية للعديد من المصانع والشركات والمؤسسات الكبيرة والصغيرة:

والتي يمكن أن تحدث نتيجة انخفاض الطلب بشكل كبير أو انعدامه في العديد من البقع الجغرافية مع تفاقم الجائحة، وتزايد أزمة الديون، وانخفاض قيمة الأصول، لاسيما في الدول المتأثرة بشدة بانتشار العدوى، ومن المعروف أن تعرض تلك المؤسسات للإفلاس يعد من العوامل المهمة في زيادة معدلات البطالة، فهي دائرة مفرغة تدور في فلكها الأعمال التجارية والعاملون فيها. ومن جهتها، لم تستبعد دراسة الأونكتاد سالفة الذكر حدوث إفلاس واسع النطاق، والذي يمكن أن يتسبب في انهيار مفاجئ لقيم الأصول.

4- التأثر السلبي لسلاسل الإمداد لكثير من المنتجات بشكل كبير:

ويأتي هذا التأثر كنتيجة كبرى للعولمة في المجال الاقتصادي، حيث أدت العولمة إلى خلق حالة من التخصصية المفرطة على مستوى العالم، وأصبح المنتج الواحد، يُصنَّع في أكثر من دولة، سواء في مصانع تابعة لشركة واحدة تتواجد أماكن إنتاجها وتوريدها في عدة دول، أو في عدة شركات متفرقة في عدة دول.

وكمثال على ذلك: تأثر إنتاج العديد من طرازات السيارات الأوروبية في الفترة السابقة بإغلاق مصنع تابع للشركة الإيطالية "إم تي أيه أدفانسيد أوتوموتيف سوليوشنز MTA Advanced Automotive Solutions"- المتخصصة في إنتاج إلكترونيات حيوية لازمة لتشغيل سيارات رينو، وبيجو، وبي إم دبليو، وجاكوار، ولاندروفر - في شنغهاي في الصين إبان معدلات الانتشار الواسعة للوباء فيها، ثم بعد حلول 17 فبراير وإعادة فتح المصنع، تم إغلاق مصنع الشركة في إيطاليا بعد ضرب الوباء لها، ما تسبب في توقف أكبر سلسلة توريد لإلكترونيات السيارات في غرب أوروبا.

كما حدث نقص حاد في سلسلة إمداد الكواشف المستخدمة في تشخيص "كوفيد-19" على المستوى العالمي، بسبب عدم استطاعة الشركتين المتخصصتين في إنتاج وتصنيع هذه الكواشف، وهما شركتا "روش Roche" السويسرية، و"كياجن Qiagen" الهولندية (استحوذت عليها حاليا الشركة الأمريكية "ثيرمو فيشر ساينتيفيك [Thermo Fisher Scientific])، في تلبية الطلب العالمي المتزايد على خلفية تسارع معدل انتشار الوباء.

وكذلك حدث نقص في سلسلة الإمدادات الخاصة بأجهزة الحاسوب، حيث قل إنتاج أجهزة الحاسوب المحمولة بنسبة 50% في فبراير، وتقلص كذلك إنتاج الهواتف الذكية بنسبة 12%، علاوة على إشارة "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)" بأن انخفاض الإنتاج في الصين له آثار غير مباشرة في جميع أنحاء العالم، نظرا لدور الصين في إنتاج أجهزة الحاسوب والإلكترونيات والأدوية ومعدات النقل، وكونها مصدرا أساسيا للطلب على العديد من السلع.

ولعل الأهمية الكبيرة لسلاسل الإمداد في ظل العولمة هو ما حدا بمسؤولين دبلوماسيين دوليين إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية العالمية من جهة، وضرورة التعاون لإبقاء سلاسل الإمداد والتوريد مفتوحة، وعدم تعريضها للكسر.

5- مخاوف من انهيار سعر النفط:

وهو الهاجس المسيطر على كثير من الأسواق العالمية، والذي طغى في بعض البلدان على المخاوف الصحية، ما يشير إلى كونه عاملا مثيرا للقلق والذعر، وهو ما يؤدي كذلك إلى صعوبة التنبؤ بحالة الأسواق. ومن المتوقع تبعا لذلك أن تتأثر الدول المصدرة للنفط بشكل كبير، حيث يمكن أن تفقد تقدر بأكثر من 1% من نموها.

6- تأثر قطاع الطيران على مستوى العالم:

مع الوقف الإجباري لمعظم رحلات الطيران من وإلى العديد من دول العالم، وكذلك الرحلات الداخلية في كثير من الدول، تتفاقم أزمة شركات الطيران، حيث توقع "الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا، IATA)" انخفاض إيرادات قطاع الطيران على المستوى الدولي لعام 2020 بما يقارب 250 مليار دولار، كما يتوقع مركز (CAPA) للطيران الاستشاري إفلاس معظم شركات الطيران في العالم - والتي قامت بتسريح أعداد كبيرة من العاملين بها - بحلول مايو 2020 في حال استمرار الأزمة وعدم تدخل الحكومات لدعم شركات الطيران.

وعلى ناحية أخرى، خسرت شركات الطيران في الشرق الأوسط إيرادات بقيمة 7.2 مليارات دولار. وفيما يتعلق بمصر، قد يؤدي فيروس كورونا إلى خسائر تقدر بنحو 2 مليار دولار من الإيرادات الأساسية، حسب توقعات مجموعة من أصحاب شركات الطيران المصرية الخاصة، وتهديد 138 ألف وظيفة، حسبما أفاد الاتحاد الدولي للنقل الجوي.

7- تأثر قطاع السياحة بشكل شبه كامل في معظم بلاد العالم:

تأثر قطاع السياحة بشكل كبير للغاية في العديد من بقاع العالم، بما في ذلك مصر وتركيا والإمارات (دبي) وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، وغيرها من الدول، بسبب الحجر الصحي الذاتي وتوقف رحلات الطيران. وقد صرح بولوت باغجي، رئيس معهد منتدى السياحة العالمي في تركيا، بأن خسائر سوق السياحة العالمية قد تبلغ تريليون دولار هذا العام، حيث بلغت فعليا حتى الآن ما يقارب 600 مليار دولار، مع وجود تهديد بفقدان ما يقارب 50 مليون وظيفة في القطاع على مستوى العالم، وكذلك وجود مشكلة أخرى كبيرة تتمثل في بطء التعافي المستقبلي للقطاع حتى بعد انتهاء الأزمة بشكل كامل.

وفي تركيا نفسها، تأثر قطاع السياحة بشدة، والذي يمثل نسبة لا تقل عن 10% من الاقتصاد التركي، وأغلقت العديد من الأماكن والشركات السياحية، علاوة على تسريح بعض الشركات للعاملين فيها.

وعلى ناحية أخرى، كان من ضمن الأسباب التي جعلت النظام المصري يتباطأ في إعلان وجود إصابات بمصر هو الخوف على القطاع السياحي الذي يعتبره النظام مسألة أمن قومي.

ومن جهته، طلب حاكم ولاية هاواي من المسافرين تأجيل رحلاتهم إلى هاواي لمدة 30 يوما، في سابقة لم تحدث من قبل في ولاية تعيش على السياحة الترفيهية، ما يشير إلى فداحة الوضع فيما يتعلق بالسياحة في أمريكا.

8- تأثر الأسواق الناشئة سلبيا بشكل كبير:

مع تأثر العرض والطلب، وإغلاق الدول لحدودها، وتقلص معدلات التبادلات التجارية الدولية، علاوة على تأثير حرب أسعار النفط الجارية منذ فترة بين المملكة العربية السعودية وروسيا، وكذلك انخفاض الطلب على الطاقة المتعلق بالتباطؤ الاقتصادي الناجم عن الجائحة، تتأثر الأسواق الناشئة بشدة من هذه الأزمة، وهو ما يؤثر بدوره كذلك على الأسواق العالمية، حيث يشير صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة مساهمة الأسواق الناشئة في الاقتصاد العالمي حاليا تصل لما يقارب 60%، وبالتالي فالتباطؤ الحادث – والمتوقع زيادته مع تفاقم الجائحة – في الأسواق الناشئة سيؤثر بدوره كذلك في الاقتصاد العالمي.

9- تقويض النظام الاقتصادي في العديد من الدول:

في حالة استمرار الجائحة لفترة طويلة، مع زيادة معدلات إفلاس الشركات، وتأثر الأسواق الناشئة، وغيرها من المؤثرات الحادثة، والمتوقع تفاقمها، ربما تحدث حالة من تقويض الأنظمة الاقتصادية في العديد من الدول من قاع تلك الأنظمة لقمتها (ابتداءً من الشركات والمؤسسات المتأثرة في أسفل النظام الاقتصادي إلى أعلى هرم ذلك النظام)، لاسيما في الدول الضعيفة، والدول التي تعاني أزمات اقتصادية، بما في ذلك الدول النامية.

تداعيات اجتماعية للجائحة:

1- على مستوى الحكومات:

من الأمور المنتظرة اجتماعيا في الأزمات رؤية التكافل والتضامن بين فئات المجتمع من جهة، وبين المجتمعات المختلفة المتأثرة من جهة أخرى. ومع الانخراط منذ سنوات عديدة في إطار العولمة تتوقع العديد من الدول مساعدة بعضها البعض في ظل هذه الجائحة، ولكن العكس هو المسيطر حاليا على صعيد الكثير من دول العالم، فقد أظهرت الأزمة أسوأ ما عند الحكومات من سلوكيات الأنانية وانعدام التضامن، فروسيا وألمانيا منعتا تصدير أقنعة الوجه "الكمامات" وأجهزة التنفس (تمثل أجهزة التنفس أزمة كبرى للغاية في العديد من الدول ذات معدل العدوى المرتفع، وأصبحت تلك الأجهزة من المستلزمات الملحة والضرورية بها، مع وجود عجز ضخم لدى العديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة وإيطاليا) على الرغم من كون ألمانيا عضوةً في الاتحاد الأوروبي، كما استولت فرنسا من جهتها على مخزون الكمامات كاملا من الأسواق الداخلية بها، وفعلت الصين صنيعها من قبل إبان ذروة أزمتها، لكنها تفعل العكس حاليا لتسويق نفسها كقائدة جديدة، حيث أسرعت بالاستجابة لطلب إيطاليا العاجل بشأن المعدات الطبية، كما أرسلت مساعدات لكل من إيران، وصربيا، التي وصف رئيسها التضامن الأوروبي بأنه "قصة خيالية ".

2- على مستوى المجتمع:

مع ارتفاع الخسائر البشرية بشكل كبير، وارتفاع معدلات البطالة، والركود الاقتصادي غير المسبوق، قد تحدث موجات غضب شديدة، ومحاولات فوضى للحصول على مستلزمات الحياة الأساسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى استخدام العديد من الدول لقواتها العسكرية أو شبه العسكرية، مع احتمال بداية التفكك المجتمعي بالمواجهات الأهلية التي قد تستمر لفترات غير معروفة.

3- على مستوى الأفراد والجماعات:

أ‌- المخاطر الاجتماعية المترتبة على الإجبار على العمل من المنزل، والدراسة المدرسية والجامعية عبر الإنترنت، ما سيخلق عالما افتراضيا إجباريا لملايين البشر عبر العالم، وما يترتب على ذلك من تداعيات انعدام التواصل الحقيقي، وانعزال مجتمعي على مستوى الأفراد والأسر والجماعات الإنسانية.

ب‌- إغلاق الحدود ليس بين الدول فحسب، بل داخل الدولة الواحدة، لاسيما الدول الفيدرالية، وما ينتج عن ذلك مما يسميه بعض العلماء "العزلة القومية"، والتي يترتب عليها غياب التضامن الاجتماعي مع بقية الولايات أو المحافظات، وكذلك غياب التضامن مع بقع العالم الأخرى في ظل الانكفاء على الذات القومية، بل سيصبح الانكفاء على الذات البشرية المنفردة سمتا غالبا مع تفاقم الأزمة.

تداعيات سياسية للجائحة:

لم تتوقف التداعيات السياسية على مجرد إصابة بعض كبار الشخصيات أو المسؤولين ببعض الدول بالعدوى، ودخول آخرين حجرا صحيا اختياريا بعد مخالطتهم مسؤولين أو أقارب ثبتت إصابتهم، ولكن تعدت ذلك إلى وجود خطورة على قيام بعض الأنظمة في العديد من الدول، حيث أعدت الولايات المتحدة سبع خطط لفرض أحكام عرفية - تتخطى درجة سري للغاية - تفصل سيطرة قواتها المسلحة على الحكم في حالة تعطيل الجائحة لعمل الحكومة، حيث سيتم إخلاء الرئيس وعائلته، ووزير الدفاع وعائلته، وقادة مجلسي الشيوخ والنواب، وسيترتب على ذلك تخطي سلاسل القيادة المنصوص عليها في الدستور الأمريكي، واتخاذ القادة العسكريين لقرارات تسيير شؤون البلاد، وسيكون المسؤول وقتئذ هو قائد القيادة الأمريكية الشمالية (نورثكوم NORTHCOM) - حاليا هو الجنرال تيرانس أوشونيسي - الذي سيتم تفويضه لإدارة شؤون البلاد لحين القدرة على تنصيب زعيم مدني جديد.

وفي مصر، تتزايد مخاوف النظام العسكري المسيطر على الحكم فيها مع تزايد معدلات الإصابات داخل القوات المسلحة، ووفاة لواءين على الأقل من جملة عدد من القادة العسكريين سربت قائمة بإصابتهم بالعدوى يوم 13 مارس 2020، مع ترشح زيادة عدد الإصابات والوفيات وسط ضباط وجنود القوات المسلحة، والمسؤولين المدنيين الذين خالطوهم في الفترة الماضية.
من جهة أخرى، أدت الجائحة إلى إلغاء اجتماعات دولية عديدة، والاضطرار للجوء إلى عقد بعض الاجتماعات عبر الفيديو كونفرانس، علاوة على إثارة بعض الدول لنظرية المؤامرة فيما يتعلق بنشر الفيروس من أجل إضعاف دول أخرى، أو تحصيل مكاسب معينة.

تداعيات أمنية واستخباراتية:

1- على مستوى الأجهزة والشركات الاستخباراتية:

أ‌- تداعيات تفشي فيروس كورونا وصلت لأجهزة الاستخبارات، حيث تعاني العديد منها على مستوى العالم من عدم استطاعة القيام بالمهام المطلوبة كما كان سابقا، فعلى سبيل المثال:

• تعاني "المديرية العامة للأمن الخارجي (DGSE)" [وكالة الاستخبارات الخارجية الفرنسية] عدة مشكلات، منها: وقف المديرية لحملة التوظيفات الجديدة التي كانت قد بدأتها منذ فترة، وهي عملية حيوية لها في الوقت الحالي، علاوة على إجبار عملاء المديرية على العمل من المنزل، مما صعب مهامهم، حيث يحتاجون للولوج إلى ملفات مصنفة على أنها "سرية للغاية"، ولا يستطيعون الولوج إليها سوى من أجهزة الحاسوب المتواجدة داخل مقار المديرية نفسها، بالإضافة إلى تعطل عمل "الاستخبارات البشرية (HUMINT)"، والتي تعتمد على جمع المعلومات الاستخباراتية عبر الجواسيس على الأرض، وبخاصة في البلاد التي تعاني من تفشي الوباء بشدة، بما في ذلك الصين وإيران.

• ومن جهتها، بدأت "وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA)" الأمريكية في بث مقاطع مرئية داخلية لاختصاصيين نفسيين، في إطار محاولاتها للتغلب على بعض التداعيات النفسية، مثل التوتر والقلق، بسبب تفشي الوباء وما يحدثه من آثار وتداعيات تطال عملاء الوكالة.

• كما تعاني شركات الكيان الصهيوني العاملة في مجالات الاستخبارات السيبرانية من تقلص مبيعاتها بشكل كبير، وتعليق العديد من العقود [تعتمد تلك الشركات بشكل كبير على المبيعات الخارجية]، لاسيما مبيعات وعقود خدمات ما بعد البيع الخارجية، وبخاصة مع إغلاق العديد من الدول لحدودها وتأثر اقتصاداتها، حيث تشمل العقود المعلقة خدمات ما بعد البيع للأدوات والأجهزة الحساسة. كما سرحت بعض الشركات العديد من موظفيها. وعلى ناحية أخرى، أغلقت العديد من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مقارها كذلك حاليا، في إطار الحد من تفشي الوباء بين منتسبيها.

ب‌- تداعيات على خصوصيات الشعوب عبر الرقابة الأمنية الصارمة والجماعية:

في ظل الأزمة، اتجهت عدد من الدول إلى ما يمكن أن يسمى "المراقبة الحيوية" أو المراقبة البيومترية، ومع أن الأمر لا يعتبر غريبا بالكلية من حيث توسع الدول الاستبدادية في استخدام تقنيات التعرف على الوجه وتقنيات التعرف على الصوت، كالصين مثلا، إلا أن البدء في إقرار برامج المراقبات والتتبع الأمني من قبل دول أخرى، والتوسع فيه، بحجة مراقبة الأشخاص المصابين بالعدوى قد يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ المراقبات الأمنية الجماعية، التي ستؤدي حتى إلى رقابة ألصق من أي وقت مضى للشعوب، ما سيعمق من الاستبداد وخنق الحريات، بما في ذلك عبر تخيير الشعوب بين الصحة والحرية.

التداعيات الجيوسياسية للجائحة:

كشفت الجائحة مبدئيا عن مدى هشاشة العولمة، حيث تعد سببا كبيرا في الانتشار السريع للمرض من جهة، علاوة على التسبب في تعريض الشركات والدول للصدمات بسبب الربط المباشر والكبير الحادث بين الدول والشركات، ما جعل أيا منهما يتعرض للصدمة التي تؤثر في الآخر، وكذلك اتجاه الدول للانغلاق على نفسها للحد من انتشار المرض، والذي ربما يطول أمده لفترات طويلة، ما يعكس تقويضا لأساس العولمة القائم على جعل العالم كالقرية الواحدة على صُعد مختلفة.

ومع طريقة التعامل مع الأزمة على المستوى العالمي، أصبحت هناك اتجاهات تُنظّر لأثر الجائحة على النظام العالمي برمته، سواء من ناحية استمراريته كنظام، أو من ناحية تأثر مواقع القوى الكبرى المسيطرة عليه، وتبني تلك الاتجاهات تنظيرها على رؤيتها لواقع الأزمة من جهة، وعلى رؤيتها من خلال تداعيات لجوائح أو أزمات كبرى مشابهة تاريخيا من جهة أخرى. حيث يتخوف عدد من الخبراء الأمريكيين من تراجع الدور الأمريكي بشكل ملحوظ في ظل غياب سياسة واضحة للتعامل مع الأزمة من جهة، وفي ظل عدم إدراك ترامب لجوانب الأزمة من جهة ثانية، وكذلك لتراجع الإدارة الأمريكية عن التصدر لمساعدة دول أخرى لصالح دور صيني حالي يحاول سد هذه الفجوة، من جهة ثالثة.

وفيما يتعلق بالنظام العالمي ككل، يدرك العديد من المسؤولين السياسيين الدوليين أهمية الاستجابة الدولية القوية للأزمة، حتى تخرج "الحوكمة الدولية" قوية من الأزمة، وإلا فسيكون مصيرها الضعف.

خاتمة

تتسارع وتيرة التداعيات المترتبة على تفشي فيروس كورونا المستجد، وبخاصة مع عدم وجود إشارة لانتهاء الجائحة على المدى القريب، بل على العكس، يتوقع زيادة تفشي الوباء عالميا في ظل غياب مستلزمات الوقاية، فضلا عن النقص الحاد في مستلزمات علاج الحالات المصابة، مع استحالة تطبيق العزل الكامل لأغلب سكان العالم. ومن أخطر التداعيات التي تثير مخاوف في العديد من البلدان حالات الغضب الشعبي التي يمكن أن تنشأ نتيجة التردي الشديد في الحالة الاقتصادية، وسوء إدارة الحكومات للأزمة، مع التغيرات الكبيرة التي قد تحدث في الخريطة الجيوسياسية العالمية، وفي النظام العالمي برمته.
‏٠٧‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ١٠:٠٩ م‏
وكم في "كورورنا" من فوائد وعظات! افتتاحية العدد الجديد بقلم @[197322086977388:274:محمد إلهامي] 🔴 حمّل العدد الجديد bit.ly/2xIQrAg 🔴 هدية العدد bit.ly/39zxa1h أليس من العسير أن يجد الكاتب شيئا يكتبه في أمرٍ يتكلم فيه العالم كله؟ بلى هو كذلك.. إلا أن الذي يُهَوِّن الأمر قليلاً هو تنوع الهموم، فكلٌّ يُغني على ليلاه، وكلٌّ يلتمس من الأحداث ما يجد فيه سلواه أو يجد فيه هداه.. وهذه سطور مسلم في زمن القهر والهزيمة، قد أظلته جائحة كورونا، ففيها من الهمَّ والشجوى ومن الدرس والعبرة ما لا يراه من لم يكن كذلك! وهي –وإن طالت- مختصرة مجملة، فإن ظننتَ أن فيها سطحية مبتذلة، فكرِّر النظر وأعد التأمل، فقد أودعتها خلاصة نظر طويل، فإن تبينت المعنى ثم أنكرته فلا تثريب عليك، التثريب ألا تتبيّنه ثم تسارع مستنكراً. (1) كيف يكون الهول الأعظم إذا كان هذا هو ارتياع العالم من فيروس لا يُرى، ولا يقتل في الحال، بل وقد تعافى منه كثيرٌ ممن أصيبوا به؟ كيف سيكون حال الناس حين تتزلزل الأرض وتنشق السماء وتنتثر الجبال وتُحشَر الوحوش وتهيج البحار وينقلب حال الأرض كله هولاً عظيماً؟! ذلك الذي يخوف الله به عباده.. (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) لقد كان الله حاضراً وخالقاً ومدبراً في كل لحظة، هو الذي خلق البذرة وخلق الماء وخلق الأرض ووضع في كل ذلك قوانين الزرع والنماء، فلما جاء الإنسان فبذر وسقى فخرج له زرعه ناضراً زاهياً، ظنَّ أنه الذي فعل هذا كله، وظنَّ أنه المتحكم فيه القادر عليه، فإذا به تأتيه العاصفة فتقلب له أرضه وزرعه، وتقلب معها تصوراته وأفكاره، وتفضح ضعفه وعجزه! وما أشبه هذا بحال البشرية اليوم، تلك التي صار العلم فيها يُعبَد من دون الله، حتى ليُقال عن شيء فرضه الله صراحة "لا نؤمن به حتى يثبته العلم"، أو عن شيء حرَّمه الله صراحة "لا نكفّ عنه حتى يثبت العلم ضرره"، حتى هذا الخسوف والكسوف يثير صخب العلمويين حتى يسخروا ممن يهرع إلى الصلاة، لسان حالهم: تلك آية من آيات العلم لا من آيات الله! وغداً بعد زوال هذه الجائحة، وسواءٌ أزالتْ بأمر الله من تلقاء نفسها، أو زالت بأمر الله بأن هدى بعض عباده لدوائها، سيرجع إلينا أولئك العلمويون ليقولوا: انتصر العلم!.. وهكذا حتى تأتيهم عاصفة أخرى تفضح ضعفهم وعجزهم، ويحق فيهم قوله تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون)، وقوله تعالى (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)، وقوله تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم). (2) آمن الناس بكورونا، ولم يؤمنوا برب كورورنا.. مع أنهم لم يروه جهرة، ولا سمعوا له صوتاً ولا أنزل لهم كتاباً ولا أرسل إليهم رسولاً، وما هو إلا أن أخبرهم الأطباء به، ثم أبصروا آثاره في بعضٍ منهم.. هذا الذي يثير الحرارة ويصيب بالصداع والغثيان وينشب في الرئة صار حقيقة لا شك فيه! وأما الذي خلق الرأس والحرارة والرئة والبدن وكورونا نفسه فلا يزالون يتجادلون فيه!! لقد راوغ الملحدون كل مراوغة في التماس طريقة يثبتون بها الخلق دون الاضطرار إلى الإيمان بالخالق، فتحدثوا عن الصدفة، وعن التطور، وعن غيرها من الأسباب، بل جادلوا في قانون السببية نفسه، حتى صار يصحّ في عقول كثيرين منهم أن هذا الكون العظيم الرهيب، بل هذه الخلية الواحدة المعقدة ليس لها خالق، أو أن خالقها قد تركها (أي: خلقها عبثاً) كصانع الساعة الذي يضبط حركتها ثم يتركها.. وفاضت في هذا كتب وهلكت فيه أعمار وشغلت فيه ساعات من التلفاز والمسرح وأنواع الفنون. فمن ذا يصدق الآن رجلاً يزعم أن كورونا ليس موجوداً، وأن الذين أصيبوا به إنما هم أناس ارتفعت حرارتهم وانهار تنفسهم بمحض الصدفة، لظروف خاصة شملت المصابين به عبر العالم، وأن انتشاره لا ينتقل بالعدوى بل انبثق من تلقاء نفسه في جسد كل مصاب، وأنها مجرد مؤامرة من الأطباء الكذابين الذين يستغلون خوف الناس من المجهول بغرض طلب الزعامة لأنفسهم؟! هذا الذي قيل في الله وقيل عن رسله، مع أن الدلائل التي ساقها الله في كتابه المسطور وفي كونه المنظور، والتي جاء بها رسله، لم يأت بمثلها الأطباء عن كورونا، وإنما هم لا يزالون يكتشفون ويتبينون ويبحثون ويفحصون.. لكن الذين في قلوبهم مرض، كفروا بالله وكذبوا رسله، وآمنوا بكورونا وصدقوا الأطباء! (3) أخبرنا الأطباء أن اسمه: كورونا (المستجد).. هل يكون من الدروشة أن يذكرنا هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "وما فشت الفاحشة في قوم فأذاعوا بها إلا ابتلاهم الله بالأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم"؟! نعم، سيكون هذا من الدروشة والخرافة عند من يؤمن بالعلم، ذلك الذي لا يرى سبباً منطقياً واضحاً للربط بين انتشار الزنا والمجاهرة به وبين ظهور الأوبئة الجديدة.. ولكن مهلاً: ما هو العلم؟! أليس هذا العلم نفسه هو الذي لم يكن يعرف أن أكل الخفافيش والقطط والكلاب قد يسبب هذا النوع من الأمراض؟ بلى، هو على الأقل العلم الذي لم يقطع بعد بالسبب الذي انتقل به الفيروس من الحيوانات إلى البشر.. فلا زال العلم يكتشف، وقد تكاثرت علينا أقوال "العلماء" حتى اضطربت وتناقضت! لا بأس إذن.. إذا عرفنا أن العلم لم يبلغ من الإحاطة بالأمور ما يعصمنا به من الأضرار، فلماذا يُصِرُّ بعضهم على عدّه مصدراً وحيداً للمعرفة، ومعياراً وحيداً للحكم على الأمور؟! إن في تاريخنا رجلاً أميًّا وجَّه أتباعه قبل نحو ألف وخمسمائة عام إلى تصرف الحجر الصحي حين ينزل الوباء في بلد ما، وفرض عليهم التطهر بالماء خمس مرات في اليوم في بيئة صحراوية الماء فيها عزيز نادر، ووجَّههم إلى غسل أيديهم عند الاستيقاظ من النوم "فلا تدري أين باتت يدك"، ووجههم إلى استعمال اليد اليمنى في المأكل والمشرب والطهور واستعمال اليسرى لمعالجة الأذى، ونهاهم عن الشرب من في السقاء، وعن التنفس في الإناء، وعن ترك الآنية مفتوحة مكشوفة، ونهاهم عن أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير والكلاب وذوات المخالب والأنياب، وعن البول في موارد الماء، وعن إنقاص الماء أو تغويره.. وقد بُنِيت على هذه التوجيهات أساطيل من الفقه المكتوب الذي يرقى الآن لأكثر مما يوصي به هذا "العلم الحديث"! إذا كان رجلٌ أميٌّ قبل خمسة عشر قرنا قد قال بهذا كله.. أليس من العلم نفسه أن يُعد مصدراً للمعرفة؟! إن لم يكن إيماناً بأنه رسول الله فعلى الأقل وقوفاً أمام هذه الظاهرة العجيبة لهذا الحكيم العبقري الذي سبق العصور وخرق الأزمان وتفوق على العلوم؟ إنما هو أمرٌ قاله الله في كتابه بهذه البساطة الـمُعجزة المبهرة: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟).. هذه الآية تطرح على البشرية كلها سؤال: مصدر المعرفة؟ من الذي يملك أن يقول هذا حلال فكلوه وهذا حرام فاجتنبوه؟ من الذي يستطيع أن يهدي إلى الحق؟ اسمع قول الله تعالى (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَع أم من لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى؟ فما لكم كيف تحكمون؟) وإذن، فإذا كان العلم لا زال يكتشف ويبحث ويحاول الربط بين الظواهر بوسائله التي لا تزال قاصرة غير قادرة على أن تعصمنا من الضرر، ثم إذا كان هذا علم رجل أمي قبل خمسة عشر قرناً.. فما الذي يجعل قول هذا الرجل الأمي عن انتشار الفاحشة وإذاعتها وكونه سبباً في ظهور الأوبئة محتاجاً إلى ختمٍ علمي كي يُعتمد ويُتَّبَع؟! ولو تنزلنا وسلَّمنا جدلاً وفرضاً بموقف العلمويين هذا، فأيهما أحسن للإنسان وأحسن للناس جميعاً: رجل يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فإذا أصابه الطاعون اعتزل في بيته محتسباً عند الله أجر الشهيد؟ أم رجل اتبع العلم فلم يجد عنده مؤنساً من اليأس ولا ترغيباً في أجر ولا رادعاً من عقوبة فخرج يترك لعابه على الأبواب والمتاجر والمصاعد والمواصلات يريد أن ينشر المرض بين الناس عامداً، لسان حاله يقول: إذا متُّ ظمآنًا فلا نزل القَطْر؟! أيهما أحسن للمرء ولبني الإنسان كلهم؟ (4) بدأ كورورنا في الصين، وعلى نحو ما هو معروف للجميع فإن الصين قد سكّتت وصمتت وحاربت من يتكلم عنه خشيةً على تجارتها واقتصادها حتى فشا فيها المرض، ثم فشا في بقية البلاد، فاستيقظ العالم وإذا بالمرض قد انتشر فيه جميعاً.. وتحاول الصين الآن أن تهرع لمساعدة البلاد المنكوبة بما تستطيع، وهي تجد تجهماً وهجوماً شرساً عليها وعلى ما تسببت فيه جراء طغيانها وقهرها وكبتها وغموضها وتعميتها على العالم بشأن المرض، والآن هي اللحظة المثلى لكل ديمقراطي ليبرالي أن يتكلم عن الخطر الشديد الذي تسببه دولة ديكتاتورية شمولية لا على نفسها بل على العالم كله، وأن العالم كله يدفع ثمن وجود نظام ديكتاتوري واحد. ونحن معه في هذا ونُسَلِّم له به.. ها هو العالم كله يذوق ويلات قبوله وسكوته على وجود نظام طغياني جبار، تسبب بسياسته غير الشفافة هذه في قتل آلاف البشر على بعد آلاف الأميال! ولو عاد الزمن بأكثر الموتى وأهاليهم، وعلموا شيئاً من أمر الغيب، لكنت ترى أن محاربة الصين وتغيير نظامها ولو بالقوة هو عمل ينبغي أن يكون على رأس أولويات العالم.. مهلاً لحظة.. أراهم هنا يتحدثون عن "جهاد الطلب".. أليس كذلك؟! أليس جهاد الطلب نفسه هو مطاردة الظلم والطغيان والشر في عقر داره، بلا احترام لمعنى السيادة على شعبه؟! نعم.. نعم، أعرف أن الأمة الآن لا تحلم بجهاد الطلب بل هي عاجزة عن جهاد الدفع، وأنا أكتب لكم هذه السطور من موقعي كلاجئ مشرد، لا يدري هل يُسْجن غداً أو يُقْتَل بعد غد.. نعم، أعرف هذا.. وأعرف معه أيضاً أننا ينبغي أن نفهم ديننا ونستوعب معانيه لا أن نسارع لرفضها واستنكارها لأنها لا توافق الذوق السياسي المعاصر، فإذا فهمنا ديننا افتخرنا به، وذلك أول طريق العزة.. فالظاهرة التاريخية –كما يقول ريتشارد كوك وكريس سميث في كتابهما: انتحار الغرب- أن كل الذين غيروا العالم إنما هم الذين اعتقدوا في أنفسهم القدرة على إنقاذه. وها قد جئت بالمعنى من قول الكافرين، لأني أعرف أن نفوساً لن تستوعبه إذا قلته من كتاب رب العالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)! لقد أخبرنا ربنا أن عقابه حين ينزل لا يصيب الظالمين وحدهم، بل يشمل معهم المظلومين (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب". وصوَّر لنا نبينا هذا الوضع أجمل وأشمل ما يكون التصوير، وذلك في حديث السفينة المشهور، وفيه أن الذين في أعلى السفينة لو تركوا الذين في أسفلها يتصرفون على هواهم ويخرقون السفينة فإنهم يهلكون جميعاً، فأما إذا تصدوا لهم (ولم يحترموا حريتهم في التصرف في نصيبهم!!) فإنهم ينجون جميعا!.. واقرأ هذه المعاني في أساليب متنوعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي باب الجهاد. هذه الآيات وأمثالها، وهذه الأحاديث وأمثالها كانت تأسيساً لثورة المسلمين على الطغاة منهم، وعلى الطغاة من غيرهم، من هنا كانت مطاردة المسلمين للمنكر في الأرض كلها رحمة للعالمين، جهاداً في سبيل الله، وقد أحسن الأستاذ الراحل جلال كشك حيث قال: "الجهاد ثورتنا الدائمة"! (5) انقلب حال العالم، ومكث الناس في بيوتهم، وتعطلت الطائرات والاجتماعات وحتى الحفلات ومباريات الكرة.. يخاف الإنسان من الموت (وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد). وها قد ظهر لكلٍّ منا أن كثيراً من الأمور يملك أن يتخلى عنها، بعضها هين وبعضها مع نوع من الألم والمعاناة، إلا أن خطر المرض الذي يُحتمل معه الموت أكبر من ألم الترك. يشبه هذا مشهداً قديماً.. مشهد المدينة المنورة حين نزل أمر الله بترك الخمر، فإذا بأزقة المدينة تسيل بالخمر التي كسَر المسلمون أوانيها. وكذا مشهدها حين نزل أمر الله بحجاب النساء فكانت النساء تشققن مروطهن فيحتجبن بها.. إلا أن أسلافنا من الصحابة الأجلاء لم يكونوا يخشون من الموت، بل كانوا يخشون النار.. كانت الخمر عادة عربية راسخة، وكذا كانت ثياب النساء.. وانتهى هذا حين كان داعي التغيير أقوى من داعي العادة والميل والشهوة، سيظل هناك من يذنب ويعصي في كل الأحوال (كما سيظل في الناس من يخترق حظر التجول بالتأكيد)، لكن هذا هو الشذوذ النادر وليس هو الأصل العام. إذن نستطيع، ويستطيع الناس، في ظروف ليس بالهائلة المريعة أن تنقلب حياتهم.. ونحن نرى هذا بأنفسنا في أنفسنا حين يأتي رمضان، ينقلب شأن اليوم كله، فإذا بالطعام –وهو أرسخ العادات كلها- نتحمل الحرمان منه وانقلاب مواعيده، ذلك أن داعي طاعة الله وصوم الشهر الكريم أكبر في نفوسنا من ألم الجوع في النهار. إن شهواتنا تحبس قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا، تحرمها من الظهور والنمو والفعالية.. وإن أطماعنا في الحياة والأموال والرفاهية تثقلنا وتعوق حركتنا، ولذلك فطن الإمام ابن حجر إلى أن من فضل الطاعون "تقصير الآمال، وتحسين الأعمال، واليقظة من الغفلة، والتزود للرحلة". على أننا مهما حاولنا تذكير أنفسنا بهذه المعاني فلن نفلح في أن نعيشها، وليس يعيشها إلا المجاهدون، أولئك الذين يقترب الموت منهم في كل لحظة، فالواحد منهم متخفف من دنياه مقبل على آخرته، قصير الأمل قليل الطمع.. ولعل هذا من معاني كون الجهاد "ذروة سنام الإسلام"، إذ هو يرفع صاحبه ليكون في ذروة اليقظة وذروة الاستعداد. (6) بدا العالم وكأنه هشٌّ في مواجهة انتشار كورونا، المنظومات الصحية في الدول الغربية "المتقدمة" تضطرب وتفقد توازنها.. وظهرت طبيعة الدول التي لا تحفل بشأن الأخلاق، وتكرر استيلاء دولة على شحنة مساعدات طبية قادمة لدولة أخرى، كما تكررت شكوى دول أوروبية من التجاهل الأوروبي لمعاناتها، كذلك أبدى ترمب انزعاجه من أن يتوصل أحد إلى علاج كورونا ثم لا يكون الأمريكان أول من يستفيدون منه، وأصدر قراره بتسريع إجراءات هجرة الأطباء إلى أمريكا ليترك هؤلاء أهلهم وديارهم ويذهبوا لعلاج الأمريكان. هذه المشاهد المريعة التي يجب أن تعيد إلينا التفكير في طبيعة النظام الدولي، وخرافات القانون الدولي والعلاقات الدولية والتعاون الدولي وسائر هذه المفاهيم التي تظهر في أوقات الرخاء كقيود حريرية تُسْتَعبَد بها الشعوب. وهذا الذي حصل بين الدول حصل مثله في الشعوب.. الشعوب الأوروبية "المتقدمة" التي افترست المتاجر، وأحياناً اقتحمتها وسلبتها ونهبتها، فضلاً عن التعامل الشنيع مع المسنين والعجائز إما كمرضى أو كمقيمين في دور العجزة أو حتى كزبائن لا يستطيعون المزاحمة. وهو ما يجب أن يعيد إلينا الثقة بأنفسنا وينقض عند كثير منا ما أصيبوا به من عقدة الخواجة وتوهم أن القوم ينطوون على أخلاق أصيلة لديهم منحها إياهم رقيهم الحضاري.. والحق أنها أخلاق زائفة تسود في لحظة الأمن والطمأنينة واستتباب النظام.. وإلا فمن الذي احتلنا ويعيش حتى الآن على ثرواتنا المسروقة؟ هذه المشاهد تكلم فيها كثيرون، لكن من بينها مشهد لم يحظ بالقدر الذي يستحقه من النقاش، ذلك هو: تزاحم الأمريكان على متاجر شراء السلاح جراء شعورهم باحتمال حدوث الفوضى واحتياج الواحد منهم إلى حماية نفسه وممتلكاته. ويناظره على مستوى الدول: تهديدات ترمب المتعلقة بعلاج كورورنا. وقد أثار البعض في عالمنا سؤالاً يبدو رصيناً ولكنه ينطوي على نظرة حالمة ساذجة، ذلك هو المفاضلة بين إنفاق المال على التسلح وإنفاقها على التجهيزات الطبية، الاهتمام بتطوير السلاح أو الاهتمام بتطوير المعامل والأجهزة الطبية.. يقولون: ها قد بدا للعالم أن الإنفاق على السلاح وتطويره لم ينقذكم من الوباء، وكان الأولى أن تنفقوا على الطب والأبحاث. هذه نظرة حالمة ساذجة، ويجب أن يكون واضحاً أن الإنفاق على العلم يخدم السلاح والطب معاً، والأغلب أن الدول التي أنفقت على اختراع السلاح وتطويره هي التي تتمتع بأفضل وضع في التجهيزات الطبية، بينما المتخلفون الذين يسرفون في شراء السلاح هم أنفسهم الذين يسرفون في شراء الأجهزة الطبية، ويتمتعون في نفس الوقت بجيوش ضعيفة ومنظومات طبية ضعيفة.. على أننا سنسير وراء إغراء المفاضلة بين الطب والسلاح، ونسأل: إذا لم يكن لدينا خيار ثالث فأيهما أوجب: الإنفاق على اختراع السلاح وتطويره أم الإنفاق على الأبحاث الطبية؟ ربما في عالم الأحلام والعالم الإنساني الواحد الذي يعمه السلام سيكون علينا الإنفاق على الأبحاث الطبية، أما في عالمنا هذا الذي تنهش فيه الدول بعضها والبشر بعضهم، فلا بد أن يكون الجواب هو الإنفاق على السلاح.. فالقوي المسلح هو الذي يستطيع أن يسلب الضعيف تجهيزاته الطبية ويحتكر لنفسه نتائج الأبحاث الطبية التي قام بها، وسيجبر القويُّ المسلحُ الطبيبَ الضعيف على علاجه وعلاج عصابته قبل أن يعالج الطبيب أباه وأمه وأهله، هكذا سيكون الأمر تحت قوة السلاح! تنمو الحضارة بثلاثة أضلاع: العلم والسلاح والمال، وتظل متفوقة طالما أن الأضلاع الثلاثة تعمل على تقوية بعضها البعض؛ العلم يطور السلاح ويبتكر موارد المال، والسلاح يحرسهما ويأتي للعلم بالخبرات وللمال بالموارد الجديدة، والمال يغذيهما بالخبرات وبالإنفاق على تطورهما.. وحين ينهار ضلع من أولئك، أوْ لا تعمل المنظومة بما يجعل الأضلاع الثلاثة تخدم بعضها البعض تبدأ الحضارة في الانهيار، وساعتها تقع الحضارة الزاهية المتفوقة علمياً تحت أقدام الغزاة مهما كانوا أقل في درجة التطور العلمي والرقي الحضاري. في ساعة الفوضى سيكون اللص أقرب إليك من الفيروس، وأقدر على الفتك بك وبأهلك ومالك من المرض نفسه، وساعتها لن ينفعك جهاز التنفس الصناعي ولا علم الطب الذي في رأسك، ستنفعك القوة التي في يدك، والتي تستطيع أن تحميك.. هذا ما يدركه الناس بفطرتهم فيتحركون إليه كلٌّ بحسب قدرته، فمنهم من آخر قدرته أن يُخَزِّن الغذاء والدواء وأن يسحب ما يستطيع من أمواله المحبوسة في البنوك، ومنهم من قدرته أن يقاتل عن نفسه أو يقاتل ليسلب من غيره مأكله ودواءه وماله. على أن الأمريكان من ضمن الشعوب المحظوظة التي تتمتع بحق التسلح، بينما بلادنا العربية المنكوبة بأنظمتها هي ضمن البلاد المنكوبة بأنظمتها الأخرى التي تجعل هذا الحق مسلوباً من الشعوب، ومن ثمَّ فإن الشعوب في حالة الاستقرار أسرى بيد السلطة تظلمهم وتهبهم كيفما شاءت (بالقانون الذي تُفَصِّله طبعاً)، وفي حالة الفوضى أسرى بيد الخارجين على القانون الذين تسلحوا رغم أنف السلطة أو بمخادعتها. (للمزيد في هذا، اقرأ: مصير المواطن الصالح fb.com/Klmtuhaq/posts/694522941073575، نكبة الشعوب العزلاء fb.com/Klmtuhaq/posts/670804766778726/) وفي الواقع، ما لم تحصل شعوب أمتنا على حق التسلح هذا، فستظل الأمة ضعيفة ومقهورة وفي واقع احتلال وهزيمة، والحكومات المخلصة للشعوب الناهضة النامية تعرف أن قوتها في قوة شعبها المسلح، فالشعوب المسلحة عصية على الاستبداد وعصية على الاحتلال كذلك، وهكذا كانت شعوبنا المسلمة قبل عصر "الدولة الحديثة"، وكان المتطوعون في قصة كل جهاد ضد الاستبداد أو الاحتلال، حتى جاءت هذه الدولة الحديثة بجيشها الرسمي فصارت هزيمة الجيش تساوي سقوط الدولة (وكانت قبل ذاك تساوي بدء المقاومة الشعبية) ودخول العاصمة يساوي احتلال البلد كله (وكانت قبل ذلك تساوي بدء انتفاضة الأنحاء). (7) بنى الإسلام نظامه الاجتماعي على منهج تتعدد فيه مراكز القوى، فالسلطة قوية، والمجتمع قوي كذلك، وبينهما شبكة من العلماء يتمتعون باستقلالية ونفوذ تجعلهم في منطقة وسط بين السلطة وعموم الناس. ولكي لا تجور السلطة على الناس حرص الإسلام على أن يكون المجتمع شديد التماسك والتعاضد والتكافل، وجعل صلاحيات السلطة محدودة ومُسَمَّاة، وجعل شرعيتها مرتبطة بالتزامها الشريعة وجعل للناس حق الأمر بالمعروف وإنكار المنكر باليد واللسان فضلاً عن القلب. ولشدة حيوية المجتمع الإسلامي وقدرته على الثورة كان المجتمع مأموراً بالسمع والطاعة للحكام في غير معصية طالما كان انحرافهم بسيطاً. (للمزيد في هذا انظر كتاب "منهج الإسلام في بناء المجتمع bit.ly/34SGeMX"، وانظر: كيف نفهم أحاديث طاعة الأمراء bit.ly/2tZPNNd). هذا المنهج في بناء المجتمع بقدر ما يجعل المجتمع قوياً عصياً على أن يُستبدَّ به، بقدر ما يجعله أقدر على علاج مشكلاته وأسرع في الحركة لمعالجة نكباته، ومنها الأوبئة والطواعين.. وهذا على عكس نظام الدولة الحديثة الذي يجعل السلطة تحتكر كل شيء وتنظم كل شيء وتراقب كل شيء، وليس للمجتمع ملجأ إلا هي. والدول "المتقدمة" التي تعمل منظومة الدولة الحديثة فيها لخدمة الشعب ما إن تنزل بها كارثة أو نكبة حتى تسارع فتناشد المواطنين والمتطوعين -والمجتمع الدولي أيضاً- بمساعدتها في احتواء هذه النكبة وتقليل آثارها، أي أن المنظومة الحديثة غير قادرة وحدها على استيعاب الطوارئ والمشكلات رغم ما لديها من الصلاحيات الواسعة والترتيبات المتطورة والإدارات التفصيلية المزودة بالخطط والمقترحات والاستعدادات. فإذا كان هذا حال الدول "المتقدمة" في النكبات، فكيف يكون حال دولنا نحن التي صُمِّمت أساساً لا لخدمة الشعوب بل لقهرها، لا لمصلحة الناس بل لمصلحة السيد الأجنبي (لذلك قدَّم النظام المصري مساعدات للصين –التي تساعد دول العالم- ولإيطاليا بينما المصريون أنفسهم في أمس الحاجة إلى المساعدة مع انهيار منظومتهم الطبية التي لا يجد فيها الأطباء حتى الكمامات!).. كيف يكون حالنا؟ إنه لا سبيل أمام الشعوب في مثل هذه النكبات إلا أن تحيي من جديد قيم التكافل والتعاضد والتماسك، صلة الأرحام ومعنى العشيرة والقبيلة وأهل الحي وأهل الشارع، هذه الدوائر الصغيرة القريبة تستطيع أن تنقذ نفسها لأن الدولة لن تفكر في إنقاذها أصلاً. يجب أن يوجد في كل حي أو قرية متطوعون ينتدبون أنفسهم لتنظيم أمر القرية أو الحي وموارده ووضع نظام لمعرفة المصابين وكيف يمكن إيواؤهم وعزلهم صحياً والتصرف بما تحت أيديهم من إمكانيات ومبان ومركز صحي، وهم أعرف بمن فيهم من الأطباء والممرضين ومن يملكون المساعدة في التسجيل والرعاية والنقل، ومن يستطيع منهم أن يكفل الفقراء والمحتاجين الذين يتضررون بتوقف الأعمال، إلى آخره إلى آخره.. والعهد بالناس أنهم إذا انطلقوا استطاعوا إدارة أمورهم بأفضل مما تستطيعه السلطة المحترفة فكيف بالسلطة الفاسدة التي هي المرض الأكبر والوباء الأخطر؟! لقد أثنى النبي على الأشعريين، إذ كانوا حين تنزل بهم النازلة من المجاعة أو من غيرها يجمعون ما لديهم، ثم يقسمونه بحسب الحاجة على بعضهم، وهذه هي الصورة المثالية للمجتمع المسلم، إنها الصورة الضرورية التي تنتج عن مجتمع يلتقي أهل شارعه في اليوم خمس مرات، يعرفون حقوق الجار، لا يبيت أحدهم شبعاناً وجاره جائع، يخرجون الصدقات والزكوات للفقراء المحتاجين والأقربون أولى بالمعروف، مجتمع تتوطد فيه صلات الرحم، تنتشر فيه أعمال البر والوقف والتزاور.. الإسلام بنى مجتمعاً مكيناً راسخاً، ولا بد أن تعود هذه الصورة طاعةً لربنا أولاً وإنقاذاً لأنفسنا وأهلنا ثانياً. هذا هو الحل.. ولو استطاعت شعوبنا أن تفعله، فلربما كانت هذه هي الخطوة الأولى في بداية استقلال الأمة وعودة عزها ومجدها.
وكم في "كورورنا" من فوائد وعظات!

افتتاحية العدد الجديد بقلم محمد إلهامي

🔴 حمّل العدد الجديد
bit.ly/2xIQrAg

🔴 هدية العدد
bit.ly/39zxa1h

أليس من العسير أن يجد الكاتب شيئا يكتبه في أمرٍ يتكلم فيه العالم كله؟

بلى هو كذلك.. إلا أن الذي يُهَوِّن الأمر قليلاً هو تنوع الهموم، فكلٌّ يُغني على ليلاه، وكلٌّ يلتمس من الأحداث ما يجد فيه سلواه أو يجد فيه هداه.. وهذه سطور مسلم في زمن القهر والهزيمة، قد أظلته جائحة كورونا، ففيها من الهمَّ والشجوى ومن الدرس والعبرة ما لا يراه من لم يكن كذلك!

وهي –وإن طالت- مختصرة مجملة، فإن ظننتَ أن فيها سطحية مبتذلة، فكرِّر النظر وأعد التأمل، فقد أودعتها خلاصة نظر طويل، فإن تبينت المعنى ثم أنكرته فلا تثريب عليك، التثريب ألا تتبيّنه ثم تسارع مستنكراً.

(1)

كيف يكون الهول الأعظم إذا كان هذا هو ارتياع العالم من فيروس لا يُرى، ولا يقتل في الحال، بل وقد تعافى منه كثيرٌ ممن أصيبوا به؟

كيف سيكون حال الناس حين تتزلزل الأرض وتنشق السماء وتنتثر الجبال وتُحشَر الوحوش وتهيج البحار وينقلب حال الأرض كله هولاً عظيماً؟!

ذلك الذي يخوف الله به عباده..

(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس)

لقد كان الله حاضراً وخالقاً ومدبراً في كل لحظة، هو الذي خلق البذرة وخلق الماء وخلق الأرض ووضع في كل ذلك قوانين الزرع والنماء، فلما جاء الإنسان فبذر وسقى فخرج له زرعه ناضراً زاهياً، ظنَّ أنه الذي فعل هذا كله، وظنَّ أنه المتحكم فيه القادر عليه، فإذا به تأتيه العاصفة فتقلب له أرضه وزرعه، وتقلب معها تصوراته وأفكاره، وتفضح ضعفه وعجزه!

وما أشبه هذا بحال البشرية اليوم، تلك التي صار العلم فيها يُعبَد من دون الله، حتى ليُقال عن شيء فرضه الله صراحة "لا نؤمن به حتى يثبته العلم"، أو عن شيء حرَّمه الله صراحة "لا نكفّ عنه حتى يثبت العلم ضرره"، حتى هذا الخسوف والكسوف يثير صخب العلمويين حتى يسخروا ممن يهرع إلى الصلاة، لسان حالهم: تلك آية من آيات العلم لا من آيات الله!

وغداً بعد زوال هذه الجائحة، وسواءٌ أزالتْ بأمر الله من تلقاء نفسها، أو زالت بأمر الله بأن هدى بعض عباده لدوائها، سيرجع إلينا أولئك العلمويون ليقولوا: انتصر العلم!.. وهكذا حتى تأتيهم عاصفة أخرى تفضح ضعفهم وعجزهم، ويحق فيهم قوله تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون)، وقوله تعالى (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)، وقوله تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم).

(2)

آمن الناس بكورونا، ولم يؤمنوا برب كورورنا..

مع أنهم لم يروه جهرة، ولا سمعوا له صوتاً ولا أنزل لهم كتاباً ولا أرسل إليهم رسولاً، وما هو إلا أن أخبرهم الأطباء به، ثم أبصروا آثاره في بعضٍ منهم.. هذا الذي يثير الحرارة ويصيب بالصداع والغثيان وينشب في الرئة صار حقيقة لا شك فيه! وأما الذي خلق الرأس والحرارة والرئة والبدن وكورونا نفسه فلا يزالون يتجادلون فيه!!

لقد راوغ الملحدون كل مراوغة في التماس طريقة يثبتون بها الخلق دون الاضطرار إلى الإيمان بالخالق، فتحدثوا عن الصدفة، وعن التطور، وعن غيرها من الأسباب، بل جادلوا في قانون السببية نفسه، حتى صار يصحّ في عقول كثيرين منهم أن هذا الكون العظيم الرهيب، بل هذه الخلية الواحدة المعقدة ليس لها خالق، أو أن خالقها قد تركها (أي: خلقها عبثاً) كصانع الساعة الذي يضبط حركتها ثم يتركها.. وفاضت في هذا كتب وهلكت فيه أعمار وشغلت فيه ساعات من التلفاز والمسرح وأنواع الفنون.

فمن ذا يصدق الآن رجلاً يزعم أن كورونا ليس موجوداً، وأن الذين أصيبوا به إنما هم أناس ارتفعت حرارتهم وانهار تنفسهم بمحض الصدفة، لظروف خاصة شملت المصابين به عبر العالم، وأن انتشاره لا ينتقل بالعدوى بل انبثق من تلقاء نفسه في جسد كل مصاب، وأنها مجرد مؤامرة من الأطباء الكذابين الذين يستغلون خوف الناس من المجهول بغرض طلب الزعامة لأنفسهم؟!

هذا الذي قيل في الله وقيل عن رسله، مع أن الدلائل التي ساقها الله في كتابه المسطور وفي كونه المنظور، والتي جاء بها رسله، لم يأت بمثلها الأطباء عن كورونا، وإنما هم لا يزالون يكتشفون ويتبينون ويبحثون ويفحصون.. لكن الذين في قلوبهم مرض، كفروا بالله وكذبوا رسله، وآمنوا بكورونا وصدقوا الأطباء!

(3)

أخبرنا الأطباء أن اسمه: كورونا (المستجد)..

هل يكون من الدروشة أن يذكرنا هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "وما فشت الفاحشة في قوم فأذاعوا بها إلا ابتلاهم الله بالأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم"؟!

نعم، سيكون هذا من الدروشة والخرافة عند من يؤمن بالعلم، ذلك الذي لا يرى سبباً منطقياً واضحاً للربط بين انتشار الزنا والمجاهرة به وبين ظهور الأوبئة الجديدة.. ولكن مهلاً: ما هو العلم؟!

أليس هذا العلم نفسه هو الذي لم يكن يعرف أن أكل الخفافيش والقطط والكلاب قد يسبب هذا النوع من الأمراض؟ بلى، هو على الأقل العلم الذي لم يقطع بعد بالسبب الذي انتقل به الفيروس من الحيوانات إلى البشر.. فلا زال العلم يكتشف، وقد تكاثرت علينا أقوال "العلماء" حتى اضطربت وتناقضت!

لا بأس إذن.. إذا عرفنا أن العلم لم يبلغ من الإحاطة بالأمور ما يعصمنا به من الأضرار، فلماذا يُصِرُّ بعضهم على عدّه مصدراً وحيداً للمعرفة، ومعياراً وحيداً للحكم على الأمور؟!

إن في تاريخنا رجلاً أميًّا وجَّه أتباعه قبل نحو ألف وخمسمائة عام إلى تصرف الحجر الصحي حين ينزل الوباء في بلد ما، وفرض عليهم التطهر بالماء خمس مرات في اليوم في بيئة صحراوية الماء فيها عزيز نادر، ووجَّههم إلى غسل أيديهم عند الاستيقاظ من النوم "فلا تدري أين باتت يدك"، ووجههم إلى استعمال اليد اليمنى في المأكل والمشرب والطهور واستعمال اليسرى لمعالجة الأذى، ونهاهم عن الشرب من في السقاء، وعن التنفس في الإناء، وعن ترك الآنية مفتوحة مكشوفة، ونهاهم عن أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير والكلاب وذوات المخالب والأنياب، وعن البول في موارد الماء، وعن إنقاص الماء أو تغويره.. وقد بُنِيت على هذه التوجيهات أساطيل من الفقه المكتوب الذي يرقى الآن لأكثر مما يوصي به هذا "العلم الحديث"!

إذا كان رجلٌ أميٌّ قبل خمسة عشر قرنا قد قال بهذا كله.. أليس من العلم نفسه أن يُعد مصدراً للمعرفة؟! إن لم يكن إيماناً بأنه رسول الله فعلى الأقل وقوفاً أمام هذه الظاهرة العجيبة لهذا الحكيم العبقري الذي سبق العصور وخرق الأزمان وتفوق على العلوم؟

إنما هو أمرٌ قاله الله في كتابه بهذه البساطة الـمُعجزة المبهرة: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟).. هذه الآية تطرح على البشرية كلها سؤال: مصدر المعرفة؟ من الذي يملك أن يقول هذا حلال فكلوه وهذا حرام فاجتنبوه؟ من الذي يستطيع أن يهدي إلى الحق؟ اسمع قول الله تعالى (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَع أم من لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى؟ فما لكم كيف تحكمون؟)

وإذن، فإذا كان العلم لا زال يكتشف ويبحث ويحاول الربط بين الظواهر بوسائله التي لا تزال قاصرة غير قادرة على أن تعصمنا من الضرر، ثم إذا كان هذا علم رجل أمي قبل خمسة عشر قرناً.. فما الذي يجعل قول هذا الرجل الأمي عن انتشار الفاحشة وإذاعتها وكونه سبباً في ظهور الأوبئة محتاجاً إلى ختمٍ علمي كي يُعتمد ويُتَّبَع؟!

ولو تنزلنا وسلَّمنا جدلاً وفرضاً بموقف العلمويين هذا، فأيهما أحسن للإنسان وأحسن للناس جميعاً: رجل يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فإذا أصابه الطاعون اعتزل في بيته محتسباً عند الله أجر الشهيد؟ أم رجل اتبع العلم فلم يجد عنده مؤنساً من اليأس ولا ترغيباً في أجر ولا رادعاً من عقوبة فخرج يترك لعابه على الأبواب والمتاجر والمصاعد والمواصلات يريد أن ينشر المرض بين الناس عامداً، لسان حاله يقول: إذا متُّ ظمآنًا فلا نزل القَطْر؟!

أيهما أحسن للمرء ولبني الإنسان كلهم؟

(4)

بدأ كورورنا في الصين، وعلى نحو ما هو معروف للجميع فإن الصين قد سكّتت وصمتت وحاربت من يتكلم عنه خشيةً على تجارتها واقتصادها حتى فشا فيها المرض، ثم فشا في بقية البلاد، فاستيقظ العالم وإذا بالمرض قد انتشر فيه جميعاً..

وتحاول الصين الآن أن تهرع لمساعدة البلاد المنكوبة بما تستطيع، وهي تجد تجهماً وهجوماً شرساً عليها وعلى ما تسببت فيه جراء طغيانها وقهرها وكبتها وغموضها وتعميتها على العالم بشأن المرض، والآن هي اللحظة المثلى لكل ديمقراطي ليبرالي أن يتكلم عن الخطر الشديد الذي تسببه دولة ديكتاتورية شمولية لا على نفسها بل على العالم كله، وأن العالم كله يدفع ثمن وجود نظام ديكتاتوري واحد.

ونحن معه في هذا ونُسَلِّم له به.. ها هو العالم كله يذوق ويلات قبوله وسكوته على وجود نظام طغياني جبار، تسبب بسياسته غير الشفافة هذه في قتل آلاف البشر على بعد آلاف الأميال!

ولو عاد الزمن بأكثر الموتى وأهاليهم، وعلموا شيئاً من أمر الغيب، لكنت ترى أن محاربة الصين وتغيير نظامها ولو بالقوة هو عمل ينبغي أن يكون على رأس أولويات العالم..

مهلاً لحظة.. أراهم هنا يتحدثون عن "جهاد الطلب".. أليس كذلك؟!

أليس جهاد الطلب نفسه هو مطاردة الظلم والطغيان والشر في عقر داره، بلا احترام لمعنى السيادة على شعبه؟!
نعم.. نعم، أعرف أن الأمة الآن لا تحلم بجهاد الطلب بل هي عاجزة عن جهاد الدفع، وأنا أكتب لكم هذه السطور من موقعي كلاجئ مشرد، لا يدري هل يُسْجن غداً أو يُقْتَل بعد غد.. نعم، أعرف هذا.. وأعرف معه أيضاً أننا ينبغي أن نفهم ديننا ونستوعب معانيه لا أن نسارع لرفضها واستنكارها لأنها لا توافق الذوق السياسي المعاصر، فإذا فهمنا ديننا افتخرنا به، وذلك أول طريق العزة..

فالظاهرة التاريخية –كما يقول ريتشارد كوك وكريس سميث في كتابهما: انتحار الغرب- أن كل الذين غيروا العالم إنما هم الذين اعتقدوا في أنفسهم القدرة على إنقاذه. وها قد جئت بالمعنى من قول الكافرين، لأني أعرف أن نفوساً لن تستوعبه إذا قلته من كتاب رب العالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)!

لقد أخبرنا ربنا أن عقابه حين ينزل لا يصيب الظالمين وحدهم، بل يشمل معهم المظلومين (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب". وصوَّر لنا نبينا هذا الوضع أجمل وأشمل ما يكون التصوير، وذلك في حديث السفينة المشهور، وفيه أن الذين في أعلى السفينة لو تركوا الذين في أسفلها يتصرفون على هواهم ويخرقون السفينة فإنهم يهلكون جميعاً، فأما إذا تصدوا لهم (ولم يحترموا حريتهم في التصرف في نصيبهم!!) فإنهم ينجون جميعا!.. واقرأ هذه المعاني في أساليب متنوعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي باب الجهاد.

هذه الآيات وأمثالها، وهذه الأحاديث وأمثالها كانت تأسيساً لثورة المسلمين على الطغاة منهم، وعلى الطغاة من غيرهم، من هنا كانت مطاردة المسلمين للمنكر في الأرض كلها رحمة للعالمين، جهاداً في سبيل الله، وقد أحسن الأستاذ الراحل جلال كشك حيث قال: "الجهاد ثورتنا الدائمة"!

(5)

انقلب حال العالم، ومكث الناس في بيوتهم، وتعطلت الطائرات والاجتماعات وحتى الحفلات ومباريات الكرة.. يخاف الإنسان من الموت (وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد). وها قد ظهر لكلٍّ منا أن كثيراً من الأمور يملك أن يتخلى عنها، بعضها هين وبعضها مع نوع من الألم والمعاناة، إلا أن خطر المرض الذي يُحتمل معه الموت أكبر من ألم الترك.

يشبه هذا مشهداً قديماً..

مشهد المدينة المنورة حين نزل أمر الله بترك الخمر، فإذا بأزقة المدينة تسيل بالخمر التي كسَر المسلمون أوانيها. وكذا مشهدها حين نزل أمر الله بحجاب النساء فكانت النساء تشققن مروطهن فيحتجبن بها.. إلا أن أسلافنا من الصحابة الأجلاء لم يكونوا يخشون من الموت، بل كانوا يخشون النار..

كانت الخمر عادة عربية راسخة، وكذا كانت ثياب النساء.. وانتهى هذا حين كان داعي التغيير أقوى من داعي العادة والميل والشهوة، سيظل هناك من يذنب ويعصي في كل الأحوال (كما سيظل في الناس من يخترق حظر التجول بالتأكيد)، لكن هذا هو الشذوذ النادر وليس هو الأصل العام.

إذن نستطيع، ويستطيع الناس، في ظروف ليس بالهائلة المريعة أن تنقلب حياتهم.. ونحن نرى هذا بأنفسنا في أنفسنا حين يأتي رمضان، ينقلب شأن اليوم كله، فإذا بالطعام –وهو أرسخ العادات كلها- نتحمل الحرمان منه وانقلاب مواعيده، ذلك أن داعي طاعة الله وصوم الشهر الكريم أكبر في نفوسنا من ألم الجوع في النهار.

إن شهواتنا تحبس قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا، تحرمها من الظهور والنمو والفعالية.. وإن أطماعنا في الحياة والأموال والرفاهية تثقلنا وتعوق حركتنا، ولذلك فطن الإمام ابن حجر إلى أن من فضل الطاعون "تقصير الآمال، وتحسين الأعمال، واليقظة من الغفلة، والتزود للرحلة".

على أننا مهما حاولنا تذكير أنفسنا بهذه المعاني فلن نفلح في أن نعيشها، وليس يعيشها إلا المجاهدون، أولئك الذين يقترب الموت منهم في كل لحظة، فالواحد منهم متخفف من دنياه مقبل على آخرته، قصير الأمل قليل الطمع.. ولعل هذا من معاني كون الجهاد "ذروة سنام الإسلام"، إذ هو يرفع صاحبه ليكون في ذروة اليقظة وذروة الاستعداد.

(6)

بدا العالم وكأنه هشٌّ في مواجهة انتشار كورونا، المنظومات الصحية في الدول الغربية "المتقدمة" تضطرب وتفقد توازنها.. وظهرت طبيعة الدول التي لا تحفل بشأن الأخلاق، وتكرر استيلاء دولة على شحنة مساعدات طبية قادمة لدولة أخرى، كما تكررت شكوى دول أوروبية من التجاهل الأوروبي لمعاناتها، كذلك أبدى ترمب انزعاجه من أن يتوصل أحد إلى علاج كورونا ثم لا يكون الأمريكان أول من يستفيدون منه، وأصدر قراره بتسريع إجراءات هجرة الأطباء إلى أمريكا ليترك هؤلاء أهلهم وديارهم ويذهبوا لعلاج الأمريكان.

هذه المشاهد المريعة التي يجب أن تعيد إلينا التفكير في طبيعة النظام الدولي، وخرافات القانون الدولي والعلاقات الدولية والتعاون الدولي وسائر هذه المفاهيم التي تظهر في أوقات الرخاء كقيود حريرية تُسْتَعبَد بها الشعوب.

وهذا الذي حصل بين الدول حصل مثله في الشعوب.. الشعوب الأوروبية "المتقدمة" التي افترست المتاجر، وأحياناً اقتحمتها وسلبتها ونهبتها، فضلاً عن التعامل الشنيع مع المسنين والعجائز إما كمرضى أو كمقيمين في دور العجزة أو حتى كزبائن لا يستطيعون المزاحمة. وهو ما يجب أن يعيد إلينا الثقة بأنفسنا وينقض عند كثير منا ما أصيبوا به من عقدة الخواجة وتوهم أن القوم ينطوون على أخلاق أصيلة لديهم منحها إياهم رقيهم الحضاري.. والحق أنها أخلاق زائفة تسود في لحظة الأمن والطمأنينة واستتباب النظام.. وإلا فمن الذي احتلنا ويعيش حتى الآن على ثرواتنا المسروقة؟
هذه المشاهد تكلم فيها كثيرون، لكن من بينها مشهد لم يحظ بالقدر الذي يستحقه من النقاش، ذلك هو: تزاحم الأمريكان على متاجر شراء السلاح جراء شعورهم باحتمال حدوث الفوضى واحتياج الواحد منهم إلى حماية نفسه وممتلكاته. ويناظره على مستوى الدول: تهديدات ترمب المتعلقة بعلاج كورورنا.

وقد أثار البعض في عالمنا سؤالاً يبدو رصيناً ولكنه ينطوي على نظرة حالمة ساذجة، ذلك هو المفاضلة بين إنفاق المال على التسلح وإنفاقها على التجهيزات الطبية، الاهتمام بتطوير السلاح أو الاهتمام بتطوير المعامل والأجهزة الطبية.. يقولون: ها قد بدا للعالم أن الإنفاق على السلاح وتطويره لم ينقذكم من الوباء، وكان الأولى أن تنفقوا على الطب والأبحاث.

هذه نظرة حالمة ساذجة، ويجب أن يكون واضحاً أن الإنفاق على العلم يخدم السلاح والطب معاً، والأغلب أن الدول التي أنفقت على اختراع السلاح وتطويره هي التي تتمتع بأفضل وضع في التجهيزات الطبية، بينما المتخلفون الذين يسرفون في شراء السلاح هم أنفسهم الذين يسرفون في شراء الأجهزة الطبية، ويتمتعون في نفس الوقت بجيوش ضعيفة ومنظومات طبية ضعيفة.. على أننا سنسير وراء إغراء المفاضلة بين الطب والسلاح، ونسأل: إذا لم يكن لدينا خيار ثالث فأيهما أوجب: الإنفاق على اختراع السلاح وتطويره أم الإنفاق على الأبحاث الطبية؟

ربما في عالم الأحلام والعالم الإنساني الواحد الذي يعمه السلام سيكون علينا الإنفاق على الأبحاث الطبية، أما في عالمنا هذا الذي تنهش فيه الدول بعضها والبشر بعضهم، فلا بد أن يكون الجواب هو الإنفاق على السلاح.. فالقوي المسلح هو الذي يستطيع أن يسلب الضعيف تجهيزاته الطبية ويحتكر لنفسه نتائج الأبحاث الطبية التي قام بها، وسيجبر القويُّ المسلحُ الطبيبَ الضعيف على علاجه وعلاج عصابته قبل أن يعالج الطبيب أباه وأمه وأهله، هكذا سيكون الأمر تحت قوة السلاح!

تنمو الحضارة بثلاثة أضلاع: العلم والسلاح والمال، وتظل متفوقة طالما أن الأضلاع الثلاثة تعمل على تقوية بعضها البعض؛ العلم يطور السلاح ويبتكر موارد المال، والسلاح يحرسهما ويأتي للعلم بالخبرات وللمال بالموارد الجديدة، والمال يغذيهما بالخبرات وبالإنفاق على تطورهما.. وحين ينهار ضلع من أولئك، أوْ لا تعمل المنظومة بما يجعل الأضلاع الثلاثة تخدم بعضها البعض تبدأ الحضارة في الانهيار، وساعتها تقع الحضارة الزاهية المتفوقة علمياً تحت أقدام الغزاة مهما كانوا أقل في درجة التطور العلمي والرقي الحضاري.
في ساعة الفوضى سيكون اللص أقرب إليك من الفيروس، وأقدر على الفتك بك وبأهلك ومالك من المرض نفسه، وساعتها لن ينفعك جهاز التنفس الصناعي ولا علم الطب الذي في رأسك، ستنفعك القوة التي في يدك، والتي تستطيع أن تحميك.. هذا ما يدركه الناس بفطرتهم فيتحركون إليه كلٌّ بحسب قدرته، فمنهم من آخر قدرته أن يُخَزِّن الغذاء والدواء وأن يسحب ما يستطيع من أمواله المحبوسة في البنوك، ومنهم من قدرته أن يقاتل عن نفسه أو يقاتل ليسلب من غيره مأكله ودواءه وماله.

على أن الأمريكان من ضمن الشعوب المحظوظة التي تتمتع بحق التسلح، بينما بلادنا العربية المنكوبة بأنظمتها هي ضمن البلاد المنكوبة بأنظمتها الأخرى التي تجعل هذا الحق مسلوباً من الشعوب، ومن ثمَّ فإن الشعوب في حالة الاستقرار أسرى بيد السلطة تظلمهم وتهبهم كيفما شاءت (بالقانون الذي تُفَصِّله طبعاً)، وفي حالة الفوضى أسرى بيد الخارجين على القانون الذين تسلحوا رغم أنف السلطة أو بمخادعتها. (للمزيد في هذا، اقرأ: مصير المواطن الصالح
fb.com/Klmtuhaq/posts/694522941073575، نكبة الشعوب العزلاء fb.com/Klmtuhaq/posts/670804766778726/)

وفي الواقع، ما لم تحصل شعوب أمتنا على حق التسلح هذا، فستظل الأمة ضعيفة ومقهورة وفي واقع احتلال وهزيمة، والحكومات المخلصة للشعوب الناهضة النامية تعرف أن قوتها في قوة شعبها المسلح، فالشعوب المسلحة عصية على الاستبداد وعصية على الاحتلال كذلك، وهكذا كانت شعوبنا المسلمة قبل عصر "الدولة الحديثة"، وكان المتطوعون في قصة كل جهاد ضد الاستبداد أو الاحتلال، حتى جاءت هذه الدولة الحديثة بجيشها الرسمي فصارت هزيمة الجيش تساوي سقوط الدولة (وكانت قبل ذاك تساوي بدء المقاومة الشعبية) ودخول العاصمة يساوي احتلال البلد كله (وكانت قبل ذلك تساوي بدء انتفاضة الأنحاء).

(7)

بنى الإسلام نظامه الاجتماعي على منهج تتعدد فيه مراكز القوى، فالسلطة قوية، والمجتمع قوي كذلك، وبينهما شبكة من العلماء يتمتعون باستقلالية ونفوذ تجعلهم في منطقة وسط بين السلطة وعموم الناس.

ولكي لا تجور السلطة على الناس حرص الإسلام على أن يكون المجتمع شديد التماسك والتعاضد والتكافل، وجعل صلاحيات السلطة محدودة ومُسَمَّاة، وجعل شرعيتها مرتبطة بالتزامها الشريعة وجعل للناس حق الأمر بالمعروف وإنكار المنكر باليد واللسان فضلاً عن القلب.

ولشدة حيوية المجتمع الإسلامي وقدرته على الثورة كان المجتمع مأموراً بالسمع والطاعة للحكام في غير معصية طالما كان انحرافهم بسيطاً. (للمزيد في هذا انظر كتاب "منهج الإسلام في بناء المجتمع
bit.ly/34SGeMX"، وانظر: كيف نفهم أحاديث طاعة الأمراء bit.ly/2tZPNNd).

هذا المنهج في بناء المجتمع بقدر ما يجعل المجتمع قوياً عصياً على أن يُستبدَّ به، بقدر ما يجعله أقدر على علاج مشكلاته وأسرع في الحركة لمعالجة نكباته، ومنها الأوبئة والطواعين.. وهذا على عكس نظام الدولة الحديثة الذي يجعل السلطة تحتكر كل شيء وتنظم كل شيء وتراقب كل شيء، وليس للمجتمع ملجأ إلا هي.

والدول "المتقدمة" التي تعمل منظومة الدولة الحديثة فيها لخدمة الشعب ما إن تنزل بها كارثة أو نكبة حتى تسارع فتناشد المواطنين والمتطوعين -والمجتمع الدولي أيضاً- بمساعدتها في احتواء هذه النكبة وتقليل آثارها، أي أن المنظومة الحديثة غير قادرة وحدها على استيعاب الطوارئ والمشكلات رغم ما لديها من الصلاحيات الواسعة والترتيبات المتطورة والإدارات التفصيلية المزودة بالخطط والمقترحات والاستعدادات.

فإذا كان هذا حال الدول "المتقدمة" في النكبات، فكيف يكون حال دولنا نحن التي صُمِّمت أساساً لا لخدمة الشعوب بل لقهرها، لا لمصلحة الناس بل لمصلحة السيد الأجنبي (لذلك قدَّم النظام المصري مساعدات للصين –التي تساعد دول العالم- ولإيطاليا بينما المصريون أنفسهم في أمس الحاجة إلى المساعدة مع انهيار منظومتهم الطبية التي لا يجد فيها الأطباء حتى الكمامات!).. كيف يكون حالنا؟

إنه لا سبيل أمام الشعوب في مثل هذه النكبات إلا أن تحيي من جديد قيم التكافل والتعاضد والتماسك، صلة الأرحام ومعنى العشيرة والقبيلة وأهل الحي وأهل الشارع، هذه الدوائر الصغيرة القريبة تستطيع أن تنقذ نفسها لأن الدولة لن تفكر في إنقاذها أصلاً.

يجب أن يوجد في كل حي أو قرية متطوعون ينتدبون أنفسهم لتنظيم أمر القرية أو الحي وموارده ووضع نظام لمعرفة المصابين وكيف يمكن إيواؤهم وعزلهم صحياً والتصرف بما تحت أيديهم من إمكانيات ومبان ومركز صحي، وهم أعرف بمن فيهم من الأطباء والممرضين ومن يملكون المساعدة في التسجيل والرعاية والنقل، ومن يستطيع منهم أن يكفل الفقراء والمحتاجين الذين يتضررون بتوقف الأعمال، إلى آخره إلى آخره.. والعهد بالناس أنهم إذا انطلقوا استطاعوا إدارة أمورهم بأفضل مما تستطيعه السلطة المحترفة فكيف بالسلطة الفاسدة التي هي المرض الأكبر والوباء الأخطر؟!

لقد أثنى النبي على الأشعريين، إذ كانوا حين تنزل بهم النازلة من المجاعة أو من غيرها يجمعون ما لديهم، ثم يقسمونه بحسب الحاجة على بعضهم، وهذه هي الصورة المثالية للمجتمع المسلم، إنها الصورة الضرورية التي تنتج عن مجتمع يلتقي أهل شارعه في اليوم خمس مرات، يعرفون حقوق الجار، لا يبيت أحدهم شبعاناً وجاره جائع، يخرجون الصدقات والزكوات للفقراء المحتاجين والأقربون أولى بالمعروف، مجتمع تتوطد فيه صلات الرحم، تنتشر فيه أعمال البر والوقف والتزاور.. الإسلام بنى مجتمعاً مكيناً راسخاً، ولا بد أن تعود هذه الصورة طاعةً لربنا أولاً وإنقاذاً لأنفسنا وأهلنا ثانياً.

هذا هو الحل..

ولو استطاعت شعوبنا أن تفعله، فلربما كانت هذه هي الخطوة الأولى في بداية استقلال الأمة وعودة عزها ومجدها.
‏٠٢‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٩:٤٦ م‏
🔵 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 33)) ⚫️ يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (33)، ومعه هدية حصرية، كتاب: مختارات من مذكرات كيسنجر (ج2) 🔴 حمّل العدد الجديد bit.ly/2xIQrAg رابط مباشر على تيليجرام t.me/klmtuhaq/494 🔴 هدية العدد bit.ly/39zxa1h 🔴 الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk
🔵 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 33))

⚫️ يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (33)، ومعه هدية حصرية، كتاب: مختارات من مذكرات كيسنجر (ج2)

🔴 حمّل العدد الجديد
bit.ly/2xIQrAg

رابط مباشر على تيليجرام
t.me/klmtuhaq/494

🔴 هدية العدد
bit.ly/39zxa1h

🔴 الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏٠١‏/٠٤‏/٢٠٢٠ ٩:٢٧ م‏
ملف: أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب عالقون بلا استراتيجية (ج1) ● كان لدى بوش وأوباما خُطط على طرفي نقيض لكسب الحرب وقد فشلت كلها تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1] ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم في البداية ، كان الدافع لغزو أفغانستان واضحًا ومنطقياً، ألا وهو تدمير (القاعدة)، والإطاحة بنظام طالبان، ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. في غضون ستة أشهر، أنجزت الولايات المتحدة إلى حد كبير ما كانت تنوي القيام به، قُتل قادة القاعدة وطالبان أو أُسروا وهربوا. ولكن بعد ذلك ارتكبت الحكومة الأمريكية خطأً جوهرياً، ستكرره مرارًا وتكرارًا على مدى 17 عامًا، وفقًا للوثائق الحكومية المخبأة التي حصلت عليها واشنطن بوست. في مئات المقابلات السرية التي تشكل تاريخًا سريًا للحرب، اعترف المسؤولون الأمريكيون والحلفاء بأنهم انحرفوا في اتجاهات لا علاقة لها بتنظيم القاعدة أو أحداث 11 سبتمبر، وذلك من خلال توسيع المهمة الأصلية، وذكروا أنهم اعتمدوا استراتيجيات قتال معيبة تستند إلى افتراضات مضللة عن بلد لم يفهموه. والنتيجة: صراع لا يمكن التغلب عليه، مع عدم وجود مخرج سهل. يقول ريتشارد باوتشر، الذي شغل منصب كبير الدبلوماسيين بوزارة الخارجية لجنوب آسيا في الفترة من 2006 إلى 2009: "إذا كانت هناك نظرية عن (المهمة المختلة) فستكون حول مهمتنا بأفغانستان". "يجب أن نقول كفى. نحن هناك من 15 سنة نحاول تحقيق ما لا يمكن تحقيقه، بدلاً من تحقيق ما يمكن تحقيقه". في المقابلات الصريحة غير المعتادة، قال المسؤولون الذين خدموا في عهد الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما إن الاثنين قد فشلا في مهمتهما الأكثر أهمية كقائدين رئيسيين في وضع استراتيجية واضحة بأهداف موجزة يمكن تحقيقها. اعترف الدبلوماسيون والقادة العسكريون أنهم كافحوا للإجابة على أسئلة بسيطة مثل: مَن العدو؟ من الذي يمكننا الاعتماد عليه كحلفاء؟ كيف نعرف متى فزنا؟ اختلفت استراتيجيات بوش وأوباما، لكنهما ارتكبا أخطاء فادحة جداً لم يتعافيا منها أبداً، وفقاً للمقابلات. بعد سلسلة من الانتصارات العسكرية السريعة عام 2001 وأوائل عام 2002، قرر بوش الإبقاء على قوة خفيفة من القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى لملاحقة الإرهابيين المشتبه بهم. لكنه سرعان ما وضع خططًا لغزو دولة أخرى - العراق - وسرعان ما أصبحت أفغانستان أمراً ثانوياً. وقال جيمس دوبينز، الدبلوماسي المحترف الذي شغل منصب المبعوث الخاص لأفغانستان في عهد بوش وأوباما، لمقابلات الحكومة إنه كان خطأ متغطرساً، وكان ينبغي أن يكون ذلك واضحًا منذ البداية. عند تولى أوباما السلطة عام 2009، كانت القاعدة قد اختفت إلى حد كبير من أفغانستان، لكن طالبان قد عادت مرة أخرى. مزق أوباما استراتيجية بوش لمكافحة الإرهاب، ووافق على خطة معاكسة، تتمثل في حملة ضخمة لمكافحة التمرد، تتكون من 150 ألف جندي أمريكي وقوات لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى أطنان من المساعدات لحكومة أفغانية ضعيفة. على عكس بوش، وضع أوباما مواعيد نهائية صارمة، ووعد بإعادة جميع القوات الأمريكية إلى الوطن بحلول نهاية فترة رئاسته. لكن استراتيجية أوباما كانت مصيرها الفشل. المسؤولون الأمريكيون ومسؤولو الناتو والأفغان الذين أجروا مقابلات مع الحكومة قالوا إنها حاولت إنجاز الكثير بسرعة كبيرة، وإنها اعتمدت على حكومة أفغانية فاسدة وغير فعالة. الأسوأ، كما قالوا، أن أوباما حدد تواريخ زائفة لإنهاء الحرب قبل أن تنتهي، وكل ما كان على طالبان فعله هو انتظاره. يقول بوب كراولي (عقيد في الجيش متقاعد خدم كمستشار لمكافحة التمرد في 2013 و 2014): "كان هناك عدد من الافتراضات الخاطئة في الاستراتيجية، مثل: أفغانستان مستعدة للديمقراطية بين عشية وضحاها، وأن السكان سيدعمون الحكومة خلال مدة قصيرة، وغير ذلك من الافتراضات المتفائلة". على مدى السنوات الـ 18 الماضية، انتشر أكثر من 775،000 جندي أمريكي في أفغانستان، العديد منهم انتشروا مرارًا وتكرارًا. ومن بين هؤلاء مات 2300 شخص، و20.589 عادوا إلى منازلهم مصابين، وفقاً لأرقام وزارة الدفاع. اليوم، لا يزال نحو 13000 جندي أمريكي في أفغانستان. ويعترف الجيش الأمريكي بأن طالبان أقوى الآن من أي وقت مضى منذ عام 2001. ومع ذلك، لا توجد محاسبة شاملة وعامة للإخفاقات الاستراتيجية التي تقف وراء أطول حرب في التاريخ الأمريكي. لم تكن هناك لجنة تحقيق فيما جرى في أفغانستان على غرار لجنة 11 سبتمبر، والتي أرغمت الحكومة على تحمل المسؤولية في أعقاب أسوأ هجوم إرهابي على الأراضي الأمريكية؛ لا توجد نسخة لأفغانستان من جلسات (فولبرايت)، عندما تساءل أعضاء مجلس الشيوخ بقوة عن الحرب في فيتنام؛ لا توجد لأفغانستان نسخة رسمية من الجيش مؤلفة من 1300 صفحة تدرس تاريخ الحرب في العراق بعمق. في عام 2014، قررت وكالة اتحادية صغيرة أنشأها الكونجرس محاولة ملء الفراغ. أطلق مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، المعروف باسم SIGAR، مشروعًا بقيمة 11 مليون دولار - بعنوان "الدروس المستفادة" - لدراسة الأخطاء الأساسية للحرب. بعد إجراء مقابلة مع أكثر من 600 شخص، نشر باحثو الوكالة سبعة تقارير أوصت بإجراء تغييرات في السياسة/ الخطة. لتجنب الجدال ، قامت SIGAR باستبعاد أقسى الانتقادات من مقابلات الدروس المستفادة وحذفت أسماء أكثر من 90 بالمائة من الأشخاص الذين تحدثت معهم. كما ألغت خططًا لنشر تقرير منفصل عن أوجه القصور في استراتيجية الحرب الأفغانية. بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات، حصلت (واشنطن بوست) على ملاحظات ونصوص، بالإضافة إلى العديد من التسجيلات الصوتية لأكثر من 400 من المقابلات. تكشف الوثائق بلغة صارخة أن الأشخاص الذين شاركوا مباشرة في الحرب لم يتمكنوا من التخلص من شكوكهم بشأن الاستراتيجية والمهمة بأكملها، حتى عندما أخبر بوش وأوباما وبعد ذلك الرئيس ترامب الشعب الأمريكي أنه من الضروري مواصلة القتال. "ماذا كنا نفعل فعلاً في هذا البلد؟" يتساءل مسؤول أميركي لم تُحدد هويته في مقابلة مع الحكومة، كان مسؤولاً عن الاتصال بحلف الناتو، والذي أضاف: "ما هي أهدافنا؟ بناء الأمة؟ حقوق المرأة؟ لم يكن واضحًا تمامًا في أذهاننا ما هي الأهداف والجداول الزمنية المحددة". وقال جيفري إيجرز، وهو مسؤول متقاعد من قوات البحرية ومسؤول بالبيت الأبيض في عهد بوش وأوباما، إن قلة من الناس توقفوا للتشكيك في جدوى إبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان. "لماذا جعلنا طالبان العدو عندما هاجمنا تنظيم القاعدة؟ لماذا نريد هزيمة طالبان؟" قال إيجرز ذلك في مقابلات الدروس المستفادة، وأضاف: "النظام عاجز عن أخذ خطوة للوراء للتساؤل عن الافتراضات الأساسية". وقال باوتشر، الدبلوماسي المحترف الذي شغل أيضًا منصب كبير المتحدثين باسم وزارة الخارجية في عهد بوش، إن المسؤولين الأمريكيين لا يعرفون شيئاً عما يفعلون: "أولاً، ذهبنا للقضاء على القاعدة، ولإخراجها من أفغانستان، وقد حققنا ذلك حتى دون قتل بن لادن". "كانت طالبان تطلق علينا النار فبدأنا في إطلاق النار عليهم وأصبحوا العدو. في النهاية واصلنا توسيع المهمة باطراد". ما يقولون في العلن 28 مارس 2002 "الشيء الوحيد الذي يمكنك فعله هو قصفهم ومحاولة قتلهم، وهذا ما فعلناه، وقد نجح، لقد اختفوا". - وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يتحدث عن طالبان والقاعدة، مقابلة مع MSNBC تلا تصريح رامسفيلد السابق لأوانه عدة تصريحات، افترض فيها كبار القادة الأمريكيين وهماً أنهم يستطيعون إنهاء الحرب بشروطهم. لقد تعرضت طالبان لضربة موجعة ولكن لم تختفِ. رفضت إدارة بوش، وسط شعورها بالثقة المفرطة بسبب السهولة الظاهرة لغزو أفغانستان، الجلوس مع قادة طالبان المهزومين للتفاوض على سلام دائم، وهو قرار ندم عليه المسؤولون الأمريكيون لاحقًا. استُبعدت طالبان من المؤتمرات الدولية والتجمعات الأفغانية من 2001 إلى 2003 التي شكلت حكومة جديدة، على الرغم من أن بعض شخصيات طالبان أبدت استعدادًا للانضمام إليها. وبدلاً من ذلك، نشرت الولايات المتحدة مكافآت مقابل أَسرهم وأرسلت المئات منهم إلى معتقل جوانتانامو في كوبا. بارنيت روبين، الخبير الأكاديمي الأمريكي في أفغانستان والذي عمل مستشارًا للأمم المتحدة في ذلك الوقت، قال في مقابلات الدروس المستفادة: "كان خطأ كبيراً عندما عاملنا طالبان مثل تنظيم القاعدة.. كان قادة طالبان الرئيسيون مستعدين لإعطاء النظام الجديد فرصة، لكننا لم نعطهم فرصة". طالبان لم تكن متورطة في هجمات 11 سبتمبر، لم يكن أي من الخاطفين أو المخططين أفغانيين. لكن إدارة بوش صنفت قادة طالبان على أنهم إرهابيون لأنهم أعطوا ملاذاً لتنظيم القاعدة ورفضوا تسليم أسامة بن لادن. كان من السهل شيطنة طالبان بسبب وحشيتها وتعصبها الديني، لكن الحركة أثبتت أنها كبيرة للغاية ومتأصلة في المجتمع الأفغاني. وقال روبن في مقابلة ثانية مع "الدروس المستفادة": "الكل أراد أن تختفي طالبان.. لم تكن هناك شهية كبيرة لما أطلقنا عليه الحد من التهديد للدبلوماسية الإقليمية ودمج طالبان في عملية السلام". اتفق مسؤول من الأمم المتحدة لم يكشف عن اسمه مع ما قال روبن، وصرّح للمقابلات بأنها كانت أكبر فرصة ضائعة في الحرب. وقال المسؤول في الأمم المتحدة: "في تلك اللحظة، كان معظم قادة الحزب الإسلامي أو قادة طالبان مهتمين بالانضمام إلى الحكومة". في إشارة إلى ميليشيا أفغانية أخرى قاتلت القوات الأمريكية. وقال المسؤول للدروس المستفادة: "إذا أتيحت لك الفرصة للتحدث مع طالبان، فتحدث معهم". أدرك المسؤولون الأمريكيون متأخراً أنه كان من المستحيل هزيمة طالبان. اليوم يقول مسؤولو البنتاجون إن السبيل الوحيد لإنهاء الحرب هو التوصل إلى تسوية سياسية تتصالح فيها طالبان مع الحكومة الأفغانية. في العام الماضي، فتحت الحكومة الأمريكية محادثات سلام مباشرة رفيعة المستوى مع طالبان لأول مرة. خمسة من مفاوضي طالبان هم أسرى حرب سابقون على يد الولايات المتحدة، قضى كل منهم عشر سنوات في الأسر في جوانتانامو. أما المبعوث الأمريكي الرئيسي فهو زلماي خليل زاد، الدبلوماسي الأفغاني الأمريكي الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في أفغانستان من عام 2003 إلى عام 2005 ثم سفيراً لدى العراق والأمم المتحدة. في مقابلة من مقابلات الدروس المستفادة في ديسمبر/ كانون الأول 2016، اعترف خليل زاد بأنه من خلال رفض التحدث مع طالبان، ربما تكون إدارة بوش قد أفسدت فرصة لإنهاء الحرب بعد وقت قصير من بدئها. وقال: "ربما لم نكن نتحلى بالمرونة أو الحكمة الكافية للتواصل مع طالبان في وقت مبكر، لأننا اعتقدنا أنهم هُزموا وأن الناقص فقط تقديمهم إلى العدالة، بدلاً من استيعابهم أو إجراء بعض المصالحة". بعد عام من مقابلة خليل زاد مع الدروس المستفادة ، سحبه ترامب إلى الخدمة العامة من خلال استغلاله كمبعوث أمريكي للتفاوض مع طالبان. قام المسؤولون الفيدراليون بتنقيح أجزاء واسعة من مقابلة خليل زاد قبل نشر نسخة لصحيفة The Post في يونيو، قائلين إنها تحتوي على معلومات سرية. في دعوى قضائية ، قالت وزارة العدل إن الكشف عن المواد السرية "قد يؤثر سلبًا على المفاوضات الدبلوماسية الجارية". طلبت الصحيفة من قاض فيدرالي مراجعة ما إذا كانت تصريحات خليل زاد مصنفة بشكل صحيح، والقرار إلى الآن معلق. في مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولون آخرون إن إدارة بوش ضاعفت من خطأها المبكر مع طالبان من خلال ارتكاب خطأ حرج آخر، وهو معاملة باكستان كصديق. أعطى الحاكم العسكري الباكستاني الجنرال برويز مشرف، البنتاجون الإذن لاستخدام المجال الجوي الباكستاني، والسماح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتتبع قادة القاعدة في الأراضي الباكستانية. ونتيجة لذلك، كان البيت الأبيض في عهد بوش بطيئًا في إدراك أن باكستان كانت تقدم بذلك دعمًا سريًا لطالبان، وفقًا للمقابلات. يقول مارين سترميكي كبير مستشاري رامسفيلد لمقابلة الحكومة: "بسبب ثقة الناس في مشرف وبسبب مساعدته للشرطة للقضاء على أفراد القاعدة في باكستان، كان هناك فشل في إدراك اللعبة المزدوجة التي بدأها بحلول أواخر عام 2002 ، وفي أوائل عام 2003". وأضاف سترميكي: "أعتقد أن الأفغان، و[الرئيس حامد] كرزاي نفسه، يثيرون هذا الأمر باستمرار حتى في بدايات عام 2002.. إنهم يقابلون آذانًا غير متعاطفة بسبب الاعتقاد بأن باكستان كانت تساعدنا كثيرًا ضد تنظيم القاعدة.. لا توجد مساءلة جادة لباكستان حول دورها الداعم لحركة طالبان". ________________________________________ [1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء. وهو عبارة عن ستة أجزاء ومعهم ثلاثة مقالات إضافية، وقد ترجمنا الجزء الأول (والذي بعنوان: في حرب من الحقيقة) في العددين السابقين من مجلة كلمة حق، عدد 30 و31. [المترجم]
ملف: أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب
عالقون بلا استراتيجية (ج1)

● كان لدى بوش وأوباما خُطط على طرفي نقيض لكسب الحرب وقد فشلت كلها

تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1]

ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم

في البداية ، كان الدافع لغزو أفغانستان واضحًا ومنطقياً، ألا وهو تدمير (القاعدة)، والإطاحة بنظام طالبان، ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر الإرهابية.
في غضون ستة أشهر، أنجزت الولايات المتحدة إلى حد كبير ما كانت تنوي القيام به، قُتل قادة القاعدة وطالبان أو أُسروا وهربوا.

ولكن بعد ذلك ارتكبت الحكومة الأمريكية خطأً جوهرياً، ستكرره مرارًا وتكرارًا على مدى 17 عامًا، وفقًا للوثائق الحكومية المخبأة التي حصلت عليها واشنطن بوست.

في مئات المقابلات السرية التي تشكل تاريخًا سريًا للحرب، اعترف المسؤولون الأمريكيون والحلفاء بأنهم انحرفوا في اتجاهات لا علاقة لها بتنظيم القاعدة أو أحداث 11 سبتمبر، وذلك من خلال توسيع المهمة الأصلية، وذكروا أنهم اعتمدوا استراتيجيات قتال معيبة تستند إلى افتراضات مضللة عن بلد لم يفهموه.

والنتيجة: صراع لا يمكن التغلب عليه، مع عدم وجود مخرج سهل.

يقول ريتشارد باوتشر، الذي شغل منصب كبير الدبلوماسيين بوزارة الخارجية لجنوب آسيا في الفترة من 2006 إلى 2009: "إذا كانت هناك نظرية عن (المهمة المختلة) فستكون حول مهمتنا بأفغانستان". "يجب أن نقول كفى.

نحن هناك من 15 سنة نحاول تحقيق ما لا يمكن تحقيقه، بدلاً من تحقيق ما يمكن تحقيقه".

في المقابلات الصريحة غير المعتادة، قال المسؤولون الذين خدموا في عهد الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما إن الاثنين قد فشلا في مهمتهما الأكثر أهمية كقائدين رئيسيين في وضع استراتيجية واضحة بأهداف موجزة يمكن تحقيقها.

اعترف الدبلوماسيون والقادة العسكريون أنهم كافحوا للإجابة على أسئلة بسيطة مثل: مَن العدو؟ من الذي يمكننا الاعتماد عليه كحلفاء؟ كيف نعرف متى فزنا؟

اختلفت استراتيجيات بوش وأوباما، لكنهما ارتكبا أخطاء فادحة جداً لم يتعافيا منها أبداً، وفقاً للمقابلات.

بعد سلسلة من الانتصارات العسكرية السريعة عام 2001 وأوائل عام 2002، قرر بوش الإبقاء على قوة خفيفة من القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى لملاحقة الإرهابيين المشتبه بهم. لكنه سرعان ما وضع خططًا لغزو دولة أخرى - العراق - وسرعان ما أصبحت أفغانستان أمراً ثانوياً.

وقال جيمس دوبينز، الدبلوماسي المحترف الذي شغل منصب المبعوث الخاص لأفغانستان في عهد بوش وأوباما، لمقابلات الحكومة إنه كان خطأ متغطرساً، وكان ينبغي أن يكون ذلك واضحًا منذ البداية.

عند تولى أوباما السلطة عام 2009، كانت القاعدة قد اختفت إلى حد كبير من أفغانستان، لكن طالبان قد عادت مرة أخرى.

مزق أوباما استراتيجية بوش لمكافحة الإرهاب، ووافق على خطة معاكسة، تتمثل في حملة ضخمة لمكافحة التمرد، تتكون من 150 ألف جندي أمريكي وقوات لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى أطنان من المساعدات لحكومة أفغانية ضعيفة.

على عكس بوش، وضع أوباما مواعيد نهائية صارمة، ووعد بإعادة جميع القوات الأمريكية إلى الوطن بحلول نهاية فترة رئاسته.

لكن استراتيجية أوباما كانت مصيرها الفشل. المسؤولون الأمريكيون ومسؤولو الناتو والأفغان الذين أجروا مقابلات مع الحكومة قالوا إنها حاولت إنجاز الكثير بسرعة كبيرة، وإنها اعتمدت على حكومة أفغانية فاسدة وغير فعالة.

الأسوأ، كما قالوا، أن أوباما حدد تواريخ زائفة لإنهاء الحرب قبل أن تنتهي، وكل ما كان على طالبان فعله هو انتظاره.

يقول بوب كراولي (عقيد في الجيش متقاعد خدم كمستشار لمكافحة التمرد في 2013 و 2014): "كان هناك عدد من الافتراضات الخاطئة في الاستراتيجية، مثل: أفغانستان مستعدة للديمقراطية بين عشية وضحاها، وأن السكان سيدعمون الحكومة خلال مدة قصيرة، وغير ذلك من الافتراضات المتفائلة".

على مدى السنوات الـ 18 الماضية، انتشر أكثر من 775،000 جندي أمريكي في أفغانستان، العديد منهم انتشروا مرارًا وتكرارًا. ومن بين هؤلاء مات 2300 شخص، و20.589 عادوا إلى منازلهم مصابين، وفقاً لأرقام وزارة الدفاع.

اليوم، لا يزال نحو 13000 جندي أمريكي في أفغانستان. ويعترف الجيش الأمريكي بأن طالبان أقوى الآن من أي وقت مضى منذ عام 2001. ومع ذلك، لا توجد محاسبة شاملة وعامة للإخفاقات الاستراتيجية التي تقف وراء أطول حرب في التاريخ الأمريكي.

لم تكن هناك لجنة تحقيق فيما جرى في أفغانستان على غرار لجنة 11 سبتمبر، والتي أرغمت الحكومة على تحمل المسؤولية في أعقاب أسوأ هجوم إرهابي على الأراضي الأمريكية؛ لا توجد نسخة لأفغانستان من جلسات (فولبرايت)، عندما تساءل أعضاء مجلس الشيوخ بقوة عن الحرب في فيتنام؛ لا توجد لأفغانستان نسخة رسمية من الجيش مؤلفة من 1300 صفحة تدرس تاريخ الحرب في العراق بعمق.

في عام 2014، قررت وكالة اتحادية صغيرة أنشأها الكونجرس محاولة ملء الفراغ. أطلق مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، المعروف باسم SIGAR، مشروعًا بقيمة 11 مليون دولار - بعنوان "الدروس المستفادة" - لدراسة الأخطاء الأساسية للحرب. بعد إجراء مقابلة مع أكثر من 600 شخص، نشر باحثو الوكالة سبعة تقارير أوصت بإجراء تغييرات في السياسة/ الخطة.

لتجنب الجدال ، قامت SIGAR باستبعاد أقسى الانتقادات من مقابلات الدروس المستفادة وحذفت أسماء أكثر من 90 بالمائة من الأشخاص الذين تحدثت معهم. كما ألغت خططًا لنشر تقرير منفصل عن أوجه القصور في استراتيجية الحرب الأفغانية.

بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات، حصلت (واشنطن بوست) على ملاحظات ونصوص، بالإضافة إلى العديد من التسجيلات الصوتية لأكثر من 400 من المقابلات. تكشف الوثائق بلغة صارخة أن الأشخاص الذين شاركوا مباشرة في الحرب لم يتمكنوا من التخلص من شكوكهم بشأن الاستراتيجية والمهمة بأكملها، حتى عندما أخبر بوش وأوباما وبعد ذلك الرئيس ترامب الشعب الأمريكي أنه من الضروري مواصلة القتال.

"ماذا كنا نفعل فعلاً في هذا البلد؟" يتساءل مسؤول أميركي لم تُحدد هويته في مقابلة مع الحكومة، كان مسؤولاً عن الاتصال بحلف الناتو، والذي أضاف: "ما هي أهدافنا؟ بناء الأمة؟ حقوق المرأة؟ لم يكن واضحًا تمامًا في أذهاننا ما هي الأهداف والجداول الزمنية المحددة".

وقال جيفري إيجرز، وهو مسؤول متقاعد من قوات البحرية ومسؤول بالبيت الأبيض في عهد بوش وأوباما، إن قلة من الناس توقفوا للتشكيك في جدوى إبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان.

"لماذا جعلنا طالبان العدو عندما هاجمنا تنظيم القاعدة؟ لماذا نريد هزيمة طالبان؟" قال إيجرز ذلك في مقابلات الدروس المستفادة، وأضاف: "النظام عاجز عن أخذ خطوة للوراء للتساؤل عن الافتراضات الأساسية".

وقال باوتشر، الدبلوماسي المحترف الذي شغل أيضًا منصب كبير المتحدثين باسم وزارة الخارجية في عهد بوش، إن المسؤولين الأمريكيين لا يعرفون شيئاً عما يفعلون: "أولاً، ذهبنا للقضاء على القاعدة، ولإخراجها من أفغانستان، وقد حققنا ذلك حتى دون قتل بن لادن". "كانت طالبان تطلق علينا النار فبدأنا في إطلاق النار عليهم وأصبحوا العدو. في النهاية واصلنا توسيع المهمة باطراد".

ما يقولون في العلن
28 مارس 2002

"الشيء الوحيد الذي يمكنك فعله هو قصفهم ومحاولة قتلهم، وهذا ما فعلناه، وقد نجح، لقد اختفوا".

- وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يتحدث عن طالبان والقاعدة، مقابلة مع MSNBC

تلا تصريح رامسفيلد السابق لأوانه عدة تصريحات، افترض فيها كبار القادة الأمريكيين وهماً أنهم يستطيعون إنهاء الحرب بشروطهم. لقد تعرضت طالبان لضربة موجعة ولكن لم تختفِ.

رفضت إدارة بوش، وسط شعورها بالثقة المفرطة بسبب السهولة الظاهرة لغزو أفغانستان، الجلوس مع قادة طالبان المهزومين للتفاوض على سلام دائم، وهو قرار ندم عليه المسؤولون الأمريكيون لاحقًا.

استُبعدت طالبان من المؤتمرات الدولية والتجمعات الأفغانية من 2001 إلى 2003 التي شكلت حكومة جديدة، على الرغم من أن بعض شخصيات طالبان أبدت استعدادًا للانضمام إليها. وبدلاً من ذلك، نشرت الولايات المتحدة مكافآت مقابل أَسرهم وأرسلت المئات منهم إلى معتقل جوانتانامو في كوبا.

بارنيت روبين، الخبير الأكاديمي الأمريكي في أفغانستان والذي عمل مستشارًا للأمم المتحدة في ذلك الوقت، قال في مقابلات الدروس المستفادة: "كان خطأ كبيراً عندما عاملنا طالبان مثل تنظيم القاعدة.. كان قادة طالبان الرئيسيون مستعدين لإعطاء النظام الجديد فرصة، لكننا لم نعطهم فرصة".

طالبان لم تكن متورطة في هجمات 11 سبتمبر، لم يكن أي من الخاطفين أو المخططين أفغانيين. لكن إدارة بوش صنفت قادة طالبان على أنهم إرهابيون لأنهم أعطوا ملاذاً لتنظيم القاعدة ورفضوا تسليم أسامة بن لادن.

كان من السهل شيطنة طالبان بسبب وحشيتها وتعصبها الديني، لكن الحركة أثبتت أنها كبيرة للغاية ومتأصلة في المجتمع الأفغاني.

وقال روبن في مقابلة ثانية مع "الدروس المستفادة": "الكل أراد أن تختفي طالبان.. لم تكن هناك شهية كبيرة لما أطلقنا عليه الحد من التهديد للدبلوماسية الإقليمية ودمج طالبان في عملية السلام".

اتفق مسؤول من الأمم المتحدة لم يكشف عن اسمه مع ما قال روبن، وصرّح للمقابلات بأنها كانت أكبر فرصة ضائعة في الحرب. وقال المسؤول في الأمم المتحدة: "في تلك اللحظة، كان معظم قادة الحزب الإسلامي أو قادة طالبان مهتمين بالانضمام إلى الحكومة". في إشارة إلى ميليشيا أفغانية أخرى قاتلت القوات الأمريكية. وقال المسؤول للدروس المستفادة: "إذا أتيحت لك الفرصة للتحدث مع طالبان، فتحدث معهم".

أدرك المسؤولون الأمريكيون متأخراً أنه كان من المستحيل هزيمة طالبان. اليوم يقول مسؤولو البنتاجون إن السبيل الوحيد لإنهاء الحرب هو التوصل إلى تسوية سياسية تتصالح فيها طالبان مع الحكومة الأفغانية.

في العام الماضي، فتحت الحكومة الأمريكية محادثات سلام مباشرة رفيعة المستوى مع طالبان لأول مرة.

خمسة من مفاوضي طالبان هم أسرى حرب سابقون على يد الولايات المتحدة، قضى كل منهم عشر سنوات في الأسر في جوانتانامو. أما المبعوث الأمريكي الرئيسي فهو زلماي خليل زاد، الدبلوماسي الأفغاني الأمريكي الذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في أفغانستان من عام 2003 إلى عام 2005 ثم سفيراً لدى العراق والأمم المتحدة.

في مقابلة من مقابلات الدروس المستفادة في ديسمبر/ كانون الأول 2016، اعترف خليل زاد بأنه من خلال رفض التحدث مع طالبان، ربما تكون إدارة بوش قد أفسدت فرصة لإنهاء الحرب بعد وقت قصير من بدئها. وقال: "ربما لم نكن نتحلى بالمرونة أو الحكمة الكافية للتواصل مع طالبان في وقت مبكر، لأننا اعتقدنا أنهم هُزموا وأن الناقص فقط تقديمهم إلى العدالة، بدلاً من استيعابهم أو إجراء بعض المصالحة".

بعد عام من مقابلة خليل زاد مع الدروس المستفادة ، سحبه ترامب إلى الخدمة العامة من خلال استغلاله كمبعوث أمريكي للتفاوض مع طالبان.

قام المسؤولون الفيدراليون بتنقيح أجزاء واسعة من مقابلة خليل زاد قبل نشر نسخة لصحيفة The Post في يونيو، قائلين إنها تحتوي على معلومات سرية. في دعوى قضائية ، قالت وزارة العدل إن الكشف عن المواد السرية "قد يؤثر سلبًا على المفاوضات الدبلوماسية الجارية".

طلبت الصحيفة من قاض فيدرالي مراجعة ما إذا كانت تصريحات خليل زاد مصنفة بشكل صحيح، والقرار إلى الآن معلق.

في مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولون آخرون إن إدارة بوش ضاعفت من خطأها المبكر مع طالبان من خلال ارتكاب خطأ حرج آخر، وهو معاملة باكستان كصديق.

أعطى الحاكم العسكري الباكستاني الجنرال برويز مشرف، البنتاجون الإذن لاستخدام المجال الجوي الباكستاني، والسماح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتتبع قادة القاعدة في الأراضي الباكستانية. ونتيجة لذلك، كان البيت الأبيض في عهد بوش بطيئًا في إدراك أن باكستان كانت تقدم بذلك دعمًا سريًا لطالبان، وفقًا للمقابلات.

يقول مارين سترميكي كبير مستشاري رامسفيلد لمقابلة الحكومة: "بسبب ثقة الناس في مشرف وبسبب مساعدته للشرطة للقضاء على أفراد القاعدة في باكستان، كان هناك فشل في إدراك اللعبة المزدوجة التي بدأها بحلول أواخر عام 2002 ، وفي أوائل عام 2003".

وأضاف سترميكي: "أعتقد أن الأفغان، و[الرئيس حامد] كرزاي نفسه، يثيرون هذا الأمر باستمرار حتى في بدايات عام 2002.. إنهم يقابلون آذانًا غير متعاطفة بسبب الاعتقاد بأن باكستان كانت تساعدنا كثيرًا ضد تنظيم القاعدة.. لا توجد مساءلة جادة لباكستان حول دورها الداعم لحركة طالبان".

________________________________________
[1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء. وهو عبارة عن ستة أجزاء ومعهم ثلاثة مقالات إضافية، وقد ترجمنا الجزء الأول (والذي بعنوان: في حرب من الحقيقة) في العددين السابقين من مجلة كلمة حق، عدد 30 و31. [المترجم]
‏٣١‏/٠٣‏/٢٠٢٠ ٨:٥٣ م‏
مقال عالم أسير..

هذا يوم من أيام الله تعالى

د. محمد موسى الشريف
‏٢٦‏/٠٣‏/٢٠٢٠ ٨:١٢ م‏
من تراث الأزهر
‏٢٥‏/٠٣‏/٢٠٢٠ ٩:٣١ م‏
(( إعلان )) مطلوب مصمم جرافيك ((متطوع)) لمجلة كلمة حق، يجيد العمل على الفوتوشوب والإنديزاين، على أن يتسم بالجدية والالتزام بالوقت. رجاء إرسال الاسم وبلد الإقامة ونماذج من الأعمال السابقة على بريد المجلة: klmtuhaq@gmail.com
(( إعلان ))

مطلوب مصمم جرافيك ((متطوع)) لمجلة كلمة حق، يجيد العمل على الفوتوشوب والإنديزاين، على أن يتسم بالجدية والالتزام بالوقت.

رجاء إرسال الاسم وبلد الإقامة ونماذج من الأعمال السابقة على بريد المجلة:
klmtuhaq@gmail.com
‏٢٣‏/٠٣‏/٢٠٢٠ ١١:٥١ ص‏
أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب في حرب مع الحقيقة (2/2) تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1] ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم ماذا يقولون في العلن 1 ديسمبر 2009 "انتهى التوقيع على بياض، يجب أن يكون واضحاً أن الأفغان يتعين عليهم تحمل مسؤولية أمنهم، وأن أمريكا ليست لديها مصلحة في خوض حرب لا نهاية لها في أفغانستان". الرئيس باراك أوباما، في خطاب ألقاه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، نيويورك. وعد كل من بوش وأوباما وترامب الجمهور بالشيء نفسه، لقد تجنبوا الوقوع في فخ "بناء الأمة" في أفغانستان. لقد فشل الرؤساء فشلا ذريعاً، وخصصت الولايات المتحدة أكثر من 133 مليار دولار لبناء أفغانستان، أي أكثر مما خصصت للقضاء على التضخم، لإحياء أوروبا الغربية بأكملها بخطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. تُظهر مقابلات الدروس المستفادة أن مشروع بناء الأمة الفخم كان مشوهاً منذ البداية. حاول المسؤولون الأمريكيون تشكيل حكومة ديمقراطية في كابول على غرار حكومتهم في واشنطن. لقد كان مفهومًا أجنبيًا على الأفغان الذين اعتادوا القبلية والملكية والشيوعية والشريعة الإسلامية. "محاولتنا إنشاء حكومة مركزية قوية في أفغانستان كانت غبية؛ لأن أفغانستان لم تعرف في تاريخها مثل هذه الحكومة"، هذا ما صرح به مسؤول سابق في وزارة الخارجية أثناء مقابلة حكومية عام 2015. "الإطار الزمني لإنشاء حكومة مركزية قوية هو 100 سنة، وهي المدة التي لم تُتح لنا". وفي الوقت نفسه، أغرقت الولايات المتحدة البلد الهش بمساعدات أكبر بكثير مما يمكن أن تستوعبها. خلال ذروة القتال، في الفترة من 2009 إلى 2012، اعتقد المشرعون والقادة العسكريون الأمريكيون أنه كلما زاد إنفاقهم على المدارس والجسور والقنوات ومشاريع الأشغال المدنية الأخرى، تحسن الوضع الأمني بشكل أسرع. وقال عمال الإغاثة للقائمين على إجراء المقابلات الحكومية إن هذا كان سوء تقدير هائلاً، يشبه ضخ الكيروسين فقط لإبقاء الشعلة حية. أحد المديرين التنفيذيين -لم يذكر اسمه- في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) خمن أن 90 في المائة مما أنفقوه كان مبالغاً فيه: "لقد فقدنا الموضوعية. لقد حصلنا على المال، وقيل لنا أنفقوه، فأنفقناه دون سبب". ألقى الكثير من عمال الإغاثة باللوم على الكونجرس لما عدوه اندفاعًا طائشًا في الإنفاق. أخبر متعاقد مجهول المقابلات الحكومية أنه من المتوقع أن يخصص 3 ملايين دولار يوميًا لمشاريع في منطقة أفغانية واحدة بحجم مقاطعة أمريكية تقريبًا. سأل ذات مرة أحد أعضاء الكونجرس الزائرين عما إذا كان بإمكان المشرع أن ينفق هذا النوع من المال بشكل مسؤول في الوطن قال "لا بحق الجحيم". "حسنًا، سيدي، هذا ما ألزمتنا به للتو، وأنا أفعل ذلك لمجتمعات تعيش في أكواخ من الطين بلا نوافذ". كما أدى تداعيات المساعدات التي أنفقتها واشنطن على أفغانستان إلى ظهور مستويات تاريخية من الفساد. في الأماكن العامة، أصر المسؤولون الأمريكيون على عدم تسامحهم مع الكسب غير المشروع. لكن في مقابلات "الدروس المستفادة"، اعترفوا بأن الحكومة الأمريكية غضت الطرف بينما ينهب الأفغان حلفاء واشنطن ويفلتون من العقاب. وقال كريستوفر كوليندا، عقيد في الجيش عمل في أفغانستان عدة مرات ونصح ثلاثة جنرالات أمريكيين مكلفين بالحرب، بأن الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس حامد كرزاي "متورطة في نظام حكم كليبتوري " بحلول عام 2006 - وأن المسؤولين الأمريكيين فشلوا في الاعتراف بالتهديد المميت الذي تشكله لاستراتيجيتهم. "أحب استخدام تشبيه السرطان"، قالت ذلك كولندا لمقابلات الحكومة. "الفساد الصغير يشبه سرطان الجلد، هناك طرق للتعامل معه، وربما يصبح الجلد على ما يرام. الفساد داخل الوزارات، المستوى الأعلى، يشبه سرطان القولون؛ الأمر أسوأ، ولكن إذا قضيت عليه في الوقت المناسب فأنت على الأرجح بخير. الكليبتوقراطية مثل سرطان الدماغ.. إنه قاتل". من خلال السماح للفساد بالتفاقم، صرح المسؤولون الأمريكيون خلال المقابلات، أنهم ساعدوا على تدمير الشرعية الشعبية للحكومة الأفغانية المتهورة التي كانوا يقاتلون لدعمها. مع ابتزاز القضاة ورؤساء الشرطة والبيروقراطيين للناس وطلبهم للرشاوي، حنق الكثير من الأفغان على الديمقراطية وتوجهوا إلى طالبان لفرض النظام. وقال كروكر، الذي عمل كأكبر دبلوماسي أمريكي في كابول في عام 2002 ومرة أخرى من عام 2011 إلى عام 2012، في مقابلات مع الحكومة: "مشروعنا الوحيد والأكبر، للأسف وبشكل غير مقصود، بالطبع، ربما كان تطوير الفساد الشامل". وأضاف: "بمجرد أن يصل إلى المستوى الذي رأيته عندما كنت هناك، يصبح من الصعب جداً أو المستحيل معالجته". ما قالوا في العلن 4 سبتمبر 2013 "لقد كان الجيش الشرطة فعالين للغاية في القتال ضد المتمردين. وأعتقد أن هذه قصة مهمة يجب سردها في جميع المجالات". الفريق آنذاك، الجنرال مارك أ. ميلي، يمتدح قوات الأمن الأفغانية خلال مؤتمر صحفي من كابول. ميللي الآن جنرال أربع نجوم ورئيس هيئة الأركان المشتركة. سنة بعد سنة، يقول الجنرالات الأمريكيون في العلن إنهم يحرزون تقدماً مطرداً في الهدف المركزي لاستراتيجيتهم: تدريب جيش أفغاني قوي وقوة شرطة وطنية يمكنها الدفاع عن البلاد دون مساعدة أجنبية. في المقابلات، وصف المدربون العسكريون الأمريكيون قوات الأمن الأفغانية بأنها غير كفؤة وغير صادقة. كما اتهموا القادة الأفغان بتحصيل الرواتب - التي يدفعها دافعو الضرائب الأمريكيون - لعشرات الآلاف من "الجنود الأشباح". لم يعرب أي أحد عن ثقته في قدرة الجيش والشرطة الأفغانيين على صد طالبان. لقد قُتل أكثر من 60.000 من أفراد قوات الأمن الأفغانية، وهو معدل الخسائر الذي وصفه القادة الأمريكيون بأنه لا يمكن تحمله. وقال جندي أمريكي لم تُحدد هويته إن فرق القوات الخاصة "كرهت" الشرطة الأفغانية التي تدربت على أيديهم وعملت معهم، ووصفوها بأنها بشعة وبأنها في قاع القاع. قدّر ضابط عسكري أمريكي أن ثلث مجندي الشرطة كانوا "مدمنين على المخدرات أو من طالبان". وضابط أمريكي آخر قال إنهم "سارقون حمقى" ينهبون الكثير من الوقود من القواعد الأمريكية لدرجة أنك تشم منهم رائحة البنزين دائماً. وقال مسؤول رفيع المستوى في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لم يكشف عن هويته في مقابلات الحكومة: "التفكير في أننا يمكن أن نبني الجيش بالسرعة والجودة المطلوبَين كان أمراً جنونياً". وفي الوقت نفسه، ومع فشل آمال الولايات المتحدة في إيجاد قوات أمن أفغانية بالشكل المطلوبة، أصبحت أفغانستان المصدر الرئيسي في العالم لكارثة متزايدة: الأفيون. أنفقت الولايات المتحدة نحو 9 مليارات دولار لمحاربة المشكلة على مدى السنوات الـ 18 الماضية، لكن المزارعين الأفغان يزرعون المزيد من خشخاش الأفيون أكثر من أي وقت مضى. في العام الماضي، كانت حظ أفغانستان 82 في المائة من الإنتاج العالمي للأفيون، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. في مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولون سابقون إن كل ما فعلوه تقريبًا لتقييد زراعة الأفيون يأتي بنتائج عكسية. قال دوجلاس لوت، قيصر الحرب الأفغانية في البيت الأبيض من عام 2007 إلى عام 2013: "لقد أعلنا بوضوح أن هدفنا هو إقامة "اقتصاد سوق مزدهر". "أعتقد أنه كان يتعين علينا أن نحدد فقط تجارة الأدوية، فهذا الجزء الوحيد المزدهر". من البداية، لم تعرف واشنطن كيف تدمج حربها على المخدرات مع حربها ضد القاعدة. بحلول عام 2006، كان المسؤولون الأمريكيون يخشون أن يكون تجار المخدرات قد أصبحوا أقوى من الحكومة الأفغانية وأن الأموال المربَحة من تجارة المخدرات كانت هي التي تشعل التمرد. لم تكن هناك أي وكالة أو دولة مسؤولة عن استراتيجية مكافحة المخدرات الأفغانية، لذا فإن وزارة الخارجية ووكالة مكافحة المخدرات والجيش الأمريكي وحلفاء الناتو والحكومة الأفغانية ظلوا يتدخلون باستمرار. وقال مسؤول بريطاني كبير سابق لم تذكر اسمه مقابلات الحكومة: "لقد كان شيئاً فوضوياً للغاية بلا أي فرصة للعمل المنظم". زادت الوكالات والحلفاء الأمور سوءًا من خلال تبني مجموعة مختلطة من البرامج، وفقًا للمقابلات. في البداية، كان البريطانيون يدفعون لمزارعي الخشخاش الأفغان لتدمير محاصيلهم، الأمر الذي شجعهم فقط على النمو أكثر في الموسم التالي. في وقت لاحق، قضت الحكومة الأمريكية على حقول الخشخاش دون تعويض، الأمر الذي أغضب المزارعين وشجعهم على الوقوف مع طالبان. "لقد كان من المحزن أن نرى الكثير من الناس يتصرفون بغباء"، هذا ما قاله مسؤول أمريكي خلال مقابلات الحكومة. الذي قالوه في العلن 8 سبتمبر 2008 هل نخسر هذه الحرب؟ بالتأكيد مستحيل. هل يستطيع العدو الفوز بها؟ بالتأكيد مستحيل". اللواء بالجيش الجنرال جيفري شلوسر ، قائد الفرقة 101، في مؤتمر صحفي من أفغانستان. شبح فيتنام يحوم حول أفغانستان منذ البداية. في 11 أكتوبر 2001، أي بعد أيام قليلة من بدء الولايات المتحدة قصف طالبان، سأل أحد المراسلين بوش: "هل يمكنك تجنب الانجراف إلى مستنقع أفغاني يشبه فيتنام؟" ردّ بوش بثقة: "لقد تعلمنا بعض الدروس المهمة للغاية في فيتنام". "كثيراً ما يسألني الناس إلى متى سيستمر هذا؟ ستستمر هذه المعركة إلى تقديم القاعدة إلى العدالة. قد يحدث غدًا، قد يحدث بعد شهر، وقد يستغرق عامًا أو عامين، لكننا سننتصر". في تلك الأيام الأولى، سخر قادة أميركيون آخرون من فكرة أن كابوس فيتنام قد يعيد نفسه في أفغانستان. قال رامسفيلد مازحاً في مؤتمر صحفي يوم 27 نوفمبر 2001: "نقول جميعاً معاً: مستنقع!" لكن طوال الحرب الأفغانية، أظهرت الوثائق أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين لجأوا إلى تكتيك قديم من حرب فيتنام: التلاعب بالرأي العام. في المؤتمرات الصحفية وغيرها من التجمعات العامة، اتبع المسؤولون عن الحرب نفس طريقة الكلام منذ 18 عامًا، بغض النظر عن الطريقة التي تسير بها الحرب - خاصة عندما تسير الأمور بشكل سيء - يؤكدون على أنهم يحرزون تقدماً. على سبيل المثال، تظهر بعض الكتابات التي أصدرها رامسفيلد مع مذكراته، أنه تلقى سلسلة من التحذيرات الرهيبة بشكل غير عادي من منطقة الحرب عام 2006. بعد عودته من مهمة لتقصي الحقائق إلى أفغانستان، أفاد باري مكافري، وهو جنرال متقاعد بالجيش، أن طالبان قد عادت بشكل مذهل وتوقع: "سنواجه بعض المفاجآت غير السارة في الأشهر الـ 24 المقبلة". وكتب ماكافري في يونيو/ حزيران 2006: "إن القيادة الوطنية الأفغانية مرعوبة جميعها من أننا سنخرج من أفغانستان في السنوات القليلة المقبلة - تاركين الناتو يمسك بزمام الأمور - وأن الأمر سينهار برمته في الفوضى". بعد ذلك بشهرين، أعطى مارين سترميكي، مستشار مدني لرامسفيلد، لرئيس البنتاجون تقريراً سرياً مؤلفاً من 40 صفحة ومزوداً بأخبار سيئة، فقال: "إن السخط الشعبي الهائل يتفاقم ضد الحكومة الأفغانية بسبب فسادها وعدم كفاءتها". كما قال: "إن طالبان أصبحت أقوى، بفضل دعم باكستان، حليفة أمريكا". لكن بمباركة رامسفيلد الشخصية، دفن البنتاجون التحذيرات الكئيبة وأخبر الجمهور بقصة مختلفة تمامًا. في أكتوبر 2006، قدّم كُتاب رامسفيلد ورقة بعنوان "أفغانستان: بعد خمس سنوات". كانت مليئة بالتفاؤل، وأبرزت أكثر من 50 من الحقائق والأرقام الواعدة، من عدد النساء الأفغانيات اللائي دُربن على "تحسين إدارة الدواجن" (أكثر من 19000) إلى "متوسط السرعة في معظم الطرق" (بزيادة 300 بالمائة). وقالت الورقة: "بعد مرور خمس سنوات، ظهر العديد من الأخبار الجيدة". "رغم المألوف في بعض الأوساط تسمية أفغانستان بأنها حرب منسية، أو القول بأن الولايات المتحدة فقدت تركيزها، فإن الحقائق تكذب الأساطير". اعتقد رامسفيلد أن هذه الورقة كانت رائعة، "هذه الورقة" كما كتب في مذكرةٍ: "هي قطعة ممتازة، فكيف نستخدمها؟ أيكون مقالاً؟ أم قطعة افتتاحية؟ أم نشرة؟ أم مؤتمراً صحفياً؟ أم كل ما ورد سابقاً؟ أعتقد أنها يجب أن تصل إلى الكثير من الناس". موظفو رامسفيلد حرصوا على التأكد من وصولها لأكبر قدر ممكن، فوزعوا نسخة على المراسلين ونشروها على مواقع البنتاجون الإلكترونية. منذ ذلك الحين، كان الجنرالات الأمريكيون يقرون دائمًا أن الحرب تتقدم بشكل جيد، بغض النظر عن الواقع في ساحة المعركة. قال الميجور جنرال جيفري شلوسر، قائد الفرقة 101، للصحفيين في سبتمبر 2008: "إننا نحرز بعض التقدم بشكل مطرد". بينما كان هو والقادة الأمريكيون الآخرون في كابول يطلبون بشكل عاجل تعزيزات لمواجهة موجة هجوم متصاعدة من مقاتلي طالبان. بعد ذلك بعامين، ومع ارتفاع معدل الإصابات بين قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى مستوى مرتفع، عقد الفريق ديفيد رودريجيز مؤتمراً صحفياً في كابول، وكان مما قال: "أولاً: نحن نحرز تقدماً متأنياً بشكل ثابت". في مارس 2011 ، خلال جلسات استماع بالكونجرس، أمطر مشرعون متشككون الجنرال ديفيد بترايوس، قائد قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان، بوابل من الشكوك في كون الاستراتيجية الأمريكية ناجحة. ورد بترايوس قائلاً: "شهدت الأشهر الثمانية الماضية تقدمًا مهمًا وصعب المنال". بعد عام واحد، أثناء زيارة إلى أفغانستان، تمسك وزير الدفاع ليون بانيتا بنفس السيناريو، رغم أنه نجا شخصياً من هجوم انتحاري. وقال بانيتا للصحفيين: "أعتقد أن الحملة، كما أشرت من قبل، قد حققت تقدماً ملحوظاً". في يوليو 2016، بعد تصاعد هجمات طالبان على المدن الكبرى، كرر الجنرال جون دبليو نيكولسون جونيور، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان حينها، هذا الادعاء، وقال للصحفيين: "إننا نشهد بعض التقدم". ما قالوا في العلن 27 مارس 2009 "للمضي قدمًا، لن نواصل المسيرة عُمياً، بدلاً من ذلك، سنضع مقاييس واضحة لقياس التقدم المحرز ومحاسبة أنفسنا". أوباما، في تصريحات من البيت الأبيض خلال فيتنام، اعتمد القادة العسكريون الأمريكيون على قياسات مشكوك فيها لإقناع الأمريكيين بأنهم فازوا. والأكثر شهرة، أن البنتاجون سلط الضوء على "إحصائيات الجثث" أو عدد مقاتلي العدو الذين قُتلوا، وتضخيم الأرقام كمقياس للنجاح. في أفغانستان، مع استثناءات من حين لآخر، تجنب الجيش الأمريكي بشكل عام الإعلان عن إحصائيات القتلى. لكن مقابلات الدروس المستفادة تحتوي على اعترافات عديدة بأن الحكومة روّجت بشكل منتظم للإحصائيات التي وصفها مسؤولون بأنها مشوهة أو زائفة أو خاطئة. قال شخص عُرفت هويته فقط كمسؤول بارز في مجلس الأمن القومي إن هناك ضغوطًا مستمرة من البيت الأبيض خلال عهد أوباما وكذلك البنتاجون، لتقديم أرقام تظهر أن زيادة عدد القوات في الفترة من 2009 إلى 2011 كانت ناجحة، على الرغم من الأدلة القوية على عكس ذلك. "كان من المستحيل إنشاء مقاييس جيدة، لقد حاولنا استخدام أعداد القوات المدربة، ومستويات العنف، والسيطرة على الأراضي، ولم يقدم أي منها صورة دقيقة". هذا ما صرح به مسؤول كبير في مجلس الأمن القومي في مقابلة مع الحكومة عام 2016، وأضاف: "لقد حدث تلاعب بالمقاييس دائمًا طوال فترة الحرب". وقال المسؤول البارز في مجلس الأمن القومي: "حتى عندما يكون عدد الضحايا والآخرين سيئاً، فإن البيت الأبيض والبنتاجون يتلاعبان بالأعداد بشكل سخيف. صُورت التفجيرات الانتحارية في كابول على أنها علامة على يأس الطالبان وأن المتمردين كانوا أضعف من أن يشاركوا في القتال المباشر. وفي الوقت نفسه، استشهد بارتفاع عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية كدليل على أن القوات الأمريكية كانت تقاتل العدو بشراسة. "لقد كانت تفسيراتهم"، قال ذلك المسؤول الكبير في مجلس الأمن القومي، وأضاف: "على سبيل المثال، الهجمات تزداد سوءًا؟ هذا بسبب وجود أهداف أكثر يستطيعون إطلاق النار عليها، وبالتالي المزيد من الهجمات مؤشر خاطئ على عدم الاستقرار. ثم، بعد ثلاثة أشهر، ما زالت الهجمات تزداد سوءًا؟ هذا لأن طالبان أصبحت يائسة، فهذا في الواقع مؤشر على أننا فزنا". وقال أيضاً: "لقد استمر هذا الأمر لسببين، لجعل كل المعنيين يبدون في حالة جيدة، ولجعل الأمر وكأن القوات والموارد كان لها نوع تأثير بحيث إن إزالتها سيؤدي إلى تدهور البلاد". في تقارير ميدانية أخرى أرسلت إلى القيادة، اتخذ الضباط العسكريون والدبلوماسيون نفس المنحى، بغض النظر عن الظروف على الأرض، زعموا أنهم يحققون تقدماً. وقال مايكل فلين، وهو جنرال متقاعد من الجيش من فئة ثلاثة نجوم، لمقابلات الحكومة عام 2015: "من السفراء وصولاً إلى المستوى المنخفض [يقولون جميعًا] نؤدي عملاً رائعاً. حقًا؟ فإذا كنا نؤدي عملاً رائعاً فلماذا يبدو الأمر وكأننا نخسر؟". عند وصولهم إلى أفغانستان، كُلف قادة الجيش والكتائب بنفس المهمة الأساسية: حماية السكان وهزيمة العدو، وفقًا لما ذكره فلين، الذي خدم مرات متعددة في أفغانستان كضابط مخابرات. وقال فلين، الذي خدم لفترة وجيزة كمستشار للأمن القومي لترامب: "فكلهم ذهبوا أياً كانت مدة خدمتهم تسعة أشهر أو ستة أشهر وكُلفوا بتلك المهمة، وقبلوها ونفذوها". وفقد فلين وظيفته في فترة وجيزة كمستشار لترامب بسبب فضيحة وأدين بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي. يقول فلين: "ثم قالوا جميعًا، عندما غادروا، إنهم أنجزوا المهمة. جميع القادة قالوا ذلك، ولم يقل واحد منهم وهو يغادر أفغانستان: أتعرف؟ نحن لم ننجز مهمتنا". وأضاف: "لذلك، عندما يأتي القائد التالي يجد الأوضاع محبطة، وهكذا يأتون ويذهبون، وضع هذا سيء للغاية". مايكل فلين، الدروس المستفادة، مقابلة 2015/11/10. قال بوب كراولي، العقيد المتقاعد بالجيش والذي عمل مستشارًا لمكافحة التمرد في أفغانستان عامي 2013 و2014 لمقابلات الحكومة إن "الحقيقة نادراً ما كانت موضع ترحيب" في المقر العسكري في كابول. وقال: "كانت الأخبار السيئة تُكبَت في كثير من الأحيان". "كان هناك المزيد من الحرية لمشاركة الأخبار السيئة إذا كانت صغيرة - نحن ندهس الأطفال بمدرعاتنا - لأنه يمكن تغيير هذه الأشياء بتوجيهات السياسة. لكن عندما حاولنا التعبير عن مخاوف استراتيجية أكبر حول استعداد أو قدرة أو فساد الحكومة الأفغانية، كان من الواضح أنها غير مرحب بها". وقال جون جاروفانو، وهو استراتيجي في كلية الحرب البحرية والذي قدم مشورة لقوات المارينز في مقاطعة هلمند عام 2011: "إن المسؤولين العسكريين في هذا المجال كرسوا قدراً هائلاً من الموارد لإعداد مخططات ملونة تنبأت بنتائج إيجابية". وقال لمقابلات الحكومة: "لقد كانت لديهم آلة باهظة الثمن بالفعل تطبع القطع الكبيرة من الورق كما هو الحال في المطبعة". "سيكون هناك تحذير أن هذه ليست شخصيات علمية في الواقع، أو أنه لا يوجد نهج علمي وراء ذلك". لكن جاروفانو قال إن أحداً لم يجرؤ على التساؤل عما إذا كانت المخططات والأرقام موثوقة أو ذات معنى، وقال: "لم يكن هناك استعداد للإجابة على أسئلة مثل: ما معنى هذا العدد من المدارس التي بنيتها؟ كيف يسير بك هذا نحو هدفك؟ كيف تظهر هذا كدليل على النجاح وليس مجرد دليل على الجهد أو دليل على أداء بعمل جيد؟". قال مسؤولون كبار آخرون إنهم يولون أهمية كبيرة لإحصائية واحدة على وجه الخصوص، وإن كان نادراً ما تحب الحكومة الأمريكية مناقشتها على الملأ. وقال جيمس دوبينز، الدبلوماسي الأمريكي السابق، أمام لجنة في مجلس الشيوخ عام 2009: "أعتقد أن المؤشر الرئيسي هو الذي اقترحته، وهو عدد الأفغان الذين يُقتلون". إذا انخفض العدد فأنت تفوز، إذا زاد فأنت تخسر، إنها بهذه السهولة". في العام الماضي، قُتل 3804 مدنيًا أفغانيًا في الحرب، وفقًا للأمم المتحدة. هذا هو الأكثر في عام واحد منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تعقب الخسائر البشرية منذ عقد مضى*. ________________________________________ [1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء . وهو عبارة عن ستة أجزاء ومعهم ثلاثة مقالات إضافية، ونحن نترجم هنا وفي العدد السابق الجزء الأول من هذه الأجزاء، والذي بعنوان: في حرب من الحقيقة. [المترجم] * انتهى الجزء الأول من السلسلة والذي هو بعنوان: في حرب مع الحقيقة. وقد ترجمناه في مقالين، في هذا العدد والعدد السابق من مجلة كلمة حق (المترجم).
أوراق أفغانية..التاريخ السري للحرب
في حرب مع الحقيقة (2/2)

تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست[1]


ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم

ماذا يقولون في العلن

1 ديسمبر 2009
"انتهى التوقيع على بياض، يجب أن يكون واضحاً أن الأفغان يتعين عليهم تحمل مسؤولية أمنهم، وأن أمريكا ليست لديها مصلحة في خوض حرب لا نهاية لها في أفغانستان".
الرئيس باراك أوباما، في خطاب ألقاه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، نيويورك.

وعد كل من بوش وأوباما وترامب الجمهور بالشيء نفسه، لقد تجنبوا الوقوع في فخ "بناء الأمة" في أفغانستان.
لقد فشل الرؤساء فشلا ذريعاً، وخصصت الولايات المتحدة أكثر من 133 مليار دولار لبناء أفغانستان، أي أكثر مما خصصت للقضاء على التضخم، لإحياء أوروبا الغربية بأكملها بخطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية.
تُظهر مقابلات الدروس المستفادة أن مشروع بناء الأمة الفخم كان مشوهاً منذ البداية.
حاول المسؤولون الأمريكيون تشكيل حكومة ديمقراطية في كابول على غرار حكومتهم في واشنطن. لقد كان مفهومًا أجنبيًا على الأفغان الذين اعتادوا القبلية والملكية والشيوعية والشريعة الإسلامية.

"محاولتنا إنشاء حكومة مركزية قوية في أفغانستان كانت غبية؛ لأن أفغانستان لم تعرف في تاريخها مثل هذه الحكومة"، هذا ما صرح به مسؤول سابق في وزارة الخارجية أثناء مقابلة حكومية عام 2015. "الإطار الزمني لإنشاء حكومة مركزية قوية هو 100 سنة، وهي المدة التي لم تُتح لنا".
وفي الوقت نفسه، أغرقت الولايات المتحدة البلد الهش بمساعدات أكبر بكثير مما يمكن أن تستوعبها.
خلال ذروة القتال، في الفترة من 2009 إلى 2012، اعتقد المشرعون والقادة العسكريون الأمريكيون أنه كلما زاد إنفاقهم على المدارس والجسور والقنوات ومشاريع الأشغال المدنية الأخرى، تحسن الوضع الأمني بشكل أسرع. وقال عمال الإغاثة للقائمين على إجراء المقابلات الحكومية إن هذا كان سوء تقدير هائلاً، يشبه ضخ الكيروسين فقط لإبقاء الشعلة حية.
أحد المديرين التنفيذيين -لم يذكر اسمه- في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) خمن أن 90 في المائة مما أنفقوه كان مبالغاً فيه: "لقد فقدنا الموضوعية. لقد حصلنا على المال، وقيل لنا أنفقوه، فأنفقناه دون سبب".
ألقى الكثير من عمال الإغاثة باللوم على الكونجرس لما عدوه اندفاعًا طائشًا في الإنفاق.
أخبر متعاقد مجهول المقابلات الحكومية أنه من المتوقع أن يخصص 3 ملايين دولار يوميًا لمشاريع في منطقة أفغانية واحدة بحجم مقاطعة أمريكية تقريبًا. سأل ذات مرة أحد أعضاء الكونجرس الزائرين عما إذا كان بإمكان المشرع أن ينفق هذا النوع من المال بشكل مسؤول في الوطن قال "لا بحق الجحيم". "حسنًا، سيدي، هذا ما ألزمتنا به للتو، وأنا أفعل ذلك لمجتمعات تعيش في أكواخ من الطين بلا نوافذ".
كما أدى تداعيات المساعدات التي أنفقتها واشنطن على أفغانستان إلى ظهور مستويات تاريخية من الفساد.
في الأماكن العامة، أصر المسؤولون الأمريكيون على عدم تسامحهم مع الكسب غير المشروع. لكن في مقابلات "الدروس المستفادة"، اعترفوا بأن الحكومة الأمريكية غضت الطرف بينما ينهب الأفغان حلفاء واشنطن ويفلتون من العقاب.
وقال كريستوفر كوليندا، عقيد في الجيش عمل في أفغانستان عدة مرات ونصح ثلاثة جنرالات أمريكيين مكلفين بالحرب، بأن الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس حامد كرزاي "متورطة في نظام حكم كليبتوري " بحلول عام 2006 - وأن المسؤولين الأمريكيين فشلوا في الاعتراف بالتهديد المميت الذي تشكله لاستراتيجيتهم.
"أحب استخدام تشبيه السرطان"، قالت ذلك كولندا لمقابلات الحكومة. "الفساد الصغير يشبه سرطان الجلد، هناك طرق للتعامل معه، وربما يصبح الجلد على ما يرام. الفساد داخل الوزارات، المستوى الأعلى، يشبه سرطان القولون؛ الأمر أسوأ، ولكن إذا قضيت عليه في الوقت المناسب فأنت على الأرجح بخير. الكليبتوقراطية مثل سرطان الدماغ.. إنه قاتل".
من خلال السماح للفساد بالتفاقم، صرح المسؤولون الأمريكيون خلال المقابلات، أنهم ساعدوا على تدمير الشرعية الشعبية للحكومة الأفغانية المتهورة التي كانوا يقاتلون لدعمها. مع ابتزاز القضاة ورؤساء الشرطة والبيروقراطيين للناس وطلبهم للرشاوي، حنق الكثير من الأفغان على الديمقراطية وتوجهوا إلى طالبان لفرض النظام.
وقال كروكر، الذي عمل كأكبر دبلوماسي أمريكي في كابول في عام 2002 ومرة أخرى من عام 2011 إلى عام 2012، في مقابلات مع الحكومة: "مشروعنا الوحيد والأكبر، للأسف وبشكل غير مقصود، بالطبع، ربما كان تطوير الفساد الشامل". وأضاف: "بمجرد أن يصل إلى المستوى الذي رأيته عندما كنت هناك، يصبح من الصعب جداً أو المستحيل معالجته".

ما قالوا في العلن
4 سبتمبر 2013

"لقد كان الجيش الشرطة فعالين للغاية في القتال ضد المتمردين. وأعتقد أن هذه قصة مهمة يجب سردها في جميع المجالات".
الفريق آنذاك، الجنرال مارك أ. ميلي، يمتدح قوات الأمن الأفغانية خلال مؤتمر صحفي من كابول. ميللي الآن جنرال أربع نجوم ورئيس هيئة الأركان المشتركة.
سنة بعد سنة، يقول الجنرالات الأمريكيون في العلن إنهم يحرزون تقدماً مطرداً في الهدف المركزي لاستراتيجيتهم: تدريب جيش أفغاني قوي وقوة شرطة وطنية يمكنها الدفاع عن البلاد دون مساعدة أجنبية.
في المقابلات، وصف المدربون العسكريون الأمريكيون قوات الأمن الأفغانية بأنها غير كفؤة وغير صادقة. كما اتهموا القادة الأفغان بتحصيل الرواتب - التي يدفعها دافعو الضرائب الأمريكيون - لعشرات الآلاف من "الجنود الأشباح".
لم يعرب أي أحد عن ثقته في قدرة الجيش والشرطة الأفغانيين على صد طالبان. لقد قُتل أكثر من 60.000 من أفراد قوات الأمن الأفغانية، وهو معدل الخسائر الذي وصفه القادة الأمريكيون بأنه لا يمكن تحمله.
وقال جندي أمريكي لم تُحدد هويته إن فرق القوات الخاصة "كرهت" الشرطة الأفغانية التي تدربت على أيديهم وعملت معهم، ووصفوها بأنها بشعة وبأنها في قاع القاع.
قدّر ضابط عسكري أمريكي أن ثلث مجندي الشرطة كانوا "مدمنين على المخدرات أو من طالبان". وضابط أمريكي آخر قال إنهم "سارقون حمقى" ينهبون الكثير من الوقود من القواعد الأمريكية لدرجة أنك تشم منهم رائحة البنزين دائماً.
وقال مسؤول رفيع المستوى في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لم يكشف عن هويته في مقابلات الحكومة: "التفكير في أننا يمكن أن نبني الجيش بالسرعة والجودة المطلوبَين كان أمراً جنونياً".
وفي الوقت نفسه، ومع فشل آمال الولايات المتحدة في إيجاد قوات أمن أفغانية بالشكل المطلوبة، أصبحت أفغانستان المصدر الرئيسي في العالم لكارثة متزايدة: الأفيون.
أنفقت الولايات المتحدة نحو 9 مليارات دولار لمحاربة المشكلة على مدى السنوات الـ 18 الماضية، لكن المزارعين الأفغان يزرعون المزيد من خشخاش الأفيون أكثر من أي وقت مضى. في العام الماضي، كانت حظ أفغانستان 82 في المائة من الإنتاج العالمي للأفيون، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
في مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولون سابقون إن كل ما فعلوه تقريبًا لتقييد زراعة الأفيون يأتي بنتائج عكسية.
قال دوجلاس لوت، قيصر الحرب الأفغانية في البيت الأبيض من عام 2007 إلى عام 2013: "لقد أعلنا بوضوح أن هدفنا هو إقامة "اقتصاد سوق مزدهر". "أعتقد أنه كان يتعين علينا أن نحدد فقط تجارة الأدوية، فهذا الجزء الوحيد المزدهر".
من البداية، لم تعرف واشنطن كيف تدمج حربها على المخدرات مع حربها ضد القاعدة. بحلول عام 2006، كان المسؤولون الأمريكيون يخشون أن يكون تجار المخدرات قد أصبحوا أقوى من الحكومة الأفغانية وأن الأموال المربَحة من تجارة المخدرات كانت هي التي تشعل التمرد.
لم تكن هناك أي وكالة أو دولة مسؤولة عن استراتيجية مكافحة المخدرات الأفغانية، لذا فإن وزارة الخارجية ووكالة مكافحة المخدرات والجيش الأمريكي وحلفاء الناتو والحكومة الأفغانية ظلوا يتدخلون باستمرار.
وقال مسؤول بريطاني كبير سابق لم تذكر اسمه مقابلات الحكومة: "لقد كان شيئاً فوضوياً للغاية بلا أي فرصة للعمل المنظم".
زادت الوكالات والحلفاء الأمور سوءًا من خلال تبني مجموعة مختلطة من البرامج، وفقًا للمقابلات.
في البداية، كان البريطانيون يدفعون لمزارعي الخشخاش الأفغان لتدمير محاصيلهم، الأمر الذي شجعهم فقط على النمو أكثر في الموسم التالي. في وقت لاحق، قضت الحكومة الأمريكية على حقول الخشخاش دون تعويض، الأمر الذي أغضب المزارعين وشجعهم على الوقوف مع طالبان.
"لقد كان من المحزن أن نرى الكثير من الناس يتصرفون بغباء"، هذا ما قاله مسؤول أمريكي خلال مقابلات الحكومة.
الذي قالوه في العلن
8 سبتمبر 2008
هل نخسر هذه الحرب؟ بالتأكيد مستحيل. هل يستطيع العدو الفوز بها؟ بالتأكيد مستحيل".
اللواء بالجيش الجنرال جيفري شلوسر ، قائد الفرقة 101، في مؤتمر صحفي من أفغانستان.
شبح فيتنام يحوم حول أفغانستان منذ البداية.
في 11 أكتوبر 2001، أي بعد أيام قليلة من بدء الولايات المتحدة قصف طالبان، سأل أحد المراسلين بوش: "هل يمكنك تجنب الانجراف إلى مستنقع أفغاني يشبه فيتنام؟"
ردّ بوش بثقة: "لقد تعلمنا بعض الدروس المهمة للغاية في فيتنام". "كثيراً ما يسألني الناس إلى متى سيستمر هذا؟ ستستمر هذه المعركة إلى تقديم القاعدة إلى العدالة. قد يحدث غدًا، قد يحدث بعد شهر، وقد يستغرق عامًا أو عامين، لكننا سننتصر".
في تلك الأيام الأولى، سخر قادة أميركيون آخرون من فكرة أن كابوس فيتنام قد يعيد نفسه في أفغانستان.
قال رامسفيلد مازحاً في مؤتمر صحفي يوم 27 نوفمبر 2001: "نقول جميعاً معاً: مستنقع!"
لكن طوال الحرب الأفغانية، أظهرت الوثائق أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين لجأوا إلى تكتيك قديم من حرب فيتنام: التلاعب بالرأي العام.
في المؤتمرات الصحفية وغيرها من التجمعات العامة، اتبع المسؤولون عن الحرب نفس طريقة الكلام منذ 18 عامًا، بغض النظر عن الطريقة التي تسير بها الحرب - خاصة عندما تسير الأمور بشكل سيء - يؤكدون على أنهم يحرزون تقدماً.
على سبيل المثال، تظهر بعض الكتابات التي أصدرها رامسفيلد مع مذكراته، أنه تلقى سلسلة من التحذيرات الرهيبة بشكل غير عادي من منطقة الحرب عام 2006.
بعد عودته من مهمة لتقصي الحقائق إلى أفغانستان، أفاد باري مكافري، وهو جنرال متقاعد بالجيش، أن طالبان قد عادت بشكل مذهل وتوقع: "سنواجه بعض المفاجآت غير السارة في الأشهر الـ 24 المقبلة".
وكتب ماكافري في يونيو/ حزيران 2006: "إن القيادة الوطنية الأفغانية مرعوبة جميعها من أننا سنخرج من أفغانستان في السنوات القليلة المقبلة - تاركين الناتو يمسك بزمام الأمور - وأن الأمر سينهار برمته في الفوضى".
بعد ذلك بشهرين، أعطى مارين سترميكي، مستشار مدني لرامسفيلد، لرئيس البنتاجون تقريراً سرياً مؤلفاً من 40 صفحة ومزوداً بأخبار سيئة، فقال: "إن السخط الشعبي الهائل يتفاقم ضد الحكومة الأفغانية بسبب فسادها وعدم كفاءتها". كما قال: "إن طالبان أصبحت أقوى، بفضل دعم باكستان، حليفة أمريكا".
لكن بمباركة رامسفيلد الشخصية، دفن البنتاجون التحذيرات الكئيبة وأخبر الجمهور بقصة مختلفة تمامًا.
في أكتوبر 2006، قدّم كُتاب رامسفيلد ورقة بعنوان "أفغانستان: بعد خمس سنوات". كانت مليئة بالتفاؤل، وأبرزت أكثر من 50 من الحقائق والأرقام الواعدة، من عدد النساء الأفغانيات اللائي دُربن على "تحسين إدارة الدواجن" (أكثر من 19000) إلى "متوسط السرعة في معظم الطرق" (بزيادة 300 بالمائة).
وقالت الورقة: "بعد مرور خمس سنوات، ظهر العديد من الأخبار الجيدة". "رغم المألوف في بعض الأوساط تسمية أفغانستان بأنها حرب منسية، أو القول بأن الولايات المتحدة فقدت تركيزها، فإن الحقائق تكذب الأساطير".
اعتقد رامسفيلد أن هذه الورقة كانت رائعة، "هذه الورقة" كما كتب في مذكرةٍ: "هي قطعة ممتازة، فكيف نستخدمها؟ أيكون مقالاً؟ أم قطعة افتتاحية؟ أم نشرة؟ أم مؤتمراً صحفياً؟ أم كل ما ورد سابقاً؟ أعتقد أنها يجب أن تصل إلى الكثير من الناس".
موظفو رامسفيلد حرصوا على التأكد من وصولها لأكبر قدر ممكن، فوزعوا نسخة على المراسلين ونشروها على مواقع البنتاجون الإلكترونية.
منذ ذلك الحين، كان الجنرالات الأمريكيون يقرون دائمًا أن الحرب تتقدم بشكل جيد، بغض النظر عن الواقع في ساحة المعركة.
قال الميجور جنرال جيفري شلوسر، قائد الفرقة 101، للصحفيين في سبتمبر 2008: "إننا نحرز بعض التقدم بشكل مطرد". بينما كان هو والقادة الأمريكيون الآخرون في كابول يطلبون بشكل عاجل تعزيزات لمواجهة موجة هجوم متصاعدة من مقاتلي طالبان.
بعد ذلك بعامين، ومع ارتفاع معدل الإصابات بين قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى مستوى مرتفع، عقد الفريق ديفيد رودريجيز مؤتمراً صحفياً في كابول، وكان مما قال: "أولاً: نحن نحرز تقدماً متأنياً بشكل ثابت".
في مارس 2011 ، خلال جلسات استماع بالكونجرس، أمطر مشرعون متشككون الجنرال ديفيد بترايوس، قائد قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان، بوابل من الشكوك في كون الاستراتيجية الأمريكية ناجحة.
ورد بترايوس قائلاً: "شهدت الأشهر الثمانية الماضية تقدمًا مهمًا وصعب المنال".
بعد عام واحد، أثناء زيارة إلى أفغانستان، تمسك وزير الدفاع ليون بانيتا بنفس السيناريو، رغم أنه نجا شخصياً من هجوم انتحاري.
وقال بانيتا للصحفيين: "أعتقد أن الحملة، كما أشرت من قبل، قد حققت تقدماً ملحوظاً".
في يوليو 2016، بعد تصاعد هجمات طالبان على المدن الكبرى، كرر الجنرال جون دبليو نيكولسون جونيور، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان حينها، هذا الادعاء، وقال للصحفيين: "إننا نشهد بعض التقدم".
ما قالوا في العلن
27 مارس 2009
"للمضي قدمًا، لن نواصل المسيرة عُمياً، بدلاً من ذلك، سنضع مقاييس واضحة لقياس التقدم المحرز ومحاسبة أنفسنا".
أوباما، في تصريحات من البيت الأبيض

خلال فيتنام، اعتمد القادة العسكريون الأمريكيون على قياسات مشكوك فيها لإقناع الأمريكيين بأنهم فازوا.
والأكثر شهرة، أن البنتاجون سلط الضوء على "إحصائيات الجثث" أو عدد مقاتلي العدو الذين قُتلوا، وتضخيم الأرقام كمقياس للنجاح.
في أفغانستان، مع استثناءات من حين لآخر، تجنب الجيش الأمريكي بشكل عام الإعلان عن إحصائيات القتلى. لكن مقابلات الدروس المستفادة تحتوي على اعترافات عديدة بأن الحكومة روّجت بشكل منتظم للإحصائيات التي وصفها مسؤولون بأنها مشوهة أو زائفة أو خاطئة.
قال شخص عُرفت هويته فقط كمسؤول بارز في مجلس الأمن القومي إن هناك ضغوطًا مستمرة من البيت الأبيض خلال عهد أوباما وكذلك البنتاجون، لتقديم أرقام تظهر أن زيادة عدد القوات في الفترة من 2009 إلى 2011 كانت ناجحة، على الرغم من الأدلة القوية على عكس ذلك.
"كان من المستحيل إنشاء مقاييس جيدة، لقد حاولنا استخدام أعداد القوات المدربة، ومستويات العنف، والسيطرة على الأراضي، ولم يقدم أي منها صورة دقيقة". هذا ما صرح به مسؤول كبير في مجلس الأمن القومي في مقابلة مع الحكومة عام 2016، وأضاف: "لقد حدث تلاعب بالمقاييس دائمًا طوال فترة الحرب".
وقال المسؤول البارز في مجلس الأمن القومي: "حتى عندما يكون عدد الضحايا والآخرين سيئاً، فإن البيت الأبيض والبنتاجون يتلاعبان بالأعداد بشكل سخيف. صُورت التفجيرات الانتحارية في كابول على أنها علامة على يأس الطالبان وأن المتمردين كانوا أضعف من أن يشاركوا في القتال المباشر. وفي الوقت نفسه، استشهد بارتفاع عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية كدليل على أن القوات الأمريكية كانت تقاتل العدو بشراسة.
"لقد كانت تفسيراتهم"، قال ذلك المسؤول الكبير في مجلس الأمن القومي، وأضاف: "على سبيل المثال، الهجمات تزداد سوءًا؟ هذا بسبب وجود أهداف أكثر يستطيعون إطلاق النار عليها، وبالتالي المزيد من الهجمات مؤشر خاطئ على عدم الاستقرار. ثم، بعد ثلاثة أشهر، ما زالت الهجمات تزداد سوءًا؟ هذا لأن طالبان أصبحت يائسة، فهذا في الواقع مؤشر على أننا فزنا".
وقال أيضاً: "لقد استمر هذا الأمر لسببين، لجعل كل المعنيين يبدون في حالة جيدة، ولجعل الأمر وكأن القوات والموارد كان لها نوع تأثير بحيث إن إزالتها سيؤدي إلى تدهور البلاد".
في تقارير ميدانية أخرى أرسلت إلى القيادة، اتخذ الضباط العسكريون والدبلوماسيون نفس المنحى، بغض النظر عن الظروف على الأرض، زعموا أنهم يحققون تقدماً.
وقال مايكل فلين، وهو جنرال متقاعد من الجيش من فئة ثلاثة نجوم، لمقابلات الحكومة عام 2015: "من السفراء وصولاً إلى المستوى المنخفض [يقولون جميعًا] نؤدي عملاً رائعاً. حقًا؟ فإذا كنا نؤدي عملاً رائعاً فلماذا يبدو الأمر وكأننا نخسر؟".
عند وصولهم إلى أفغانستان، كُلف قادة الجيش والكتائب بنفس المهمة الأساسية: حماية السكان وهزيمة العدو، وفقًا لما ذكره فلين، الذي خدم مرات متعددة في أفغانستان كضابط مخابرات.
وقال فلين، الذي خدم لفترة وجيزة كمستشار للأمن القومي لترامب: "فكلهم ذهبوا أياً كانت مدة خدمتهم تسعة أشهر أو ستة أشهر وكُلفوا بتلك المهمة، وقبلوها ونفذوها". وفقد فلين وظيفته في فترة وجيزة كمستشار لترامب بسبب فضيحة وأدين بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي.
يقول فلين: "ثم قالوا جميعًا، عندما غادروا، إنهم أنجزوا المهمة. جميع القادة قالوا ذلك، ولم يقل واحد منهم وهو يغادر أفغانستان: أتعرف؟ نحن لم ننجز مهمتنا".
وأضاف: "لذلك، عندما يأتي القائد التالي يجد الأوضاع محبطة، وهكذا يأتون ويذهبون، وضع هذا سيء للغاية". مايكل فلين، الدروس المستفادة، مقابلة 2015/11/10.
قال بوب كراولي، العقيد المتقاعد بالجيش والذي عمل مستشارًا لمكافحة التمرد في أفغانستان عامي 2013 و2014 لمقابلات الحكومة إن "الحقيقة نادراً ما كانت موضع ترحيب" في المقر العسكري في كابول.
وقال: "كانت الأخبار السيئة تُكبَت في كثير من الأحيان". "كان هناك المزيد من الحرية لمشاركة الأخبار السيئة إذا كانت صغيرة - نحن ندهس الأطفال بمدرعاتنا - لأنه يمكن تغيير هذه الأشياء بتوجيهات السياسة. لكن عندما حاولنا التعبير عن مخاوف استراتيجية أكبر حول استعداد أو قدرة أو فساد الحكومة الأفغانية، كان من الواضح أنها غير مرحب بها".
وقال جون جاروفانو، وهو استراتيجي في كلية الحرب البحرية والذي قدم مشورة لقوات المارينز في مقاطعة هلمند عام 2011: "إن المسؤولين العسكريين في هذا المجال كرسوا قدراً هائلاً من الموارد لإعداد مخططات ملونة تنبأت بنتائج إيجابية".
وقال لمقابلات الحكومة: "لقد كانت لديهم آلة باهظة الثمن بالفعل تطبع القطع الكبيرة من الورق كما هو الحال في المطبعة". "سيكون هناك تحذير أن هذه ليست شخصيات علمية في الواقع، أو أنه لا يوجد نهج علمي وراء ذلك".
لكن جاروفانو قال إن أحداً لم يجرؤ على التساؤل عما إذا كانت المخططات والأرقام موثوقة أو ذات معنى، وقال: "لم يكن هناك استعداد للإجابة على أسئلة مثل: ما معنى هذا العدد من المدارس التي بنيتها؟ كيف يسير بك هذا نحو هدفك؟ كيف تظهر هذا كدليل على النجاح وليس مجرد دليل على الجهد أو دليل على أداء بعمل جيد؟".
قال مسؤولون كبار آخرون إنهم يولون أهمية كبيرة لإحصائية واحدة على وجه الخصوص، وإن كان نادراً ما تحب الحكومة الأمريكية مناقشتها على الملأ.
وقال جيمس دوبينز، الدبلوماسي الأمريكي السابق، أمام لجنة في مجلس الشيوخ عام 2009: "أعتقد أن المؤشر الرئيسي هو الذي اقترحته، وهو عدد الأفغان الذين يُقتلون". إذا انخفض العدد فأنت تفوز، إذا زاد فأنت تخسر، إنها بهذه السهولة".
في العام الماضي، قُتل 3804 مدنيًا أفغانيًا في الحرب، وفقًا للأمم المتحدة.
هذا هو الأكثر في عام واحد منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تعقب الخسائر البشرية منذ عقد مضى*.

________________________________________
[1] كاتب الاستقصاء هو الصحفي بواشنطن بوست: كريج ويتلوك. والاستقصاء منشور بتاريخ 9-12-2019. رابط الاستقصاء . وهو عبارة عن ستة أجزاء ومعهم ثلاثة مقالات إضافية، ونحن نترجم هنا وفي العدد السابق الجزء الأول من هذه الأجزاء، والذي بعنوان: في حرب من الحقيقة. [المترجم]

* انتهى الجزء الأول من السلسلة والذي هو بعنوان: في حرب مع الحقيقة. وقد ترجمناه في مقالين، في هذا العدد والعدد السابق من مجلة كلمة حق (المترجم).
‏٢٩‏/٠٢‏/٢٠٢٠ ٣:٢٦ م‏
الأصاغر والأكابر مجدي شلش أستاذ أصول الفقه المساعد بالأزهر الإنسان كائن عاقل أو مفكر، وبتعبير المناطقة حيوان ناطق، فصل يخرج كل المخلوقات، فإن اجتمعت المخلوقات في الحياة إلا إنها سلبت خاصية التفكير والعقل، فكلما زاد العقل تحققت الإنسانية، وكلما خف العقل أو ضاع في دهاليز المفاسد ذهبت الآدمية، وخلقت (بلت) الإنسانية. الصغر والكبر في حركة العقل وتفاعله مع المحسوسات حتى يستخرج منها المعقولات، فمن لم يتقنها ولم يعلم ضوابطها وغاب عنه روسخ فنها فهو صغير، ومن عظمها وأعطاها حقها فحقا هو الكبير، فليس الصغر والكبر متعلق بالسن أو قوة البدن أو ضعفه، وإنما حقيقته في إدراك العقل وفهمه طبيعة الأشياء التي تجري من حوله. غالب المسلمين يعيشون الصغار المعنوي، لأنه نتاج طبيعي للصغر العقلي والفكري، فضرب الذلة على الأمم إنما هو نتاج تفكيرها العقيم، الذي ينعكس على سلوكها وواقعها، فيحدث التأخر والتأزم والتشرذم. المسلمون الأوائل حسن فهمهم، وصح تفكيرهم، وعلا إدراكهم في القضايا الإيمانية والفكرية، فسما سلوكهم، وعز قدرهم، وعلا شأنهم، العقل أساس الخيرات إن أحسن التفكير، وأساس الخراب إذا أتقن الفوضى في النظر والتأمل والتدبر. التغيير الذي أصاب العرب هو التحول من الجمود على عادات وتقاليد الأهل والأقارب من الآباء والأمهات والأصدقاء إلى سعة الكون وحسن تدبر سننه وفهم مقاصد خلقه، فتحول راعي الغنم إلى قائد للأمم، والجبان الذي يخشى مواجهة الصعاب،إلى محارب ومقاوم لأشق الأزمات والمشكلات. القرآن الكريم قضيته الأولى الهداية والخروج من ظلمات الصغر العقلي والفكري المحدود إلى عملقة النظر في مفردات الحياة، أكبر مقاصد القرآن هو نقل الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة العقل والنظر، ومن هنا كان التحول الهائل في حياة العرب. الصغر العقلي غالبا ما ينتج النظر القاصر، فالذي يستبدل الأعلى بالأدنى صغير، والذي يقدم الضعيف على القوي صغير، ومن لا يستشرف المستقبل ونظرته دائما إلى الماضي أو توافه الحاضر صغير، ومن لا يعظم المؤسسات ويجري وراء هوى بعض الأفراد صغير. المظهر الأكبر في تجلي كبر العقل هو التوازن بين ما في الدنيا من نعم ومتع ومصالح على مصالح ومتعة الآخرة، الدنيا قليلة العطاء، صغيرة العمر، حقيرة المصالح الفانية، من انشغل بها عن اللذة الباقية فهو صغير وحقير مثلها. لا أقصد التهوين من شأن الدنيا وعظم أمرها حتى تصان القيم وتقام الشرائع، وإنما ما قصدته هو التقديم عند التعارض والتزاحم بين مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا قصدت الإنسان الذي جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وفكره، ولعل هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا...". وتتجلى مظاهر الصغر العقلي في الأنا المستبدة، التي لا تري إلا ذاتها، ولا تعبر إلا عن نفسها، إن تصدر تكلم، وإن تأخر خرس وسكت، إن كان على المنصة فرح وابتهج،وإن كان مع القوم نفر ورجع، بلاؤنا في كثير من علمائنا، دائما يريد لنفسه أكثر من حقيقتها، ضمر الإخلاص، ومات الصدق، فحصل الصغر وجاء الصغار. الصحبة الأولى قامت على صواب العقل، ودقة النظر، وطهارة القلب، وجهاد النهار، وقيام الليل، فلانت لهم العقول، وفتحت لهم القلوب، وسادوا بصدقهم وإخلاصهم الحضارات التي بادت، والأمم تكبر وتعلو بكبار العقول والنفوس، فيعلو الجميع من الصغار، وتتحقق المراتب العليا في كل ميدان. تحتاج الأمة في هذا الوقت إلى عقول مدركة لحقيقة الصراع، وفاهمة لسنن النصر والتمكين، وتقيم الأسباب النافذة والمناسبة لتحقيق كبار أهدافها، عقول كبرت عن دنايا الأفكار، وذلة التبعية لحقول الألغام من أفكار الاستعمار، أمة تصنع النصر مع انتظارها الفرج، أمة تقدر الواقع وتحدياته، وتفكر في مآلات المستقبل. الصغير يعرف من هدفه وخطته وقلة حيلته، والكبير يهتف دائما " صمت آذان الدنيا إلم تسمع لنا" الكبير عالي الهمة متقد المشاعر، إحساسه ومشاعره مع بني قومه، نافذ البصيرة، حاد الذكاء، قوي القلب، عميق الفكر، والصغير إمعة يدور في أجندات الاستعمار خوفا من فوات بعض التمرات. أكبر الجرائم التي ترتكب في حق الأمة الإسلامية هو تقزيم عقلها بالتعليم التافه، والثقافة التي لا تقدم بل تؤخر، أمتنا الكبيرة منذ نشأتها غلبت أعتى الأمم بحسن الإدارة، ودقة التنفيذ، وعمق الرؤية، والتقدم في المجال العلمي في شتى ميادينه وشعبه، العلم عند الكبار مصدر الرقي والتحضر، وعند الصغار مصدر القلق والاضطراب. دعوتنا ولدت كبيرة من عقل كبير وقلب واسع وهدف جليل، هدفها الأسمى والأجل تحرير الإنسان من ربقة الاستعمار المادي والثقافي والمعرفي والسياسي والمالي إلى ميلاد جديد، التقدم فيه للكبير، والرفعة من الصغر لكل من هانت عليه نفسه، وزلت به قدمه. لا نريد لأمتنا إلا كل الخير والرفعة والعلو والسمو، ولن يتحقق ذلك على أيدي الكذابين من الذين يبيعون الوهم باسم الدين، ويربون الصغار على حب الذلة والمهانة باسم فقه الواقع وكثرة تحدياته. أناس يلعبون بالدين كلعب الصبيان بالكرة، فلا خطة ولا هدف ولا رؤية ولا عمل سوى جمع الأذكار والأوراد، وكأن الدين تتمات ودعوات خالية من عظمة التفكير ودقة التخطيط، وروعة الحركة.
الأصاغر والأكابر

مجدي شلش
أستاذ أصول الفقه المساعد بالأزهر

الإنسان كائن عاقل أو مفكر، وبتعبير المناطقة حيوان ناطق، فصل يخرج كل المخلوقات، فإن اجتمعت المخلوقات في الحياة إلا إنها سلبت خاصية التفكير والعقل، فكلما زاد العقل تحققت الإنسانية، وكلما خف العقل أو ضاع في دهاليز المفاسد ذهبت الآدمية، وخلقت (بلت) الإنسانية.

الصغر والكبر في حركة العقل وتفاعله مع المحسوسات حتى يستخرج منها المعقولات، فمن لم يتقنها ولم يعلم ضوابطها وغاب عنه روسخ فنها فهو صغير، ومن عظمها وأعطاها حقها فحقا هو الكبير، فليس الصغر والكبر متعلق بالسن أو قوة البدن أو ضعفه، وإنما حقيقته في إدراك العقل وفهمه طبيعة الأشياء التي تجري من حوله.

غالب المسلمين يعيشون الصغار المعنوي، لأنه نتاج طبيعي للصغر العقلي والفكري، فضرب الذلة على الأمم إنما هو نتاج تفكيرها العقيم، الذي ينعكس على سلوكها وواقعها، فيحدث التأخر والتأزم والتشرذم.

المسلمون الأوائل حسن فهمهم، وصح تفكيرهم، وعلا إدراكهم في القضايا الإيمانية والفكرية، فسما سلوكهم، وعز قدرهم، وعلا شأنهم، العقل أساس الخيرات إن أحسن التفكير، وأساس الخراب إذا أتقن الفوضى في النظر والتأمل والتدبر.

التغيير الذي أصاب العرب هو التحول من الجمود على عادات وتقاليد الأهل والأقارب من الآباء والأمهات والأصدقاء إلى سعة الكون وحسن تدبر سننه وفهم مقاصد خلقه، فتحول راعي الغنم إلى قائد للأمم، والجبان الذي يخشى مواجهة الصعاب،إلى محارب ومقاوم لأشق الأزمات والمشكلات.

القرآن الكريم قضيته الأولى الهداية والخروج من ظلمات الصغر العقلي والفكري المحدود إلى عملقة النظر في مفردات الحياة، أكبر مقاصد القرآن هو نقل الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة العقل والنظر، ومن هنا كان التحول الهائل في حياة العرب.

الصغر العقلي غالبا ما ينتج النظر القاصر، فالذي يستبدل الأعلى بالأدنى صغير، والذي يقدم الضعيف على القوي صغير، ومن لا يستشرف المستقبل ونظرته دائما إلى الماضي أو توافه الحاضر صغير، ومن لا يعظم المؤسسات ويجري وراء هوى بعض الأفراد صغير.

المظهر الأكبر في تجلي كبر العقل هو التوازن بين ما في الدنيا من نعم ومتع ومصالح على مصالح ومتعة الآخرة، الدنيا قليلة العطاء، صغيرة العمر، حقيرة المصالح الفانية، من انشغل بها عن اللذة الباقية فهو صغير وحقير مثلها.

لا أقصد التهوين من شأن الدنيا وعظم أمرها حتى تصان القيم وتقام الشرائع، وإنما ما قصدته هو التقديم عند التعارض والتزاحم بين مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا قصدت الإنسان الذي جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وفكره، ولعل هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا...".

وتتجلى مظاهر الصغر العقلي في الأنا المستبدة، التي لا تري إلا ذاتها، ولا تعبر إلا عن نفسها، إن تصدر تكلم، وإن تأخر خرس وسكت، إن كان على المنصة فرح وابتهج،وإن كان مع القوم نفر ورجع، بلاؤنا في كثير من علمائنا، دائما يريد لنفسه أكثر من حقيقتها، ضمر الإخلاص، ومات الصدق، فحصل الصغر وجاء الصغار.

الصحبة الأولى قامت على صواب العقل، ودقة النظر، وطهارة القلب، وجهاد النهار، وقيام الليل، فلانت لهم العقول، وفتحت لهم القلوب، وسادوا بصدقهم وإخلاصهم الحضارات التي بادت، والأمم تكبر وتعلو بكبار العقول والنفوس، فيعلو الجميع من الصغار، وتتحقق المراتب العليا في كل ميدان.

تحتاج الأمة في هذا الوقت إلى عقول مدركة لحقيقة الصراع، وفاهمة لسنن النصر والتمكين، وتقيم الأسباب النافذة والمناسبة لتحقيق كبار أهدافها، عقول كبرت عن دنايا الأفكار، وذلة التبعية لحقول الألغام من أفكار الاستعمار، أمة تصنع النصر مع انتظارها الفرج، أمة تقدر الواقع وتحدياته، وتفكر في مآلات المستقبل.

الصغير يعرف من هدفه وخطته وقلة حيلته، والكبير يهتف دائما " صمت آذان الدنيا إلم تسمع لنا" الكبير عالي الهمة متقد المشاعر، إحساسه ومشاعره مع بني قومه، نافذ البصيرة، حاد الذكاء، قوي القلب، عميق الفكر، والصغير إمعة يدور في أجندات الاستعمار خوفا من فوات بعض التمرات.

أكبر الجرائم التي ترتكب في حق الأمة الإسلامية هو تقزيم عقلها بالتعليم التافه، والثقافة التي لا تقدم بل تؤخر، أمتنا الكبيرة منذ نشأتها غلبت أعتى الأمم بحسن الإدارة، ودقة التنفيذ، وعمق الرؤية، والتقدم في المجال العلمي في شتى ميادينه وشعبه، العلم عند الكبار مصدر الرقي والتحضر، وعند الصغار مصدر القلق والاضطراب.

دعوتنا ولدت كبيرة من عقل كبير وقلب واسع وهدف جليل، هدفها الأسمى والأجل تحرير الإنسان من ربقة الاستعمار المادي والثقافي والمعرفي والسياسي والمالي إلى ميلاد جديد، التقدم فيه للكبير، والرفعة من الصغر لكل من هانت عليه نفسه، وزلت به قدمه.

لا نريد لأمتنا إلا كل الخير والرفعة والعلو والسمو، ولن يتحقق ذلك على أيدي الكذابين من الذين يبيعون الوهم باسم الدين، ويربون الصغار على حب الذلة والمهانة باسم فقه

الواقع وكثرة تحدياته.

أناس يلعبون بالدين كلعب الصبيان بالكرة، فلا خطة ولا هدف ولا رؤية ولا عمل سوى جمع الأذكار والأوراد، وكأن الدين تتمات ودعوات خالية من عظمة التفكير ودقة التخطيط، وروعة الحركة.
‏٢٥‏/٠٢‏/٢٠٢٠ ٤:٤١ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏ من ‏٨ يناير‏.
خطر الأفكار الداعشية على الإسلام والإنسانية (2) د. عطية عدلان الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. "... وإذا كانت الكيانات المفرطة في الغلو والتنطع خطراً على الإسلام وعلى الإنسان؛ فإنّ الخطر الأكبر يتمثل في الفكرة التي تنبت كالسرطان في جسد الأمة وفي الجسد الإنسانيّ كله، وتتسربل بالدين - أيِّ دين - وهي تضمر الكراهية لخلق الله أجمعين؛ لذا وجب التصدي للأفكار أكثر من غيرها..."( ) وهذا ما نعالجه في هذا المقال إتماماً لما سبقه؛ بتناول القضية من زاوية أخرى. لم ينحصر الضلال في الفكر الداعشيّ في مسائل الجهاد وقضايا الإيمان والكفر، وإنّما امتدّ ليشمل جانباً مهماً في الفكر والفقه الإسلاميّ، وهو جانب الفقه السياسي ونظام الخلافة، وكان المقصود الخبيث لمن وراء هذه التنظيمات المدخولة هو حرق مشروع الخلافة وتقديمه للأمة كميتة منتنة في خوان من ذهب؛ ليقال لطلائع الأمة وأهل الطموح فيها: تريدون عودة الخلافة؟ فها هي دونكم فتناولوها؛ فإذا هي مسخ مشوه لا يبدو منه للناس إلا الضغائن والأحقاد وقسوة السيوف والقلوب. إنّ الخدعة الكبرى التي وقع في براثنها كثير من الشباب هي ذلك الفخ القاتل، الذي يبدو للشباب أنه صيد الخلافة المنشود حتى إذا وقعوا فيه لم يستطيعوا الفرار منه، فإن لم يمضوا معهم في غيهم ويجاروهم في طغيانهم فالكفر هو الحكم الصادر ضدهم يعقبه السيف الذي يفصل رؤوسهم عن أجسادهم، أمّا سائر الخلق فهم ما بين كفار أصليين وكفار منقولين من الإسلام بسبب عدم المبادرة والمسارعة منهم للدخول في البيعة للإمام المزعوم، فأي عالم هذا الذي يريدون جر البشرية إليه، وأي إسلام هذا الذي باسمه يريقون دماء الأبرياء بلا ذنب جنوه؟! إنّنا إن أعطينا الحق لكل كيان مسلح يرفع راية الجهاد - ولو صدقاً - في أن يُنَصِّب خليفة يطلب له البيعة، ويقسم الأمة بحكمها إلى أهل عدل وأهل بغي؛ فنحن نجهز الأمة لحروب قد تلتهم القرون المديدة وتلتهم معها ملايين الموحدين في أقطار الأرض، إنّها ستكون الفوضى المسلحة التي تأخذ شرعيتها باسم الخلافة الراشدة، وبهذه السخافات نجح أعداء ديننا في غرس ألغام في عقول كثير من الشباب لتتفجر في وجه الجميع وتترك الأمة شذر مدر، باسم الخلافة التي يفترض فيها أنها كيان جامع يوحد الأمة ويجمع شتاتها! إنّها ليست ألف خلافة وخلافة، إنّما هي خلافة واحدة للأمة الواحدة؛ فلماذا نعطيها للكيانات التي لا تفتأ تتقاتل وتتناحر باسم الجهاد وقتال البغاة؟! إنّ الخلافة ليست صفقة من أيدي مجهولين لمجهول، إنّها باختصار: "رياسة تامة، وزعامة عامة"( )، ودون وقوع ذلك مراحل من التربية والإعداد، ثم من التحالفات بين دول وممالك وإمارات إسلامية، ثم من محاولات دائمة ودائبة لتوحيد الكيانات المتناغمة تلك في جسد واحد، إنّه مشروع الأمة لا مشروع طائفة ولو معتدلة؛ فكيف إذا كانت ضالة ومنحرفة؟! لقد عانى المشروع الإسلاميّ أشد المعاناة من الافتئات والمزايدة، ولم يعد بالإمكان ترك الأمر لحفنة من الأعراب البوالين على أعقابهم أو الغلمان الذين لا يفرقون بين السياسة و(التياسة)، وإذا كان هناك مسئولية تقع على قوم فإنّها تقع على العلماء الذين خلوا هذه الساحة الخطيرة لفئام من المنغلقين الذين يجري لعابهم لدماء المسلمين حتى إنهم ليتمنون لهم الوقوع فيما يبرر قتلهم ويسوغ تكفيرهم وإخراجهم من الملة وحرمانهم من كل رحمة في الآخرة والأولى! والمعضلة أنّ هذا الغلو أنشأ بقوة رد الفعل غلوا على الجانب الآخر، تمثل في أولئك الذين يدعون المسلمين إلى أن يدخلوا في النموذج الغربي كافة وألا يتبعوا خطوات الشيطان الذي لا يفتأ يهجم عليهم بأحلام الخلافة، تلك الأحلام الإرهابية السوداوية المتخلفة، حتى صارت الدولة المدنية هي منتهى الآمال التي بشر بها القرآن وأنبأت بها الأحاديث، وحتى اكتشف الخلق - بعد طول غفلة - أن محمداً بن عبد الله كان رئيساً لدولة مدنية! ومع أنّ هذا كله طيش وخبل! وهبل في عرض الجبل! نراه يلقى رواجاً عند كثيرين؛ لا لأنّه حق أو حتى يشبه الحق، وإنما - فقط - لخلو الساحة من الفكر الرشيد السديد، الذي يُغيّب ويُغيب القائمون عليه بشتى صنوف التغييب، وكأنّ الأمة في أسرها هذا يجوس خلال ديارها قوافل من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض أطراف اللعبة الكبيرة، التي يُقَسَّم بحسبها المفكرون والمنظرون إلى فريقين: هذا يركل الحقيقة أقصى اليمين وذاك يركلها أقصى الشمال. إنّ ميدان السياسة الشرعية والفقه السياسي الإسلامي من أشد الميادين حساسية؛ لذلك لا يصح تركه لصبيان أغمار أغرار يتركون الماء ويستجمرون بالأحجار، ولا لعواجيز منهزمين راحوا يستدركون شباباً فات بفرنجة على أبواب الفكر الغربي الذي صار عند أهله قطعاً من الخردة ملقاة على قارعة الطريق، إنّنا بحاجة إلى أقلام متجردة نزيهة وعقول سلمت من الأمراض، واستقامت على الرشد والسداد؛ حتى نكتب للأمة مشروعها، وحتى نقودها إلى إقامته بفكر مستنير وقلوب تجميعية يحفها حساسية التقوى. وما لم يحدث هذا فسوف تبقى الحقيقة ككرة من المطاط يتقاذفها الفريقان المتنافسان في التطرف والانحراف، بين غلو بالإفراط وغلو بالتفريط، والله المستعان.
خطر الأفكار الداعشية
على الإسلام والإنسانية (2)

د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

"... وإذا كانت الكيانات المفرطة في الغلو والتنطع خطراً على الإسلام وعلى الإنسان؛ فإنّ الخطر الأكبر يتمثل في الفكرة التي تنبت كالسرطان في جسد الأمة وفي الجسد الإنسانيّ كله، وتتسربل بالدين - أيِّ دين - وهي تضمر الكراهية لخلق الله أجمعين؛ لذا وجب التصدي للأفكار أكثر من غيرها..."( ) وهذا ما نعالجه في هذا المقال إتماماً لما سبقه؛ بتناول القضية من زاوية أخرى.
لم ينحصر الضلال في الفكر الداعشيّ في مسائل الجهاد وقضايا الإيمان والكفر، وإنّما امتدّ ليشمل جانباً مهماً في الفكر والفقه الإسلاميّ، وهو جانب الفقه السياسي ونظام الخلافة، وكان المقصود الخبيث لمن وراء هذه التنظيمات المدخولة هو حرق مشروع الخلافة وتقديمه للأمة كميتة منتنة في خوان من ذهب؛ ليقال لطلائع الأمة وأهل الطموح فيها: تريدون عودة الخلافة؟ فها هي دونكم فتناولوها؛ فإذا هي مسخ مشوه لا يبدو منه للناس إلا الضغائن والأحقاد وقسوة السيوف والقلوب.
إنّ الخدعة الكبرى التي وقع في براثنها كثير من الشباب هي ذلك الفخ القاتل، الذي يبدو للشباب أنه صيد الخلافة المنشود حتى إذا وقعوا فيه لم يستطيعوا الفرار منه، فإن لم يمضوا معهم في غيهم ويجاروهم في طغيانهم فالكفر هو الحكم الصادر ضدهم يعقبه السيف الذي يفصل رؤوسهم عن أجسادهم، أمّا سائر الخلق فهم ما بين كفار أصليين وكفار منقولين من الإسلام بسبب عدم المبادرة والمسارعة منهم للدخول في البيعة للإمام المزعوم، فأي عالم هذا الذي يريدون جر البشرية إليه، وأي إسلام هذا الذي باسمه يريقون دماء الأبرياء بلا ذنب جنوه؟!
إنّنا إن أعطينا الحق لكل كيان مسلح يرفع راية الجهاد - ولو صدقاً - في أن يُنَصِّب خليفة يطلب له البيعة، ويقسم الأمة بحكمها إلى أهل عدل وأهل بغي؛ فنحن نجهز الأمة لحروب قد تلتهم القرون المديدة وتلتهم معها ملايين الموحدين في أقطار الأرض، إنّها ستكون الفوضى المسلحة التي تأخذ شرعيتها باسم الخلافة الراشدة، وبهذه السخافات نجح أعداء ديننا في غرس ألغام في عقول كثير من الشباب لتتفجر في وجه الجميع وتترك الأمة شذر مدر، باسم الخلافة التي يفترض فيها أنها كيان جامع يوحد الأمة ويجمع شتاتها!
إنّها ليست ألف خلافة وخلافة، إنّما هي خلافة واحدة للأمة الواحدة؛ فلماذا نعطيها للكيانات التي لا تفتأ تتقاتل وتتناحر باسم الجهاد وقتال البغاة؟! إنّ الخلافة ليست صفقة من أيدي مجهولين لمجهول، إنّها باختصار: "رياسة تامة، وزعامة عامة"( )، ودون وقوع ذلك مراحل من التربية والإعداد، ثم من التحالفات بين دول وممالك وإمارات إسلامية، ثم من محاولات دائمة ودائبة لتوحيد الكيانات المتناغمة تلك في جسد واحد، إنّه مشروع الأمة لا مشروع طائفة ولو معتدلة؛ فكيف إذا كانت ضالة ومنحرفة؟!
لقد عانى المشروع الإسلاميّ أشد المعاناة من الافتئات والمزايدة، ولم يعد بالإمكان ترك الأمر لحفنة من الأعراب البوالين على أعقابهم أو الغلمان الذين لا يفرقون بين السياسة و(التياسة)، وإذا كان هناك مسئولية تقع على قوم فإنّها تقع على العلماء الذين خلوا هذه الساحة الخطيرة لفئام من المنغلقين الذين يجري لعابهم لدماء المسلمين حتى إنهم ليتمنون لهم الوقوع فيما يبرر قتلهم ويسوغ تكفيرهم وإخراجهم من الملة وحرمانهم من كل رحمة في الآخرة والأولى!
والمعضلة أنّ هذا الغلو أنشأ بقوة رد الفعل غلوا على الجانب الآخر، تمثل في أولئك الذين يدعون المسلمين إلى أن يدخلوا في النموذج الغربي كافة وألا يتبعوا خطوات الشيطان الذي لا يفتأ يهجم عليهم بأحلام الخلافة، تلك الأحلام الإرهابية السوداوية المتخلفة، حتى صارت الدولة المدنية هي منتهى الآمال التي بشر بها القرآن وأنبأت بها الأحاديث، وحتى اكتشف الخلق - بعد طول غفلة - أن محمداً بن عبد الله كان رئيساً لدولة مدنية!
ومع أنّ هذا كله طيش وخبل! وهبل في عرض الجبل! نراه يلقى رواجاً عند كثيرين؛ لا لأنّه حق أو حتى يشبه الحق، وإنما - فقط - لخلو الساحة من الفكر الرشيد السديد، الذي يُغيّب ويُغيب القائمون عليه بشتى صنوف التغييب، وكأنّ الأمة في أسرها هذا يجوس خلال ديارها قوافل من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض أطراف اللعبة الكبيرة، التي يُقَسَّم بحسبها المفكرون والمنظرون إلى فريقين: هذا يركل الحقيقة أقصى اليمين وذاك يركلها أقصى الشمال.
إنّ ميدان السياسة الشرعية والفقه السياسي الإسلامي من أشد الميادين حساسية؛ لذلك لا يصح تركه لصبيان أغمار أغرار يتركون الماء ويستجمرون بالأحجار، ولا لعواجيز منهزمين راحوا يستدركون شباباً فات بفرنجة على أبواب الفكر الغربي الذي صار عند أهله قطعاً من الخردة ملقاة على قارعة الطريق، إنّنا بحاجة إلى أقلام متجردة نزيهة وعقول سلمت من الأمراض، واستقامت على الرشد والسداد؛ حتى نكتب للأمة مشروعها، وحتى نقودها إلى إقامته بفكر مستنير وقلوب تجميعية يحفها حساسية التقوى.
وما لم يحدث هذا فسوف تبقى الحقيقة ككرة من المطاط يتقاذفها الفريقان المتنافسان في التطرف والانحراف، بين غلو بالإفراط وغلو بالتفريط، والله المستعان.
‏٠٥‏/٠٢‏/٢٠٢٠ ٨:٣٣ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
يصدر العدد الجديد الليلة إن شاء الله.. تابعونا
‏٠١‏/٠٢‏/٢٠٢٠ ٢:٠٤ م‏
أوراق أفغانستانية..التاريخ السري للحرب في حرب مع الحقيقة (1/2)  يقول المسؤولون الأمريكيون باستمرار إنهم يحرزون تقدماً.. إنهم لم يفعلوا، وهم يعلمون ذلك! تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم كشفت مجموعة سرية من الوثائق الحكومية التي حصلت عليها الواشنطن بوست، أن كبار المسؤولين الأمريكيين فشلوا في قول الحقيقة حول الحرب في أفغانستان طوال فترة الحملة التي استمرت 18 عامًا، إذ أصدروا تصريحات وردية يعلمون أنها كاذبة وأخفوا أدلة لا لبس فيها على أن الحرب أصبحت غير قابلة للفوز بها. أُنشئت الوثائق من خلال مشروع فيدرالي يدرس الإخفاقات الجذرية لأطول نزاع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة. وتشمل أكثر من 2000 صفحة من الملاحظات غير المنشورة سابقًا، والمقابلات مع أشخاص لعبوا دورًا مباشرًا في الحرب، من الجنرالات والدبلوماسيين، إلى عمال الإغاثة والمسؤولين الأفغان. حاولت الحكومة الأمريكية حماية هويات الغالبية العظمى من الذين عُقدت معهم المقابلات من أجل المشروع وإخفاء كل ملاحظاتهم تقريبًا. فازت صحيفة واشنطن بوست بالوثائق الصادرة بموجب قانون حرية المعلومات بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات. في المقابلات، قدّم أكثر من 400 مُطّلع نقدًا غير محدود لما حدث في أفغانستان، وكيف أصبحت الولايات المتحدة غارقة في وحل الحرب التي استمرت عقدين تقريبًا. ومع البلادة وندرة التعبير عنها علنًا، تكشف المقابلات الشكاوي والإحباطات والاعترافات المكبوتة، إلى جانب سوء الظن والغِيبة. "لم يكن لدينا الفهم الأساسي لأفغانستان، لم نكن نعرف ماذا كنا نفعل". قال ذلك دوجلاس لوت، وهو جنرال في الجيش من فئة ثلاث نجوم، والذي كان بمثابة القائد التابع للبيت الأبيض في حرب أفغانستان أثناء إدارتي بوش وأوباما، وقد صرح بذلك خلال مقابلات مع الحكومة عام 2015. وأضاف: "ما الذي نحاول القيام به هنا؟ لم يكن لدينا الفكرة الأكثر ضبابية حول ما كنا نتعهد به". "لو يعرف الشعب الأمريكي حجم الخلل الوظيفي! 2400 شخص فُقدوا!". قال لوت ذلك وهو يلقي بالمسؤولية على بيروقراطية الكونجرس والبنتاجون ووزارة الخارجية في مقتل الأفراد العسكريين الأمريكيين، وقال: "مَن سيصرح بأن هذا كان عبثاً؟". منذ عام 2001، انتشر أكثر من 775.000 جندي أمريكي في أفغانستان، كثيراً منهم نُشروا مراراً وتكراراً. من بين هؤلاء قُتل 2300، وأُصيب 20586، استناداً إلى إحصاء وزارة الدفاع. هذه المقابلات التي شملت نطاقاً واسعاً من المشاركين، تظهر إلى حد كبير أوجه الضعف الأساسية في الحرب التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، لقد أكد المشاركون كيف أن ثلاثة رؤساء - جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب - وقادتهم العسكريين لم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم بأن ينتصروا في أفغانستان. بعد أن تحدث معظمهم على افتراض أن تصريحاتهم لن تصبح علنية، أقر المسؤولون الأمريكيون بأن استراتيجياتهم القتالية كانت قاتلة، وأن واشنطن أهدرت مبالغ هائلة من المال في محاولة لإعادة تشكيل أفغانستان كدولة حديثة. تسلط المقابلات الضوء أيضًا على محاولات الحكومة الأمريكية الفاشلة للحد من الفساد الجامح، وبناء جيش أفغاني وقوة شرطة مختصة، ووضع حد لتجارة الأفيون المزدهرة في أفغانستان. لم تقدم حكومة الولايات المتحدة بيانًا شاملاً حول ما أنفقته على الحرب في أفغانستان، لكن التكاليف باهظة. منذ عام 2001، أنفقت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو خصصت ما بين 934 مليار دولار و 978 مليار دولار، وفقًا لتقدير معدل التضخم التي قامت به (نيتا كراوفورد)، أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون. لا تشمل هذه الأرقام الأموال التي تنفقها وكالات أخرى، مثل وكالة الاستخبارات، وإدارة شؤون المحاربين القدامى، المسؤولة عن الرعاية الطبية لقدامى المحاربين الجرحى. "ماذا جنينا من وراء هذه التريليون دولار؟ هل كان الأمر يستحق تريليون دولار؟". قال ذلك جيفري إيجرز في المقابلات التي عقدتها الحكومة، وهو متقاعد من قوات البحرية وعمل بالبيت الأبيض خلال حقبة بوش وأوباما. وأضاف: "بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان". تتناقض الوثائق أيضًا مع سلسلة طويلة من التصريحات العلنية الصادرة عن رؤساء الولايات المتحدة والقادة العسكريين والدبلوماسيين، الذين أكدوا للأميركيين عاماً بعد عام أنهم يحرزون تقدماً في أفغانستان وأن الحرب تستحق القتال. [رابط فيديو وثائقي مرفق مع الاستقصاء: اضغط هنا، من إعداد (جويسي لي) للواشنطن بوست] وصف العديد من الذين جرت مقابلتهم الجهود الواضحة والمستمرة التي بذلتها الحكومة الأمريكية لتضليل الجمهور عمداً. وقالوا إنه من الشائع في المقر العسكري في كابول - وفي البيت الأبيض - تشويه الإحصائيات لجعل الأمر يبدو وكأن الولايات المتحدة تنتصر في الحرب، في حين أن الأمر لم يكن كذلك. "قُلبت كل البيانات لتقديم أفضل صورة ممكنة". قال ذلك بوب كراولي في هذه المقابلات مع الحكومة، وهو عقيد في الجيش عمل في مكافحة التمرد كمستشار كبير للقادة العسكريين الأمريكيين عامي 2013 و2014: "الدراسات الاستقصائية، على سبيل المثال، كانت غير موثوق بها تماماً ولكنها عززت أن كل شيء كنا نفعله كان صحيحًا، فأصبح كل هدفنا الحفاظ على صورتنا". واعترف جون سوبكو رئيس الوكالة الفيدرالية -التي أجرت المقابلات- للواشنطن بوست أن الوثائق تُظهر أن "الشعب الأمريكي قد كُذب عليه باستمرار". المقابلات هي منتج جانبي لمشروع تقوده وكالة سوبكو، مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، المعروف باسم SIGAR ، أنشئت الوكالة من قبل الكونجرس عام 2008 للتحقيق في الهدر والاحتيال في منطقة الحرب. في عام 2014، بتوجيه من سوبكو، ابتعدت SIGAR عن مهمتها المعتادة المتمثلة في إجراء عمليات التدقيق، وأطلقت مشروعًا جانبيًا بعنوان "الدروس المستفادة"، المشروع ذو الـ 11 مليون دولار يهدف إلى تشخيص إخفاقات السياسة في أفغانستان، ويضمن عدم تكرار الولايات المتحدة لنفس الأخطاء في المرة التالية التي تغزو فيها بلدًا أو تحاول فيها إعادة بناء بلد محطم. أجرى فريق "الدروس المستفادة" مقابلات مع أكثر من 600 شخص من ذوي الخبرة المباشرة في الحرب. وكان معظمهم من الأمريكيين، لكن محللي SIGAR سافروا أيضًا إلى لندن وبروكسل وبرلين لمقابلة حلفاء الناتو. بالإضافة إلى ذلك، قابلوا نحو 20 مسؤولًا أفغانيًا، وناقشوا برامج إعادة الإعمار والتنمية. بالاعتماد جزئيًا على المقابلات، بالإضافة إلى السجلات والإحصاءات الحكومية الأخرى، نشرت SIGAR سبعة تقارير للدروس المستفادة منذ عام 2016، تُبرز المشاكل في أفغانستان وتوصي بإجراء تغييرات لتحقيق الاستقرار في البلاد. لكن التقارير، التي كُتبت بطريقة بيروقراطية بلهاء، وركزت بطريقة مشوشة على المبادرات الحكومية، تركت أقسى الانتقادات وأشد المقابلات جرأة. "لقد وجدنا أن استراتيجية الاستقرار والبرامج المستخدمة لتحقيقها، لم تكن مصمَمة بما يناسب السياق الأفغاني، ونادراً ما استمرت النجاحات في تحقيق الاستقرار في المناطق الأفغانية لفترة أطول من الوجود المادي لقوات التحالف والمدنيين". اقرأ مقدمة أحد التقارير الصادرة في مايو 2018. حذفت التقارير أيضًا أسماء أكثر من 90 بالمائة من الأشخاص الذين عُقدت المقابلات معهم خلال المشروع. في حين وافق عدد قليل من المسؤولين على تسجيل حديثهم مع SIGAR، قالت الوكالة إنها وعدت بعدم الكشف عن هوية أي شخص قابلته، لتجنب الخلاف حول المسائل الحساسة سياسياً. بموجب قانون حرية المعلومات، بدأت واشنطن بوست في البحث عن سجلات مقابلات "الدروس المستفادة" في أغسطس/ آب 2016. ورفضت SIGAR، بحجة أن الوثائق محصنة وأن الجمهور ليس له الحق في رؤيتها. فكان على واشنطن بوست مقاضاة SIGAR في المحكمة الفدرالية - مرتين - لإجبارها على إصدار الوثائق. كشفت الوكالة في النهاية عن أكثر من 2000 صفحة من الملاحظات والنصوص غير المنشورة من 428 من المقابلات، وكذلك العديد من التسجيلات الصوتية. تحدد الوثائق 62 من الأشخاص الذين جرت المقابلات معهم، لكن SIGAR حجبت أسماء 366 آخرين. في المذكرات القانونية، زعمت الوكالة أنه ينبغي عدّ هؤلاء الأفراد بمثابة مخبرين ورواة، قد يواجهون الإهانة أو المضايقة أو الانتقام أو الأذى الجسدي، إذا أصبحت أسمائهم علنية. من خلال تواريخ الوثائق وتفاصيل أخرى منها، حددت واشنطن بوست 33 شخصًا آخر جرت المقابلات معهم، بمن فيهم العديد من السفراء السابقين والجنرالات ومسؤولي البيت الأبيض. طلبت الصحيفة من قاضٍ فيدرالي إجبار SIGAR على الكشف عن أسماء أي شخص آخر جرت مقابلته، بحجة أن الجمهور لديه الحق في معرفة المسؤولين الذين انتقدوا الحرب وأكدوا أن الحكومة قد ضللت الشعب الأمريكي. جادلت الصحيفة أيضًا بأن المسؤولين لم يكونوا من المخبرين أو الوراة، لأنهم لم يُقابَلوا كجزء من التحقيق. قرار القاضي آمي بيرمان جاكسون من محكمة مقاطعة U.Sفي واشنطن كان معلقًا منذ أواخر سبتمبر. تنشر صحيفة واشنطن بوست الوثائق الآن، بدلاً من انتظار صدور حكم نهائي، لإطلاع الجمهور عليها أثناء مفاوضات إدارة ترامب مع طالبان، وللنظر ما إذا كانت ستنسحب القوات الأمريكية الباقية في أفغانستان والبالغ عددها 13000 جندي. حاولت الواشنطن بوست الاتصال لأخذ تعليق كل شخص تمكنت من التعرف عليه ممن أجروا مقابلات مع SIGAR. (ردودهم مجموعة في مقال منفصل). قال سوبكو، المفتش العام، لصحيفة الواشنطن بوست إنه لم يُخفِ الانتقادات العنيفة والشكوك حول الحرب، التي أثارها المسؤولون في مقابلات "الدروس المستفادة". وقال إن الأمر استغرق من مكتبه ثلاث سنوات لإصدار السجلات؛ لأن لديه عدداً قليلاً من الموظفين، ولأن الوكالات الفيدرالية الأخرى اضطرت إلى مراجعة المستندات لمنع الكشف عن أسرار الحكومة. قال: "لم نحظرها، نحن نؤمن بشدة بالانفتاح والشفافية، لكن يتعين علينا اتباع القانون، أفكر في أي مفتش عام، من المحتمل أنني كنت الأكثر إطلاعاً على المعلومات". سجلات المقابلات أولية وغير محررة ، ولم يدمجها موظفو SIGAR للدروس المستفادة في سرد موحد؛ لكنها مليئة بأحكام صارمة من أشخاص صاغوا أو نفذوا السياسة الأمريكية في أفغانستان. قال جيمس دوبينز، وهو دبلوماسي أمريكي رفيع سابق، خدم كمبعوث خاص إلى أفغانستان في عهد بوش وأوباما: "إننا لا نغزو البلدان الفقيرة لجعلها غنية، أو البلدان الاستبدادية لجعلها ديمقراطية، بل نغزو الدول العنيفة لجعلها سلمية، وفشلنا بوضوح في أفغانستان". ولتعزيز مقابلات "الدروس المستفادة"، حصلت الواشنطن بوست على مئات الصفحات من المذكرات المصنفة مسبقًا حول الحرب الأفغانية، التي أملاها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بين عامي 2001 و 2006. المذكرات التي أطلق عليها رامسفيلد وموظفوه "رقاقات الثلج"، هي تعليمات أو تعليقات موجزة قام رئيس البنتاجون بإملائها على بعض موظفيه، غالبًا عدة مرات في اليوم. أخرج رامسفيلد للعلن عددًا مختارًا من رقاقاته الثلجية عام 2011، ونشرها عبر الإنترنت بالتزامن مع مذكراته "المعروف والمجهول". لكن معظم مجموعته التي تحتوي على رقاقات الثلج - والتي تقدر بنحو 59000 صفحة - ظلت سرية. في عام 2017، واستجابة لدعوى قانون حرية المعلومات المرفوعة من قبل أرشيف الأمن القومي، وهو معهد أبحاث غير ربحي مقره جامعة جورج واشنطن، بدأت وزارة الدفاع في مراجعة وإصدار ما تبقى من رقاقات رامسفيلد الثلجية على نحو مستمر، وشاركهم الأرشيف مع الواشنطن بوست. تشكل مقابلات SIGAR ومذكرات رامسفيلد المتعلقة بأفغانستان تاريخًا سريًا للحرب، وتقييمًا لا يوصف لمدة 18 عامًا من الصراع. وبأسلوب رامسفيلد الفظ تنبأت العديد من رقاقات الثلج بالمشاكل التي لا تزال تلاحق الجيش الأمريكي بعد أكثر من عقد من الزمان. "قد أكون غير صبور، الحقيقة أنا أعلم أني غير صبور بعض الشيء". كتب رامسفيلد في إحدى المذكرات إلى عدد من الجنرالات وكبار المساعدين. "لن نُخرج أبداً الجيش الأمريكي من أفغانستان، ما لم نرَ ما يحقق الاستقرار، والذي سيكون ضرورياً لنا لنغادر البلاد". "المساعدة!". كتب ذلك رامسفلد. المذكرة بتاريخ 17-4- 2002. بعد ستة أشهر من بدء الحرب. ماذا يقولون في العلن "لقد كان تاريخ النزاع العسكري في أفغانستان واحداً من النجاحات الأولية، تبعته سنوات طويلة من التعثر وأقصى درجات الفشل، لن نكرر هذا الخطأ". الرئيس جورج دبليو بوش، في خطاب ألقاه في معهد فرجينيا العسكري من خلال وصفها الصريح لكيفية تعثر الولايات المتحدة في حرب بعيدة، بالإضافة إلى تصميم الحكومة على إخفائها عن الجمهور، تشبه مقابلات "الدروس المستفادة" على نطاق واسع "أوراق البنتاجون"، وهو التاريخ السري للغاية لوزارة الدفاع عن حرب فيتنام. عندما سُربت عام 1971، تسببت أوراق البنتاجون في ضجة كبيرة من خلال الكشف عن أن الحكومة قد ضللت الجمهور منذ فترة طويلة حول كيفية تورط الولايات المتحدة في فيتنام. في 47 مجلداً، استندت الدراسة المكونة من 7000 صفحة بالكامل على الوثائق الحكومية الداخلية، والكابلات الدبلوماسية، ومذكرات صناع القرار، وتقارير المخابرات. وللحفاظ على السرية، أصدر وزير الدفاع روبرت ماكنمارا أمرًا يمنع المؤلفين من مقابلة أي شخص. لم يواجه مشروع "الدروس المستفادة" لـ SIGAR أي قيود من هذا القبيل، لقد أجرى الموظفون المقابلات بين عامي 2014 و 2018 ، معظمها مع مسؤولين خدموا خلال حقبة بوش وأوباما. نحو 30 من سجلات المقابلات نُسخت كلمة بكلمة. والباقي عبارة عن ملخصات مكتوبة للمحادثات: صفحات من الملاحظات والاقتباسات من أشخاص لديهم وجهات نظر مختلفة عن الصراع، من القواعد العسكرية الأمامية البعيدة في أفغانستان إلى أعلى دوائر السلطة. بعض المقابلات قصيرة لسبب غير مفهوم، فيتكون سجل المقابلة مع جون ألين، قائد المارينز الذي قاد قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان من عام 2011 إلى عام 2013، من خمس فقرات. في المقابل، سجلات المقابلات مع شخصيات مؤثرة أخرى أكثر شمولاً، فقد عقد السفير الأمريكي السابق ريان كروكر مقابلتين أسفرتا عن 95 صفحة مكتوبة. على عكس "أوراق البنتاجون"، لم تُصنف أي من وثائق "الدروس المستفادة" في الأصل على أنها سر حكومي، لكن بمجرد ضغط الواشنطن بوست لجعلها علنية، وبعد نشر الحقيقة، تدخلت وكالات اتحادية وحظرت بعض المواد. على سبيل المثال، أكدت وزارة الخارجية أن نشر أجزاء من مقابلات معينة يمكن أن يعرض المفاوضات مع طالبان لإنهاء الحرب للخطر. كما حظرت وزارة الدفاع وإدارة مكافحة المخدرات نشر بعض اقتباسات المقابلات. تحتوي "الدروس المستفادة" على قليل من المفاجآت التي تخص العمليات العسكرية، والتي تفجر سيولاً من الانتقادات التي تدحض الرواية الرسمية للحرب، منذ الأيام الأولى وحتى بداية إدارة ترامب. في البداية، على سبيل المثال، كان للغزو الأمريكي لأفغانستان هدف واضح ومعلن، وهو الانتقام من القاعدة ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر 2001. ولكن تُظهر المقابلات أنه مع استمرار الحرب، استمرت الأهداف والمهمة في التغير، وترسخ انعدام الثقة في الاستراتيجية الأمريكية داخل البنتاجون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. وبقيت الخلافات الأساسية دون حل، فقد أراد بعض المسؤولين الأمريكيين استخدام الحرب لتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية، وأراد آخرون تغيير الثقافة الأفغانية وتمكين المرأة، بينما أراد فريق ثالث إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بين باكستان والهند وإيران وروسيا. "مع إستراتيجية AfPak، كانت هناك هدية تحت شجرة عيد الميلاد للجميع". أخبر مسؤول أمريكي -لم تُحدد هويته- بذلك الجهات التي أجرت المقابلات عام 2015. "مع الوقت، كنتَ منتهياً، كان لديك العديد من الأولويات والتطلعات، كان يبدو أنه لا توجد أي استراتيجية على الإطلاق". تكشف مقابلات “الدروس المستفادة” أيضًا كيف عانى القادة العسكريون الأمريكيون لمعرفة مَن كانوا يقاتلون، ناهيك عن السبب. هل كانت القاعدة العدو أم طالبان؟ هل كانت باكستان صديقة أم عدوة؟ ماذا عن الدولة الإسلامية والمجموعة المحيرة من الجهاديين الأجانب، ناهيك عن أمراء الحرب الذين هم على كشوف رواتب السي آي إيه؟ وفقًا للوثائق لم تستقر الحكومة الأمريكية أبدًا على إجابة. نتيجة لذلك، وفي الميدان، لم تتمكن القوات الأمريكية في كثير من الأحيان من معرفة العدو من الصديق. "لقد ظنوا أنني ذاهب إليهم بخريطة لأريهم أين يعيش الطيبون وأين يعيش الأشرار"، هذا ما قاله مستشار سابق لفريق القوات الخاصة بالجيش لم تُسمِه لمقابلات مع الحكومة عام 2017. وأضاف: "لقد استغرق الأمر عدة محادثات معهم ليفهموا أنني ليس لدي هذه المعلومات، في البداية ظلوا يسألون: لكن من هم الأشرار، أين هم؟". المنظر لم يكن أكثر وضوحًا من البنتاجون: "ليس لدي أي رؤية حول من هم الأشرار" رامسفيلد مشتكياً في 8 سبتمبر 2003، مضيفاً: "نحن نعاني من نقص شديد في الذكاء البشري". [بقية الترجمة العدد القادم من مجلة كلمة حق، إن شاء الله]
أوراق أفغانستانية..التاريخ السري للحرب
في حرب مع الحقيقة (1/2)

 يقول المسؤولون الأمريكيون باستمرار إنهم يحرزون تقدماً.. إنهم لم يفعلوا، وهم يعلمون ذلك!

تحقيق حصري لصحيفة واشنطن بوست

ترجمه لمجلة كلمة حق: حامد عبد العظيم

كشفت مجموعة سرية من الوثائق الحكومية التي حصلت عليها الواشنطن بوست، أن كبار المسؤولين الأمريكيين فشلوا في قول الحقيقة حول الحرب في أفغانستان طوال فترة الحملة التي استمرت 18 عامًا، إذ أصدروا تصريحات وردية يعلمون أنها كاذبة وأخفوا أدلة لا لبس فيها على أن الحرب أصبحت غير قابلة للفوز بها.
أُنشئت الوثائق من خلال مشروع فيدرالي يدرس الإخفاقات الجذرية لأطول نزاع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة. وتشمل أكثر من 2000 صفحة من الملاحظات غير المنشورة سابقًا، والمقابلات مع أشخاص لعبوا دورًا مباشرًا في الحرب، من الجنرالات والدبلوماسيين، إلى عمال الإغاثة والمسؤولين الأفغان.
حاولت الحكومة الأمريكية حماية هويات الغالبية العظمى من الذين عُقدت معهم المقابلات من أجل المشروع وإخفاء كل ملاحظاتهم تقريبًا. فازت صحيفة واشنطن بوست بالوثائق الصادرة بموجب قانون حرية المعلومات بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات.
في المقابلات، قدّم أكثر من 400 مُطّلع نقدًا غير محدود لما حدث في أفغانستان، وكيف أصبحت الولايات المتحدة غارقة في وحل الحرب التي استمرت عقدين تقريبًا. ومع البلادة وندرة التعبير عنها علنًا، تكشف المقابلات الشكاوي والإحباطات والاعترافات المكبوتة، إلى جانب سوء الظن والغِيبة.
"لم يكن لدينا الفهم الأساسي لأفغانستان، لم نكن نعرف ماذا كنا نفعل".
قال ذلك دوجلاس لوت، وهو جنرال في الجيش من فئة ثلاث نجوم، والذي كان بمثابة القائد التابع للبيت الأبيض في حرب أفغانستان أثناء إدارتي بوش وأوباما، وقد صرح بذلك خلال مقابلات مع الحكومة عام 2015. وأضاف: "ما الذي نحاول القيام به هنا؟ لم يكن لدينا الفكرة الأكثر ضبابية حول ما كنا نتعهد به".
"لو يعرف الشعب الأمريكي حجم الخلل الوظيفي! 2400 شخص فُقدوا!". قال لوت ذلك وهو يلقي بالمسؤولية على بيروقراطية الكونجرس والبنتاجون ووزارة الخارجية في مقتل الأفراد العسكريين الأمريكيين، وقال: "مَن سيصرح بأن هذا كان عبثاً؟".
منذ عام 2001، انتشر أكثر من 775.000 جندي أمريكي في أفغانستان، كثيراً منهم نُشروا مراراً وتكراراً. من بين هؤلاء قُتل 2300، وأُصيب 20586، استناداً إلى إحصاء وزارة الدفاع.
هذه المقابلات التي شملت نطاقاً واسعاً من المشاركين، تظهر إلى حد كبير أوجه الضعف الأساسية في الحرب التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، لقد أكد المشاركون كيف أن ثلاثة رؤساء - جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب - وقادتهم العسكريين لم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم بأن ينتصروا في أفغانستان.
بعد أن تحدث معظمهم على افتراض أن تصريحاتهم لن تصبح علنية، أقر المسؤولون الأمريكيون بأن استراتيجياتهم القتالية كانت قاتلة، وأن واشنطن أهدرت مبالغ هائلة من المال في محاولة لإعادة تشكيل أفغانستان كدولة حديثة.
تسلط المقابلات الضوء أيضًا على محاولات الحكومة الأمريكية الفاشلة للحد من الفساد الجامح، وبناء جيش أفغاني وقوة شرطة مختصة، ووضع حد لتجارة الأفيون المزدهرة في أفغانستان.
لم تقدم حكومة الولايات المتحدة بيانًا شاملاً حول ما أنفقته على الحرب في أفغانستان، لكن التكاليف باهظة. منذ عام 2001، أنفقت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو خصصت ما بين 934 مليار دولار و 978 مليار دولار، وفقًا لتقدير معدل التضخم التي قامت به (نيتا كراوفورد)، أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون.
لا تشمل هذه الأرقام الأموال التي تنفقها وكالات أخرى، مثل وكالة الاستخبارات، وإدارة شؤون المحاربين القدامى، المسؤولة عن الرعاية الطبية لقدامى المحاربين الجرحى.
"ماذا جنينا من وراء هذه التريليون دولار؟ هل كان الأمر يستحق تريليون دولار؟".
قال ذلك جيفري إيجرز في المقابلات التي عقدتها الحكومة، وهو متقاعد من قوات البحرية وعمل بالبيت الأبيض خلال حقبة بوش وأوباما. وأضاف: "بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان".

تتناقض الوثائق أيضًا مع سلسلة طويلة من التصريحات العلنية الصادرة عن رؤساء الولايات المتحدة والقادة العسكريين والدبلوماسيين، الذين أكدوا للأميركيين عاماً بعد عام أنهم يحرزون تقدماً في أفغانستان وأن الحرب تستحق القتال.
[رابط فيديو وثائقي مرفق مع الاستقصاء: اضغط هنا، من إعداد (جويسي لي) للواشنطن بوست]
وصف العديد من الذين جرت مقابلتهم الجهود الواضحة والمستمرة التي بذلتها الحكومة الأمريكية لتضليل الجمهور عمداً. وقالوا إنه من الشائع في المقر العسكري في كابول - وفي البيت الأبيض - تشويه الإحصائيات لجعل الأمر يبدو وكأن الولايات المتحدة تنتصر في الحرب، في حين أن الأمر لم يكن كذلك.
"قُلبت كل البيانات لتقديم أفضل صورة ممكنة". قال ذلك بوب كراولي في هذه المقابلات مع الحكومة، وهو عقيد في الجيش عمل في مكافحة التمرد كمستشار كبير للقادة العسكريين الأمريكيين عامي 2013 و2014: "الدراسات الاستقصائية، على سبيل المثال، كانت غير موثوق بها تماماً ولكنها عززت أن كل شيء كنا نفعله كان صحيحًا، فأصبح كل هدفنا الحفاظ على صورتنا".
واعترف جون سوبكو رئيس الوكالة الفيدرالية -التي أجرت المقابلات- للواشنطن بوست أن الوثائق تُظهر أن "الشعب الأمريكي قد كُذب عليه باستمرار".
المقابلات هي منتج جانبي لمشروع تقوده وكالة سوبكو، مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، المعروف باسم SIGAR ، أنشئت الوكالة من قبل الكونجرس عام 2008 للتحقيق في الهدر والاحتيال في منطقة الحرب.
في عام 2014، بتوجيه من سوبكو، ابتعدت SIGAR عن مهمتها المعتادة المتمثلة في إجراء عمليات التدقيق، وأطلقت مشروعًا جانبيًا بعنوان "الدروس المستفادة"، المشروع ذو الـ 11 مليون دولار يهدف إلى تشخيص إخفاقات السياسة في أفغانستان، ويضمن عدم تكرار الولايات المتحدة لنفس الأخطاء في المرة التالية التي تغزو فيها بلدًا أو تحاول فيها إعادة بناء بلد محطم.
أجرى فريق "الدروس المستفادة" مقابلات مع أكثر من 600 شخص من ذوي الخبرة المباشرة في الحرب. وكان معظمهم من الأمريكيين، لكن محللي SIGAR سافروا أيضًا إلى لندن وبروكسل وبرلين لمقابلة حلفاء الناتو. بالإضافة إلى ذلك، قابلوا نحو 20 مسؤولًا أفغانيًا، وناقشوا برامج إعادة الإعمار والتنمية.
بالاعتماد جزئيًا على المقابلات، بالإضافة إلى السجلات والإحصاءات الحكومية الأخرى، نشرت SIGAR سبعة تقارير للدروس المستفادة منذ عام 2016، تُبرز المشاكل في أفغانستان وتوصي بإجراء تغييرات لتحقيق الاستقرار في البلاد.
لكن التقارير، التي كُتبت بطريقة بيروقراطية بلهاء، وركزت بطريقة مشوشة على المبادرات الحكومية، تركت أقسى الانتقادات وأشد المقابلات جرأة.
"لقد وجدنا أن استراتيجية الاستقرار والبرامج المستخدمة لتحقيقها، لم تكن مصمَمة بما يناسب السياق الأفغاني، ونادراً ما استمرت النجاحات في تحقيق الاستقرار في المناطق الأفغانية لفترة أطول من الوجود المادي لقوات التحالف والمدنيين". اقرأ مقدمة أحد التقارير الصادرة في مايو 2018.
حذفت التقارير أيضًا أسماء أكثر من 90 بالمائة من الأشخاص الذين عُقدت المقابلات معهم خلال المشروع. في حين وافق عدد قليل من المسؤولين على تسجيل حديثهم مع SIGAR، قالت الوكالة إنها وعدت بعدم الكشف عن هوية أي شخص قابلته، لتجنب الخلاف حول المسائل الحساسة سياسياً.
بموجب قانون حرية المعلومات، بدأت واشنطن بوست في البحث عن سجلات مقابلات "الدروس المستفادة" في أغسطس/ آب 2016. ورفضت SIGAR، بحجة أن الوثائق محصنة وأن الجمهور ليس له الحق في رؤيتها. فكان على واشنطن بوست مقاضاة SIGAR في المحكمة الفدرالية - مرتين - لإجبارها على إصدار الوثائق.
كشفت الوكالة في النهاية عن أكثر من 2000 صفحة من الملاحظات والنصوص غير المنشورة من 428 من المقابلات، وكذلك العديد من التسجيلات الصوتية. تحدد الوثائق 62 من الأشخاص الذين جرت المقابلات معهم، لكن SIGAR حجبت أسماء 366 آخرين. في المذكرات القانونية، زعمت الوكالة أنه ينبغي عدّ هؤلاء الأفراد بمثابة مخبرين ورواة، قد يواجهون الإهانة أو المضايقة أو الانتقام أو الأذى الجسدي، إذا أصبحت أسمائهم علنية.
من خلال تواريخ الوثائق وتفاصيل أخرى منها، حددت واشنطن بوست 33 شخصًا آخر جرت المقابلات معهم، بمن فيهم العديد من السفراء السابقين والجنرالات ومسؤولي البيت الأبيض.
طلبت الصحيفة من قاضٍ فيدرالي إجبار SIGAR على الكشف عن أسماء أي شخص آخر جرت مقابلته، بحجة أن الجمهور لديه الحق في معرفة المسؤولين الذين انتقدوا الحرب وأكدوا أن الحكومة قد ضللت الشعب الأمريكي. جادلت الصحيفة أيضًا بأن المسؤولين لم يكونوا من المخبرين أو الوراة، لأنهم لم يُقابَلوا كجزء من التحقيق.
قرار القاضي آمي بيرمان جاكسون من محكمة مقاطعة U.Sفي واشنطن كان معلقًا منذ أواخر سبتمبر. تنشر صحيفة واشنطن بوست الوثائق الآن، بدلاً من انتظار صدور حكم نهائي، لإطلاع الجمهور عليها أثناء مفاوضات إدارة ترامب مع طالبان، وللنظر ما إذا كانت ستنسحب القوات الأمريكية الباقية في أفغانستان والبالغ عددها 13000 جندي.
حاولت الواشنطن بوست الاتصال لأخذ تعليق كل شخص تمكنت من التعرف عليه ممن أجروا مقابلات مع SIGAR. (ردودهم مجموعة في مقال منفصل).
قال سوبكو، المفتش العام، لصحيفة الواشنطن بوست إنه لم يُخفِ الانتقادات العنيفة والشكوك حول الحرب، التي أثارها المسؤولون في مقابلات "الدروس المستفادة". وقال إن الأمر استغرق من مكتبه ثلاث سنوات لإصدار السجلات؛ لأن لديه عدداً قليلاً من الموظفين، ولأن الوكالات الفيدرالية الأخرى اضطرت إلى مراجعة المستندات لمنع الكشف عن أسرار الحكومة.
قال: "لم نحظرها، نحن نؤمن بشدة بالانفتاح والشفافية، لكن يتعين علينا اتباع القانون، أفكر في أي مفتش عام، من المحتمل أنني كنت الأكثر إطلاعاً على المعلومات".
سجلات المقابلات أولية وغير محررة ، ولم يدمجها موظفو SIGAR للدروس المستفادة في سرد موحد؛ لكنها مليئة بأحكام صارمة من أشخاص صاغوا أو نفذوا السياسة الأمريكية في أفغانستان.
قال جيمس دوبينز، وهو دبلوماسي أمريكي رفيع سابق، خدم كمبعوث خاص إلى أفغانستان في عهد بوش وأوباما: "إننا لا نغزو البلدان الفقيرة لجعلها غنية، أو البلدان الاستبدادية لجعلها ديمقراطية، بل نغزو الدول العنيفة لجعلها سلمية، وفشلنا بوضوح في أفغانستان".
ولتعزيز مقابلات "الدروس المستفادة"، حصلت الواشنطن بوست على مئات الصفحات من المذكرات المصنفة مسبقًا حول الحرب الأفغانية، التي أملاها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بين عامي 2001 و 2006. المذكرات التي أطلق عليها رامسفيلد وموظفوه "رقاقات الثلج"، هي تعليمات أو تعليقات موجزة قام رئيس البنتاجون بإملائها على بعض موظفيه، غالبًا عدة مرات في اليوم.
أخرج رامسفيلد للعلن عددًا مختارًا من رقاقاته الثلجية عام 2011، ونشرها عبر الإنترنت بالتزامن مع مذكراته "المعروف والمجهول". لكن معظم مجموعته التي تحتوي على رقاقات الثلج - والتي تقدر بنحو 59000 صفحة - ظلت سرية.
في عام 2017، واستجابة لدعوى قانون حرية المعلومات المرفوعة من قبل أرشيف الأمن القومي، وهو معهد أبحاث غير ربحي مقره جامعة جورج واشنطن، بدأت وزارة الدفاع في مراجعة وإصدار ما تبقى من رقاقات رامسفيلد الثلجية على نحو مستمر، وشاركهم الأرشيف مع الواشنطن بوست.
تشكل مقابلات SIGAR ومذكرات رامسفيلد المتعلقة بأفغانستان تاريخًا سريًا للحرب، وتقييمًا لا يوصف لمدة 18 عامًا من الصراع. وبأسلوب رامسفيلد الفظ تنبأت العديد من رقاقات الثلج بالمشاكل التي لا تزال تلاحق الجيش الأمريكي بعد أكثر من عقد من الزمان.
"قد أكون غير صبور، الحقيقة أنا أعلم أني غير صبور بعض الشيء".
كتب رامسفيلد في إحدى المذكرات إلى عدد من الجنرالات وكبار المساعدين.
"لن نُخرج أبداً الجيش الأمريكي من أفغانستان، ما لم نرَ ما يحقق الاستقرار، والذي سيكون ضرورياً لنا لنغادر البلاد".
"المساعدة!". كتب ذلك رامسفلد. المذكرة بتاريخ 17-4- 2002. بعد ستة أشهر من بدء الحرب.

ماذا يقولون في العلن
"لقد كان تاريخ النزاع العسكري في أفغانستان واحداً من النجاحات الأولية، تبعته سنوات طويلة من التعثر وأقصى درجات الفشل، لن نكرر هذا الخطأ".
الرئيس جورج دبليو بوش، في خطاب ألقاه في معهد فرجينيا العسكري

من خلال وصفها الصريح لكيفية تعثر الولايات المتحدة في حرب بعيدة، بالإضافة إلى تصميم الحكومة على إخفائها عن الجمهور، تشبه مقابلات "الدروس المستفادة" على نطاق واسع "أوراق البنتاجون"، وهو التاريخ السري للغاية لوزارة الدفاع عن حرب فيتنام. عندما سُربت عام 1971، تسببت أوراق البنتاجون في ضجة كبيرة من خلال الكشف عن أن الحكومة قد ضللت الجمهور منذ فترة طويلة حول كيفية تورط الولايات المتحدة في فيتنام.
في 47 مجلداً، استندت الدراسة المكونة من 7000 صفحة بالكامل على الوثائق الحكومية الداخلية، والكابلات الدبلوماسية، ومذكرات صناع القرار، وتقارير المخابرات. وللحفاظ على السرية، أصدر وزير الدفاع روبرت ماكنمارا أمرًا يمنع المؤلفين من مقابلة أي شخص.
لم يواجه مشروع "الدروس المستفادة" لـ SIGAR أي قيود من هذا القبيل، لقد أجرى الموظفون المقابلات بين عامي 2014 و 2018 ، معظمها مع مسؤولين خدموا خلال حقبة بوش وأوباما. نحو 30 من سجلات المقابلات نُسخت كلمة بكلمة. والباقي عبارة عن ملخصات مكتوبة للمحادثات: صفحات من الملاحظات والاقتباسات من أشخاص لديهم وجهات نظر مختلفة عن الصراع، من القواعد العسكرية الأمامية البعيدة في أفغانستان إلى أعلى دوائر السلطة.
بعض المقابلات قصيرة لسبب غير مفهوم، فيتكون سجل المقابلة مع جون ألين، قائد المارينز الذي قاد قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان من عام 2011 إلى عام 2013، من خمس فقرات. في المقابل، سجلات المقابلات مع شخصيات مؤثرة أخرى أكثر شمولاً، فقد عقد السفير الأمريكي السابق ريان كروكر مقابلتين أسفرتا عن 95 صفحة مكتوبة.
على عكس "أوراق البنتاجون"، لم تُصنف أي من وثائق "الدروس المستفادة" في الأصل على أنها سر حكومي، لكن بمجرد ضغط الواشنطن بوست لجعلها علنية، وبعد نشر الحقيقة، تدخلت وكالات اتحادية وحظرت بعض المواد.
على سبيل المثال، أكدت وزارة الخارجية أن نشر أجزاء من مقابلات معينة يمكن أن يعرض المفاوضات مع طالبان لإنهاء الحرب للخطر. كما حظرت وزارة الدفاع وإدارة مكافحة المخدرات نشر بعض اقتباسات المقابلات.
تحتوي "الدروس المستفادة" على قليل من المفاجآت التي تخص العمليات العسكرية، والتي تفجر سيولاً من الانتقادات التي تدحض الرواية الرسمية للحرب، منذ الأيام الأولى وحتى بداية إدارة ترامب.
في البداية، على سبيل المثال، كان للغزو الأمريكي لأفغانستان هدف واضح ومعلن، وهو الانتقام من القاعدة ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر 2001. ولكن تُظهر المقابلات أنه مع استمرار الحرب، استمرت الأهداف والمهمة في التغير، وترسخ انعدام الثقة في الاستراتيجية الأمريكية داخل البنتاجون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. وبقيت الخلافات الأساسية دون حل، فقد أراد بعض المسؤولين الأمريكيين استخدام الحرب لتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية، وأراد آخرون تغيير الثقافة الأفغانية وتمكين المرأة، بينما أراد فريق ثالث إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بين باكستان والهند وإيران وروسيا.
"مع إستراتيجية AfPak، كانت هناك هدية تحت شجرة عيد الميلاد للجميع".
أخبر مسؤول أمريكي -لم تُحدد هويته- بذلك الجهات التي أجرت المقابلات عام 2015.
"مع الوقت، كنتَ منتهياً، كان لديك العديد من الأولويات والتطلعات، كان يبدو أنه لا توجد أي استراتيجية على الإطلاق".
تكشف مقابلات “الدروس المستفادة” أيضًا كيف عانى القادة العسكريون الأمريكيون لمعرفة مَن كانوا يقاتلون، ناهيك عن السبب. هل كانت القاعدة العدو أم طالبان؟ هل كانت باكستان صديقة أم عدوة؟ ماذا عن الدولة الإسلامية والمجموعة المحيرة من الجهاديين الأجانب، ناهيك عن أمراء الحرب الذين هم على كشوف رواتب السي آي إيه؟ وفقًا للوثائق لم تستقر الحكومة الأمريكية أبدًا على إجابة. نتيجة لذلك، وفي الميدان، لم تتمكن القوات الأمريكية في كثير من الأحيان من معرفة العدو من الصديق.
"لقد ظنوا أنني ذاهب إليهم بخريطة لأريهم أين يعيش الطيبون وأين يعيش الأشرار"، هذا ما قاله مستشار سابق لفريق القوات الخاصة بالجيش لم تُسمِه لمقابلات مع الحكومة عام 2017. وأضاف: "لقد استغرق الأمر عدة محادثات معهم ليفهموا أنني ليس لدي هذه المعلومات، في البداية ظلوا يسألون: لكن من هم الأشرار، أين هم؟".
المنظر لم يكن أكثر وضوحًا من البنتاجون: "ليس لدي أي رؤية حول من هم الأشرار"
رامسفيلد مشتكياً في 8 سبتمبر 2003، مضيفاً: "نحن نعاني من نقص شديد في الذكاء البشري".

[بقية الترجمة العدد القادم من مجلة كلمة حق، إن شاء الله]
‏٣٠‏/٠١‏/٢٠٢٠ ٢:٤٦ م‏
أختي (رنا الأسمر).. لقد ماتت فينا الرجولة حامد عبد العظيم حمّل العدد 29 http://bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد http://bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة http://bit.ly/2vvtufk الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي لا نبي بعده، وبعد: فلا يمر أسبوع أو شهر إلا وتسمع بواقعة جديدة في بلاد غير المسلمين وخاصة البلاد التي يوجد فيها العرق الأبيض، مؤخرًا رأينا حادثة تعدي أحد العلوج البيض الأستراليين على سيدة مسلمة مسالمة (اسمها رنا الأسمر- 31 عامًا) كانت تجلس في مطعم مع صديقاتها المسلمات المحجبات، فإذا بهذا الجبان يتعدى عليها بالصراخ والضرب باللكمات في وجهها والركلات في رأسها وجسدها، حتى أسقطها أرضًا وواصل الضرب بإجرام ولم يرحم كونها حُبلى في شهرها التاسع رابط للفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=3SHpJwAYdNk فماذا فعل المسلمون؟ مجرد تنديدات جوفاء، لكن لا شيء على الأرض، رغم أن هذه الحادثة مصورة وكفيلة أن تجعل مسلمي أستراليا (قرابة المليون مسلم ومسلمة) يخرجون في مسيرات لا يرى أولها من آخرها حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى، لكن لم يحدث شيء من ذلك. تُرى ماذا لو حدثت تلك الحادثة ليهودي؟ لكان أمسك بها اليهود واستنفروا جماعات الضغط التابعة لهم على مستوى العالم للتحرك في مسيرات دورية، وللظهور في القنوات الإعلامية واللقاءات الصحفية، وللحديث على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة ممنهجة لا تتوقف، ولوصل فيديو الاعتداء إلى كل بيت في العالم. فلماذا لم يفعل ذلك المسلمون؟ هل هانت أرواحنا ودماؤنا وأنفسنا إلى هذا الحد؟ هل أصبح التعدي على أخواتنا ونسائنا أمرًا عاديًا وطبيعيًا؟ هل ماتت فينا النخوة والرجولة والشهامة؟ ثم تسأل لماذا تتكرر حوادث التعدي على المسلمين في أنحاء العالم؟! نحن نتوقف مع هذه الحادثة لأننا لا نريدها أن تتكرر مرة أخرى، هذا العلج الاسترالي ينبغي الترصد له وكسر يده ورجله التي تعدى بهما على أختنا المسلمة، حتى يكون عبرة لمن يعتبر وحتى لا تراوده ولو في أحلامه فكرة التعدي على امرأة مسلمة، وحتى يتعظ به كل كافر نجس يظن أن المسلمات مستباحات لكل حقير. إذا حدث هذا وصُور وانتشر وتداولته وسائل الإعلام، سيلزم كل جبان حده، وتمشي المسلمات شامخات الرأس عزيزات، يخاف كل خسيس أن يتعدى عليهن فيكون مصيره كسر يده أو رجله. كل هذا بالطبع إذا لم تعاقبه السلطات بالعقوبة اللازمة، أما إذا عوقب بعقوبة شافية للصدور فبها ونعمت، لكن إن قضى أيامًا أو دفع غرامة مالية زهيدة وخرج كأن لم يفعل شيئا، فحينها ينبغي أن يذوق من نفس الكأس. عار على كل مسلم لم يتحرك من أجل الاعتداء على أخيه أو أخته المسلمة، ونحن نتكلم هنا ونركز أكثر على النساء، لأنهن ضعيفات، فالرجل يمكن أن يدافع عن نفسه ولكن المرأة لن تتمكن، عار على المسلمين في مكان اعتُدي فيه على مسلمة ولم ينظموا مظاهرات تنديدية أو مسيرات لمقر الحكومة والبرلمان والرئاسة وغيرها من الأماكن المؤثرة باعتبار أن المسؤولين في البلاد هم المنوط بهم إيقاف هذا الأمر، عار على المسلمين في مكان اعتُدي فيه على مسلمة السكوت أو التنديد الضعيف الذي يتوقف بعد أيام قليلة، عار عليهم عدم التحدث عن الأمر بجدية ونشره في كل مكان، عار عليهم عدم تداول صورة الجاني وفضحه في كل مكان ووصفه بالجبان والإرهابي، عار عليهم عدم الهجوم على اليمين المتطرف وأحزابه وحركاته التي تغذي هذا الفكر وتحث معتنقيه على استهداف المسلمين والمسلمات، عار عليهم أن يكونوا دائمًا في خانة المتهم، عار عليهم ألا يكونوا في تحرك دائم ودوري وثابت لمقاومة الإسلاموفوبيا والتذكير بالحوادث التي حدثت في كل بلد وتفعيل ذكراها كل عام عن طريق الندوات والمسيرات والإعلام ومواقع التواصل… إلخ إن المسألة ليست مسألة هذه الأخت فقط، ولكن الحديث هنا عام لكل المسلمين في أوروبا وأستراليا وأمريكا ونيوزلاندا وكل بلاد العالم غير المسلم، أنت غير مطالب بالتحرك على الأرض من أجل مسلمين في بلد آخر، فهذا نموذج أصبح بعيدًا رغم وجوبه، ولكن على الأقل لا يمكن أن يُتعدى على مسلم أو مسلمة بدافع ديني أو عرقي وتسكت أنت على ذلك، لأنك إن لم تتحرك لن يتحرك أحد فأنتم أقلية ولا يمكن لكل فرد أن يعتمد على الآخر، لذلك وجود التنسيقيات المخصصة لرصد حوادث الاعتداء والتفاعل السريع والفوري معها هو أمر ضروري وعاجل، وحدة متخصصة لرصد الحوادث -ولو كانت اعتداء بالكلمة- وتسليط الضوء عليها وبدء التحرك الآني لمواجهتها، أما إذا علم أمثال هؤلاء الأنجاس أن المسلمين يحدث لهم الضرر فيسكتون، فحينها لا تستغرب وقوع هذه الحوادث يوميًا، فمن أمِنَ العقوبة أساء الأدب. تمامًا كما فعل الخنزير الأسترالي الذي قتل 53 مسلماً ومسلمة في مسجدين بنيوزلاندا، فهو يعلم يقينا أنه لن يُقتل ولو قتل مليون إنسان ولذلك أقدم على فعلته. ولكن مع هذه العتمة والقهر يظل النور الإسلامي ساطعًا في النفوس وباقيًا، فيبرز أحد أبطال الإسلام في شمال القارة الأوروبية وبالتحديد في النرويج، عندما أقدم كلب من كلاب اليمين المتطرف على حرق نسخة من القرآن الكريم، فإذا بهذا البطل المسلم يقفز نحوه مسددًا ركلة له، وإذا بهذا الكلب النرويجي يهلع ويظهر على ملامحه الخوف الشديد والارتجاف، وأرى أنه لن يفكر هو أو من شاهده من رفاقه المتعصبين في الإقدام على ذلك مرة أخرى أبدًا في حياتهم. أعلم يقينًا أن قرآننا باقٍ في القلوب والصدور ويحفظه ملايين المسلمين عن ظهر قلب، وأن حرق نسخة منه لن يؤثر عليه أو على مكانته في شيء، فهو ليس كتابًا هزيلًا محرفًا مثل ما يسمى الكتاب المقدس الذي لا يدرون حقيقة شخصيات رواته ولا يوجد له إسناد متصل ولو واحد فقط ولا يحفظه أحد من النصارى تقريبًا، أنا أعلم كل هذا، ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن التسامح مع حركة رمزية كهذه، والذي قام به هذا البطل المسلم (أسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناته وأن يفرج عنه فقد اعتقلته الشرطة النرويجية) سيجعل الكثير يحجمون عن فعل هذا مرة أخرى خوفًا من هجوم أحد الأشاوس عليهم كما فعل ذلك البطل. رابط للفيديو : https://www.youtube.com/watch?v=bgKb14SHWRA إنه "الردع" يا سادة، الذي يوقف الإنسان المتجبر عند حده، فالإنسان المتجبر لا يتوقف عن تجبره إلا إذا رأى خطرًا على نفسه، فهو جبان جدًا لو أحس بهذا، فتجد هذا الطاغي الجبار الفرعوني قد تحول إلى قط هزيل مبلل بالماء وأصبح كل ما يرجوه هو نجاته. ومن أجل ذلك تحديدًا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد، فالجهاد يحفظ للأمة عزتها ولا يجعل كل من هب ودب يتعدى عليها، مهما كان جبارًا في الأرض، بل يبقيها شامخة يعلم الجميع أنها أمة قوية تسترخص أرواحها في سبيل إبقاء رأسها عالية مستعصية على الانحناء والمذلة لأي أحد، سوى خالقها عز وجل. إن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شيء، لذلك هو يعلم جل في علاه ما يردع مخلوقاته، وما يجعل العلاقة بينها متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل، خاصة عند انعدام الدين والضمير، فلو كان البشر صالحين ويخضون الله تبارك وتعالى لما شرع الله تعالى الجهاد، ولكن لأن هناك حزب الله وحزب الشيطان، ولأن هناك من لا يردعه الدين أو توقفه عند حده الأخلاق، كان لابد من شرع الجهاد لردع جنود الشيطان في كل مكان وزمان، وإلا سيكون الصالحون وجند الله تعالى أذل الناس وأكثرهم عرضة لانتهاك الأعراض واغتصاب الأموال واستباحة الأرض والخيرات. أختم مقالتي هذه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أوتي جوامع الكلم، يقول عليه السلام: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ). رواه أحمد وأبو داود. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أختي (رنا الأسمر).. لقد ماتت فينا الرجولة

حامد عبد العظيم

حمّل العدد 29
http://bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
http://bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
http://bit.ly/2vvtufk

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي لا نبي بعده، وبعد:

فلا يمر أسبوع أو شهر إلا وتسمع بواقعة جديدة في بلاد غير المسلمين وخاصة البلاد التي يوجد فيها العرق الأبيض، مؤخرًا رأينا حادثة تعدي أحد العلوج البيض الأستراليين على سيدة مسلمة مسالمة (اسمها رنا الأسمر- 31 عامًا) كانت تجلس في مطعم مع صديقاتها المسلمات المحجبات، فإذا بهذا الجبان يتعدى عليها بالصراخ والضرب باللكمات في وجهها والركلات في رأسها وجسدها، حتى أسقطها أرضًا وواصل الضرب بإجرام ولم يرحم كونها حُبلى في شهرها التاسع رابط للفيديو:
https://www.youtube.com/watch?v=3SHpJwAYdNk

فماذا فعل المسلمون؟ مجرد تنديدات جوفاء، لكن لا شيء على الأرض، رغم أن هذه الحادثة مصورة وكفيلة أن تجعل مسلمي أستراليا (قرابة المليون مسلم ومسلمة) يخرجون في مسيرات لا يرى أولها من آخرها حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى، لكن لم يحدث شيء من ذلك.

تُرى ماذا لو حدثت تلك الحادثة ليهودي؟ لكان أمسك بها اليهود واستنفروا جماعات الضغط التابعة لهم على مستوى العالم للتحرك في مسيرات دورية، وللظهور في القنوات الإعلامية واللقاءات الصحفية، وللحديث على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة ممنهجة لا تتوقف، ولوصل فيديو الاعتداء إلى كل بيت في العالم.

فلماذا لم يفعل ذلك المسلمون؟ هل هانت أرواحنا ودماؤنا وأنفسنا إلى هذا الحد؟ هل أصبح التعدي على أخواتنا ونسائنا أمرًا عاديًا وطبيعيًا؟ هل ماتت فينا النخوة والرجولة والشهامة؟ ثم تسأل لماذا تتكرر حوادث التعدي على المسلمين في أنحاء العالم؟!

نحن نتوقف مع هذه الحادثة لأننا لا نريدها أن تتكرر مرة أخرى، هذا العلج الاسترالي ينبغي الترصد له وكسر يده ورجله التي تعدى بهما على أختنا المسلمة، حتى يكون عبرة لمن يعتبر وحتى لا تراوده ولو في أحلامه فكرة التعدي على امرأة مسلمة، وحتى يتعظ به كل كافر نجس يظن أن المسلمات مستباحات لكل حقير. إذا حدث هذا وصُور وانتشر وتداولته وسائل الإعلام، سيلزم كل جبان حده، وتمشي المسلمات شامخات الرأس عزيزات، يخاف كل خسيس أن يتعدى عليهن فيكون مصيره كسر يده أو رجله. كل هذا بالطبع إذا لم تعاقبه السلطات بالعقوبة اللازمة، أما إذا عوقب بعقوبة شافية للصدور فبها ونعمت، لكن إن قضى أيامًا أو دفع غرامة مالية زهيدة وخرج كأن لم يفعل شيئا، فحينها ينبغي أن يذوق من نفس الكأس.

عار على كل مسلم لم يتحرك من أجل الاعتداء على أخيه أو أخته المسلمة، ونحن نتكلم هنا ونركز أكثر على النساء، لأنهن ضعيفات، فالرجل يمكن أن يدافع عن نفسه ولكن المرأة لن تتمكن، عار على المسلمين في مكان اعتُدي فيه على مسلمة ولم ينظموا مظاهرات تنديدية أو مسيرات لمقر الحكومة والبرلمان والرئاسة وغيرها من الأماكن المؤثرة باعتبار أن المسؤولين في البلاد هم المنوط بهم إيقاف هذا الأمر، عار على المسلمين في مكان اعتُدي فيه على مسلمة السكوت أو التنديد الضعيف الذي يتوقف بعد أيام قليلة، عار عليهم عدم التحدث عن الأمر بجدية ونشره في كل مكان، عار عليهم عدم تداول صورة الجاني وفضحه في كل مكان ووصفه بالجبان والإرهابي، عار عليهم عدم الهجوم على اليمين المتطرف وأحزابه وحركاته التي تغذي هذا الفكر وتحث معتنقيه على استهداف المسلمين والمسلمات، عار عليهم أن يكونوا دائمًا في خانة المتهم، عار عليهم ألا يكونوا في تحرك دائم ودوري وثابت لمقاومة الإسلاموفوبيا والتذكير بالحوادث التي حدثت في كل بلد وتفعيل ذكراها كل عام عن طريق الندوات والمسيرات والإعلام ومواقع التواصل… إلخ

إن المسألة ليست مسألة هذه الأخت فقط، ولكن الحديث هنا عام لكل المسلمين في أوروبا وأستراليا وأمريكا ونيوزلاندا وكل بلاد العالم غير المسلم، أنت غير مطالب بالتحرك على الأرض من أجل مسلمين في بلد آخر، فهذا نموذج أصبح بعيدًا رغم وجوبه، ولكن على الأقل لا يمكن أن يُتعدى على مسلم أو مسلمة بدافع ديني أو عرقي وتسكت أنت على ذلك، لأنك إن لم تتحرك لن يتحرك أحد فأنتم أقلية ولا يمكن لكل فرد أن يعتمد على الآخر، لذلك وجود التنسيقيات المخصصة لرصد حوادث الاعتداء والتفاعل السريع والفوري معها هو أمر ضروري وعاجل، وحدة متخصصة لرصد الحوادث -ولو كانت اعتداء بالكلمة- وتسليط الضوء عليها وبدء التحرك الآني لمواجهتها، أما إذا علم أمثال هؤلاء الأنجاس أن المسلمين يحدث لهم الضرر فيسكتون، فحينها لا تستغرب وقوع هذه الحوادث يوميًا، فمن أمِنَ العقوبة أساء الأدب. تمامًا كما فعل الخنزير الأسترالي الذي قتل 53 مسلماً ومسلمة في مسجدين بنيوزلاندا، فهو يعلم يقينا أنه لن يُقتل ولو قتل مليون إنسان ولذلك أقدم على فعلته.

ولكن مع هذه العتمة والقهر يظل النور الإسلامي ساطعًا في النفوس وباقيًا، فيبرز أحد أبطال الإسلام في شمال القارة الأوروبية وبالتحديد في النرويج، عندما أقدم كلب من كلاب اليمين المتطرف على حرق نسخة من القرآن الكريم، فإذا بهذا البطل المسلم يقفز نحوه مسددًا ركلة له، وإذا بهذا الكلب النرويجي يهلع ويظهر على ملامحه الخوف الشديد والارتجاف، وأرى أنه لن يفكر هو أو من شاهده من رفاقه المتعصبين في الإقدام على ذلك مرة أخرى أبدًا في حياتهم.

أعلم يقينًا أن قرآننا باقٍ في القلوب والصدور ويحفظه ملايين المسلمين عن ظهر قلب، وأن حرق نسخة منه لن يؤثر عليه أو على مكانته في شيء، فهو ليس كتابًا هزيلًا محرفًا مثل ما يسمى الكتاب المقدس الذي لا يدرون حقيقة شخصيات رواته ولا يوجد له إسناد متصل ولو واحد فقط ولا يحفظه أحد من النصارى تقريبًا، أنا أعلم كل هذا، ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن التسامح مع حركة رمزية كهذه، والذي قام به هذا البطل المسلم (أسأل الله تعالى أن يجعله في ميزان حسناته وأن يفرج عنه فقد اعتقلته الشرطة النرويجية) سيجعل الكثير يحجمون عن فعل هذا مرة أخرى خوفًا من هجوم أحد الأشاوس عليهم كما فعل ذلك البطل. رابط للفيديو :
https://www.youtube.com/watch?v=bgKb14SHWRA

إنه "الردع" يا سادة، الذي يوقف الإنسان المتجبر عند حده، فالإنسان المتجبر لا يتوقف عن تجبره إلا إذا رأى خطرًا على نفسه، فهو جبان جدًا لو أحس بهذا، فتجد هذا الطاغي الجبار الفرعوني قد تحول إلى قط هزيل مبلل بالماء وأصبح كل ما يرجوه هو نجاته.

ومن أجل ذلك تحديدًا شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد، فالجهاد يحفظ للأمة عزتها ولا يجعل كل من هب ودب يتعدى عليها، مهما كان جبارًا في الأرض، بل يبقيها شامخة يعلم الجميع أنها أمة قوية تسترخص أرواحها في سبيل إبقاء رأسها عالية مستعصية على الانحناء والمذلة لأي أحد، سوى خالقها عز وجل.

إن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شيء، لذلك هو يعلم جل في علاه ما يردع مخلوقاته، وما يجعل العلاقة بينها متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل، خاصة عند انعدام الدين والضمير، فلو كان البشر صالحين ويخضون الله تبارك وتعالى لما شرع الله تعالى الجهاد، ولكن لأن هناك حزب الله وحزب الشيطان، ولأن هناك من لا يردعه الدين أو توقفه عند حده الأخلاق، كان لابد من شرع الجهاد لردع جنود الشيطان في كل مكان وزمان، وإلا سيكون الصالحون وجند الله تعالى أذل الناس وأكثرهم عرضة لانتهاك الأعراض واغتصاب الأموال واستباحة الأرض والخيرات.

أختم مقالتي هذه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أوتي جوامع الكلم، يقول عليه السلام: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ). رواه أحمد وأبو داود.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
‏٣١‏/١٢‏/٢٠١٩ ٧:٤٦ م‏
خطر الأفكار الداعشية على الإسلام والإنسانية د. عطية عدلان [حمّل العدد 29 http://bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد http://bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة http://bit.ly/2vvtufk] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. ليس غريبا الربط بين الإسلام والإنسانية في هذا السياق؛ لأنّ الإسلام دين الإنسانية، فإذا ما كان هناك خطر من جهة ما على الإسلام فإنّه يكون في الوقت ذاته خطراً على الإنسانية، وعلى إنسانية الإنسان، وإذا كانت الكيانات المفرطة في الغلو والتنطع خطرا على الإسلام وعلى الإنسان فإنّ الخطر الأكبر يتمثل في الفكرة التي تنبت كالسرطان في جسد الأمة وفي الجسد الإنسانيّ كله، وتتسربل بالدين - أيِّ دين - وهي تضمر الكراهية لخلق الله أجمعين؛ لذا وجب التصدي للأفكار أكثر من غيرها. ولنبدأ طرحنا بالحديث عمَا يتعلق بالجهاد، وهنا نقول: على الرغم من كوننا متعبدين بالحكم لا بالمقصد فإنّ إدراك المقصد الشرعيّ ضرورة فقهية وعملية؛ لأنّه يضبط البوصلة لدى تنزيل الحكم وسحب دلالته على الوقائع المختلفة، وإنّ لنا في كتاب الله تعالى أسوة، فإنَّ أول آيات نزلت في تشريع القتال هي هذه الآيات من سورة الحج، فتأملوها؛ لتروا كيف قُدِّمت المقاصد واحْتُفِيَ بها قبل نزول الحكم التكليفيّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)) (الحج 39-40). وبهذا الصدد نحن بحاجة إلى أن نرجع إلى الوراء خطوة واحدة؛ فنطرح هذا السؤال الضروريّ: هل الجهاد الإسلاميّ غاية أم وسيلة ؟ وهو سؤال له ما بعده، ولا بد منه قبل الدخول في التفاصيل، ولنترك الآيات القرآنية تجيبنا عن هذا السؤال المهم: يقول الله عزّ وجلّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] ويقول جلّ شأنه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]، فلو تأملنا الآيتين لتبين لنا أنّ الجهاد وسيلة لا غاية، فقد تحدثت الآيات الكريمات عن غايات القتال، وفصلت بينها وبين القتال بحتى الغائية، وحَتَّى هنا حرف غاية وجر، والمراد به التعليل"([1]). فالقتال إذن ليس غاية في ذاته، والقتل لمجرد القتل ليس مقصوداً ولا مراداً؛ لأنَّ الأصل أنَّ الإنسان بنيان الربِّ؛ فلا مسوغ لأحد في هدمه بغير حكم من الله واضح لا لبس فيه، وعندما يتولى القرآن الكريم تحديد الغاية والمقصد فلا مُتَّسَع لغايات ومقاصد تُولد من رحم الهوى أو تَنْبُت في أرض النزوات والنزغات، فليس من مقاصد الجهاد إرغام الخلق على الإسلام، وليس من مقاصده معاقبة الكافرين على كفرهم، ولا حملهم بحد السيف على الدخول في الإسلام، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في كلام العلماء ما يمكن أن يكون دليلا لمن يدعي شيئا من ذلك وينسبه للإسلام. ويترتب على هذا ضرورة التقيُّد بغايات الجهاد ومقاصده؛ بما لا يخرج به عن مقتضيات هذه الغايات والمقاصد التي من أجلها شُرع؛ فلا يصح - بحال - أن يتلبس المجاهد بظلم أو تعدّ - بما أنّه مجاهد - فمنهج الله تعالى لا يحابي أحداً مهما كانت منزلته؛ لذلك وجدنا حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه يتعرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التأنيب الشديد عندما تأَوَّلَ وقتل من نطق بالشهادتين: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ"([2])، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] . واللافت للنظر بشدّة تلك اللفتة القرآنية الرحيمة العادلة: "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا". أي تذكروا أنكم كنتم من قبل مثل هؤلاء الذين تسارعون إلى قتلهم إذا ظفرتم بهم، فمَنَّ الله عليكم واستنقذكم من الكفر ومن الاستضعاف؛ فتبينوا إذاً ولا تحرموا عباد الله ما منّ به عليكم، قال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره([3]). لذلك اتفق العلماء على تحريم قتل نساء الكفار وصبيانهم وَخَنَاثَاهُمْ ومجانينهم إذا لم يشاركوا في الحرب، ولم يكونوا مخالطين للمقاتلين، وعلى تحريم قتل الرسل المُوفَدِينَ مِن العدو لتبليغ رسالة أو لتفاوض أو ما شابه ذلك([4])، ومستند الإجماع على عدم جواز قتل النساء والصبيان أحاديث صحاح، منها ما رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ امرأة وُجِدَتْ في بعض مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل النساء والصبيان"([5])، قال النووي: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا"([6])، ومستند إجماعهم على تحريم قتل الرسل ما رواه أبو داود والحاكم عن نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابن النواحة وصاحبه، اللذين أوفدهما مسيلمة إليه: "لولا أن الرسل لا تُقْتَل، لضربت أعناقكما"، قال العلماء: "ومضت السنة أن الرسل لا تُقتل"([7]). ويَلحق بالنساء والصبيان والرسل في تحريم قتلهم كلُّ مَن ليسوا محاربين، وهو قول الجمهور؛ من الحنفية، والمالكية، وأحد قولي الإمام أحمد، والشافعية في قول عندهم([8])، وحجة الجمهور غاية في القوة والظهور؛ فقد احتجوا بالقياس على النساء والصبيان، بجامع انتفاء علة المقاتلة، فيبقى مَن لا يتأتى منهم القتال على أصل عصمة الدم، فيدخل فيهم الرهبان والشيوخ والزَّمْنَى والسُّوقَة من تجار وأصحاب صنائع وفلاحين وعسفاء (أُجَرَاء) ووصفاء (مماليك)، ومَن يُعَدُّ مِن المستضعفين؛ لأن مظنة عدم حدوث الضرر تقوم مقام عدم حدوثه حقيقة([9]). والعامّ إذا خُصِّصَ جاز عند الجمهور تخصيصه بعد ذلك بالأقيسة، وقد خُصِّصَ عموم قتل المشركين بالنهي عن قتل الرسل والنساء والصبيان، فجاز التخصيص بعد ذلك بالقياس، وقالوا : ليس من غرض الشارع إفساد العالَم، وإنما إصلاحه، وذلك يحصل بقتل المحاربين، وليس المدنيين؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدَّر بقدرها([10])؛ ومن هنا يترجح أنّ موجب القتل ليس مجرد الكفر، وإنّما الكفر مع الحرابة، وهو الصحيح الذي يجب المصير إليه، وهو المتفق مع المقاصد العامة لرسالة الإسلام. هذه هي الأحكام الشرعية فأين هم منها، لقد قلبوا القتال من كونه وسيلة إلى كونه غاية في ذاتها، وجعلوا الكفر وحده مبيحًا للقتل، ولكي يتوسعوا في القتل اتخذوا التكفير بابًا إلى القتل الذريع، ولم يرحموا أحداً صغيرًا كان أو كبيرًا، رجلًا كان أو امرأة، محاربًا كان أو مسالماً، بل إنّهم قتلوا المجاهدين لمخالفتهم في الانتساب لتنظيم واحد، كأنّهم تألهوا على الناس يحكمون فيهم وينفذون دون وازع من عقل أو ضمير. لقد تضرر الإسلام والمسلمون من هذا الفكر المنحرف؛ إذ تشوهت صورة الإسلام لدى كثير من أعدائه، بل تشوهت لدى كثير من الخلق الذين نطمع في إسلامهم، وتشوهت كذلك صورة المسلم، ولم يعد بالإمكان تحقق القدوة به في الحياة، وتضررت فريضة الجهاد نفسها بحرفها عن مسارها وجعلها مجرد أداة لتحقيق المغانم وتنفيس الأحقاد، وتضررت الإنسانية إذ حُرمت من رؤية الحقيقة بسبب ما ران عليها من أفعالهم. إنّنا بحاجة إلى إحياء الجهاد النظيف الذي تُراعى في مقاصد الشريعة ومصالح المسلمين وتتحقق به خيرية هذه الأمة، بعيداً عن صور الدعشنة والغلو. وليس انحرافات الفكر الداعشي منحصرة في هذه الزاوية؛ لذلك سيكون لنا مقالة أخرى نتحدث فيها عن الانحرافات في ميدان السياسة الشرعية. ________________________________________ ([1]) إعراب القرآن وبيانه 1/282 ([2]) صحيح البخاري (5/ 144) صحيح مسلم (1/ 97) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 73-74)، ([3]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)(2/ 97) ([4]) (الدر المختار ورد المحتار (3/224، 244)، روضة الطالبين (10/24)، منهاج الطالبين وشرحه للمحلي (4/218)، منح الجليل (1/714)، المغني (9/249) تحقيق د. التركي - ط الثانية - القاهرة 1413هجرية-1992م، الإنصاف (4/128-129)، مطالب أولي النهى (2/517)، زاد المعاد (2/75 ،3/32)). ([5]) أخرجه البخاري (3014)، ومسلم (1744). اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (رقم 1138) ([6]) شرح النووي على صحيح مسلم (12/48) ([7]) عون المعبود (7/242)، المستدرك (3/53)، البداية والنهاية (5/52)، زاد المعاد (2/75 ،3/32). ([8]) (بدائع الصنائع (7/101)، منح الجليل (1/714، 715) و شرح منهاج الطالبين (4/218) ([9]) (تبيين الحقائق (3/345)، بدائع الصنائع (7/107)، فتح القدير (5/202-203)، بداية المجتهد (1/383-385)، جواهر الإكليل (1/253)، حاشية الدسوقي والشرح الكبير (2/176)، منح الجليل (1/714)، اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/119)، المغني (13/178-180)، الأم (4/240)، الإنصاف (4/128)، القوانين الفقهية (ص 98). والتعبير بالسوقة في أسنى المطالب (4/190)، وانظر معنى الوصفاء في الأحكام السلطانية للماوردي (ص 41)، المحلى (7/296-297)). ([10]) نصب الراية (3/386-387)، منح الجليل (1/714)، مجموع الفتاوى (28/355)
خطر الأفكار الداعشية على الإسلام والإنسانية
د. عطية عدلان

[حمّل العدد 29
http://bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
http://bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
http://bit.ly/2vvtufk]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

ليس غريبا الربط بين الإسلام والإنسانية في هذا السياق؛ لأنّ الإسلام دين الإنسانية، فإذا ما كان هناك خطر من جهة ما على الإسلام فإنّه يكون في الوقت ذاته خطراً على الإنسانية، وعلى إنسانية الإنسان، وإذا كانت الكيانات المفرطة في الغلو والتنطع خطرا على الإسلام وعلى الإنسان فإنّ الخطر الأكبر يتمثل في الفكرة التي تنبت كالسرطان في جسد الأمة وفي الجسد الإنسانيّ كله، وتتسربل بالدين - أيِّ دين - وهي تضمر الكراهية لخلق الله أجمعين؛ لذا وجب التصدي للأفكار أكثر من غيرها.

ولنبدأ طرحنا بالحديث عمَا يتعلق بالجهاد، وهنا نقول: على الرغم من كوننا متعبدين بالحكم لا بالمقصد فإنّ إدراك المقصد الشرعيّ ضرورة فقهية وعملية؛ لأنّه يضبط البوصلة لدى تنزيل الحكم وسحب دلالته على الوقائع المختلفة، وإنّ لنا في كتاب الله تعالى أسوة، فإنَّ أول آيات نزلت في تشريع القتال هي هذه الآيات من سورة الحج، فتأملوها؛ لتروا كيف قُدِّمت المقاصد واحْتُفِيَ بها قبل نزول الحكم التكليفيّ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)) (الحج 39-40).

وبهذا الصدد نحن بحاجة إلى أن نرجع إلى الوراء خطوة واحدة؛ فنطرح هذا السؤال الضروريّ: هل الجهاد الإسلاميّ غاية أم وسيلة ؟ وهو سؤال له ما بعده، ولا بد منه قبل الدخول في التفاصيل، ولنترك الآيات القرآنية تجيبنا عن هذا السؤال المهم: يقول الله عزّ وجلّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] ويقول جلّ شأنه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]، فلو تأملنا الآيتين لتبين لنا أنّ الجهاد وسيلة لا غاية، فقد تحدثت الآيات الكريمات عن غايات القتال، وفصلت بينها وبين القتال بحتى الغائية، وحَتَّى هنا حرف غاية وجر، والمراد به التعليل"([1]).

فالقتال إذن ليس غاية في ذاته، والقتل لمجرد القتل ليس مقصوداً ولا مراداً؛ لأنَّ الأصل أنَّ الإنسان بنيان الربِّ؛ فلا مسوغ لأحد في هدمه بغير حكم من الله واضح لا لبس فيه، وعندما يتولى القرآن الكريم تحديد الغاية والمقصد فلا مُتَّسَع لغايات ومقاصد تُولد من رحم الهوى أو تَنْبُت في أرض النزوات والنزغات، فليس من مقاصد الجهاد إرغام الخلق على الإسلام، وليس من مقاصده معاقبة الكافرين على كفرهم، ولا حملهم بحد السيف على الدخول في الإسلام، ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في كلام العلماء ما يمكن أن يكون دليلا لمن يدعي شيئا من ذلك وينسبه للإسلام.

ويترتب على هذا ضرورة التقيُّد بغايات الجهاد ومقاصده؛ بما لا يخرج به عن مقتضيات هذه الغايات والمقاصد التي من أجلها شُرع؛ فلا يصح - بحال - أن يتلبس المجاهد بظلم أو تعدّ - بما أنّه مجاهد - فمنهج الله تعالى لا يحابي أحداً مهما كانت منزلته؛ لذلك وجدنا حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه يتعرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التأنيب الشديد عندما تأَوَّلَ وقتل من نطق بالشهادتين: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ"([2])، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] .

واللافت للنظر بشدّة تلك اللفتة القرآنية الرحيمة العادلة: "كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا". أي تذكروا أنكم كنتم من قبل مثل هؤلاء الذين تسارعون إلى قتلهم إذا ظفرتم بهم، فمَنَّ الله عليكم واستنقذكم من الكفر ومن الاستضعاف؛ فتبينوا إذاً ولا تحرموا عباد الله ما منّ به عليكم، قال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره([3]).

لذلك اتفق العلماء على تحريم قتل نساء الكفار وصبيانهم وَخَنَاثَاهُمْ ومجانينهم إذا لم يشاركوا في الحرب، ولم يكونوا مخالطين للمقاتلين، وعلى تحريم قتل الرسل المُوفَدِينَ مِن العدو لتبليغ رسالة أو لتفاوض أو ما شابه ذلك([4])، ومستند الإجماع على عدم جواز قتل النساء والصبيان أحاديث صحاح، منها ما رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ امرأة وُجِدَتْ في بعض مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل النساء والصبيان"([5])، قال النووي: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا"([6])، ومستند إجماعهم على تحريم قتل الرسل ما رواه أبو داود والحاكم عن نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابن النواحة وصاحبه، اللذين أوفدهما مسيلمة إليه: "لولا أن الرسل لا تُقْتَل، لضربت أعناقكما"، قال العلماء: "ومضت السنة أن الرسل لا تُقتل"([7]).

ويَلحق بالنساء والصبيان والرسل في تحريم قتلهم كلُّ مَن ليسوا محاربين، وهو قول الجمهور؛ من الحنفية، والمالكية، وأحد قولي الإمام أحمد، والشافعية في قول عندهم([8])، وحجة الجمهور غاية في القوة والظهور؛ فقد احتجوا بالقياس على النساء والصبيان، بجامع انتفاء علة المقاتلة، فيبقى مَن لا يتأتى منهم القتال على أصل عصمة الدم، فيدخل فيهم الرهبان والشيوخ والزَّمْنَى والسُّوقَة من تجار وأصحاب صنائع وفلاحين وعسفاء (أُجَرَاء) ووصفاء (مماليك)، ومَن يُعَدُّ مِن المستضعفين؛ لأن مظنة عدم حدوث الضرر تقوم مقام عدم حدوثه حقيقة([9]).

والعامّ إذا خُصِّصَ جاز عند الجمهور تخصيصه بعد ذلك بالأقيسة، وقد خُصِّصَ عموم قتل المشركين بالنهي عن قتل الرسل والنساء والصبيان، فجاز التخصيص بعد ذلك بالقياس، وقالوا : ليس من غرض الشارع إفساد العالَم، وإنما إصلاحه، وذلك يحصل بقتل المحاربين، وليس المدنيين؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدَّر بقدرها([10])؛ ومن هنا يترجح أنّ موجب القتل ليس مجرد الكفر، وإنّما الكفر مع الحرابة، وهو الصحيح الذي يجب المصير إليه، وهو المتفق مع المقاصد العامة لرسالة الإسلام.
هذه هي الأحكام الشرعية فأين هم منها، لقد قلبوا القتال من كونه وسيلة إلى كونه غاية في ذاتها، وجعلوا الكفر وحده مبيحًا للقتل، ولكي يتوسعوا في القتل اتخذوا التكفير بابًا إلى القتل الذريع، ولم يرحموا أحداً صغيرًا كان أو كبيرًا، رجلًا كان أو امرأة، محاربًا كان أو مسالماً، بل إنّهم قتلوا المجاهدين لمخالفتهم في الانتساب لتنظيم واحد، كأنّهم تألهوا على الناس يحكمون فيهم وينفذون دون وازع من عقل أو ضمير.

لقد تضرر الإسلام والمسلمون من هذا الفكر المنحرف؛ إذ تشوهت صورة الإسلام لدى كثير من أعدائه، بل تشوهت لدى كثير من الخلق الذين نطمع في إسلامهم، وتشوهت كذلك صورة المسلم، ولم يعد بالإمكان تحقق القدوة به في الحياة، وتضررت فريضة الجهاد نفسها بحرفها عن مسارها وجعلها مجرد أداة لتحقيق المغانم وتنفيس الأحقاد، وتضررت الإنسانية إذ حُرمت من رؤية الحقيقة بسبب ما ران عليها من أفعالهم.
إنّنا بحاجة إلى إحياء الجهاد النظيف الذي تُراعى في مقاصد الشريعة ومصالح المسلمين وتتحقق به خيرية هذه الأمة، بعيداً عن صور الدعشنة والغلو.
وليس انحرافات الفكر الداعشي منحصرة في هذه الزاوية؛ لذلك سيكون لنا مقالة أخرى نتحدث فيها عن الانحرافات في ميدان السياسة الشرعية.

________________________________________
([1]) إعراب القرآن وبيانه 1/282
([2]) صحيح البخاري (5/ 144) صحيح مسلم (1/ 97) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 73-74)،
([3]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)(2/ 97)
([4]) (الدر المختار ورد المحتار (3/224، 244)، روضة الطالبين (10/24)، منهاج الطالبين وشرحه للمحلي (4/218)، منح الجليل (1/714)، المغني (9/249) تحقيق د. التركي - ط الثانية - القاهرة 1413هجرية-1992م، الإنصاف (4/128-129)، مطالب أولي النهى (2/517)، زاد المعاد (2/75 ،3/32)).
([5]) أخرجه البخاري (3014)، ومسلم (1744). اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (رقم 1138)
([6]) شرح النووي على صحيح مسلم (12/48)
([7]) عون المعبود (7/242)، المستدرك (3/53)، البداية والنهاية (5/52)، زاد المعاد (2/75 ،3/32).
([8]) (بدائع الصنائع (7/101)، منح الجليل (1/714، 715) و شرح منهاج الطالبين (4/218)
([9]) (تبيين الحقائق (3/345)، بدائع الصنائع (7/107)، فتح القدير (5/202-203)، بداية المجتهد (1/383-385)، جواهر الإكليل (1/253)، حاشية الدسوقي والشرح الكبير (2/176)، منح الجليل (1/714)، اللباب في شرح الكتاب للميداني (4/119)، المغني (13/178-180)، الأم (4/240)، الإنصاف (4/128)، القوانين الفقهية (ص 98). والتعبير بالسوقة في أسنى المطالب (4/190)، وانظر معنى الوصفاء في الأحكام السلطانية للماوردي (ص 41)، المحلى (7/296-297)).
([10]) نصب الراية (3/386-387)، منح الجليل (1/714)، مجموع الفتاوى (28/355)
‏٢٥‏/١٢‏/٢٠١٩ ٩:٣٩ م‏
التصوف بين ارتباطه بالجهاد والاجتهاد وبين فرض "دين" جديد د. وصفي عاشور أبو زيد [حمّل العدد 29 http://bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد http://bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة http://bit.ly/2vvtufk] التصوف باعتباره مصطلحا لم يظهر في الصدر الأول إلا في أواخر القرن الثاني الهجري وبدايات الثالث الهجري، وقد سماه القرآن (التزكية)، والسنة (الإحسان)، والبعض أطلق عليه علم الباطن في مقابل علم الظاهر، ولا مشاحة في الاصطلاح متى اتضحت المفاهيم وانكشفت المضامين. حقيقة التصوف ولو أننا مررنا مروراً سريعاً على تعريفات التصوف عند العلماء في ذلك الوقت المبكر نسبياً لوجدنا أنها تدور حول الارتقاء من البشرية إلى الإنسانية، ثم من الإنسانية إلى كمال الإنسانية، ألا وهو الإحسان، وهذه التعريفات أشهر من أن توثق وهي موجودة في كل الكتب التي تناولت التصوف. فالإمام معروف الكرخي 200 هـ مثلاً يقول: "التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في يد الخلائق"، وبشر الحافي 227 ه يقول: "الصوفي من صفا قلبه لله"، وسحنون المحب 297 ه كان يقول: "التصوف ألا تملك شيئاً ولا يملكك شيءٌ"، وأما الإمام الجنيد رحمه الله فقد كان علامة فارقة في تاريخ التصوف، فقد أصل أصوله، وقعد قواعده، ورسم طريقه منضبطاً بالكتاب والسنة، وقد عرّف التصوف قائلاً: "أن تكون مع الله بلا علاقة، ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع"، وقال: "الصوفي كالأرض؛ يرزح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كل مليح"، وقال: "التصوف أن يختصك الله بالصفاء ..فمن صفّي من كل ما سوى الله فهو صوفي"، وهو صاحب المقولة المشهورة: "لو رأيتم الرجل يطير في السماء ويمشي على الماء فلا تعبؤوا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة". والتزكية – كما قرر القرآن الكريم - من وظائف النبوة ومهماتها، قال تعالى: ﴿كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولࣰا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٥١]. قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: (يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة، ليس ذلك ببدع من إحساننا، ولا بأوله، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم، تعرفون نسبه وصدقه، وأمانته وكماله ونصحه). ثم قال عن كلمة (ويزكيكم): ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية). ا.هـ. والتزكية هي ثالث ثلاثة لمقاصد عليا قررها ورفع سقفَها الفقيه المعروف د. طه جابر العلواني في كتابه: (التوحيد والتزكية والعمران)؛ حيث جعل الشريعة كله تتغيا إقامة عدد من القيم الكبرى أو المقاصد العليا الحاكمة، هي التوحيد والتزكية والعمران، وهي كليات مطلقة قطعية، فالتوحيد حق الله تعالى، والتزكية مؤهِّل الإنسان للاستخلاف والعمران، والعمران هو حق الكون المسخَّر وميدان فعل الإنسان ونشاطه، وتنحصر مصادر هذه المقاصد القرآنية العليا في القرآن المجيد، فهو المصدر الأوحد لها في كليته وإطلاقه وقطعيته وكونيته وإنشائه للأحكام. الرغبة العالمية في إقامة "دين" جديد واليوم نلاحظ أن هناك رغبةً عالمية لفرض "دين" جديد على أمتنا الإسلامية، من ملامحه أن يكون قرآنًا بلا سنة، ومصحفًا بلا سيف، وروحانية دون عمل، وعقيدة بلا عبادة، وسماحة دون قوة .. إنه "دين" مُسْتَسْلِمٌ لما يريده أعداء هذه الأمة؛ حيث يضربون الآن بكل قوة في ثوابت هذه العقيدة، ومعاقد هذه الشريعة، ومحكمات هذا الدين، بعد أن فشلوا في محاولاتهم المتواصلة الحثيثة في حصر الإسلام في المساجد والطقوس والشعائر، وإبعاده عن مجالات الحياة وقيادة حركتها .. ها هم اليوم ينفقون أموالهم بالمليارات ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، ولكي يفرضوا "دينًا" لم يأتِ به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عرفه الصحابةُ والتابعون لهم بإحسان، ولكنهم – ما دمنا قائمين على ديننا حارسين لحقائقه وتعاليمه - كما وعد الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٦]. وقد تجلت هذه الرغبةُ "المدروسة" في صور متعددة، منها: الضرب في ثوابت الشريعة والمعلوم من الدين بالضرورة مرةً، ومرةً أخرى بالتشكيك في السنة وأكابر رواتها ومحققيها، ومرة ثالثة بالترويج لدعاة ينسبون أنفسهم للعلم لا يعلمون من القرآن الكريم إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا وسمه؛ يلبِّسون على الناس دينهم ويقذفون بالشبهات المزيَّنة في عقولهم، ومرة رابعةً بالدعوة لتصوف ينزع من الإسلام حيويته وتربيته ودعوته وجهاده؛ ليكون إسلامًا روحانيًّا مستأنسًا لا حراك له ولا جهاد فيه. ملامح "الدين" الجديد ولا أدل على ذلك من التقرير الذي أصدرته مؤسسة "راند" RAND البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية - التي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار – والذي صدر في 26 آذار (مارس) 2007، ويقع في 217 صفحة مكونًا من عشرة فصول، بشأن التعامل مع "المسلمين"، وليس "الإسلاميين" فقط مستقبلاً!([1]). وهذا التقرير لا تنبع خطورته من جراءته في طرح أفكار جديدة للتعامل مع "المسلمين" وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل فقط تحت دعاوى "الاعتدال" بالمفهوم الأمريكي، وإنما يطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين !. ولهذا "الاعتدال الأمريكي"، محددات وشروط معينة من تنطبق عليه فهو "معتدل" - وفقًا للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف. ووفقًا لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي : 1 - يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية. 2 - يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج. 3 - يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة. 4 - يدعم التيارات الليبرالية. 5 - يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: "التيار الديني التقليدي" أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي" - يصفونه بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور!. والطريف هنا أن الدراسة تضع 11 سؤالاً لمعرفة ما هو تعريف (المعتدل) - من وجهة النظر الأمريكية - وتكون بمثابة اختبار يعطي للشخص المعرفة إذا كان معتدلاً أم لا؟. وهذه المعايير هي: 1 - أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية. 2 - أنها تعني معارضة "مبادئ دولة إسلامية". 3 - أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة. 4 - أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. 5 - هل تدعم وتوافق على العنف؟ وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟. 6 - هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟. 7 - هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟ 8 - هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟. 9 - هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟ وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟، هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟. 10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا ؟ وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية ؟. وبحسب الإجابة على هذه الأسئلة سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل ( أمريكيًّا ) أم متطرف ؟! ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، وهم : (أولاً) : العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين. (ثانيًا) : "أعداء المشايخ".. ويقصد بهم هنا من يسميهم التقرير " الأتاتوركيين " - أنصار العلمانية التركية - وبعض " التونسيين " . (ثالثًا) : الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام. ثم يقول بوضوح إن التيار المعتدل هم من : يزورون الأضرحة، والمتصوفون ومن لا يجتهدون . وينفق التقرير جزءًا كبيرًا منه (فصلان من عشرة فصول) في التركيز على ضرورة أن يتم التركيز على "أطراف" العالم الإسلامي وتجاهل "المركز" -يقصد به المنطقة العربية- بغرض دعم ما يسمونه " الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي " خصوصًا في آسيا وأوروبا وغيرها. "انتهى ما يتعلق بالتقرير". ارتباط التصوف في تاريخنا بالجهاد والاجتهاد والناظر في تاريخ تزكية النفس، أو ما عرف لاحقًا في القرن الثالث الهجري بـ "التصوف" يجد رواد الفكر، وزعماء الإصلاح، ورموز التجديد، وقادة لواء الجهاد في هذه الأمة عبر تاريخها هم من هذه الفئة التي جعلت من تزكية النفس والزهد قرينًا بل وقودًا لحركتها الدعوية والإصلاحية والتجديدية والجهادية. إننا يجب أن نعيد الأمر إلى نصابه، ونقرر بكل وضوح وجلاء: أن حركة التصوف الحقيقي في تاريخنا المجيد لم تكن لإقامة "دين" جديد، ممسوخ الشكل والمضمون، وإنما كانت مُعبرةً عن الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مقترنةً دائمًا بكبار علمائنا من المجددين والمصلحين والمجاهدين، مُعزِّزةً لبناء الإنسان الرسالي، ومحفزةً على فاعلية الإنسان والبناء الحضاري للإنسانية، وهذه هي مقاصد التزكية التي تحققها في الأمة والإنسانية بعد تحقيقها هي باعتبارها مقصدا عاليًا حاكمًا. إننا يجب أن نرفض هذا السعي المأزور الأثيم غير المشكور؛ ويقوم كل عالم غيور على هذا الثغر؛ متناولاً رؤى كليةً ونقديةً حول هذه القضية المهمة، ومحررًا إشكاليات في المصطلح والمفهوم وبعض المسائل، ومبينًا ما للتزكية من أثر في تكوين العلماء المجددين والزعماء المصلحين والقادة المجاهدين، قديمًا وحديثًا، ومُعَرِّجًا على كيفية ممارسة هذه التزكية في الواقع المعاصر بمعوقاته وتحدياته، وناظرًا بعين الإنصاف للجهود المعاصرة المبذولة في هذا السياق وبيان وجوه الإفادة منها، كما أن للغة والأدب أثرًا وتأثيراتٍ في تهذيب النفس وتزكيتها وربطها بعقيدة الإسلام وشريعته الغراء. إن العلماء يجب أن يظلوا مرابطين على ثغور الإسلام عقيدةً وأخلاقًا وشريعة حتى لا يُؤْتَى من قِبَلهم، ولكي يظل محفوظًا في العقول والصدور كما هو موجود في السطور، وتلك هي رسالة العلماء في هذه الحياة بوصفهم وارثي النبوة وحارسيها؛ ترسيخًا للثوابت، وتوضيحا للإشكالات والمفاهيم، وتجديدًا للفهم، وتحفيزًا على الحركة والدعوة والتربية والجهاد المحفوف بتزكية النفس تخليةً وتحليةً وتجليةً. ________________________________________ ([1]) أفدت ما يتعلق بتقرير مؤسسة راند من مقالة بعنوان: "لماذا تبني أمريكا شبكات مسلمة معتدلة " علمانية؟". للكاتب المعروف محمد جمال عرفة، منشور على شبكة صيد الفوائد، ومعه مقالات أخرى حول الموضوع نفسه.
التصوف بين ارتباطه بالجهاد والاجتهاد وبين فرض "دين" جديد
د. وصفي عاشور أبو زيد

[حمّل العدد 29
http://bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
http://bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
http://bit.ly/2vvtufk]

التصوف باعتباره مصطلحا لم يظهر في الصدر الأول إلا في أواخر القرن الثاني الهجري وبدايات الثالث الهجري، وقد سماه القرآن (التزكية)، والسنة (الإحسان)، والبعض أطلق عليه علم الباطن في مقابل علم الظاهر، ولا مشاحة في الاصطلاح متى اتضحت المفاهيم وانكشفت المضامين.

حقيقة التصوف
ولو أننا مررنا مروراً سريعاً على تعريفات التصوف عند العلماء في ذلك الوقت المبكر نسبياً لوجدنا أنها تدور حول الارتقاء من البشرية إلى الإنسانية، ثم من الإنسانية إلى كمال الإنسانية، ألا وهو الإحسان، وهذه التعريفات أشهر من أن توثق وهي موجودة في كل الكتب التي تناولت التصوف.

فالإمام معروف الكرخي 200 هـ مثلاً يقول: "التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في يد الخلائق"، وبشر الحافي 227 ه يقول: "الصوفي من صفا قلبه لله"، وسحنون المحب 297 ه كان يقول: "التصوف ألا تملك شيئاً ولا يملكك شيءٌ"، وأما الإمام الجنيد رحمه الله فقد كان علامة فارقة في تاريخ التصوف، فقد أصل أصوله، وقعد قواعده، ورسم طريقه منضبطاً بالكتاب والسنة، وقد عرّف التصوف قائلاً: "أن تكون مع الله بلا علاقة، ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع"، وقال: "الصوفي كالأرض؛ يرزح عليها كل قبيح، ولا يخرج منها إلا كل مليح"، وقال: "التصوف أن يختصك الله بالصفاء ..فمن صفّي من كل ما سوى الله فهو صوفي"، وهو صاحب المقولة المشهورة: "لو رأيتم الرجل يطير في السماء ويمشي على الماء فلا تعبؤوا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة".

والتزكية – كما قرر القرآن الكريم - من وظائف النبوة ومهماتها، قال تعالى: ﴿كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولࣰا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٥١].

قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: (يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة، ليس ذلك ببدع من إحساننا، ولا بأوله، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم، تعرفون نسبه وصدقه، وأمانته وكماله ونصحه). ثم قال عن كلمة (ويزكيكم): ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية). ا.هـ.

والتزكية هي ثالث ثلاثة لمقاصد عليا قررها ورفع سقفَها الفقيه المعروف د. طه جابر العلواني في كتابه: (التوحيد والتزكية والعمران)؛ حيث جعل الشريعة كله تتغيا إقامة عدد من القيم الكبرى أو المقاصد العليا الحاكمة، هي التوحيد والتزكية والعمران، وهي كليات مطلقة قطعية، فالتوحيد حق الله تعالى، والتزكية مؤهِّل الإنسان للاستخلاف والعمران، والعمران هو حق الكون المسخَّر وميدان فعل الإنسان ونشاطه، وتنحصر مصادر هذه المقاصد القرآنية العليا في القرآن المجيد، فهو المصدر الأوحد لها في كليته وإطلاقه وقطعيته وكونيته وإنشائه للأحكام.

الرغبة العالمية في إقامة "دين" جديد

واليوم نلاحظ أن هناك رغبةً عالمية لفرض "دين" جديد على أمتنا الإسلامية، من ملامحه أن يكون قرآنًا بلا سنة، ومصحفًا بلا سيف، وروحانية دون عمل، وعقيدة بلا عبادة، وسماحة دون قوة .. إنه "دين" مُسْتَسْلِمٌ لما يريده أعداء هذه الأمة؛ حيث يضربون الآن بكل قوة في ثوابت هذه العقيدة، ومعاقد هذه الشريعة، ومحكمات هذا الدين، بعد أن فشلوا في محاولاتهم المتواصلة الحثيثة في حصر الإسلام في المساجد والطقوس والشعائر، وإبعاده عن مجالات الحياة وقيادة حركتها .. ها هم اليوم ينفقون أموالهم بالمليارات ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، ولكي يفرضوا "دينًا" لم يأتِ به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عرفه الصحابةُ والتابعون لهم بإحسان، ولكنهم – ما دمنا قائمين على ديننا حارسين لحقائقه وتعاليمه - كما وعد الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٦].

وقد تجلت هذه الرغبةُ "المدروسة" في صور متعددة، منها: الضرب في ثوابت الشريعة والمعلوم من الدين بالضرورة مرةً، ومرةً أخرى بالتشكيك في السنة وأكابر رواتها ومحققيها، ومرة ثالثة بالترويج لدعاة ينسبون أنفسهم للعلم لا يعلمون من القرآن الكريم إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا وسمه؛ يلبِّسون على الناس دينهم ويقذفون بالشبهات المزيَّنة في عقولهم، ومرة رابعةً بالدعوة لتصوف ينزع من الإسلام حيويته وتربيته ودعوته وجهاده؛ ليكون إسلامًا روحانيًّا مستأنسًا لا حراك له ولا جهاد فيه.

ملامح "الدين" الجديد

ولا أدل على ذلك من التقرير الذي أصدرته مؤسسة "راند" RAND البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية - التي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار – والذي صدر في 26 آذار (مارس) 2007، ويقع في 217 صفحة مكونًا من عشرة فصول، بشأن التعامل مع "المسلمين"، وليس "الإسلاميين" فقط مستقبلاً!([1]).

وهذا التقرير لا تنبع خطورته من جراءته في طرح أفكار جديدة للتعامل مع "المسلمين" وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل فقط تحت دعاوى "الاعتدال" بالمفهوم الأمريكي، وإنما يطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين !. ولهذا "الاعتدال الأمريكي"، محددات وشروط معينة من تنطبق عليه فهو "معتدل" - وفقًا للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف.

ووفقًا لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي :
1 - يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
2 - يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج.
3 - يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.
4 - يدعم التيارات الليبرالية.
5 - يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: "التيار الديني التقليدي" أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي" - يصفونه بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور!.

والطريف هنا أن الدراسة تضع 11 سؤالاً لمعرفة ما هو تعريف (المعتدل) - من وجهة النظر الأمريكية - وتكون بمثابة اختبار يعطي للشخص المعرفة إذا كان معتدلاً أم لا؟. وهذه المعايير هي:

1 - أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية.
2 - أنها تعني معارضة "مبادئ دولة إسلامية".
3 - أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة.
4 - أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
5 - هل تدعم وتوافق على العنف؟ وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟.
6 - هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟.
7 - هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟
8 - هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟.
9 - هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟ وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟، هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟.
10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا ؟ وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية ؟.

وبحسب الإجابة على هذه الأسئلة سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل ( أمريكيًّا ) أم متطرف ؟!

ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، وهم :

(أولاً) : العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين.

(ثانيًا) : "أعداء المشايخ".. ويقصد بهم هنا من يسميهم التقرير " الأتاتوركيين " - أنصار العلمانية التركية - وبعض " التونسيين " .

(ثالثًا) : الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام.
ثم يقول بوضوح إن التيار المعتدل هم من : يزورون الأضرحة، والمتصوفون ومن لا يجتهدون .

وينفق التقرير جزءًا كبيرًا منه (فصلان من عشرة فصول) في التركيز على ضرورة أن يتم التركيز على "أطراف" العالم الإسلامي وتجاهل "المركز" -يقصد به المنطقة العربية- بغرض دعم ما يسمونه " الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي " خصوصًا في آسيا وأوروبا وغيرها. "انتهى ما يتعلق بالتقرير".


ارتباط التصوف في تاريخنا بالجهاد والاجتهاد

والناظر في تاريخ تزكية النفس، أو ما عرف لاحقًا في القرن الثالث الهجري بـ "التصوف" يجد رواد الفكر، وزعماء الإصلاح، ورموز التجديد، وقادة لواء الجهاد في هذه الأمة عبر تاريخها هم من هذه الفئة التي جعلت من تزكية النفس والزهد قرينًا بل وقودًا لحركتها الدعوية والإصلاحية والتجديدية والجهادية.

إننا يجب أن نعيد الأمر إلى نصابه، ونقرر بكل وضوح وجلاء: أن حركة التصوف الحقيقي في تاريخنا المجيد لم تكن لإقامة "دين" جديد، ممسوخ الشكل والمضمون، وإنما كانت مُعبرةً عن الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مقترنةً دائمًا بكبار علمائنا من المجددين والمصلحين والمجاهدين، مُعزِّزةً لبناء الإنسان الرسالي، ومحفزةً على فاعلية الإنسان والبناء الحضاري للإنسانية، وهذه هي مقاصد التزكية التي تحققها في الأمة والإنسانية بعد تحقيقها هي باعتبارها مقصدا عاليًا حاكمًا.

إننا يجب أن نرفض هذا السعي المأزور الأثيم غير المشكور؛ ويقوم كل عالم غيور على هذا الثغر؛ متناولاً رؤى كليةً ونقديةً حول هذه القضية المهمة، ومحررًا إشكاليات في المصطلح والمفهوم وبعض المسائل، ومبينًا ما للتزكية من أثر في تكوين العلماء المجددين والزعماء المصلحين والقادة المجاهدين، قديمًا وحديثًا، ومُعَرِّجًا على كيفية ممارسة هذه التزكية في الواقع المعاصر بمعوقاته وتحدياته، وناظرًا بعين الإنصاف للجهود المعاصرة المبذولة في هذا السياق وبيان وجوه الإفادة منها، كما أن للغة والأدب أثرًا وتأثيراتٍ في تهذيب النفس وتزكيتها وربطها بعقيدة الإسلام وشريعته الغراء.

إن العلماء يجب أن يظلوا مرابطين على ثغور الإسلام عقيدةً وأخلاقًا وشريعة حتى لا يُؤْتَى من قِبَلهم، ولكي يظل محفوظًا في العقول والصدور كما هو موجود في السطور، وتلك هي رسالة العلماء في هذه الحياة بوصفهم وارثي النبوة وحارسيها؛ ترسيخًا للثوابت، وتوضيحا للإشكالات والمفاهيم، وتجديدًا للفهم، وتحفيزًا على الحركة والدعوة والتربية والجهاد المحفوف بتزكية النفس تخليةً وتحليةً وتجليةً.


________________________________________
([1]) أفدت ما يتعلق بتقرير مؤسسة راند من مقالة بعنوان: "لماذا تبني أمريكا شبكات مسلمة معتدلة " علمانية؟". للكاتب المعروف محمد جمال عرفة، منشور على شبكة صيد الفوائد، ومعه مقالات أخرى حول الموضوع نفسه.
‏٢٢‏/١٢‏/٢٠١٩ ٨:٠٧ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (21) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية • لأول مرة شعر الطلاب بأن أموالهم رُدَّت إليهم لما فاز الإسلاميون باتحاد الطلاب • كنا حريصين على مكافحة التحرش والاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة! • لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، لكنهم كانوا يتحاشون الصدام مع النظام سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي [حمّل العدد 29 bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk كانت فرصة اتحاد الطلاب عظيمة، أعطت التيار الإسلامي قفزة كبرى لم تكن متوقعة، في تلك الفترة كانت ميزانية الاتحاد الطلابي قوية، وكانت هذه الميزانية تُنفَق من قبل على الفساد والإفساد، وتغير الحال لما جاء التيار الإسلامي فأنفقها في مصالح الطلاب: مساعدات للفقراء، أزياء إسلامية للأخوات اللاتي يرتدين الحجاب، إعانات للطلاب في دفع إيجار مساكنهم أو في شراء الكتب لهم، وسائر ما يقع في هذه المنافع التي شعر بها الطلاب بالفائدة الكبرى العائدة عليهم بوجود الإسلاميين في اتحاد الطلاب، لأول مرة ربما يرى الطلاب أن أموالهم التي تأخذها منهم الدولة قد رُدَّت إليهم، وقد كان هذا نفسه من دواعي ودوافع تحول الكثير منهم إلى الالتزام دينيا. وتحولت هذه القوة الطلابية إلى قوة سياسية حين تبنى اتحاد الطلاب معارضة سياسة السادات في الذهاب لمفاوضات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام، ومثَّلت الحركة الطلابية ضغطا قويا حتى ارتكب السادات جريمته الجديدة بحل اتحادات الطلاب على مستوى الجامعات المصرية! لكن قبل أن نتحدث عن حل الاتحادات الطلابية سيكون حسنا لو ألقينا نظرة على الشكل الداخلي لتنوعات التيار الإسلامي، والتي لم تكن ظاهرة ولا منظورة لمن كان خارج هذه البيئة الإسلامية. لقد كانت الصورة من الخارج يمثلها تيار إسلامي عريض منتشر في سائر الجامعات، لكن لم يكن هذا هو الواقع إذا نظرنا إلى الصورة من الداخل. لقد أسلفت أن الصحوة الشبابية الإسلامية في الجامعات سبقت وجود جماعة الإخوان التي كانت في السجون الناصرية ولم تزل قياداتها مسجونة حتى أن البعض منهم لم يفرج عنه إلا عام 1974م، وحين خرجت هذه القيادات سعت في احتواء القيادات الشبابية التي كانت قد تزعمت حالة الصحوة الإسلامية في الجامعات، وقد نجحت بالفعل في اجتذاب قيادات جامعة القاهرة، بينما تفاوت نجاحها في بقية الجامعات! لكن كان لها وجودٌ وحضور قوي في سائر الجامعات! أما بقية الحالة الشبابية التي لم تنجح جماعة الإخوان في احتوائهم، فقد كان حضورهم ظاهرا في الجامعات لكن لا حضور لهم خارجها، لأنه لا امتداد لهم في الخارج، إذ لا جماعة غير الإخوان في هذا الوقت، على الأقل ليس ثمة جماعة كبرى أخرى غيرها. وانتهت الحالة إلى أن تحتوي الإخوان الحالة الإسلامية في جامعة القاهرة بالأساس، ثم في جامعة الأزهر وجامعة عين شمس، بينما كنا نحن أصحاب الحضور الأقوى في جامعات الصعيد (المنيا وأسيوط)، وكلمة "نحن" هنا تعود على "الجماعة الإسلامية" التي احتفظت بهذا الاسم كما بدأت به، ثم صارت فيما بعد حالة تنظيمية يقودها الشيخ عمر عبد الرحمن والتي نفذت فيما بعد أحداث 1981 واغتيال السادات. وأما جامعة الإسكندرية فقد غلب عليها الاتجاه السلفي الذي صار فيما بعد جماعة "الدعوة السلفية" ذات الرموز المعروفة: محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي وأبو إدريس وغيرهم. وإذا قلنا بأن جماعة الإخوان أخفقت في احتواء الشباب الإسلامي في الصعيد وفي الإسكندرية فليس معنى هذا أنهم توقفوا عن المحاولة، ولا معناه أيضا أنه لم يكن لهم حضور في هذه الأنحاء، بل لقد سبق وذكرت أن ما حصل عندنا في أسيوط سبَّب انشقاقا وبقي شباب الإخوان خطا مستمرا تحت قيادة الأخ الدكتور أسامة السيد، كما بقي شباب الإخوان في جامعة الإسكندرية تحت قيادة خالد الزعفراني وإبراهيم الزعفراني. وبالرغم من وحدة الصورة للتيار الإسلامي كما تبدو لمن يراها بالخارج، فإن الصورة من الداخل ذهبت في سياق التنافس والتنازع، لا التنسيق ولا الوحدة، وكان الخلاف بين هذه الأطياف الرئيسية الثلاث خلافا شديدا، كان الإخوان يرون أنهم الجماعة الأكبر ويجب أن يكونوا أصحاب اليد العليا في سائر الجامعات، وأولئك الذين لم تسعهم عباءة الإخوان كانوا يقاومون هذا بشراسة، وكانوا شبابا لم ينضجوا بعد ولم يطرأ على بالهم اقتراح: تعالوا نجلس مع الإخوان المسلمين وننسق معهم. وقد زاد في الخلاف بين الطرفين اختيارات الإخوان السياسية في تلك المرحلة، فلم يكن الإخوان قادرين على أن يدخلوا إلى احتواء الشباب من باب: تعالوا معنا، وستجدون عندنا ما ترجونه من دعوة وجهاد وحسبة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. لا، لا يستطيعون احتواء الشباب من هذا المدخل الذي هو ساعتها يمثل أصلا أصيلا في اتجاههم وحركتهم. لقد كان الشباب وقتها عالي السقف عظيم الطموح مستعدا للفداء والتضحية ولا تردد عنده لو قاده أحد حتى لمواجهة الدولة، كانوا يسيرون عمليا نحو الصدام مع النظام.. نظام السادات. وكان الإخوان يتحاشون هذا أشد المحاشاة ويتجنبونه غاية التجنب، ومن ثم كانوا يبذلون غاية جهدهم في كفكفة الشباب الإسلامي عن قضايا إسلامية كثيرة كانوا يرون وجوب خوضها. من ذلك مثلا: مواجهة الانحلال الأخلاقي! وهذه تفردنا بها –نحن الجماعة الإسلامية- داخل جامعة أسيوط، فلقد كنا حريصين على صبغ الجامعة بالهَدْيِ الظاهر، نريد للشباب أن يلتحي، وللفتيات أن تتحجَّب، نرفض حصول الاختلاط بين الشباب والفتيات، ولا نعني بالاختلاط مجرد الكلام الذي يقع بين طالب وزميلته أو مجرد ما قد يجمعهما من أمور الدراسة فقد كان موجودا ولم نكن نستنكره، بل أعني بالاختلاط ما يكون من الاختلاط الفاحش كالذي يحدث في الحفلات من الرقص، وقد كان هذا موجودا في الجامعات آنذاك، أو ما يحدث من المزاحمة بينهما عند الدخول إلى المحاضرات والخروج منها، وكان يقع في أثناء ذلك تحرش وإسفاف كبير. كان الإخوان يرون أن نغض الطرف عن هذه الأمور كي لا تكون إثارتها سببا في الاشتباك مع أمن الجامعة أو إدارتها، وأن نصبر ولا نتعجل إصلاح هذه الأمور. وكان لنا على الإخوان مطعن آخر، لقد كنا نرى أن الإخوان حركة لا تهتم بالعقيدة، ولا تعتني بالأساس العقدي للمنتسبين إليها، ويوجد في الإخوان من هو صوفي، وكان رأينا أن النزعة الصوفية تحتاج إلى الكثير من التخفف ومن التخلص من البدع والأهواء التي شابتها، لتعود إلى نقاء أهل السنة والجماعة. بينما كان الإخوان ينظرون إليها نظرة أخرى، فإذا ناقشناهم قالوا: نحن مدرسة للتربية، يدخل إليها الجميع، فيدخل إلينا الصوفي فيعيش بيننا ثم بعد فترة يقلع عن هذه البدع التي تعترضون عليها. وكنا نقول: أنتم لا تمارسون حتى التوجيه إلى نقد هذه البدع.. وهكذا! في الواقع لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، أقصد كحركة في الجامعة، كانت حقيقة الخلاف في طريقة الأداء والسلوك، لم يكن اختلافا جوهريا، لم يكن اختلافا عقديا، إلا أنه كان اختلافا مصبوغا بفارق الأجيال، الفارق الذي يجعل الاتصال عسيرا بين حماسة الشباب وطاقتهم، وبين تعقل الشيوخ وتريثهم! لقد كان يأتي لزيارتنا إخوة كبار مشاهير، مثل الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله رحمة واسعة، أو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أو السيدة زينب الغزالي رحمها الله، فكانوا رغم مكانتهم وقدرهم لا يراعون سن الشباب في لهجة خطابهم، يقول لنا الأستاذ التلمساني: أنتم تستعجلون الجهاد وكذا وكذا، وفي الواقع لم نكن نستعجل الجهاد بل ولا كنا نفكر فيه ساعتها، ولا كانت فكرة الجهاد نفسها موجودة ومطروقة، وغاية ما نفكر فيه كانت هذه المظاهرات الصاخبة المعارضة للسادات في كامب ديفيد أو في استقباله لشاه إيران، يعني مسائل بسيطة لا تستوجب هذه الحملة الشديدة التي يتصدى لها الأستاذ التلمساني نفسه، يرحمه الله! وعن نفسي، كنت أقول: يمكن للإخوان أن يستوعبونا، ويمكن أن نكون من رجالهم، فقط لو أنهم قدَّروا سن الشباب واجتهدوا في احتوائه، بدل أن ينظروا إلى تصرفاتهم بعين النقد وبدل أن يعالجوها بما يُنَفِّر منهم! لهذا أقول، لقد كان الخلاف بيننا وبين الإخوان في الأساس خلافا في الأداء والسلوك، لا في الرؤية، بل من الإنصاف أن أقول: لم يكن لدينا في هذه المرحلة رؤية أصلا! لم يكن لدينا رؤية لأننا بالأساس لم نلتقِ أولا على رؤية، كانت لا تزال فكرة الانقلاب العسكري في ذهني، نعم، لكن كل ذهن كان يحمل فكرته الخاصة، وإذا كنا تعارفنا أجسادا وأرواحا فلم نتعارف بعدُ رؤىً وأفكارا، بل وقد كان فينا من لم تكن لديه فكرة مطلقا، إنما هو ينظر إلى الجماعة كمحضن أو كبيئة ينفق فيها طاقته وبذله لخدمة الدين. إنما كانت لقاءاتنا لقاءات الشباب المتدين الملتزم، وفيما بعد نشأت بينهم الألفة والمودة، ثم فيما بعد جاء دور التعرف على الأفكار وتمحيصها! لهذا أقول، لو كان الإخوان المسلمون استهدفونا بشكل منظم، وخاطبوا كل واحد فينا بما يناسبه، لكان محتملا جدا أن يؤثروا علينا، ربما ليس الجميع، لكن الأغلب، ولو أنهم نجحوا لصاروا القوة الأولى في جامعة أسيوط لا القوة الثانية. ولكن يجب أن أثبت هنا للتاريخ أنهم كانوا القوة الثانية رغم كل شيء. وحين أسترجع الأيام في ذهني، أقول وبأمانة، ربما يكون الخلاف أقل حتى من أن يكون خلافا في السلوك والأداء، لقد كنت أشهد شباب الإخوان وفيهم من يقيم الليل ويغض البصر، وسائر هذه الأمور التي هي سمت الشباب المسلم المتدين. وبالعموم يمكن القول بأن فترة السبعينات بقدر ما شهدت ازدهار الصحوة الإسلامية، بقدر ما شهدت بذور الخلافات الأساسية بين التيارات الإسلامية المصرية، وهي الخلافات التي ستستمر نصف قرن آخر فيما بعد!
مذكرات الشيخ رفاعي طه (21)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

نظرة من الداخل على التيار الإسلامي في الجامعات المصرية

• لأول مرة شعر الطلاب بأن أموالهم رُدَّت إليهم لما فاز الإسلاميون باتحاد الطلاب
• كنا حريصين على مكافحة التحرش والاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة!
• لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، لكنهم كانوا يتحاشون الصدام مع النظام

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

[حمّل العدد 29
bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

كانت فرصة اتحاد الطلاب عظيمة، أعطت التيار الإسلامي قفزة كبرى لم تكن متوقعة، في تلك الفترة كانت ميزانية الاتحاد الطلابي قوية، وكانت هذه الميزانية تُنفَق من قبل على الفساد والإفساد، وتغير الحال لما جاء التيار الإسلامي فأنفقها في مصالح الطلاب: مساعدات للفقراء، أزياء إسلامية للأخوات اللاتي يرتدين الحجاب، إعانات للطلاب في دفع إيجار مساكنهم أو في شراء الكتب لهم، وسائر ما يقع في هذه المنافع التي شعر بها الطلاب بالفائدة الكبرى العائدة عليهم بوجود الإسلاميين في اتحاد الطلاب، لأول مرة ربما يرى الطلاب أن أموالهم التي تأخذها منهم الدولة قد رُدَّت إليهم، وقد كان هذا نفسه من دواعي ودوافع تحول الكثير منهم إلى الالتزام دينيا.

وتحولت هذه القوة الطلابية إلى قوة سياسية حين تبنى اتحاد الطلاب معارضة سياسة السادات في الذهاب لمفاوضات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة السلام، ومثَّلت الحركة الطلابية ضغطا قويا حتى ارتكب السادات جريمته الجديدة بحل اتحادات الطلاب على مستوى الجامعات المصرية!

لكن قبل أن نتحدث عن حل الاتحادات الطلابية سيكون حسنا لو ألقينا نظرة على الشكل الداخلي لتنوعات التيار الإسلامي، والتي لم تكن ظاهرة ولا منظورة لمن كان خارج هذه البيئة الإسلامية. لقد كانت الصورة من الخارج يمثلها تيار إسلامي عريض منتشر في سائر الجامعات، لكن لم يكن هذا هو الواقع إذا نظرنا إلى الصورة من الداخل.

لقد أسلفت أن الصحوة الشبابية الإسلامية في الجامعات سبقت وجود جماعة الإخوان التي كانت في السجون الناصرية ولم تزل قياداتها مسجونة حتى أن البعض منهم لم يفرج عنه إلا عام 1974م، وحين خرجت هذه القيادات سعت في احتواء القيادات الشبابية التي كانت قد تزعمت حالة الصحوة الإسلامية في الجامعات، وقد نجحت بالفعل في اجتذاب قيادات جامعة القاهرة، بينما تفاوت نجاحها في بقية الجامعات! لكن كان لها وجودٌ وحضور قوي في سائر الجامعات!

أما بقية الحالة الشبابية التي لم تنجح جماعة الإخوان في احتوائهم، فقد كان حضورهم ظاهرا في الجامعات لكن لا حضور لهم خارجها، لأنه لا امتداد لهم في الخارج، إذ لا جماعة غير الإخوان في هذا الوقت، على الأقل ليس ثمة جماعة كبرى أخرى غيرها.

وانتهت الحالة إلى أن تحتوي الإخوان الحالة الإسلامية في جامعة القاهرة بالأساس، ثم في جامعة الأزهر وجامعة عين شمس، بينما كنا نحن أصحاب الحضور الأقوى في جامعات الصعيد (المنيا وأسيوط)، وكلمة "نحن" هنا تعود على "الجماعة الإسلامية" التي احتفظت بهذا الاسم كما بدأت به، ثم صارت فيما بعد حالة تنظيمية يقودها الشيخ عمر عبد الرحمن والتي نفذت فيما بعد أحداث 1981 واغتيال السادات. وأما جامعة الإسكندرية فقد غلب عليها الاتجاه السلفي الذي صار فيما بعد جماعة "الدعوة السلفية" ذات الرموز المعروفة: محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي وأبو إدريس وغيرهم.

وإذا قلنا بأن جماعة الإخوان أخفقت في احتواء الشباب الإسلامي في الصعيد وفي الإسكندرية فليس معنى هذا أنهم توقفوا عن المحاولة، ولا معناه أيضا أنه لم يكن لهم حضور في هذه الأنحاء، بل لقد سبق وذكرت أن ما حصل عندنا في أسيوط سبَّب انشقاقا وبقي شباب الإخوان خطا مستمرا تحت قيادة الأخ الدكتور أسامة السيد، كما بقي شباب الإخوان في جامعة الإسكندرية تحت قيادة خالد الزعفراني وإبراهيم الزعفراني.

وبالرغم من وحدة الصورة للتيار الإسلامي كما تبدو لمن يراها بالخارج، فإن الصورة من الداخل ذهبت في سياق التنافس والتنازع، لا التنسيق ولا الوحدة، وكان الخلاف بين هذه الأطياف الرئيسية الثلاث خلافا شديدا، كان الإخوان يرون أنهم الجماعة الأكبر ويجب أن يكونوا أصحاب اليد العليا في سائر الجامعات، وأولئك الذين لم تسعهم عباءة الإخوان كانوا يقاومون هذا بشراسة، وكانوا شبابا لم ينضجوا بعد ولم يطرأ على بالهم اقتراح: تعالوا نجلس مع الإخوان المسلمين وننسق معهم.

وقد زاد في الخلاف بين الطرفين اختيارات الإخوان السياسية في تلك المرحلة، فلم يكن الإخوان قادرين على أن يدخلوا إلى احتواء الشباب من باب: تعالوا معنا، وستجدون عندنا ما ترجونه من دعوة وجهاد وحسبة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. لا، لا يستطيعون احتواء الشباب من هذا المدخل الذي هو ساعتها يمثل أصلا أصيلا في اتجاههم وحركتهم.

لقد كان الشباب وقتها عالي السقف عظيم الطموح مستعدا للفداء والتضحية ولا تردد عنده لو قاده أحد حتى لمواجهة الدولة، كانوا يسيرون عمليا نحو الصدام مع النظام.. نظام السادات. وكان الإخوان يتحاشون هذا أشد المحاشاة ويتجنبونه غاية التجنب، ومن ثم كانوا يبذلون غاية جهدهم في كفكفة الشباب الإسلامي عن قضايا إسلامية كثيرة كانوا يرون وجوب خوضها.

من ذلك مثلا: مواجهة الانحلال الأخلاقي! وهذه تفردنا بها –نحن الجماعة الإسلامية- داخل جامعة أسيوط، فلقد كنا حريصين على صبغ الجامعة بالهَدْيِ الظاهر، نريد للشباب أن يلتحي، وللفتيات أن تتحجَّب، نرفض حصول الاختلاط بين الشباب والفتيات، ولا نعني بالاختلاط مجرد الكلام الذي يقع بين طالب وزميلته أو مجرد ما قد يجمعهما من أمور الدراسة فقد كان موجودا ولم نكن نستنكره، بل أعني بالاختلاط ما يكون من الاختلاط الفاحش كالذي يحدث في الحفلات من الرقص، وقد كان هذا موجودا في الجامعات آنذاك، أو ما يحدث من المزاحمة بينهما عند الدخول إلى المحاضرات والخروج منها، وكان يقع في أثناء ذلك تحرش وإسفاف كبير. كان الإخوان يرون أن نغض الطرف عن هذه الأمور كي لا تكون إثارتها سببا في الاشتباك مع أمن الجامعة أو إدارتها، وأن نصبر ولا نتعجل إصلاح هذه الأمور.

وكان لنا على الإخوان مطعن آخر، لقد كنا نرى أن الإخوان حركة لا تهتم بالعقيدة، ولا تعتني بالأساس العقدي للمنتسبين إليها، ويوجد في الإخوان من هو صوفي، وكان رأينا أن النزعة الصوفية تحتاج إلى الكثير من التخفف ومن التخلص من البدع والأهواء التي شابتها، لتعود إلى نقاء أهل السنة والجماعة. بينما كان الإخوان ينظرون إليها نظرة أخرى، فإذا ناقشناهم قالوا: نحن مدرسة للتربية، يدخل إليها الجميع، فيدخل إلينا الصوفي فيعيش بيننا ثم بعد فترة يقلع عن هذه البدع التي تعترضون عليها. وكنا نقول: أنتم لا تمارسون حتى التوجيه إلى نقد هذه البدع.. وهكذا!

في الواقع لم يكن الخلاف بيننا وبين الإخوان حقيقيا، أقصد كحركة في الجامعة، كانت حقيقة الخلاف في طريقة الأداء والسلوك، لم يكن اختلافا جوهريا، لم يكن اختلافا عقديا، إلا أنه كان اختلافا مصبوغا بفارق الأجيال، الفارق الذي يجعل الاتصال عسيرا بين حماسة الشباب وطاقتهم، وبين تعقل الشيوخ وتريثهم!

لقد كان يأتي لزيارتنا إخوة كبار مشاهير، مثل الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله رحمة واسعة، أو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أو السيدة زينب الغزالي رحمها الله، فكانوا رغم مكانتهم وقدرهم لا يراعون سن الشباب في لهجة خطابهم، يقول لنا الأستاذ التلمساني: أنتم تستعجلون الجهاد وكذا وكذا، وفي الواقع لم نكن نستعجل الجهاد بل ولا كنا نفكر فيه ساعتها، ولا كانت فكرة الجهاد نفسها موجودة ومطروقة، وغاية ما نفكر فيه كانت هذه المظاهرات الصاخبة المعارضة للسادات في كامب ديفيد أو في استقباله لشاه إيران، يعني مسائل بسيطة لا تستوجب هذه الحملة الشديدة التي يتصدى لها الأستاذ التلمساني نفسه، يرحمه الله!

وعن نفسي، كنت أقول: يمكن للإخوان أن يستوعبونا، ويمكن أن نكون من رجالهم، فقط لو أنهم قدَّروا سن الشباب واجتهدوا في احتوائه، بدل أن ينظروا إلى تصرفاتهم بعين النقد وبدل أن يعالجوها بما يُنَفِّر منهم!

لهذا أقول، لقد كان الخلاف بيننا وبين الإخوان في الأساس خلافا في الأداء والسلوك، لا في الرؤية، بل من الإنصاف أن أقول: لم يكن لدينا في هذه المرحلة رؤية أصلا!

لم يكن لدينا رؤية لأننا بالأساس لم نلتقِ أولا على رؤية، كانت لا تزال فكرة الانقلاب العسكري في ذهني، نعم، لكن كل ذهن كان يحمل فكرته الخاصة، وإذا كنا تعارفنا أجسادا وأرواحا فلم نتعارف بعدُ رؤىً وأفكارا، بل وقد كان فينا من لم تكن لديه فكرة مطلقا، إنما هو ينظر إلى الجماعة كمحضن أو كبيئة ينفق فيها طاقته وبذله لخدمة الدين. إنما كانت لقاءاتنا لقاءات الشباب المتدين الملتزم، وفيما بعد نشأت بينهم الألفة والمودة، ثم فيما بعد جاء دور التعرف على الأفكار وتمحيصها!

لهذا أقول، لو كان الإخوان المسلمون استهدفونا بشكل منظم، وخاطبوا كل واحد فينا بما يناسبه، لكان محتملا جدا أن يؤثروا علينا، ربما ليس الجميع، لكن الأغلب، ولو أنهم نجحوا لصاروا القوة الأولى في جامعة أسيوط لا القوة الثانية. ولكن يجب أن أثبت هنا للتاريخ أنهم كانوا القوة الثانية رغم كل شيء.

وحين أسترجع الأيام في ذهني، أقول وبأمانة، ربما يكون الخلاف أقل حتى من أن يكون خلافا في السلوك والأداء، لقد كنت أشهد شباب الإخوان وفيهم من يقيم الليل ويغض البصر، وسائر هذه الأمور التي هي سمت الشباب المسلم المتدين.

وبالعموم يمكن القول بأن فترة السبعينات بقدر ما شهدت ازدهار الصحوة الإسلامية، بقدر ما شهدت بذور الخلافات الأساسية بين التيارات الإسلامية المصرية، وهي الخلافات التي ستستمر نصف قرن آخر فيما بعد!
‏٢٠‏/١٢‏/٢٠١٩ ٨:١٥ م‏
حماس والجهاد الإسلامي إدارة الخلافات.. سر تجاوز الأزمات أحمد قنيطة [حمّل العدد الجديد http://bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد http://bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة http://bit.ly/2vvtufk] شهدت العلاقة بين حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين خلال العقود الماضية فتراتٍ من المد والجزر، بناءً على تباين الرؤى واختلاف الاجتهادات في عدد من الملفات الداخلية والخارجية، فقد شهدت العلاقة بين الحركتين حالة من الجمود والتراجع بعد أحداث "الحسم العسكري لغزة" عام 2006م، بعد ما سيطرت حركة حماس على القطاع، وطردت عصابات التخابر مع العدو وفرق الموت التابعة لفتح والأجهزة الأمنية البائدة التي حاولت تنفيذ انقلاب عسكري على حركة حماس بغزة، بعدما رفضت حركة "فتح" الاعتراف بنتائج الانتخابات التشريعية وتسليم السلطة لحماس. حينها اتخذت حركة الجهاد الإسلامي موقفاً حيادياً، رافضةً دعم وتأييد موقف حركة حماس في غزة، بدعوى الوقوف على مسافة واحدة بين طرفي النزاع، برغم ما تتعرض له قيادة حركة الجهاد وكوادرها - شأنها شأن حماس - من ملاحقة وتضييق وإذلال من قبل أجهزة "فتح" الأمنية في الضفة المحتلة. وعلى النقيض تماماً؛ فقد وصل التنسيق بين الحركتين خلال السنوات القليلة الماضية إلى مستوًى كبير وغير مسبوق من التعاون والتفاهم والانسجام في كثير من القضايا، خاصةً بعد وصول القضية الفلسطينية إلى مأزقٍ خطير إثر فشل ما يُسمى بالحلول السلمية المجحفة، وإعلان الإدارة الأمريكية ما يُسمى بـ "صفقة القرن"، وتنّصل الاحتلال من كافة التزاماته في اتفاق أوسلو المشؤوم، في ظل استمرار العدو بسياسة ابتلاع الأراضي الفلسطينية في الضفة المحتلة، وتشديد الحصار على قطاع غزة. وقد بلغت ذروة هذا التنسيق والتعاون بين "حماس والجهاد" بعد انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار قبل عامين، والتي شجّعت فصائل المقاومة على تدشين جبهة سياسية موحدة مع قوى اليسار الفلسطيني لرفض العقوبات التي يفرضها رئيس السلطة "محمود عباس" على غزة، والاعتراض على استفراده بالقرار الفلسطيني، ومواجهةً صفقة القرن والسياسات الانهزامية التي ينتهجها "عباس" الذي ما زال يلهث خلف وهم المفاوضات والحلول السلمية. فما الذي دفع بالحركتين لتجاوز الخلافات والبحث عن أرضية مشتركة للالتقاء والتفاهم وتنسيق المواقف في ظل وجود نزعات التنافس وخصومة الأقران وأحلام القيادة والتصدر للمشروع الفلسطيني؟؟! إن من أهم الحقائق التي يجب أن نعلمها بدايةً؛ هي أن ما يَجمَع قوى الثورة والجهاد في بلادنا أكثر بكثير مما يفرقها، لكنها لن تصل إلى ذلك "الاجتماع" إلا إن أسقطت عن عيونها غشاوة المصلحية الضيقة، والتنافسية المذمومة على حساب القضايا الكبرى، إذ إن بعض الخلافات التي تطرأ على العمل العسكري أو السياسي هي خلافات طبيعية ناتجة عن الاختلاف في طرق التفكير ومعالجة القضايا وتقييم الأحداث، فالصحابة رضوان الله عليهم - وهم خير القرون - اختلفوا في العديد من القضايا الفقهية، والتكتيكات العسكرية، والنوازل السياسية. بناءً على ما سبق يجب أن ندرك جيداً واقع الاختلاف وحقيقته، وأنه سنة الله في عباده الذين خلقهم مختلفين في أشكالهم وألوانهم وعقولهم وطرق تفكيرهم ومستويات فهمهم "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ"، وأن الخلاف الذي ينتج عن الاختلاف في وجهات النظر وقراءة الأحداث، إنْ أحسنّا إدارته جيداً وتعاملنا معه بحكمةٍ ورويّةٍ، مع تقديم المصلحة العامة للقضية على المصلحة الخاصة الحزبية؛ فلا شك أننا سنجني منه نتائج مبهرة وأفكاراً عظيمة، وسيفتح أمامنا آفاقاً رحبة ننطلق من خلالها لتحقيق أهدافنا في التحرر والاستقلال، وطرد الغزاة المحتلين بأقصر الطرق وأقل التكاليف، فانتهاج منهج الحوار البنّاء والنقاش المثمر لتجاوز الخلافات وتذليل العقبات هو السبيل الوحيد للخروج برأيٍ جماعي تسير عليه الأمة، أما التنافر والتناحر فهو وصفة سحرية للفشل والهزيمة ستجني الشعوب آثاره الكارثية ذلاً وهواناً وقتلاً وتشريدا. رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها من هنا أدركت حركتا حماس والجهاد الإسلامي خطورة الفشل في إدارة الخلافات البينية، وما سينتج عنه من آثار كارثية توشك أن تقضي على بؤرة النور الوحيدة في فلسطين وخط الدفاع الأخير عن القضية الفلسطينية ألا وهي "غزة"، وفي ظل استمرار الأزمة الداخلية الفلسطينية المتمثلة بالانقسام بين "غزة والضفة"، ومع تضييق الخناق على رقاب الغزيين بمشنقة الحصار، وبعد انتهاج حركة فتح ورئيسها "عباس" لسياسة الحرب الاقتصادية القذرة على غزة، تداعت الحركتان بالإضافة لفصائل اليسار الفلسطيني بعد أن رموا خلف ظهورهم الخلافات الفكرية والخصومات الحزبية والمصالح الفصائلية، لمواجهة هذه الكارثة مجتمعين بتشكيل موقف سياسي وعسكري وجماهيري موحّد لمواجهة للعدوان الصهيوني من جهة، والتصدي لإجراءات (فتح – عباس) المتمثلة بقطع الرواتب عن عشرات الآلاف من الموظفين وعائلات الشهداء والجرحى، والأسرى المحررين وغيرها من العقوبات من جهةٍ أخرى. نجحت الحركتان وفصائل اليسار بالفعل بتشكيل جبهة سياسية عسكرية موحدة لقيادة مشروع المقاومة والتحرر والخروج به من أعمق وأقسى أزمة مرّت في تاريخ الجهاد والمقاومة الفلسطينية، حين وضع عباس الشعب الغزيّ المحاصر مرغماً في مواجهة أبنائه المجاهدين في فصائل المقاومة؛ تحت ضغط الحاجة للرواتب والدواء والغذاء والحاجات الأساسية الماسة، فكان التوجيه النفسي والمعنوي من عباس للشعب الفلسطيني: إما أن تثوروا على المجاهدين وتُسقطوا مشروع المقاومة وتدوسوا على تضحياتكم كي تحصلوا على راتبكم ودوائكم وقوت عيالكم وحليب أطفالكم، وإما أن تنتظروا مزيداً من الإجراءات العقابية التي ستطال الجوانب الأكثر حيوية إن واصلتم دعم المقاومة واحتضان المجاهدين، ما سيجعل غزة جحيماً لا يُطاق، وبقعةً لا تصلح للحياة الآدمية. وقد كانت مسيرات العودة وكسر الحصار التي انطلقت بقرار وطني جامع، هي السبيل الوحيد لتوجيه الغضب الشعبي العارم الذي كان مخططاً له أن ينفجر في وجه فصائل المقاومة، إلى الانفجار في وجه الاحتلال الذي هو السبب الأساسي في حالة الحصار التي تعيشه غزة، إذ ترتب على تلك المسيرات الشعبية نتائج مبهرة شكّلت رافعة للقضية الفلسطينية، أهمها تشكيل جبهة سياسية موحدة لمواجهة صفقة القرن ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وتشكيل غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة للتشاور وتنسيق المواقف بين القوى العسكرية المختلفة. وعلى الرغم من وجود بعض الخلافات التي ما زالت تطفو على السطح بين الفينة والأخرى بين حركتي "حماس والجهاد" كما رأينا في الخلاف الذي وقع على جولة التصعيد الأخيرة على غزة، والتي حاول الاحتلال استغلالها لزرع بذور الشقاق والفتنة بين الحركتين؛ إلا أن الحركتين سرعان ما تجاوزتا هذا الخلاف واستطاعتا تطويقه من خلال التفاهم والتنسيق والحوار الجاد، وهذا ما دعا الجنرال الصهيوني يستحاق بريك للقول إنه: "من الصعب التصديق أن "إسرائيل" قادرة على تطبيق سياسة "فرق تسد" في غزة، والتفريق بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي". إن الإدارة السليمة للخلافات بين القوى والفصائل المجاهدة من خلال تفعيل منهج الشورى وإعلاء قيمة الحوار، واليقين أن التعاون أفضل من التنافس، وأن الآراء المختلفة مع وجود عامل الثقة ستؤدي إلى التبصّر والإبداع، ما من شأنه أن يحقق لكل طرفٍ أهدافه ومصالحه من خلال التعاون والتفاهم مع الطرف الآخر، وهذا ما يسمونه في علم الإدارة والعلاقات الدولية بسياسة "الأطراف الرابحة"، وهذا هو الضامن الوحيد لاستمرارية مشاريعنا الجهادية وثوراتنا التحررية، لتفويت الفرصة على الأعداء الذين لا يألون جهداً في إثارة الفتن والقلاقل بين شركاء الثورة والجهاد، لصرفهم عن معركتهم الكبرى بقتال عدوهم المحتل، إلى الانشغال بمعارك داخلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس وتقضي على أحلام الشعوب في الحرية والاستقلال.
حماس والجهاد الإسلامي
إدارة الخلافات.. سر تجاوز الأزمات

أحمد قنيطة

[حمّل العدد الجديد
http://bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
http://bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
http://bit.ly/2vvtufk]

شهدت العلاقة بين حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين خلال العقود الماضية فتراتٍ من المد والجزر، بناءً على تباين الرؤى واختلاف الاجتهادات في عدد من الملفات الداخلية والخارجية، فقد شهدت العلاقة بين الحركتين حالة من الجمود والتراجع بعد أحداث "الحسم العسكري لغزة" عام 2006م، بعد ما سيطرت حركة حماس على القطاع، وطردت عصابات التخابر مع العدو وفرق الموت التابعة لفتح والأجهزة الأمنية البائدة التي حاولت تنفيذ انقلاب عسكري على حركة حماس بغزة، بعدما رفضت حركة "فتح" الاعتراف بنتائج الانتخابات التشريعية وتسليم السلطة لحماس.

حينها اتخذت حركة الجهاد الإسلامي موقفاً حيادياً، رافضةً دعم وتأييد موقف حركة حماس في غزة، بدعوى الوقوف على مسافة واحدة بين طرفي النزاع، برغم ما تتعرض له قيادة حركة الجهاد وكوادرها - شأنها شأن حماس - من ملاحقة وتضييق وإذلال من قبل أجهزة "فتح" الأمنية في الضفة المحتلة.

وعلى النقيض تماماً؛ فقد وصل التنسيق بين الحركتين خلال السنوات القليلة الماضية إلى مستوًى كبير وغير مسبوق من التعاون والتفاهم والانسجام في كثير من القضايا، خاصةً بعد وصول القضية الفلسطينية إلى مأزقٍ خطير إثر فشل ما يُسمى بالحلول السلمية المجحفة، وإعلان الإدارة الأمريكية ما يُسمى بـ "صفقة القرن"، وتنّصل الاحتلال من كافة التزاماته في اتفاق أوسلو المشؤوم، في ظل استمرار العدو بسياسة ابتلاع الأراضي الفلسطينية في الضفة المحتلة، وتشديد الحصار على قطاع غزة.

وقد بلغت ذروة هذا التنسيق والتعاون بين "حماس والجهاد" بعد انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار قبل عامين، والتي شجّعت فصائل المقاومة على تدشين جبهة سياسية موحدة مع قوى اليسار الفلسطيني لرفض العقوبات التي يفرضها رئيس السلطة "محمود عباس" على غزة، والاعتراض على استفراده بالقرار الفلسطيني، ومواجهةً صفقة القرن والسياسات الانهزامية التي ينتهجها "عباس" الذي ما زال يلهث خلف وهم المفاوضات والحلول السلمية.

فما الذي دفع بالحركتين لتجاوز الخلافات والبحث عن أرضية مشتركة للالتقاء والتفاهم وتنسيق المواقف في ظل وجود نزعات التنافس وخصومة الأقران وأحلام القيادة والتصدر للمشروع الفلسطيني؟؟!
إن من أهم الحقائق التي يجب أن نعلمها بدايةً؛ هي أن ما يَجمَع قوى الثورة والجهاد في بلادنا أكثر بكثير مما يفرقها، لكنها لن تصل إلى ذلك "الاجتماع" إلا إن أسقطت عن عيونها غشاوة المصلحية الضيقة، والتنافسية المذمومة على حساب القضايا الكبرى، إذ إن بعض الخلافات التي تطرأ على العمل العسكري أو السياسي هي خلافات طبيعية ناتجة عن الاختلاف في طرق التفكير ومعالجة القضايا وتقييم الأحداث، فالصحابة رضوان الله عليهم - وهم خير القرون - اختلفوا في العديد من القضايا الفقهية، والتكتيكات العسكرية، والنوازل السياسية.
بناءً على ما سبق يجب أن ندرك جيداً واقع الاختلاف وحقيقته، وأنه سنة الله في عباده الذين خلقهم مختلفين في أشكالهم وألوانهم وعقولهم وطرق تفكيرهم ومستويات فهمهم "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ"، وأن الخلاف الذي ينتج عن الاختلاف في وجهات النظر وقراءة الأحداث، إنْ أحسنّا إدارته جيداً وتعاملنا معه بحكمةٍ ورويّةٍ، مع تقديم المصلحة العامة للقضية على المصلحة الخاصة الحزبية؛ فلا شك أننا سنجني منه نتائج مبهرة وأفكاراً عظيمة، وسيفتح أمامنا آفاقاً رحبة ننطلق من خلالها لتحقيق أهدافنا في التحرر والاستقلال، وطرد الغزاة المحتلين بأقصر الطرق وأقل التكاليف، فانتهاج منهج الحوار البنّاء والنقاش المثمر لتجاوز الخلافات وتذليل العقبات هو السبيل الوحيد للخروج برأيٍ جماعي تسير عليه الأمة، أما التنافر والتناحر فهو وصفة سحرية للفشل والهزيمة ستجني الشعوب آثاره الكارثية ذلاً وهواناً وقتلاً وتشريدا.

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

من هنا أدركت حركتا حماس والجهاد الإسلامي خطورة الفشل في إدارة الخلافات البينية، وما سينتج عنه من آثار كارثية توشك أن تقضي على بؤرة النور الوحيدة في فلسطين وخط الدفاع الأخير عن القضية الفلسطينية ألا وهي "غزة"، وفي ظل استمرار الأزمة الداخلية الفلسطينية المتمثلة بالانقسام بين "غزة والضفة"، ومع تضييق الخناق على رقاب الغزيين بمشنقة الحصار، وبعد انتهاج حركة فتح ورئيسها "عباس" لسياسة الحرب الاقتصادية القذرة على غزة، تداعت الحركتان بالإضافة لفصائل اليسار الفلسطيني بعد أن رموا خلف ظهورهم الخلافات الفكرية والخصومات الحزبية والمصالح الفصائلية، لمواجهة هذه الكارثة مجتمعين بتشكيل موقف سياسي وعسكري وجماهيري موحّد لمواجهة للعدوان الصهيوني من جهة، والتصدي لإجراءات (فتح – عباس) المتمثلة بقطع الرواتب عن عشرات الآلاف من الموظفين وعائلات الشهداء والجرحى، والأسرى المحررين وغيرها من العقوبات من جهةٍ أخرى.

نجحت الحركتان وفصائل اليسار بالفعل بتشكيل جبهة سياسية عسكرية موحدة لقيادة مشروع المقاومة والتحرر والخروج به من أعمق وأقسى أزمة مرّت في تاريخ الجهاد والمقاومة الفلسطينية، حين وضع عباس الشعب الغزيّ المحاصر مرغماً في مواجهة أبنائه المجاهدين في فصائل المقاومة؛ تحت ضغط الحاجة للرواتب والدواء والغذاء والحاجات الأساسية الماسة، فكان التوجيه النفسي والمعنوي من عباس للشعب الفلسطيني: إما أن تثوروا على المجاهدين وتُسقطوا مشروع المقاومة وتدوسوا على تضحياتكم كي تحصلوا على راتبكم ودوائكم وقوت عيالكم وحليب أطفالكم، وإما أن تنتظروا مزيداً من الإجراءات العقابية التي ستطال الجوانب الأكثر حيوية إن واصلتم دعم المقاومة واحتضان المجاهدين، ما سيجعل غزة جحيماً لا يُطاق، وبقعةً لا تصلح للحياة الآدمية.

وقد كانت مسيرات العودة وكسر الحصار التي انطلقت بقرار وطني جامع، هي السبيل الوحيد لتوجيه الغضب الشعبي العارم الذي كان مخططاً له أن ينفجر في وجه فصائل المقاومة، إلى الانفجار في وجه الاحتلال الذي هو السبب الأساسي في حالة الحصار التي تعيشه غزة، إذ ترتب على تلك المسيرات الشعبية نتائج مبهرة شكّلت رافعة للقضية الفلسطينية، أهمها تشكيل جبهة سياسية موحدة لمواجهة صفقة القرن ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وتشكيل غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة للتشاور وتنسيق المواقف بين القوى العسكرية المختلفة.

وعلى الرغم من وجود بعض الخلافات التي ما زالت تطفو على السطح بين الفينة والأخرى بين حركتي "حماس والجهاد" كما رأينا في الخلاف الذي وقع على جولة التصعيد الأخيرة على غزة، والتي حاول الاحتلال استغلالها لزرع بذور الشقاق والفتنة بين الحركتين؛ إلا أن الحركتين سرعان ما تجاوزتا هذا الخلاف واستطاعتا تطويقه من خلال التفاهم والتنسيق والحوار الجاد، وهذا ما دعا الجنرال الصهيوني يستحاق بريك للقول إنه: "من الصعب التصديق أن "إسرائيل" قادرة على تطبيق سياسة "فرق تسد" في غزة، والتفريق بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي".

إن الإدارة السليمة للخلافات بين القوى والفصائل المجاهدة من خلال تفعيل منهج الشورى وإعلاء قيمة الحوار، واليقين أن التعاون أفضل من التنافس، وأن الآراء المختلفة مع وجود عامل الثقة ستؤدي إلى التبصّر والإبداع، ما من شأنه أن يحقق لكل طرفٍ أهدافه ومصالحه من خلال التعاون والتفاهم مع الطرف الآخر، وهذا ما يسمونه في علم الإدارة والعلاقات الدولية بسياسة "الأطراف الرابحة"، وهذا هو الضامن الوحيد لاستمرارية مشاريعنا الجهادية وثوراتنا التحررية، لتفويت الفرصة على الأعداء الذين لا يألون جهداً في إثارة الفتن والقلاقل بين شركاء الثورة والجهاد، لصرفهم عن معركتهم الكبرى بقتال عدوهم المحتل، إلى الانشغال بمعارك داخلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس وتقضي على أحلام الشعوب في الحرية والاستقلال.
‏١٨‏/١٢‏/٢٠١٩ ٥:٤٥ م‏
د. عبد الله النفيسي بين سيرتين أحمد الحمدان [حمّل العدد 29 bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk] في الفترة الأخيرة، كثر سؤال (هل شاهدت لقاءات النفيسي في برنامج الصندوق الأسود؟) تكرر هذا السؤال من كذا طرف ومن أشخاص ربما لا اهتمام لهم بالسياسة، أثار لدي الفضول، وتحتم علي تحت هذا الإلحاح المتصاعد أن أمهد لمشاهدته، واضرب عصفورين بحجر. فقرأت كتاب (من أيام العمر الماضي) كمدخل لهذه المقابلات، خصوصاً أن الكتاب يقف عند فترة زمنية معينة ولا يتجاوزها وهي (بدايات الغزو العراقي للكويت)، فقلت من الجيد أن أقرأ هذا الكتاب لمقصدين، وهي أن أجعله مقدمة لمشاهدة اللقاء، وأكمل ما وقف عنده الكتاب، وأن أقارن ما بين أسلوب (الكتابة) و(الإلقاء) في التدوين. وبعد أن أنهيت الكتاب، تصفحت في وجوه مكتبتي، لأختار الكتاب القادم، فظهر لي كتاب آخر عن سيرة النفيسي وهو للصحفي السعودي علي العميم (النفيسي رجل الفكرة والتقلبات.. سيرة غير تبجيليّة). فقلت في نفسي إن لم أقرأ هذا الكتاب الآن فلن أقرأه في قادم الأيام، هذه فرصة أن أضرب الحديد وهو ساخن. وبعد أن أنهيت كتاب العميم، أتت في ذهني عبارتان، الأولى (لم أرَ منك خيراً قط) ورأيت أن هذا اللفظ يصلح عنواناً للكتاب، فالكتاب باختصار هو تجميع لسقطات الرجل وإن لم توجد سقطات اختلقها لك اختلاقاً، ولا يقف عند ما هو منصوص بل يستنطق ما لم يدل عليه النص! ويخرجه عن مداه وحده ومدلوله ليقول لك في النهاية: هذا هو تاريخ النفيسي! وزد على ذلك الجزم فيما يتعلق بواطن النيات (النفيسي يقصد كذا والنفيسي فعل كذا لأجل كذا). فرأيت أن هذا الكتاب حتى وإن أتى بنقدٍ موضوعي في بعض الجزئيات، إلا أن ما يعكره عموماً هو النفسية الناقمة التي تجعل من القارئ متعاطفاً مع الشخص المنقود أكثر من أن يتقبل هذا النقد وإن كان صحيحًا، ومن تصفح خانة المراجعات على موقع (goodreads) ورأى تعليقات القرّاء خلصَ الى نفس النتيجة. أما العبارة الأخرى فهي: (إن لم تكتب تاريخك كتبه غيرك). وأحياناً تلك الكتابة قد تكون المصدر الوحيد المتوفر عنك، ومع شح المصادر قد يضطر الباحث اضطراراً أن يعتمد عليها في تقريب الصورة. وهذا الخطأ غالبًا ما يقع فيه المؤثرون وأصحاب التجارب، فالبعض يقع في ورع بارد وسخيف، ليقول لك: من أنا حتى أكتب مذكراتي؟! مظهراً شيئاً من ورعه وتواضعه في غير موضعه. فالمتردية والنطيحة قد كتبوا مذكراتهم وحتى من لا تأثير له ومن لا قيمة له، فلماذا يسترخص الشخص نفسه ويجعلها في مقام أقل من مقام هؤلاء؟! ثم إن لم تكتبها لهذا السبب، اكتبها بدافع حب الخير للآخرين على الأقل! فالشخص الذي مر بتجارب وسقطات وأخطاء من الجيد أن ينبه الناس عليها، فاكتب هذه المذكرات وما فيها محاولًا استنقاذ كل من يمكن استنقاذه! وأن تقي من كان بإمكانه أن يقع في نفس المطب الذي وقعت به. الآن، بعدما كتب النفيسي مذكراته، بالله عليك من يريد أن يقتني كتاب علي العميم؟ فالماء يغني عن التيمم، فكتاب النفيسي هو بالضرورة إزاحة للكتاب الآخر. حسناً، هل أصاب علي العميم في "بعض" انتقاداته للنفيسي؟ الجواب: نعم. كنا نقول ولا زلنا نقول، أن (العقيدة والفقه والحديث إلخ ...) مقدمة على الفكر الإسلامي، لأنها تحدد المسار وتضبطه، فحينئذ الشخص يضبط الفكر بناءً على النص ومخرجاته، ولكن إذا لم يكن يعرف النصوص كيف يمكن أن يضبط الفكر؟ ولا يلزم أن يتخصص الشخص في كل العلوم بل يكفي الإلمام بالأساسيات. النفيسي لم تتهيأ له الفرصة لأن يؤسس نفسه شرعياً، ودخل المعترك الإسلامي من البوابة الحزبية والعمل الطلابي ابتداءً. وهذا له أثره في اضطراب النفيسي، وهذا الاضطراب أوضحه العميم في عرضه لكتابين صدرا بنفس العام (عندما يحكم الإسلام) و(مجلس التعاون الخليجي .. الإطار السياسي والاستراتيجي) ببيان أوجه التعارض وعدم التزام النفيسي بكلامه الأوّل. وأظن أن ما يمكن أن يُضاف هو تغيّر آليات التغيير المحبذة لدى النفيسي عبر امتداد الوقت، وهذا لا يجزم به ولكن يلتمس من مدحه للتنظيمات، فأولًا مارس السياسة عبر البرلمان ثم آمن أنها طريق غير سوي لتطبيق الإسلام وأن من يظن ذلك هو واهم، ثم نصحه لحماس عدم دخول السياسة والاستمرار بالقتال والجهاد (سنة 2005)، ثم في وقت لاحق قال الحل هي القاعدة وليست حماس (سنة 2009)، ثم في نهاية المطاف خلص أن النموذج الأقرب هو نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا (سنة 2017). التغير في تبني آليات التغيير قد لا يتم عن إيمان جازم بها أو قناعة تامة، وهذا سبب التغير من عمل سياسي ثم ثوري أو جهادي ثم سياسي بوجهٍ آخر. ولكن نحن نتكلم عن كتاب (من أيام العمر الماضي) الذي ربما يكون من أواخر كتبه التي تمثل خلاصة فكره، وقد ذكر فيه أن التغيير يجب أن يكون من الأسفل، وأن إيمان الناس بأفكار معينة هو ما يفرض على من هم في الأعلى تطبيق توجهات من هم بالأسفل. وهذا قول مثالي لا واقعي، والسبب أنه لا توجد دولة سوف تتركك تبث أفكارك ومبادئك في الناس حتى تكون لك قاعدة جماهيرية كبيرة تضغط عليها وتؤثر عليها وتجعلها تطبق الإسلام وتحكم الشريعة وتبث العدل وتقضي على المحسوبية والفساد، فالحكومات مستعدة أن تبذل الغالي والنفيس من أجل أن تعزلك عن الجمهور وأن تجعل أثرك محدوداً أو أن تشوه صورتك وتغتالك إعلامياً إن أبيت الانصياع أو تعتقلك، فالخلاصة أن الدولة لها أدوات وأساليب تُلغي أي محاولة تأثير وضغط وتركيع لها. وجميع الحركات الإسلامية التي حاولت التغيير من الأسفل لابد أن تسأل نفسها ماذا كانت النتيجة بعد مرور عقود من هذا التصور؟! لم يزدَدِ الناس إلا بُعداً، فأنت تبني والدولة بسياستها تهدم فكأنك تحرث في الماء. وكتاب علي العميم عن النفيسي نشر عام 2012، وهو مستل من كتابه الضخم الآخر (شيء من النقد شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار)، وجزئية النفيسي هذه كتبها عبر حلقات في مجلة (المجلة) من أكتوبر/2004 عبر ثلاث حلقات، أي أنها بعد ظهور عبد الله النفيسي المتكرر على قناة الجزيرة في فترة الأحداث في السعودية سنة 2003-2004 وانتقاده المتكرر للسعودية. ربما هذا الكتاب هو ردة فعل على هذه اللقاءات؛ فالكتاب لم يصدر حديثًا وهذا واضح من المقدمة من أجل ذلك تراه لم يضمن العديد من المواقف والتصريحات التي قالها النفيسي بعد 2004 والتي قد تصب في خانة انتقادات المؤلف. حسناً، علي العميم كما يظهر أنه شخص مُطّلع، وناقد، ولكنه متكلف، ولا يكتفي بالظاهر أحياناً للحكم بل ينبش عن الباطن ولا يكتفي بالظن بل يجزم أن مقصده كذا! ولكن كتابه سلط الضوء على أمور ربما النفيسي لم يفصّل فيها في مذكراته لاحقاً، وهي العلاقة مع جماعة جهيمان. وهذه الجزئية على وجه الخصوص شطحَ فيها بعيداً عن النفيسي؛ إذ هي زاوية نقد مشترك ما بين النفيسي واليسار المتمثل بدار الطليعة ومن يدعمها، فاستطرد هنا بنقد اليسار والازدواجية في أحكامه وأفعاله. أما كتاب الدكتور عبد الله النفيسي (من أيام العمر الماضي) ويقع في (184) صفحة من طبعة مكتبة آفاق الكويتية التي طبعت الكثير من كتب النفيسي، وهي للأسف مكتبة سيئة الإخراج، لا تُكلِف نفسها تدقيق النص بل تطبعه بأخطائهِ كما أرسله المؤلف. وهي الجزء الأول من مذكراته وانتهت تقريباً مع حل مجلس "الأمة" وبداية الغزو العراقي، فلم يذكر النفيسي مشاهدته في الغزو العراقي بقدر ما أجاب على سؤال وهو عنوان الفصل الأخير (الغزو العراقي للكويت: هل كان مفاجأة)؟ والذي برهن فيه أن الغزو لم يكن مفاجئًا بل هنالك شواهد حسية حقيقة لاستعداد العراق لغزو الكويت، وقد تجاهلتها الحكومة الكويتية وأدت في النهاية الى هذه الكارثة. هذه المذكرات لم يبدأ فيها النفيسي منذ النشأة والجذور العائلية وتاريخ العائلة، بل أول ما بدأ بهِ هو رحلته في (مدرسة فكتوريا) الإنجليزية في مصر منذ 1951 الى 1961 (أنهي المراحل التعليمية الثلاث فيها). يقول النفيسي إن مستوى التعليم في هذه المدرسة ليس بالجودة المطلوبة ولم يكن هو الهدف الرئيس من هذه المدرسة، بل الهدف من تأسيس مدارس كهذه هو إنشاء جيل موالٍ للثقافة الغربية ولكن بأسماء عربية، فكانت هذه المدرسة حريصة على أن يكون التعلّم كله بالإنجليزي وأن تُدرّس الثقافة الغربية في الأدب والفن، وتُعاقِب بصرامة من ضُبِطَ وهو يتكلم بالعربية مع زميله وتلزم الطالب كعقاب له أن يكتب (I must not speak Arabic) مئة أو مئتي مرة، مما يجعل يد الطالب تخدر من كثرة التكرار فيحرّم الكلام بالعربية. وهذا ما جعل النفيسي ينشأ نشأة جاهلة جهلاً مركباً في الدين واللغة العربية، فسنوات التأسيس الأولى قضاها في جو بعيد عن الدين وعن الثقافة، وهذا ما جعله يجاوز العاشرة وهو لا يعرف الوضوء ولا يحفظ شيئًا من القرآن، ولا يعرف أساسيات اللغة العربية، مما أبعد عنه فرصة الدخول إلى الأزهر أو كلية الشريعة في دمشق في وقت لاحق. ويستفيد الشخص من هذه التجارب، أن قذف الطالب في مدارس خاصة ذات توجه غربي محض، دون حتى رعاية ولا مراقبة ولا توجيه، غالباً لن يخرج الشخص إلا غربياً أكثر من الغربيين أنفسهم، جاهلًا بثقافته محتقراً لها، لا يعرف أساسيات دينه ولا لغته ولا يربطه بهذه الأمة رابط طالما فقد الشخص أدوات التواصل معها. والخط العريض لهذه المذكرات هي السيرة التعليمية والسياسية على وجهٍ خاص، لذلك لا تجد ذكراً للعائلة وأفرادها ولا قصة الزواج ولا طريقة تنشئة الأبناء (كما هو الحال في رحلة الدكتور عبد الوهاب المسيري)، فكان خط المذكرات للنفيسي يبدأ من الدراسة في مصر ثم إنجلترا (مانشستر) ثم قفل راجعاً الى الكويت، ثم الدراسة في لبنان ثم الدكتوراة في إنجلترا، ثم التدريس في الكويت وفي أحد المعاهد البريطانية، ثم جامعة العين الإماراتية ثم الدخول في البرلمان ثم الغزو العراقي. أسلوب النفيسي في الطرح "أسلوب شعبوي"، فهو يتكلم في مسائل معقدة باللهجة العامية، لذا تجد جمهورًا عريضًا له، لأنه يتكلم في أمور معقدة بأسلوب يفهمه الكثير. وبالأخص الأفراد غير المتخصصين في هذا المجال وهم جمهور الناس. (وحبذا لو تراجع كلام أحمد سمير في كتابه "معركة الأحرار" عن نجاعة هذا الأسلوب). وهذا الأسلوب الشعوبي لا يخلو من طرافة، ولا يخلو من الكلام بالعامية وعدم الالتزام بالنص الفصيح وهذا ما يجعل غير الكويتي أو الخليجي لا يفهم ما المقصود من بعض الحوارت مثل ما هو موجود في ملحق الصور، استغرب النفيسي من نشاط أحد كبار السن العمانيين، فسأله عن سر ذلك فقال له (وخر عن الأچل الدسم والنسا) فرد عليه النفيسي: (هذه چايدة) فالرجل الكبير يقول له ابتعد عن الأكل الدسم والنساء فالنفيسي يقول هذه صعبة وعلى هذا قس. ويظهر لي أن هذه المذكرات هي من كتابة النفيسي شخصياً، أي أنها ليست نتائج سلسلة لقاءات صوتية ثم تفريغها على شكل كتاب. وعادةً من سلك هذا المسلك تضعف لياقته مع طول الأحداث وتفاصيلها. فتجد في بداية الكتاب تفاصيل كثيرة وفي نهايته اختصارًا وقفزًا على المراحل. تستطيع أن تقارن مثلًا مواضيع الطرح في هذا الكتاب وسلسلة لقاءات في (الصندوق الأسود) تجد أن النفيسي في اللقاءات المرئية أكثر انبساطا وتفصيلاً من الكتاب. حسناً، في فترة مانشستر، تخصص النفيسي في دراسة الطب وأبلى بلاءً حسناً، ولكن أقدار الله شاءت أن يترك هذا كلياً بقصة حصلت له، وهي مروره على محل لبيع الكتب المستعملة ورؤيته كتاباً مستعملاً اسمه (لماذا لستُ مسيحياً) للفليسوف برتراند راسل، فكان يُنظّر لفكرة الإلحاد من هذا الكتاب في نقد الأديان والمسيحية على وجه الخصوص. أدى هذا إلى زرع بذرة الشك لدى النفيسي، الذي لم يجد بُداً من الرجوع إلى الكويت وترك الدراسة وخسران البعثة، من أجل القراءة عن الإسلام. ومن هنا يعرف الشخص أهمية برامج (صناعة المحاور) التي تقي الشخص مثل هذه المزالق وتختصر عليه الطريق والوقت والجهد. وفي فترة بيروت عندما التحق النفيسي ببعثة لدراسة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية، كانت تلك الحقبة تموج بالحراك السياسي والطلابي، ويذكر النفيسي هنا مفارقة بين بيروت ومانشستر فيقول: (وفجأة ارتفع صوت الأذان من مسجد قريب في بيروت.. فاغرورقت عيني من الفرح، وتذكرت مانشستر حيث لا يسمع هذا الصوت). تكرار الأذان وحضوره الدائم يجعلك لا تعرف قيمته إلا إذا سكنت في مكان تبقى فيه بالشهور والسنوات لا تسمعه. فالأذان نعمة لا يُقدّر البعض قيمتها إلا بفقدانها. وفي تلك الحقبة احتك النفيسي بجهابذة القومية العربية واليسار في هيئة التدريس بالجامعة الأمريكية في بيروت، من بينهم مؤرخ الحزب الشيوعي للعراق حنا بطاطو وفايز الصائغ وصادق جلال العظم وغيرهم، وكل هؤلاء وقعت له معهم قصة، ولعل أبرزها في نظري التي مع فايز الصائغ، والذي كلفه بجمع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإسرائيل منذ 1948 حتى 1965، هذه التجربة أفادت النفيسي كثيراً فتراه يقول: (كانت مهمة مفيدة لي شخصيًا لأنها أطلعتني على سُخف مقولة "الشرعية الدولية" و"القانون الدولي" و"المنظمة الدولية" وتفاهة القرارات الصادرة عنها، وأقنعتني هذه المهمة بأن سياسات القوة هي السائدة في العالم وأن اللهاث وراء سراب ميثاق الأمم المتحدة أو غيره من المواثيق ما هو إلا إطالة عمر الظلم الفادح الذي تتحمله الشعوب المستضعفة). البعض لا يريد أن يتعلم من تجارب من سبقوهُ للوصول إلى هذه النتيجة، لابد أن يمر بمرحلة تعليق الأمل بهم ثم يكتشف مع الوقت أنهم متواطئون أو في أحسن الأحوال سراب، رأس ماله الإنكار والشجب، الذي لا يغير من المعادلة شيئًا على الأرض. حقاً كما قال أحدهم "منطق السياسة في أيامنا لا يحترم إلا أصحاب الأقدام الثقيلة". وحبذا لو ترجع إلى كتاب (تحت وابل النيران في سراييفو) للصحفي أحمد منصور، ورؤية موقف الساسة البوسنيين من دور الأمم المتحدة في الأزمة البوسنية. في سوريا البعض احتاج سنوات ودماء وفاتورة كبيرة حتى يعلم أن ما يسمى بـ(أصدقاء سوريا) لا قيمة لهم ولا تأثير ولا نفع! وأن منظمة الأمم المتحدة لم تستطع أن تنقذ الناس من الحصار ولا أن تمنع القصف، ولم تستطع أن تفرض حصاراً حقيقياً على النظام حتى يسقط. ولا تجيد إلا التنديد والوعود الفارغة، وفي أي تجربة قادمة في المستقبل من يعلّق الأمل على هؤلاء فهو كمن اتكل ولم يتوكل. إن تحرير فلسطين لن يتم إلا بعد التوصيف الحقيقي للدول الغربية، وأنهم في خندق العدو وليسوا وسطاء، فهؤلاء لم ولن يؤيدوك في تحرير فلسطين، بل أقصى أمانيهم هو التنديد ببعض ممارسات إسرائيل، ومن ظن غير ذلك فهو واهم. وتكلم أيضًا النفيسي أنه بعدما أصدر كتابه (الكويت: الرأي الآخر) وسحب جوازه ومنعه من العمل، وبعد أحداث مطولة استطاع الذهاب إلى الإمارات، ومن خلال سرد النفيسي تستطيع أن تقارن بين الحريات السياسية الموجودة في الإمارات آنذاك وحالها الآن! فقد أصبح أستاذاً جامعياً في مدينة العين الإماراتية، وقد طلبت منه وزارة الخارجية الإماراتية أن يشارك في ندوة عن منظمة مجلس التعاون الخليجي التي تأسست للتو، فرفض أن يشارك لأن رأيه نوعاً ما شديد حول هذه القضية، وقد أخبر الخارجية الإماراتية بذلك فرد عليه المندوب (الخارجية الإماراتية لا تُمانع أن تصدع برأيك ولو كان مخالفاً للرواية الرسمية). وتكلم في هذه الندوة "وجلد هذه المنظمة جلدًا"، وأنها ليست إلا نزولاً على الرغبة الغربية في تأسيسها، ويكمل النفيسي قائلًا: (من الغد وفي الصباح الباكر اتصل بي السيد أحمد السويدي المستشار المقرب للشيخ زايد، وطلب مني تأجيل عودتي للعين إذ إنه يرغب في دعوتي إلى الغداء في منزله لتبليغي رسالة من الشيخ زايد: (فقال لي: الشيخ زايد يسلم عليك ومسرور جداً من المحاضرة ويقول زين سوّيت فيهم وأنت في ديرتك وبين أهلك). بل قال له وزير الخارجية الإماراتي د.سيف غباش [انتبه لهذا الاسم جيداً]: (يا أخي تعال عندنا واترك الكويت فنحن أحوج لأمثالك!). الغريب أن في الندوة تكلم النفيسي عن مشكلة الندرة السكانية في دول الخليج (الإمارات على وجه التحديد) وعن استيراد عمالة أجنبية بكثرة، مما رجح الكفّة لصالح الوافدين الأجانب وجعلهم أغلبية كبيرة (large majority) فسأله د.سيف غباش ما الحل لمعالجة هذه المشكلة؟ فقال النفيسي: (الحل في اليمن، فاليمن فيه كثافة بشرية وفي الوقت نفسه اليمن قريب جغرافياً. لماذا لا تعمل الإمارات على استيراد العمالة اليمنية وهي عمالة أثبتت نجاحها في ميتشيجان "ديترويت" في الولايات المتحدة، وفي شيفيلد في إنجلترا، وثقافة اليمني وعاداته وأخلاقه ودينه ولغته قريبة جداً من المجتمع الخليجي، والبديل اليمني قطعًا أفضل من الكم الهائل من الفلبينيين والهنود والكوريين وغيرهم إلخ ...). طيب ماذا كان الرد على المُقترح؟ يكمل النفيسي: (انشرح الدكتور سيف للفكرة وتحمس لها، ووعد بتفعيلها وطرحها على الشيخ زايد، وأظن أنه فعل، وأن الشيخ زايد وافق على هذا الحل كما علمت لاحقاً). فأظن أن توطين الجالية اليمانية –الذي حصل في وقتٍ لاحق في الإمارات- كان على ضوء اقتراح النفيسي هذا. وأيضًا كما يظهر من خلال الكتاب، أن من ينهمك في السياسة قد يزهد بشكلٍ أو بآخر في الأدب، أنا أرى ذلك ماثلًا في نفسي، كلما أكثرت القراءة في الفكر أو السياسة ابتعدتُ تدريجيًا عن الأدب الروائي، وقد رأيت أن هذا الزهد في ظل الحرارة السياسية قد يكون حاضرًا لدى غيري كذلك، مثل كلام النفيسي هذا: (تداولت مع د. سيف عدة مواضيع من ضمنها إعادة النظر كليًا في هيكل جامعة العين وتخصصاتها وكلياتها، فلسنا في الخليج –كل الخليج- بحاجة لدراسة شعر الغزل في العصر العباسي حتى نستورد المختصين بالغزل أو حتى الأدب والفن. هذه ميادين لا تهتم بها المجتمعات والدول إلا إذا استكملت بنيتها التحتية والفوقية). الأولولية غالبًا ما تبعد الأدب وتجعله على ضفاف الاهتمامات. ويُلاحظ تغير أحكام النفيسي على الرموز والشخصيات مع تقدّم الزمن، ففي كتابه القديم (عندما يحكم الإسلام) تراه ينقل الإجماع على كفر الحكام، وأنهم نصبوا بدعم القوى الكافرة المتربصة بالإسلام، وفي نفس الكتاب تراه يقول عن جهيمان العتيبي (جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي ولإخوانه الأطهار الأبرار رحمهم الله وغفر لهم). ولكن في كتاب (من أيام العمر الماضي) ترى الآية انقلبت، فهو يترحم على الحكام "الذين كفروا" (كالسادات وغيره) ويقول عن جيهمان (له عند الله ما يستحق)، وزد على ذلك حذف الكلام عن جهيمان في طبعة الكتابة الثالثة سنة 2011 فيما يبدو لي. وهنا لابد أن نفصل الشخصية عن مراحلها المتقدمة، فالنتاج الكلي هو ما استقرت عليه في ختام الأمر، وهو ينسخ ما سبق إن كان مخالفًا له. فالتغيّر قد لا يكون عيباً بحد ذاته، وإنما العيب قد يكون في كثرته. وتكلم النفيسي أيضًا عن دخوله انتخابات مجلس الأمة (البرلمان الكويتي) وفوزه ودخوله برلمان عام 1985 الذي حُل، وكان الحل بسبب ضغوطات خارجية على الكويت واشتداد المعركة بين إيران والعراق، فلم تكن الكويت -حسب وصف النفيسي- تنقصها مشاكل داخلية، فكان الحل "غير الدستوري" محاولة منها لسد جهة ضغط داخلية للتفرغ لبقية الجبهات، والنفيسي في هذا الوقت تكلّم عن نقد ذاتي وقال إنه لم يكن هنالك داعٍ للضغط على الحكومة أكثر، وإن هذا الضغط حصل بسبب عدم وجود قنوات تواصل ومكاشفة حقيقية بين الحكومة والبرلمان، وأما التراجع الثاني قوله عن مرحلة البرلمان: (قراران في حياتي ندمت عليهما أيما ندم. الأول تركي دراسة الطب في مانشستر سنة 1962 والثاني: دخولي مجلس الأمة سنة 1985). ثم طفق ينتقد أسلوب الحركات الإسلامية وأداءها السياسي، وهذا قد تطرق إليه بالتفصيل في كتابه (الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق)، وكذا في برنامج (المقابلة) مع قناة الجزيرة سنة 2017. اللفتة الأبرز هو كلامه عن دواوين الإثنين، والديوان مجلس شعبي يجتمع فيه الناس للحوار والنقاش، وهو أشبه بالملتقى العام في بعض الدول الخليجية. أصبحت هذه الدواوين في الكويت بعد حل البرلمان سنة 1985 هي الملتقى لتوجيه رسائل السخط على قرار الحكومة، وأصبحت مكاناً لمعارضة قرار الحكومة. فعقدت الندوات واللقاءات ضد هذا الحل. اللافت للانتباه الحادثة التي حسب وصف النفيسي جعلته يغسل يده من الجماهير، يقول: (فبدأت الحديث بالقول إن الأمير لا يحق له حل المجلس بالطريقة التي تمت؛ لأن ذلك الحل هو حل غير دستوري ولأنه لم يحدد موعداً للانتخابات -ستين يوماً- كما ينص الدستور، وهذا أمرٌ مرفوض ولا ينبغي أن نقبل به). ماذا حدث بعد أن قال النفيسي كلامه هذا؟ يقول: (فجأة ظهر صوت في الخلف عند مدخل الديوان قائلًا: أنا النقيب هزاع الصلال من أمن الدولة أطلب منك دكتور عبد الله أن تكف الكلام. فقلت له: أنا ضيف عند جاسم القطامي وهذا ديوانه ولست ضيفاً عندك، وإذا طلب جاسم القطامي مني أن أكف عن الكلام فلا أمانع. فقال مندوب أمن الدولة لجاسم القطامي: أطلب من الدكتور عبد الله أن يكف عن الكلام. فقال لي جاسم القطامي: أكمل أبا مهند. فأكملت الحديث مواصلاً. فما كان من الصلال ومعه شرطيان إلا أن اخترقا الصفوف متوجهاً إلينا وعندما وصل إلينا طلب منّا مرافقته. الغريب في الأمر أن الجمهور كان متعاوناً مع الشرطة ومندوب أمن الدولة بطريقة وكأنها (تواطؤ)؛ لأنهم كانوا يفسحون الطريق لهم. ولم أسمع كلمة -مجرد كلمة!- احتجاج من هذا الجمهور الكثيف الذي قدّره جاسم القطامي فيما بعد بمفخر شويخ الصناعي بـ700 مواطن كويتي.. لا أخفي القارئ أن موقف الجمهور في ديوان القطامي وهو موقف سلبي للغاية اتجاه القضية واتجاه صاحب الديوانية الذي استضافهم لنصف قرن ولم يعترضوا حتى لفظاً على اعتقاله، دفعني للتفكير العميق في طبيعة الكويتيين وخلصت إلى قناعة: ليسعك بيتك!). هذا الموقف يصلح كمقياس لشعوب الخليج كافة، فالشعب الكويتي هو الأوعى سياسياً والذي مارس السياسة عبر أحزاب وتكتلات، وكانت هنالك هوامش من الحرية غير موجودة في بقية الدول الخليجية. مما جعله الشعب الأوعى سياسياً، ومع ذلك خذلت الجموع النخبة في قضية هم يتفقون معها في مشروعيتها. فالشعوب الخليجية من هذا النص ومن خلال مشاهدة عينية تتفق معك في المبدأ، ولكنها لا تمشي معك إلى نهاية الطريق. لياقتها ضعيفة، وهذا ما جعل جملة من النخب تشعر بالخذلان مما جعلهم ينكفئون على ذواتهم، ولا يطالبون بحقوق شعوب هي أول من يتخلى عنهم عند أول امتحان. فشخّص كل التجارب السياسية في الدول الخليجية التي تحصل حدة الخصام بين الحكومة والمعارضة إلى ذروتها، وفتش عن الجمهور تجد النتيجة ماثلة أمام عينيك وهي أنهم انتقلوا من مرحلة التأييد إلى مرحلة التفرج، ربما الطائفة الوحيدة التي تُحامي عن نخبها هم الشيعة، وهذا مشاهد. حسناً، الآن نرجع إلى اسم ذكره النفيسي وهو (الدكتور سيف غباش) وزير الخارجية الإماراتي. النفيسي يتكلم عن مرحلة تأسيس مجلس التعاون الذي أُنشى عام 1981 بينما الدكتور سيف غباش اغتيل سنة 1977! فلا يعقل أن يشارك النفيسي في ندوة عن مجلس التعاون في سنة 1983 ويلتقيه فيها الدكتور سيف بينما الدكتور سيف من المفترض أنه ميت قبلها بـ6 سنوات! أيضًا لو رجعت إلى سلسلة (الصندوق الأسود) تجد شيئاً من هذا القبيل، فمثلًا تكلم عن لقائه مع الملا عمر في أفغانستان أواخر السبعينيات، ولكن الأرجح أنها حصلت في التسعينات، بدليل أنه في ندوة في سنة 2009 بعنوان (العرب قبل وبعد الحرب على غزة) ذكر تفاصيل متشابهة لهذا اللقاء، ولكن في الندوة تكملة وهي قوله: (أنا قابلت الملا عمر شخصياً وشرفت بذلك، وهو رجل ليس من هذا العصر، كان لا يستقبل الوفود الغربية يقول لهم اذهبوا إلى كابل قابلوا وزير الخارجية بينما أنا جالس هنا في قندهار)، فدلت هذه التكملة أن الملا عمر كان آنذاك أمير دولة ولديه وزير خارجية، وهذا لم يتحصل له إلا في مرحلة التسعينيات لا في أواخر السبعينيات التي كان فيها مجرد قائد عسكري عادي غير بارز، وهذا تجده في كتاب (حياتي مع الطالبان) للملا عبد السلام ضعيف سفير الطالبان في باكستان، وهو كتاب متوفر بالعربية بالمناسبة. هذه النماذج تدل على أن الدكتور عبد الله مع تقدم العمر وكثرة الأحداث قد يخلط بين التواريخ والشخصيات أحياناً. وهذا أمر لا يسقط الشخص بالكلية؛ لأنه يحصل مع فطاحلة الحفّاظ، قد يقع لهم مثل هذا، فيحصل لديهم شيء من الاختلاط والوهم في الرواية، والمحدثون في تشخيصهم يقولون إن هذا مترادف مع الكبَر والتقدم في العمر في بعض الأحيان. وأنا شخصياً قد جالست بعض كبار السن وسجلت لهم وهم يَروون شهاداتهم لبعض الأحداث والشخصيات التي مضت منذ وقتٍ بعيد، وقد رأيت أنهم يتذكرون الحدث ولكن يقع الوهم في تسمية المكان أو الشخص أو السنة، فمن خلال قراءات سابقة مؤرخة لا تلغي هذه الشهادة بل تعمل مقاربة لها من خلال ما هو مؤرشف في الوثائق والكتب التاريخية المعتمدة، فمن خلال أسلوب المقاربة بين الروايات تُثري الرواية التاريخية بدلًا من إلغائها جملة واحدة بحجة أن صاحبها يخلط أو يَهم في الأسماء أو السنوات. وهذا يختلف جذريًا –بلا شك- عمن يكذب متعمداً أو يُدلّس متعمداً، فمثل هذا لا تؤخذ روايته ولا تقبل شهادته إلا اذا وافقت رواية غيره مثلما صنع سيد قطب في محاكمته لما استُدل عليه بأقوال أحد القياديين معه في التنظيم وهو علي عشماوي؛ فقال لا تقبل روايته إلا اذا وافقت رواية بقية القادة كما ذكر ذلك سامي جوهر في كتابه (الموتى يتكلمون). * النقطة الأخيرة من خلال الرحلة في سيرة الدكتور عبد الله النفيسي، هل غطى برنامج (الصندوق الأسود) أغلب ما في كتاب (من أيام العمر الماضي؟) الجواب: نعم بل زاد عليه الكثير من التفاصيل المهمة، فأسلوب السرد أكثر نجاعة وفاعلية في التوثيق من أسلوب الكتابة، لأن توجيه السؤال يقدح بالذاكرة في الرأس فيسترسل المجيب في الإجابة ويُطنب. وهذا أسلوب متّبع في الغرب في كتابة المذكرات، يقول الشيخ عمر بن محمود في نص طويل: (كثير من الإخوة ممن يملكون معاناة أو تجربة مهمّة ولكن تمنعهم قدراتهم من الكتابة؛ فالطريقة المعاصرة هي طريقة جيّدة من أجل تجاوز هذا العجز، وتخليد هذه الذكريات لتاريخ وللأجيال، وهي كالتالي: يحضر صاحب القضيّة التي يُراد كتابة مذكّراته أو ذكرياته أو الأحداث التي يريد أن يتكلّم بها، فيحضّر عند جلوسه من عندهم قدرة على كتابة الأسئلة، ويجلسون معه ويسألونه؛ مثلًا تبدأ بالتعريف بالشخصية: من أنت وما هي عائلتك وأين وُلدت، وهو يجيب ويتكلّم. هو لا يعرف الكتابة، هو يتكلّم كما نتكلّم نحن، وكأنه في جلسة انبساط، جلسة حديث عادية، فيتكلّم ويُسجّل له وهم يسمعون. ثم هذه الأجوبة تنتج أسئلة؛ أنت سُجنت في أي يوم؟ من سجنك؟ هم يعرفون هذا، هو ليس في ذهنه قدرة على صياغة قصة. قد لا يكون قصّاصًا جيّدًا، وبعضهم عنده القدرة على القصّ يعني أن يتكلّم، فتُسجل له الساعات؛ مائة ساعة، مائتي ساعة، وبعد ذلك يأخذون هذه الأشرطة ويفرغونها على الورق. ويبدأ بعد ذلك الترتيب؛ هذه توضع هنا، هذه تُزال، هذه تُرتّب، هذه نقطة غير بيّنة ارجع اسأله السؤال، فيحضّرون هذا السؤال مرة أخرى، وبعد ذلك يكوّنون هذا الكتاب. فالكتاب يخرج باسمه أنه ذكريات فلان. وهو لم يكتب، وإنما كتبه هؤلاء الصحفيون. عادةً هناك أناس في الغرب مختصون لهذا، وما أحد هناك من المشاهير سواء سياسي أو لاعب كرة قدم أو ممثّل إلا ويكتب مذكّراته بهذه الطريقة. لا يوجد عندهم أحد يأتي بمثل ما عندنا ويضع الكمبيوتر ويكتب مذكّراته ثم ينشرها، هذا لا وجود له، هذا انتهى عندهم) أهـ. وكذا المذكرات فهي مهمة من حيث قراءتها ومهمة من حيث كتابتها لأهل التجربة، يقول عمر عبد الحكيم في شرحه لكتاب حرب المستضعفين: (فأنا أشجع الإخوة الذين يلمسون في أنفسهم هذه المبادرة، أن يبادروا للكتابة لأننا محتاجون إلى قوّاد يكتبون ويقرأون، من أحب الكتب إلي مذكرات الزعماء، مذكرات تشرشل، مذكرات ديجول، مذكرات الإسلاميين، مذكرات العلمانيين، مذكرات الملوك: مذكرات الملك حسين، مذكرات الملك الحسن، لأنها عصارة التاريخ، وعصارة التجارب) اهـ. ثم هنالك نقاط وجدت في الكتاب لم يتطرق إليها في برنامج (الصندوق الأسود)، ولكن بعضها هامشي جداً ولا يؤثر، باستثناء نقطة مهمة جداً وأعدها من السقط، وهي لقاء النفيسي في لبنان لما كان طالباً مع المصري الغامض الذي كان يبيع الكرفتات (ربطات العنق)، والذي استضافه لاحقاً في منزله المتواضع جداً، ثم اتضح أن هذا الشخص ليس سوى قائد السرب في سلاح الجو المصري سابقاً اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف الذي كان له الدور الرئيس في انقلاب 23 يوليو 1952، وكان عضواً في مجلس قيادة الثورة وهو الذي قام بقيادة الفرقة التي حاصرت قصر رأس التين في الإسكندرية، ونجحت في إرغام الملك السابق فاروق على التنازل عن العرش. ولما بدأ هذا الأخير يسرد ذكرياته يقول النفيسي: (في حضرته كانت سياستي "دعه يتكلم" فهذا رجل مخزون بالخبرة والقوة والفروسية. ولو تركني على حريتي لأحضرت معي آله تسجيل لأستعيد ما كان يقوله عن انقلاب 23 يوليو 1952 وعن زملائه في مجلس قيادة الثورة إلخ ...). ربما لم يتطرق إلى هذه النقطة رغم أهميتها أن عبد المنعم عبد الرؤوف قد كتب مذكراته في وقت لاحق بعنوان (أرغمت فاروق على التنازل عن العرش)، وقد نشرتها دار الزهراء للإعلام العربي. ولكن أحياناً يكون في الحوار ما هو غير موجود في الكتاب ويستفاد منه في تكميل المشهد، ومع ذلك لم تُذكر هذه الحادثة في البرنامج وأعدها هي السقط الوحيد. تكلم النفيسي في خاتمة الكتاب عن غزو الكويت، وأن ما بعد التحرير، كُوّنت لجنة لتقصي الحقائق حول الغزو، وخلصوا إلى وجود مؤشرات متكررة نقلها بعض السفراء وغيرهم إلى القيادة الكويتية تحذرهم جدياً من حصول الغزو وأن هذا الغزو لم يحدث فجأة، الأمر الذي استغربه النفيسي هو ما قاله (لم يقص أحد من المسؤولين عن منصبه ولم يحاسب ولم يحاكم؛ بل عاد الجميع إلى ما كانوا عليه، لو حدث هذا في بلد غير الكويت لكان ما كان بعده؛ لكن ماذا نقول غير: الله المستعان على هذا الهوان). وهذا مفارقة، فقد تجد في الدول الغربية لو ارتكب الوزير أو المسؤول خطئًا قد يستقيل أو يُحال الى الاستجواب والتحقيق، رغم أن هذا الخطأ قد يكون محدود الضرر، ولكن في الدول الخليجية أو العربية عموماً، قد تجد أن بعض المسؤولين قد تسبب إهمالهم في عدم الاستعداد والتحصن مما جعل الاحتلال يدخل بسهولة ويسقط الحكومة في ساعات، فخطأهم تسبب في احتلال بلد كامل، وما تلا ذلك من قتل واعتقال وتعذيب وانتهاك للأعراض ومآسٍ تجدها مؤرخة في مجموعة كبيرة من كتب التأريخ التي كتبها الكويتيون ولعل من أبرزها في نظري (الكويت وأيام الاحتلال) للمؤرخ محمد عبد الهادي جمال. فمر حدث الغزو كمرور الكرام، فلا مساءلة –رغم تشكل لجنة أثبتت حصول الأخطاء- ولا استقالة ولا محاسبة؛ بل كما قال النفيسي (لم يُقصَ أحد من المسؤولين عن منصبه). فهذه هي عقلية الحكومات العربية، والآن البعض يريد من وزير النقل أن يستقيل لأن قطارين تصادما، أو لحدوث حريق في أحد القطارات، فهذه دولة بأكملها احتلت ولم يُساءل أحد، وهؤلاء يريدون أن يُقيلوا الوزير من أجل حريق قطار! ثم لم تكن هناك أصوات تحذر من دخول العراق فقط، بل كانت هنالك أصوات علنية لا تحتاج إلى رجل استخبارات بقدر ما تحتاج إلى باحث أو راصد، تقول إن أمريكا تسعى بقوة للدخول إلى جزيرة العرب، وأن هذا ضمن خطة استراتيجية أتى صدام حسين وطبقها على طبق من ذهب، وقد جمعها الدكتور سفر الحوالي –فرج الله عنه- في كتابه الشهير (وعد كسينجر) أو يعرف أحياناً بـ(كشف الغمة عن علماء الأمة). هذا والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. عبد الله النفيسي بين سيرتين

أحمد الحمدان

[حمّل العدد 29
bit.ly/2P55Bo6
هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm
الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk]


في الفترة الأخيرة، كثر سؤال (هل شاهدت لقاءات النفيسي في برنامج الصندوق الأسود؟)
تكرر هذا السؤال من كذا طرف ومن أشخاص ربما لا اهتمام لهم بالسياسة، أثار لدي الفضول، وتحتم علي تحت هذا الإلحاح المتصاعد أن أمهد لمشاهدته، واضرب عصفورين بحجر.

فقرأت كتاب (من أيام العمر الماضي) كمدخل لهذه المقابلات، خصوصاً أن الكتاب يقف عند فترة زمنية معينة ولا يتجاوزها وهي (بدايات الغزو العراقي للكويت)، فقلت من الجيد أن أقرأ هذا الكتاب لمقصدين، وهي أن أجعله مقدمة لمشاهدة اللقاء، وأكمل ما وقف عنده الكتاب، وأن أقارن ما بين أسلوب (الكتابة) و(الإلقاء) في التدوين.
وبعد أن أنهيت الكتاب، تصفحت في وجوه مكتبتي، لأختار الكتاب القادم، فظهر لي كتاب آخر عن سيرة النفيسي وهو للصحفي السعودي علي العميم (النفيسي رجل الفكرة والتقلبات.. سيرة غير تبجيليّة). فقلت في نفسي إن لم أقرأ هذا الكتاب الآن فلن أقرأه في قادم الأيام، هذه فرصة أن أضرب الحديد وهو ساخن.

وبعد أن أنهيت كتاب العميم، أتت في ذهني عبارتان، الأولى (لم أرَ منك خيراً قط) ورأيت أن هذا اللفظ يصلح عنواناً للكتاب، فالكتاب باختصار هو تجميع لسقطات الرجل وإن لم توجد سقطات اختلقها لك اختلاقاً، ولا يقف عند ما هو منصوص بل يستنطق ما لم يدل عليه النص! ويخرجه عن مداه وحده ومدلوله ليقول لك في النهاية: هذا هو تاريخ النفيسي!

وزد على ذلك الجزم فيما يتعلق بواطن النيات (النفيسي يقصد كذا والنفيسي فعل كذا لأجل كذا).
فرأيت أن هذا الكتاب حتى وإن أتى بنقدٍ موضوعي في بعض الجزئيات، إلا أن ما يعكره عموماً هو النفسية الناقمة التي تجعل من القارئ متعاطفاً مع الشخص المنقود أكثر من أن يتقبل هذا النقد وإن كان صحيحًا، ومن تصفح خانة المراجعات على موقع (goodreads) ورأى تعليقات القرّاء خلصَ الى نفس النتيجة.

أما العبارة الأخرى فهي: (إن لم تكتب تاريخك كتبه غيرك). وأحياناً تلك الكتابة قد تكون المصدر الوحيد المتوفر عنك، ومع شح المصادر قد يضطر الباحث اضطراراً أن يعتمد عليها في تقريب الصورة. وهذا الخطأ غالبًا ما يقع فيه المؤثرون وأصحاب التجارب، فالبعض يقع في ورع بارد وسخيف، ليقول لك: من أنا حتى أكتب مذكراتي؟! مظهراً شيئاً من ورعه وتواضعه في غير موضعه.

فالمتردية والنطيحة قد كتبوا مذكراتهم وحتى من لا تأثير له ومن لا قيمة له، فلماذا يسترخص الشخص نفسه ويجعلها في مقام أقل من مقام هؤلاء؟! ثم إن لم تكتبها لهذا السبب، اكتبها بدافع حب الخير للآخرين على الأقل! فالشخص الذي مر بتجارب وسقطات وأخطاء من الجيد أن ينبه الناس عليها، فاكتب هذه المذكرات وما فيها محاولًا استنقاذ كل من يمكن استنقاذه! وأن تقي من كان بإمكانه أن يقع في نفس المطب الذي وقعت به.

الآن، بعدما كتب النفيسي مذكراته، بالله عليك من يريد أن يقتني كتاب علي العميم؟ فالماء يغني عن التيمم، فكتاب النفيسي هو بالضرورة إزاحة للكتاب الآخر.

حسناً، هل أصاب علي العميم في "بعض" انتقاداته للنفيسي؟ الجواب: نعم.

كنا نقول ولا زلنا نقول، أن (العقيدة والفقه والحديث إلخ ...) مقدمة على الفكر الإسلامي، لأنها تحدد المسار وتضبطه، فحينئذ الشخص يضبط الفكر بناءً على النص ومخرجاته، ولكن إذا لم يكن يعرف النصوص كيف يمكن أن يضبط الفكر؟ ولا يلزم أن يتخصص الشخص في كل العلوم بل يكفي الإلمام بالأساسيات.

النفيسي لم تتهيأ له الفرصة لأن يؤسس نفسه شرعياً، ودخل المعترك الإسلامي من البوابة الحزبية والعمل الطلابي ابتداءً. وهذا له أثره في اضطراب النفيسي، وهذا الاضطراب أوضحه العميم في عرضه لكتابين صدرا بنفس العام (عندما يحكم الإسلام) و(مجلس التعاون الخليجي .. الإطار السياسي والاستراتيجي) ببيان أوجه التعارض وعدم التزام النفيسي بكلامه الأوّل.

وأظن أن ما يمكن أن يُضاف هو تغيّر آليات التغيير المحبذة لدى النفيسي عبر امتداد الوقت، وهذا لا يجزم به ولكن يلتمس من مدحه للتنظيمات، فأولًا مارس السياسة عبر البرلمان ثم آمن أنها طريق غير سوي لتطبيق الإسلام وأن من يظن ذلك هو واهم، ثم نصحه لحماس عدم دخول السياسة والاستمرار بالقتال والجهاد (سنة 2005)، ثم في وقت لاحق قال الحل هي القاعدة وليست حماس (سنة 2009)، ثم في نهاية المطاف خلص أن النموذج الأقرب هو نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا (سنة 2017).

التغير في تبني آليات التغيير قد لا يتم عن إيمان جازم بها أو قناعة تامة، وهذا سبب التغير من عمل سياسي ثم ثوري أو جهادي ثم سياسي بوجهٍ آخر. ولكن نحن نتكلم عن كتاب (من أيام العمر الماضي) الذي ربما يكون من أواخر كتبه التي تمثل خلاصة فكره، وقد ذكر فيه أن التغيير يجب أن يكون من الأسفل، وأن إيمان الناس بأفكار معينة هو ما يفرض على من هم في الأعلى تطبيق توجهات من هم بالأسفل.

وهذا قول مثالي لا واقعي، والسبب أنه لا توجد دولة سوف تتركك تبث أفكارك ومبادئك في الناس حتى تكون لك قاعدة جماهيرية كبيرة تضغط عليها وتؤثر عليها وتجعلها تطبق الإسلام وتحكم الشريعة وتبث العدل وتقضي على المحسوبية والفساد، فالحكومات مستعدة أن تبذل الغالي والنفيس من أجل أن تعزلك عن الجمهور وأن تجعل أثرك محدوداً أو أن تشوه صورتك وتغتالك إعلامياً إن أبيت الانصياع أو تعتقلك، فالخلاصة أن الدولة لها أدوات وأساليب تُلغي أي محاولة تأثير وضغط وتركيع لها. وجميع الحركات الإسلامية التي حاولت التغيير من الأسفل لابد أن تسأل نفسها ماذا كانت النتيجة بعد مرور عقود من هذا التصور؟! لم يزدَدِ الناس إلا بُعداً، فأنت تبني والدولة بسياستها تهدم فكأنك تحرث في الماء.

وكتاب علي العميم عن النفيسي نشر عام 2012، وهو مستل من كتابه الضخم الآخر (شيء من النقد شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار)، وجزئية النفيسي هذه كتبها عبر حلقات في مجلة (المجلة) من أكتوبر/2004 عبر ثلاث حلقات، أي أنها بعد ظهور عبد الله النفيسي المتكرر على قناة الجزيرة في فترة الأحداث في السعودية سنة 2003-2004 وانتقاده المتكرر للسعودية. ربما هذا الكتاب هو ردة فعل على هذه اللقاءات؛ فالكتاب لم يصدر حديثًا وهذا واضح من المقدمة من أجل ذلك تراه لم يضمن العديد من المواقف والتصريحات التي قالها النفيسي بعد 2004 والتي قد تصب في خانة انتقادات المؤلف.

حسناً، علي العميم كما يظهر أنه شخص مُطّلع، وناقد، ولكنه متكلف، ولا يكتفي بالظاهر أحياناً للحكم بل ينبش عن الباطن ولا يكتفي بالظن بل يجزم أن مقصده كذا!

ولكن كتابه سلط الضوء على أمور ربما النفيسي لم يفصّل فيها في مذكراته لاحقاً، وهي العلاقة مع جماعة جهيمان. وهذه الجزئية على وجه الخصوص شطحَ فيها بعيداً عن النفيسي؛ إذ هي زاوية نقد مشترك ما بين النفيسي واليسار المتمثل بدار الطليعة ومن يدعمها، فاستطرد هنا بنقد اليسار والازدواجية في أحكامه وأفعاله.

أما كتاب الدكتور عبد الله النفيسي (من أيام العمر الماضي) ويقع في (184) صفحة من طبعة مكتبة آفاق الكويتية التي طبعت الكثير من كتب النفيسي، وهي للأسف مكتبة سيئة الإخراج، لا تُكلِف نفسها تدقيق النص بل تطبعه بأخطائهِ كما أرسله المؤلف.

وهي الجزء الأول من مذكراته وانتهت تقريباً مع حل مجلس "الأمة" وبداية الغزو العراقي، فلم يذكر النفيسي مشاهدته في الغزو العراقي بقدر ما أجاب على سؤال وهو عنوان الفصل الأخير (الغزو العراقي للكويت: هل كان مفاجأة)؟ والذي برهن فيه أن الغزو لم يكن مفاجئًا بل هنالك شواهد حسية حقيقة لاستعداد العراق لغزو الكويت، وقد تجاهلتها الحكومة الكويتية وأدت في النهاية الى هذه الكارثة.

هذه المذكرات لم يبدأ فيها النفيسي منذ النشأة والجذور العائلية وتاريخ العائلة، بل أول ما بدأ بهِ هو رحلته في (مدرسة فكتوريا) الإنجليزية في مصر منذ 1951 الى 1961 (أنهي المراحل التعليمية الثلاث فيها).

يقول النفيسي إن مستوى التعليم في هذه المدرسة ليس بالجودة المطلوبة ولم يكن هو الهدف الرئيس من هذه المدرسة، بل الهدف من تأسيس مدارس كهذه هو إنشاء جيل موالٍ للثقافة الغربية ولكن بأسماء عربية، فكانت هذه المدرسة حريصة على أن يكون التعلّم كله بالإنجليزي وأن تُدرّس الثقافة الغربية في الأدب والفن، وتُعاقِب بصرامة من ضُبِطَ وهو يتكلم بالعربية مع زميله وتلزم الطالب كعقاب له أن يكتب (I must not speak Arabic) مئة أو مئتي مرة، مما يجعل يد الطالب تخدر من كثرة التكرار فيحرّم الكلام بالعربية.

وهذا ما جعل النفيسي ينشأ نشأة جاهلة جهلاً مركباً في الدين واللغة العربية، فسنوات التأسيس الأولى قضاها في جو بعيد عن الدين وعن الثقافة، وهذا ما جعله يجاوز العاشرة وهو لا يعرف الوضوء ولا يحفظ شيئًا من القرآن، ولا يعرف أساسيات اللغة العربية، مما أبعد عنه فرصة الدخول إلى الأزهر أو كلية الشريعة في دمشق في وقت لاحق.
ويستفيد الشخص من هذه التجارب، أن قذف الطالب في مدارس خاصة ذات توجه غربي محض، دون حتى رعاية ولا مراقبة ولا توجيه، غالباً لن يخرج الشخص إلا غربياً أكثر من الغربيين أنفسهم، جاهلًا بثقافته محتقراً لها، لا يعرف أساسيات دينه ولا لغته ولا يربطه بهذه الأمة رابط طالما فقد الشخص أدوات التواصل معها.

والخط العريض لهذه المذكرات هي السيرة التعليمية والسياسية على وجهٍ خاص، لذلك لا تجد ذكراً للعائلة وأفرادها ولا قصة الزواج ولا طريقة تنشئة الأبناء (كما هو الحال في رحلة الدكتور عبد الوهاب المسيري)، فكان خط المذكرات للنفيسي يبدأ من الدراسة في مصر ثم إنجلترا (مانشستر) ثم قفل راجعاً الى الكويت، ثم الدراسة في لبنان ثم الدكتوراة في إنجلترا، ثم التدريس في الكويت وفي أحد المعاهد البريطانية، ثم جامعة العين الإماراتية ثم الدخول في البرلمان ثم الغزو العراقي.

أسلوب النفيسي في الطرح "أسلوب شعبوي"، فهو يتكلم في مسائل معقدة باللهجة العامية، لذا تجد جمهورًا عريضًا له، لأنه يتكلم في أمور معقدة بأسلوب يفهمه الكثير. وبالأخص الأفراد غير المتخصصين في هذا المجال وهم جمهور الناس. (وحبذا لو تراجع كلام أحمد سمير في كتابه "معركة الأحرار" عن نجاعة هذا الأسلوب).

وهذا الأسلوب الشعوبي لا يخلو من طرافة، ولا يخلو من الكلام بالعامية وعدم الالتزام بالنص الفصيح وهذا ما يجعل غير الكويتي أو الخليجي لا يفهم ما المقصود من بعض الحوارت مثل ما هو موجود في ملحق الصور، استغرب النفيسي من نشاط أحد كبار السن العمانيين، فسأله عن سر ذلك فقال له (وخر عن الأچل الدسم والنسا) فرد عليه النفيسي: (هذه چايدة) فالرجل الكبير يقول له ابتعد عن الأكل الدسم والنساء فالنفيسي يقول هذه صعبة وعلى هذا قس.

ويظهر لي أن هذه المذكرات هي من كتابة النفيسي شخصياً، أي أنها ليست نتائج سلسلة لقاءات صوتية ثم تفريغها على شكل كتاب. وعادةً من سلك هذا المسلك تضعف لياقته مع طول الأحداث وتفاصيلها. فتجد في بداية الكتاب تفاصيل كثيرة وفي نهايته اختصارًا وقفزًا على المراحل. تستطيع أن تقارن مثلًا مواضيع الطرح في هذا الكتاب وسلسلة لقاءات في (الصندوق الأسود) تجد أن النفيسي في اللقاءات المرئية أكثر انبساطا وتفصيلاً من الكتاب.

حسناً، في فترة مانشستر، تخصص النفيسي في دراسة الطب وأبلى بلاءً حسناً، ولكن أقدار الله شاءت أن يترك هذا كلياً بقصة حصلت له، وهي مروره على محل لبيع الكتب المستعملة ورؤيته كتاباً مستعملاً اسمه (لماذا لستُ مسيحياً) للفليسوف برتراند راسل، فكان يُنظّر لفكرة الإلحاد من هذا الكتاب في نقد الأديان والمسيحية على وجه الخصوص. أدى هذا إلى زرع بذرة الشك لدى النفيسي، الذي لم يجد بُداً من الرجوع إلى الكويت وترك الدراسة وخسران البعثة، من أجل القراءة عن الإسلام. ومن هنا يعرف الشخص أهمية برامج (صناعة المحاور) التي تقي الشخص مثل هذه المزالق وتختصر عليه الطريق والوقت والجهد.

وفي فترة بيروت عندما التحق النفيسي ببعثة لدراسة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية، كانت تلك الحقبة تموج بالحراك السياسي والطلابي، ويذكر النفيسي هنا مفارقة بين بيروت ومانشستر فيقول: (وفجأة ارتفع صوت الأذان من مسجد قريب في بيروت.. فاغرورقت عيني من الفرح، وتذكرت مانشستر حيث لا يسمع هذا الصوت).

تكرار الأذان وحضوره الدائم يجعلك لا تعرف قيمته إلا إذا سكنت في مكان تبقى فيه بالشهور والسنوات لا تسمعه. فالأذان نعمة لا يُقدّر البعض قيمتها إلا بفقدانها.

وفي تلك الحقبة احتك النفيسي بجهابذة القومية العربية واليسار في هيئة التدريس بالجامعة الأمريكية في بيروت، من بينهم مؤرخ الحزب الشيوعي للعراق حنا بطاطو وفايز الصائغ وصادق جلال العظم وغيرهم، وكل هؤلاء وقعت له معهم قصة، ولعل أبرزها في نظري التي مع فايز الصائغ، والذي كلفه بجمع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإسرائيل منذ 1948 حتى 1965، هذه التجربة أفادت النفيسي كثيراً فتراه يقول:
(كانت مهمة مفيدة لي شخصيًا لأنها أطلعتني على سُخف مقولة "الشرعية الدولية" و"القانون الدولي" و"المنظمة الدولية" وتفاهة القرارات الصادرة عنها، وأقنعتني هذه المهمة بأن سياسات القوة هي السائدة في العالم وأن اللهاث وراء سراب ميثاق الأمم المتحدة أو غيره من المواثيق ما هو إلا إطالة عمر الظلم الفادح الذي تتحمله الشعوب المستضعفة).

البعض لا يريد أن يتعلم من تجارب من سبقوهُ للوصول إلى هذه النتيجة، لابد أن يمر بمرحلة تعليق الأمل بهم ثم يكتشف مع الوقت أنهم متواطئون أو في أحسن الأحوال سراب، رأس ماله الإنكار والشجب، الذي لا يغير من المعادلة شيئًا على الأرض.

حقاً كما قال أحدهم "منطق السياسة في أيامنا لا يحترم إلا أصحاب الأقدام الثقيلة". وحبذا لو ترجع إلى كتاب (تحت وابل النيران في سراييفو) للصحفي أحمد منصور، ورؤية موقف الساسة البوسنيين من دور الأمم المتحدة في الأزمة البوسنية.

في سوريا البعض احتاج سنوات ودماء وفاتورة كبيرة حتى يعلم أن ما يسمى بـ(أصدقاء سوريا) لا قيمة لهم ولا تأثير ولا نفع! وأن منظمة الأمم المتحدة لم تستطع أن تنقذ الناس من الحصار ولا أن تمنع القصف، ولم تستطع أن تفرض حصاراً حقيقياً على النظام حتى يسقط. ولا تجيد إلا التنديد والوعود الفارغة، وفي أي تجربة قادمة في المستقبل من يعلّق الأمل على هؤلاء فهو كمن اتكل ولم يتوكل.

إن تحرير فلسطين لن يتم إلا بعد التوصيف الحقيقي للدول الغربية، وأنهم في خندق العدو وليسوا وسطاء، فهؤلاء لم ولن يؤيدوك في تحرير فلسطين، بل أقصى أمانيهم هو التنديد ببعض ممارسات إسرائيل، ومن ظن غير ذلك فهو واهم.

وتكلم أيضًا النفيسي أنه بعدما أصدر كتابه (الكويت: الرأي الآخر) وسحب جوازه ومنعه من العمل، وبعد أحداث مطولة استطاع الذهاب إلى الإمارات، ومن خلال سرد النفيسي تستطيع أن تقارن بين الحريات السياسية الموجودة في الإمارات آنذاك وحالها الآن!

فقد أصبح أستاذاً جامعياً في مدينة العين الإماراتية، وقد طلبت منه وزارة الخارجية الإماراتية أن يشارك في ندوة عن منظمة مجلس التعاون الخليجي التي تأسست للتو، فرفض أن يشارك لأن رأيه نوعاً ما شديد حول هذه القضية، وقد أخبر الخارجية الإماراتية بذلك فرد عليه المندوب (الخارجية الإماراتية لا تُمانع أن تصدع برأيك ولو كان مخالفاً للرواية الرسمية).

وتكلم في هذه الندوة "وجلد هذه المنظمة جلدًا"، وأنها ليست إلا نزولاً على الرغبة الغربية في تأسيسها، ويكمل النفيسي قائلًا: (من الغد وفي الصباح الباكر اتصل بي السيد أحمد السويدي المستشار المقرب للشيخ زايد، وطلب مني تأجيل عودتي للعين إذ إنه يرغب في دعوتي إلى الغداء في منزله لتبليغي رسالة من الشيخ زايد: (فقال لي: الشيخ زايد يسلم عليك ومسرور جداً من المحاضرة ويقول زين سوّيت فيهم وأنت في ديرتك وبين أهلك). بل قال له وزير الخارجية الإماراتي د.سيف غباش [انتبه لهذا الاسم جيداً]: (يا أخي تعال عندنا واترك الكويت فنحن أحوج لأمثالك!).

الغريب أن في الندوة تكلم النفيسي عن مشكلة الندرة السكانية في دول الخليج (الإمارات على وجه التحديد) وعن استيراد عمالة أجنبية بكثرة، مما رجح الكفّة لصالح الوافدين الأجانب وجعلهم أغلبية كبيرة (large majority) فسأله د.سيف غباش ما الحل لمعالجة هذه المشكلة؟ فقال النفيسي: (الحل في اليمن، فاليمن فيه كثافة بشرية وفي الوقت نفسه اليمن قريب جغرافياً. لماذا لا تعمل الإمارات على استيراد العمالة اليمنية وهي عمالة أثبتت نجاحها في ميتشيجان "ديترويت" في الولايات المتحدة، وفي شيفيلد في إنجلترا، وثقافة اليمني وعاداته وأخلاقه ودينه ولغته قريبة جداً من المجتمع الخليجي، والبديل اليمني قطعًا أفضل من الكم الهائل من الفلبينيين والهنود والكوريين وغيرهم إلخ ...).

طيب ماذا كان الرد على المُقترح؟ يكمل النفيسي: (انشرح الدكتور سيف للفكرة وتحمس لها، ووعد بتفعيلها وطرحها على الشيخ زايد، وأظن أنه فعل، وأن الشيخ زايد وافق على هذا الحل كما علمت لاحقاً).

فأظن أن توطين الجالية اليمانية –الذي حصل في وقتٍ لاحق في الإمارات- كان على ضوء اقتراح النفيسي هذا.
وأيضًا كما يظهر من خلال الكتاب، أن من ينهمك في السياسة قد يزهد بشكلٍ أو بآخر في الأدب، أنا أرى ذلك ماثلًا في نفسي، كلما أكثرت القراءة في الفكر أو السياسة ابتعدتُ تدريجيًا عن الأدب الروائي، وقد رأيت أن هذا الزهد في ظل الحرارة السياسية قد يكون حاضرًا لدى غيري كذلك، مثل كلام النفيسي هذا: (تداولت مع د. سيف عدة مواضيع من ضمنها إعادة النظر كليًا في هيكل جامعة العين وتخصصاتها وكلياتها، فلسنا في الخليج –كل الخليج- بحاجة لدراسة شعر الغزل في العصر العباسي حتى نستورد المختصين بالغزل أو حتى الأدب والفن. هذه ميادين لا تهتم بها المجتمعات والدول إلا إذا استكملت بنيتها التحتية والفوقية).

الأولولية غالبًا ما تبعد الأدب وتجعله على ضفاف الاهتمامات.

ويُلاحظ تغير أحكام النفيسي على الرموز والشخصيات مع تقدّم الزمن، ففي كتابه القديم (عندما يحكم الإسلام) تراه ينقل الإجماع على كفر الحكام، وأنهم نصبوا بدعم القوى الكافرة المتربصة بالإسلام، وفي نفس الكتاب تراه يقول عن جهيمان العتيبي (جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي ولإخوانه الأطهار الأبرار رحمهم الله وغفر لهم).

ولكن في كتاب (من أيام العمر الماضي) ترى الآية انقلبت، فهو يترحم على الحكام "الذين كفروا" (كالسادات وغيره) ويقول عن جيهمان (له عند الله ما يستحق)، وزد على ذلك حذف الكلام عن جهيمان في طبعة الكتابة الثالثة سنة 2011 فيما يبدو لي. وهنا لابد أن نفصل الشخصية عن مراحلها المتقدمة، فالنتاج الكلي هو ما استقرت عليه في ختام الأمر، وهو ينسخ ما سبق إن كان مخالفًا له. فالتغيّر قد لا يكون عيباً بحد ذاته، وإنما العيب قد يكون في كثرته.

وتكلم النفيسي أيضًا عن دخوله انتخابات مجلس الأمة (البرلمان الكويتي) وفوزه ودخوله برلمان عام 1985 الذي حُل، وكان الحل بسبب ضغوطات خارجية على الكويت واشتداد المعركة بين إيران والعراق، فلم تكن الكويت -حسب وصف النفيسي- تنقصها مشاكل داخلية، فكان الحل "غير الدستوري" محاولة منها لسد جهة ضغط داخلية للتفرغ لبقية الجبهات، والنفيسي في هذا الوقت تكلّم عن نقد ذاتي وقال إنه لم يكن هنالك داعٍ للضغط على الحكومة أكثر، وإن هذا الضغط حصل بسبب عدم وجود قنوات تواصل ومكاشفة حقيقية بين الحكومة والبرلمان، وأما التراجع الثاني قوله عن مرحلة البرلمان: (قراران في حياتي ندمت عليهما أيما ندم. الأول تركي دراسة الطب في مانشستر سنة 1962 والثاني: دخولي مجلس الأمة سنة 1985).

ثم طفق ينتقد أسلوب الحركات الإسلامية وأداءها السياسي، وهذا قد تطرق إليه بالتفصيل في كتابه (الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق)، وكذا في برنامج (المقابلة) مع قناة الجزيرة سنة 2017.

اللفتة الأبرز هو كلامه عن دواوين الإثنين، والديوان مجلس شعبي يجتمع فيه الناس للحوار والنقاش، وهو أشبه بالملتقى العام في بعض الدول الخليجية. أصبحت هذه الدواوين في الكويت بعد حل البرلمان سنة 1985 هي الملتقى لتوجيه رسائل السخط على قرار الحكومة، وأصبحت مكاناً لمعارضة قرار الحكومة. فعقدت الندوات واللقاءات ضد هذا الحل.

اللافت للانتباه الحادثة التي حسب وصف النفيسي جعلته يغسل يده من الجماهير، يقول: (فبدأت الحديث بالقول إن الأمير لا يحق له حل المجلس بالطريقة التي تمت؛ لأن ذلك الحل هو حل غير دستوري ولأنه لم يحدد موعداً للانتخابات -ستين يوماً- كما ينص الدستور، وهذا أمرٌ مرفوض ولا ينبغي أن نقبل به).

ماذا حدث بعد أن قال النفيسي كلامه هذا؟

يقول: (فجأة ظهر صوت في الخلف عند مدخل الديوان قائلًا: أنا النقيب هزاع الصلال من أمن الدولة أطلب منك دكتور عبد الله أن تكف الكلام. فقلت له: أنا ضيف عند جاسم القطامي وهذا ديوانه ولست ضيفاً عندك، وإذا طلب جاسم القطامي مني أن أكف عن الكلام فلا أمانع. فقال مندوب أمن الدولة لجاسم القطامي: أطلب من الدكتور عبد الله أن يكف عن الكلام. فقال لي جاسم القطامي: أكمل أبا مهند. فأكملت الحديث مواصلاً. فما كان من الصلال ومعه شرطيان إلا أن اخترقا الصفوف متوجهاً إلينا وعندما وصل إلينا طلب منّا مرافقته. الغريب في الأمر أن الجمهور كان متعاوناً مع الشرطة ومندوب أمن الدولة بطريقة وكأنها (تواطؤ)؛ لأنهم كانوا يفسحون الطريق لهم. ولم أسمع كلمة -مجرد كلمة!- احتجاج من هذا الجمهور الكثيف الذي قدّره جاسم القطامي فيما بعد بمفخر شويخ الصناعي بـ700 مواطن كويتي.. لا أخفي القارئ أن موقف الجمهور في ديوان القطامي وهو موقف سلبي للغاية اتجاه القضية واتجاه صاحب الديوانية الذي استضافهم لنصف قرن ولم يعترضوا حتى لفظاً على اعتقاله، دفعني للتفكير العميق في طبيعة الكويتيين وخلصت إلى قناعة: ليسعك بيتك!).

هذا الموقف يصلح كمقياس لشعوب الخليج كافة، فالشعب الكويتي هو الأوعى سياسياً والذي مارس السياسة عبر أحزاب وتكتلات، وكانت هنالك هوامش من الحرية غير موجودة في بقية الدول الخليجية. مما جعله الشعب الأوعى سياسياً، ومع ذلك خذلت الجموع النخبة في قضية هم يتفقون معها في مشروعيتها.

فالشعوب الخليجية من هذا النص ومن خلال مشاهدة عينية تتفق معك في المبدأ، ولكنها لا تمشي معك إلى نهاية الطريق. لياقتها ضعيفة، وهذا ما جعل جملة من النخب تشعر بالخذلان مما جعلهم ينكفئون على ذواتهم، ولا يطالبون بحقوق شعوب هي أول من يتخلى عنهم عند أول امتحان.

فشخّص كل التجارب السياسية في الدول الخليجية التي تحصل حدة الخصام بين الحكومة والمعارضة إلى ذروتها، وفتش عن الجمهور تجد النتيجة ماثلة أمام عينيك وهي أنهم انتقلوا من مرحلة التأييد إلى مرحلة التفرج، ربما الطائفة الوحيدة التي تُحامي عن نخبها هم الشيعة، وهذا مشاهد.

حسناً، الآن نرجع إلى اسم ذكره النفيسي وهو (الدكتور سيف غباش) وزير الخارجية الإماراتي. النفيسي يتكلم عن مرحلة تأسيس مجلس التعاون الذي أُنشى عام 1981 بينما الدكتور سيف غباش اغتيل سنة 1977! فلا يعقل أن يشارك النفيسي في ندوة عن مجلس التعاون في سنة 1983 ويلتقيه فيها الدكتور سيف بينما الدكتور سيف من المفترض أنه ميت قبلها بـ6 سنوات!

أيضًا لو رجعت إلى سلسلة (الصندوق الأسود) تجد شيئاً من هذا القبيل، فمثلًا تكلم عن لقائه مع الملا عمر في أفغانستان أواخر السبعينيات، ولكن الأرجح أنها حصلت في التسعينات، بدليل أنه في ندوة في سنة 2009 بعنوان (العرب قبل وبعد الحرب على غزة) ذكر تفاصيل متشابهة لهذا اللقاء، ولكن في الندوة تكملة وهي قوله: (أنا قابلت الملا عمر شخصياً وشرفت بذلك، وهو رجل ليس من هذا العصر، كان لا يستقبل الوفود الغربية يقول لهم اذهبوا إلى كابل قابلوا وزير الخارجية بينما أنا جالس هنا في قندهار)، فدلت هذه التكملة أن الملا عمر كان آنذاك أمير دولة ولديه وزير خارجية، وهذا لم يتحصل له إلا في مرحلة التسعينيات لا في أواخر السبعينيات التي كان فيها مجرد قائد عسكري عادي غير بارز، وهذا تجده في كتاب (حياتي مع الطالبان) للملا عبد السلام ضعيف سفير الطالبان في باكستان، وهو كتاب متوفر بالعربية بالمناسبة.

هذه النماذج تدل على أن الدكتور عبد الله مع تقدم العمر وكثرة الأحداث قد يخلط بين التواريخ والشخصيات أحياناً. وهذا أمر لا يسقط الشخص بالكلية؛ لأنه يحصل مع فطاحلة الحفّاظ، قد يقع لهم مثل هذا، فيحصل لديهم شيء من الاختلاط والوهم في الرواية، والمحدثون في تشخيصهم يقولون إن هذا مترادف مع الكبَر والتقدم في العمر في بعض الأحيان.

وأنا شخصياً قد جالست بعض كبار السن وسجلت لهم وهم يَروون شهاداتهم لبعض الأحداث والشخصيات التي مضت منذ وقتٍ بعيد، وقد رأيت أنهم يتذكرون الحدث ولكن يقع الوهم في تسمية المكان أو الشخص أو السنة، فمن خلال قراءات سابقة مؤرخة لا تلغي هذه الشهادة بل تعمل مقاربة لها من خلال ما هو مؤرشف في الوثائق والكتب التاريخية المعتمدة، فمن خلال أسلوب المقاربة بين الروايات تُثري الرواية التاريخية بدلًا من إلغائها جملة واحدة بحجة أن صاحبها يخلط أو يَهم في الأسماء أو السنوات.

وهذا يختلف جذريًا –بلا شك- عمن يكذب متعمداً أو يُدلّس متعمداً، فمثل هذا لا تؤخذ روايته ولا تقبل شهادته إلا اذا وافقت رواية غيره مثلما صنع سيد قطب في محاكمته لما استُدل عليه بأقوال أحد القياديين معه في التنظيم وهو علي عشماوي؛ فقال لا تقبل روايته إلا اذا وافقت رواية بقية القادة كما ذكر ذلك سامي جوهر في كتابه (الموتى يتكلمون).
*

النقطة الأخيرة من خلال الرحلة في سيرة الدكتور عبد الله النفيسي، هل غطى برنامج (الصندوق الأسود) أغلب ما في كتاب (من أيام العمر الماضي؟) الجواب: نعم بل زاد عليه الكثير من التفاصيل المهمة، فأسلوب السرد أكثر نجاعة وفاعلية في التوثيق من أسلوب الكتابة، لأن توجيه السؤال يقدح بالذاكرة في الرأس فيسترسل المجيب في الإجابة ويُطنب.

وهذا أسلوب متّبع في الغرب في كتابة المذكرات، يقول الشيخ عمر بن محمود في نص طويل: (كثير من الإخوة ممن يملكون معاناة أو تجربة مهمّة ولكن تمنعهم قدراتهم من الكتابة؛ فالطريقة المعاصرة هي طريقة جيّدة من أجل تجاوز هذا العجز، وتخليد هذه الذكريات لتاريخ وللأجيال، وهي كالتالي:

يحضر صاحب القضيّة التي يُراد كتابة مذكّراته أو ذكرياته أو الأحداث التي يريد أن يتكلّم بها، فيحضّر عند جلوسه من عندهم قدرة على كتابة الأسئلة، ويجلسون معه ويسألونه؛ مثلًا تبدأ بالتعريف بالشخصية: من أنت وما هي عائلتك وأين وُلدت، وهو يجيب ويتكلّم. هو لا يعرف الكتابة، هو يتكلّم كما نتكلّم نحن، وكأنه في جلسة انبساط، جلسة حديث عادية، فيتكلّم ويُسجّل له وهم يسمعون.

ثم هذه الأجوبة تنتج أسئلة؛ أنت سُجنت في أي يوم؟ من سجنك؟ هم يعرفون هذا، هو ليس في ذهنه قدرة على صياغة قصة. قد لا يكون قصّاصًا جيّدًا، وبعضهم عنده القدرة على القصّ يعني أن يتكلّم، فتُسجل له الساعات؛ مائة ساعة، مائتي ساعة، وبعد ذلك يأخذون هذه الأشرطة ويفرغونها على الورق. ويبدأ بعد ذلك الترتيب؛ هذه توضع هنا، هذه تُزال، هذه تُرتّب، هذه نقطة غير بيّنة ارجع اسأله السؤال، فيحضّرون هذا السؤال مرة أخرى، وبعد ذلك يكوّنون هذا الكتاب.

فالكتاب يخرج باسمه أنه ذكريات فلان. وهو لم يكتب، وإنما كتبه هؤلاء الصحفيون. عادةً هناك أناس في الغرب مختصون لهذا، وما أحد هناك من المشاهير سواء سياسي أو لاعب كرة قدم أو ممثّل إلا ويكتب مذكّراته بهذه الطريقة. لا يوجد عندهم أحد يأتي بمثل ما عندنا ويضع الكمبيوتر ويكتب مذكّراته ثم ينشرها، هذا لا وجود له، هذا انتهى عندهم) أهـ.

وكذا المذكرات فهي مهمة من حيث قراءتها ومهمة من حيث كتابتها لأهل التجربة، يقول عمر عبد الحكيم في شرحه لكتاب حرب المستضعفين: (فأنا أشجع الإخوة الذين يلمسون في أنفسهم هذه المبادرة، أن يبادروا للكتابة لأننا محتاجون إلى قوّاد يكتبون ويقرأون، من أحب الكتب إلي مذكرات الزعماء، مذكرات تشرشل، مذكرات ديجول، مذكرات الإسلاميين، مذكرات العلمانيين، مذكرات الملوك: مذكرات الملك حسين، مذكرات الملك الحسن، لأنها عصارة التاريخ، وعصارة التجارب) اهـ.

ثم هنالك نقاط وجدت في الكتاب لم يتطرق إليها في برنامج (الصندوق الأسود)، ولكن بعضها هامشي جداً ولا يؤثر، باستثناء نقطة مهمة جداً وأعدها من السقط، وهي لقاء النفيسي في لبنان لما كان طالباً مع المصري الغامض الذي كان يبيع الكرفتات (ربطات العنق)، والذي استضافه لاحقاً في منزله المتواضع جداً، ثم اتضح أن هذا الشخص ليس سوى قائد السرب في سلاح الجو المصري سابقاً اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف الذي كان له الدور الرئيس في انقلاب 23 يوليو 1952، وكان عضواً في مجلس قيادة الثورة وهو الذي قام بقيادة الفرقة التي حاصرت قصر رأس التين في الإسكندرية، ونجحت في إرغام الملك السابق فاروق على التنازل عن العرش. ولما بدأ هذا الأخير يسرد ذكرياته يقول النفيسي: (في حضرته كانت سياستي "دعه يتكلم" فهذا رجل مخزون بالخبرة والقوة والفروسية. ولو تركني على حريتي لأحضرت معي آله تسجيل لأستعيد ما كان يقوله عن انقلاب 23 يوليو 1952 وعن زملائه في مجلس قيادة الثورة إلخ ...).

ربما لم يتطرق إلى هذه النقطة رغم أهميتها أن عبد المنعم عبد الرؤوف قد كتب مذكراته في وقت لاحق بعنوان (أرغمت فاروق على التنازل عن العرش)، وقد نشرتها دار الزهراء للإعلام العربي. ولكن أحياناً يكون في الحوار ما هو غير موجود في الكتاب ويستفاد منه في تكميل المشهد، ومع ذلك لم تُذكر هذه الحادثة في البرنامج وأعدها هي السقط الوحيد.

تكلم النفيسي في خاتمة الكتاب عن غزو الكويت، وأن ما بعد التحرير، كُوّنت لجنة لتقصي الحقائق حول الغزو، وخلصوا إلى وجود مؤشرات متكررة نقلها بعض السفراء وغيرهم إلى القيادة الكويتية تحذرهم جدياً من حصول الغزو وأن هذا الغزو لم يحدث فجأة، الأمر الذي استغربه النفيسي هو ما قاله (لم يقص أحد من المسؤولين عن منصبه ولم يحاسب ولم يحاكم؛ بل عاد الجميع إلى ما كانوا عليه، لو حدث هذا في بلد غير الكويت لكان ما كان بعده؛ لكن ماذا نقول غير: الله المستعان على هذا الهوان).

وهذا مفارقة، فقد تجد في الدول الغربية لو ارتكب الوزير أو المسؤول خطئًا قد يستقيل أو يُحال الى الاستجواب والتحقيق، رغم أن هذا الخطأ قد يكون محدود الضرر، ولكن في الدول الخليجية أو العربية عموماً، قد تجد أن بعض المسؤولين قد تسبب إهمالهم في عدم الاستعداد والتحصن مما جعل الاحتلال يدخل بسهولة ويسقط الحكومة في ساعات، فخطأهم تسبب في احتلال بلد كامل، وما تلا ذلك من قتل واعتقال وتعذيب وانتهاك للأعراض ومآسٍ تجدها مؤرخة في مجموعة كبيرة من كتب التأريخ التي كتبها الكويتيون ولعل من أبرزها في نظري (الكويت وأيام الاحتلال) للمؤرخ محمد عبد الهادي جمال.

فمر حدث الغزو كمرور الكرام، فلا مساءلة –رغم تشكل لجنة أثبتت حصول الأخطاء- ولا استقالة ولا محاسبة؛ بل كما قال النفيسي (لم يُقصَ أحد من المسؤولين عن منصبه).

فهذه هي عقلية الحكومات العربية، والآن البعض يريد من وزير النقل أن يستقيل لأن قطارين تصادما، أو لحدوث حريق في أحد القطارات، فهذه دولة بأكملها احتلت ولم يُساءل أحد، وهؤلاء يريدون أن يُقيلوا الوزير من أجل حريق قطار!

ثم لم تكن هناك أصوات تحذر من دخول العراق فقط، بل كانت هنالك أصوات علنية لا تحتاج إلى رجل استخبارات بقدر ما تحتاج إلى باحث أو راصد، تقول إن أمريكا تسعى بقوة للدخول إلى جزيرة العرب، وأن هذا ضمن خطة استراتيجية أتى صدام حسين وطبقها على طبق من ذهب، وقد جمعها الدكتور سفر الحوالي –فرج الله عنه- في كتابه الشهير (وعد كسينجر) أو يعرف أحياناً بـ(كشف الغمة عن علماء الأمة).
هذا والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
‏١٥‏/١٢‏/٢٠١٩ ٩:٢٤ م‏
الناتو العربي والتحالفات العسكرية في المنطقة محمود جمال [حمّل العدد الجديد http://bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد http://bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة http://bit.ly/2vvtufk] مقدمة: نقلت وكالة "رويترز" منذ فترة عن مصادر مطلعة أن مصر نأت بنفسها عن الجهود الأمريكية لتشكيل "ناتو عربي" على غرار حلف شمال الأطلسي هدفه "التصدي" لسياسات طهران. ووفقا للمصادر، فإن مصر قد أبلغت قرارها للولايات المتحدة والأطراف الأخرى المعنية بالتحالف الأمني في الشرق الأوسط المقترح، قبل اجتماع عقد في الرياض. وأضافت أن القاهرة لم ترسل وفدها إلى الاجتماع الأخير الرامي لدفع الجهود التي تقودها واشنطن لجمع الحلفاء العرب في معاهدة أمنية وسياسية واقتصادية للتصدي لإيران. ونقلت الوكالة حسب مصادر بأن مصر انسحبت لتشككها في جدية المبادرة، فهي لم تر بعد خطة أولية تحدد ملامح هذا التحالف، ولأن وضع خطة مثل هذه ينطوي عليه خطر زيادة التوتر مع إيران. وحسب الوكالة، فإن الغموض المحيط بما إذا كان الرئيس ترامب سيفوز بولاية ثانية العام القادم، واحتمال أن يتخلى من يخلفه عن المبادرة عاملان ساهما في اتخاذ مصر القرار، فيما قال مصدر سعودي عن المبادرة "إنها لا تسير كما ينبغي". وتعمل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على وضع أسس لتشكيل "تحالف الاستراتيجي في الشرق الأوسط" (وهو الاسم الرسمي لما أطلق عليه "الناتو العربي")، الذي يفترض أن يشمل وفقا للمخططات الأمريكية ست دول خليجية عربية هي البحرين وقطر والكويت والإمارات وعمان والسعودية، إضافة إلى مصر والأردن. وقام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بجولة في هذه الدول مطلع العام، سعيا منه إلى التقريب بين الدول الثماني الأعضاء المحتملين في هذا التحالف. أولاً: الناتو العربي.. نشأة الفكرة استضافت مصر فعاليات التدريب المشترك «درع العرب -1» والذي نفذ لأول مرة بجمهورية مصر العربية في المدة من 3 – 16 نوفمبر 2018 بقاعدة محمد نجيب العسكرية، ومناطق التدريبات الجوية والبحرية المشتركة بنطاق البحر المتوسط. وشارك في التدريب عناصر من القوات البرية والبحرية والجوية وقوات الدفاع الجوي والقوات الخاصة لكلٍ من مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن، كما شاركت كل من (المغرب، لبنان) بصفة مراقب. وفي تعليقها على تدريبات “درع العرب 1” قالت وكالة رويترز الأمريكية7 : "إن التدريبات العسكرية المشتركة هي خطوة قد تتطور لتصبح معاهدة إقليمية لمكافحة النفوذ الإيراني المتنامي في منطقة الشرق الأوسط”. وأضافت: “أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدفع الدول الخليجية- جنبا إلى جنب مع كل من مصر والأردن- باتجاه تشكيل ما يطلق عليه بعض المسؤولين في البيت الأبيض بـ“الناتو العربي mesa الذي يتألف من الحلفاء في العالم السني، للوقوف يداً واحدة أمام القوة الإيرانية التي تسعى إلى التغلغل في المنطقة”. وكذلك مواجهة الحركات المسلحة التي تحمل أفكاراً جهادية بشكل عام. وكان نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، تيم ليندركينغ، قد قام خلال شهر سبتمبر 2018 بجولات دبلوماسية في الخليج، بهدف وضع الأسس لقمة تستضيفها الولايات المتحدة في شهر يناير المقبل لإطلاق تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي “ميسا” كمفهوم يحاكي حلف الناتو.8 وأوضح ليندركينغ في مقابلة مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية أنّ التحالف يضم الولايات المتحدة والدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان) إضافة لمصر والأردن. وقال ليندركينغ: إن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو استضاف لقاءً يجمع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحضير للقمة المزمع عقدها في يناير2019م، مُنَوهاً بأن هذه المحادثات لا تزال في مراحلها المبكرة وإذا وجدنا أن هناك حاجة إلى تغيير التواريخ، فسوف نتعاطى مع هذا الأمر بمرونة”. وأوضح ليندركينغ أن هذا التحالف “يعود لقمة الرياض في العام 2017 حين اتفق الجميع على أن الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي ستجتمع على أساس سنوي.. إضافة إلى الاهتمام المشترك وتطلع كلا الجانبين لبناء هذا التحالف (ميسا)، الذي سيقوم على أساس اتفاقية أمنية واقتصادية وسياسية تربط دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة ومصر والأردن”. وعلى الرغم من الخلافات الموجودة بين دول “مجلس التعاون” حالياً، قال ليندركينغ إنّ فكرة التحالف تكمن في كونه يبني درعاً قوياً وصلباً في وجه التهديدات ضد الخليج، وأشار في هذا الصدد إلى إيران وأيضاً إلى المخاوف المتعلقة بالشبكة العنكبوتية والهجمات على البنى التحتية وتنسيق عملية إدارة الصراعات من سوريا وصولاً إلى اليمن، مؤكداً على أنّ إيران تتصدر قائمة التهديدات. وأشار ليندركينغ إلى الأزمة داخل مجلس التعاون الخليجي والمتعلقة بقطر، وقال: “على المدى البعيد، وفي ظل التحالف الذي نصبو إليه، سيكون من الصعب خوض بلدين أو ثلاثة في التحالف مواجهة من هذا النوع.. لذا يمكننا مواصلة تطوير المفهوم والعمل على بعض الأسس، إلا أنّه في نهاية المطاف، ينبغي لنا أن نشهد رأباً للصدع “. ثانياً: التحالفات العسكرية بعد الربيع العربي: منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وإلى اليوم، لم تبارح فكرة إنشاء هيكل أمني إقليمي لمواجهة التهديدات الأمنية التي تواجه الدول والأنظمة الحاكمة عقول القادة العرب، وبرزت عدة محاولات منذ عام 2013م، وهي على النحو التالي: 1-الناتو الخليجي: وكانت تلك المحاولة بحلول نهاية عام 2013م، إذ طرحت دول الخليج مشروعاً للدفاع المشترك يضم دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى الأردن والمغرب، تحت قيادة سعودية ممثلة في الأمير متعِب بن عبد الله قائد الحرس الوطني السعودي في ذلك التوقيت. ولكن التحالف المقترح واجه مجموعة من العقبات التي أدت إلى فشله في النهاية، وذلك بداية من الخلافات السياسية داخل مجلس التعاون الخليجي، سواء على الموقف من حركة الإخوان المسلمين التي لا تراها الدولة القطرية تمثلاً تهديداً، وتراها الإمارات والسعودية تهديدا لنظاميهما، أو الموقف من إيران التي تراها السعودية والإمارات تهديداً عكس بقية أعضاء التحالف المقترحين خاصة دولة سلطنة عمان، مروراً بالمواقف المختلفة حول النظام السوري والفصائل السورية، ووصولاً إلى تردد الأردن والمغرب في دعم طموحات الرياض العسكرية رغم اصطفافهما ظاهريا مع الأخيرة، فضلاً عن التعقيدات التشغيلية المرتبطة بتباين المعدات العسكرية، واختلاف العقيدة القتالية، وعدم وجود أنظمة اتصالات قابلة للتشغيل المتبادل. 2- التحالف العربي لقيادة عاصفة الحزم: وهذا هو الاسم الذي استخدمته السعودية في الفترة الأولى (بين 25 مارس و21 أبريل عام 2015) من التدخل العسكري الذي قادته في اليمن، للإشارة للنشاط العسكري الذي تمثل بغارات جوية ضد جماعة الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح المتحالف معهم، والتي شنها تحالف من عشر دول بقيادة السعودية، إذ ضم التحالف إلى جانب السعودية كل من البحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والمغرب والسودان وباكستان؛ ثم أطلقت السعودية على العمليات اللاحقة لـ 21 أبريل 2015 اسم “عملية إعادة الأمل”. وشُكل التحالف بالأساس لمواجهة الحوثيين ومحاولة السيطرة على الأوضاع وعودة الحكومة الشرعية “حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي” للسيطرة على الأراضي اليمنية التي أصبحت تحت سيطرة جماعة الحوثيين؛ ولكن التحالف فشل في تحقيق مبتغاه، ولا يزال الحوثيون مسيطرين حتى الآن على معظم الأراضي اليمنية بما في ذلك العاصمة اليمنية صنعاء. جدير بالذكر أن السعودية كانت تعول في بداية إنشاء التحالف على الدور المصري وخصوصا التدخل العسكري البري وربما تصريح اللواء أحمد العسيري المتحدث السابق باسم قوات التحالف يدل علي هذا؛ إذ كشف “عسيري” أن السيسي عرض على السعودية وعلى التحالف أن تضع الحكومة المصرية قوات على الأرض، وأضاف أن الجيش المصري يشارك الآن مع قوات التحالف في الجهد البحري والجهد الجوي فقط، ولكن في ذلك الوقت كنا نتكلم عن 30 إلى 40 ألف جندي كقوة برية بالإضافة إلى القوات السعودية الموجودة على الحدود وغيرها من القوات التي ترغب في أن نتشارك في العمل البري. وأدى تراجع الجيش المصري آنذاك عن إرسال الجنود إلى اليمن إلى توتر في العلاقات بين مصر والسعودية، مما دفع السعودية إلى معاقبة النظام المصري اقتصاديا بإيقاف إمداد مصر بالمواد النفطية في عام 2016م. وترك تراجع الجيش المصري عن المشاركة البرية أثراً سلبياً على أداء التحالف في تحقيق أهدافه المرغوبة. وحتى تتدارك السعودية الموقف لجأت إل الجيش الباكستاني حتى يشارك بعدد من الجنود في التدخل البري العسكري في المعارك داخل اليمن، ولكن أبدى الجيش الباكستاني بعد ذلك تحفظه علي الأمر وطلب أن تكون مشاركته في التحالف فقط جوياً وبحرياً، مما دفع السعودية إلى اللجوء للدولة السودانية التي تمتلك جيشاً ليس علي مستوى الجيش المصري أو الجيش الباكستاني في الإمكانيات، وشاركت بالفعل دولة السودان وأرسلت قوات وجنودًا إلى الداخل اليمني للمشاركة في المعارك بين قوات التحالف وقوات الحوثيين ولكن إلى الآن تتلقى القوات السودانية خسائر كبيرة في صفوف جنودها، وبسبب ذلك تتعالى الدعوات في الداخل السوداني لسحب قواتها من الداخل اليمني للحفاظ علي أرواح جنودها، جدير بالذكر أيضا أن السعودية والإمارات استعانوا بقوات من المرتزقة “بلاك ووتر”، كي تقاتل في اليمن لمساعدة قوات الجيش اليمني التابع لحكومة “هادي” والقوات السودانية المشاركة في الحرب وذلك حسب دراسة صادرة عن “مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية”، التابع لجامعة “بار إيلان”. 3- القوة العربية المشتركة: في نهاية القمة العربية السادسة والعشرين التي انعقدت في شرم الشيخ في أبريل 2015، صدر بيان موحد عن تأسيس قوة عربية مشتركة لمواجهة تحديات الأمن الإقليمي. وكانت الدوافع الرئيسية وراء المبادرة العربية للقوة التي كان مقررا – وفقا لما أوردته مجلة فورين بوليسي– أن تضم 40 ألفا من جنود النخبة من مصر والأردن والمغرب والسعودية والسودان ودول الخليج، بما يشمل قوة جوية مكونة من ألف شخص، و5000 شخص لسلاح الخدمات البحرية، و35 ألفا من القوات البرية، على أن تتولى القاهرة التزويد بمعظم المقاتلين، وتتكفل الرياض بمصاريف القوة، واقترح أن يكون مقرها القاهرة وأن تخضع لقيادة سعودية أو التناوب على قيادتها بين القاهرة والرياض. ولكن مثلها مثل المحاولة السابقة لم تر القوة العربية النور بسبب الخلافات حول القيادة بين القاهرة والرياض من جهة، وبسبب الجدل حول الهدف من إنشاء القوة من جهة أخرى، وبسبب المعوقات اللوجستية من جهة ثالثة، وذهب المشروع إلى النسيان. 4- التحالف الإسلامي الذي شكل في 15 ديسمبر 2015 والذي تكون من 41 دولة، هي: السعودية، وأفغانستان، والإمارات العربية، والأردن، وأوغندا، وباكستان، والبحرين، وبروناي، وبنغلاديش، وبنين، وبوركينا فاسو، وتركيا، وتشاد، وتوغو، وتونس، وجيبوتي، وساحل العاج، والسنغال، والسودان، وسيراليون، والصومال، وسلطنة عمان، والغابون، وغامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، وفلسطين، وجزر القمر، والكويت، وقطر، ولبنان، وليبيا، والمالديف، ومالي، وماليزيا، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، والنيجر، ونيجيريا، واليمن. وأعلن وقتها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن هدف التحالف هو تنسيق الجهود ضد المتطرفين في العراق، وسوريا، وليبيا، ومصر، وأفغانستان. وتضمن بيان الإعلان أن أعضاء التحالف يتحالفون في أربعة مجالات لتنسيق جهودها في محاربة الإرهاب، وهي: 1ـ المجال الفكري: ويهدف إلى المحافظة على عالمية رسالة الإسلام، مع التأكيد على المبادئ والقيم الإسلامية، والتصدي لأطروحات الفكر الإرهابي، وإحداث الأثر الفكري والنفسي والاجتماعي لتصحيح المفاهيم الإرهابية المتطرفة. 2ـ المجال الإعلامي: ويهدف إلى الإسهام في تطوير وإنتاج ونشر محتوى تحريري واقعي، وعلمي، لاستخدامه في منصات التواصل والقنوات الإعلامية من أجل فضح وهزيمة الدعاية الإعلامية للجماعات المتطرفة. \ 3 – مجال محاربة تمويل الإرهاب: بالعمل على قطع تمويل الإرهاب وتجفيف منابعه، وتوفير الموارد الكافية لمحاربته، بجانب التواصل والتنسيق مع الجهات الدولية لملاحقة ممولي الإرهاب، وتمويل المبادرات التي تحاربه. 4ـ المجال العسكري: وفيه العمل على دعم التنسيق العسكري العملياتي بين الأعضاء لمواجهة الإرهاب، بجانب تدريب وتأهيل الوحدات الخاصة للدول الأعضاء المنخرطة في محاربة الإرهاب، وردع التنظيمات الإرهابية من خلال التنسيق العسكري لدول التحالف. ويقود هذا التحالف الآن الجنرال الباكستاني رحيل شريف، وتأسس مركز للتحالف في العاصمة السعودية الرياض، ولكن منذ نشأة هذا التحالف لم يقم بالدور المنوط به وأصبح اسماً فقط، ومن حين إلى آخر تجتمع قيادات تلك الدول لمناقشة تطورات الأوضاع في المنطقة، وربما كان السبب الأهم في عدم فعالية ذلك التحالف هو التنازع بين الرياض والقاهرة على قيادة التحالف، والذي أرغم الرياض في نهاية الأمر على المجيء بقائد باكستاني ليكون على رأس هذا التحالف، مما أدى إلى تخفيض تمثيل القاهرة في المؤتمرات السنوية الذي يعقدها التحالف في الرياض، فشاركت مصر في أول اجتماع للدول المشاركة في التحالف، في الرياض في مارس 2016م، ورأس الوفد المصري آنذاك رئيس الأركان السابق الفريق محمود حجازي. ولكن في اجتماع نوفمبر 2017، اكتفت مصر بحضور وفد بقيادة رئيس هيئة العمليات السابق ومساعد وزير الدفاع الحالي توحيد توفيق (5) وشاركه كل من اللواء ا.ح محمد صلاح مدير إدارة الأزمات، واللواء ا.ح طارق المالح، مساعد مدير المخابرات الحربية، وعميد ا.ح إيهاب الشيخ ملحق الدفاع المصري بالسعودية، ووزير مفوض خالد عزمي مدير إدارة مكافحة الاٍرهاب بوزارة الخارجية . وجاء هذا الاجتماع بعد تعيين رحيل شريف قائداً لهذا التحالف، حيث نقضت الرياض اتفاقها مع النظام المصري بأن قائد قوات التحالف في تلك الفترة سيكون مصرياً. وذهب البعض إلى أن السعودية لم تعط القيادة لمصر بسبب ضعف الدور المصري في عملية “عاصفة الحزم” بل تراجع الجيش المصري عن التدخل العسكري كما ذكرنا سابقاً. ثالثاً: بين المعوقات والإمكانيات على الرغم من أن تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ليست ملائمة لتشكيل مثل هذا التحالف وتُشكل تحدياً على أن يكون لهذا التحالف دور جاد وفعال، وخاصة في ظل الأزمة الخليجية ومحاصرة دولة قطر من كلٍ من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، وتداعيات قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، هذا بجانب تحدً آخر من الممكن أن يكون سبباً في عدم إمكانية تشكيل وتشغيل هذا التحالف المزعوم، وهو بحسب صحيفة “واشنطن تايمز” الأمريكية أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي لديها علاقات متميزة مع إيران؛ ففي الوقت الذي اتخذت السعودية والإمارات موقفاً متشدداً تجاه طهران، فإن الكويت تريد علاقات أفضل معها”. يضاف إلى ذلك أن سلطنة عمان لديها علاقات متميزة مع النظام الإيراني، وحتى بالنسبة لدولة الإمارات فهناك بعض الجهات بداخلها لها علاقات اقتصادية وتجارية حيوية مع إيران. كما أن الأزمة التي افتعلتها السعودية والإمارات ضد قطر، دفعت بالأخيرة إلى التقارب مع إيران وتركيا”. كما أن تركيا ترى تهديداً أمنياً لها في إقامة مثل هذا التحالف، على خلفية الدور الذي قيل إنه يمكن القيام به لدعم الوجود الكردي شمال سوريا، وهو ما يمثل تهديداً استراتيجيا لتركيا. وفي ظل التحالف القائم الآن بين تركيا وقطر، يصعب تصور أن تدخل قطر في تحالف لن ترضى عنه تركيا في الوقت الراهن، كما أن أمريكا أيضاً لن يمكنها دعم مثل هذا التحالف إذا عارضته تركيا صراحة. فيما تمثل إسرائيل تحدياً في إقامة أي تحالفات في المنطقة، ولكن إذا كان ذلك التحالف تحت المظلة الأمريكية فربما توافق إسرائيل لأنه سيراعي المصالح الإسرائيلية ولن يؤثر بأي شكل من الأشكال على أهدافها. أخيراً: إن فكرة الناتو العربي، رغم كل التحديات التي تواجهها، من داخل الدول التي يمكن أن تشارك فيها، أو من داخل طبيعة التطورات الإقليمية في المنطقة، فإن الجزء الأكبر من إمكانية تطبيق الفكرة، ولو مرحلياً يرتبط بالموقف الفعلي للولايات المتحدة، ومدى حرصها على ذلك في ظل حجم التأثير الذي تمارسه على الدول التي تستهدفها بالانضمام لهذا الكيان.
الناتو العربي والتحالفات العسكرية في المنطقة
محمود جمال



[حمّل العدد الجديد
http://bit.ly/2P55Bo6

هدية العدد
http://bit.ly/2Y2dbEm

الأعداد والهدايا السابقة
http://bit.ly/2vvtufk]

مقدمة:

نقلت وكالة "رويترز" منذ فترة عن مصادر مطلعة أن مصر نأت بنفسها عن الجهود الأمريكية لتشكيل "ناتو عربي" على غرار حلف شمال الأطلسي هدفه "التصدي" لسياسات طهران.

ووفقا للمصادر، فإن مصر قد أبلغت قرارها للولايات المتحدة والأطراف الأخرى المعنية بالتحالف الأمني في الشرق الأوسط المقترح، قبل اجتماع عقد في الرياض. وأضافت أن القاهرة لم ترسل وفدها إلى الاجتماع الأخير الرامي لدفع الجهود التي تقودها واشنطن لجمع الحلفاء العرب في معاهدة أمنية وسياسية واقتصادية للتصدي لإيران.

ونقلت الوكالة حسب مصادر بأن مصر انسحبت لتشككها في جدية المبادرة، فهي لم تر بعد خطة أولية تحدد ملامح هذا التحالف، ولأن وضع خطة مثل هذه ينطوي عليه خطر زيادة التوتر مع إيران.

وحسب الوكالة، فإن الغموض المحيط بما إذا كان الرئيس ترامب سيفوز بولاية ثانية العام القادم، واحتمال أن يتخلى من يخلفه عن المبادرة عاملان ساهما في اتخاذ مصر القرار، فيما قال مصدر سعودي عن المبادرة "إنها لا تسير كما ينبغي".

وتعمل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على وضع أسس لتشكيل "تحالف الاستراتيجي في الشرق الأوسط" (وهو الاسم الرسمي لما أطلق عليه "الناتو العربي")، الذي يفترض أن يشمل وفقا للمخططات الأمريكية ست دول خليجية عربية هي البحرين وقطر والكويت والإمارات وعمان والسعودية، إضافة إلى مصر والأردن.

وقام وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بجولة في هذه الدول مطلع العام، سعيا منه إلى التقريب بين الدول الثماني الأعضاء المحتملين في هذا التحالف.

أولاً: الناتو العربي.. نشأة الفكرة

استضافت مصر فعاليات التدريب المشترك «درع العرب -1» والذي نفذ لأول مرة بجمهورية مصر العربية في المدة من 3 – 16 نوفمبر 2018 بقاعدة محمد نجيب العسكرية، ومناطق التدريبات الجوية والبحرية المشتركة بنطاق البحر المتوسط. وشارك في التدريب عناصر من القوات البرية والبحرية والجوية وقوات الدفاع الجوي والقوات الخاصة لكلٍ من مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن، كما شاركت كل من (المغرب، لبنان) بصفة مراقب.

وفي تعليقها على تدريبات “درع العرب 1” قالت وكالة رويترز الأمريكية7 : "إن التدريبات العسكرية المشتركة هي خطوة قد تتطور لتصبح معاهدة إقليمية لمكافحة النفوذ الإيراني المتنامي في منطقة الشرق الأوسط”. وأضافت: “أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدفع الدول الخليجية- جنبا إلى جنب مع كل من مصر والأردن- باتجاه تشكيل ما يطلق عليه بعض المسؤولين في البيت الأبيض بـ“الناتو العربي mesa الذي يتألف من الحلفاء في العالم السني، للوقوف يداً واحدة أمام القوة الإيرانية التي تسعى إلى التغلغل في المنطقة”. وكذلك مواجهة الحركات المسلحة التي تحمل أفكاراً جهادية بشكل عام.

وكان نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، تيم ليندركينغ، قد قام خلال شهر سبتمبر 2018 بجولات دبلوماسية في الخليج، بهدف وضع الأسس لقمة تستضيفها الولايات المتحدة في شهر يناير المقبل لإطلاق تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي “ميسا” كمفهوم يحاكي حلف الناتو.8 وأوضح ليندركينغ في مقابلة مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية أنّ التحالف يضم الولايات المتحدة والدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان) إضافة لمصر والأردن.

وقال ليندركينغ: إن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو استضاف لقاءً يجمع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحضير للقمة المزمع عقدها في يناير2019م، مُنَوهاً بأن هذه المحادثات لا تزال في مراحلها المبكرة وإذا وجدنا أن هناك حاجة إلى تغيير التواريخ، فسوف نتعاطى مع هذا الأمر بمرونة”.

وأوضح ليندركينغ أن هذا التحالف “يعود لقمة الرياض في العام 2017 حين اتفق الجميع على أن الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي ستجتمع على أساس سنوي.. إضافة إلى الاهتمام المشترك وتطلع كلا الجانبين لبناء هذا التحالف (ميسا)، الذي سيقوم على أساس اتفاقية أمنية واقتصادية وسياسية تربط دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة ومصر والأردن”.

وعلى الرغم من الخلافات الموجودة بين دول “مجلس التعاون” حالياً، قال ليندركينغ إنّ فكرة التحالف تكمن في كونه يبني درعاً قوياً وصلباً في وجه التهديدات ضد الخليج، وأشار في هذا الصدد إلى إيران وأيضاً إلى المخاوف المتعلقة بالشبكة العنكبوتية والهجمات على البنى التحتية وتنسيق عملية إدارة الصراعات من سوريا وصولاً إلى اليمن، مؤكداً على أنّ إيران تتصدر قائمة التهديدات. وأشار ليندركينغ إلى الأزمة داخل مجلس التعاون الخليجي والمتعلقة بقطر، وقال: “على المدى البعيد، وفي ظل التحالف الذي نصبو إليه، سيكون من الصعب خوض بلدين أو ثلاثة في التحالف مواجهة من هذا النوع.. لذا يمكننا مواصلة تطوير المفهوم والعمل على بعض الأسس، إلا أنّه في نهاية المطاف، ينبغي لنا أن نشهد رأباً للصدع “.

ثانياً: التحالفات العسكرية بعد الربيع العربي:

منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وإلى اليوم، لم تبارح فكرة إنشاء هيكل أمني إقليمي لمواجهة التهديدات الأمنية التي تواجه الدول والأنظمة الحاكمة عقول القادة العرب، وبرزت عدة محاولات منذ عام 2013م، وهي على النحو التالي:


1-الناتو الخليجي: وكانت تلك المحاولة بحلول نهاية عام 2013م، إذ طرحت دول الخليج مشروعاً للدفاع المشترك يضم دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى الأردن والمغرب، تحت قيادة سعودية ممثلة في الأمير متعِب بن عبد الله قائد الحرس الوطني السعودي في ذلك التوقيت. ولكن التحالف المقترح واجه مجموعة من العقبات التي أدت إلى فشله في النهاية، وذلك بداية من الخلافات السياسية داخل مجلس التعاون الخليجي، سواء على الموقف من حركة الإخوان المسلمين التي لا تراها الدولة القطرية تمثلاً تهديداً، وتراها الإمارات والسعودية تهديدا لنظاميهما، أو الموقف من إيران التي تراها السعودية والإمارات تهديداً عكس بقية أعضاء التحالف المقترحين خاصة دولة سلطنة عمان، مروراً بالمواقف المختلفة حول النظام السوري والفصائل السورية، ووصولاً إلى تردد الأردن والمغرب في دعم طموحات الرياض العسكرية رغم اصطفافهما ظاهريا مع الأخيرة، فضلاً عن التعقيدات التشغيلية المرتبطة بتباين المعدات العسكرية، واختلاف العقيدة القتالية، وعدم وجود أنظمة اتصالات قابلة للتشغيل المتبادل.

2- التحالف العربي لقيادة عاصفة الحزم: وهذا هو الاسم الذي استخدمته السعودية في الفترة الأولى (بين 25 مارس و21 أبريل عام 2015) من التدخل العسكري الذي قادته في اليمن، للإشارة للنشاط العسكري الذي تمثل بغارات جوية ضد جماعة الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح المتحالف معهم، والتي شنها تحالف من عشر دول بقيادة السعودية، إذ ضم التحالف إلى جانب السعودية كل من البحرين والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والمغرب والسودان وباكستان؛ ثم أطلقت السعودية على العمليات اللاحقة لـ 21 أبريل 2015 اسم “عملية إعادة الأمل”.

وشُكل التحالف بالأساس لمواجهة الحوثيين ومحاولة السيطرة على الأوضاع وعودة الحكومة الشرعية “حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي” للسيطرة على الأراضي اليمنية التي أصبحت تحت سيطرة جماعة الحوثيين؛ ولكن التحالف فشل في تحقيق مبتغاه، ولا يزال الحوثيون مسيطرين حتى الآن على معظم الأراضي اليمنية بما في ذلك العاصمة اليمنية صنعاء.

جدير بالذكر أن السعودية كانت تعول في بداية إنشاء التحالف على الدور المصري وخصوصا التدخل العسكري البري وربما تصريح اللواء أحمد العسيري المتحدث السابق باسم قوات التحالف يدل علي هذا؛ إذ كشف “عسيري” أن السيسي عرض على السعودية وعلى التحالف أن تضع الحكومة المصرية قوات على الأرض، وأضاف أن الجيش المصري يشارك الآن مع قوات التحالف في الجهد البحري والجهد الجوي فقط، ولكن في ذلك الوقت كنا نتكلم عن 30 إلى 40 ألف جندي كقوة برية بالإضافة إلى القوات السعودية الموجودة على الحدود وغيرها من القوات التي ترغب في أن نتشارك في العمل البري.

وأدى تراجع الجيش المصري آنذاك عن إرسال الجنود إلى اليمن إلى توتر في العلاقات بين مصر والسعودية، مما دفع السعودية إلى معاقبة النظام المصري اقتصاديا بإيقاف إمداد مصر بالمواد النفطية في عام 2016م.

وترك تراجع الجيش المصري عن المشاركة البرية أثراً سلبياً على أداء التحالف في تحقيق أهدافه المرغوبة. وحتى تتدارك السعودية الموقف لجأت إل الجيش الباكستاني حتى يشارك بعدد من الجنود في التدخل البري العسكري في المعارك داخل اليمن، ولكن أبدى الجيش الباكستاني بعد ذلك تحفظه علي الأمر وطلب أن تكون مشاركته في التحالف فقط جوياً وبحرياً، مما دفع السعودية إلى اللجوء للدولة السودانية التي تمتلك جيشاً ليس علي مستوى الجيش المصري أو الجيش الباكستاني في الإمكانيات، وشاركت بالفعل دولة السودان وأرسلت قوات وجنودًا إلى الداخل اليمني للمشاركة في المعارك بين قوات التحالف وقوات الحوثيين ولكن إلى الآن تتلقى القوات السودانية خسائر كبيرة في صفوف جنودها، وبسبب ذلك تتعالى الدعوات في الداخل السوداني لسحب قواتها من الداخل اليمني للحفاظ علي أرواح جنودها، جدير بالذكر أيضا أن السعودية والإمارات استعانوا بقوات من المرتزقة “بلاك ووتر”، كي تقاتل في اليمن لمساعدة قوات الجيش اليمني التابع لحكومة “هادي” والقوات السودانية المشاركة في الحرب وذلك حسب دراسة صادرة عن “مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية”، التابع لجامعة “بار إيلان”.

3- القوة العربية المشتركة: في نهاية القمة العربية السادسة والعشرين التي انعقدت في شرم الشيخ في أبريل 2015، صدر بيان موحد عن تأسيس قوة عربية مشتركة لمواجهة تحديات الأمن الإقليمي. وكانت الدوافع الرئيسية وراء المبادرة العربية للقوة التي كان مقررا – وفقا لما أوردته مجلة فورين بوليسي– أن تضم 40 ألفا من جنود النخبة من مصر والأردن والمغرب والسعودية والسودان ودول الخليج، بما يشمل قوة جوية مكونة من ألف شخص، و5000 شخص لسلاح الخدمات البحرية، و35 ألفا من القوات البرية، على أن تتولى القاهرة التزويد بمعظم المقاتلين، وتتكفل الرياض بمصاريف القوة، واقترح أن يكون مقرها القاهرة وأن تخضع لقيادة سعودية أو التناوب على قيادتها بين القاهرة والرياض. ولكن مثلها مثل المحاولة السابقة لم تر القوة العربية النور بسبب الخلافات حول القيادة بين القاهرة والرياض من جهة، وبسبب الجدل حول الهدف من إنشاء القوة من جهة أخرى، وبسبب المعوقات اللوجستية من جهة ثالثة، وذهب المشروع إلى النسيان.

4- التحالف الإسلامي الذي شكل في 15 ديسمبر 2015 والذي تكون من 41 دولة، هي: السعودية، وأفغانستان، والإمارات العربية، والأردن، وأوغندا، وباكستان، والبحرين، وبروناي، وبنغلاديش، وبنين، وبوركينا فاسو، وتركيا، وتشاد، وتوغو، وتونس، وجيبوتي، وساحل العاج، والسنغال، والسودان، وسيراليون، والصومال، وسلطنة عمان، والغابون، وغامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، وفلسطين، وجزر القمر، والكويت، وقطر، ولبنان، وليبيا، والمالديف، ومالي، وماليزيا، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، والنيجر، ونيجيريا، واليمن. وأعلن وقتها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن هدف التحالف هو تنسيق الجهود ضد المتطرفين في العراق، وسوريا، وليبيا، ومصر، وأفغانستان.

وتضمن بيان الإعلان أن أعضاء التحالف يتحالفون في أربعة مجالات لتنسيق جهودها في محاربة الإرهاب، وهي:

1ـ المجال الفكري: ويهدف إلى المحافظة على عالمية رسالة الإسلام، مع التأكيد على المبادئ والقيم الإسلامية، والتصدي لأطروحات الفكر الإرهابي، وإحداث الأثر الفكري والنفسي والاجتماعي لتصحيح المفاهيم الإرهابية المتطرفة.

2ـ المجال الإعلامي: ويهدف إلى الإسهام في تطوير وإنتاج ونشر محتوى تحريري واقعي، وعلمي، لاستخدامه في منصات التواصل والقنوات الإعلامية من أجل فضح وهزيمة الدعاية الإعلامية للجماعات المتطرفة.
\

3 – مجال محاربة تمويل الإرهاب: بالعمل على قطع تمويل الإرهاب وتجفيف منابعه، وتوفير الموارد الكافية لمحاربته، بجانب التواصل والتنسيق مع الجهات الدولية لملاحقة ممولي الإرهاب، وتمويل المبادرات التي تحاربه.

4ـ المجال العسكري: وفيه العمل على دعم التنسيق العسكري العملياتي بين الأعضاء لمواجهة الإرهاب، بجانب تدريب وتأهيل الوحدات الخاصة للدول الأعضاء المنخرطة في محاربة الإرهاب، وردع التنظيمات الإرهابية من خلال التنسيق العسكري لدول التحالف.

ويقود هذا التحالف الآن الجنرال الباكستاني رحيل شريف، وتأسس مركز للتحالف في العاصمة السعودية الرياض، ولكن منذ نشأة هذا التحالف لم يقم بالدور المنوط به وأصبح اسماً فقط، ومن حين إلى آخر تجتمع قيادات تلك الدول لمناقشة تطورات الأوضاع في المنطقة، وربما كان السبب الأهم في عدم فعالية ذلك التحالف هو التنازع بين الرياض والقاهرة على قيادة التحالف، والذي أرغم الرياض في نهاية الأمر على المجيء بقائد باكستاني ليكون على رأس هذا التحالف، مما أدى إلى تخفيض تمثيل القاهرة في المؤتمرات السنوية الذي يعقدها التحالف في الرياض، فشاركت مصر في أول اجتماع للدول المشاركة في التحالف، في الرياض في مارس 2016م، ورأس الوفد المصري آنذاك رئيس الأركان السابق الفريق محمود حجازي.

ولكن في اجتماع نوفمبر 2017، اكتفت مصر بحضور وفد بقيادة رئيس هيئة العمليات السابق ومساعد وزير الدفاع الحالي توحيد توفيق (5) وشاركه كل من اللواء ا.ح محمد صلاح مدير إدارة الأزمات، واللواء ا.ح طارق المالح، مساعد مدير المخابرات الحربية، وعميد ا.ح إيهاب الشيخ ملحق الدفاع المصري بالسعودية، ووزير مفوض خالد عزمي مدير إدارة مكافحة الاٍرهاب بوزارة الخارجية . وجاء هذا الاجتماع بعد تعيين رحيل شريف قائداً لهذا التحالف، حيث نقضت الرياض اتفاقها مع النظام المصري بأن قائد قوات التحالف في تلك الفترة سيكون مصرياً. وذهب البعض إلى أن السعودية لم تعط القيادة لمصر بسبب ضعف الدور المصري في عملية “عاصفة الحزم” بل تراجع الجيش المصري عن التدخل العسكري كما ذكرنا سابقاً.

ثالثاً: بين المعوقات والإمكانيات

على الرغم من أن تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ليست ملائمة لتشكيل مثل هذا التحالف وتُشكل تحدياً على أن يكون لهذا التحالف دور جاد وفعال، وخاصة في ظل الأزمة الخليجية ومحاصرة دولة قطر من كلٍ من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، وتداعيات قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، هذا بجانب تحدً آخر من الممكن أن يكون سبباً في عدم إمكانية تشكيل وتشغيل هذا التحالف المزعوم، وهو بحسب صحيفة “واشنطن تايمز” الأمريكية أن بعض دول مجلس التعاون الخليجي لديها علاقات متميزة مع إيران؛ ففي الوقت الذي اتخذت السعودية والإمارات موقفاً متشدداً تجاه طهران، فإن الكويت تريد علاقات أفضل معها”. يضاف إلى ذلك أن سلطنة عمان لديها علاقات متميزة مع النظام الإيراني، وحتى بالنسبة لدولة الإمارات فهناك بعض الجهات بداخلها لها علاقات اقتصادية وتجارية حيوية مع إيران. كما أن الأزمة التي افتعلتها السعودية والإمارات ضد قطر، دفعت بالأخيرة إلى التقارب مع إيران وتركيا”.

كما أن تركيا ترى تهديداً أمنياً لها في إقامة مثل هذا التحالف، على خلفية الدور الذي قيل إنه يمكن القيام به لدعم الوجود الكردي شمال سوريا، وهو ما يمثل تهديداً استراتيجيا لتركيا. وفي ظل التحالف القائم الآن بين تركيا وقطر، يصعب تصور أن تدخل قطر في تحالف لن ترضى عنه تركيا في الوقت الراهن، كما أن أمريكا أيضاً لن يمكنها دعم مثل هذا التحالف إذا عارضته تركيا صراحة.

فيما تمثل إسرائيل تحدياً في إقامة أي تحالفات في المنطقة، ولكن إذا كان ذلك التحالف تحت المظلة الأمريكية فربما توافق إسرائيل لأنه سيراعي المصالح الإسرائيلية ولن يؤثر بأي شكل من الأشكال على أهدافها.

أخيراً:
إن فكرة الناتو العربي، رغم كل التحديات التي تواجهها، من داخل الدول التي يمكن أن تشارك فيها، أو من داخل طبيعة التطورات الإقليمية في المنطقة، فإن الجزء الأكبر من إمكانية تطبيق الفكرة، ولو مرحلياً يرتبط بالموقف الفعلي للولايات المتحدة، ومدى حرصها على ذلك في ظل حجم التأثير الذي تمارسه على الدول التي تستهدفها بالانضمام لهذا الكيان.
‏١٢‏/١٢‏/٢٠١٩ ٦:٢٣ م‏
العرب في تسع سنين بقلم: كرم الحفيان [حمّل العدد bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk] مقدمة تطل علينا في شهر ديسمبر الحالي من عام 2019م، وبالتحديد في اليوم السابع عشر الذكرى التاسعة لولادة أعظم ثورات العرب منذ قرن على الأقل، أعني ما عرف بالربيع العربي، في وقتٍ ظن فيه الكثيرون أن الثورة ماتت ولم يبق إلا القبر و مراسم الدفن الحزينة المصحوبة بأنهار الدموع والدماء والدمار المادي والنفسي، انتفضت الثورة حية في موجة ثانية هادرة وبنفس الاتجاه والتسلسل الجغرافي الممتد من الغرب للشرق، فالبداية كانت من الجزائر على حدود تونس، ثم الانتقال إلى السودان جنوب مصر، ثم الوصول إلى العراق ولبنان بجوار سورية. وبانضمام هذه البلاد والساحات الجديدة الكبيرة والهامّة لحضن الثورة، نستطيع أن نقول إن مخطط إحباط الشعوب المتطلعة للحرية عبر وحشية الأنظمة العسكرية وتدخل قوى الاحتلال العالمية لم يفلحا في تخويف من لم يثر سابقاً (دول الموجة الثانية) ولا في حسم ساحات الموجة الأولى (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ما يهمنا هنا هو رصد التغيرات الهائلة في البنية الاجتماعية والنفسية والفكرية للشعوب العربية الثائرة في تسع سنين، وقد لخصناها في تسع نقاط رئيسة وسنتناول في هذه المقالة النقاط الثلاث الأولى: 1 - ظاهرة البداوة الحديثة وانكسار العقيدة الجبرية 2 - تعرية آلة القمع الكبرى وحصن الأنظمة 3 - عودة العصبية القبلية والمناطقية 4- نشأة جيل في غياب تسلط الطغاة 5- فشل نظرية "تأديب" الشعوب بمصير العراق وسورية 6- وحدة الشعور والأمل بين الشعوب الثائرة 7 - انحسار الخطاب والمشاريع الطائفية 8- المراجعات الفكرية الميدانية وتلاقح الأفكار 9- كشف وزن وأداء التيارات العلمانية شعبياً وثورياً. 1- ظاهرة البداوة الحديثة وانكسار العقيدة الجبرية قال ابن خلدون واصفاً أهل المدن: "أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة... ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم.. قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والصبيان الذين هم عيالٌ على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة". وفي المقابل ذكر من صفات البدو أنهم "دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانبٍ في الطرق.. ويتوجسون للنبآت [أي الأصوات الخفية] والهيعات..واثقين بأنفسهم قد صار البأس لهم خلقاً والشجاعة سجيةً". وما أعنيه بالبداوة الحديثة هو تحول حمل السلاح واستخدامه إلى سجية وطبع عند شرائح واسعة ممن كانوا "مدنيين" في البلاد التي شهدت ثورات مسلحة ضد أنظمة الحكم، حتى في المناطق التي حدثت فيها تسوية ومصالحة مع الأنظمة. ونأخذ الحالة السورية كمثال، فهذه مناطق المصالحات، وفي مقدمتها محافظة درعا (مهد الثورة) وبعد مرور أكثر من عام على سيطرة النظام بمساعدة المحتلين الروس والإيرانيين عليها، وشنَّه لاعتقالات وتصفيات كثيرة في صفوف الثوار= تشهد هذه المناطق في الأشهر الأخيرة عمليات عسكرية شبه يومية ضد نقاط النظام وحواجزه العسكرية واغتيالات مستمرة لعملائه، إضافةً إلى تكرر حالة (الاشتباك أثناء محاولات الاعتقال)، التي تنتهي إما بقتلى وجرحي من الطرفين وأحياناً أسرى، وإما بفشل عملية الاعتقال بعد استنفار الثوار بأسلحتهم الخفيفة وتطويقهم لدوريات المداهمة وإخضاعها وأحياناً انتزاع أسلحتهم منهم، أو الانتشار الميداني للثوار المسلحين في الشوارع والطرق الرئيسة ومطالبتهم بالأسرى، وشنهم لهجمات في حال عدم إطلاق سراحهم. وهذا مؤشر مهم لتحول مجتمعي يبدو أنه في طريقه ليكون عميقاً وراسخاً في المناطق التي خرجت لسنوات عن سيطرة الأنظمة. وبعيداً عن هزيمة أو خيانة أو انحراف بعض الفصائل أو القيادات الثورية، وبغض النظر عن الاتفاقات الدولية، فإن قطاعات كبيرة من المجتمعات الثائرة ألفت استخدام السلاح وذاقت حلاوة الدفاع عن النفس والنيل ممن يعتدي عليها (البداوة الحديثة) وستنتج هذه المجتمعات لا محالة هياكل جديدة لمقاومة الاستبداد والاحتلال بالطرق الشرعية وفي طليعتها القوة المسلحة. وبالتزامن مع الحراك المسلح عادت الاحتجاجات الشعبية الواسعة المناهضة للنظام وللاحتلال الإيراني والروسي لواجهة الأحداث في الجنوب السوري، إضافة إلى الانتفاضات الشعبية الكبيرة الرافضة لعودة النظام لمحافظات الشرق السوري، لتؤكد جميع المعطيات السابقة على بدء انكسار العقيدة الجبرية التي طغت على الشعوب قبل الثورات، وملخصها أن الأنظمة الحاكمة قدر محتوم لا مفر ولا فكاك منه. 2- تعرية آلة القمع الكبرى وحصن الأنظمة قبل ثورات الربيع العربي، كان هناك اعتقاد عام عند جزء كبير من الشعوب إن لم يكن أغلبها أن مشكلة وأزمة بلادنا تكمن في فساد وعمالة مجموعة من الأشخاص تولوا مناصب الرئاسة أو الملك، إضافةً إلى الدائرة القريبة المحيطة بهم من أُسر أو شخصيات محدودة العدد. وكان هناك خوف عام وكره شديد للأجهزة الأمنية من شرطة ومباحث ومخابرات لظلمها وبطشها وتضييقها على الناس. أما الجيش فكان ينظر له من الكثيرين على أنه مؤسسة لا تتدخل في حياة الناس العامة، وما فيها من خلل وفساد فهو مقتصر أيضاً على أفراد وقادة، كأي مؤسسة أو شركة حكومية أو خاصة. أما وقد هلَّ الربيع العربي، فإن من بركاته إظهار حقيقة ووزن أعداء الشعوب والأمة. لقد أظهرت الثورة أن الجيوش هي أس البلاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأنها الحاكم الحقيقي باسم القوى العالمية المهيمنة، والحصن الحصين الأخير للأنظمة الفاسدة والعميلة، التي أصبحت مؤسسات كاملة عابثة بحياة وأمن ودين المواطنين، ولا يمكن اختزالها في أشخاص الرؤساء والحكومات الحاكمة. أمر آخر يضاف إلى رصيد الربيع العربي في تسع سنين، هو نسف الأسطورة القائلة إن هناك جيوشاً طائفية في بعض الدول كسورية والعراق، وجيوشاً غير طائفية في دول أخرى كمصر وليبيا وغيرهما، والحقيقة أن الجيوش العربية المعاصرة خاصةً في الدول الكبيرة والمؤثرة، هي طوائف كاملة مستقلة بذاتها، طوائف لها مبادئها ولوائحها وعقيدتها ومصالحها التي تقاتل من أجلها، ويقتل أفرادها حتى أقرب المقربين لهم عندما تأتيهم الأوامر العليا. وفي هذا السياق، لا يفوتنا أن نثني على الأحرار الأباة الذين انشقوا عن هذه الجيوش المجرمة، وانحازوا لأهلهم وشعبهم، وكان لهم دور معنوي وفعلي هام في التصدي لإجرامها في سورية وليبيا وغيرهما، جزاهم الله خيراً وكتب الله أجرهم. 3- تفعيل العصبية القبائلية والمناطقية منذ قيامها بعد الرحيل الشكلي للاستعمار في القرن الماضي، حرصت الأنظمة العربية المتعددة على تفتيت المجتمع إلى أفراد، وتمزيق أي روابط مجتمعية قوية متصلة بجغرافيا واحدة، وعلى رأسها روابط الدم والرحم، خاصةً في العواصم والمدن الكبرى، لعلمها بمتانة وتماسك هذه الرابطة وقدرتها على تحقيق توازن قوى مع السلطة الحاكمة، ولا يخفى الدور التاريخي الكبير للقبائل في الحضارة الإسلامية منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام فالخلفاء الراشدون مروراً بالحقبة الأموية فالعباسية ثم العثمانية وصولاً إلى القبائل المقاومة للاستعمار من الشام للمغرب في القرن العشرين. وفي أثناء سني الثورات، رأينا قدرة الجيوش المنظمة (وأحياناً الأجهزة الأمنية فقط) على تفريق الحشود الجماهيرية المليونية الضخمة وصعوبة تجميعها بنفس الزخم من جديد لعدم وجود رابط مشبك لملايين الأفراد وضامن لتضامنهم في المدلهمات، في ما رأينا قدرة أكبر للعصبيات القبائلية والارتباطات المناطقية الأقل عدداً على اتخاذ قرار مواجهة الجيوش والتسلح لطردها من مدنها وأريافها. ظهر هذا بقوة مع القبائل الليبية حين أيدت الثورة على القذافي وقاتلته، ثم الثورة السورية التي كانت شرارة انطلاقتها انتفاضة عشائر درعا عقب إهانة وفدها المطالب بإطلاق سراح الأطفال المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية، ثم دور العشائر العراقية السنية ومسلحيها في "ثورة المحافظات الست" بين عامي 2012 و2014م، وما نتج عنها من السيطرة على عدة مدن عراقية عقب طرد قوات الحكومة المركزية وريثة الاحتلال الأمريكي، ومثله يقال في قبائل اليمن، وحتى في قبائل سيناء. بيد أنه بقيت ثلاث مسائل محورية في موضوع القبائلية والمناطقية: 1- عدم بروز قيادات قبائلية أو مناطقية قوية تحمل طموحاً ومشروعاً سياسياً 2- تفرق القبائل والمناطق وتناحرها 3- "أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة". العبارة الأخيرة لابن خلدون وإن كانت قيلت في البدو إلا أنه باستنطاق التاريخ تنطبق على سائر العرب، والنبوة قد ختمت، وبقيت الولاية والأثر الديني العظيم اللازم لقيامة العرب المسلمين وتحررهم الحقيقي من الاحتلال الخارجي وموظفيه في الداخل. خاتمة قرن وبضعة أعوام مرت على ما سميت بالثورة العربية الكبرى، تلك التي استهدفت نفوذ الدولة العثمانية وأسهمت في إطلاق رصاصة الرحمة على آخر رمز سياسي وحضاري جامع للمسلمين، بتحريض وتخطيط غربي وعلى وجه التحديد إنجليزي، لتقوم بعده دول قومية حامية لمصالح الغرب وقاهرة لشعوبها ومحاربة لدينها. قامت الثورة العربية الحقيقية منذ تسع سنين، وهي كبرى بحق، وما زال لديها الكثير لتقدمه، وهذه المقالة وما بعدها، هي محاولة لتسليط الضوء على التغيرات الاجتماعية والنفسية العميقة التي أحدثتها هذه الثورات في الشعوب الثائرة وغيرها، والتي ربما لا تظهر لمن يحصر تركيزه في مراقبة الأحداث العامة ومواكبة التطورات الميدانية والسياسية اليومية.
العرب في تسع سنين


بقلم: كرم الحفيان

[حمّل العدد
bit.ly/2P55Bo6

هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm

الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk]

مقدمة

تطل علينا في شهر ديسمبر الحالي من عام 2019م، وبالتحديد في اليوم السابع عشر الذكرى التاسعة لولادة أعظم ثورات العرب منذ قرن على الأقل، أعني ما عرف بالربيع العربي، في وقتٍ ظن فيه الكثيرون أن الثورة ماتت ولم يبق إلا القبر و مراسم الدفن الحزينة المصحوبة بأنهار الدموع والدماء والدمار المادي والنفسي، انتفضت الثورة حية في موجة ثانية هادرة وبنفس الاتجاه والتسلسل الجغرافي الممتد من الغرب للشرق، فالبداية كانت من الجزائر على حدود تونس، ثم الانتقال إلى السودان جنوب مصر، ثم الوصول إلى العراق ولبنان بجوار سورية.
وبانضمام هذه البلاد والساحات الجديدة الكبيرة والهامّة لحضن الثورة، نستطيع أن نقول إن مخطط إحباط الشعوب المتطلعة للحرية عبر وحشية الأنظمة العسكرية وتدخل قوى الاحتلال العالمية لم يفلحا في تخويف من لم يثر سابقاً (دول الموجة الثانية) ولا في حسم ساحات الموجة الأولى (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
ما يهمنا هنا هو رصد التغيرات الهائلة في البنية الاجتماعية والنفسية والفكرية للشعوب العربية الثائرة في تسع سنين، وقد لخصناها في تسع نقاط رئيسة وسنتناول في هذه المقالة النقاط الثلاث الأولى:
1 - ظاهرة البداوة الحديثة وانكسار العقيدة الجبرية
2 - تعرية آلة القمع الكبرى وحصن الأنظمة
3 - عودة العصبية القبلية والمناطقية
4- نشأة جيل في غياب تسلط الطغاة
5- فشل نظرية "تأديب" الشعوب بمصير العراق وسورية
6- وحدة الشعور والأمل بين الشعوب الثائرة
7 - انحسار الخطاب والمشاريع الطائفية
8- المراجعات الفكرية الميدانية وتلاقح الأفكار
9- كشف وزن وأداء التيارات العلمانية شعبياً وثورياً.

1- ظاهرة البداوة الحديثة وانكسار العقيدة الجبرية
قال ابن خلدون واصفاً أهل المدن: "أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة... ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم.. قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والصبيان الذين هم عيالٌ على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة". وفي المقابل ذكر من صفات البدو أنهم "دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانبٍ في الطرق.. ويتوجسون للنبآت [أي الأصوات الخفية] والهيعات..واثقين بأنفسهم قد صار البأس لهم خلقاً والشجاعة سجيةً".
وما أعنيه بالبداوة الحديثة هو تحول حمل السلاح واستخدامه إلى سجية وطبع عند شرائح واسعة ممن كانوا "مدنيين" في البلاد التي شهدت ثورات مسلحة ضد أنظمة الحكم، حتى في المناطق التي حدثت فيها تسوية ومصالحة مع الأنظمة.
ونأخذ الحالة السورية كمثال، فهذه مناطق المصالحات، وفي مقدمتها محافظة درعا (مهد الثورة) وبعد مرور أكثر من عام على سيطرة النظام بمساعدة المحتلين الروس والإيرانيين عليها، وشنَّه لاعتقالات وتصفيات كثيرة في صفوف الثوار= تشهد هذه المناطق في الأشهر الأخيرة عمليات عسكرية شبه يومية ضد نقاط النظام وحواجزه العسكرية واغتيالات مستمرة لعملائه، إضافةً إلى تكرر حالة (الاشتباك أثناء محاولات الاعتقال)، التي تنتهي إما بقتلى وجرحي من الطرفين وأحياناً أسرى، وإما بفشل عملية الاعتقال بعد استنفار الثوار بأسلحتهم الخفيفة وتطويقهم لدوريات المداهمة وإخضاعها وأحياناً انتزاع أسلحتهم منهم، أو الانتشار الميداني للثوار المسلحين في الشوارع والطرق الرئيسة ومطالبتهم بالأسرى، وشنهم لهجمات في حال عدم إطلاق سراحهم.
وهذا مؤشر مهم لتحول مجتمعي يبدو أنه في طريقه ليكون عميقاً وراسخاً في المناطق التي خرجت لسنوات عن سيطرة الأنظمة.
وبعيداً عن هزيمة أو خيانة أو انحراف بعض الفصائل أو القيادات الثورية، وبغض النظر عن الاتفاقات الدولية، فإن قطاعات كبيرة من المجتمعات الثائرة ألفت استخدام السلاح وذاقت حلاوة الدفاع عن النفس والنيل ممن يعتدي عليها (البداوة الحديثة) وستنتج هذه المجتمعات لا محالة هياكل جديدة لمقاومة الاستبداد والاحتلال بالطرق الشرعية وفي طليعتها القوة المسلحة.
وبالتزامن مع الحراك المسلح عادت الاحتجاجات الشعبية الواسعة المناهضة للنظام وللاحتلال الإيراني والروسي لواجهة الأحداث في الجنوب السوري، إضافة إلى الانتفاضات الشعبية الكبيرة الرافضة لعودة النظام لمحافظات الشرق السوري، لتؤكد جميع المعطيات السابقة على بدء انكسار العقيدة الجبرية التي طغت على الشعوب قبل الثورات، وملخصها أن الأنظمة الحاكمة قدر محتوم لا مفر ولا فكاك منه.
2- تعرية آلة القمع الكبرى وحصن الأنظمة
قبل ثورات الربيع العربي، كان هناك اعتقاد عام عند جزء كبير من الشعوب إن لم يكن أغلبها أن مشكلة وأزمة بلادنا تكمن في فساد وعمالة مجموعة من الأشخاص تولوا مناصب الرئاسة أو الملك، إضافةً إلى الدائرة القريبة المحيطة بهم من أُسر أو شخصيات محدودة العدد. وكان هناك خوف عام وكره شديد للأجهزة الأمنية من شرطة ومباحث ومخابرات لظلمها وبطشها وتضييقها على الناس.
أما الجيش فكان ينظر له من الكثيرين على أنه مؤسسة لا تتدخل في حياة الناس العامة، وما فيها من خلل وفساد فهو مقتصر أيضاً على أفراد وقادة، كأي مؤسسة أو شركة حكومية أو خاصة.
أما وقد هلَّ الربيع العربي، فإن من بركاته إظهار حقيقة ووزن أعداء الشعوب والأمة. لقد أظهرت الثورة أن الجيوش هي أس البلاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأنها الحاكم الحقيقي باسم القوى العالمية المهيمنة، والحصن الحصين الأخير للأنظمة الفاسدة والعميلة، التي أصبحت مؤسسات كاملة عابثة بحياة وأمن ودين المواطنين، ولا يمكن اختزالها في أشخاص الرؤساء والحكومات الحاكمة.
أمر آخر يضاف إلى رصيد الربيع العربي في تسع سنين، هو نسف الأسطورة القائلة إن هناك جيوشاً طائفية في بعض الدول كسورية والعراق، وجيوشاً غير طائفية في دول أخرى كمصر وليبيا وغيرهما، والحقيقة أن الجيوش العربية المعاصرة خاصةً في الدول الكبيرة والمؤثرة، هي طوائف كاملة مستقلة بذاتها، طوائف لها مبادئها ولوائحها وعقيدتها ومصالحها التي تقاتل من أجلها، ويقتل أفرادها حتى أقرب المقربين لهم عندما تأتيهم الأوامر العليا.
وفي هذا السياق، لا يفوتنا أن نثني على الأحرار الأباة الذين انشقوا عن هذه الجيوش المجرمة، وانحازوا لأهلهم وشعبهم، وكان لهم دور معنوي وفعلي هام في التصدي لإجرامها في سورية وليبيا وغيرهما، جزاهم الله خيراً وكتب الله أجرهم.
3- تفعيل العصبية القبائلية والمناطقية
منذ قيامها بعد الرحيل الشكلي للاستعمار في القرن الماضي، حرصت الأنظمة العربية المتعددة على تفتيت المجتمع إلى أفراد، وتمزيق أي روابط مجتمعية قوية متصلة بجغرافيا واحدة، وعلى رأسها روابط الدم والرحم، خاصةً في العواصم والمدن الكبرى، لعلمها بمتانة وتماسك هذه الرابطة وقدرتها على تحقيق توازن قوى مع السلطة الحاكمة، ولا يخفى الدور التاريخي الكبير للقبائل في الحضارة الإسلامية منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام فالخلفاء الراشدون مروراً بالحقبة الأموية فالعباسية ثم العثمانية وصولاً إلى القبائل المقاومة للاستعمار من الشام للمغرب في القرن العشرين.
وفي أثناء سني الثورات، رأينا قدرة الجيوش المنظمة (وأحياناً الأجهزة الأمنية فقط) على تفريق الحشود الجماهيرية المليونية الضخمة وصعوبة تجميعها بنفس الزخم من جديد لعدم وجود رابط مشبك لملايين الأفراد وضامن لتضامنهم في المدلهمات، في ما رأينا قدرة أكبر للعصبيات القبائلية والارتباطات المناطقية الأقل عدداً على اتخاذ قرار مواجهة الجيوش والتسلح لطردها من مدنها وأريافها.
ظهر هذا بقوة مع القبائل الليبية حين أيدت الثورة على القذافي وقاتلته، ثم الثورة السورية التي كانت شرارة انطلاقتها انتفاضة عشائر درعا عقب إهانة وفدها المطالب بإطلاق سراح الأطفال المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية، ثم دور العشائر العراقية السنية ومسلحيها في "ثورة المحافظات الست" بين عامي 2012 و2014م، وما نتج عنها من السيطرة على عدة مدن عراقية عقب طرد قوات الحكومة المركزية وريثة الاحتلال الأمريكي، ومثله يقال في قبائل اليمن، وحتى في قبائل سيناء.
بيد أنه بقيت ثلاث مسائل محورية في موضوع القبائلية والمناطقية:
1- عدم بروز قيادات قبائلية أو مناطقية قوية تحمل طموحاً ومشروعاً سياسياً
2- تفرق القبائل والمناطق وتناحرها
3- "أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة".
العبارة الأخيرة لابن خلدون وإن كانت قيلت في البدو إلا أنه باستنطاق التاريخ تنطبق على سائر العرب، والنبوة قد ختمت، وبقيت الولاية والأثر الديني العظيم اللازم لقيامة العرب المسلمين وتحررهم الحقيقي من الاحتلال الخارجي وموظفيه في الداخل.

خاتمة
قرن وبضعة أعوام مرت على ما سميت بالثورة العربية الكبرى، تلك التي استهدفت نفوذ الدولة العثمانية وأسهمت في إطلاق رصاصة الرحمة على آخر رمز سياسي وحضاري جامع للمسلمين، بتحريض وتخطيط غربي وعلى وجه التحديد إنجليزي، لتقوم بعده دول قومية حامية لمصالح الغرب وقاهرة لشعوبها ومحاربة لدينها.
قامت الثورة العربية الحقيقية منذ تسع سنين، وهي كبرى بحق، وما زال لديها الكثير لتقدمه، وهذه المقالة وما بعدها، هي محاولة لتسليط الضوء على التغيرات الاجتماعية والنفسية العميقة التي أحدثتها هذه الثورات في الشعوب الثائرة وغيرها، والتي ربما لا تظهر لمن يحصر تركيزه في مراقبة الأحداث العامة ومواكبة التطورات الميدانية والسياسية اليومية.
‏١٠‏/١٢‏/٢٠١٩ ٥:١٦ م‏
🔵 لمن فاته تحميل العدد الجديد (29)، ومعه هدية حصرية: مراجعات مهدي عاكف (كما رواها مع عزام التميمي). ⚫️ حمّل العدد bit.ly/2P55Bo6 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk
🔵 لمن فاته تحميل العدد الجديد (29)، ومعه هدية حصرية: مراجعات مهدي عاكف (كما رواها مع عزام التميمي).

⚫️ حمّل العدد
bit.ly/2P55Bo6
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏٠٨‏/١٢‏/٢٠١٩ ١٢:٣٧ م‏
أوراق شينجيانغ "لا رحمة على الإطلاق" ملفات مسرَّبة تكشف كيف نظَّمت الصين عمليات اعتقال جماعي للمسلمين -أكثر من أربعمائة صفحة من الوثائق الصينية الداخلية تتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على حملة قمع الأقليات العرقية في منطقة شينجيانغ. نيويورك تايمز كتبه: أوستن رمزي وكريس بكلي | 16 نوفمبر 2019 ترجمه: أسامة خالد هونغ كونغ - حجَز الطلاب تذاكر العودة إلى بيوتهم نهاية الفصل الدراسي وهم يأملون بعطلةٍ مريحة بعد الامتحانات وصيفٍ فيه لقاءٌ عائلي سعيد في أقصى غرب الصين. إلا أنهم سيُعلمون بدلاً من ذلك قريباً بأن أهليهم وأقاربهم قد اختفوا وأن جيرانهم مفقودون - جميعهم محبوسون في شبكة معسكرات اعتقالٍ تزداد اتساعاً وقد بُنيت لاحتجاز أقليات عرقية إسلامية. تشعر السلطات في منطقة شينجيانغ بالقلق من أن يكون الوضع هناك قنبلةً موقوتة.. ولذلك تأهَّبت. وزعت القيادة توجيهات سرية تنصح فيها الموظفين المحليين بالالتفاف على الطلاب العائدين بمجرد وصولهم وإسكاتهم. تضمَّنت التوجيهات دليلاً بيروقراطياً تقشعر له الأبدان عن كيفية التعامل مع أسئلتهم المعذبة، بدءاً بالسؤال الأكثر بداهة: "أين عائلتي؟" - تبدأ الإجابة المقررة: "إنهم في مدرسة تدريب مهني أنشأتها الحكومة". وإذا تعرض الموظفون للضغط فإنهم يخبرون الطلاب بأن أقاربهم ليسوا مجرمين، إلا أنهم لا يمكنهم مغادرة هذه "المدارس". - تضمَّن نص الأسئلة والأجوبة أيضاً تهديداً شبه صريح: يُبلغ الطلاب بأن سلوكهم يمكن أن يقصِّر أو يزيد مدة احتجاز أقاربهم. - يُنصَح الموظفون أن يقولوا: "أنا متأكد من أنك ستساندهم، لأن هذا لصالحهم.. ولصالحك أيضاً". كانت التوجيهات ضمن أربعمائة وثلاث صفحات من الوثائق الداخلية التي أُطلِعَت عليها صحيفة نيويورك تايمز في واحدة من أهم تسريبات الأوراق الحكومية من داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين منذ عقود. وتتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على التضييق المتواصل في شينجيانغ، حيث احتجزت السلطات ما يصل إلى مليون من الإيغور، والكازاخيين وغيرهم في معسكرات الاعتقال والسجون على مدى السنوات الثلاث الماضية. رَفَضَ الحزب الشيوعي الانتقادات الدولية للمعسكرات ووصَفَها بأنها مراكز تدريب مهني تستخدم أساليب معتدلة لمحاربة التطرف الإسلامي. إلا أن الوثائق تؤكد الطبيعة القسرية لحملة القمع من خلال كلمات وأوامر الموظفين أنفسهم الذين وضعوها ونظموها. حتى عندما عرضت الحكومة جهودها في شينجيانغ على الجمهور على أنها خيِّرة وعادية جداً، فقد ناقشت ونظمت حملة قاسية وغير عادية في مناسبات التواصل الداخلية هذه. كبارُ قادة الأحزاب يصوَّرون وهم يأمرون باتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة ضد العنف المتطرف – من ضمنها الاعتقالات الجماعية - ومناقشة العواقب بنوع من اللامبالاة الباردة. وأشارت التقارير إلى أن الأطفال رأوا أهليهم وهم يُقتادون بعيداً، وتساءل الطلاب عمن سيدفع الرسوم الدراسية، وأن المحاصيل الزراعية لم يكن بالإمكان زرعها أو حصادها بسبب نقص القوى العاملة. ومع ذلك، وُجِّه الموظفون لإخبار الأشخاص الذين اشتكوا بأن يشعروا بالامتنان للمساعدة التي يقدمها الحزب الشيوعي لهم وأن يصمتوا. تقدم الأوراق المسربة صورة ملفتة للنظر عن كيفية قيام الماكينة الخفية للدولة الصينية بتنفيذ أكثر حملات الاعتقال انتشاراً في البلاد منذ عهد ماو تسي تونغ. تشمل الأمور الرئيسية التي أُفشي عنها في المستندات ما يلي: • وضع الرئيس شي جين بينغ، رئيس الحزب، الأساس لحملة القمع في سلسلة من الخطابات التي ألقيت في جلسات مغلقة مع مسؤولين أثناء وبعد زيارةٍ إلى شينجيانغ في أبريل 2014، بعد أسابيع فقط من قيام مسلحين إيغور بطعن أكثر من مائة وخمسين شخصاً في محطة قطار.. قُتِل منهم واحد وثلاثون شخصاً. دعا السيد شي جين بينغ إلى "كفاح شامل ضد الإرهاب والاختراق والانفصالية" باستخدام "الأدوات الديكتاتورية"، والتعامل "بلا رحمة على الإطلاق. • أدت الهجمات الإرهابية في الخارج وتراجُع القوات الأمريكية في أفغانستان إلى زيادة مخاوف القيادة وساعدتا في صياغة حملة القمع. رأى مسؤولون أن الهجمات في بريطانيا ناتجة عن سياسات فيها "حقوق الإنسان مقدمة على الأمن"، وحثَّ السيد شي جين بينغ الحزب على محاكاة جوانب من "الحرب الأمريكية على الإرهاب" بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. • توسعت معسكرات الاعتقال في شينجيانغ بسرعة بعد تعيين تشن كوانغو المتعصب للحزب في أغسطس 2016 زعيماً جديداً على المنطقة. ووزَّع خطابات السيد شي جين بينغ لتبرير الحملة وحضَّ الموظفين على "إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه". • واجهت حملة القمع شكوكاً ومقاومة من الموظفين المحليين الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى استفحال التوترات العرقية وخنق النمو الاقتصادي. وردَّ السيد تشن كوانغو بتصفية الموظفين المشتبه بوقوفهم في طريقه، بمن فيهم زعيم المقاطعة الذي سُجن بعد أن أطلق آلاف السجناء من المعسكرات سرَّاً. تتكون الأوراق المسربة من أربعٍ وعشرين وثيقة، بعضها يحتوي على مواد مكررة. وتشمل هذه الأوراق حوالي مائتَي صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ وقادة آخرين، وأكثر من مائة وخمسين صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ. هناك أيضاً إشارات إلى خطط لتوسيع نطاق القيود المفروضة على الإسلام لتشمل أجزاء أخرى من الصين. تشمل الوثائق: - 96 صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ. - 102 صفحة من الخطابات الداخلية لمسؤولين آخرين. - 161 صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ. - 44 صفحة لمواد مأخوذة من تحقيقات داخلية مع موظفين محليين. بالرغم من عدم وضوح كيفية جمع الوثائق واختيارها، إلا أن التسريبات تشير إلى سخطٍ - أكبر مما كان معروفاً من قبل - داخل جهاز الحزب بسبب الحملة القمعية. كشف عن هذه الأوراق أحد أعضاء المؤسسة السياسية الصينية، وطلب عدم الكشف عن هويته، وعبَّر عن أمله في أن الكشف عن هذه الأوراق سيمنع قادة الأحزاب، بمن فيهم السيد شي جين بينغ، من الإفلات من المسؤولية عن الاعتقالات الجماعية. تقوم القيادة الصينية بعملية وضع السياسات بسريَّة، خاصة عندما يتعلق الأمر بشينجيانغ، وهي منطقة غنية بالموارد وتقع على الحدود الحساسة مع باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى. تشكل الأقليات العرقية ذات الأغلبية المسلمة أكثر من نصف سكان المنطقة البالغ عددهم خمسٌ وعشرون مليون نسمة. وأكبر هذه المجموعات هم الإيغور الذين يتحدثون لغةً تركية ويعانون منذ فترة طويلة من التمييز في المعاملة ومن القيود المفروضة على أنشطتهم الثقافية والدينية. سعت بكين لعقود إلى قمع المقاومة الإيغورية للحكم الصيني في شينجيانغ. وبدأت حملة القمع الحالية بعد موجة من العنف ضد الحكومة والصين، ومن ضمنها أعمال الشغب العرقية عام 2009 في مدينة أورومتشي - العاصمة الإقليمية - وهجوم في مايو 2014 في أحد الأسواق قُتل فيه تسعة وثلاثون شخصاً قبل أيام من عقد السيد شي جين بينغ مؤتمراً للقيادة في بكين لرسم مسار سياسي جديد في شينجيانغ. منذ عام 2017، احتجزت السلطات في شينجيانغ مئات الآلاف من الإيغور والكازاخيين وغيرهم من المسلمين في معسكرات الاعتقال. يخضع السجناء لأشهر أو سنوات من التلقين العقائدي والاستجواب بهدف تحويلهم إلى مؤيدين علمانيين وموالين للحزب. التوجيهات المتعلقة بكيفية التعامل مع طلاب الأقليات العائدين إلى شينجيانغ في صيف عام 2017 تقدِّمُ المناقشةَ الأكثر تفصيلاً - من بين أربع وعشرين وثيقة – بخصوص معسكرات التلقين العقائدي، وتُعَدُّ المثالَ الأوضح للطريقة المنظمة تنظيماً صارماً والتي يروي فيها الحزب للناس قصةً ما.. بينما يحشد داخل منظومته لأحداث أقسى بكثير. حتى عندما تنصح الوثيقة الموظفين بإبلاغ الطلاب بأن أقاربهم يتلقون "علاجاً" بسبب تعرضهم للإسلام الراديكالي، فإن عنوانها يشير إلى أفراد الأسرة الذين "يُتعامَل معهم"، أو'chuzhi'، وهي كناية تستخدم في وثائق الحزب ويُقصَد بها 'يعاقبون'. كتب الموظفون في توربان، وهي مدينة في شرق شينجيانغ، نصَّ الأسئلة والأجوبة بعد أن حذرت الحكومة الإقليمية الموظفين المحليين للاستعداد للطلاب العائدين. وقامت الوكالة القائمة على تنسيق الجهود "للحفاظ على الاستقرار" في شينجيانغ بتوزيع الدليل في جميع أنحاء المنطقة وحثت الموظفين على استخدامه كنموذج. تُرسل الحكومة أذكى الشباب الإيغور من شينجيانغ إلى الجامعات في جميع أنحاء الصين، بهدف تدريب جيل جديد من موظفين حكوميين ومدرسين إيغور ولاؤهم للحزب. تُظهِر التوجيهات أن الحملة كانت واسعة النطاق لدرجة أنها أثرت حتى على هذه النُخب من الطلاب.. وهذا ما جعل السلطات متوترة. وأشارت التوجيهات إلى أن "الطلاب العائدين من أرجاء الصين الأخرى لديهم روابط اجتماعية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وفي اللحظة التي يُبدون فيها آراء خاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي"WeChat" و"Weibo" ومنصات أخرى للتواصل الاجتماعي، سيكون التأثير واسع النطاق وسيصعب القضاء عليه". - حذرت الوثيقة من أن هناك "احتمالاً خطيراً" أن يقع الطلاب في حالة من "الاضطراب" بعد معرفة ما حدث لأقاربهم. وأوصت أن يلتقي بهم رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية وموظفون محليون من ذوي الخبرة بمجرد عودتهم "لإبداء قلقهم وعطفهم وللتأكيد على الالتزام بالقواعد". - تبدأ التوجيهات المتعلقة بدليل الأسئلة والأجوبة بلطف، حيث يُنصَح الموظفون بإخبار الطلاب بأن "لا داعي للقلق مطلقاً" بشأن الأقارب الذين اختفوا. - أُخبِر الموظفون بأن يقولوا: "الرسوم الدراسية لفترة دراستهم مجانية وكذلك تكاليف الإطعام والمعيشة، ويتمتعون بمستوىً معيشيٍّ عالٍ جداً" قبل أن يضيفوا أن السلطات تنفق أكثر من ثلاث دولارات في اليوم على وجبات الطعام لكل معتقل، وذلك "أفضل من مستويات المعيشة لبعض الطلاب في بلادهم". - وتنتهي الإجابة على النحو التالي: "إذا كنت ترغب في رؤيتهم، فيمكننا اتخاذ الترتيبات اللازمة لعقد اجتماع مصوَّر عبر الانترنت". ومع ذلك، توقعت السلطات أن من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تهدئة الطلاب وقدَّمت ردوداً على سلسلة من الأسئلة الأخرى: متى سيُطلَق سراح أقاربي؟ إذا كان هذا للتدريب، فلماذا لا يمكنهم العودة إلى المنزل إذاً؟ هل يمكنهم طلب إجازة؟ كيف سأدفع تكاليف المدرسة إن كان والداي يدرُسان ولم يكن هناك أحد يعمل في المزرعة؟ أوصى الدليل بردود حازمة على نحو متزايد تخبر الطلاب أن أقاربهم قد "أصيبوا" بفيروس التطرف الإسلامي ويجب عزلهم ومعالجتهم. ووُجِّه الموظفون بأن يقولوا حتى الأجداد وأفراد الأسرة الذين كان يبدو أنهم أكبر سناً من أن يستطيعوا ممارسة العنف لم يكن إعفاؤهم ممكناً. وذُكر في إحدى الإجابات، مع الاستشهاد بالحرب الأهلية في سوريا وظهور تنظيم الدولة الإسلامية: "إن لم يُدرّبوا ويُدرَّسوا، فلن يفهموا تماماً وبشكل كامل مخاطر التطرف الديني.. بغضِّ النظر عن العمر، يجب على أي شخص مصاب بالتطرف الديني أن يُدرَّس". وقالت الوثيقة إن الطلاب يجب أن يكونوا ممتنين للسلطات لإبعادها أقاربَهم. وذُكِر في إحدى الإجابات: "قدِّروا قيمة هذه الفرصة للتعليم المجاني التي قدَّمها الحزب والحكومة للقضاء التام على التفكير الخاطئ، وكذلك تَعلُّم المهارات المهنية واللغة الصينية إن هذا يوفر أساساً رائعاً لحياة سعيدة لعائلتك". يبدو أن السلطات تستخدم نظام تسجيل النقاط لتحديد الأشخاص الذين يمكن إطلاق سراحهم من المعسكرات: حَوَت الوثيقة تعليمات للموظفين بإخبار الطلاب بأن سلوكهم قد يضر سجل نقاط أقاربهم، وحوت تعليمات بتقييم السلوك اليومي للطلاب وتسجيل حضورهم في الدورات التدريبية والاجتماعات وغيرها من الأنشطة. - أُخبِر للموظفين بأن يقولوا: "يجب أن يلتزم أفراد الأسرة، بمن فيهم أنت، بقوانين الدولة وأنظمتها، وألا يصدِّقوا أو ينشروا الشائعات.. عند ذلك فقط يمكنك إضافة نقاط لأفراد أسرتك، وبعد فترة تقييم يمكنهم مغادرة المدرسة إذا استوفوا معايير إكمال الدورة". - نُصِح الموظفون إن سئلوا عن تأثير عمليات الاحتجاز على الشؤون المالية للأسرة أن يطمئنوا الطلاب أن "الحزب والحكومة سيبذلان قصارى جهدهما لتخفيف الصعوبات التي تواجههم". - ومع ذلك، قد تكون العبارة الأكثر بروزاً في النص هي الإجابة النموذجية على كيفية الرد على الطلاب الذين يسألون عن أقاربهم المحتجزين، "هل ارتكبوا جريمة؟" - حوت الوثيقة تعليمات للموظفين بالإقرار بأن أقارب الطلاب لم يفعلوا ذلك. وجاء في نص الوثيقة: "الأمر وما فيه أن تفكيرهم انتقلت إليه أفكارٌ غير سليمة". - "الحرية ممكنة فقط عندما يُقضى على هذا "الفيروس" في تفكيرهم ويصبحون سليمي التفكير".  خطابات سرية يمكن إرجاع الأفكار المحركة للاعتقالات الجماعية إلى زيارة شي جين بينغ الأولى والوحيدة لشينجيانغ كرئيس للصين، وهي جولة يخيِّم عليها العنف. في عام 2014، بعد أكثر من عام بقليل من توليه الرئاسة، قضى أربعة أيام في المنطقة، وفي اليوم الأخير من الرحلة قام مسلحان من الإيغور بتفجير انتحاري خارج محطة قطار في أورومتشي أدى إلى إصابة ما يقرب من ثمانين شخصاً، كانت إصابة واحد منهم قاتلة. قبل ذلك بأسابيع، قام مسلحون بطعن الناس بالسكاكين في حالة من الهياج في محطة قطار أخرى في جنوب غرب الصين.. قُتِل فيها واحد وثلاثون شخصاً وأصيب أكثر من مائة وأربعين. وبعد مرور أقل من شهر على زيارة السيد شي جين بينغ، ألقى مهاجمونَ متفجرات في سوق للخضروات في أورومتشي، فأُصيب أربعة وتسعون شخصاً وقتل تسعة وثلاثون شخصاً على الأقل. وإزاء حالات سفك الدماء هذه، ألقى السيد شي جين بينغ سلسلة من الخطابات السرية راسماً المسار المتشدد الذي انتهى بالهجوم الأمني الجاري الآن في شينجيانغ. في حين ألمحت وسائل الإعلام الحكومية إلى هذه الخطابات، إلا أنها لم تخرج إلى العلن. على الرغم من ذلك، كانت نصوص أربعة من تلك الخطابات من بين الوثائق التي سُرِّبت، وهي تتيح إلقاء نظرة نادرة وغير منقَّاة على جذور حملة القمع ومعتقدات الرجل الذي حرَّكها. قال السيد شي جين بينغ في إحدى كلماته بعد رؤيته فرقة شرطة لمكافحة الإرهاب في أورومتشي: "الأساليب التي يحوزها رفاقنا بدائية للغاية.. ولا يصلح أي من هذه الأسلحة في الرد على سواطيرهم الكبيرة وفؤوسهم وأسلحتهم البيضاء". وأضاف: "يجب أن نكون قُساةً مثلهم.. وألا نرحمهم أبداً". وفي خطاباته الحرة في شينجيانغ وفي مؤتمر لاحقٍ للقيادة بشأن سياسة شينجيانغ في بكين، صُوِّر السيد شي وهو يفكر مليَّاً فيما سمَّاه قضية أمنية قومية بالغة الأهمية ويطرح أفكاره بشأن "حرب شعبية" في المنطقة. على الرغم من أنه لم يأمر بالاحتجاز الجماعي في هذه الخطابات، إلا أنه دعا الحزب إلى إطلاق أدوات "الديكتاتورية" للقضاء على الإسلام المتطرف في شينجيانغ. أبدى السيد شي جين بينغ اهتماماً كبيراً بقضية بدت وكأنها ذهبت أبعد بكثير من ملاحظاته المعلنة بخصوص هذا الموضوع. فقد شبَّه التطرف الإسلامي بشكل متناوب بعدوى شبيهة بالفيروسات وبمخدرات تسبب الإدمان بشكل خطير، وصرَّح أن التصدي لها يتطلب "فترة من العلاج المؤلم الذي يتطلب تدخُّلاً". قال السيد شي جين بينغ للموظفين في أورومتشي في 30 أبريل 2014، وهو اليوم الأخير من رحلته إلى شينجيانغ: "يجب ألَّا يُقلَّل من شأن التأثير النفسي للفكر الديني المتطرف على الناس. الأشخاص الذين يسيطر عليهم التطرف الديني - ذكوراً كانوا أو إناثاً، مسنّون أو شباباً - تموت ضمائرهم ويفقدون إنسانيتهم ويقتلون دون أن يرفَ لهم جفن". في كلمة أخرى في مقر القيادة في بكين بعد ذلك بشهر حذر من "سمِّيّة التطرف الديني". قال: "بمجرد أن تؤمن به، فإنه يشبه تناول المخدرات.. تفقد إحساسك، وتصاب بالجنون، وتفعل أي شيء". في العديد من المقاطع المفاجِئة - بالنظر إلى حملة القمع التي تلت ذلك - أخبر السيد شي جين بينغ الموظفين أيضاً بعدم ممارسة التمييز ضد الإيغور واحترام حقهم في العبادة. وحذر من المبالغة في رد الفعل تجاه الاحتكاك الطبيعي بين الإيغور وطائفة الهان الصينية - وهم الطائفة العرقية المهيمنة في البلاد - ورفض مقترحات لمحاولة القضاء على الإسلام بالكامل في الصين. وقال خلال مؤتمر بكين "بالنظر إلى القوى الانفصالية والإرهابية تحت راية الإسلام، يرى بعض الناس ضرورة تقييد الإسلام أو حتى القضاء عليه". ووصف وجهة النظر هذه بأنها "منحازة.. أو حتى خاطئة". لكن النقطة الأساسية للسيد شي جين بينغ كانت واضحة: كان يقود الحزب في منعطف حاد نحو مزيدٍ من القمع في شينجيانغ. قبل عهد السيد شي، كان الحزب في كثير من الأحيان يصف الهجمات في شينجيانغ بأنها من عمل عددٍ قليل من المتعصبين الذين حركتهم ودبَّرت لهم جماعاتٌ انفصالية غامضة في الخارج. لكن السيد شي جين بينغ قال إن التطرف الإسلامي قد ترسخت جذوره في شرائحَ من مجتمع الإيغور. في الواقع، تلتزم الغالبية العظمى من الإيغور بمعتقدات معتدلة، على الرغم من أن البعض بدأ في التسعينيات بتبني ممارسات دينية أكثر تحفُّظاً ومعلنة بشكل أكبر، على الرغم من الضوابط التي فرضتها الدولة بخصوص الإسلام. تشير ملاحظات السيد شي جين بينغ إلى أنه خشي أن يُعاد إحياء ظاهرة التقوى العلنية. وألقى باللوم على القيود المتراخية المفروضة على الدين، مشيراً إلى أن أسلافه لم يأخذوا حذرهم كما ينبغي. في حين أكد القادة الصينيين السابقين على مسألة التنمية الاقتصادية لإخماد الاضطرابات في شينجيانغ، قال السيد شي جين بينغ إن هذا غير كاف. وطالب بعلاج أيديولوجي - محاولةٍ لتجديد تفكير الأقليات المسلمة في المنطقة. وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة الذي عُقِد لمناقشة سياسة شينجيانغ بعد ستة أيام من الهجوم المميت على سوق الخضراوات: "يجب استخدام أسلحةِ 'ديكتاتورية الشعب الديمقراطية' [ديمقراطية بين الشعب، دكتاتورية ضد الخصوم] دون أي تردد".  الموشور السوفيتي السيد شي جين بينغ هو ابن زعيم من أوائل زعماء الحزب الشيوعي، وكان في الثمانينيات يؤيد السياسات الأكثر ليناً تجاه طوائف الأقليات العرقية، وكان بعض المحللين يتوقعون أنه قد يتبع أساليب والده الأكثر اعتدالاً عندما تولى قيادة الحزب في نوفمبر 2012. لكن الخطابات تؤكد كيف يرى السيد شي جين بينغ مخاطر على الصين من خلال موشور انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان يلقي باللوم لانهياره على التهاون الإيديولوجي والقيادة الضعيفة. بدأ في كافة أنحاء الصين بالقضاء على التحديات التي تواجه حكم الحزب. اختفى المنشقون ومحامو حقوق الإنسان في موجات من الاعتقالات. وفي شينجيانغ، أشار إلى أمثلة من التكتُّل السوفيتي السابق كحجَّة بأن النمو الاقتصادي لن يحصِّن المجتمع بوجه الانفصالية العرقية. وقال في مؤتمر القيادة إن جمهوريات البلطيق كانت من بين الدول الأكثر تطوراً في الاتحاد السوفيتي ولكنها كانت أول من غادر عندما انهار البلد. وأضاف أن الرخاء النسبي في يوغوسلافيا لم يحُل دون تفككها أيضاً. وقال السيد شي: "نحن نقول إن التنمية هي الأولوية العليا وهي الأساس لتحقيق أمنٍ دائم، وهذا صحيح، ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن بالتنمية تحُّل كل مشكلة نفسها". في الخطابات، أبدى السيد شي جين بينغ دراية عميقة بتاريخ مقاومة الإيغور للحكم الصيني، أو على الأقل نسخة بكين الرسمية منه، وناقش وقائع نادراً ما ذكرها القادة الصينيون علناً - إن كانوا ذكروها أصلاً – من ضمنها فترات قصيرة من حكم الإيغور الذاتي في النصف الأول من القرن العشرين. العنف الذي قام به مسلحو الإيغور لم يهدد السيطرةَ الشيوعية على المنطقة أبداً. على الرغم من أن الهجمات أصبحت أكثر فتكاً بعد عام 2009 عندما توفي ما يقرب من مائتي شخص في أعمال شغب عرقية في أورومتشي، إلا أنها ظلت صغيرة نسبياً ومبعثرة وغير معقدة. ومع ذلك، حذر السيد شي جين بينغ من أن العنف ينتشر من شينجيانغ إلى أجزاء أخرى من الصين ويمكن أن يشوه صورة قوة الحزب. وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة: "ما لم يُخمَد التهديد، سيعاني الاستقرار الاجتماعي من الصدمات، وستتضرر الوحدة العامة للناس من كل عرق، وستتأثر التوقعات العامة للإصلاح والتنمية والاستقرار". وبوضع المجاملات الدبلوماسية جانباً، فقد وَجد أن جذور التطرف الإسلامي في شينجيانغ تأتي من الشرق الأوسط، وحذّر من أن الفوضى في سوريا وأفغانستان ستزيد المخاطر على الصين. وقال إن الإيغور قد سافروا إلى كلا البلدين، وقد يعودوا إلى الصين مقاتلين متمرسين يسعون إلى إقامة وطن مستقل، أطلقوا عليه اسم "تركستان الشرقية". وقال السيد شي جين بينغ: "بعد أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، فإن التنظيمات الإرهابية المتمركزة على حدود أفغانستان وباكستان قد تتسلل بسرعة إلى آسيا الوسطى". وقال: "قد يشنُّ إرهابيو تركستان الشرقية الذين تلقوا تدريبات في حرب حقيقية في سوريا وأفغانستان في أي وقت هجمات إرهابية في شينجيانغ". ردَّ هو جين تاو - سَلَف السيد شي جين بينغ – على أعمال الشغب التي وقعت في أورومتشي عام 2009 بحملة قمع، لكنه شدد أيضاً على التنمية الاقتصادية كعلاج للسخط العرقي - سياسة الحزب طويلة العهد. لكن السيد شي جين بينغ أشار إلى خروجٍ عن نهج السيد هو جين تاو في خطاباته. وقال: "في السنوات الأخيرة، نَمَت شينجيانغ بسرعة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة بشكل ثابت، وبالرغم من ذلك ما تزال الانفصالية العرقية والعنف الإرهابي في ازدياد". وقال: "هذا يدل على أن التنمية الاقتصادية لا تجلب تلقائياً نظاماً وأمناً دائمَين". وقال السيد شي جين بينغ إن ضمان الاستقرار في شينجيانغ يتطلب حملة واسعة من المراقبة وجمعِ المعلومات الاستخبارية لاجتثاث المقاومة في مجتمع الإيغور. وقال إن التكنولوجيا الجديدة يجب أن تكون جزءاً من الحل، منذراً بنشر تقنية التعرف على الوجه، والفحوص الجينية ومعالجة البيانات الضخمة في شينجيانغ. لكنه شدد أيضاً على الأساليب القديمة - مثل المُخبِرين في الأحياء السكنية - وحثَّ الموظفين على دراسة كيفية ردِّ الأمريكيين على هجمات الحادي عشر من سبتمبر. قال إن الصين – كما فعلت الولايات المتحدة - "يجب أن تجعل عامَّة الناس مورداً هاماً في حماية الأمن القومي". وقال: "نحن الشيوعيون يجب أن نكون أشخاصاً طبيعيين في خوضنا حرباً شعبية". وقال: "نحن الأفضل في التنظيم لمهمة ما". وكان الاقتراح الوحيد في هذه الخطابات وقد تصوَّر السيد شي جين بينغ معسكرات الاعتقال الآن في وسط حملة القمع هو اعتماد برامج تلقين عقائدي أكثر شدة في سجون شينجيانغ. وقال للموظفين في جنوب شينجيانغ في اليوم الثاني من رحلته: "يجب أن يكون هناك قولبة وتغيير ثقافيَّين فعالَين للمجرمين. وحتى بعد إطلاق سراح هؤلاء الأشخاص، يجب أن يستمر تعليمهم وتحوُّلهم". في غضون أشهر بدأ فتح مواقع التلقين العقائدي في أنحاء شينجيانغ - معظمها كانت في البداية منشآت صغيرة استوعبت عشرات أو مئات من الإيغور في آن معاً لجلسات تهدف إلى الضغط عليهم ليتخلوا عن ولائهم للإسلام ويقروا بامتنانهم للحزب. ثم في أغسطس 2016، تم نقل أحد المتعنِّتين واسمه تشين كوانغو من التبت ليحكم شينجيانغ. ودعا الموظفين المحليين خلال أسابيع إلى "إعادة حشد الطاقات" من أجل تحقيق أهداف السيد شي جين بينغ وأعلن أن خطابات السيد شي جين بينغ "حددت الاتجاه الذي سيؤدي لإنجاح شينجيانغ". وتبع ذلك ضوابط أمنية جديدة وتوسع كبير في معسكرات التلقين العقائدي. - وقال السيد تشين كوانغو في كلمة ألقاها أمام القيادة الإقليمية في أكتوبر 2017: "إن الكفاح ضد الإرهاب ولحماية الاستقرار هو حرب طويلة الأمد، وهو كذلك حرب هجومية". وكانت هذه الكلمة من بين الأوراق التي تم تسريبها. - في وثيقة أخرى - وهي سجلٌّ لملاحظاته في مؤتمر مصوَّر عبر الانترنت في أغسطس 2017 – استشهد بـ "مراكز المهارات المهنية ومراكز التدريب التثقيفي ومراكز التغيير" كمثال على "الممارسات الجيدة" لتحقيق أهداف السيد شي جين بينغ في شينجيانغ. يبدو أن الحملة القمعية أدت إلى إخماد الاضطرابات العنيفة في شينجيانغ، ولكن العديد من الخبراء حذروا من أن الإجراءات الأمنية الشديدة والاعتقالات الجماعية من المرجح أن تولد استياءً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى اشتباكات عرقية أسوأ. أُدينت المعسكرات في واشنطن وعواصم أجنبية أخرى. توقع السيد شي جين بينغ النقد الدولي في وقت مبكر - في مؤتمر القيادة في مايو 2014 - وحث الموظفين الذين كانوا يعملون في الخفاء على تجاهل ذلك. وقال: "لا تخافوا إن كانت هناك قوى معادية تولول، أو إن كانت القوى المعادية تشوه صورة شينجيانغ".  "اعتقلوا الجميع" تظهر الوثائق أن هناك مقاومة للحملة القمعية داخل الحزب أكثر مما كان معروفاً سابقاً، وتُبرز الوثائق الدور الرئيسي الذي لعبه رئيس الحزب الجديد في شينجيانغ في التغلب على تلك المقاومة. قاد السيد تشين كوانغو حملة تشبه إحدى حملات ماو تسي تونغ السياسية المضطربة، والتي كانت فيها ممارسة الضغط على الموظفين المحليين من الأعلى إلى الأسفل قد شجعت حدوث تجاوزات، وكان أي تعبير عن الشك يعامَل كجريمة. في فبراير 2017، أَخبَر الآلاف من رجال الشرطة والقوات الواقفة بانتباه في ساحة واسعة في أورومتشي أن يتجهّزوا "لهجوم مبيد وكاسح". تشير الوثائق إلى أن القيادة اتفقت في الأسابيع التالية على خطط لاحتجاز الإيغور بأعداد كبيرة. أصدر السيد تشين كوانغو أمراً كاسحاً: "ألقوا القبض على كل من ينبغي القبض عليه". تَظهَر العبارة الغامضة بشكل متكرر في مستندات داخلية منذ عام 2017. سبق أن استخدم الحزب عبارة "ying shou jin shou" باللغة الصينية - عند مطالبة الموظفين باليقظة والشمولية في تحصيل الضرائب أو حساب كمية المحاصيل. الآن تم تطبيقها على البشر في التوجيهات التي أمرت - بدون ذكر إجراءات قضائية - باحتجاز أي شخص أبدى "أعراضاً" للتطرف الديني أو آراء معادية للحكومة. حددت السلطات العشرات من هذه العلامات، من ضمنها تعلق بالسلوك الطبيعي بين الإيغور المتدينين مثل إعفاء اللحى، وترك التدخين أو شرب الخمر، ودراسة اللغة العربية، والصلاة خارج المساجد. عزز قادة الحزب الأوامر المفروضة بتحذيرات من الإرهاب الحاصل في الخارج ومن هجمات مماثلة محتملة في الصين. - على سبيل المثال، في توجيهات من عشرة صفحات في يونيو 2017 وقَّعها تشو هايلون - المسؤول الأمني الأعلى في شينجيانغ وقتها – وصفٌ للهجمات الإرهابية الأخيرة في بريطانيا بأنها "تحذير ودرس لنا"، وإلقاء باللوم على الحكومة البريطانية "لتركيزها المفرط على 'حقوق الإنسان مقدَّمة على الأمن' وعدم كفاية الضوابط المفروضة ضد انتشار التطرف على الإنترنت وفي المجتمع". - كما اشتُكي فيها من ثغرات أمنية في شينجيانغ، من ضمنها التحقيقات الضعيفة، والأعطال في معدات المراقبة، وعدم احتجاز الأشخاص المتهمين بسلوك مشبوه. - وردت أوامر في وثائق التوجيهات بأن تستمر الاعتقالات، جاء فيها: "تقيدوا باعتقال كل من ينبغي اعتقاله... إن كانوا هناك، فاعتقلوهم". عدد الأشخاص الذين تم سَوقهم إلى المعسكرات ما يزال سراً تحت الحراسة المشددة. إلا أن إحدى الوثائق التي سُرِّبت تعطي إشارة لحجم الحملة: فيها تعليمات للموظفين بمنع انتشار الأمراض المعدية في المرافق المزدحمة.  "لقد خرقتُ القوانين" كانت الأوامر ملحَّة ومثيرة للجدل بشكل خاص في مقاطعة ياركاند، وهي مجموعة من البلدات والقرى الريفية في جنوب شينجيانغ التي فيها تقريباً كامل السكان - البالغ عددهم تسعمائة ألف نسمة - من الإيغور. في خطابات عام 2014، أشار السيد شي جين بينغ إلى جنوب شينجيانغ بالتحديد كخط المواجهة في كفاحه ضد التطرف الديني. يشكل الإيغور ما يقرب من تسعين في المائة من السكان في الجنوب، مقارنة مع أقل من النصف في شينجيانغ عموماً، وقد حدد السيد شي جين بينغ هدفاً طويل الأجل لجذب المزيد من مستوطني عرق الهان الصينيين. وأظهرت الوثائق أنه هو وزعماء الحزب الآخرين أمروا منظمة شبه عسكرية - وهي شركة شينجيانغ للإنتاج والبناء - بتسريع الجهود لتوطين المنطقة بمزيد من طائفة الهان الصينيين. وفقاً لتقارير حكومية، بعد بضعة أشهر هاجم أكثر من مائة من مسلحي الإيغور يحملون فؤوساً وسكاكين مكتباً حكومياً ومركزاً للشرطة في ياركاند، فقتلوا سبعة وثلاثين شخصاً. قَتَلت قوات الأمن تسعة وخمسين مهاجماً في المعركة حسبما ذكرت التقارير. عُيِّن مسؤول يدعى وانغ يونغ تشي لإدارة ياركاند بعد ذلك بوقت قصير. كان يبدو بنظارته وقَصَّة شعره القصيرة وكأنه صورةٌ معبِّرة لتكنوقراطيٍ في الحزب. نشأ وقضى حياته المهنية في جنوب شينجيانغ وكان يُرى مسؤولاً متمرساً قادراً على إنجاز الأولويات العليا للحزب في المنطقة: التنمية الاقتصادية والسيطرة المُحكَمة على الإيغور. لكن من بين المستندات الأكثر كشفاً للأمور في الأوراق المسربة وثيقتان تصفان سقوط السيد وانغ - تقرير من إحدى عشرة صفحة يلخص التحقيق الداخلي للحزب بخصوص تصرفاته، ونصٌ لاعترافٍ من خمس عشرة صفحة قد يكون أدلى به تحت الإكراه. وُزِّع كل منهما داخل الحزب كتحذير للموظفين لينصاعوا للحملة. يعمل مسؤولون من الهان كالسيد وانغ مرساةً للحزب في جنوب شينجيانغ، يراقبون موظفين من الإيغور في مناصب أدنى، ويبدو أنه يستمتع بمباركة كبار القادة، بمن فيهم يو تشنغ شنغ، الذي كان آنذاك أكبر مسؤول صيني مكلف بالقضايا العرقية، وقد زار المقاطعة في عام 2015. بدأ السيد وانغ بتعزيز الأمن في ياركاند، لكنه دفع أيضاً بالتنمية الاقتصادية لمعالجة الاستياء العرقي، وسعى لتخفيف حدة السياسات الدينية للحزب معلناً أن لا حرج من وجود القرآن في المنزل ومشجعاً موظفي الحزب على قراءته لفهم تقاليد الإيغور بشكل أفضل. عندما بدأت الاعتقالات الجماعية، فعل السيد وانغ كما قيل له في البداية وظهر عليه أنه تبنَّى المهمة بحماس. فقد بنى مركزين شاسعين للاحتجاز، واحد منها بمساحة خمسين ملعب كرة سلة، واقتاد إليهما عشرين ألف شخص. وزاد من تمويل قوات الأمن بسرعة إلى حدِّ كبير في عام 2017.. زاد الإنفاق إلى أكثر من الضعف على مصارف مثل المراقبة ونقاط التفتيش لتصل إلى 1.37 مليار رينمينبي.. ما يعادل مائة وثمانون مليون دولار. وجعل أعضاء الحزب يصطفون في تجمُّع في ساحة عامة وحثهم على المضي في الحرب ضد الإرهابيين. قال: "أبيدوهم بالكلية… اقضوا عليهم كلهم". لكن كان لدى السيد وانغ مخاوف على المستوى الشخصي، وفقاً للاعتراف الذي وقعه لاحقاً، والذي كان سيفحصه الحزب بعناية. كان يتعرض لضغوط شديدة لمنع اندلاع أعمال عنف في ياركاند، وكان قلقاً من أن تؤدي حملة القمع إلى رد فعل عنيف. حددت السلطات أهدافاً عددية لاعتقالات الإيغور في أجزاء من شينجيانغ، وفي حين لم يكن واضحاً ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك في ياركاند، شعر السيد وانغ بأن الأوامر لم تترك مجالاً للاعتدال وستسمِّم العلاقات العرقية في المقاطعة. كما أنه كان قلقاً من أن الاعتقالات الجماعية ستجعل من المستحيل تحقيق التقدم الاقتصادي الذي كان يحتاجه لكسب ترقية. حددت القيادة أهدافا للتخفيف من حدة الفقر في شينجيانغ. ولكن مع إرسال الكثير ممَّن هم في سن العمل إلى المعسكرات، كان السيد وانغ يخشى أن تكون الأهداف بعيدة المنال.. مع آماله في الحصول على وظيفة أفضل. وكَتَبَ أن رؤساءه كانوا "مفرطين في الطموح وغير واقعيين". وأضاف أن "السياسات والتدابير التي اتخذتها المستويات العليا من القيادة كانت على خلاف مع الوقائع على الأرض ولا يمكن تنفيذها بالكامل". وللمساعدة في إنفاذ حملة القمع في جنوب شينجيانغ، قام السيد تشين كوانغو بنقل المئات من الموظفين من الشمال. على المستوى العلني، رحب السيد وانغ بالموظفين المكلفين بـ ياركاند والبالغ عددهم اثنين وستين موظفاً. وعلى المستوى الشخصي، كان مغتاظاً لكونهم لم يفهموا كيفية العمل مع الموظفين المحليين والسكان. كان الضغط مستمراً بلا هوادة على الموظفين في شينجيانغ لاحتجاز الإيغور ومنع أعمال عنف جديدة، وقال السيد وانغ في اعترافه - الذي يُحتمل أنه أدلى به تحت الضغط - أنه شرب الخمر أثناء العمل. ووصف حادثةً انهار فيها من السُكْر خلال اجتماع بخصوص الأمن. وقال: "أثناء تقديم تقرير عن عملي في الجلسة المسائية، تحدثت بكلام غير مترابط... لقد تحدثت ببضع جمل فقط وانهار رأسي على الطاولة. أصبحَتْ تلك الواقعة أكبر نكتة في جميع أنحاء المقاطعة ". عوقب الآلاف من الموظفين في شينجيانغ لمقاومتهم أو إخفاقهم في إنفاذ الحملة بحماسة كافية. وتشير الوثائق إلى أن موظفين إيغور اتُّهموا بحماية زملائهم من الإيغور، وسُجن غو وين شنغ - زعيم طائفة الهان في مقاطعة جنوبية أخرى - لمحاولته إبطاء عمليات الاعتقال وحماية موظفين إيغور. سافرت فِرَق سرية من المحققين في جميع أنحاء المنطقة للتعرف على من لم يقوموا بما فيه الكفاية. وتشير إحصائيات رسمية أن الحزب فتح في عام 2017 أكثر من اثنَي عشر ألف تحقيق مع أعضاء في الحزب في شينجيانغ بسبب مخالفات في "الحرب ضد الانفصالية"، أي ما يزيد عن عدد التحقيقات في العام السابق بعشرين ضعفاً. قد يكون السيد وانغ ذهب أبعد من أي مسؤول آخر. أمر سِرَّاً بالإفراج عن أكثر من سبعة آلاف من نزلاء المعسكر - وهو عملٌ فيه تحدٍّ وسيُعتقل بسببه ويُجرَّد من سلطته ويُحاكَم. - وقد كتب السيد وانغ قائلاً: "لقد قمت بإجراءات تخفيفية وتصرفت اختياريَّاً وقمت بتعديلاتي معتقداً أن إلقاء القبض على الكثير من الناس سيؤدي إلى إثارة الصراع وزيادة الاستياء عن معرفة مسبقة". - وأضاف: "بدون موافقة مسبقة وبمبادرةٍ مني.. خرقت القوانين".  تحدٍّ صريح اختفى السيد وانغ عن الأنظار بصَمت بعد سبتمبر 2017. بعد حوالي ستة أشهر جعل الحزب منه عبرة معلناً أن تحقيقاً كان يُجرى معه بسبب "عصيانه الخطير لاستراتيجية القيادة المركزية للحزب لحكم شينجيانغ". كان التقرير الداخلي بخصوص التحقيق أكثر صراحة، جاء فيه: "كان ينبغي أن يبذل قصارى جهده لخدمة الحزب.. لكنه بدلاً من ذلك تجاهل إستراتيجية القيادة المركزية للحزب في شينجيانغ، ومضى بذلك لدرجة التحدٍّي الصريح". قُرِئ كل من التقرير واعتراف السيد وانغ بصوت عالٍ للموظفين في جميع أنحاء شينجيانغ. كانت الرسالة واضحة: لن يتسامح الحزب مع أي تردد في تنفيذ الاعتقالات الجماعية. ووصفت منافذُ دعائية السيد وانج بأنه فاسد لدرجةٍ لا يمكن إصلاحها، واتهمه التقرير الداخلي بتلقي رشاوٍ على صفقات بناء ومناجم ودفْعِ أموال لرؤسائه للحصول على ترقيات. وأكدت السلطات أيضاً أنه ليس صديقاً للإيغور. ولتحقيق أهداف الحد من الفقر، قيل إنه أجبر ألفاً وخمسمائة أسرة على الانتقال إلى شقق غير مزودة بالتدفئة في منتصف فصل الشتاء. وورد في اعترافه أن بعض القرويين أحرقوا الحطب في منازلهم للتدفئة مما أدى إلى إصابات ووفيات. إلا أن أعظم خطيئة سياسية للسيد وانغ لم يُكشَف عنها على العلن. وبدلاً من ذلك، أبقت السلطات عليها مخفيَّة في التقرير الداخلي، وهي: "لقد رفض إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه".
أوراق شينجيانغ
"لا رحمة على الإطلاق"

ملفات مسرَّبة تكشف كيف نظَّمت الصين عمليات اعتقال جماعي للمسلمين

-أكثر من أربعمائة صفحة من الوثائق الصينية الداخلية تتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على حملة قمع الأقليات العرقية في منطقة شينجيانغ.

نيويورك تايمز

كتبه: أوستن رمزي وكريس بكلي | 16 نوفمبر 2019
ترجمه: أسامة خالد

هونغ كونغ - حجَز الطلاب تذاكر العودة إلى بيوتهم نهاية الفصل الدراسي وهم يأملون بعطلةٍ مريحة بعد الامتحانات وصيفٍ فيه لقاءٌ عائلي سعيد في أقصى غرب الصين. إلا أنهم سيُعلمون بدلاً من ذلك قريباً بأن أهليهم وأقاربهم قد اختفوا وأن جيرانهم مفقودون - جميعهم محبوسون في شبكة معسكرات اعتقالٍ تزداد اتساعاً وقد بُنيت لاحتجاز أقليات عرقية إسلامية.
تشعر السلطات في منطقة شينجيانغ بالقلق من أن يكون الوضع هناك قنبلةً موقوتة.. ولذلك تأهَّبت. وزعت القيادة توجيهات سرية تنصح فيها الموظفين المحليين بالالتفاف على الطلاب العائدين بمجرد وصولهم وإسكاتهم. تضمَّنت التوجيهات دليلاً بيروقراطياً تقشعر له الأبدان عن كيفية التعامل مع أسئلتهم المعذبة، بدءاً بالسؤال الأكثر بداهة: "أين عائلتي؟"
- تبدأ الإجابة المقررة: "إنهم في مدرسة تدريب مهني أنشأتها الحكومة". وإذا تعرض الموظفون للضغط فإنهم يخبرون الطلاب بأن أقاربهم ليسوا مجرمين، إلا أنهم لا يمكنهم مغادرة هذه "المدارس".
- تضمَّن نص الأسئلة والأجوبة أيضاً تهديداً شبه صريح: يُبلغ الطلاب بأن سلوكهم يمكن أن يقصِّر أو يزيد مدة احتجاز أقاربهم.
- يُنصَح الموظفون أن يقولوا: "أنا متأكد من أنك ستساندهم، لأن هذا لصالحهم.. ولصالحك أيضاً".

كانت التوجيهات ضمن أربعمائة وثلاث صفحات من الوثائق الداخلية التي أُطلِعَت عليها صحيفة نيويورك تايمز في واحدة من أهم تسريبات الأوراق الحكومية من داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين منذ عقود. وتتيح إلقاء نظرة داخلية غير مسبوقة على التضييق المتواصل في شينجيانغ، حيث احتجزت السلطات ما يصل إلى مليون من الإيغور، والكازاخيين وغيرهم في معسكرات الاعتقال والسجون على مدى السنوات الثلاث الماضية.

رَفَضَ الحزب الشيوعي الانتقادات الدولية للمعسكرات ووصَفَها بأنها مراكز تدريب مهني تستخدم أساليب معتدلة لمحاربة التطرف الإسلامي. إلا أن الوثائق تؤكد الطبيعة القسرية لحملة القمع من خلال كلمات وأوامر الموظفين أنفسهم الذين وضعوها ونظموها.
حتى عندما عرضت الحكومة جهودها في شينجيانغ على الجمهور على أنها خيِّرة وعادية جداً، فقد ناقشت ونظمت حملة قاسية وغير عادية في مناسبات التواصل الداخلية هذه. كبارُ قادة الأحزاب يصوَّرون وهم يأمرون باتخاذ إجراءات صارمة وعاجلة ضد العنف المتطرف – من ضمنها الاعتقالات الجماعية - ومناقشة العواقب بنوع من اللامبالاة الباردة.
وأشارت التقارير إلى أن الأطفال رأوا أهليهم وهم يُقتادون بعيداً، وتساءل الطلاب عمن سيدفع الرسوم الدراسية، وأن المحاصيل الزراعية لم يكن بالإمكان زرعها أو حصادها بسبب نقص القوى العاملة. ومع ذلك، وُجِّه الموظفون لإخبار الأشخاص الذين اشتكوا بأن يشعروا بالامتنان للمساعدة التي يقدمها الحزب الشيوعي لهم وأن يصمتوا.
تقدم الأوراق المسربة صورة ملفتة للنظر عن كيفية قيام الماكينة الخفية للدولة الصينية بتنفيذ أكثر حملات الاعتقال انتشاراً في البلاد منذ عهد ماو تسي تونغ. تشمل الأمور الرئيسية التي أُفشي عنها في المستندات ما يلي:

• وضع الرئيس شي جين بينغ، رئيس الحزب، الأساس لحملة القمع في سلسلة من الخطابات التي ألقيت في جلسات مغلقة مع مسؤولين أثناء وبعد زيارةٍ إلى شينجيانغ في أبريل 2014، بعد أسابيع فقط من قيام مسلحين إيغور بطعن أكثر من مائة وخمسين شخصاً في محطة قطار.. قُتِل منهم واحد وثلاثون شخصاً. دعا السيد شي جين بينغ إلى "كفاح شامل ضد الإرهاب والاختراق والانفصالية" باستخدام "الأدوات الديكتاتورية"، والتعامل "بلا رحمة على الإطلاق.

• أدت الهجمات الإرهابية في الخارج وتراجُع القوات الأمريكية في أفغانستان إلى زيادة مخاوف القيادة وساعدتا في صياغة حملة القمع. رأى مسؤولون أن الهجمات في بريطانيا ناتجة عن سياسات فيها "حقوق الإنسان مقدمة على الأمن"، وحثَّ السيد شي جين بينغ الحزب على محاكاة جوانب من "الحرب الأمريكية على الإرهاب" بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

• توسعت معسكرات الاعتقال في شينجيانغ بسرعة بعد تعيين تشن كوانغو المتعصب للحزب في أغسطس 2016 زعيماً جديداً على المنطقة. ووزَّع خطابات السيد شي جين بينغ لتبرير الحملة وحضَّ الموظفين على "إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه".

• واجهت حملة القمع شكوكاً ومقاومة من الموظفين المحليين الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى استفحال التوترات العرقية وخنق النمو الاقتصادي. وردَّ السيد تشن كوانغو بتصفية الموظفين المشتبه بوقوفهم في طريقه، بمن فيهم زعيم المقاطعة الذي سُجن بعد أن أطلق آلاف السجناء من المعسكرات سرَّاً.

تتكون الأوراق المسربة من أربعٍ وعشرين وثيقة، بعضها يحتوي على مواد مكررة. وتشمل هذه الأوراق حوالي مائتَي صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ وقادة آخرين، وأكثر من مائة وخمسين صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ. هناك أيضاً إشارات إلى خطط لتوسيع نطاق القيود المفروضة على الإسلام لتشمل أجزاء أخرى من الصين.

تشمل الوثائق:
- 96 صفحة من الخطابات الداخلية للسيد شي جين بينغ.
- 102 صفحة من الخطابات الداخلية لمسؤولين آخرين.
- 161 صفحة من التوجيهات والتقارير بخصوص مراقبة سكان الإيغور في شينجيانغ.
- 44 صفحة لمواد مأخوذة من تحقيقات داخلية مع موظفين محليين.

بالرغم من عدم وضوح كيفية جمع الوثائق واختيارها، إلا أن التسريبات تشير إلى سخطٍ - أكبر مما كان معروفاً من قبل - داخل جهاز الحزب بسبب الحملة القمعية. كشف عن هذه الأوراق أحد أعضاء المؤسسة السياسية الصينية، وطلب عدم الكشف عن هويته، وعبَّر عن أمله في أن الكشف عن هذه الأوراق سيمنع قادة الأحزاب، بمن فيهم السيد شي جين بينغ، من الإفلات من المسؤولية عن الاعتقالات الجماعية.
تقوم القيادة الصينية بعملية وضع السياسات بسريَّة، خاصة عندما يتعلق الأمر بشينجيانغ، وهي منطقة غنية بالموارد وتقع على الحدود الحساسة مع باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى. تشكل الأقليات العرقية ذات الأغلبية المسلمة أكثر من نصف سكان المنطقة البالغ عددهم خمسٌ وعشرون مليون نسمة. وأكبر هذه المجموعات هم الإيغور الذين يتحدثون لغةً تركية ويعانون منذ فترة طويلة من التمييز في المعاملة ومن القيود المفروضة على أنشطتهم الثقافية والدينية.
سعت بكين لعقود إلى قمع المقاومة الإيغورية للحكم الصيني في شينجيانغ. وبدأت حملة القمع الحالية بعد موجة من العنف ضد الحكومة والصين، ومن ضمنها أعمال الشغب العرقية عام 2009 في مدينة أورومتشي - العاصمة الإقليمية - وهجوم في مايو 2014 في أحد الأسواق قُتل فيه تسعة وثلاثون شخصاً قبل أيام من عقد السيد شي جين بينغ مؤتمراً للقيادة في بكين لرسم مسار سياسي جديد في شينجيانغ.
منذ عام 2017، احتجزت السلطات في شينجيانغ مئات الآلاف من الإيغور والكازاخيين وغيرهم من المسلمين في معسكرات الاعتقال. يخضع السجناء لأشهر أو سنوات من التلقين العقائدي والاستجواب بهدف تحويلهم إلى مؤيدين علمانيين وموالين للحزب.
التوجيهات المتعلقة بكيفية التعامل مع طلاب الأقليات العائدين إلى شينجيانغ في صيف عام 2017 تقدِّمُ المناقشةَ الأكثر تفصيلاً - من بين أربع وعشرين وثيقة – بخصوص معسكرات التلقين العقائدي، وتُعَدُّ المثالَ الأوضح للطريقة المنظمة تنظيماً صارماً والتي يروي فيها الحزب للناس قصةً ما.. بينما يحشد داخل منظومته لأحداث أقسى بكثير.
حتى عندما تنصح الوثيقة الموظفين بإبلاغ الطلاب بأن أقاربهم يتلقون "علاجاً" بسبب تعرضهم للإسلام الراديكالي، فإن عنوانها يشير إلى أفراد الأسرة الذين "يُتعامَل معهم"، أو'chuzhi'، وهي كناية تستخدم في وثائق الحزب ويُقصَد بها 'يعاقبون'.
كتب الموظفون في توربان، وهي مدينة في شرق شينجيانغ، نصَّ الأسئلة والأجوبة بعد أن حذرت الحكومة الإقليمية الموظفين المحليين للاستعداد للطلاب العائدين. وقامت الوكالة القائمة على تنسيق الجهود "للحفاظ على الاستقرار" في شينجيانغ بتوزيع الدليل في جميع أنحاء المنطقة وحثت الموظفين على استخدامه كنموذج.
تُرسل الحكومة أذكى الشباب الإيغور من شينجيانغ إلى الجامعات في جميع أنحاء الصين، بهدف تدريب جيل جديد من موظفين حكوميين ومدرسين إيغور ولاؤهم للحزب.
تُظهِر التوجيهات أن الحملة كانت واسعة النطاق لدرجة أنها أثرت حتى على هذه النُخب من الطلاب.. وهذا ما جعل السلطات متوترة.
وأشارت التوجيهات إلى أن "الطلاب العائدين من أرجاء الصين الأخرى لديهم روابط اجتماعية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وفي اللحظة التي يُبدون فيها آراء خاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي"WeChat" و"Weibo" ومنصات أخرى للتواصل الاجتماعي، سيكون التأثير واسع النطاق وسيصعب القضاء عليه".

- حذرت الوثيقة من أن هناك "احتمالاً خطيراً" أن يقع الطلاب في حالة من "الاضطراب" بعد معرفة ما حدث لأقاربهم. وأوصت أن يلتقي بهم رجال شرطة يرتدون ملابس مدنية وموظفون محليون من ذوي الخبرة بمجرد عودتهم "لإبداء قلقهم وعطفهم وللتأكيد على الالتزام بالقواعد".
- تبدأ التوجيهات المتعلقة بدليل الأسئلة والأجوبة بلطف، حيث يُنصَح الموظفون بإخبار الطلاب بأن "لا داعي للقلق مطلقاً" بشأن الأقارب الذين اختفوا.
- أُخبِر الموظفون بأن يقولوا: "الرسوم الدراسية لفترة دراستهم مجانية وكذلك تكاليف الإطعام والمعيشة، ويتمتعون بمستوىً معيشيٍّ عالٍ جداً" قبل أن يضيفوا أن السلطات تنفق أكثر من ثلاث دولارات في اليوم على وجبات الطعام لكل معتقل، وذلك "أفضل من مستويات المعيشة لبعض الطلاب في بلادهم".
- وتنتهي الإجابة على النحو التالي: "إذا كنت ترغب في رؤيتهم، فيمكننا اتخاذ الترتيبات اللازمة لعقد اجتماع مصوَّر عبر الانترنت".

ومع ذلك، توقعت السلطات أن من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تهدئة الطلاب وقدَّمت ردوداً على سلسلة من الأسئلة الأخرى:
متى سيُطلَق سراح أقاربي؟ إذا كان هذا للتدريب، فلماذا لا يمكنهم العودة إلى المنزل إذاً؟ هل يمكنهم طلب إجازة؟ كيف سأدفع تكاليف المدرسة إن كان والداي يدرُسان ولم يكن هناك أحد يعمل في المزرعة؟
أوصى الدليل بردود حازمة على نحو متزايد تخبر الطلاب أن أقاربهم قد "أصيبوا" بفيروس التطرف الإسلامي ويجب عزلهم ومعالجتهم. ووُجِّه الموظفون بأن يقولوا حتى الأجداد وأفراد الأسرة الذين كان يبدو أنهم أكبر سناً من أن يستطيعوا ممارسة العنف لم يكن إعفاؤهم ممكناً.
وذُكر في إحدى الإجابات، مع الاستشهاد بالحرب الأهلية في سوريا وظهور تنظيم الدولة الإسلامية: "إن لم يُدرّبوا ويُدرَّسوا، فلن يفهموا تماماً وبشكل كامل مخاطر التطرف الديني.. بغضِّ النظر عن العمر، يجب على أي شخص مصاب بالتطرف الديني أن يُدرَّس".
وقالت الوثيقة إن الطلاب يجب أن يكونوا ممتنين للسلطات لإبعادها أقاربَهم.
وذُكِر في إحدى الإجابات: "قدِّروا قيمة هذه الفرصة للتعليم المجاني التي قدَّمها الحزب والحكومة للقضاء التام على التفكير الخاطئ، وكذلك تَعلُّم المهارات المهنية واللغة الصينية إن هذا يوفر أساساً رائعاً لحياة سعيدة لعائلتك".
يبدو أن السلطات تستخدم نظام تسجيل النقاط لتحديد الأشخاص الذين يمكن إطلاق سراحهم من المعسكرات: حَوَت الوثيقة تعليمات للموظفين بإخبار الطلاب بأن سلوكهم قد يضر سجل نقاط أقاربهم، وحوت تعليمات بتقييم السلوك اليومي للطلاب وتسجيل حضورهم في الدورات التدريبية والاجتماعات وغيرها من الأنشطة.

- أُخبِر للموظفين بأن يقولوا: "يجب أن يلتزم أفراد الأسرة، بمن فيهم أنت، بقوانين الدولة وأنظمتها، وألا يصدِّقوا أو ينشروا الشائعات.. عند ذلك فقط يمكنك إضافة نقاط لأفراد أسرتك، وبعد فترة تقييم يمكنهم مغادرة المدرسة إذا استوفوا معايير إكمال الدورة".
- نُصِح الموظفون إن سئلوا عن تأثير عمليات الاحتجاز على الشؤون المالية للأسرة أن يطمئنوا الطلاب أن "الحزب والحكومة سيبذلان قصارى جهدهما لتخفيف الصعوبات التي تواجههم".
- ومع ذلك، قد تكون العبارة الأكثر بروزاً في النص هي الإجابة النموذجية على كيفية الرد على الطلاب الذين يسألون عن أقاربهم المحتجزين، "هل ارتكبوا جريمة؟"
- حوت الوثيقة تعليمات للموظفين بالإقرار بأن أقارب الطلاب لم يفعلوا ذلك. وجاء في نص الوثيقة: "الأمر وما فيه أن تفكيرهم انتقلت إليه أفكارٌ غير سليمة".
- "الحرية ممكنة فقط عندما يُقضى على هذا "الفيروس" في تفكيرهم ويصبحون سليمي التفكير".

 خطابات سرية

يمكن إرجاع الأفكار المحركة للاعتقالات الجماعية إلى زيارة شي جين بينغ الأولى والوحيدة لشينجيانغ كرئيس للصين، وهي جولة يخيِّم عليها العنف.
في عام 2014، بعد أكثر من عام بقليل من توليه الرئاسة، قضى أربعة أيام في المنطقة، وفي اليوم الأخير من الرحلة قام مسلحان من الإيغور بتفجير انتحاري خارج محطة قطار في أورومتشي أدى إلى إصابة ما يقرب من ثمانين شخصاً، كانت إصابة واحد منهم قاتلة.
قبل ذلك بأسابيع، قام مسلحون بطعن الناس بالسكاكين في حالة من الهياج في محطة قطار أخرى في جنوب غرب الصين.. قُتِل فيها واحد وثلاثون شخصاً وأصيب أكثر من مائة وأربعين. وبعد مرور أقل من شهر على زيارة السيد شي جين بينغ، ألقى مهاجمونَ متفجرات في سوق للخضروات في أورومتشي، فأُصيب أربعة وتسعون شخصاً وقتل تسعة وثلاثون شخصاً على الأقل.
وإزاء حالات سفك الدماء هذه، ألقى السيد شي جين بينغ سلسلة من الخطابات السرية راسماً المسار المتشدد الذي انتهى بالهجوم الأمني الجاري الآن في شينجيانغ. في حين ألمحت وسائل الإعلام الحكومية إلى هذه الخطابات، إلا أنها لم تخرج إلى العلن.
على الرغم من ذلك، كانت نصوص أربعة من تلك الخطابات من بين الوثائق التي سُرِّبت، وهي تتيح إلقاء نظرة نادرة وغير منقَّاة على جذور حملة القمع ومعتقدات الرجل الذي حرَّكها.
قال السيد شي جين بينغ في إحدى كلماته بعد رؤيته فرقة شرطة لمكافحة الإرهاب في أورومتشي: "الأساليب التي يحوزها رفاقنا بدائية للغاية.. ولا يصلح أي من هذه الأسلحة في الرد على سواطيرهم الكبيرة وفؤوسهم وأسلحتهم البيضاء".
وأضاف: "يجب أن نكون قُساةً مثلهم.. وألا نرحمهم أبداً".
وفي خطاباته الحرة في شينجيانغ وفي مؤتمر لاحقٍ للقيادة بشأن سياسة شينجيانغ في بكين، صُوِّر السيد شي وهو يفكر مليَّاً فيما سمَّاه قضية أمنية قومية بالغة الأهمية ويطرح أفكاره بشأن "حرب شعبية" في المنطقة.
على الرغم من أنه لم يأمر بالاحتجاز الجماعي في هذه الخطابات، إلا أنه دعا الحزب إلى إطلاق أدوات "الديكتاتورية" للقضاء على الإسلام المتطرف في شينجيانغ.
أبدى السيد شي جين بينغ اهتماماً كبيراً بقضية بدت وكأنها ذهبت أبعد بكثير من ملاحظاته المعلنة بخصوص هذا الموضوع. فقد شبَّه التطرف الإسلامي بشكل متناوب بعدوى شبيهة بالفيروسات وبمخدرات تسبب الإدمان بشكل خطير، وصرَّح أن التصدي لها يتطلب "فترة من العلاج المؤلم الذي يتطلب تدخُّلاً".
قال السيد شي جين بينغ للموظفين في أورومتشي في 30 أبريل 2014، وهو اليوم الأخير من رحلته إلى شينجيانغ: "يجب ألَّا يُقلَّل من شأن التأثير النفسي للفكر الديني المتطرف على الناس. الأشخاص الذين يسيطر عليهم التطرف الديني - ذكوراً كانوا أو إناثاً، مسنّون أو شباباً - تموت ضمائرهم ويفقدون إنسانيتهم ويقتلون دون أن يرفَ لهم جفن".
في كلمة أخرى في مقر القيادة في بكين بعد ذلك بشهر حذر من "سمِّيّة التطرف الديني".
قال: "بمجرد أن تؤمن به، فإنه يشبه تناول المخدرات.. تفقد إحساسك، وتصاب بالجنون، وتفعل أي شيء".
في العديد من المقاطع المفاجِئة - بالنظر إلى حملة القمع التي تلت ذلك - أخبر السيد شي جين بينغ الموظفين أيضاً بعدم ممارسة التمييز ضد الإيغور واحترام حقهم في العبادة. وحذر من المبالغة في رد الفعل تجاه الاحتكاك الطبيعي بين الإيغور وطائفة الهان الصينية - وهم الطائفة العرقية المهيمنة في البلاد - ورفض مقترحات لمحاولة القضاء على الإسلام بالكامل في الصين.
وقال خلال مؤتمر بكين "بالنظر إلى القوى الانفصالية والإرهابية تحت راية الإسلام، يرى بعض الناس ضرورة تقييد الإسلام أو حتى القضاء عليه". ووصف وجهة النظر هذه بأنها "منحازة.. أو حتى خاطئة".
لكن النقطة الأساسية للسيد شي جين بينغ كانت واضحة: كان يقود الحزب في منعطف حاد نحو مزيدٍ من القمع في شينجيانغ.
قبل عهد السيد شي، كان الحزب في كثير من الأحيان يصف الهجمات في شينجيانغ بأنها من عمل عددٍ قليل من المتعصبين الذين حركتهم ودبَّرت لهم جماعاتٌ انفصالية غامضة في الخارج. لكن السيد شي جين بينغ قال إن التطرف الإسلامي قد ترسخت جذوره في شرائحَ من مجتمع الإيغور.
في الواقع، تلتزم الغالبية العظمى من الإيغور بمعتقدات معتدلة، على الرغم من أن البعض بدأ في التسعينيات بتبني ممارسات دينية أكثر تحفُّظاً ومعلنة بشكل أكبر، على الرغم من الضوابط التي فرضتها الدولة بخصوص الإسلام. تشير ملاحظات السيد شي جين بينغ إلى أنه خشي أن يُعاد إحياء ظاهرة التقوى العلنية. وألقى باللوم على القيود المتراخية المفروضة على الدين، مشيراً إلى أن أسلافه لم يأخذوا حذرهم كما ينبغي.
في حين أكد القادة الصينيين السابقين على مسألة التنمية الاقتصادية لإخماد الاضطرابات في شينجيانغ، قال السيد شي جين بينغ إن هذا غير كاف. وطالب بعلاج أيديولوجي - محاولةٍ لتجديد تفكير الأقليات المسلمة في المنطقة.
وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة الذي عُقِد لمناقشة سياسة شينجيانغ بعد ستة أيام من الهجوم المميت على سوق الخضراوات: "يجب استخدام أسلحةِ 'ديكتاتورية الشعب الديمقراطية' [ديمقراطية بين الشعب، دكتاتورية ضد الخصوم] دون أي تردد".

 الموشور السوفيتي

السيد شي جين بينغ هو ابن زعيم من أوائل زعماء الحزب الشيوعي، وكان في الثمانينيات يؤيد السياسات الأكثر ليناً تجاه طوائف الأقليات العرقية، وكان بعض المحللين يتوقعون أنه قد يتبع أساليب والده الأكثر اعتدالاً عندما تولى قيادة الحزب في نوفمبر 2012.
لكن الخطابات تؤكد كيف يرى السيد شي جين بينغ مخاطر على الصين من خلال موشور انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان يلقي باللوم لانهياره على التهاون الإيديولوجي والقيادة الضعيفة.
بدأ في كافة أنحاء الصين بالقضاء على التحديات التي تواجه حكم الحزب. اختفى المنشقون ومحامو حقوق الإنسان في موجات من الاعتقالات. وفي شينجيانغ، أشار إلى أمثلة من التكتُّل السوفيتي السابق كحجَّة بأن النمو الاقتصادي لن يحصِّن المجتمع بوجه الانفصالية العرقية.
وقال في مؤتمر القيادة إن جمهوريات البلطيق كانت من بين الدول الأكثر تطوراً في الاتحاد السوفيتي ولكنها كانت أول من غادر عندما انهار البلد. وأضاف أن الرخاء النسبي في يوغوسلافيا لم يحُل دون تفككها أيضاً.
وقال السيد شي: "نحن نقول إن التنمية هي الأولوية العليا وهي الأساس لتحقيق أمنٍ دائم، وهذا صحيح، ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن بالتنمية تحُّل كل مشكلة نفسها".
في الخطابات، أبدى السيد شي جين بينغ دراية عميقة بتاريخ مقاومة الإيغور للحكم الصيني، أو على الأقل نسخة بكين الرسمية منه، وناقش وقائع نادراً ما ذكرها القادة الصينيون علناً - إن كانوا ذكروها أصلاً – من ضمنها فترات قصيرة من حكم الإيغور الذاتي في النصف الأول من القرن العشرين.
العنف الذي قام به مسلحو الإيغور لم يهدد السيطرةَ الشيوعية على المنطقة أبداً. على الرغم من أن الهجمات أصبحت أكثر فتكاً بعد عام 2009 عندما توفي ما يقرب من مائتي شخص في أعمال شغب عرقية في أورومتشي، إلا أنها ظلت صغيرة نسبياً ومبعثرة وغير معقدة.
ومع ذلك، حذر السيد شي جين بينغ من أن العنف ينتشر من شينجيانغ إلى أجزاء أخرى من الصين ويمكن أن يشوه صورة قوة الحزب. وقال السيد شي جين بينغ في مؤتمر القيادة: "ما لم يُخمَد التهديد، سيعاني الاستقرار الاجتماعي من الصدمات، وستتضرر الوحدة العامة للناس من كل عرق، وستتأثر التوقعات العامة للإصلاح والتنمية والاستقرار".
وبوضع المجاملات الدبلوماسية جانباً، فقد وَجد أن جذور التطرف الإسلامي في شينجيانغ تأتي من الشرق الأوسط، وحذّر من أن الفوضى في سوريا وأفغانستان ستزيد المخاطر على الصين. وقال إن الإيغور قد سافروا إلى كلا البلدين، وقد يعودوا إلى الصين مقاتلين متمرسين يسعون إلى إقامة وطن مستقل، أطلقوا عليه اسم "تركستان الشرقية".

وقال السيد شي جين بينغ: "بعد أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، فإن التنظيمات الإرهابية المتمركزة على حدود أفغانستان وباكستان قد تتسلل بسرعة إلى آسيا الوسطى". وقال: "قد يشنُّ إرهابيو تركستان الشرقية الذين تلقوا تدريبات في حرب حقيقية في سوريا وأفغانستان في أي وقت هجمات إرهابية في شينجيانغ".
ردَّ هو جين تاو - سَلَف السيد شي جين بينغ – على أعمال الشغب التي وقعت في أورومتشي عام 2009 بحملة قمع، لكنه شدد أيضاً على التنمية الاقتصادية كعلاج للسخط العرقي - سياسة الحزب طويلة العهد. لكن السيد شي جين بينغ أشار إلى خروجٍ عن نهج السيد هو جين تاو في خطاباته.
وقال: "في السنوات الأخيرة، نَمَت شينجيانغ بسرعة كبيرة وارتفع مستوى المعيشة بشكل ثابت، وبالرغم من ذلك ما تزال الانفصالية العرقية والعنف الإرهابي في ازدياد". وقال: "هذا يدل على أن التنمية الاقتصادية لا تجلب تلقائياً نظاماً وأمناً دائمَين".
وقال السيد شي جين بينغ إن ضمان الاستقرار في شينجيانغ يتطلب حملة واسعة من المراقبة وجمعِ المعلومات الاستخبارية لاجتثاث المقاومة في مجتمع الإيغور.
وقال إن التكنولوجيا الجديدة يجب أن تكون جزءاً من الحل، منذراً بنشر تقنية التعرف على الوجه، والفحوص الجينية ومعالجة البيانات الضخمة في شينجيانغ. لكنه شدد أيضاً على الأساليب القديمة - مثل المُخبِرين في الأحياء السكنية - وحثَّ الموظفين على دراسة كيفية ردِّ الأمريكيين على هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
قال إن الصين – كما فعلت الولايات المتحدة - "يجب أن تجعل عامَّة الناس مورداً هاماً في حماية الأمن القومي".
وقال: "نحن الشيوعيون يجب أن نكون أشخاصاً طبيعيين في خوضنا حرباً شعبية". وقال: "نحن الأفضل في التنظيم لمهمة ما".
وكان الاقتراح الوحيد في هذه الخطابات وقد تصوَّر السيد شي جين بينغ معسكرات الاعتقال الآن في وسط حملة القمع هو اعتماد برامج تلقين عقائدي أكثر شدة في سجون شينجيانغ.
وقال للموظفين في جنوب شينجيانغ في اليوم الثاني من رحلته: "يجب أن يكون هناك قولبة وتغيير ثقافيَّين فعالَين للمجرمين. وحتى بعد إطلاق سراح هؤلاء الأشخاص، يجب أن يستمر تعليمهم وتحوُّلهم".
في غضون أشهر بدأ فتح مواقع التلقين العقائدي في أنحاء شينجيانغ - معظمها كانت في البداية منشآت صغيرة استوعبت عشرات أو مئات من الإيغور في آن معاً لجلسات تهدف إلى الضغط عليهم ليتخلوا عن ولائهم للإسلام ويقروا بامتنانهم للحزب.
ثم في أغسطس 2016، تم نقل أحد المتعنِّتين واسمه تشين كوانغو من التبت ليحكم شينجيانغ. ودعا الموظفين المحليين خلال أسابيع إلى "إعادة حشد الطاقات" من أجل تحقيق أهداف السيد شي جين بينغ وأعلن أن خطابات السيد شي جين بينغ "حددت الاتجاه الذي سيؤدي لإنجاح شينجيانغ".
وتبع ذلك ضوابط أمنية جديدة وتوسع كبير في معسكرات التلقين العقائدي.

- وقال السيد تشين كوانغو في كلمة ألقاها أمام القيادة الإقليمية في أكتوبر 2017: "إن الكفاح ضد الإرهاب ولحماية الاستقرار هو حرب طويلة الأمد، وهو كذلك حرب هجومية". وكانت هذه الكلمة من بين الأوراق التي تم تسريبها.
- في وثيقة أخرى - وهي سجلٌّ لملاحظاته في مؤتمر مصوَّر عبر الانترنت في أغسطس 2017 – استشهد بـ "مراكز المهارات المهنية ومراكز التدريب التثقيفي ومراكز التغيير" كمثال على "الممارسات الجيدة" لتحقيق أهداف السيد شي جين بينغ في شينجيانغ.

يبدو أن الحملة القمعية أدت إلى إخماد الاضطرابات العنيفة في شينجيانغ، ولكن العديد من الخبراء حذروا من أن الإجراءات الأمنية الشديدة والاعتقالات الجماعية من المرجح أن تولد استياءً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى اشتباكات عرقية أسوأ.
أُدينت المعسكرات في واشنطن وعواصم أجنبية أخرى. توقع السيد شي جين بينغ النقد الدولي في وقت مبكر - في مؤتمر القيادة في مايو 2014 - وحث الموظفين الذين كانوا يعملون في الخفاء على تجاهل ذلك.
وقال: "لا تخافوا إن كانت هناك قوى معادية تولول، أو إن كانت القوى المعادية تشوه صورة شينجيانغ".

 "اعتقلوا الجميع"

تظهر الوثائق أن هناك مقاومة للحملة القمعية داخل الحزب أكثر مما كان معروفاً سابقاً، وتُبرز الوثائق الدور الرئيسي الذي لعبه رئيس الحزب الجديد في شينجيانغ في التغلب على تلك المقاومة.
قاد السيد تشين كوانغو حملة تشبه إحدى حملات ماو تسي تونغ السياسية المضطربة، والتي كانت فيها ممارسة الضغط على الموظفين المحليين من الأعلى إلى الأسفل قد شجعت حدوث تجاوزات، وكان أي تعبير عن الشك يعامَل كجريمة.
في فبراير 2017، أَخبَر الآلاف من رجال الشرطة والقوات الواقفة بانتباه في ساحة واسعة في أورومتشي أن يتجهّزوا "لهجوم مبيد وكاسح". تشير الوثائق إلى أن القيادة اتفقت في الأسابيع التالية على خطط لاحتجاز الإيغور بأعداد كبيرة.
أصدر السيد تشين كوانغو أمراً كاسحاً: "ألقوا القبض على كل من ينبغي القبض عليه". تَظهَر العبارة الغامضة بشكل متكرر في مستندات داخلية منذ عام 2017.
سبق أن استخدم الحزب عبارة "ying shou jin shou" باللغة الصينية - عند مطالبة الموظفين باليقظة والشمولية في تحصيل الضرائب أو حساب كمية المحاصيل. الآن تم تطبيقها على البشر في التوجيهات التي أمرت - بدون ذكر إجراءات قضائية - باحتجاز أي شخص أبدى "أعراضاً" للتطرف الديني أو آراء معادية للحكومة.
حددت السلطات العشرات من هذه العلامات، من ضمنها تعلق بالسلوك الطبيعي بين الإيغور المتدينين مثل إعفاء اللحى، وترك التدخين أو شرب الخمر، ودراسة اللغة العربية، والصلاة خارج المساجد.
عزز قادة الحزب الأوامر المفروضة بتحذيرات من الإرهاب الحاصل في الخارج ومن هجمات مماثلة محتملة في الصين.

- على سبيل المثال، في توجيهات من عشرة صفحات في يونيو 2017 وقَّعها تشو هايلون - المسؤول الأمني الأعلى في شينجيانغ وقتها – وصفٌ للهجمات الإرهابية الأخيرة في بريطانيا بأنها "تحذير ودرس لنا"، وإلقاء باللوم على الحكومة البريطانية "لتركيزها المفرط على 'حقوق الإنسان مقدَّمة على الأمن' وعدم كفاية الضوابط المفروضة ضد انتشار التطرف على الإنترنت وفي المجتمع".
- كما اشتُكي فيها من ثغرات أمنية في شينجيانغ، من ضمنها التحقيقات الضعيفة، والأعطال في معدات المراقبة، وعدم احتجاز الأشخاص المتهمين بسلوك مشبوه.
- وردت أوامر في وثائق التوجيهات بأن تستمر الاعتقالات، جاء فيها: "تقيدوا باعتقال كل من ينبغي اعتقاله... إن كانوا هناك، فاعتقلوهم".

عدد الأشخاص الذين تم سَوقهم إلى المعسكرات ما يزال سراً تحت الحراسة المشددة. إلا أن إحدى الوثائق التي سُرِّبت تعطي إشارة لحجم الحملة: فيها تعليمات للموظفين بمنع انتشار الأمراض المعدية في المرافق المزدحمة.

 "لقد خرقتُ القوانين"

كانت الأوامر ملحَّة ومثيرة للجدل بشكل خاص في مقاطعة ياركاند، وهي مجموعة من البلدات والقرى الريفية في جنوب شينجيانغ التي فيها تقريباً كامل السكان - البالغ عددهم تسعمائة ألف نسمة - من الإيغور.
في خطابات عام 2014، أشار السيد شي جين بينغ إلى جنوب شينجيانغ بالتحديد كخط المواجهة في كفاحه ضد التطرف الديني. يشكل الإيغور ما يقرب من تسعين في المائة من السكان في الجنوب، مقارنة مع أقل من النصف في شينجيانغ عموماً، وقد حدد السيد شي جين بينغ هدفاً طويل الأجل لجذب المزيد من مستوطني عرق الهان الصينيين.
وأظهرت الوثائق أنه هو وزعماء الحزب الآخرين أمروا منظمة شبه عسكرية - وهي شركة شينجيانغ للإنتاج والبناء - بتسريع الجهود لتوطين المنطقة بمزيد من طائفة الهان الصينيين.
وفقاً لتقارير حكومية، بعد بضعة أشهر هاجم أكثر من مائة من مسلحي الإيغور يحملون فؤوساً وسكاكين مكتباً حكومياً ومركزاً للشرطة في ياركاند، فقتلوا سبعة وثلاثين شخصاً. قَتَلت قوات الأمن تسعة وخمسين مهاجماً في المعركة حسبما ذكرت التقارير.
عُيِّن مسؤول يدعى وانغ يونغ تشي لإدارة ياركاند بعد ذلك بوقت قصير. كان يبدو بنظارته وقَصَّة شعره القصيرة وكأنه صورةٌ معبِّرة لتكنوقراطيٍ في الحزب. نشأ وقضى حياته المهنية في جنوب شينجيانغ وكان يُرى مسؤولاً متمرساً قادراً على إنجاز الأولويات العليا للحزب في المنطقة: التنمية الاقتصادية والسيطرة المُحكَمة على الإيغور.
لكن من بين المستندات الأكثر كشفاً للأمور في الأوراق المسربة وثيقتان تصفان سقوط السيد وانغ - تقرير من إحدى عشرة صفحة يلخص التحقيق الداخلي للحزب بخصوص تصرفاته، ونصٌ لاعترافٍ من خمس عشرة صفحة قد يكون أدلى به تحت الإكراه. وُزِّع كل منهما داخل الحزب كتحذير للموظفين لينصاعوا للحملة.
يعمل مسؤولون من الهان كالسيد وانغ مرساةً للحزب في جنوب شينجيانغ، يراقبون موظفين من الإيغور في مناصب أدنى، ويبدو أنه يستمتع بمباركة كبار القادة، بمن فيهم يو تشنغ شنغ، الذي كان آنذاك أكبر مسؤول صيني مكلف بالقضايا العرقية، وقد زار المقاطعة في عام 2015.
بدأ السيد وانغ بتعزيز الأمن في ياركاند، لكنه دفع أيضاً بالتنمية الاقتصادية لمعالجة الاستياء العرقي، وسعى لتخفيف حدة السياسات الدينية للحزب معلناً أن لا حرج من وجود القرآن في المنزل ومشجعاً موظفي الحزب على قراءته لفهم تقاليد الإيغور بشكل أفضل.
عندما بدأت الاعتقالات الجماعية، فعل السيد وانغ كما قيل له في البداية وظهر عليه أنه تبنَّى المهمة بحماس.
فقد بنى مركزين شاسعين للاحتجاز، واحد منها بمساحة خمسين ملعب كرة سلة، واقتاد إليهما عشرين ألف شخص.
وزاد من تمويل قوات الأمن بسرعة إلى حدِّ كبير في عام 2017.. زاد الإنفاق إلى أكثر من الضعف على مصارف مثل المراقبة ونقاط التفتيش لتصل إلى 1.37 مليار رينمينبي.. ما يعادل مائة وثمانون مليون دولار.
وجعل أعضاء الحزب يصطفون في تجمُّع في ساحة عامة وحثهم على المضي في الحرب ضد الإرهابيين. قال: "أبيدوهم بالكلية… اقضوا عليهم كلهم".
لكن كان لدى السيد وانغ مخاوف على المستوى الشخصي، وفقاً للاعتراف الذي وقعه لاحقاً، والذي كان سيفحصه الحزب بعناية.
كان يتعرض لضغوط شديدة لمنع اندلاع أعمال عنف في ياركاند، وكان قلقاً من أن تؤدي حملة القمع إلى رد فعل عنيف.
حددت السلطات أهدافاً عددية لاعتقالات الإيغور في أجزاء من شينجيانغ، وفي حين لم يكن واضحاً ما إذا كانوا قد فعلوا ذلك في ياركاند، شعر السيد وانغ بأن الأوامر لم تترك مجالاً للاعتدال وستسمِّم العلاقات العرقية في المقاطعة.
كما أنه كان قلقاً من أن الاعتقالات الجماعية ستجعل من المستحيل تحقيق التقدم الاقتصادي الذي كان يحتاجه لكسب ترقية.
حددت القيادة أهدافا للتخفيف من حدة الفقر في شينجيانغ. ولكن مع إرسال الكثير ممَّن هم في سن العمل إلى المعسكرات، كان السيد وانغ يخشى أن تكون الأهداف بعيدة المنال.. مع آماله في الحصول على وظيفة أفضل.
وكَتَبَ أن رؤساءه كانوا "مفرطين في الطموح وغير واقعيين".
وأضاف أن "السياسات والتدابير التي اتخذتها المستويات العليا من القيادة كانت على خلاف مع الوقائع على الأرض ولا يمكن تنفيذها بالكامل".
وللمساعدة في إنفاذ حملة القمع في جنوب شينجيانغ، قام السيد تشين كوانغو بنقل المئات من الموظفين من الشمال. على المستوى العلني، رحب السيد وانغ بالموظفين المكلفين بـ ياركاند والبالغ عددهم اثنين وستين موظفاً. وعلى المستوى الشخصي، كان مغتاظاً لكونهم لم يفهموا كيفية العمل مع الموظفين المحليين والسكان.
كان الضغط مستمراً بلا هوادة على الموظفين في شينجيانغ لاحتجاز الإيغور ومنع أعمال عنف جديدة، وقال السيد وانغ في اعترافه - الذي يُحتمل أنه أدلى به تحت الضغط - أنه شرب الخمر أثناء العمل. ووصف حادثةً انهار فيها من السُكْر خلال اجتماع بخصوص الأمن.
وقال: "أثناء تقديم تقرير عن عملي في الجلسة المسائية، تحدثت بكلام غير مترابط... لقد تحدثت ببضع جمل فقط وانهار رأسي على الطاولة. أصبحَتْ تلك الواقعة أكبر نكتة في جميع أنحاء المقاطعة ".
عوقب الآلاف من الموظفين في شينجيانغ لمقاومتهم أو إخفاقهم في إنفاذ الحملة بحماسة كافية. وتشير الوثائق إلى أن موظفين إيغور اتُّهموا بحماية زملائهم من الإيغور، وسُجن غو وين شنغ - زعيم طائفة الهان في مقاطعة جنوبية أخرى - لمحاولته إبطاء عمليات الاعتقال وحماية موظفين إيغور.
سافرت فِرَق سرية من المحققين في جميع أنحاء المنطقة للتعرف على من لم يقوموا بما فيه الكفاية. وتشير إحصائيات رسمية أن الحزب فتح في عام 2017 أكثر من اثنَي عشر ألف تحقيق مع أعضاء في الحزب في شينجيانغ بسبب مخالفات في "الحرب ضد الانفصالية"، أي ما يزيد عن عدد التحقيقات في العام السابق بعشرين ضعفاً.
قد يكون السيد وانغ ذهب أبعد من أي مسؤول آخر.
أمر سِرَّاً بالإفراج عن أكثر من سبعة آلاف من نزلاء المعسكر - وهو عملٌ فيه تحدٍّ وسيُعتقل بسببه ويُجرَّد من سلطته ويُحاكَم.

- وقد كتب السيد وانغ قائلاً: "لقد قمت بإجراءات تخفيفية وتصرفت اختياريَّاً وقمت بتعديلاتي معتقداً أن إلقاء القبض على الكثير من الناس سيؤدي إلى إثارة الصراع وزيادة الاستياء عن معرفة مسبقة".
- وأضاف: "بدون موافقة مسبقة وبمبادرةٍ مني.. خرقت القوانين".

 تحدٍّ صريح

اختفى السيد وانغ عن الأنظار بصَمت بعد سبتمبر 2017.
بعد حوالي ستة أشهر جعل الحزب منه عبرة معلناً أن تحقيقاً كان يُجرى معه بسبب "عصيانه الخطير لاستراتيجية القيادة المركزية للحزب لحكم شينجيانغ".
كان التقرير الداخلي بخصوص التحقيق أكثر صراحة، جاء فيه: "كان ينبغي أن يبذل قصارى جهده لخدمة الحزب.. لكنه بدلاً من ذلك تجاهل إستراتيجية القيادة المركزية للحزب في شينجيانغ، ومضى بذلك لدرجة التحدٍّي الصريح".
قُرِئ كل من التقرير واعتراف السيد وانغ بصوت عالٍ للموظفين في جميع أنحاء شينجيانغ. كانت الرسالة واضحة: لن يتسامح الحزب مع أي تردد في تنفيذ الاعتقالات الجماعية.
ووصفت منافذُ دعائية السيد وانج بأنه فاسد لدرجةٍ لا يمكن إصلاحها، واتهمه التقرير الداخلي بتلقي رشاوٍ على صفقات بناء ومناجم ودفْعِ أموال لرؤسائه للحصول على ترقيات.
وأكدت السلطات أيضاً أنه ليس صديقاً للإيغور. ولتحقيق أهداف الحد من الفقر، قيل إنه أجبر ألفاً وخمسمائة أسرة على الانتقال إلى شقق غير مزودة بالتدفئة في منتصف فصل الشتاء. وورد في اعترافه أن بعض القرويين أحرقوا الحطب في منازلهم للتدفئة مما أدى إلى إصابات ووفيات.
إلا أن أعظم خطيئة سياسية للسيد وانغ لم يُكشَف عنها على العلن. وبدلاً من ذلك، أبقت السلطات عليها مخفيَّة في التقرير الداخلي، وهي:
"لقد رفض إلقاء القبض على كل من ينبغي القبض عليه".
‏٠٧‏/١٢‏/٢٠١٩ ٥:١٨ م‏
مصير المواطن الصالح محمد إلهامي حمّل العدد الجديد bit.ly/2P55Bo6 هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk روى الشهيد سيد قطب في مذكراته قصة بليغة معبِّرة، وهي تتماس مع ما كنا كتبناه في العدد الماضي عن "نكبة الشعوب العزلاء"، وهذه القصة الحقيقية وقعت في قريته موشا التابعة لمحافظة أسيوط، وكانت في العقد الثاني من القرن الماضي، والجدير بالذكر هنا أن هذه المذكرات التي تحكي طفولة سيد قطب وأيامه في القرية إنما كُتِبَتْ ونُشِرَت قبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي وقبل أن يتعرف على الإخوان المسلمين. وأهمية هذه القصة أنها تختزل كثيرا من الحقائق التي لا تزال حاضرة حتى الآن. سأنقل القصة أولا، ثم أعقب عليها بما يهمنا من الوقوف عنده. قال سيد قطب: "صحت القرية مروعة على صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وخطوات الجند الثقيلة، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول، ويجوسون خلالها في جلبة وضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج. وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم أن ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا، فأوثقوهم بالحبال والسلاسل، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فيُنَبِئوا القرية النبأ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام. ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم، وكُمِّمت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوار العمدة الذي أوقظ في البكور، وحُجِز في غرفة من غرف دواره، ريثما يجتمع إليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم، فصُنِع بهم هناك ما صُنِع بالخفراء. وكانت القرية كلها قد استيقظت مروَّعة، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت ودرب قد فزَّعت الناس وملأت قلوبهم رعبا. ماذا؟ ماذا؟ إنها حملة لجمع السلاح! حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا، واختار هذه الطريقة المروّعة ليبدأ بها عمله، فلم تعلم القرية ماذا يبغي، ولا حتى العمدة والمشايخ، إلا بعد أن صار المقبوض عليهم بالعشرات، ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة، وكلهم مكتوفو الأيدي بالحبال، تتلقاهم الأيدي بالصفع، والأرجل بالركل، دون أن يعلموا شيئا عن حقيقة ما يُراد بهم.. سوى أن الحكومة هنا، والحكومة تصنع هذا وسواه.. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش. كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عُمَد البلاد كالمعتاد، فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع، وهو عادة لا يساوي إلا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين. ولكي ندرك حقيقة الحال، يجب أن نعلم أن السلاح في القرية يملكه فريقان؛ الفريق الأول: هم أصحاب الحقول والمواشي وخفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على أموالهم من اللصوص، والفريق الثاني: هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذين يجدون هذه الحرفة -على ما فيها من مخاطر- أضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول. ونَقْصُ السلاح في أيدي أصحاب الحقول والمواشي معناه زيادة في ارتكاب الجرائم، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم ومواشيهم، أما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة! كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح، ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة، فإن جمع السلاح في كل مرة كان ينصبّ على الفريق الأول بكل تأكيد. ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف، ولا حسب الأوامر الرسمية، إنما تجري حسب المواضعات العرفية، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت، وما نوع كل قطعة، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة، فإن بعض القطع الحديثة تُزَيِّن المقدار المجموع، ويُوَرَّد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة أن يحصل عليه. وطبيعي أن هذا كله لا يتم بالمجان، فلكل شيء ثمن، ولكل خدمة مقابل في الريف، فإذا خطر للسلطات أن ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل، فالمرجع هو العمدة وبإشارته يتم كل شيء، وغداءٌ فخمٌ على أوزي وبعض أزواج الديكة والدجاج والحمام كفيلٌ مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء، وإتمام المحاضر على خير ما يرام! أما هذه الطريقة المبتكرة، فقد تفَتَّقَت عنها عبقرية ذلك الضابط، الذي تعهد للسلطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام. ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم، أُلْصِقَتْ وجوههم بالحائط دون أن يعلموا شيئا مما يُطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا أن يتلقوها بين الحين والحين، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة، أو قتل الجراد فيها، دون أن ينالوا على ذلك أجرا، لأن أجورهم –إن حُسِبَت لهم أجور- تذهب إلى جيوبٍ أخرى، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ما هي، ثم ينصرفون وبحسبهم أنهم قد انصرفوا ناجين، بعد أن يكونوا قد كُلِّفوا استحضار طعامهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص أو تزيد! لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة، ولكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من أيدي الجنود، عن أن اليوم ليس كالأيام، وإنما هو العذاب الأليم الذي لا يملكون له ردًّا وهم مسجونون! ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم والخفراء المُوثقون، والأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار! هذا الرصاص للإرهاب، وبلبلة الأفكار، وإتلاف الأعصاب، وبينما هذا الفزع الأكبر يُخيِّم عليهم، ويكاد يُفقدهم صوابهم، أُمِر كلٌّ من المشايخ أن يُملي على الشاويشية أسماء مائتي رأس أسرة ممن يملكون سلاحا في البلدة، وأن يُعَيِّن نوع قطع السلاح التي يملكونها! وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقلٌ أو ذاكرة، فقد أخذ كل منهم يُملي الأسماء، وكلما توقف برهة ليتذكر، نزلت السياط على ظهره وجنبيه، فارتفعت حرارة العدّ، ومضى كالمجنون يُملي الأسماء! وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيانٌ عن مائتي عائلة تحمل سلاحا، وأمام كل اسم نوع القطع التي يملكها رأس هذه العائلة. ولسنا في حاجة إلى أن نقول: كيف كانت هذه البيانات، ولا مدى مطابقتها للواقع، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه، لا يُطلب إليه في هذه الحال أن يتحرى شيئا، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فإنما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ! وانتهت هذه المرحلة ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب والفزع والألم، أما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر، لقد كان حصيفا، رأى العين الحمراء، فسارع إلى وسيلة مضمونة لإرضاء الحكام، هَدَتْه إليها تجربة طويلة وذكاء عملي ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات! ثم بدأت المرحلة الثانية، فانطلق الخفراء مع الجنود وهم مكتوفو الأيدي، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت، وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات، ويصروا على استحضار أكبرهم سنا، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار.. وهناك يُصنع بهؤلاء ما صُنِع من قبلُ بالمشايخ والخفراء قبل أن يُسْأَلوا شيئا وقبل أن يجيبوا، حتى إذا أُشْبِعوا ضربا وترويعا وإهانة صُرِّح لهم عما يُطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات. فأما إذا صادف أن كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده فقد أحسّ بالفرج وبادر بالإقرار وطُلب أن يسمح له بإحضارها، ولكنه لم يُجَب إلى طلبه، إنما يُستدعى أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته، فيشاهده هكذا، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات واللكمات، ثم يتلقى الأمر منه أن يستحضر قطع السلاح المطلوبة، فيخرج ركضا لاستحضارها، حتى إذا تمَّت معاينتها وظهرت مطابقتها للبيانات المكتوبة أُفرج عن الرجل وابنه أو قريبه، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة ما لَقِيا من اللكم والصفع، ومن الفزع والروع، وانصرف أهله لعلاج جروحه وكدماته بالزيوت والـمُسَكِّنات! وأما إذا صادف أن اختلفت البيانات عما عنده من السلاح، أو لم يكن لديهم سلاح أصلا، فالويل له والثبور، يُعاد جلده ولكمه وصفعه ما دام يُنكر، أو يقرّ بسلاح آخر غير السلاح المطلوب، وفي الحالة الأخيرة كان يُحْضَر السلاح الذي يملكه، ثم يظل يُطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ وهو في ذهول الروع والآلام! عندئذ يضطر المسكين أن يعترف بما ليس عنده، وأن يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد، وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات، لشرائها حيث تكون، فإن لم يجدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة أنهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد، اطمئنانا إلى أن رأس الأسرة رهين لدى القوة، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين. وعندما يُوفَّقون إلى القطعة المطلوبة يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع. وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في أثمان القطع المطلوبة، كما أن الكثيرين أيضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار. عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تُحضَر بعد الإنكار، ويردّ ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق! في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تُصَنَّف أكواما أكواما، فهذه بنادق، وهذه غدارات، وهذه مسدسات، وهذه طبنجات، وهذه سيوف، وهذه سكاكين كبيرة، وهذه بلط، وهذه مزاريق، وكل "ماركة" من هذه الأنواع مرتبة وحدها، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين.. وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة، فهذا مشجوج الرأس، وذلك مرضوض الأضلاع، وذلك ملتهب الجلد، وهذا ممزق الأشداق، وكان نسوة وأطفال القرية يغدون ويروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن والبارد يسعفون بها المصابين. وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم وحلي نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل إنها عندهم، وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا. لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين أكمل المشايخ بهم العدد، وهم في مأمن من ردّ الجميل، إذ لا قوة لهم كالأشقياء، ولا جاه لهم كالأثرياء. ويمرّ على هذه الحادثة أكثر من ربع قرن! والطفل لا يزال يذكرها كأنها حادث الأمس القريب، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة. وفي أثناء هذه السنوات يسمع أن هذا الضابط الوحش قد رُقّي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام، فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين. ثم يسمع إشاعات بعد ذلك أنه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات، فيحس أن كابوسا ثقيلا قد رُفِع عن صدره، وتنفس الصعداء". انتهى الاقتباس من مذكرات الشهيد سيد قطب.. وبقي أن نُعَلِّق عليه بما هو مقصود المقال، فنقول وبالله التوفيق: 1. أما الطغيان والجبروت والإجرام في السلطة المصرية فهو حديث طويل، وليس هو المقصود بالكلام هنا، ولكنه إجرام متأصل قديم، وحتى إشارة سيد قطب إلى "الحكم التركي" الذي لا زال يعيش بعض من أدركوه، فإنما المقصود به حكم أسرة محمد علي وليس الحكم العثماني، فقد انخلعت مصر من الحكم العثماني -عمليًا- منذ 1805 مع تولي محمد علي للسلطة، وهذا الهجوم الذي تنفذه السلطة على الناس إنما هو أسلوب محمد علي في جمع المصريين للتجنيد الإجباري، ويمكن العودة في تفاصيل هذه المآسي لكتاب "كل رجال الباشا" (ص145 وما بعدها)، ومن وقتها صار الشعب المصري كالعبيد لدى السلطة، حتى إن الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون –الذي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر- يتحدث عن تقليد مستقر في ضرب المصري بالقفا إذا دخل قسم الشرطة. (رحلة بيرتون، 1/9، 105). إن الشعب قد صار مجموعة من العبيد بإمكان ضابط الشرطة أن يستبيحه كيفما شاء، أي أن العيش في مصر مرهون بمزاج ضابط الشرطة غالبا، فإذا خطرت له فكرة في إطار صلاحياته فبإمكانه أن ينفذها بما يحيل حياة الناس جحيما دون أن يبالي. وبينما كانت تحتفظ القرى بنوع من الأعراف وحفظ المقامات واحترام الكبير، فإن السلطة لا تفهم هذا كله، إن حضور السلطة إلى القرية يعني انهيار كل القيم والأعراف والتقاليد، لتبرز الحقيقة الوحيدة: السيد والعبيد، وللسيد أن يفعل ما شاء بمن شاء كيفما شاء! لا معقب ولا رقيب. ليس هذا فحسب، بل إن كفاءة الضابط تقاس بما يُحدثه من الترويع، ومن تحقيق علاقة السيد بالعبيد، فقد وصل إلى أن صار مديرا للأمن العام، ولم يلق جزاءه العادل إلا على يد مواطن "خارج عن القانون"!! 2. وأما اللافت للنظر والمثير للغيظ معا أن هذه السلطة المتوحشة لا تقيم الأمن، ولا تقضي على اللصوص، بحيث يضطر الناس إلى التسلح لحماية أنفسهم وأموالهم ، ولكن الحكومة تمنع حيازة السلاح تحت مبرر أنها الجهة التي تحتكر السلاح وتتكفل بحفظ الأمن وإقامة العدل. فكأنها تمنع عنك حيازة الماء لأنها تتكفل لك بإروائك من العطش ومع ذلك فإنها لا تفعل، فإذا حاولت أن تشرب فأنت مهدد بالعقاب! لن نخوض الآن في حق حمل السلاح الذي هو حق أصيل للبشر منذ وُجِدوا على هذه الأرض، ولم يكن معرضا للنقاش إلا في عصر الحداثة هذا، مع أن بلاد الحداثة الآن تسمح بحمل السلاح وتتساهل في الترخيص به، إلا بلادنا، التي يُراد لشعوبها أن تعيش كالفراخ والدجاج تنتظر دورها على يد الجزّار. ولذلك كان التجريد من السلاح في مقدمة القرارات التي أصدرتها سلطات الاحتلال والتغريب منذ نابليون وحتى الآن. لكن الذي يجب الخوض فيه والتركيز عليه، هو هذا الفارق بين الفريقيْن المسلحيْن في القرية، فثمة فريق يحمي السلاح ليدافع عن نفسه، وثمة فريق يحمل السلاح ليُهاجِم به فيسرق وينهب. أما الفريق الأول فهو خارج عن "القانون" في مسألة حمل السلاح وحدها، وأما ما سوى ذلك فهو مواطن صالح ملتزم بشروط السلطة: يؤدي الضرائب، يعمل بالسخرة، يتحاكم إلى المحاكم... إلخ! وأما الفريق الثاني فهو خارج عن "القانون" دائما، حياته هي نفسها الخروج على "القانون".. فماذا كان المصير؟! كان المصير أن هؤلاء الخارجين عن القانون هم الذين كانوا بمنأى عن السلطة، هم الذين كانت لهم من القوة والهيبة ما منع مشايخ البلد أن يُبْلِغوا عنهم حتى وهم في العذاب، لقد فضَّل مشايخ البلد أن يكتبوا أسماء الفقراء والتعساء ومن لم يحمل سلاحا قط ليُكملوا به العدد ولا أن يقتربوا من فئة اللصوص المسلحين.. وهكذا، لم يدفع الثمن إلا المواطنون الصالحون الملتزمون بالقانون، بل ودفعه أولئك الضعفاء الذين لم يحملوا سلاحا أصلا لأنه ليست لديهم أموال يحرسونها أو ليست لديهم أموال يشترون بها سلاحا، بينما نجا من هذا المصير أولئك الذين مزَّقوا القانون وخرقوه ووضعوه تحت أقدامهم وعاشوا حياتهم لا يعترفون به ولا يقيمون له وزنا. وهذا الوضع مستقر مستمر حتى يومنا هذا، فالسلطة في بلادنا تتحالف مع اللصوص والبلطجية ومنظمات الإجرام وتجار السلاح والمخدرات والأعضاء البشرية والآثار، وبينهما تحالفات وصفقات وخدمات متبادلة، بينما لا يُطبَّق القانون إلا على "المواطن الصالح"، فهذا المواطن الصالح يعاني من البلطجي واللص والمجرم ثم لا يجد طريقا إلا أن يشتكي للشرطة، وعند الشرطة يعاني مرة أخرى، بحسب ما يجده من الظروف وما يكون من مزاج الضابط الذي سيتولى أمره. في هذه الحال، يجب أن يسأل المرء نفسه: هل من المفيد أن تكون هذا "المواطن الصالح"؟ 3. وقعت هذه القصة في قرية موشا المنزوية في بلاد الصعيد، ولكنها تعبير حقيقي ممتاز عن السياسة الدولية، القوة الدولية التي تمثل السلطة العليا يمكنها أن تستبيح ما تشاء من العبيد بفارق القوة التي تملكها، وحتى السلطة المحلية التي تخدمها وتوفر عليها الوقت والجهد، يمكن أن يعنّ لها في بعض الأحيان أن تتجاوزها وتتدخل بنفسها لتنفذ ما تراه في صالحها. إن عمدة القرية لم يكن متمردا، ولا مشايخ البلد، بل هم ممثلو السلطة العليا، هم الذين يديرون لها الأموال والثروة ويجمعون لها الضرائب والعاملين بالسخرة، ولكنهم يحتاجون في سبيل هذا لبعض المهارة والحكمة التي تفرضها الأعراف التي جعلتهم في موضع السلطة فيراعونها. السلطة القوية الغاشمة لا تعترف بهذا كله حين تريد. مثلما لا يتردد الضابط وجنوده في حبس العمدة ومشايخ البلد وإهانتهم، لا يتردد ترمب في إهانة وإذلال عملائه في السعودية ومصر رغم أنهم لم يفكروا في التمرد عليه، فهو ينهب بالمليارات ويفرض العقوبات ويهدد ويسخر، والعبيد يواصلون الخدمة ولا يفكرون في التمرد! وحدهم الذين تسلحوا بأنفسهم، وغامروا بها، وخاطروا، وصاروا لا يبكون على شيء.. وحدهم الذين ينجون من الإهانة والإذلال.. فإما عاشوا كما أرادوا، وإما ماتوا موتا سريعا لا إهانة فيه ولا إذلال. وحدهم أولئك الذين استطاعوا الانتقام من الضابط الوحش الذي صار بوحشيته مدير الأمن العام! استشهاد القسام وعزام مرت في شهر نوفمبر ذكرى استشهاد رجلين من أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامي الحديث، وهما الشيخ عز الدين القسام (20 نوفمبر 1935م) والشيخ عبد الله عزام (24 نوفمبر 1988م)، وكلا الرجلين مثَّل رمزًا للمقاومة الإسلامية في عصره وفي الأجيال التالية له حتى يوم الناس هذا! كلا الرجلين من رجال الأزهر الشريف، غير أنك لن تجد الأزهر المعاصر يحتفي بهما ولا يذكر لهما مآثرهما ولا يدرس سيرتهما، وما ذلك إلا لأن محاولات تحطيم الأزهر وتدجينه قد آتت ثمرتها، وصار الأزهر يدفع عن نفسه وصمة التطرف والإرهاب!! وكلا الرجلين وجد طريقه للجهاد حين أغلق عليه الجهاد في بلده، فقد جاهد القسام في سوريا حتى أغلق عليه السبيل وضاقت به المسالك، فوجد سبيلا له للجهاد في فلسطين حتى لقي الشهادة. وحاول عزام أن يتصدى في قلة للاجتياح الإسرائيلي لقريته في نكبة 1967 ثم ضاقت عليه سبيل الجهاد في بلده فوجد سبيله للجهاد في أفغانستان وكان شيخ المجاهدين العرب. وبهذا حقق الرجلان بسيرتهما واستشهادهما حقيقة أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الأمة أمة واحدة، وأن الحدود بينها ليست إلا ترابا وخيالا ولو تواطأ على ترسيخها وتعزيزها طواغيت الغرب والشرق. وكلا الرجلين لا يزال حيا في ضمير الأمة وبين صفوة شبابها رغم أن السلطة ومنافذ تعليمها وثقافتها وإعلامها يعمل على طمسه وطمره أو على وصف طريقه ومنهجه بالتطرف والإرهاب، فضمير الأمة أبقى وأعمق، هذا مع أنه يجب أن نلوم كثيرا من الحركات الإسلامية كذلك أنها لم تسع في إحياء سيرة هذين الرجلين ولا تدريس سيرتهما ولا العناية بإنتاجهما (لا سيما الإنتاج العلمي الكبير لعزام)، فالذين حملوا على عاتقهم إحياء هذه الذاكرة إنما كانوا من الشباب الذين خلت أيديهم من عوامل القوة والنشر والترويج. حماس والجهاد الإسلامي من أخطر ما وقع في الساحة الإسلامية الشهر الماضي هي الحرب التي عانت منها غزة، والتي بدأت باغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا. إن ثمة انقساما حصل في ساحة غزة التي هي من أهم معاقل المقاومة، ونموذج المقاومة الراشدة التي تمزج السياسي بالعسكري وتوازن بين قوة العقل وقوة الساعد، وغزة عزيزة على كل مسلم، ثم هي أعز على كل مهموم بشأن الإسلام وشأن المقاومة. إن غزة بقعة مضيئة في الصمود ونموذج لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا، مع ما في كل تجربة من الهنات والأخطاء التي لا تخلو منها تجربة بشرية. لكن الذي حدث هذه المرة هو الأخطر في سياق أن العدو استطاع أن ينفذ عمليته بعد تخطيط وتصعيد إعلامي ثم عملية ميدانية تستهدف بوضوح إنشاء حالة الانقسام والشقاق بين حماس والجهاد، وهو الأمر الذي لا نستطيع القول إنه قد فشل فيه، بل على العكس، ما نراه من الحوارات بين شباب الفصيلين وما ندّ من بعض العناصر من الأفعال يشير إلى وضع مثير للخوف والقلق على العلاقة بينهما، وهو أمر يجب أن تتداعى له العقول والقلوب للإصلاح قبل أن يتسع الشقاق. ولعل هذا يكون أولى أولويات أهل الرشد في الساحة الفلسطينية! الحكم بإعدام هشام عشماوي أذاعت صفحة المتحدث الإعلامي للعسكر المصري أنهم حكموا بالإعدام على هشام عشماوي، رائد الصاعقة المنشق عن الجيش المصري، ومؤسس تنظيم المرابطين، ولكن اللافت للنظر أن جملة التهم التي أذاعتها هذه الصفحة لا تتضمن فيما بينها اعتداء واحدا على مدنيين، بل كانت كل التهم هي مشاركته أو تنفيذه في قتال ضد العسكريين. وهذا الوضع طبقا للعلوم الأمنية العلمانية وتشريعاتهم القانونية لا تندرج تحت مسمى "الإرهاب"، بل يدرجونها تحت مسمى "التمرد"، فالإرهاب هو غالبا عمل ضد المدنيين وبلا أهداف سياسية وليست له حاضنة شعبية ولا يعبر عن قضية مشروعة، بينما التمرد هو عمل ضد نظام السلطة وله قضية مشروعة ويتمتع بحاضنة شعبية ويسعى لتحقيق أهداف سياسية. والشاهد أن السلطة المصرية نفسها التي تهرف بوصف الإرهاب لم تحاول حتى أن تلفق تهمة "إرهابية" لخصمها الذي أزعجها، والذي لم تستطع أن تصل إليه بنفسها، وإنما سُلِّم لها تسليما. وبالنسبة للسلطة المصرية فيعد الحديث عن محاكمة عادلة نوعا من الهزر والسفاهة، فإذا كان الذي هتف في وسط الجموع وأمام الشاشات "سلميتنا أقوى من الرصاص" قد حُكِم عليه بالإعدام عدة مرات وبمئات السنين، فكيف بالذي خاض المعركة ضدهم، من بعد ما كان واحدا منهم؟! ولا يمكن في هذه العجالة الحديث عن قضيته، وقد تناولناها سابقا في هذا المقال، ولكن الذي يمكن قوله: إنه وإن لم ينصفه التاريخ بعد سقوط هذا الحكم العسكري، فحسبه أن الله هو الرقيب الحسيب الذي لا يُظلم عنده أحد.
مصير المواطن الصالح
محمد إلهامي

حمّل العدد الجديد
bit.ly/2P55Bo6

هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm

الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

روى الشهيد سيد قطب في مذكراته قصة بليغة معبِّرة، وهي تتماس مع ما كنا كتبناه في العدد الماضي عن "نكبة الشعوب العزلاء"، وهذه القصة الحقيقية وقعت في قريته موشا التابعة لمحافظة أسيوط، وكانت في العقد الثاني من القرن الماضي، والجدير بالذكر هنا أن هذه المذكرات التي تحكي طفولة سيد قطب وأيامه في القرية إنما كُتِبَتْ ونُشِرَت قبل أن يتحول إلى الفكر الإسلامي وقبل أن يتعرف على الإخوان المسلمين. وأهمية هذه القصة أنها تختزل كثيرا من الحقائق التي لا تزال حاضرة حتى الآن.

سأنقل القصة أولا، ثم أعقب عليها بما يهمنا من الوقوف عنده.


قال سيد قطب:
"صحت القرية مروعة على صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وخطوات الجند الثقيلة، يأخذون مشارفها جميعا إلى الحقول، ويجوسون خلالها في جلبة وضوضاء على غير عادة لها من زيارة الجند في مثل هذا العديد وذلك الضجيج. وكان أول من كشف الخبر أولئك الذين تقتضيهم أعمالهم أن ينهضوا مع الفجر مبكرين ليغادروا القرية جميعا، فأوثقوهم بالحبال والسلاسل، وجعلوهم عندهم رهينة حتى لا يعودوا فيُنَبِئوا القرية النبأ، ويفسدوا التدبير الذي وضعته القوة الهاجمة على الناس وهم نيام.

ونفذت الخطة نفسها مع خفراء المشارف، فأديرت أيديهم إلى ظهورهم، وكُمِّمت أفواههم بحيث لا يستطيعون الكلام ولا الصياح، ثم اقتيد الجميع في عجلة إلى دوار العمدة الذي أوقظ في البكور، وحُجِز في غرفة من غرف دواره، ريثما يجتمع إليه مشايخ القرية الخمسة الذين جاء بهم العسكر من بيوتهم، فصُنِع بهم هناك ما صُنِع بالخفراء. وكانت القرية كلها قد استيقظت مروَّعة، لأن صهيل الخيل وقعقعة السلاح والهمسات الوجلة التي أخذت تتدسس إلى كل بيت ودرب قد فزَّعت الناس وملأت قلوبهم رعبا. ماذا؟ ماذا؟ إنها حملة لجمع السلاح!

حملة من مائتي جندي يقودها ضابط تعهد للسلطات بجمع السلاح من قرى المديرية جميعا، واختار هذه الطريقة المروّعة ليبدأ بها عمله، فلم تعلم القرية ماذا يبغي، ولا حتى العمدة والمشايخ، إلا بعد أن صار المقبوض عليهم بالعشرات، ومن بينهم مشايخ البلد الخمسة، وكلهم مكتوفو الأيدي بالحبال، تتلقاهم الأيدي بالصفع، والأرجل بالركل، دون أن يعلموا شيئا عن حقيقة ما يُراد بهم.. سوى أن الحكومة هنا، والحكومة تصنع هذا وسواه.. فالذين عاصروا الحكم التركي لا يزال بعضهم يعيش.

كانت السلطات قد أصدرت أمرا عسكريا بجمع السلاح، وعهدت في تنفيذه إلى رجال الإدارة، وهؤلاء عهدوا بتنفيذه إلى عُمَد البلاد كالمعتاد، فاجتمع بذلك عدد من قطع الأسلحة كالذي يجتمع كلما صدر أمر من هذا النوع، وهو عادة لا يساوي إلا نسبة صغيرة من الموجود في أيدي القرويين.

ولكي ندرك حقيقة الحال، يجب أن نعلم أن السلاح في القرية يملكه فريقان؛ الفريق الأول: هم أصحاب الحقول والمواشي وخفراؤهم الخصوصيون الذين يسهرون على أموالهم من اللصوص، والفريق الثاني: هم هؤلاء اللصوص الكثيرون الذين يجدون هذه الحرفة -على ما فيها من مخاطر- أضمن للعيش من العمل المرهق في الحقول.
ونَقْصُ السلاح في أيدي أصحاب الحقول والمواشي معناه زيادة في ارتكاب الجرائم، والاعتداء على بيوتهم وحقولهم ومواشيهم، أما نقص السلاح في أيدي اللصوص فمعناه تجريدهم من بعض وسائل الرزق التي اختاروها لأنفسهم في الحياة!

كلا الفريقين إذن حريص على اقتناء السلاح، ولما كان العمدة يخشى أفراد الفريق الثاني تارة، وتتفق مصلحته الخاصة مع وجودهم تارة، فإن جمع السلاح في كل مرة كان ينصبّ على الفريق الأول بكل تأكيد.

ولكن الأمور لا تجري في القرية بالعنف، ولا حسب الأوامر الرسمية، إنما تجري حسب المواضعات العرفية، فالعمدة يعلم بالضبط كم قطعة من السلاح في كل بيت، وما نوع كل قطعة، فإذا طلبت الحكومة جمع السلاح اتفق مع بعض من يملكونه على تقديم القطع القديمة منه، ولكي لا تكون المسألة مكشوفة، فإن بعض القطع الحديثة تُزَيِّن المقدار المجموع، ويُوَرَّد للسلطات كآخر ما استطاع العمدة أن يحصل عليه.

وطبيعي أن هذا كله لا يتم بالمجان، فلكل شيء ثمن، ولكل خدمة مقابل في الريف، فإذا خطر للسلطات أن ترسل بقوة وعلى رأسها ضابط لتولي هذا العمل، فالمرجع هو العمدة وبإشارته يتم كل شيء، وغداءٌ فخمٌ على أوزي وبعض أزواج الديكة والدجاج والحمام كفيلٌ مع الوسائل الأخرى بتسوية كل شيء، وإتمام المحاضر على خير ما يرام!

أما هذه الطريقة المبتكرة، فقد تفَتَّقَت عنها عبقرية ذلك الضابط، الذي تعهد للسلطات بجمع السلاح جمعا حقيقيا من جميع قرى المديرية، فاتخذ هذا الأسلوب البارع المفاجئ الذي روعت له القرية كلها في جنح الظلام.

ونعود إلى هؤلاء المشايخ الخمسة الذين أديرت أيديهم إلى ظهورهم، أُلْصِقَتْ وجوههم بالحائط دون أن يعلموا شيئا مما يُطلب إليهم من مهام الحكومة التي اعتادوا أن يتلقوها بين الحين والحين، كجمع أنفار السخرة لإصلاح الجسور، ولتنقية الدودة من المزارع الكبيرة، أو قتل الجراد فيها، دون أن ينالوا على ذلك أجرا، لأن أجورهم –إن حُسِبَت لهم أجور- تذهب إلى جيوبٍ أخرى، وتؤخذ بصماتهم على أوراق لا يدرون ما هي، ثم ينصرفون وبحسبهم أنهم قد انصرفوا ناجين، بعد أن يكونوا قد كُلِّفوا استحضار طعامهم من بيوتهم طوال مدة السخرة التي تنقص أو تزيد!

لم يفصح لهم أحد عن هذه المهمة المطلوبة منهم في هذه المرة، ولكن أفصحت لهم السياط التي أخذت تلهب ظهورهم من أيدي الجنود، عن أن اليوم ليس كالأيام، وإنما هو العذاب الأليم الذي لا يملكون له ردًّا وهم مسجونون!

ثم أخذ الرصاص يدوي فوق رؤوسهم هم والخفراء المُوثقون، والأهالي الذين اصطيدوا من مشارف القرية ومن طرقاتها حسبما اتفق حتى امتلأ بهم فناء الدوار!
هذا الرصاص للإرهاب، وبلبلة الأفكار، وإتلاف الأعصاب، وبينما هذا الفزع الأكبر يُخيِّم عليهم، ويكاد يُفقدهم صوابهم، أُمِر كلٌّ من المشايخ أن يُملي على الشاويشية أسماء مائتي رأس أسرة ممن يملكون سلاحا في البلدة، وأن يُعَيِّن نوع قطع السلاح التي يملكونها!

وإذا كان قد بقي فيهم إلى الآن عقلٌ أو ذاكرة، فقد أخذ كل منهم يُملي الأسماء، وكلما توقف برهة ليتذكر، نزلت السياط على ظهره وجنبيه، فارتفعت حرارة العدّ، ومضى كالمجنون يُملي الأسماء!

وانتهت العملية فإذا في يد كل جاويش بيانٌ عن مائتي عائلة تحمل سلاحا، وأمام كل اسم نوع القطع التي يملكها رأس هذه العائلة.

ولسنا في حاجة إلى أن نقول: كيف كانت هذه البيانات، ولا مدى مطابقتها للواقع، فالشيخ المصلوب المجلود المهدد بالموت من الرصاص المتطاير فوق رأسه، لا يُطلب إليه في هذه الحال أن يتحرى شيئا، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن أحدا من كبار الأشقياء المرهوبين لم يرد اسمه في هذه القائمة، وإذا كانت بعض الأسماء قد وردت فإنما هي لصغار الأشقياء الذين لا عصبية لهم في البلد ولا نفوذ!

وانتهت هذه المرحلة ووقف المشايخ الخمسة يلهثون من التعب والفزع والألم، أما العمدة فقد اشترى نفسه وكرامته من أول الأمر، لقد كان حصيفا، رأى العين الحمراء، فسارع إلى وسيلة مضمونة لإرضاء الحكام، هَدَتْه إليها تجربة طويلة وذكاء عملي ومقدرة على جميع الوسائل والاتجاهات!

ثم بدأت المرحلة الثانية، فانطلق الخفراء مع الجنود وهم مكتوفو الأيدي، يجوسون معهم خلال القرية ليدلوهم على البيوت، وليدقوا الأبواب يطلبون رؤوس العائلات، ويصروا على استحضار أكبرهم سنا، وكلما استحضروا منهم جماعة ذهبوا بهم إلى الدوار.. وهناك يُصنع بهؤلاء ما صُنِع من قبلُ بالمشايخ والخفراء قبل أن يُسْأَلوا شيئا وقبل أن يجيبوا، حتى إذا أُشْبِعوا ضربا وترويعا وإهانة صُرِّح لهم عما يُطلب منهم من قطع السلاح حسب البيانات. فأما إذا صادف أن كانت القطع المطلوبة من أحدهم مطابقة لما عنده فقد أحسّ بالفرج وبادر بالإقرار وطُلب أن يسمح له بإحضارها، ولكنه لم يُجَب إلى طلبه، إنما يُستدعى أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته، فيشاهده هكذا، ثم يلقى هو الآخر بعض الصفعات واللكمات، ثم يتلقى الأمر منه أن يستحضر قطع السلاح المطلوبة، فيخرج ركضا لاستحضارها، حتى إذا تمَّت معاينتها وظهرت مطابقتها للبيانات المكتوبة أُفرج عن الرجل وابنه أو قريبه، فخرجا لا يدريان النور من الظلام لشدة ما لَقِيا من اللكم والصفع، ومن الفزع والروع، وانصرف أهله لعلاج جروحه وكدماته بالزيوت والـمُسَكِّنات!

وأما إذا صادف أن اختلفت البيانات عما عنده من السلاح، أو لم يكن لديهم سلاح أصلا، فالويل له والثبور، يُعاد جلده ولكمه وصفعه ما دام يُنكر، أو يقرّ بسلاح آخر غير السلاح المطلوب، وفي الحالة الأخيرة كان يُحْضَر السلاح الذي يملكه، ثم يظل يُطالب بقطع السلاح الأخرى التي أملاها الشيخ وهو في ذهول الروع والآلام!
عندئذ يضطر المسكين أن يعترف بما ليس عنده، وأن يطلب مهلة لإحضاره من مكمنه البعيد، وفي هذه المهلة ينطلق أبناؤه وأقاربه يبحثون عن قطعة سلاح مطابقة للبيانات، لشرائها حيث تكون، فإن لم يجدوها في القرية ركبوا أسرع دوابهم للبحث عنها في القرى المجاورة، فيسمح لهم الحراس بالخروج بحجة أنهم ذاهبون لاستحضار سلاحهم المودع عند أقاربهم في هذه البلاد، اطمئنانا إلى أن رأس الأسرة رهين لدى القوة، وعذابه مرهون بالوقت الذي يقضونه غائبين.

وعندما يُوفَّقون إلى القطعة المطلوبة يؤدون الثمن الذي يطلبه صاحبها مهما ارتفع. وكثيرون انتهزوا هذه الفرصة فبالغوا في أثمان القطع المطلوبة، كما أن الكثيرين أيضا ظهرت أريحيتهم في إنقاذ المكروبين بأرخص الأسعار.

عندئذ يبتسم الضابط العبقري وهو يشاهد قطع السلاح المطلوبة تُحضَر بعد الإنكار، ويردّ ذلك إلى عبقريته الفذة التي أرشدته إلى اختيار أقوم طريق!

في نهاية اليوم كانت الأسلحة المجموعة تُصَنَّف أكواما أكواما، فهذه بنادق، وهذه غدارات، وهذه مسدسات، وهذه طبنجات، وهذه سيوف، وهذه سكاكين كبيرة، وهذه بلط، وهذه مزاريق، وكل "ماركة" من هذه الأنواع مرتبة وحدها، والضابط العظيم ينظر مرتاحا منتفشا كالديك إلى انتصاره الكاسح على أولئك القرويين الملاعين..
وكان في كل بيت من بيوت القرية مناحة صامتة، فهذا مشجوج الرأس، وذلك مرضوض الأضلاع، وذلك ملتهب الجلد، وهذا ممزق الأشداق، وكان نسوة وأطفال القرية يغدون ويروحون بالزيوت وكمادات الماء الساخن والبارد يسعفون بها المصابين.

وكان كثيرون من أهل القرية قد باعوا مواشيهم وطعام أطفالهم وحلي نسائهم ليشتروا بها قطع السلاح التي قيل إنها عندهم، وهم لم يحملوا في حياتهم سلاحا. لقد كان هؤلاء هم جماعة الفقراء الذين أكمل المشايخ بهم العدد، وهم في مأمن من ردّ الجميل، إذ لا قوة لهم كالأشقياء، ولا جاه لهم كالأثرياء.

ويمرّ على هذه الحادثة أكثر من ربع قرن! والطفل لا يزال يذكرها كأنها حادث الأمس القريب، لقد فزع للهول كما فزع كل طفل وكل رجل وكل امرأة. وفي أثناء هذه السنوات يسمع أن هذا الضابط الوحش قد رُقّي فصار في وقت من الأوقات وكيلا لمدير الأمن العام، اعترافا بكفايته في صون الأمن وحفظ النظام، فيكمن في نفسه شعور بالأسى الدفين.

ثم يسمع إشاعات بعد ذلك أنه لاقى حتفه وهو يزاول شناعة من هذه الشناعات، فيحس أن كابوسا ثقيلا قد رُفِع عن صدره، وتنفس الصعداء".

انتهى الاقتباس من مذكرات الشهيد سيد قطب.. وبقي أن نُعَلِّق عليه بما هو مقصود المقال، فنقول وبالله التوفيق:

1. أما الطغيان والجبروت والإجرام في السلطة المصرية فهو حديث طويل، وليس هو المقصود بالكلام هنا، ولكنه إجرام متأصل قديم، وحتى إشارة سيد قطب إلى "الحكم التركي" الذي لا زال يعيش بعض من أدركوه، فإنما المقصود به حكم أسرة محمد علي وليس الحكم العثماني، فقد انخلعت مصر من الحكم العثماني -عمليًا- منذ 1805 مع تولي محمد علي للسلطة، وهذا الهجوم الذي تنفذه السلطة على الناس إنما هو أسلوب محمد علي في جمع المصريين للتجنيد الإجباري، ويمكن العودة في تفاصيل هذه المآسي لكتاب "كل رجال الباشا" (ص145 وما بعدها)، ومن وقتها صار الشعب المصري كالعبيد لدى السلطة، حتى إن الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون –الذي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر- يتحدث عن تقليد مستقر في ضرب المصري بالقفا إذا دخل قسم الشرطة. (رحلة بيرتون، 1/9، 105).

إن الشعب قد صار مجموعة من العبيد بإمكان ضابط الشرطة أن يستبيحه كيفما شاء، أي أن العيش في مصر مرهون بمزاج ضابط الشرطة غالبا، فإذا خطرت له فكرة في إطار صلاحياته فبإمكانه أن ينفذها بما يحيل حياة الناس جحيما دون أن يبالي.

وبينما كانت تحتفظ القرى بنوع من الأعراف وحفظ المقامات واحترام الكبير، فإن السلطة لا تفهم هذا كله، إن حضور السلطة إلى القرية يعني انهيار كل القيم والأعراف والتقاليد، لتبرز الحقيقة الوحيدة: السيد والعبيد، وللسيد أن يفعل ما شاء بمن شاء كيفما شاء! لا معقب ولا رقيب.

ليس هذا فحسب، بل إن كفاءة الضابط تقاس بما يُحدثه من الترويع، ومن تحقيق علاقة السيد بالعبيد، فقد وصل إلى أن صار مديرا للأمن العام، ولم يلق جزاءه العادل إلا على يد مواطن "خارج عن القانون"!!

2. وأما اللافت للنظر والمثير للغيظ معا أن هذه السلطة المتوحشة لا تقيم الأمن، ولا تقضي على اللصوص، بحيث يضطر الناس إلى التسلح لحماية أنفسهم وأموالهم ، ولكن الحكومة تمنع حيازة السلاح تحت مبرر أنها الجهة التي تحتكر السلاح وتتكفل بحفظ الأمن وإقامة العدل. فكأنها تمنع عنك حيازة الماء لأنها تتكفل لك بإروائك من العطش ومع ذلك فإنها لا تفعل، فإذا حاولت أن تشرب فأنت مهدد بالعقاب!

لن نخوض الآن في حق حمل السلاح الذي هو حق أصيل للبشر منذ وُجِدوا على هذه الأرض، ولم يكن معرضا للنقاش إلا في عصر الحداثة هذا، مع أن بلاد الحداثة الآن تسمح بحمل السلاح وتتساهل في الترخيص به، إلا بلادنا، التي يُراد لشعوبها أن تعيش كالفراخ والدجاج تنتظر دورها على يد الجزّار. ولذلك كان التجريد من السلاح في مقدمة القرارات التي أصدرتها سلطات الاحتلال والتغريب منذ نابليون وحتى الآن.

لكن الذي يجب الخوض فيه والتركيز عليه، هو هذا الفارق بين الفريقيْن المسلحيْن في القرية، فثمة فريق يحمي السلاح ليدافع عن نفسه، وثمة فريق يحمل السلاح ليُهاجِم به فيسرق وينهب. أما الفريق الأول فهو خارج عن "القانون" في مسألة حمل السلاح وحدها، وأما ما سوى ذلك فهو مواطن صالح ملتزم بشروط السلطة: يؤدي الضرائب، يعمل بالسخرة، يتحاكم إلى المحاكم... إلخ! وأما الفريق الثاني فهو خارج عن "القانون" دائما، حياته هي نفسها الخروج على "القانون"..
فماذا كان المصير؟!

كان المصير أن هؤلاء الخارجين عن القانون هم الذين كانوا بمنأى عن السلطة، هم الذين كانت لهم من القوة والهيبة ما منع مشايخ البلد أن يُبْلِغوا عنهم حتى وهم في العذاب، لقد فضَّل مشايخ البلد أن يكتبوا أسماء الفقراء والتعساء ومن لم يحمل سلاحا قط ليُكملوا به العدد ولا أن يقتربوا من فئة اللصوص المسلحين..
وهكذا، لم يدفع الثمن إلا المواطنون الصالحون الملتزمون بالقانون، بل ودفعه أولئك الضعفاء الذين لم يحملوا سلاحا أصلا لأنه ليست لديهم أموال يحرسونها أو ليست لديهم أموال يشترون بها سلاحا، بينما نجا من هذا المصير أولئك الذين مزَّقوا القانون وخرقوه ووضعوه تحت أقدامهم وعاشوا حياتهم لا يعترفون به ولا يقيمون له وزنا.

وهذا الوضع مستقر مستمر حتى يومنا هذا، فالسلطة في بلادنا تتحالف مع اللصوص والبلطجية ومنظمات الإجرام وتجار السلاح والمخدرات والأعضاء البشرية والآثار، وبينهما تحالفات وصفقات وخدمات متبادلة، بينما لا يُطبَّق القانون إلا على "المواطن الصالح"، فهذا المواطن الصالح يعاني من البلطجي واللص والمجرم ثم لا يجد طريقا إلا أن يشتكي للشرطة، وعند الشرطة يعاني مرة أخرى، بحسب ما يجده من الظروف وما يكون من مزاج الضابط الذي سيتولى أمره.
في هذه الحال، يجب أن يسأل المرء نفسه: هل من المفيد أن تكون هذا "المواطن الصالح"؟

3. وقعت هذه القصة في قرية موشا المنزوية في بلاد الصعيد، ولكنها تعبير حقيقي ممتاز عن السياسة الدولية، القوة الدولية التي تمثل السلطة العليا يمكنها أن تستبيح ما تشاء من العبيد بفارق القوة التي تملكها، وحتى السلطة المحلية التي تخدمها وتوفر عليها الوقت والجهد، يمكن أن يعنّ لها في بعض الأحيان أن تتجاوزها وتتدخل بنفسها لتنفذ ما تراه في صالحها.

إن عمدة القرية لم يكن متمردا، ولا مشايخ البلد، بل هم ممثلو السلطة العليا، هم الذين يديرون لها الأموال والثروة ويجمعون لها الضرائب والعاملين بالسخرة، ولكنهم يحتاجون في سبيل هذا لبعض المهارة والحكمة التي تفرضها الأعراف التي جعلتهم في موضع السلطة فيراعونها. السلطة القوية الغاشمة لا تعترف بهذا كله حين تريد. مثلما لا يتردد الضابط وجنوده في حبس العمدة ومشايخ البلد وإهانتهم، لا يتردد ترمب في إهانة وإذلال عملائه في السعودية ومصر رغم أنهم لم يفكروا في التمرد عليه، فهو ينهب بالمليارات ويفرض العقوبات ويهدد ويسخر، والعبيد يواصلون الخدمة ولا يفكرون في التمرد!

وحدهم الذين تسلحوا بأنفسهم، وغامروا بها، وخاطروا، وصاروا لا يبكون على شيء.. وحدهم الذين ينجون من الإهانة والإذلال.. فإما عاشوا كما أرادوا، وإما ماتوا موتا سريعا لا إهانة فيه ولا إذلال. وحدهم أولئك الذين استطاعوا الانتقام من الضابط الوحش الذي صار بوحشيته مدير الأمن العام!


استشهاد القسام وعزام

مرت في شهر نوفمبر ذكرى استشهاد رجلين من أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامي الحديث، وهما الشيخ عز الدين القسام (20 نوفمبر 1935م) والشيخ عبد الله عزام (24 نوفمبر 1988م)، وكلا الرجلين مثَّل رمزًا للمقاومة الإسلامية في عصره وفي الأجيال التالية له حتى يوم الناس هذا!

كلا الرجلين من رجال الأزهر الشريف، غير أنك لن تجد الأزهر المعاصر يحتفي بهما ولا يذكر لهما مآثرهما ولا يدرس سيرتهما، وما ذلك إلا لأن محاولات تحطيم الأزهر وتدجينه قد آتت ثمرتها، وصار الأزهر يدفع عن نفسه وصمة التطرف والإرهاب!!

وكلا الرجلين وجد طريقه للجهاد حين أغلق عليه الجهاد في بلده، فقد جاهد القسام في سوريا حتى أغلق عليه السبيل وضاقت به المسالك، فوجد سبيلا له للجهاد في فلسطين حتى لقي الشهادة. وحاول عزام أن يتصدى في قلة للاجتياح الإسرائيلي لقريته في نكبة 1967 ثم ضاقت عليه سبيل الجهاد في بلده فوجد سبيله للجهاد في أفغانستان وكان شيخ المجاهدين العرب. وبهذا حقق الرجلان بسيرتهما واستشهادهما حقيقة أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وأن الأمة أمة واحدة، وأن الحدود بينها ليست إلا ترابا وخيالا ولو تواطأ على ترسيخها وتعزيزها طواغيت الغرب والشرق.

وكلا الرجلين لا يزال حيا في ضمير الأمة وبين صفوة شبابها رغم أن السلطة ومنافذ تعليمها وثقافتها وإعلامها يعمل على طمسه وطمره أو على وصف طريقه ومنهجه بالتطرف والإرهاب، فضمير الأمة أبقى وأعمق، هذا مع أنه يجب أن نلوم كثيرا من الحركات الإسلامية كذلك أنها لم تسع في إحياء سيرة هذين الرجلين ولا تدريس سيرتهما ولا العناية بإنتاجهما (لا سيما الإنتاج العلمي الكبير لعزام)، فالذين حملوا على عاتقهم إحياء هذه الذاكرة إنما كانوا من الشباب الذين خلت أيديهم من عوامل القوة والنشر والترويج.

حماس والجهاد الإسلامي

من أخطر ما وقع في الساحة الإسلامية الشهر الماضي هي الحرب التي عانت منها غزة، والتي بدأت باغتيال القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا. إن ثمة انقساما حصل في ساحة غزة التي هي من أهم معاقل المقاومة، ونموذج المقاومة الراشدة التي تمزج السياسي بالعسكري وتوازن بين قوة العقل وقوة الساعد، وغزة عزيزة على كل مسلم، ثم هي أعز على كل مهموم بشأن الإسلام وشأن المقاومة. إن غزة بقعة مضيئة في الصمود ونموذج لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا، مع ما في كل تجربة من الهنات والأخطاء التي لا تخلو منها تجربة بشرية.

لكن الذي حدث هذه المرة هو الأخطر في سياق أن العدو استطاع أن ينفذ عمليته بعد تخطيط وتصعيد إعلامي ثم عملية ميدانية تستهدف بوضوح إنشاء حالة الانقسام والشقاق بين حماس والجهاد، وهو الأمر الذي لا نستطيع القول إنه قد فشل فيه، بل على العكس، ما نراه من الحوارات بين شباب الفصيلين وما ندّ من بعض العناصر من الأفعال يشير إلى وضع مثير للخوف والقلق على العلاقة بينهما، وهو أمر يجب أن تتداعى له العقول والقلوب للإصلاح قبل أن يتسع الشقاق. ولعل هذا يكون أولى أولويات أهل الرشد في الساحة الفلسطينية!

الحكم بإعدام هشام عشماوي

أذاعت صفحة المتحدث الإعلامي للعسكر المصري أنهم حكموا بالإعدام على هشام عشماوي، رائد الصاعقة المنشق عن الجيش المصري، ومؤسس تنظيم المرابطين، ولكن اللافت للنظر أن جملة التهم التي أذاعتها هذه الصفحة لا تتضمن فيما بينها اعتداء واحدا على مدنيين، بل كانت كل التهم هي مشاركته أو تنفيذه في قتال ضد العسكريين. وهذا الوضع طبقا للعلوم الأمنية العلمانية وتشريعاتهم القانونية لا تندرج تحت مسمى "الإرهاب"، بل يدرجونها تحت مسمى "التمرد"، فالإرهاب هو غالبا عمل ضد المدنيين وبلا أهداف سياسية وليست له حاضنة شعبية ولا يعبر عن قضية مشروعة، بينما التمرد هو عمل ضد نظام السلطة وله قضية مشروعة ويتمتع بحاضنة شعبية ويسعى لتحقيق أهداف سياسية.

والشاهد أن السلطة المصرية نفسها التي تهرف بوصف الإرهاب لم تحاول حتى أن تلفق تهمة "إرهابية" لخصمها الذي أزعجها، والذي لم تستطع أن تصل إليه بنفسها، وإنما سُلِّم لها تسليما.

وبالنسبة للسلطة المصرية فيعد الحديث عن محاكمة عادلة نوعا من الهزر والسفاهة، فإذا كان الذي هتف في وسط الجموع وأمام الشاشات "سلميتنا أقوى من الرصاص" قد حُكِم عليه بالإعدام عدة مرات وبمئات السنين، فكيف بالذي خاض المعركة ضدهم، من بعد ما كان واحدا منهم؟!

ولا يمكن في هذه العجالة الحديث عن قضيته، وقد تناولناها سابقا في هذا المقال، ولكن الذي يمكن قوله: إنه وإن لم ينصفه التاريخ بعد سقوط هذا الحكم العسكري، فحسبه أن الله هو الرقيب الحسيب الذي لا يُظلم عنده أحد.
‏٠٤‏/١٢‏/٢٠١٩ ٦:١٥ م‏
🔴 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 29 )) 🔵 يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (29)، ومعه هدية حصرية، كتاب: مراجعات مهدي عاكف (كما رواها مع عزام التميمي). ⚫️ حمّل العدد الجديد bit.ly/2P55Bo6 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2Y2dbEm ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk ـــــــــــــــــــــــــــــــ تابعنا على تويتر twitter.com/klmtuhaq تيليجرام t.me/klmtuhaq
🔴 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 29 ))

🔵 يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (29)، ومعه هدية حصرية، كتاب: مراجعات مهدي عاكف (كما رواها مع عزام التميمي).

⚫️ حمّل العدد الجديد
bit.ly/2P55Bo6

⚫️ هدية العدد
bit.ly/2Y2dbEm

⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
تابعنا على تويتر
twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام
t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/١٢‏/٢٠١٩ ٧:٥١ م‏
من سيرة الشيخ أحمد الدردير.. المقاوم الأزهري والفقيه المالكي [الليلة موعدنا مع العدد الجديد من مجلة كلمة حق.. انتظرونا] في عام 1200 هـ، انتشرت الظلم والتعدي في ربوع مصر، مما ألجأ أصحاب المظالم والحقوق لشيوخ الأزهر لما يتمتعون به من ثقل في المجتمع المصري، ولما يتميزون به من الجهر بالحق وعدم خشية أحد مهما كانت مكانته. ومن هؤلاء العلماء الأزهريين الشيخ العلامة والفقيه المالكي الكبير أحمد الدردير. يقول الجبرتي في تاريخه: وفي صبحها يوم الجمعة ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك، وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق. وذهبوا إلى الشيخ الدردير فوافقهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: "أنا معكم". فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة وأغلقوا الحوانيت . وقال لهم الشيخ الدردير: "في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم!". فلما كان بعد المغرب حضر سليم أغا مستحفظان ، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك، وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحال وقالوا للشيخ: "اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون!". واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا. وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيم بك وأرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك فقال في الجواب: "كلنا نهابون، أنت تنهب، ومراد بك ينهب، وأنا أنهب كذلك". وانفض المجلس وبردت القضية. وفي عقبها بأيام قليلة حضر من ناحية قبلي سفينة وبها تمر وسمن وخلافه، فأرسل سليمان بك الأغا وأخذ ما فيها جميعه وادعى أن له عند أولاد وافي مالًا منكسرًا، ولم يكن ذلك لأولاد وافي وإنما هو لجماعة يتسببون فيه من مجاوري الصعايدة وغيرهم، فتعصب مجاورو الصعايدة وأبطلوا دروس المدرسين، وركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ محمد المصيلحي وآخرون، وذهبوا إلى بيت إبراهيم بك وتكلموا معه بحضرة سليمان بك كلامًا كثيرًا مفحمًا. فاحتج سليمان بك بأن: "ذلك متاع أولاد وافي وأنا أخذته بقيمته من أصل مالي عندهم". فقالوا: "هذا لم يكن لهم وإنما هؤلاء أربابه، ناس فقراء، فإن كان لك عند أولاد وافي شيء فخذه منهم". فردّ بعضه وذهب بعضه... وفيه [منتصف جمادى الثانية عام 1200 هـ] اجتمع الناس بطنطا لعمل مولد سيدي أحمد البدوي، المعتاد المعروف بمولد الشرنبابلية، وحضر كاشف الغربية والمنوفية على جاري العادة، وكاشف الغربية من طرف إبراهيم بك الوالي المولى أمير الحاج، فحصل منه عسف وجعل على كل جمل يباع في سوق المولد نصف ريال فرانسة، فأغار أعوان الكاشف على بعض الأشراف وأخذوا جمالهم. وكان ذلك في آخر أيام المولد، فذهبوا إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إليه، فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة. فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: "أنتم ما تخافون من الله". وفي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد أحمد الصافي تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت. وهاجت الناس على بعضهم ووقع النهب في الخيم وفي البلد ونهبت عدة دكاكين. وأسرع الشيخ في الرجوع إلى محله وراق الحال بعد ذلك. وركب كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير، وحضر إلى كاشف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. وانفض المولد ورجع الناس إلى أوطانهم وكذلك الشيخ الدردير، فلما استقر بمنزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي وأخذ بخاطره أيضًا وكذلك إبراهيم بك الكبير وكتخدا الجاويشية .
من سيرة الشيخ أحمد الدردير..
المقاوم الأزهري والفقيه المالكي

[الليلة موعدنا مع العدد الجديد من مجلة كلمة حق.. انتظرونا]

في عام 1200 هـ، انتشرت الظلم والتعدي في ربوع مصر، مما ألجأ أصحاب المظالم والحقوق لشيوخ الأزهر لما يتمتعون به من ثقل في المجتمع المصري، ولما يتميزون به من الجهر بالحق وعدم خشية أحد مهما كانت مكانته. ومن هؤلاء العلماء الأزهريين الشيخ العلامة والفقيه المالكي الكبير أحمد الدردير.

يقول الجبرتي في تاريخه:

وفي صبحها يوم الجمعة ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك، وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول، والتف عليهم جماعة كثيرة من أوباش العامة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق.

وذهبوا إلى الشيخ الدردير فوافقهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: "أنا معكم". فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة وأغلقوا الحوانيت .

وقال لهم الشيخ الدردير: "في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم!".

فلما كان بعد المغرب حضر سليم أغا مستحفظان ، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك، وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحال وقالوا للشيخ: "اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون!". واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا.

وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيم بك وأرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك فقال في الجواب: "كلنا نهابون، أنت تنهب، ومراد بك ينهب، وأنا أنهب كذلك". وانفض المجلس وبردت القضية.

وفي عقبها بأيام قليلة حضر من ناحية قبلي سفينة وبها تمر وسمن وخلافه، فأرسل سليمان بك الأغا وأخذ ما فيها جميعه وادعى أن له عند أولاد وافي مالًا منكسرًا، ولم يكن ذلك لأولاد وافي وإنما هو لجماعة يتسببون فيه من مجاوري الصعايدة وغيرهم، فتعصب مجاورو الصعايدة وأبطلوا دروس المدرسين، وركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ محمد المصيلحي وآخرون، وذهبوا إلى بيت إبراهيم بك وتكلموا معه بحضرة سليمان بك كلامًا كثيرًا مفحمًا.

فاحتج سليمان بك بأن: "ذلك متاع أولاد وافي وأنا أخذته بقيمته من أصل مالي عندهم". فقالوا: "هذا لم يكن لهم وإنما هؤلاء أربابه، ناس فقراء، فإن كان لك عند أولاد وافي شيء فخذه منهم". فردّ بعضه وذهب بعضه...

وفيه [منتصف جمادى الثانية عام 1200 هـ] اجتمع الناس بطنطا لعمل مولد سيدي أحمد البدوي، المعتاد المعروف بمولد الشرنبابلية، وحضر كاشف الغربية والمنوفية على جاري العادة، وكاشف الغربية من طرف إبراهيم بك الوالي المولى أمير الحاج، فحصل منه عسف وجعل على كل جمل يباع في سوق المولد نصف ريال فرانسة، فأغار أعوان الكاشف على بعض الأشراف وأخذوا جمالهم.

وكان ذلك في آخر أيام المولد، فذهبوا إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إليه، فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة.

فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له: "أنتم ما تخافون من الله".

وفي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد أحمد الصافي تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت. وهاجت الناس على بعضهم ووقع النهب في الخيم وفي البلد ونهبت عدة دكاكين. وأسرع الشيخ في الرجوع إلى محله وراق الحال بعد ذلك.

وركب كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير، وحضر إلى كاشف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ وأخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. وانفض المولد ورجع الناس إلى أوطانهم وكذلك الشيخ الدردير، فلما استقر بمنزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي وأخذ بخاطره أيضًا وكذلك إبراهيم بك الكبير وكتخدا الجاويشية .
‏٠١‏/١٢‏/٢٠١٩ ٨:٤١ ص‏
‏٢٦‏/١١‏/٢٠١٩ ٢:٠٤ م‏
‏٠٧‏/١١‏/٢٠١٩ ٨:١٧ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
انتظرونا الليلة وعدد شهري جديد ومميز من مجلة كلمة حق، إن شاء الله.
‏٠١‏/١١‏/٢٠١٩ ٧:٥٦ ص‏
‏٢١‏/١٠‏/٢٠١٩ ٧:٣٤ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
انتظرونا الليلة والعدد الشهري الجديد (٢٧) من مجلة كلمة حق إن شاء الله تعالى.
‏٠١‏/١٠‏/٢٠١٩ ١٢:٥٧ م‏
حمل هدية العدد ٢٦ http://bit.ly/32enNRg
حمل هدية العدد ٢٦

http://bit.ly/32enNRg
‏٢٩‏/٠٩‏/٢٠١٩ ١٠:٢١ م‏
من تراث الأزهر كبرياء الحكام الشيخ محمد الغزالي رحمه الله* ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk أول خصائص الحكم الفردي - كما لاحظنا من تتبع تاريخ الاستبداد - كبرياء الحاكم وتعاليه. وليس الكبر عقدة الصنعة التي تجعل شاباً طائشا يسير في الطريق متبخترا تعجبه نفسه وتزدهيه ملابسه، أو التي تجعل الموظف في ديوانه يجحد حق العمل الذي استأجرته الدولة لإتمامه فيتشاغل عنه ويتغطرس على الجمهور المحتاج إليه! إن هذه رذائل حقاً ، وسواء دفع إليها النقص المركب أو الغرور اللاحق فهي جرائم محدودة الأثر إلى جانب سورات الكبر التي تجيش في نفس صاحب السلطة العامة فتحمله من مكانه حيث يعيش مع الناس على ظهر الأرض، إلى سماء يتخيلها وينظر إلى الناس من عليائها، فإذا هو يرى العمالقة أقزاما، ومن دونهم هباء، وبحسب الخير الذي يعيش الناس فيه فيض السحاب الهامي من يده المباركة. ولذلك تسمعه يقول ما قال الخديوي توفيق للقائد أحمد عرابي عندما طالبه باسم الأمة أن يمنح الشعب دستورا : هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا؟ إن الكبر في هذه الحالات لا يزال يتضخم حتى يتحول إلى جبروت! وتلك حالات معهودة في أمراض النفوس ولذلك جاء في الحديث عن الله - عز وجل - : "والكبرياء ردائي والعز إزاري فمن نازعني شيئا منهما عذبته". ألا ما أكثر الذين نازعوا الله هذه الصفات من حكام الشرق البائس! والكبر كالشرك يبدأ عوجا في تصرف صغير فلا تكون له فداحة الكفر بالله، ولا يزال ينمو حتى يتحول بطرا على كل حق وغمطا لكل فرد، وعندئذ يكون الكبر والكفر قرينين. ولا يتعاظمن القارئ هذا ، ففي كتاب الله مصداقه من آيات كثيرات: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مُسودّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" "ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين". "إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنكرة وهم مُستكبرون . لا جرم أنّ الله يعلم ما يُسرُون وما يعلنون إنّه لا يحب المستكبرين". "فألقوا السَلَم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين به". وتأكيدا لهذه المعاني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر". إنه كبر الرؤساء الفجرة والأمراء الظلمة والمستبدين المتألهين. والتخليد في النار والحرمان من الجنة اللذان نطق بهما الكتاب والسنة جزاء عدل لهؤلاء المتألهين، ولعل أشد الناس شعورًا بعدالته من وقعوا تحت وطأة أولئك الكبراء المعتوهين. وللكبر إذا حكم تقاليد تحتضنه كما أن للعهر إذا شاع أسرا ترتزق به! وكبرياء الحكام ترمز إلى ضرب من الوثنية السياسية له طقوس ومراسيم يتقنها الأشياع، ويتلقفها الرعاع على أنها بعض من نظام الحياة الخالد مع السموات والأرض. وحيث يسود الحكم المطلق تنتقص الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها. وذلك أن الله قد خلق البشر أحادًا صحيحة وجعل لكل واحد منهم مدى معينا يمتد فيه طولا وعرضا، فإذا عَن لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتما. ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر! أصبحوا كسورًا لا رجالا سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زورًا إلى الكبير المغرور، فأصبح به فرعونًا مالكًا بعدما كان فردًا كغيره من عباد الله. ولما كان الإسلام إنقادًا للناس من جهالاتهم المتوارث ، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد - وهي عنوانه وحقيقته - نفيًا للوثنيات كلها ورفضا لأية عبودية في الأرض وتدعيما للحرية التي ذرأ الله الناس عليها والكمال الذي رشحهم له. ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله". وهي الكلمة التي يرددها الألوف دون وعي. بل لعلهم يعيشون في ظلها عبيد أوهام. وقد بُعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابي يوما في حضرته أخذته رعدة يحسب نفسه قريبا من أحد الجبابرة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «هون عليك إني لست بملك أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد". كان قد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين، فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض ووصلتها بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم، فأراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفه العرب على أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعا ومن الناس قربا. وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في إثره وربطوا سببهم بالجماهير التي نبتوا منها ، فما تنكروا لها ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى. واسمع إلى أبي بكر بعدما ولي الخلافة يقول: « أما بعد.. فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوى حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب: "اعلموا أن شدتي التي كنتم ترونها ازدادت أضعافا على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم. فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله". هذا هو وضع الحاكم المسلم في الدولة المسلمة. رجل من صميم الأمة يطلب أن يعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجا للمصالح العامة لا مصيدة للمنافع الخاصة ولا بابا إلى البطر والطغيان. وذلك هو أدب الإسلام الذي خط مصارع الجبابرة في الدنيا وحط منازلهم في الآخرة. "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * مقتبس من كتاب الإسلام والاستبداد السياسي، للشيخ محمد الغزالي، ص34 وما بعدها، ط: نهضة مصر، ط6، 2005م، القاهرة.
من تراث الأزهر
كبرياء الحكام

الشيخ محمد الغزالي رحمه الله*

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

أول خصائص الحكم الفردي - كما لاحظنا من تتبع تاريخ الاستبداد - كبرياء الحاكم وتعاليه. وليس الكبر عقدة الصنعة التي تجعل شاباً طائشا يسير في الطريق متبخترا تعجبه نفسه وتزدهيه ملابسه، أو التي تجعل الموظف في ديوانه يجحد حق العمل الذي استأجرته الدولة لإتمامه فيتشاغل عنه ويتغطرس على الجمهور المحتاج إليه!
إن هذه رذائل حقاً ، وسواء دفع إليها النقص المركب أو الغرور اللاحق فهي جرائم محدودة الأثر إلى جانب سورات الكبر التي تجيش في نفس صاحب السلطة العامة فتحمله من مكانه حيث يعيش مع الناس على ظهر الأرض، إلى سماء يتخيلها وينظر إلى الناس من عليائها، فإذا هو يرى العمالقة أقزاما، ومن دونهم هباء، وبحسب الخير الذي يعيش الناس فيه فيض السحاب الهامي من يده المباركة.

ولذلك تسمعه يقول ما قال الخديوي توفيق للقائد أحمد عرابي عندما طالبه باسم الأمة أن يمنح الشعب دستورا : هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا؟

إن الكبر في هذه الحالات لا يزال يتضخم حتى يتحول إلى جبروت! وتلك حالات معهودة في أمراض النفوس ولذلك جاء في الحديث عن الله - عز وجل - : "والكبرياء ردائي والعز إزاري فمن نازعني شيئا منهما عذبته".

ألا ما أكثر الذين نازعوا الله هذه الصفات من حكام الشرق البائس!

والكبر كالشرك يبدأ عوجا في تصرف صغير فلا تكون له فداحة الكفر بالله، ولا يزال ينمو حتى يتحول بطرا على كل حق وغمطا لكل فرد، وعندئذ يكون الكبر والكفر قرينين. ولا يتعاظمن القارئ هذا ، ففي كتاب الله مصداقه من آيات كثيرات:
"ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مُسودّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين"
"ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين".
"إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنكرة وهم مُستكبرون . لا جرم أنّ الله يعلم ما يُسرُون وما يعلنون إنّه لا يحب المستكبرين".
"فألقوا السَلَم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين به".

وتأكيدا لهذه المعاني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر".

إنه كبر الرؤساء الفجرة والأمراء الظلمة والمستبدين المتألهين. والتخليد في النار والحرمان من الجنة اللذان نطق بهما الكتاب والسنة جزاء عدل لهؤلاء المتألهين، ولعل أشد الناس شعورًا بعدالته من وقعوا تحت وطأة أولئك الكبراء المعتوهين.

وللكبر إذا حكم تقاليد تحتضنه كما أن للعهر إذا شاع أسرا ترتزق به!

وكبرياء الحكام ترمز إلى ضرب من الوثنية السياسية له طقوس ومراسيم يتقنها الأشياع، ويتلقفها الرعاع على أنها بعض من نظام الحياة الخالد مع السموات والأرض.

وحيث يسود الحكم المطلق تنتقص الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها. وذلك أن الله قد خلق البشر أحادًا صحيحة وجعل لكل واحد منهم مدى معينا يمتد فيه طولا وعرضا، فإذا عَن لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتما.

ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر! أصبحوا كسورًا لا رجالا سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زورًا إلى الكبير المغرور، فأصبح به فرعونًا مالكًا بعدما كان فردًا كغيره من عباد الله.

ولما كان الإسلام إنقادًا للناس من جهالاتهم المتوارث ، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد - وهي عنوانه وحقيقته - نفيًا للوثنيات كلها ورفضا لأية عبودية في الأرض وتدعيما للحرية التي ذرأ الله الناس عليها والكمال الذي رشحهم له.

ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله". وهي الكلمة التي يرددها الألوف دون وعي. بل لعلهم يعيشون في ظلها عبيد أوهام. وقد بُعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابي يوما في حضرته أخذته رعدة يحسب نفسه قريبا من أحد الجبابرة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «هون عليك إني لست بملك أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".

كان قد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين، فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض ووصلتها بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم، فأراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفه العرب على أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعا ومن الناس قربا.

وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في إثره وربطوا سببهم بالجماهير التي نبتوا منها ، فما تنكروا لها ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى. واسمع إلى أبي بكر بعدما ولي الخلافة يقول: « أما بعد.. فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوى حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".

وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب: "اعلموا أن شدتي التي كنتم ترونها ازدادت أضعافا على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم. فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله".

هذا هو وضع الحاكم المسلم في الدولة المسلمة. رجل من صميم الأمة يطلب أن يعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجا للمصالح العامة لا مصيدة للمنافع الخاصة ولا بابا إلى البطر والطغيان. وذلك هو أدب الإسلام الذي خط مصارع الجبابرة في الدنيا وحط منازلهم في الآخرة.

"تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتبس من كتاب الإسلام والاستبداد السياسي، للشيخ محمد الغزالي، ص34 وما بعدها، ط: نهضة مصر، ط6، 2005م، القاهرة.
‏٢٦‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٩:٣٤ م‏
حسن حبنكة الميداني د: محمد موسى الشريف * ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk في العصر الحديث عشرات الآلاف من العلماء والمشايخ وطلبة العلم، وبعض هؤلاء قد بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، لكن قليلًا من هؤلاء من كانت له عند قومه منـزلة وتأثيـر، وقليل من هؤلاء مَن كان له في بلده عمل جليل، ومن هؤلاء القلة كان الشيخ حسن حبنكة الميداني، يرحمه الله تعالى. ولد الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق سنة 1326هـ/1908م، وهو حي الشجعان وأهل المروءة والفتوّة وأولي القوة، وأبوه هو مرزوق بن عرابي بن غنيم من عرب بني خالد من بادية حماة، أما حَبَنّكة والميداني فهما لقبان له عرفت عائلته باللقب الأول واشتهر هو باللقب الآخر، وكان أبوه مرزوق من أهل الصلاح والاستقامة، صاحب محل لبيع المواد الغذائية، وأمه خديجة من أصول مصرية أتت لأبيه بأربعة أبناء وبنتين، أكبرهم هو الشيخ حسن يرحمه الله، وقد توفيت - يرحمها الله تعالى - أثناء عودتها من الحج مع ابنها الشيخ حسن. نشأة الشيخ حسن حبنكة نشأ الشيخ حسن في حي الميدان، وتعلم في الكتّاب القراءة والكتابة، وقراءة القرآن العظيم، ثم درس في مدرسة الشيخ شريف اليعقوبي الابتدائية، ثم قرأ بعض العلوم على الشيخ طالب هيكل، ثم على الشيخ عبد القادر الأشهب، ثم على الشيخ محمود العطار والشيخ أمين سويد، وقرأ العلوم العقلية على عالم بخاري وآخر كردي، ثم قرأ على الشيخ المحدث بدر الدين الحسني، وتفقه بالمذهب الحنفي ثم درس المذهب الشافعي والتـزمه علمًا وتعليمًا. والتحق الشيخ حسن بالشيخ علي الدقر، وصار من جملة تلاميذه والسائرين على منهجه، وتولى إدارة مدرستين تابعتين للشيخ علي، وأخلص له في همة منقطعة النظير، وكان هو المقدم بين أصحاب الشيخ علمًا وتعليمًا وإدارة، وقد جلب له هذا الحسد والكيد فوشى به عند الشيخ بعض أتباعه بأن الشيخ حسن يريد الزعامة وينافس الشيخ علي، واشتد الأمر فما كان من الشيخ حسن إلا أن اعتـزل مؤسسة الشيخ على إيثارًا للسلامة، لكن الشيخ حسن ظل متصلا به ومتأدبًا معه حتى مات الشيخ علي يرحمه الله. ثم إن الشيخ - يرحمه الله تعالى - أسس جمعية خاصة به سماها «جمعية التوجيه الإسلامي» سنة 1365هـ/1946م، وكانت الجمعية تستقبل الطلاب من كل مكان، وتُعنى بهم وتدرسهم مجانًا، بل إنها كانت تهيئ السكن لمن لا سكن له، وبفضل الله استطاعت أن تنشئ مساجد كثيرة في دمشق وتُعنى بالقديم منها وأنشأت مدارس ومعاهد للبنين والبنات، ودارًا للقرآن في جامع منجك - الذي كان المقر الرئيس للشيخ حسن طوال حياته - وظلت الجمعية معطاءة مدرارة إلى سنة 1387هـ/1967م حيث أُلغيت بمراسيم جمهورية وضمت مبانيها إلى وزارة الأوقاف. صفات الشيخ حسن حبنكة كان للشيخ يرحمه الله صفات جليلة من أعظمها: [1] الهمة العالية: فقد تعلق قلبه بالعلم منذ صغره حتى آخر أيامه، وكانت له دروس عديدة تبدأ من قبل صلاة الفجر!! وتستمر عامة النهار وطرفًا من الليل، وكان يلـزم طلابه بالهمـة العالية؛ فقد تعلّم على يديه طالب يسمى إسماعيل الصباغ، وكان يُلزمـه أن يأتيه في وقت محدد في السحر للدراسة، فإذا تأخر بضع دقائق لم يأذن له، وكان هذا الطالب إسماعيل يسكن خارج حي الميدان، فكان يمشي في ظلمة الليل من بيته إلى بيت شيخه ليصل إليه قبل الفجر بساعة، فما أحسن الهمـة العاليـة في الشخص فهي الموصلة له إلى أعلى الدرجات. ومن دلائل همـة الشيخ حسن أنه كان له شيخ اسمه محمود العطار وهو فقيه حنفي متمكن من الفقه، فكان يجلس بين يديه على ركبتيه عدة ساعات كل يوم، وكان للشيخ محمود رغبة في الخروج إلى البساتين والقرى وحُبب إليه ذلك، فكان الشيخ حسن يتبعه من بستان إلى بستان، ومن قرية إلى قرية رغبة في طلب العلم. وقد ظهرت همة الشيخ العالية في تصدره للتدريس وإفادة الجمهور؛ فقد كان له درس عام جامع للعامة بعد الفجر إلى الضحى، ثم يفطر مع الطلاب، ثم يدرس كبار الطلاب إلى قُبيل صلاة الظهر، ثم إنه يفرغ لنفسه من الظهر إلى العصر، وبعد العصر بقليل كان له درس إلى أذان المغرب مع كبار طلابه، ثم بعد المغرب يحين وقت الدرس العام الجامع للعامة، وبعد العشاء درس للطلاب الذين لا تسعفهم أحوالهم للدراسة النهارية فيأتون إليه ليلا، ثم بعد فراغ الدرس يعود إلى بيته، لكنه كان كثيرًا ما يحب البقاء في الجامع والبيات فيه ليوقظ طلابه لصلاة الفجر جماعة، ويقوم سحرًا للصلاة والدعاء والتسبيح، وربما طالع بعض كتب العلم في ذلك الوقت، هذا عدا قضايا المسلمين العامة التي كانت تؤرقه وتأتي على الوقت الذي بقي له من يومه وليلته. وكان له طريقة حسنة في التعليم؛ وهي إيقاف الطلاب على مبادئ العلم ومفاتيحه، ويدربهم على استخراج المسائل من مظانها، ومِن ثَمّ يعقد حلقات للمناقشة وهذه طريقة فريدة. وكان يدفع بطلابه إلى التدريس والخطابة وإلقاء المواعظ في المساجد، خاصة في رمضان للتدرب على مواجهة الجمهور وإفادتهم. وكان يدرب طلابه على السباحة والفروسية وركوب الخيل، ويسير بهم في القرى والبساتين لتدريبهم على القوة واحتمال المشاق، وربما بات معهم في المساجد أو البيوت التي يستأجرها لهذا الغرض، وربما باتوا في أرض أو سفح جبل، وفي تلك الرحلات يفيدون أهل القرى بالدروس والمواعظ. [2] الحكمـة: وقد قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرً‌ا كَثِيرً‌ا}[البقرة:269]، وقد تجلت حكمته في مداراته للأنظمـة الحاكمـة في بلاد الشام آنذاك فيما يعود على البلاد والعباد بالخيـر، وقد ظهرت حكمته في مواقف، منها يوم اشتدت السلطات البعثية الحاكمة في الشام على الشعب وضيقت عليه في أمور دينه، فأرادت مجموعات من الشباب أن تعتصم بالجامع الأموي، ووافقهم بعض العلماء على ذلك، واجتمعوا في المسجد وتوالت الاتصالات من الجامع تستحث الشيخ أن يأتي هو وطلبته، وكان المستحث أحد المشايخ المتعاونين مع الدولة، وجاء مجموعة من المشايخ إلى الشيخ حسن في مكانه في جامع مَنْجك، وكان منهم د. محمد أمين المصري ورجحوا المشاركة واستحثوه ليذهب، فقال لهم: هل أنتم الذين دبرتم هذا الأمر وأعددتم له عدته؟ هل أنتم الذين بعثتم طلابكم ومريديكم للدعوة إليه؟ قالوا: لا. فقال لهم: وما يدريكم أنه فخ صنع لكم حتى تُقتلوا أو تأخذكم الدولة بجرم القيام بثورة مسلحة. أنتم بين خيارين: إما أن أحبسكم عندي هنا في البيت، وإما أن تنصرفوا إلى بيوتكم، ولا أسمح لأحد منكم بالمشاركة في هذا الأمر، إن المسلمين بحاجة لكم فلا تمكنوا أعداءكم منكم. فانصرف العلماء إلى بيوتهم مستجيبين لأمر الشيخ، ووقع ما تفرس فيه الشيخ، فقد هجمت الدولة على الجامع، وكسرت بابه بدبابة، وقتلت خلقًا كثيرًا ممن وجدته فيه في مجزرة شنيعة، واستاقت الباقي لتعذبهم عذابًا مروعًا ثم أعدمت جماعة منهم، وكان يراد استئصال المشايخ وطلبة العلم كلهم لكن الله نجّاهم بحكمة الشيخ. ومن الأمثلـة على حكمته رفضه الدعوات المتكررة من سفارة الاتحاد السوفييتي في بيروت لحضور مؤتمر عقدوه للسلام، مع أنهم وعدوه بأنهم سيسمحون له بالحديث كما يشاء، لكنه رفض لأنه يعلم أنهم لن ينشروا له شيئًا، وفي الوقت نفسه سيخدعون كثيرًا من الناس بحضوره. [3] التصدر للناس: كان الشيخ زعيمًا للشعب، متصدرًا لحل مشكلاتهم، مصلحًا بينهم، مدافعًا عن مظلومهم، مجيبًا لمطالبهم، مغيثًا لملهوفهم، مجيبًا لدعوة من دعاه من خواص إخوانه وطلابه، ثم إنه كان الموصل لمطالب الشعب إلى الحاكم والوزير والمسئول، على أنه كان يخالطهم بعزة العالم المسلم، وكان عدد من رؤساء الجمهورية يزورونه في مسجده وفي غرفته في المسجد ويصلون عنده الجمعة؛ فلم يُثن عليهم قط، وإنما كان يصدعهم بالحق وينصحهم ويوجههم، وكذلك الحال إذا اجتمع بهم في حفل عام أو اجتماع فإنه يصدع بالحق في وجوههم ويريهم عزة العلماء. ومن مواقفه مع حكام المسلمين، أنه كان في وفد من علماء الشام لتهنئة الملك سعود - يرحمه الله تعالى - بالحكم، فنصح الملك وحثه على الاستمساك بالشرع والعمل به، وحثه على إعادة إعمار سكة حديد الحجاز، وبعد ذلك أهدي له وللعلماء ساعات وعطايا مالية فقبلوا الساعات وردوا المال. وكان له فضل على العلماء والدعاة، فقد توسط لدى حافظ الأسد لإطلاق الشيخ سعيد حوى ففعل، ولإطلاق الشيخ محمد علي مشعل فاستجاب لوساطته، وكان الحمى الحقيقي بعد الله تعالى للمشايخ والعلماء في بلاد الشام. وقد كان الشيخ في زمانه يُعد العالم الأول في توجيه الشعب، ولذلك أحبه الناس والتفوا حوله، لكن مع ذلك لم يكن ينخدع باجتماع عشرات الآلاف من الناس حوله؛ لأنه يعلم أنهم إذا حزبه شيء فلن ينصروه، وهذه عادة الجماهير في كل زمان ومكان، ولذلك كانت له مقولة حكيمة قالها لتلميذه الشيخ حسين خطاب لما جاءه عشرات الآلاف من الناس لتهنئته بالقدوم من الحج، فقد قال له: يا شيخ حسين، لا تغتر بكل هذه الجماهير، فهي كرغوة الصابون، وصدق الشيخ والله. [4] القوة والشجاعة: لقد كان من أبرز صفات الشيخ القوة والشجاعة والإقدام، وعلى ذلك أمثلـة عدة، فمنها: لما أراد الاستخراب الفرنسي في سورية سَنّ قانون الطوائف، وفيه تجويز زواج المسلمات باليهـود والنصارى وغيرهم من طوائف بلاد الشام؛ قام الشيخ في وجه الاحتلال الفرنسي وبقوة، ونظم مظاهرة كبيرة خرجت من حي الميدان تريد مبنى رئاسة الوزراء، وضجت الحكومة بها وخافت من عواقبها وطلبت من الشيخ حسن إرجاع المتظاهرين ليتسنى للمندوب السامي الفرنسي الاتصال بحكومة بلاده واستشارتها في إلغاء القانون فوافق الشيخ، ثم ألغي القانون بعد ذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل قوة الشيخ وإقدامه، ولقد كان شعار المظاهرة: "ديننا لا نبغي به بديلا، وليسقط قانون الطوائف". ومن الأمثلـة أيضًا أنه شارك في الثورة ضد الفرنسيين مجاهدًا، ولحق بجماعة الشيخ محمد الأشمر الذي كان من أفذاذ المجاهدين وشجعانهم، لكنه لما رأى أن شوكة الفرنسيين قد اشتدت وأنهم قد استقروا في بلاد الشام؛ خرج من بلاده إلى الأردن وأقام فيه حوالي سنتين. ومن الأمثلـة على شجاعته وقوته أنه صدع بالحق بقوة أمام رئيس الجمهورية الفريق أمين الحافظ يوم استدعى العلماء ليوبخهم على وقوفهم ضد قوانين التأميم الاشتراكيـة التي صدرت سنة 1384هـ/1965م، وأسمع الرئيس ومعاونيه حكم الإسلام في صنيعهم بقوة وشجاعة بالغة مع أنه كان ينتظر السجن هو ومن معه من العلماء، وكان ذلك في رمضان ومن ثم أعادوهم إلى بيوتهم معززين مكرمين، وبعد أيام صدر المرسوم الجمهوري بعزل الشيخ حسن وبعض المشايخ من وظائفهم في الخطابة!! محنة الشيخ حسن حبنكة وفي سنة 1386هـ/1966م حج الشيخ، وقابل الملك فيصل - يرحمهما الله تعالى - في لقاء خاص، ولما عاد أعد له الشعب استقبالا جليلا جدًّا في المطار وفي جامعه وَحيَّه بالميدان، وغاظ هذا الحكومة السورية بزعامة نور الدين الأتاسي، بل إن السوفييت حذروا السوريين من هذا الشيخ الذي استقبل مثل هذا الاستقبال، فعزمت الحكومة على الإيقاع به؛ فأوعزت إلى أحد الملاحدة المجرمين أن يكتب مقالا مسمومًا يستهزئ فيه بالله - تعالى عَزّ وجَلّ - في مجلة الجيش الرسمية، فإذا قام الشيخ لينكر ويثير الشعب كعادته دُس بين صفوف المتظاهرين عناصر المباحث ليفسدوا المظاهرة ويحيدوا بها عن أهدافها، وحذر جماعة من المشايخ الشيخ حسن من الخطبة في جامعه في يوم جمعة خصه الشيخ للحديث عن الموضوع، لكنه خطب لمدة ساعة خطبة هائلة تجاوب معه فيها المصلون، ومنع هو وطلابه العناصر المدسوسة من التظاهر ضد الحكومة حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وقبضت عليه الشرطة وسُجن في سجن القلعة حيث سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعُذب بالسهر المتواصل وتسليط الأضواء الشديدة عليه، وأرادوا قتله لكن الله تعالى نجاه بالنكبـة التي نُكبت فيها بلاد الشام في حرب سنة 1387هـ/1967م، وقررت القيادة إطلاق سراحه، فطلب إطلاق سراح المسجونين بسبب قضيته وهم ألوف فوافقت القيادة وأطلقت الجميع، لكن كانت السلطة قد أصدرت مراسيم بإلغاء جمعيته بعد سجنه وصادرت أملاكها. المناصب التي تولاها الشيخ حسن حبنكة لم يكن الشيخ يحب الوظائف الرسمية، وعلى هذا لم يكن يطلبها أو يتشوف إليها، لكن عُهد إليه ببعض الوظائف والمناصب، فمن ذلك: [1] أمانة رابطة العلماء: كان الشيخ قد اشترك مع بعض العلماء في تأسيس رابطة للعلماء، وقد اختاروا أكبرهم سنًا رئيسًا لها وهو الشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ محمد مكي الكتاني نائبًا للرئيس، والشيخ حسن حبنكة أمينًا عامًا للرابطة. وكان للرابطة نشاط جليل، وعمل بارز في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيت عشر سنوات ثم ضعفت وانتهى أمرها. [2] عضوية المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بعد أن فرغ مقعد سورية بموت الشيخ محمد مكي الكتاني. [3] عرض عليه الشيخ تاج الدين الحسني يوم كان رئيسًا للجمهورية السورية منصب مدير عام الأوقاف فرفض. [4] ونافس في انتخابات تعيين مفتي الشام، وحصل فيها ضغط حكومي للحيلولة دون وصوله، وأُثر على بعض العلماء الناخبين، ومع كل ذلك لم يسقط إلا بفارق صوت واحد عن منافسه الذي فاز وهو الشيخ أحمد كفتارو. [5]وعين له بدون علمه وظيفة عالم في دار الفتوى، ثم عدلت الوظيفة لتكون باسم مدرس، ثم عزل عنها بعد أحداث سنة 1386هـ/1967م كما فصلتها في مكانها من هذه الترجمة. شعر الشيخ حسن حبنكة كان للشيخ شعر جيد على أنه لم يكن مكثرًا، فمن شعره: بني ديني هلمـوا أنقـذونا فنار الكفر تلتـهم البنينا وأنتم عاكفون على فسوق فكم نشقى وأنتم نائمـونا فتنـتم بالذي يفنى سريعًا وأغراكم خـداع الكافرينا فعن نهج السداد صرفتمونا ومن ثدي الجحود غذوتمونا وقال أيضًا: صفق القلب للحجـاز وثارا شَفّه الشوق للحبـيب فطارا واقتفت أثره الجسـوم غرامًا فجرى الركب في الرمال وسارا يا ديار الحبيـب يا أُنس قلبي عدل الدهر في الهـوى أو جارا يا بقاع الأنوار من فيض ربي حدثيـني عن الرسـول جِهارا حدثيني عن زمزم والمُصَـلّى حدثيـني فلا أطيـق اصـطبارا لم يفرغ الشيخ للتصنيف؛ وإنما كان يقول: أنا أؤلف الرجال، وكان له مؤلف واحد فقط، وهو شرح على نظم "الغاية والتقريب" في الفقه الشافعي. طلاب الشيخ حسن حبنكة تتلمذ على يديه مئات من طلاب العلم، وصار بعضهم من العلماء الكبار والمشهورين مثل د. محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، ود. مصطفى الخن، ود. مصطفى البُغا، وشيخ قراء الشام حسين خطاب، وشيخ قراء الشام من بعده محمد كريّم راجح، وابنه الشيخ عبدالرحمن. تزوج الشيخ وهو في سن الخامسة عشرة من فتاة تصغره بعامين من عائلة السودان الميدانية المعروفة بالتدين، فكان يُعنى بزوجه الصغيرة، ويوقظها ليصليا في ثلث الليل الآخر معًا. ورزقه الله تعالى سبعة أبناء وخمس بنات، ومن أبنائه الشيخ المشهور صاحب المصنفات المفيدة عبد الرحمن، وقد مات من قريب، يرحمه الله تعالى. توفي يرحمه الله تعالى سنة 1398هـ/1978م، عقب مرض نـزل به، وجَلَطات قلبية انتابته قبل وفاته بثلاث سنوات إلى أن حانت منيته، ووافاه أجله، وصُلي عليه في جامع بني أمية، وشيع جنازته قرابة ستمائة ألف، وهذا لم يكن في دمشق لأحد من العلماء منذ عقود طويلة، رحمه الله تعالى وأعلى درجته في عليين. أقوال العلماء عن الشيخ حسن حبنكة وهذه بعض أقوال لعلماء أثنوا على الشيخ: - قال فيه الشيخ أبو الحسن الندوي يرحمهما الله تعالى وكان قد عرفه قديمًا ودعاه للذهاب إلى لكنو في الهند لحضور احتفال ندوة العلماء بذكرى تأسيسها، فوافق الشيخ وارتحل إلى الهند والتقى بالشيخ أبي الحسن: "من نوادر العلماء والمشيخة الذين جمعوا بين الرسوخ في العلم والتضلع من الثروة العلمية المتوارثة والمكتبة الإسلامية الغنية، والاشتغال الدائم بالتدريس وتخريج العلماء والدارسين، وإنشاء المدارس وبناء المساجد، وبين العناية الخاصة بالأوضاع الراهنة في البلاد المهددة أو المتحدية لمستقبل الشعب المسلم السوري الديني". وقال فيه أيضًا: "كان عالمًا ربانيًا، وكبقية السلف الصالح في الورع والتقى، والاتصال بالله والثقة الكاملة فيه، والتفاني في سبيله، كما كان آية في الأخلاق الفاضلة والنـزاهة والبعد عن زخارف الدنيا وشواغلها، قلّما يوجد له نظير في هذا الوقت". - وقال فيه الدكتور عدنان زرزور: "كان في ساحة العلماء والشيوخ من هو أكبر منه سنًّا، وربما أغزر مادة في بعض فروع العلم ومسائله الكثيرة، ولكن أحدًا منهم لم يكن مهيئًا ليقوم على الثغرة التي كان يقوم عليها الشيخ حسن يرحمه الله، ولا ليؤدي الدور الكبير الذي كان منوطًا به في ذلك الحين، بحكم الإعداد والتكوين، وبحكم المواهب والاستعداد". وقال فيه تلميذه الشيخ حسين خطاب شيخ قراء الشام: "أمضيت في صحبته وتحت إشرافه وتوجيهه وتعليمه وتأديبه نحوًا من خمسين سنة في غدوه ورواحه، وسفره وحضره، وجده وهزله الذي ما كان يخرج فيه على دائرة الحشمة، وفي طعامه وشرابه، وحزنه وفرحه، وألمه وصحته، وسِلْمه ونضاله، فوجدته خير مُربٍ، وخير معلم، وخير ناصح. ـــــــــــــــــــــــــ *نعيد نشر هذا المقال للدكتور محمد موسى الشريف فك الله أسره، وقد نشر في موقع قصة التاريخ في 2013/06/17
حسن حبنكة الميداني
د: محمد موسى الشريف *

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

في العصر الحديث عشرات الآلاف من العلماء والمشايخ وطلبة العلم، وبعض هؤلاء قد بلغ من العلم مبلغًا عظيمًا، لكن قليلًا من هؤلاء من كانت له عند قومه منـزلة وتأثيـر، وقليل من هؤلاء مَن كان له في بلده عمل جليل، ومن هؤلاء القلة كان الشيخ حسن حبنكة الميداني، يرحمه الله تعالى.

ولد الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق سنة 1326هـ/1908م، وهو حي الشجعان وأهل المروءة والفتوّة وأولي القوة، وأبوه هو مرزوق بن عرابي بن غنيم من عرب بني خالد من بادية حماة، أما حَبَنّكة والميداني فهما لقبان له عرفت عائلته باللقب الأول واشتهر هو باللقب الآخر، وكان أبوه مرزوق من أهل الصلاح والاستقامة، صاحب محل لبيع المواد الغذائية، وأمه خديجة من أصول مصرية أتت لأبيه بأربعة أبناء وبنتين، أكبرهم هو الشيخ حسن يرحمه الله، وقد توفيت - يرحمها الله تعالى - أثناء عودتها من الحج مع ابنها الشيخ حسن.

نشأة الشيخ حسن حبنكة

نشأ الشيخ حسن في حي الميدان، وتعلم في الكتّاب القراءة والكتابة، وقراءة القرآن العظيم، ثم درس في مدرسة الشيخ شريف اليعقوبي الابتدائية، ثم قرأ بعض العلوم على الشيخ طالب هيكل، ثم على الشيخ عبد القادر الأشهب، ثم على الشيخ محمود العطار والشيخ أمين سويد، وقرأ العلوم العقلية على عالم بخاري وآخر كردي، ثم قرأ على الشيخ المحدث بدر الدين الحسني، وتفقه بالمذهب الحنفي ثم درس المذهب الشافعي والتـزمه علمًا وتعليمًا. والتحق الشيخ حسن بالشيخ علي الدقر، وصار من جملة تلاميذه والسائرين على منهجه، وتولى إدارة مدرستين تابعتين للشيخ علي، وأخلص له في همة منقطعة النظير، وكان هو المقدم بين أصحاب الشيخ علمًا وتعليمًا وإدارة، وقد جلب له هذا الحسد والكيد فوشى به عند الشيخ بعض أتباعه بأن الشيخ حسن يريد الزعامة وينافس الشيخ علي، واشتد الأمر فما كان من الشيخ حسن إلا أن اعتـزل مؤسسة الشيخ على إيثارًا للسلامة، لكن الشيخ حسن ظل متصلا به ومتأدبًا معه حتى مات الشيخ علي يرحمه الله. ثم إن الشيخ - يرحمه الله تعالى - أسس جمعية خاصة به سماها «جمعية التوجيه الإسلامي» سنة 1365هـ/1946م، وكانت الجمعية تستقبل الطلاب من كل مكان، وتُعنى بهم وتدرسهم مجانًا، بل إنها كانت تهيئ السكن لمن لا سكن له، وبفضل الله استطاعت أن تنشئ مساجد كثيرة في دمشق وتُعنى بالقديم منها وأنشأت مدارس ومعاهد للبنين والبنات، ودارًا للقرآن في جامع منجك - الذي كان المقر الرئيس للشيخ حسن طوال حياته - وظلت الجمعية معطاءة مدرارة إلى سنة 1387هـ/1967م حيث أُلغيت بمراسيم جمهورية وضمت مبانيها إلى وزارة الأوقاف.

صفات الشيخ حسن حبنكة

كان للشيخ يرحمه الله صفات جليلة من أعظمها:

[1] الهمة العالية:

فقد تعلق قلبه بالعلم منذ صغره حتى آخر أيامه، وكانت له دروس عديدة تبدأ من قبل صلاة الفجر!! وتستمر عامة النهار وطرفًا من الليل، وكان يلـزم طلابه بالهمـة العالية؛ فقد تعلّم على يديه طالب يسمى إسماعيل الصباغ، وكان يُلزمـه أن يأتيه في وقت محدد في السحر للدراسة، فإذا تأخر بضع دقائق لم يأذن له، وكان هذا الطالب إسماعيل يسكن خارج حي الميدان، فكان يمشي في ظلمة الليل من بيته إلى بيت شيخه ليصل إليه قبل الفجر بساعة، فما أحسن الهمـة العاليـة في الشخص فهي الموصلة له إلى أعلى الدرجات. ومن دلائل همـة الشيخ حسن أنه كان له شيخ اسمه محمود العطار وهو فقيه حنفي متمكن من الفقه، فكان يجلس بين يديه على ركبتيه عدة ساعات كل يوم، وكان للشيخ محمود رغبة في الخروج إلى البساتين والقرى وحُبب إليه ذلك، فكان الشيخ حسن يتبعه من بستان إلى بستان، ومن قرية إلى قرية رغبة في طلب العلم. وقد ظهرت همة الشيخ العالية في تصدره للتدريس وإفادة الجمهور؛ فقد كان له درس عام جامع للعامة بعد الفجر إلى الضحى، ثم يفطر مع الطلاب، ثم يدرس كبار الطلاب إلى قُبيل صلاة الظهر، ثم إنه يفرغ لنفسه من الظهر إلى العصر، وبعد العصر بقليل كان له درس إلى أذان المغرب مع كبار طلابه، ثم بعد المغرب يحين وقت الدرس العام الجامع للعامة، وبعد العشاء درس للطلاب الذين لا تسعفهم أحوالهم للدراسة النهارية فيأتون إليه ليلا، ثم بعد فراغ الدرس يعود إلى بيته، لكنه كان كثيرًا ما يحب البقاء في الجامع والبيات فيه ليوقظ طلابه لصلاة الفجر جماعة، ويقوم سحرًا للصلاة والدعاء والتسبيح، وربما طالع بعض كتب العلم في ذلك الوقت، هذا عدا قضايا المسلمين العامة التي كانت تؤرقه وتأتي على الوقت الذي بقي له من يومه وليلته. وكان له طريقة حسنة في التعليم؛ وهي إيقاف الطلاب على مبادئ العلم ومفاتيحه، ويدربهم على استخراج المسائل من مظانها، ومِن ثَمّ يعقد حلقات للمناقشة وهذه طريقة فريدة. وكان يدفع بطلابه إلى التدريس والخطابة وإلقاء المواعظ في المساجد، خاصة في رمضان للتدرب على مواجهة الجمهور وإفادتهم. وكان يدرب طلابه على السباحة والفروسية وركوب الخيل، ويسير بهم في القرى والبساتين لتدريبهم على القوة واحتمال المشاق، وربما بات معهم في المساجد أو البيوت التي يستأجرها لهذا الغرض، وربما باتوا في أرض أو سفح جبل، وفي تلك الرحلات يفيدون أهل القرى بالدروس والمواعظ.

[2] الحكمـة:

وقد قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرً‌ا كَثِيرً‌ا}[البقرة:269]، وقد تجلت حكمته في مداراته للأنظمـة الحاكمـة في بلاد الشام آنذاك فيما يعود على البلاد والعباد بالخيـر، وقد ظهرت حكمته في مواقف، منها يوم اشتدت السلطات البعثية الحاكمة في الشام على الشعب وضيقت عليه في أمور دينه، فأرادت مجموعات من الشباب أن تعتصم بالجامع الأموي، ووافقهم بعض العلماء على ذلك، واجتمعوا في المسجد وتوالت الاتصالات من الجامع تستحث الشيخ أن يأتي هو وطلبته، وكان المستحث أحد المشايخ المتعاونين مع الدولة، وجاء مجموعة من المشايخ إلى الشيخ حسن في مكانه في جامع مَنْجك، وكان منهم د. محمد أمين المصري ورجحوا المشاركة واستحثوه ليذهب، فقال لهم: هل أنتم الذين دبرتم هذا الأمر وأعددتم له عدته؟ هل أنتم الذين بعثتم طلابكم ومريديكم للدعوة إليه؟ قالوا: لا. فقال لهم: وما يدريكم أنه فخ صنع لكم حتى تُقتلوا أو تأخذكم الدولة بجرم القيام بثورة مسلحة. أنتم بين خيارين: إما أن أحبسكم عندي هنا في البيت، وإما أن تنصرفوا إلى بيوتكم، ولا أسمح لأحد منكم بالمشاركة في هذا الأمر، إن المسلمين بحاجة لكم فلا تمكنوا أعداءكم منكم. فانصرف العلماء إلى بيوتهم مستجيبين لأمر الشيخ، ووقع ما تفرس فيه الشيخ، فقد هجمت الدولة على الجامع، وكسرت بابه بدبابة، وقتلت خلقًا كثيرًا ممن وجدته فيه في مجزرة شنيعة، واستاقت الباقي لتعذبهم عذابًا مروعًا ثم أعدمت جماعة منهم، وكان يراد استئصال المشايخ وطلبة العلم كلهم لكن الله نجّاهم بحكمة الشيخ. ومن الأمثلـة على حكمته رفضه الدعوات المتكررة من سفارة الاتحاد السوفييتي في بيروت لحضور مؤتمر عقدوه للسلام، مع أنهم وعدوه بأنهم سيسمحون له بالحديث كما يشاء، لكنه رفض لأنه يعلم أنهم لن ينشروا له شيئًا، وفي الوقت نفسه سيخدعون كثيرًا من الناس بحضوره.

[3] التصدر للناس:

كان الشيخ زعيمًا للشعب، متصدرًا لحل مشكلاتهم، مصلحًا بينهم، مدافعًا عن مظلومهم، مجيبًا لمطالبهم، مغيثًا لملهوفهم، مجيبًا لدعوة من دعاه من خواص إخوانه وطلابه، ثم إنه كان الموصل لمطالب الشعب إلى الحاكم والوزير والمسئول، على أنه كان يخالطهم بعزة العالم المسلم، وكان عدد من رؤساء الجمهورية يزورونه في مسجده وفي غرفته في المسجد ويصلون عنده الجمعة؛ فلم يُثن عليهم قط، وإنما كان يصدعهم بالحق وينصحهم ويوجههم، وكذلك الحال إذا اجتمع بهم في حفل عام أو اجتماع فإنه يصدع بالحق في وجوههم ويريهم عزة العلماء.

ومن مواقفه مع حكام المسلمين، أنه كان في وفد من علماء الشام لتهنئة الملك سعود - يرحمه الله تعالى - بالحكم، فنصح الملك وحثه على الاستمساك بالشرع والعمل به، وحثه على إعادة إعمار سكة حديد الحجاز، وبعد ذلك أهدي له وللعلماء ساعات وعطايا مالية فقبلوا الساعات وردوا المال. وكان له فضل على العلماء والدعاة، فقد توسط لدى حافظ الأسد لإطلاق الشيخ سعيد حوى ففعل، ولإطلاق الشيخ محمد علي مشعل فاستجاب لوساطته، وكان الحمى الحقيقي بعد الله تعالى للمشايخ والعلماء في بلاد الشام. وقد كان الشيخ في زمانه يُعد العالم الأول في توجيه الشعب، ولذلك أحبه الناس والتفوا حوله، لكن مع ذلك لم يكن ينخدع باجتماع عشرات الآلاف من الناس حوله؛ لأنه يعلم أنهم إذا حزبه شيء فلن ينصروه، وهذه عادة الجماهير في كل زمان ومكان، ولذلك كانت له مقولة حكيمة قالها لتلميذه الشيخ حسين خطاب لما جاءه عشرات الآلاف من الناس لتهنئته بالقدوم من الحج، فقد قال له: يا شيخ حسين، لا تغتر بكل هذه الجماهير، فهي كرغوة الصابون، وصدق الشيخ والله.

[4] القوة والشجاعة:

لقد كان من أبرز صفات الشيخ القوة والشجاعة والإقدام، وعلى ذلك أمثلـة عدة، فمنها: لما أراد الاستخراب الفرنسي في سورية سَنّ قانون الطوائف، وفيه تجويز زواج المسلمات باليهـود والنصارى وغيرهم من طوائف بلاد الشام؛ قام الشيخ في وجه الاحتلال الفرنسي وبقوة، ونظم مظاهرة كبيرة خرجت من حي الميدان تريد مبنى رئاسة الوزراء، وضجت الحكومة بها وخافت من عواقبها وطلبت من الشيخ حسن إرجاع المتظاهرين ليتسنى للمندوب السامي الفرنسي الاتصال بحكومة بلاده واستشارتها في إلغاء القانون فوافق الشيخ، ثم ألغي القانون بعد ذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل قوة الشيخ وإقدامه، ولقد كان شعار المظاهرة: "ديننا لا نبغي به بديلا، وليسقط قانون الطوائف".

ومن الأمثلـة أيضًا أنه شارك في الثورة ضد الفرنسيين مجاهدًا، ولحق بجماعة الشيخ محمد الأشمر الذي كان من أفذاذ المجاهدين وشجعانهم، لكنه لما رأى أن شوكة الفرنسيين قد اشتدت وأنهم قد استقروا في بلاد الشام؛ خرج من بلاده إلى الأردن وأقام فيه حوالي سنتين.

ومن الأمثلـة على شجاعته وقوته أنه صدع بالحق بقوة أمام رئيس الجمهورية الفريق أمين الحافظ يوم استدعى العلماء ليوبخهم على وقوفهم ضد قوانين التأميم الاشتراكيـة التي صدرت سنة 1384هـ/1965م، وأسمع الرئيس ومعاونيه حكم الإسلام في صنيعهم بقوة وشجاعة بالغة مع أنه كان ينتظر السجن هو ومن معه من العلماء، وكان ذلك في رمضان ومن ثم أعادوهم إلى بيوتهم معززين مكرمين، وبعد أيام صدر المرسوم الجمهوري بعزل الشيخ حسن وبعض المشايخ من وظائفهم في الخطابة!!

محنة الشيخ حسن حبنكة

وفي سنة 1386هـ/1966م حج الشيخ، وقابل الملك فيصل - يرحمهما الله تعالى - في لقاء خاص، ولما عاد أعد له الشعب استقبالا جليلا جدًّا في المطار وفي جامعه وَحيَّه بالميدان، وغاظ هذا الحكومة السورية بزعامة نور الدين الأتاسي، بل إن السوفييت حذروا السوريين من هذا الشيخ الذي استقبل مثل هذا الاستقبال، فعزمت الحكومة على الإيقاع به؛ فأوعزت إلى أحد الملاحدة المجرمين أن يكتب مقالا مسمومًا يستهزئ فيه بالله - تعالى عَزّ وجَلّ - في مجلة الجيش الرسمية، فإذا قام الشيخ لينكر ويثير الشعب كعادته دُس بين صفوف المتظاهرين عناصر المباحث ليفسدوا المظاهرة ويحيدوا بها عن أهدافها، وحذر جماعة من المشايخ الشيخ حسن من الخطبة في جامعه في يوم جمعة خصه الشيخ للحديث عن الموضوع، لكنه خطب لمدة ساعة خطبة هائلة تجاوب معه فيها المصلون، ومنع هو وطلابه العناصر المدسوسة من التظاهر ضد الحكومة حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وقبضت عليه الشرطة وسُجن في سجن القلعة حيث سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعُذب بالسهر المتواصل وتسليط الأضواء الشديدة عليه، وأرادوا قتله لكن الله تعالى نجاه بالنكبـة التي نُكبت فيها بلاد الشام في حرب سنة 1387هـ/1967م، وقررت القيادة إطلاق سراحه، فطلب إطلاق سراح المسجونين بسبب قضيته وهم ألوف فوافقت القيادة وأطلقت الجميع، لكن كانت السلطة قد أصدرت مراسيم بإلغاء جمعيته بعد سجنه وصادرت أملاكها.

المناصب التي تولاها الشيخ حسن حبنكة

لم يكن الشيخ يحب الوظائف الرسمية، وعلى هذا لم يكن يطلبها أو يتشوف إليها، لكن عُهد إليه ببعض الوظائف والمناصب، فمن ذلك:

[1] أمانة رابطة العلماء: كان الشيخ قد اشترك مع بعض العلماء في تأسيس رابطة للعلماء، وقد اختاروا أكبرهم سنًا رئيسًا لها وهو الشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ محمد مكي الكتاني نائبًا للرئيس، والشيخ حسن حبنكة أمينًا عامًا للرابطة. وكان للرابطة نشاط جليل، وعمل بارز في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيت عشر سنوات ثم ضعفت وانتهى أمرها.

[2] عضوية المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بعد أن فرغ مقعد سورية بموت الشيخ محمد مكي الكتاني.

[3] عرض عليه الشيخ تاج الدين الحسني يوم كان رئيسًا للجمهورية السورية منصب مدير عام الأوقاف فرفض.

[4] ونافس في انتخابات تعيين مفتي الشام، وحصل فيها ضغط حكومي للحيلولة دون وصوله، وأُثر على بعض العلماء الناخبين، ومع كل ذلك لم يسقط إلا بفارق صوت واحد عن منافسه الذي فاز وهو الشيخ أحمد كفتارو.

[5]وعين له بدون علمه وظيفة عالم في دار الفتوى، ثم عدلت الوظيفة لتكون باسم مدرس، ثم عزل عنها بعد أحداث سنة 1386هـ/1967م كما فصلتها في مكانها من هذه الترجمة.

شعر الشيخ حسن حبنكة

كان للشيخ شعر جيد على أنه لم يكن مكثرًا، فمن شعره:

بني ديني هلمـوا أنقـذونا فنار الكفر تلتـهم البنينا
وأنتم عاكفون على فسوق فكم نشقى وأنتم نائمـونا
فتنـتم بالذي يفنى سريعًا وأغراكم خـداع الكافرينا
فعن نهج السداد صرفتمونا ومن ثدي الجحود غذوتمونا
وقال أيضًا:
صفق القلب للحجـاز وثارا شَفّه الشوق للحبـيب فطارا
واقتفت أثره الجسـوم غرامًا فجرى الركب في الرمال وسارا
يا ديار الحبيـب يا أُنس قلبي عدل الدهر في الهـوى أو جارا
يا بقاع الأنوار من فيض ربي حدثيـني عن الرسـول جِهارا
حدثيني عن زمزم والمُصَـلّى حدثيـني فلا أطيـق اصـطبارا

لم يفرغ الشيخ للتصنيف؛ وإنما كان يقول: أنا أؤلف الرجال، وكان له مؤلف واحد فقط، وهو شرح على نظم "الغاية والتقريب" في الفقه الشافعي.

طلاب الشيخ حسن حبنكة

تتلمذ على يديه مئات من طلاب العلم، وصار بعضهم من العلماء الكبار والمشهورين مثل د. محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، ود. مصطفى الخن، ود. مصطفى البُغا، وشيخ قراء الشام حسين خطاب، وشيخ قراء الشام من بعده محمد كريّم راجح، وابنه الشيخ عبدالرحمن.

تزوج الشيخ وهو في سن الخامسة عشرة من فتاة تصغره بعامين من عائلة السودان الميدانية المعروفة بالتدين، فكان يُعنى بزوجه الصغيرة، ويوقظها ليصليا في ثلث الليل الآخر معًا. ورزقه الله تعالى سبعة أبناء وخمس بنات، ومن أبنائه الشيخ المشهور صاحب المصنفات المفيدة عبد الرحمن، وقد مات من قريب، يرحمه الله تعالى.

توفي يرحمه الله تعالى سنة 1398هـ/1978م، عقب مرض نـزل به، وجَلَطات قلبية انتابته قبل وفاته بثلاث سنوات إلى أن حانت منيته، ووافاه أجله، وصُلي عليه في جامع بني أمية، وشيع جنازته قرابة ستمائة ألف، وهذا لم يكن في دمشق لأحد من العلماء منذ عقود طويلة، رحمه الله تعالى وأعلى درجته في عليين.

أقوال العلماء عن الشيخ حسن حبنكة

وهذه بعض أقوال لعلماء أثنوا على الشيخ:

- قال فيه الشيخ أبو الحسن الندوي يرحمهما الله تعالى وكان قد عرفه قديمًا ودعاه للذهاب إلى لكنو في الهند لحضور احتفال ندوة العلماء بذكرى تأسيسها، فوافق الشيخ وارتحل إلى الهند والتقى بالشيخ أبي الحسن: "من نوادر العلماء والمشيخة الذين جمعوا بين الرسوخ في العلم والتضلع من الثروة العلمية المتوارثة والمكتبة الإسلامية الغنية، والاشتغال الدائم بالتدريس وتخريج العلماء والدارسين، وإنشاء المدارس وبناء المساجد، وبين العناية الخاصة بالأوضاع الراهنة في البلاد المهددة أو المتحدية لمستقبل الشعب المسلم السوري الديني". وقال فيه أيضًا: "كان عالمًا ربانيًا، وكبقية السلف الصالح في الورع والتقى، والاتصال بالله والثقة الكاملة فيه، والتفاني في سبيله، كما كان آية في الأخلاق الفاضلة والنـزاهة والبعد عن زخارف الدنيا وشواغلها، قلّما يوجد له نظير في هذا الوقت".

- وقال فيه الدكتور عدنان زرزور: "كان في ساحة العلماء والشيوخ من هو أكبر منه سنًّا، وربما أغزر مادة في بعض فروع العلم ومسائله الكثيرة، ولكن أحدًا منهم لم يكن مهيئًا ليقوم على الثغرة التي كان يقوم عليها الشيخ حسن يرحمه الله، ولا ليؤدي الدور الكبير الذي كان منوطًا به في ذلك الحين، بحكم الإعداد والتكوين، وبحكم المواهب والاستعداد".

وقال فيه تلميذه الشيخ حسين خطاب شيخ قراء الشام: "أمضيت في صحبته وتحت إشرافه وتوجيهه وتعليمه وتأديبه نحوًا من خمسين سنة في غدوه ورواحه، وسفره وحضره، وجده وهزله الذي ما كان يخرج فيه على دائرة الحشمة، وفي طعامه وشرابه، وحزنه وفرحه، وألمه وصحته، وسِلْمه ونضاله، فوجدته خير مُربٍ، وخير معلم، وخير ناصح.

ـــــــــــــــــــــــــ
*نعيد نشر هذا المقال للدكتور محمد موسى الشريف فك الله أسره، وقد نشر في موقع قصة التاريخ في 2013/06/17
‏٢٤‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٩:٠٥ م‏
الفراعنة الصغار مجدي شلش أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر سمة من سمات الطبيعة البشرية وإحدى غرائزها الكبرى، ليست متلازمة مع الكفر أو الفسوق أو العصيان، إنما قد تجدها أيضًا في أشد الناس حماسة وعاطفة نحو حب الذات وتأليه الأنا باسم الشرائع والأوطان. المتفق عليه عند الحكماء بأن لفظ الفرعون صفة وليس علمًا على شخص معين، هي مجموعة من السمات والصفات إذا تحققت في شخص كان فرعونًا، نعم تكبر وتصغر الفرعونية في الإنسان حسب استعداداته وميوله ورغباته. هناك الفراعين الكبار الذين نازعوا الله في أسمائه وصفاته حتى قال كبير منهم "أنا أحي وأميت"، وقال الآخر: "أنا ربكم الأعلى" لكن السمة الكبرى والعظمى التي تتجسد في الكبار من الفراعين والصغار هي: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". الفراعنة الكبار والصغار يعدون كل مصلح فاسدًا، وكل مرشد ضالًا، وكل صيحة عليهم، من خرج من تحت العباءة أو السيطرة مصيره معلوم ومعروف، ومن تجرأ بالنصح فهو مختل مجنون، ومن رفع رأسه على أسياده فالحبل والسكين موجودان. لا أبالي بالفراعنة الكبار الذين ملؤا الدنيا صياحًا وضجيجًا وقتلًا وإرهابًا، جامعهم الكفر والضلال، ومنهجهم الظلم والطغيان، على الله تفرعنوا، وعلى الرسل تجبروا، وعلى البشر تألهوا، وفي الكون أفسدوا، والنهاية رمم وقمامات في مزابل التاريخ رموا. المشكلة الأكثر انتشارا الفراعين الصغار الذين اتخذوا من الدين ستارا للاستبداد الفكري والإرهاب العقلي بحجة امتلاك الحقيقة المطلقة أو معرفة المصلحة والمنفعة أو أنه الأوحد في العلم الفلاني، رأيه من المقدسات، وفكره ينتج اللوذعيات، وسلوكه كله كرامات، لحمه مسموم، وجسمه طاهر مطهر غير مكروه. صدق من قال في نفس كل واحد منا فرعون صغير، يخنس بالتربية والتهذيب والشورى واحترام الآخر، وينمو ويشتد ويكبر بكبر الأنا وتأليه الذات بمنصب رفيع أو مال وفير، أو جمال أو حسب منقطع النظير، فما بالنا لو اجتمع فيه الجميع؟ هذا هو الإنسان معقد التركيب بين الانسحاق للمستبدين الطغاة إن كان فارغًا من التميز الذاتي، أو مستبدًا متجبرًا عند الاستغناء بالرأي أو الرخاء بالشهرة والمال والجاه، طبيعية خاصة تختلف عن الجن والملائكة وسائر المخلوقات، وصدق الله في قوله: "كلا إن الإنسان ليطغي أن رآه استغنى". الفرعون الصغير تجده مستأسدًا على مَن تحته مِن ولد أو زوج أو عامل أو جار أو تلميذ أو أب أو أم أو قريب، وتراه ذليلًا منكسرًا أمام أسياده الذين يلقمونه اللقمة أو بعض الشهرة أو مجرد التمحل بالجلوس معهم، ينتفخ على إخوانه ويشتد، ويصغر أمام أعدائه وينخفض، عكس الآية فعامل الألداء بالرحمة واللين والشفقة، وعامل الأقربين بالشدة والعنف والغلظة. أعفن الفراعين الصغار من برر للكبار خطأهم، وعظم للسفهاء قولهم، ومدح الجبناء بالشجاعة، واللصوص بالشفافية والنزاهة، والكذبة بالصدق، متمنيًا أنه في يوم من الأيام سيحل محلهم، ويجلس في محلتهم، ويرث مكانتهم، يمهد بالظلم لإخوانه وأحبابه سبيل المجرمين، ويعصف بكل القيم والمبادىء من أجل أشخاص خالفوا العرف والدين. أتعبتنا النفس البشرية بسماتها المتناقضة وصفاتها المتضادة، الحلال يصبح حرامًا، والصواب يكون خطأ، والمصلحة اليوم مفسدة غدًا، والعدو أصبح صديقًا، والصديق عدوًا، شر الناس من باع دينه لدنيا غيره. الفرعون الصغير يجعل من الهر نمرًا ومن الكلب أسدًا ومن الحقير زعيمًا مبجلًا، الفرعون الصغير يختذل الدنيا كلها في جناب كبيره، هو الدولة والدولة هو، هو الأمة والأمة هو، هو الجماعة والجماعة هو، تلبيس باسم الشعب لمن ملك الدولة، وباسم الصف لمن ملك الجماعة أو الأمة. الشناعة الكبرى من الفراعنة الصغار اتخاذ آيات الله هزوًا لتبرير المصالح والمفاسد، فيجعلوا من البشر الذين يصيبون ويخطئون باسم الدين والحب والثقة والطاعة والسبق آلهة وأربابًا، من اعترض انطرد والباب يفوت الجمل، وكأن الدولة أو الكيان عزبة ورثوها عن الآباء والأمهات، هى في الحقيقة ميراث الكل وللكل بحكم الشراكة في البناء والتضحية بالدماء، والإيمان بالفكرة والدعوة والحركة. غافل عن الحقيقة من مزج بين الأشخاص والمؤسسات وجعلها شيئًا واحدًا، يعد الفرعون الصغير النقد أو النصيحة الموجهة للشخص تقدح في ذات المؤسسة أو الكيان، الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وكم من أشخاص عبروا نحو الهاوية بسبب الفراعين الصغار الذين زينوا لهم الباطل حقًا والإيمان كفرًا والمعصية ألذ طاعة وذكرًا. النقد بأدبياته الشرعية والمنطقية عند أولى الألباب ليس قدحًا، والاستفسار بقيمه العلمية ليس ذمًا، وقديمًا وقف سلمان الفارسي رضي الله عنه أمام الفاروق في أمر لباس وقال: لا سمع ولا طاعة، فما بالنا في دولة تباع أو كيان يجمد أو تاريخ يحطم وقيم تباد. الفراعنة الصغار كثير منهم موجودون في السياسة والإعلام والدين، ينشأ صغيرًا ثم ينمو ويكبر في الزريبة الكبيرة، الأول يبدأ ناشطًا سياسيًا وينتهي منافقًا عليمًا، يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، راقص على كل الحبال والمصالح، عبد لمن بيده الكعكة أو التورتة، والثاني متلون بلون الحرباء اليوم اللون أصفر وغدًا أحمر وبعد غد أسود، والأخير أسوأهم وأرداهم، الأصل أن مقامه مقام الأنبياء إذ به وقد ناصر السفهاء، وخلط الأوراق، وتلاعب بالنصوص،"واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون" صدق من قال فيهم: عمم على رمم. النموذج الأمثل والأسوة الحسنة في التفريق بين الشخص والقيمة، والفرد والمؤسسة، والسلوك والحقيقة، هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يقتد من نفسه لمجرد الإحساس بالخطأ، يطلب منه سواد رضي الله عنه القصاص لأنه أوجعه في بطنه، فيكشف له بطنه ويقول: استقد يا سواد، وقبل موته يخطب وينادي ويقول: من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليقتد منه، ومن كنت أخذت منه مالًا فهذا مالي فليأخذ منه. إنه الفصل التام بين النبوة كوحي وبين سلوك الإنسان الذي قد يعتريه شيء من النسيان أو السهو أو عدم تقدير الصواب نظرًا لقلة الخبرة في المجال، أو الحرص على من هم في ظنه أقرب إلى القبول بالامتثال، نفسه صلى الله عليه وسلم تشبعت بالوحي جلالًا وتعظيمًا فخاطب أبا ذر رضي الله عنه وقال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية" لما وقع في أخيه. لا مجاملة على حساب القيمة للأشخاص وإن سبقوا، ولا محسوبية لقادة وإن تقدموا وضحوا، أفضل منهم رأيناه وقد ربط على بطنه الحجر والحجرين، وخرج إلى الطل بعد جلبة وقال لن تراعوا، ووقف في مقدمة الصفوف وهتف أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، تعلم منه الصديق والفاروق، فانتصروا في ميدان المعارك لما هذبوا وانتصروا في ميدان النفوس. الفراعنة الصغار محل الدهس في الغالب من الفراعنة الكبار، يعلمون حيلهم ونفاقهم وتزلفهم لهم، يضربونهم بأفحش الألفاظ ويكسرون أنفهم ببعض الملذات والمتاع، ويمرغون وجوههم في أنتن البرك والمستنقعات، إنها الدورات التدريبية لهم حتى يصيروا كبارا في الفرعنة على حق، ويكونوا أهلًا لميراث الغل والحقد، هكذا تنبت شجرة الفرعنة تبدو صغيرة في البداية ثم تنمو شجرة خبيثة في النهاية.
الفراعنة الصغار

مجدي شلش
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر


سمة من سمات الطبيعة البشرية وإحدى غرائزها الكبرى، ليست متلازمة مع الكفر أو الفسوق أو العصيان، إنما قد تجدها أيضًا في أشد الناس حماسة وعاطفة نحو حب الذات وتأليه الأنا باسم الشرائع والأوطان.

المتفق عليه عند الحكماء بأن لفظ الفرعون صفة وليس علمًا على شخص معين، هي مجموعة من السمات والصفات إذا تحققت في شخص كان فرعونًا، نعم تكبر وتصغر الفرعونية في الإنسان حسب استعداداته وميوله ورغباته.

هناك الفراعين الكبار الذين نازعوا الله في أسمائه وصفاته حتى قال كبير منهم "أنا أحي وأميت"، وقال الآخر: "أنا ربكم الأعلى" لكن السمة الكبرى والعظمى التي تتجسد في الكبار من الفراعين والصغار هي: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ".

الفراعنة الكبار والصغار يعدون كل مصلح فاسدًا، وكل مرشد ضالًا، وكل صيحة عليهم، من خرج من تحت العباءة أو السيطرة مصيره معلوم ومعروف، ومن تجرأ بالنصح فهو مختل مجنون، ومن رفع رأسه على أسياده فالحبل والسكين موجودان.

لا أبالي بالفراعنة الكبار الذين ملؤا الدنيا صياحًا وضجيجًا وقتلًا وإرهابًا، جامعهم الكفر والضلال، ومنهجهم الظلم والطغيان، على الله تفرعنوا، وعلى الرسل تجبروا، وعلى البشر تألهوا، وفي الكون أفسدوا، والنهاية رمم وقمامات في مزابل التاريخ رموا.

المشكلة الأكثر انتشارا الفراعين الصغار الذين اتخذوا من الدين ستارا للاستبداد الفكري والإرهاب العقلي بحجة امتلاك الحقيقة المطلقة أو معرفة المصلحة والمنفعة أو أنه الأوحد في العلم الفلاني، رأيه من المقدسات، وفكره ينتج اللوذعيات، وسلوكه كله كرامات، لحمه مسموم، وجسمه طاهر مطهر غير مكروه.

صدق من قال في نفس كل واحد منا فرعون صغير، يخنس بالتربية والتهذيب والشورى واحترام الآخر، وينمو ويشتد ويكبر بكبر الأنا وتأليه الذات بمنصب رفيع أو مال وفير، أو جمال أو حسب منقطع النظير، فما بالنا لو اجتمع فيه الجميع؟

هذا هو الإنسان معقد التركيب بين الانسحاق للمستبدين الطغاة إن كان فارغًا من التميز الذاتي، أو مستبدًا متجبرًا عند الاستغناء بالرأي أو الرخاء بالشهرة والمال والجاه، طبيعية خاصة تختلف عن الجن والملائكة وسائر المخلوقات، وصدق الله في قوله: "كلا إن الإنسان ليطغي أن رآه استغنى".

الفرعون الصغير تجده مستأسدًا على مَن تحته مِن ولد أو زوج أو عامل أو جار أو تلميذ أو أب أو أم أو قريب، وتراه ذليلًا منكسرًا أمام أسياده الذين يلقمونه اللقمة أو بعض الشهرة أو مجرد التمحل بالجلوس معهم، ينتفخ على إخوانه ويشتد، ويصغر أمام أعدائه وينخفض، عكس الآية فعامل الألداء بالرحمة واللين والشفقة، وعامل الأقربين بالشدة والعنف والغلظة.

أعفن الفراعين الصغار من برر للكبار خطأهم، وعظم للسفهاء قولهم، ومدح الجبناء بالشجاعة، واللصوص بالشفافية والنزاهة، والكذبة بالصدق، متمنيًا أنه في يوم من الأيام سيحل محلهم، ويجلس في محلتهم، ويرث مكانتهم، يمهد بالظلم لإخوانه وأحبابه سبيل المجرمين، ويعصف بكل القيم والمبادىء من أجل أشخاص خالفوا العرف والدين.

أتعبتنا النفس البشرية بسماتها المتناقضة وصفاتها المتضادة، الحلال يصبح حرامًا، والصواب يكون خطأ، والمصلحة اليوم مفسدة غدًا، والعدو أصبح صديقًا، والصديق عدوًا، شر الناس من باع دينه لدنيا غيره.

الفرعون الصغير يجعل من الهر نمرًا ومن الكلب أسدًا ومن الحقير زعيمًا مبجلًا، الفرعون الصغير يختذل الدنيا كلها في جناب كبيره، هو الدولة والدولة هو، هو الأمة والأمة هو، هو الجماعة والجماعة هو، تلبيس باسم الشعب لمن ملك الدولة، وباسم الصف لمن ملك الجماعة أو الأمة.

الشناعة الكبرى من الفراعنة الصغار اتخاذ آيات الله هزوًا لتبرير المصالح والمفاسد، فيجعلوا من البشر الذين يصيبون ويخطئون باسم الدين والحب والثقة والطاعة والسبق آلهة وأربابًا، من اعترض انطرد والباب يفوت الجمل، وكأن الدولة أو الكيان عزبة ورثوها عن الآباء والأمهات، هى في الحقيقة ميراث الكل وللكل بحكم الشراكة في البناء والتضحية بالدماء، والإيمان بالفكرة والدعوة والحركة.

غافل عن الحقيقة من مزج بين الأشخاص والمؤسسات وجعلها شيئًا واحدًا، يعد الفرعون الصغير النقد أو النصيحة الموجهة للشخص تقدح في ذات المؤسسة أو الكيان، الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وكم من أشخاص عبروا نحو الهاوية بسبب الفراعين الصغار الذين زينوا لهم الباطل حقًا والإيمان كفرًا والمعصية ألذ طاعة وذكرًا.

النقد بأدبياته الشرعية والمنطقية عند أولى الألباب ليس قدحًا، والاستفسار بقيمه العلمية ليس ذمًا، وقديمًا وقف سلمان الفارسي رضي الله عنه أمام الفاروق في أمر لباس وقال: لا سمع ولا طاعة، فما بالنا في دولة تباع أو كيان يجمد أو تاريخ يحطم وقيم تباد.

الفراعنة الصغار كثير منهم موجودون في السياسة والإعلام والدين، ينشأ صغيرًا ثم ينمو ويكبر في الزريبة الكبيرة، الأول يبدأ ناشطًا سياسيًا وينتهي منافقًا عليمًا، يعرف متى يتكلم ومتى يسكت، راقص على كل الحبال والمصالح، عبد لمن بيده الكعكة أو التورتة، والثاني متلون بلون الحرباء اليوم اللون أصفر وغدًا أحمر وبعد غد أسود، والأخير أسوأهم وأرداهم، الأصل أن مقامه مقام الأنبياء إذ به وقد ناصر السفهاء، وخلط الأوراق، وتلاعب بالنصوص،"واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون" صدق من قال فيهم: عمم على رمم.

النموذج الأمثل والأسوة الحسنة في التفريق بين الشخص والقيمة، والفرد والمؤسسة، والسلوك والحقيقة، هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يقتد من نفسه لمجرد الإحساس بالخطأ، يطلب منه سواد رضي الله عنه القصاص لأنه أوجعه في بطنه، فيكشف له بطنه ويقول: استقد يا سواد، وقبل موته يخطب وينادي ويقول: من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليقتد منه، ومن كنت أخذت منه مالًا فهذا مالي فليأخذ منه.

إنه الفصل التام بين النبوة كوحي وبين سلوك الإنسان الذي قد يعتريه شيء من النسيان أو السهو أو عدم تقدير الصواب نظرًا لقلة الخبرة في المجال، أو الحرص على من هم في ظنه أقرب إلى القبول بالامتثال، نفسه صلى الله عليه وسلم تشبعت بالوحي جلالًا وتعظيمًا فخاطب أبا ذر رضي الله عنه وقال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية" لما وقع في أخيه.

لا مجاملة على حساب القيمة للأشخاص وإن سبقوا، ولا محسوبية لقادة وإن تقدموا وضحوا، أفضل منهم رأيناه وقد ربط على بطنه الحجر والحجرين، وخرج إلى الطل بعد جلبة وقال لن تراعوا، ووقف في مقدمة الصفوف وهتف أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، تعلم منه الصديق والفاروق، فانتصروا في ميدان المعارك لما هذبوا وانتصروا في ميدان النفوس.

الفراعنة الصغار محل الدهس في الغالب من الفراعنة الكبار، يعلمون حيلهم ونفاقهم وتزلفهم لهم، يضربونهم بأفحش الألفاظ ويكسرون أنفهم ببعض الملذات والمتاع، ويمرغون وجوههم في أنتن البرك والمستنقعات، إنها الدورات التدريبية لهم حتى يصيروا كبارا في الفرعنة على حق، ويكونوا أهلًا لميراث الغل والحقد، هكذا تنبت شجرة الفرعنة تبدو صغيرة في البداية ثم تنمو شجرة خبيثة في النهاية.
‏٢١‏/٠٩‏/٢٠١٩ ١١:٣٧ م‏
ذكرى حريق الأقصى .. الأحداث والواجبات
د. وصفي عاوشور أبو زيد

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏١٩‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٩:٢٧ م‏
مصير المعتقلين بين اليائسين والحالمين د. عطية عدلان ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.. هل يمكن للأحرار الثوار أن يفرطوا في إخوانهم المعتقلين؟ أو يسلموهم لمصير كمصير من سبقوهم؛ فيمكثوا في السجون عقودًا؟ سؤال حرج يتردد صداه في أوساط المعارضين بالخارج، ويتفاوت رد الفعل تجاهه بحسب درجة البعد عن القضية والتغاضي عنها، والواقع أن الجميع - لأسباب مختلفة - ابتعدوا وتغاضوا وغضوا الطرف كذلك، وجميع ما يراه المتابعون في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو أن يكون (فضفضة)، لكن درجة هذا البعد تتفاوت فيتفاوت معها رد الفعل تجاه قضية المعتقلين، التي تحولت إلى مطالب صريحة من الكثيرين منهم. ودعونا نحسن الظن ببعض القيادات التي صرحت بأنه لم يجبر أحد من القيادات واحدًا من الأفراد المعتقلين على المضي في هذا الطريق، ونحاول أن نحمله على معنى: أن شباب الإخوان اختاروا هذا الطريق لأنفسهم؛ ومن ثم فهم أهل لتحمل تبعاته؛ لكن حتى مع هذا التأويل - الذي يراه البعض بعيدًا - هو خطاب استهلاكي ينم عن إفلاس مخيف، فهو يطالب من يصرخ قائلاً: (لم أعد أتحمل) بأن يتحمل! وليس لهذا الخطاب مثيل في الهزال والهزل معًا. ولكي لا يكون الكلام مجرد وصف للحال التي هي معلومة للجميع بالضرورة، أحب أن أعرض الخيارات التي أرى أن الحلول تنحصر فيها، وهي مجرد اجتهادات ليس إلا. الخيار (الذي عليه الناس عندنا!) هو (الصمود!) مع الالتزام بالسلمية والبراءة من (العنف!) والحفاظ على (مؤسسات الدولة!) حتى يأتي الفرج، إما بأسباب داخلية أو خارجية أو حتى كونية؛ إذ إنها مدلهمة ليس لها من دون الله كاشفة، ونحن بذلك على الطريق إلى إحدى الحسنيين، ولا للتنازل! ولا للتصالح مع السيسي تحديدًا ذلك المنقلب الصهيوني العميل (وكأن باقي رموز النظام مغلوب على أمرهم أبرياء من العمالة والنذالة!!)، وأنظار هؤلاء تمتد بالرجاء إلى (شرفاء الجيش!) وإلى مؤسسات النظام الدولي، وإن كانت مع ذلك تتجه بالدعاء إلى الله تعالى. الخيار الثاني: وهو خيار فريق من الشباب الذين طغت عليهم مشاعر التعاطف مع المعتقلين فقصروا أنظارهم على أقفال الزنازين، دون النظر إلى مفاتيح هذه الأقفال ولا إلى من يحملها ومن يضع لها شفرتها؛ فراحوا يصرخون بصدق ممزوج بالسذاجة: اخرجوا المعتقلين مهما كان الثمن، افعلوا اي شيء تنازلوا عن كل شيء!! وليتهم يدرون أن هؤلاء الذين يصيحون فيهم ليس بأيديهم ما يتنازلون عنه ولا في قدرتهم فعل شيء؛ إن التنازل يكون عن مملوك مقدور عليه لا عن مفترض أو متخيل، وأنه لا يتنازل إلا من يقدر أن يقول لن أتنازل. هذا من جانب، ومن جانب آخر توجد معضلة أساسية علمت بالتجربة التي يدركها الكافة وهي طريقة إخراج هؤلاء المعتقلين؛ فالظن الغالب أن النظام بعد أن يبالغ في إذلالك وفي محو كل ما تبقى من انتمائك لفكرتك؛ سوف يخرج من ليس لهم علاقة بالقضية إلا كعلاقة المار بجوار معركة فأصابه سهم غرب، وذلك بعد إعلانه توبة لو أعلنها لرب العالمين لأدخلته جنة الفردوس بغير حساب ولا سابقة عذاب، أما أصحاب الفكر وقادة العمل وخلاصة شباب الأمة فلن يخرجوا إلا بعد عمل مراجعات عامة، تذبح من خلالها الجماعة جميع ما قامت عليه منذ نشأتها من الوريد إلى الوريد. وعندئذ يكون إعلانها حل الجماعة أولى وأبقى. الخيار الثالث: وهو الذي يتبناه المغضوب عليهم المستثنون من كل عمل ولو كانوا من أهل الاختصاص، والمترفعون عن كل ما يمارس من خلاله صناعة الأفكار الخادعة. هؤلاء (الشرذمة القليلون!) المبعدون يرون الآتي: أولًا: لا يمكن فصل ملف المعتقلين عن باقي الملفات، والتي منها حرية الشعب الذي قام بثورة فضيعها من ضيعها، فهذا الفصل لا وجود له إلا في الخيال الحالم. ثانيًا: لا يمكن إخراج المعتقلين ولا حتى تخفيف الضغط عنهم إلا بالتفاوض الحقيقي الجاد، والتفاوض هذا لا يكون بين (مائة بالمائة) و(صفر بالمائة)، ولا يكون إلا بين أطراف تملك بأيديها أدوات ضغط وهذا كله لا يكون إلا بحراك خارج الصندوق، حراك يوجع النظام ويهدد استقراره، ويهدد كذلك مصالح من يملكون توجيهه. إنهم (أعني هؤلاء المنبوذين المبعدين) يقولون لابد من توحد القيادات أولًا، ثم وضع رؤية جديدة تبنى على فكر مستمد من ثقافة أمتنا ومن التجارب الإنسانية للثورات عبر التاريخ، ثم تنطلق لتجيش طاقات الأمة في اتجاه التغيير المنشود، عندها سوف يتحرك النظام لطلب الجلوس والتفاوض؛ وساعتها يأتي النقاش عن المعتقلين، ويكون تداول الرأي بين اتجاهين: نكمل أم نكتفي مرحليًا بهذا؟ ويكون لكل حدث حديث. ويواصل المنبوذون المبعدون طرحهم قائلين: إن طاقات الأمة ليست قليلة ولا ضئيلة، ولكنها مبعثرة، وإن (القادة!) هم من بيدهم جمع الكلمة ولم الشمل؛ فإن فعلوا فقد اقتربت النهاية ودنت الغاية وتحقق النصر وشيكًا. ويزعمون أن هناك بديل لهذا الطريق، ولكنه بعيد المدى بطيء الخطى، وإن كان أكيد الجنى. وهو أن ينبري لهذه الرؤية المخلصون ويدعوا الكبار يتخبطون، فهل أنت مثلي تجنح إلى رؤية هؤلاء المنبوذين المبعدين وتميل إليها؟
مصير المعتقلين بين اليائسين والحالمين
د. عطية عدلان

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..

هل يمكن للأحرار الثوار أن يفرطوا في إخوانهم المعتقلين؟ أو يسلموهم لمصير كمصير من سبقوهم؛ فيمكثوا في السجون عقودًا؟ سؤال حرج يتردد صداه في أوساط المعارضين بالخارج، ويتفاوت رد الفعل تجاهه بحسب درجة البعد عن القضية والتغاضي عنها، والواقع أن الجميع - لأسباب مختلفة - ابتعدوا وتغاضوا وغضوا الطرف كذلك، وجميع ما يراه المتابعون في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو أن يكون (فضفضة)، لكن درجة هذا البعد تتفاوت فيتفاوت معها رد الفعل تجاه قضية المعتقلين، التي تحولت إلى مطالب صريحة من الكثيرين منهم.

ودعونا نحسن الظن ببعض القيادات التي صرحت بأنه لم يجبر أحد من القيادات واحدًا من الأفراد المعتقلين على المضي في هذا الطريق، ونحاول أن نحمله على معنى: أن شباب الإخوان اختاروا هذا الطريق لأنفسهم؛ ومن ثم فهم أهل لتحمل تبعاته؛ لكن حتى مع هذا التأويل - الذي يراه البعض بعيدًا - هو خطاب استهلاكي ينم عن إفلاس مخيف، فهو يطالب من يصرخ قائلاً: (لم أعد أتحمل) بأن يتحمل! وليس لهذا الخطاب مثيل في الهزال والهزل معًا.

ولكي لا يكون الكلام مجرد وصف للحال التي هي معلومة للجميع بالضرورة، أحب أن أعرض الخيارات التي أرى أن الحلول تنحصر فيها، وهي مجرد اجتهادات ليس إلا.

الخيار (الذي عليه الناس عندنا!) هو (الصمود!) مع الالتزام بالسلمية والبراءة من (العنف!) والحفاظ على (مؤسسات الدولة!) حتى يأتي الفرج، إما بأسباب داخلية أو خارجية أو حتى كونية؛ إذ إنها مدلهمة ليس لها من دون الله كاشفة، ونحن بذلك على الطريق إلى إحدى الحسنيين، ولا للتنازل! ولا للتصالح مع السيسي تحديدًا ذلك المنقلب الصهيوني العميل (وكأن باقي رموز النظام مغلوب على أمرهم أبرياء من العمالة والنذالة!!)، وأنظار هؤلاء تمتد بالرجاء إلى (شرفاء الجيش!) وإلى مؤسسات النظام الدولي، وإن كانت مع ذلك تتجه بالدعاء إلى الله تعالى.


الخيار الثاني: وهو خيار فريق من الشباب الذين طغت عليهم مشاعر التعاطف مع المعتقلين فقصروا أنظارهم على أقفال الزنازين، دون النظر إلى مفاتيح هذه الأقفال ولا إلى من يحملها ومن يضع لها شفرتها؛ فراحوا يصرخون بصدق ممزوج بالسذاجة: اخرجوا المعتقلين مهما كان الثمن، افعلوا اي شيء تنازلوا عن كل شيء!! وليتهم يدرون أن هؤلاء الذين يصيحون فيهم ليس بأيديهم ما يتنازلون عنه ولا في قدرتهم فعل شيء؛ إن التنازل يكون عن مملوك مقدور عليه لا عن مفترض أو متخيل، وأنه لا يتنازل إلا من يقدر أن يقول لن أتنازل.

هذا من جانب، ومن جانب آخر توجد معضلة أساسية علمت بالتجربة التي يدركها الكافة وهي طريقة إخراج هؤلاء المعتقلين؛ فالظن الغالب أن النظام بعد أن يبالغ في إذلالك وفي محو كل ما تبقى من انتمائك لفكرتك؛ سوف يخرج من ليس لهم علاقة بالقضية إلا كعلاقة المار بجوار معركة فأصابه سهم غرب، وذلك بعد إعلانه توبة لو أعلنها لرب العالمين لأدخلته جنة الفردوس بغير حساب ولا سابقة عذاب، أما أصحاب الفكر وقادة العمل وخلاصة شباب الأمة فلن يخرجوا إلا بعد عمل مراجعات عامة، تذبح من خلالها الجماعة جميع ما قامت عليه منذ نشأتها من الوريد إلى الوريد. وعندئذ يكون إعلانها حل الجماعة أولى وأبقى.
الخيار الثالث: وهو الذي يتبناه المغضوب عليهم المستثنون من كل عمل ولو كانوا من أهل الاختصاص، والمترفعون عن كل ما يمارس من خلاله صناعة الأفكار الخادعة.

هؤلاء (الشرذمة القليلون!) المبعدون يرون الآتي:

أولًا: لا يمكن فصل ملف المعتقلين عن باقي الملفات، والتي منها حرية الشعب الذي قام بثورة فضيعها من ضيعها، فهذا الفصل لا وجود له إلا في الخيال الحالم.

ثانيًا: لا يمكن إخراج المعتقلين ولا حتى تخفيف الضغط عنهم إلا بالتفاوض الحقيقي الجاد، والتفاوض هذا لا يكون بين (مائة بالمائة) و(صفر بالمائة)، ولا يكون إلا بين أطراف تملك بأيديها أدوات ضغط وهذا كله لا يكون إلا بحراك خارج الصندوق، حراك يوجع النظام ويهدد استقراره، ويهدد كذلك مصالح من يملكون توجيهه.

إنهم (أعني هؤلاء المنبوذين المبعدين) يقولون لابد من توحد القيادات أولًا، ثم وضع رؤية جديدة تبنى على فكر مستمد من ثقافة أمتنا ومن التجارب الإنسانية للثورات عبر التاريخ، ثم تنطلق لتجيش طاقات الأمة في اتجاه التغيير المنشود، عندها سوف يتحرك النظام لطلب الجلوس والتفاوض؛ وساعتها يأتي النقاش عن المعتقلين، ويكون تداول الرأي بين اتجاهين: نكمل أم نكتفي مرحليًا بهذا؟ ويكون لكل حدث حديث.

ويواصل المنبوذون المبعدون طرحهم قائلين:

إن طاقات الأمة ليست قليلة ولا ضئيلة، ولكنها مبعثرة، وإن (القادة!) هم من بيدهم جمع الكلمة ولم الشمل؛ فإن فعلوا فقد اقتربت النهاية ودنت الغاية وتحقق النصر وشيكًا.

ويزعمون أن هناك بديل لهذا الطريق، ولكنه بعيد المدى بطيء الخطى، وإن كان أكيد الجنى. وهو أن ينبري لهذه الرؤية المخلصون ويدعوا الكبار يتخبطون، فهل أنت مثلي تجنح إلى رؤية هؤلاء المنبوذين المبعدين وتميل إليها؟
‏١٧‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٩:٤٥ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (18) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk وهنا يجب أن أقول للحق وللأمانة التاريخية، أن هؤلاء الشباب الذين أسسوا فيما بعد "الجماعة الإسلامية المصرية" لم يكونوا حتى ذلك الوقت معرضين ولا مستنكفين تماما أن ينضموا للإخوان المسلمين، فمنهم كثير كانوا يحملون هذا الاستعداد، وأنا من بين هؤلاء، لم يكن لدي أي مانع أن أنضوي تحت لواء الإخوان المسلمين، وكنت أرى أن خلافنا مع الإخوان إنما هو خلاف في قضايا بسيطة، وأنهم هم الجماعة الأكبر والأقدم والأعرق، وأنهم أكثر خبرة، وأنهم علماء ونحن شباب، ويحسن بنا أن نتبعهم. ومع هذا فقد كنت أسير مع المجموع، مجموع الشباب الذين أسسوا العمل الإسلامي في الجامعة، وأرى أن وجودي بينهم هو التزام أخلاقي لا يليق خرقه، لم أفعل مثلما فعل محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي إذ تركوا هذا المجموع المؤسس وانضموا للإخوان المسلمين، كان الانضمام للإخوان ميل عندي وهوى في نفسي. وبهذا يتبين لك أن هذا الطيف من الشباب لم يكن له موقف واحد من الإخوان، منهم من ترك هذا الجمع الشبابي وانضم للإخوان، ومنهم من كان هذا هواه في نفسه لكنه لم يفعل، ومنهم من لم يكن لينضم للإخوان أبدا، ومن هذا القسم الأخير كان أسامة حافظ. وقد ذكرت آنفا أن أسامة كان متأثرا بصديقه عبد المتعال، المعيد في كلية الهندسة، والذي كان يحمل موقفا غاية في السلبية تجاه الإخوان، إذ كان قد سُجِن معهم سابقا ولعله كان منهم فوقع بينهم في السجن ما أحدث بينهما نفورا كبيرا، وكان عبد المتعال هذا صديقا مقربا من أسامة حافظ، وعنه أخذ أسامة هذا الموقف من الإخوان، وكان عبد المتعال أسنَّ منا، وكان ذا شهرة على مستوى أسيوط. وقد تضافر مع تأثير عبد المتعال تأثير آخر، وهو تأثير الشيخ السويفي، وكان شيخا كبيرا في السن وفي العلم معا، وكان مشهورا في وقته كذلك إذ هو أحد الدعاة المعروفين في أسيوط، وكان مسجونا قديما مع الإخوان واختلف معهم داخل السجن فخرج مغاضبا لهم ونافرا منهم وله عليهم مؤاخذات شرعية أيضا، وقصته في الخلاف مع الإخوان قصة مؤلمة ورواها لي بنفسه، نسأل الله أن يرحمنا وإياه ويغفر لنا له ويجمعنا به في الجنة، لقد كان شديد النقد لكل التيارات الإسلامية الموجودة على الساحة ولا يكاد يسلم من لسانه أحد. فمن هاهنا بُنِي موقف أسامة حافظ السلبي من الإخوان، ولأنه الشيخ أسامة حافظ شخصية محورية وزعامة بين شباب الجامعة فقد استطاع أن يقلب موقف مجموع الشباب ضد الإخوان، وبغض النظر عن حادثة أسامة السيد في ذاتها، أو لنقل: إن حادثة أسامة السيد كانت هي التي فجرت المخزون الرابض في النفوس. كان الأمر أشبه بالحاجز النفسي لكنه ليس حاجزا من الهوى بل هو حاجز مبني أو ملتبس بالمؤاخذات الشرعية على الإخوان. أتصور لو كانت جماعة الإخوان أكثر حصافة في هذه المرحلة لكانت قد تمكنت من احتوائنا، الواقع أيضا أنهم أخفقوا في هذا، إن أحد أهم عناصر فشل جماعة الإخوان في هذه المرحلة أنهم فشلوا في احتواء شباب الجامعات المصرية، كان لديهم اتفاق مع النظام في هذه المرحلة أن يعملوا على تهدئة الطلاب وأن يكبحوا اندفاعتهم في وجه السادات والنظام، ولذلك فقد عملوا على هذا إلا أنهم نفذوه بطريقة استفزازية وغير احترافية، فبدلا من أن يستوعب الحالة صار يصادمها، كذلك فإن أمن الدولة في تلك المرحلة وحتى السياسيين بمن فيهم السادات لم يكونوا يدركون نفسية أبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة، أو المخلصين منهم على وجه الخصوص، وفي تقديري أن المخلصين هم الذين يسهل احتواؤهم شرط ألا تصادمهم، فلو استمر السادات أكثر في مسرحية "العلم والإيمان" التي ابتدأها، واهتم بإتقان أدائها، لكان قد وجد له كثيرا من الشباب يحبونه ويدافعون عنه، ويقفون وراءه، ذلك أن الشباب يحتاج الإسلام.. يحتاج الدين، فهذا الشباب يرى زعيما يتكلم عن الدين والإسلام، لكن ينقصه أن يعمل كذا أو يعمل كذا.. لو أن السادات زاد في تمثيل هذا الدور لكان بإمكانه أن يحتوي هذه الطاقة الشبابية. لكن اللغة الصدامية لا تصلح مع الشباب، فإذا أردت احتواء شاب لا يمكن أن يكون بداية هذا أن تصادمه، بل أن تعطيه قدره، وتثني عليه، فيكون هذا أول سبيل احتوائه. أعود إلى خطبة تنحي أسامة السيد، تلك التي أدركتها من يوم المعسكر، وقد ذكرت أنها كانت عاطفية مؤثرة، وكان يلوم ويعاتب، ويقول بأن عزله هذا غير شرعي وغير صحيح، وأنه لم يزل الأمير الشرعي للجماعة الإسلامية في الجامعة، وهذا العزل وهذه الانتخابات كلها خطأ، وقال: وأنا أشكوكم إلى الله عز وجل، وسنلتقي بين يديه يوم القيامة... إلى آخر هذا الكلام. ذهبت إليه زائرا في بيته، وسألته: ما الذي حصل يا شيخ أسامة؟ فشرع يقصّ علي قصة الخلافة من وجهة نظره، وأن المسألة قديمة في أصلها وليست حقيقتها ما يقال من أنه يعود إلى قيادة الإخوان، وأن شباب الجماعة الإسلامية لم يكونوا يرونه مؤهلا أصلا ليكون أميرهم منذ اليوم الأول، وأنه وباعتباره الأمير الذي أوكل إليه الأمر له الحق في تقدير ما الذي ينبغي أن يعود فيه للإخوان الكبار، وأن الخلاف معه على هذا ثم عزله بناء على ذلك أمر غير شرعي ولا يجوز. قلت له: أنت تعرف يا أخ أسامة أن الإخوة الشباب الإسلامي في الجامعة ليسوا كلهم من الإخوان المسلمين، ومن ثم كان المفترض أن تتعامل مع الناس وفق هذا الاعتبار، فتفرق بين الذين لا ينتمون للإخوان والذين ينتمون إليهم، فإذا أردت أن تدخلني إلى الإخوان فاعرض عليّ الأمر بشكل طبيعي عادي: تعرفني بالإخوان وتعرض علي أن أعمل معهم جنديا بينهم، فإما أن أقبل وإما أن أرفض، فإذا قبلنا صرنا جميعا في الإخوان وإلا بقينا خارج الجماعة وروعي هذا في التعامل، لا أن يكون السبيل هو إدخالنا بنوع من المراوغة والخديعة ضمن الإخوان، وجعلنا تابعين لهم سواء رضينا عن هذا أو لم نرض! على كل حال تركت المقابلة عندي انطباعا حسنا عن شخصه، وأشفقت عليه مما رأيت من حزنه وغضبه، وقلت له: سواء أكنت أمير الجماعة أو لم تكن فنحن وإياك ننصر الحق والدين والإسلام، وجماعة الإخوان جماعة مقدرة لها اعتبارها، وأنت أخونا وإن كنا أكبر منك سنا، ولك أن تطلب منا ما تشاء ونحن تحت أمرك، وأنا شخصيًّا سأتواصل معك كثيرا، ولا تؤاخذ إخوانك وسامحهم، فإنهم إذا أخطؤوا فإنما ذلك عن اجتهاد، فلنتسامح ولنتغافر.. وظللت أقول كلاما من هذا القبيل. كانت زيارتي هذه وكلامي له أمر صدق ليس من قبيل المجاملة أو المداهنة أو حتى المراوغة السياسية، أبدا، إنما يلازمني في هذا الجانب الأخلاقي والإنساني في مثل هذه الأمور، فلقد بكيت لدى سماعي خطبته وتأثرت حقا، ثم كنت في زيارته هذه متأثرا به حقا وشفوقا عليه ومحبا له. هذا وأنا في نفس الوقت من أنصار الشيخ أسامة حافظ، ومن أشد المؤيدين لموقف عزل أسامة السيد، ومن المقتنعين تماما بأن العمل الإسلامي في الجامعة يجب أن يدار من داخلها لا من خارجها، وأن الجامعة يجب أن تكون مستقلة، وكان أول من رفع شعار "الجامعة تدار من داخلها" هو أسامة حافظ. نستطيع أن نؤرخ بهذا المعسكر الذي عزل فيه أسامة السيد لحالة الانشقاق والانفصال بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، هنا ظهر بوضوح أن ثمة كيانيْن إسلامييْن من الشباب في الجامعة، والفارق بينهما واضح. لم يُسَلِّم الإخوان بأمر عزل أسامة السيد وتنصيب ناجح إبراهيم أميرا، فاستمر أسامة السيد أميرا للشباب الإسلامي التابع للإخوان المسلمين بجامعة أسيوط، وصار ناجح إبراهيم أميرا لشباب الجماعة الإسلامية في أسيوط، غير أننا (شباب الجماعة الإسلامية) كنا الأكثر عددا وانتشارا وتأثيرا، فلم يكن الانشقاق معبرا عن نصفين أو فريقين متكافئين، بل لم تزل الجماعة الإسلامية هي صاحبة الصوت الإسلامي في الجامعة، والأمير هو ناجح إبراهيم قولا واحدا، لكن الذي صار معروفا أن شباب الجماعة الإسلامية شيء وشباب الإخوان شيء آخر، لا هؤلاء يتبعون لأولئك ولا أولئك يتبعون لهؤلاء. مثلا، لم يكن للإخوان من أمراء الكليات إلا أسامة السيد أمير كلية الطب، وأحمد كمال أمير كلية العلوم والبقية معنا، اثنان فقط في كل جامعة أسيوط! ولذلك منعناهم من الحديث أو إصدار بيانات باسم الجماعة الإسلامية، إذ كانت هذه البيانات تعبر عنا نحن. وهذا التمايز لم يكن أيضا يعبر عن كيانيْن لكل منهما فكر مخالف للآخر، فلم نكن نحن في الجماعة الإسلامية نحمل فكرا مناقضا للإخوان، إنما هو تمايز يعرف به أن "الجماعة الإسلامية" ليسوا من الإخوان المسلمين. حاولت فيما بعد القيام بخطوة توفق وتقرب بين الجانبين، واقترح أسامة حافظ أن نقسم معسكرا عاما نجمع فيه كل إخوة الجامعة من كان منهم من الإخوان أو من كان منهم خارج الإخوان، كأنه معسكر تصالحي، ثم اختاروني لمسؤولية هذا المعسكر على اعتباري الشخصية التصالحية التي تربط بين الضفتين! حضر الشباب من الكيانين: الإخوان والجماعة الإسلامية، وكان المعسكر سبع مجموعات، وحضره أسامة السيد ومعه أخ آخر اسمه أحمد زياد، وتولى كلا منهما مسؤولية مجموعة، وكان مجلس شورى المعسكر يتكون من أمراء المجموعات السبعة، وبهذا كان أسامة السيد وأحمد زياد ضمن هذا المجلس، وذكرت لهم في اجتماع مجلس الشورى أنه يجب أن نعمل في الجامعة كيد واحدة، وألا تفرق بيننا الانتماءات، هذا إخوان وهذا جماعة إسلامية، واخترنا موضوعات المعسكر للتأليف بين الكيانيْن: الإخوان والجماعة الإسلامية، كما اخترناها بحيث نبتعد تماما عن ذكر الخلاف أو ذكر الجماعتين لا بخير ولا بشر، فنقتصر على الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وخططنا ليأتي نصف الدعاة الذين سيحاضرون في المعسكر من الإخوان ونصفهم الآخر من خارج الإخوان. لكن ومع ذلك فقد وقع المحظور.. وهذا ما نتناوله إن شاء الله في الحلقة القادمة.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (18)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

وهنا يجب أن أقول للحق وللأمانة التاريخية، أن هؤلاء الشباب الذين أسسوا فيما بعد "الجماعة الإسلامية المصرية" لم يكونوا حتى ذلك الوقت معرضين ولا مستنكفين تماما أن ينضموا للإخوان المسلمين، فمنهم كثير كانوا يحملون هذا الاستعداد، وأنا من بين هؤلاء، لم يكن لدي أي مانع أن أنضوي تحت لواء الإخوان المسلمين، وكنت أرى أن خلافنا مع الإخوان إنما هو خلاف في قضايا بسيطة، وأنهم هم الجماعة الأكبر والأقدم والأعرق، وأنهم أكثر خبرة، وأنهم علماء ونحن شباب، ويحسن بنا أن نتبعهم. ومع هذا فقد كنت أسير مع المجموع، مجموع الشباب الذين أسسوا العمل الإسلامي في الجامعة، وأرى أن وجودي بينهم هو التزام أخلاقي لا يليق خرقه، لم أفعل مثلما فعل محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي إذ تركوا هذا المجموع المؤسس وانضموا للإخوان المسلمين، كان الانضمام للإخوان ميل عندي وهوى في نفسي.

وبهذا يتبين لك أن هذا الطيف من الشباب لم يكن له موقف واحد من الإخوان، منهم من ترك هذا الجمع الشبابي وانضم للإخوان، ومنهم من كان هذا هواه في نفسه لكنه لم يفعل، ومنهم من لم يكن لينضم للإخوان أبدا، ومن هذا القسم الأخير كان أسامة حافظ.

وقد ذكرت آنفا أن أسامة كان متأثرا بصديقه عبد المتعال، المعيد في كلية الهندسة، والذي كان يحمل موقفا غاية في السلبية تجاه الإخوان، إذ كان قد سُجِن معهم سابقا ولعله كان منهم فوقع بينهم في السجن ما أحدث بينهما نفورا كبيرا، وكان عبد المتعال هذا صديقا مقربا من أسامة حافظ، وعنه أخذ أسامة هذا الموقف من الإخوان، وكان عبد المتعال أسنَّ منا، وكان ذا شهرة على مستوى أسيوط.

وقد تضافر مع تأثير عبد المتعال تأثير آخر، وهو تأثير الشيخ السويفي، وكان شيخا كبيرا في السن وفي العلم معا، وكان مشهورا في وقته كذلك إذ هو أحد الدعاة المعروفين في أسيوط، وكان مسجونا قديما مع الإخوان واختلف معهم داخل السجن فخرج مغاضبا لهم ونافرا منهم وله عليهم مؤاخذات شرعية أيضا، وقصته في الخلاف مع الإخوان قصة مؤلمة ورواها لي بنفسه، نسأل الله أن يرحمنا وإياه ويغفر لنا له ويجمعنا به في الجنة، لقد كان شديد النقد لكل التيارات الإسلامية الموجودة على الساحة ولا يكاد يسلم من لسانه أحد.

فمن هاهنا بُنِي موقف أسامة حافظ السلبي من الإخوان، ولأنه الشيخ أسامة حافظ شخصية محورية وزعامة بين شباب الجامعة فقد استطاع أن يقلب موقف مجموع الشباب ضد الإخوان، وبغض النظر عن حادثة أسامة السيد في ذاتها، أو لنقل: إن حادثة أسامة السيد كانت هي التي فجرت المخزون الرابض في النفوس. كان الأمر أشبه بالحاجز النفسي لكنه ليس حاجزا من الهوى بل هو حاجز مبني أو ملتبس بالمؤاخذات الشرعية على الإخوان.

أتصور لو كانت جماعة الإخوان أكثر حصافة في هذه المرحلة لكانت قد تمكنت من احتوائنا، الواقع أيضا أنهم أخفقوا في هذا، إن أحد أهم عناصر فشل جماعة الإخوان في هذه المرحلة أنهم فشلوا في احتواء شباب الجامعات المصرية، كان لديهم اتفاق مع النظام في هذه المرحلة أن يعملوا على تهدئة الطلاب وأن يكبحوا اندفاعتهم في وجه السادات والنظام، ولذلك فقد عملوا على هذا إلا أنهم نفذوه بطريقة استفزازية وغير احترافية، فبدلا من أن يستوعب الحالة صار يصادمها، كذلك فإن أمن الدولة في تلك المرحلة وحتى السياسيين بمن فيهم السادات لم يكونوا يدركون نفسية أبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة، أو المخلصين منهم على وجه الخصوص، وفي تقديري أن المخلصين هم الذين يسهل احتواؤهم شرط ألا تصادمهم، فلو استمر السادات أكثر في مسرحية "العلم والإيمان" التي ابتدأها، واهتم بإتقان أدائها، لكان قد وجد له كثيرا من الشباب يحبونه ويدافعون عنه، ويقفون وراءه، ذلك أن الشباب يحتاج الإسلام.. يحتاج الدين، فهذا الشباب يرى زعيما يتكلم عن الدين والإسلام، لكن ينقصه أن يعمل كذا أو يعمل كذا.. لو أن السادات زاد في تمثيل هذا الدور لكان بإمكانه أن يحتوي هذه الطاقة الشبابية.

لكن اللغة الصدامية لا تصلح مع الشباب، فإذا أردت احتواء شاب لا يمكن أن يكون بداية هذا أن تصادمه، بل أن تعطيه قدره، وتثني عليه، فيكون هذا أول سبيل احتوائه.

أعود إلى خطبة تنحي أسامة السيد، تلك التي أدركتها من يوم المعسكر، وقد ذكرت أنها كانت عاطفية مؤثرة، وكان يلوم ويعاتب، ويقول بأن عزله هذا غير شرعي وغير صحيح، وأنه لم يزل الأمير الشرعي للجماعة الإسلامية في الجامعة، وهذا العزل وهذه الانتخابات كلها خطأ، وقال: وأنا أشكوكم إلى الله عز وجل، وسنلتقي بين يديه يوم القيامة... إلى آخر هذا الكلام.

ذهبت إليه زائرا في بيته، وسألته: ما الذي حصل يا شيخ أسامة؟

فشرع يقصّ علي قصة الخلافة من وجهة نظره، وأن المسألة قديمة في أصلها وليست حقيقتها ما يقال من أنه يعود إلى قيادة الإخوان، وأن شباب الجماعة الإسلامية لم يكونوا يرونه مؤهلا أصلا ليكون أميرهم منذ اليوم الأول، وأنه وباعتباره الأمير الذي أوكل إليه الأمر له الحق في تقدير ما الذي ينبغي أن يعود فيه للإخوان الكبار، وأن الخلاف معه على هذا ثم عزله بناء على ذلك أمر غير شرعي ولا يجوز.

قلت له: أنت تعرف يا أخ أسامة أن الإخوة الشباب الإسلامي في الجامعة ليسوا كلهم من الإخوان المسلمين، ومن ثم كان المفترض أن تتعامل مع الناس وفق هذا الاعتبار، فتفرق بين الذين لا ينتمون للإخوان والذين ينتمون إليهم، فإذا أردت أن تدخلني إلى الإخوان فاعرض عليّ الأمر بشكل طبيعي عادي: تعرفني بالإخوان وتعرض علي أن أعمل معهم جنديا بينهم، فإما أن أقبل وإما أن أرفض، فإذا قبلنا صرنا جميعا في الإخوان وإلا بقينا خارج الجماعة وروعي هذا في التعامل، لا أن يكون السبيل هو إدخالنا بنوع من المراوغة والخديعة ضمن الإخوان، وجعلنا تابعين لهم سواء رضينا عن هذا أو لم نرض!

على كل حال تركت المقابلة عندي انطباعا حسنا عن شخصه، وأشفقت عليه مما رأيت من حزنه وغضبه، وقلت له: سواء أكنت أمير الجماعة أو لم تكن فنحن وإياك ننصر الحق والدين والإسلام، وجماعة الإخوان جماعة مقدرة لها اعتبارها، وأنت أخونا وإن كنا أكبر منك سنا، ولك أن تطلب منا ما تشاء ونحن تحت أمرك، وأنا شخصيًّا سأتواصل معك كثيرا، ولا تؤاخذ إخوانك وسامحهم، فإنهم إذا أخطؤوا فإنما ذلك عن اجتهاد، فلنتسامح ولنتغافر.. وظللت أقول كلاما من هذا القبيل.

كانت زيارتي هذه وكلامي له أمر صدق ليس من قبيل المجاملة أو المداهنة أو حتى المراوغة السياسية، أبدا، إنما يلازمني في هذا الجانب الأخلاقي والإنساني في مثل هذه الأمور، فلقد بكيت لدى سماعي خطبته وتأثرت حقا، ثم كنت في زيارته هذه متأثرا به حقا وشفوقا عليه ومحبا له. هذا وأنا في نفس الوقت من أنصار الشيخ أسامة حافظ، ومن أشد المؤيدين لموقف عزل أسامة السيد، ومن المقتنعين تماما بأن العمل الإسلامي في الجامعة يجب أن يدار من داخلها لا من خارجها، وأن الجامعة يجب أن تكون مستقلة، وكان أول من رفع شعار "الجامعة تدار من داخلها" هو أسامة حافظ.

نستطيع أن نؤرخ بهذا المعسكر الذي عزل فيه أسامة السيد لحالة الانشقاق والانفصال بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، هنا ظهر بوضوح أن ثمة كيانيْن إسلامييْن من الشباب في الجامعة، والفارق بينهما واضح.

لم يُسَلِّم الإخوان بأمر عزل أسامة السيد وتنصيب ناجح إبراهيم أميرا، فاستمر أسامة السيد أميرا للشباب الإسلامي التابع للإخوان المسلمين بجامعة أسيوط، وصار ناجح إبراهيم أميرا لشباب الجماعة الإسلامية في أسيوط، غير أننا (شباب الجماعة الإسلامية) كنا الأكثر عددا وانتشارا وتأثيرا، فلم يكن الانشقاق معبرا عن نصفين أو فريقين متكافئين، بل لم تزل الجماعة الإسلامية هي صاحبة الصوت الإسلامي في الجامعة، والأمير هو ناجح إبراهيم قولا واحدا، لكن الذي صار معروفا أن شباب الجماعة الإسلامية شيء وشباب الإخوان شيء آخر، لا هؤلاء يتبعون لأولئك ولا أولئك يتبعون لهؤلاء.

مثلا، لم يكن للإخوان من أمراء الكليات إلا أسامة السيد أمير كلية الطب، وأحمد كمال أمير كلية العلوم والبقية معنا، اثنان فقط في كل جامعة أسيوط! ولذلك منعناهم من الحديث أو إصدار بيانات باسم الجماعة الإسلامية، إذ كانت هذه البيانات تعبر عنا نحن.

وهذا التمايز لم يكن أيضا يعبر عن كيانيْن لكل منهما فكر مخالف للآخر، فلم نكن نحن في الجماعة الإسلامية نحمل فكرا مناقضا للإخوان، إنما هو تمايز يعرف به أن "الجماعة الإسلامية" ليسوا من الإخوان المسلمين.

حاولت فيما بعد القيام بخطوة توفق وتقرب بين الجانبين، واقترح أسامة حافظ أن نقسم معسكرا عاما نجمع فيه كل إخوة الجامعة من كان منهم من الإخوان أو من كان منهم خارج الإخوان، كأنه معسكر تصالحي، ثم اختاروني لمسؤولية هذا المعسكر على اعتباري الشخصية التصالحية التي تربط بين الضفتين!

حضر الشباب من الكيانين: الإخوان والجماعة الإسلامية، وكان المعسكر سبع مجموعات، وحضره أسامة السيد ومعه أخ آخر اسمه أحمد زياد، وتولى كلا منهما مسؤولية مجموعة، وكان مجلس شورى المعسكر يتكون من أمراء المجموعات السبعة، وبهذا كان أسامة السيد وأحمد زياد ضمن هذا المجلس، وذكرت لهم في اجتماع مجلس الشورى أنه يجب أن نعمل في الجامعة كيد واحدة، وألا تفرق بيننا الانتماءات، هذا إخوان وهذا جماعة إسلامية، واخترنا موضوعات المعسكر للتأليف بين الكيانيْن: الإخوان والجماعة الإسلامية، كما اخترناها بحيث نبتعد تماما عن ذكر الخلاف أو ذكر الجماعتين لا بخير ولا بشر، فنقتصر على الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وخططنا ليأتي نصف الدعاة الذين سيحاضرون في المعسكر من الإخوان ونصفهم الآخر من خارج الإخوان.

لكن ومع ذلك فقد وقع المحظور..
وهذا ما نتناوله إن شاء الله في الحلقة القادمة.
‏١٥‏/٠٩‏/٢٠١٩ ١١:٥١ ص‏
من يعكر صفو وادي كشمير؟ صبغة الله الهدوي ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk كشمير، تلك الجنة التي جذبت الألوف المؤلفة قلبًا وروحًا، تلك الوديان التي رسمت في كيان العشاق ألوان الأمل والحلم، وتلك الثلوج والجبال التي حاكت للشعراء والسمر حبكة القصائد والقصص، تقف الآن في مفترق الطرق حائرة متوترة، وتشهد مرحلة مهمة في تاريخها الدامي إذ أُلغي قانون الحكم الذاتي الذي تمتعت به لسنين طويلة، والذي تميزت به من بين الولايات الهندية الأخرى، فالحكم الذاتي هو عبارة عن إعطائها حق سن القوانين الخاصة التي تكفل لها صنع القرار بشكل مستقل عن الحكومة المركزية. وهاجت المدن الهندية حتى في كيرالا أقصى جنوب الهند احتجاجًا على هذا القانون الذي فرضه بي ج بخلف ستار الوطنية والوحدة القومية، مما جعل الأحزاب الأخرى القيادية متورطة في الفخاخ التي نصبها بي ج ب، ومما جعلها منخدعة في تلك الأجندة التي وضعها خلف الكواليس، ولاحت انعكاساته في باكستان أيضا حتى انطلقت تتذامر وتتوعد بحتمية الحرب، وأقبل رئيسها عمران خان ليعلن يوم النكبة، والغريب في هذا الأمر أن القرار قد صادف شهر أغسطس الذي هو بالنسبة لكليهما موسم الاستقلال. موقعها الجغرافي يقع إقليم كشمير في شمال غرب شبه القارة الهندية، بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وبين خطي عرض 8, 32 و 58, 536، وخطي طول 26, 37, و 30, 80. وتقاسم حدودها أربعة دول: إقليم التبت من الشمال الشرقي والشرق لمسافة 450 ميلاً، والهند من الجنوب الشرقي لمسافة 350 ميلاً، وباكستان من الجنوب والجنوب الغربي ولمسافة 700 ميلاً، وأفغانستان من الشمال بشريط ضيق ولمسافة 160 ميلاً يفصلها عن تركمانستان. تاريخ من الألم لا تذكر كشمير إلا والألم منوط بكل حروفها رغم ما وشحها الله من البدائع والصنائع، من جمال وجلال، لكنها لم ترقأ لها العين في فترة من التاريخ، حروب طاحنة، وصراعات دامية عكرت صفو خاطرها الهادئ، وكل حزب قد جعل منها أسس الوطنية والبطولة، ورسموا خريطتها وفق مطامعهم السياسية، وبقيت كشمير لتحكي قصتها دامية الحروف. استقلت الهند 15 أغسطس عام 1947 بينما سبقتها شقيقتها باكستان بيوم، وخاضت مباشرًا أتون من الهجرات المندفعة التي شهدت صراعات دامية ومجازر جماعية راحت ضحيتها عشرات الآلاف من الهندوس والمسلمين والسيخ، فلم يك صبح الاستقلال صباح الأمل والفأل بل كان بداية حروب من جديد بين الجارتين المتشاكستين، فلم تمر خمسة عقود حتى نشبت بين الهند وباكستان ثلاثة حروب طاحنة من أجل كشمير مما أودى بحياة الآلاف من كلتا الدولتين. فتاريخ الأزمة الكشميرية يعود إلى فترة استقلال الهند، إذ أعرب ملكها آنذاك هار سانغ الهندوسي عن رغبته في انضمامها لجمهورية الهند رغم أكثرية المسلمين فيها، وكان الانضمام مشروطًا باستفتاء الرأي العام، ويقال إن انضمام كشمير في جمهورية الهند حدث وفق رغبة سياسية وعاهلية من أول رئيس الوزراء للهند جوهر لال نهرو، إذ كانت له وجهة نظر تختلف عن صاحبه سارداي والاباهي فاتيل، إذ أصر على وجود ولاية ذات أغلبية مسلمة لتدل على علمانية الهند المستقلة، بينما نظرت باكستان إلى موقعها الاستراتيجي والجغرافي ووجود المسلمين الضخم في ربوعها، بل يقال إنما جرت نهرو إلى هذا الموقف أصوله المنحدرة من بانديت كشمير وعلاقته الحميمة مع زعيم وادي كشمير الشيخ عبد الله. و"بانديت كشمير" هي الطبقة العليا في الهندوس، وكان بينها وبين المسلمين اشتباكات عدة حتى نزح أكثرها إلى الولايات الأخرى في الهند، فكانت هذه الأمور شافية لتشتعل الحرب حتى تندلع نيرانها بخروج انفصاليين مسلحين من بين هذه الضجات النارية، وتمكنت من السيطرة على بعض المناطق الحدودية ليكونوا صداعًا للجيش الهندي، لكنهم أصبحوا الآن في حيرة وفوجئوا بهذا القرار الصادم مع أن الجيش الهندي في الفترات الأخيرة استرد السطوة في المناطق المتوترة بقوة وقمع، وهذا مما يوجس في خلايا الانفصاليين خيفة وهلعًا. كشمير ضحية السياسات اعتلى مودى عرش الهند في ظلال الدعايات والوعود الانتخابية التي رفعت لتمجيد الثقافة الهندوسية، وبُني معبد راما في أيودهيا في نفس المكان الذي انقض فيه مسجد البابري، وأُلغي الحكم الذاتي لكشمير، وفرض القانون المدني الموحد، وهذه الدعايات كفت لتبث أطياف الخوف والهلع في أوساط الأقليات إذ رأت انهدام مسجد البابري، وسمعت النعرات النارية التي تهتف لإقامة معبد راما في مكانه، بل لم تتلاش في الجو الأصداء التي أحدثها بي جي ب في قضية الطلاق الثلاث لتكون إلهامًا للقانون المدني الموحد الذي يتفوه به أبواق آر أس أس. رغم الأصوات التي هتفت لكشمير وحقوقها من الأحزاب الشيوعية ومن الأحزاب التي تصف أنفسها بأنها لسان حال المسلمين، نشأت في الهند موجة عاتية ترى هذا القانون الجديد كجزء لا يتجزأ من دستور الهند، حتى تسنى لمودي وجبهته تغطية كل التهم الموجهة نحوه من التضخم المالي والبطالة، وقضايا أخرى حساسية تورط فيها قادة بي ج ب رجالًا ونساء، وجاء هذا القانون الجديد تزامنًا مع كل هذه الأوضاع البائسة التي يعاني منها بي جي ب ليكون بلسمًا ومرهمًا على جراحاته المبرحة وتغطية على أزماته الداخلية وترقيعًا لثغراته السياسية التي يعاني منها في هذه الفترة، إذ تمر به ساعات عصيبة إذ التصقت بجبهته عارات عدة، متعلقة بقادته أنفسهم من الاغتصاب والرشوة والعنف، فكان ينبغي عليه أن يحدث قضية صارمة ليشتت النظر العام ويغير بوصلة الإعلام، حقًا لقد نجح في هذه المهمة التي نفذها على حين غفلة من شعب الهند. حتى احتفل أعضاء بي جي ب ونشطاء المنظمات الهندوسية المتطرفة من في أتش ف وباجرانغدال بهذا القرار الصارم، ووصفوها بأنها خطوة جريئة تاريخية وضربة قاضية للمتربصين بوادي كشمير، لكن الغريب في هذا الأمر، أن مؤتمر الهند الوطني تحير وتاه في اتخاذ موقف حاسم إزاء هذه القضية التي هو سببها في الأصل والمسؤول عن تبعاتها، فلم يستطع حتى لم شتات آراء ساسته، بما فيهم تشارن سنع زعيم كونجرس كشمير ونجل الملك هارسنع - مثار النقاش في تاريخ هذه القضية-إذ قال في حوار صحفي: "إن هذا القرار سيمنح سكان كشمير مزيدًا من الحرية لتضمن الهند حقوقهم وتحمي أراضيهم من المتوغلين". ونقد حزبه مؤتمر الهند الوطني بنقد مقذع إذ طالب من قادته بالوقوف مع بي جي ب في هذه القضية الوطنية، وهذه كلها مؤشرات على أن مودي وحاشيته استطاعوا حرف وجهة الشعب الهندي بهذه القضية المخدرة، لتعود كل الشعارات التي علت من أحزاب المعارضة الهندية أدراج الرياح. ومن جانب باكستان، هي الآن في فترة السقوط والسكوت، إذ لم يصبح رئيسها عمران خان مبارزًا قويًا يقف في وجه مودي العملاق الذي يتمتع بشعبية كبيرة ويمتلك تجارب واسعة في ميدان السياسة العالمية، فلم يك خان سوى زعيم يتجه إلى البيت الأبيض، ويتشبس بقش الصين التي تتصيد أزمات الهند، وتنتفض بحق فيتو لضرب الهند في الأمم المتحدة، فما هو جرب الأمور الثقال وما جشم عليها حتى يقدم حلولًا ناجعة لهذه المشاكل الدولية بيد أنه اكتفى بعبارات قاسية أمام تكتيكات مودي وأمت شاه وزير الشؤون الداخلية الهندية، وعطفًا على ذلك دعمت أمريكا الهند في هذا الأمر لتورط باكستان في ورطة أكثر خطورة وتعقيدًا. وأما تعاطف العالم الإسلامي وفي مقدمته تركيا وماليزيا مع باكستان إنما هو مجرد فقاعات وأحلام تتبخر، مع أن الإمارات المتحدة أعلنت تأييدها المطلق للهند، بل مسلمو الهند جميعهم لا يرون قضية كشمير كقضية دينية كما يشبهها البعض بقضية القدس حتى يتدخل فيها العالم العربي والإسلامي ويتكلم فيها كلام الجهاد والاستشهاد، إلا أنهم يشمون من تحركات بي جي ب رائحة البارود والعنف. وإبان كل هذه الأزمات المتراكمة ظل المسلمون يعتقدون ويثقون في وحدة الهند اعتقاد المواطن الوفي، ويجددون لها بيعة الغازي المستميت، وفي مسلمي كشمير أيضًا عدد كبير يريدون الاندماج في المجتمع الهندي بغض النظر عن الأوهام التي صنعتها وكالات باكستان، وفي الوقت نفسه هناك شباب أحالتهم الأوضاع القاسية إلى متسلحين متطرفين فرارًا من قمع الجيوش الهندية وانبهارًا من أجندة الانفصاليين المرسومة لتشكيل دولة كشمير المستقلة. وأما الحرب الرابعة من أجل كشمير فلا تورث إلا ضغثًا على إبالة في كلا الصفين، حيث إن لهما قضايا أخرى داخلية تشغلهما عن فكرة الحرب، فلو نشبت لا تعود إلا بأرواح الملايين، ولا يسمح الماضي لباكستان للخوض مرة أخرى في الحرب مع الهند حيث كانت الحروب الثلاث التي حدثت عام 1947م و1965م و1999م منهكة لها تمامًا. ولا نخطئ لو قلنا إن المصالح السياسية هي التي عكرت صفو وادي كشمير، وجعلتها مرجلًا يغلى، بل أخطأ كل من الهند وباكستان والصين في اتخاذ الموقف من كشمير، إذ أخطأت الهند في محاصرتها وتطويقها وحمايتها بقوى الأمن التي لا رحمة فيهم تجاه المدنيين، بينما أخطأت باكستان في ترويج بضاعتها وتجنيد عصابات مسلحة تابعة لها، وبقي الكشميريون يتأرجحون بين كفتي الهند وباكستان، ويسمعون طبول الحرب تقرع من الحدود. ــــــــــــــــــــــــــــــ المراجع الأخبار المحلية وعدة برنامج تلفزيونية، وتحليلات من الصحافيين تقرير قناة الجزيرة عن أزمة كشمير بين الهند وباكستان timesofindia.indiatimes.com/blogs/stayingwired/debunking-a-myth-nehru-was-not-responsible-for-creating-the-kashmir-problem/ www.thehindu.com/opinion/op-ed/nehru-and-the-kashmir-quandary/article www.aljazeera.net/news/politics/2019/8/9/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF-%D9%83%D8%B4%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%83%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86 en.wikipedia.org/wiki/Exodus_of_Kashmiri_Hindus
من يعكر صفو وادي كشمير؟
صبغة الله الهدوي


⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

كشمير، تلك الجنة التي جذبت الألوف المؤلفة قلبًا وروحًا، تلك الوديان التي رسمت في كيان العشاق ألوان الأمل والحلم، وتلك الثلوج والجبال التي حاكت للشعراء والسمر حبكة القصائد والقصص، تقف الآن في مفترق الطرق حائرة متوترة، وتشهد مرحلة مهمة في تاريخها الدامي إذ أُلغي قانون الحكم الذاتي الذي تمتعت به لسنين طويلة، والذي تميزت به من بين الولايات الهندية الأخرى، فالحكم الذاتي هو عبارة عن إعطائها حق سن القوانين الخاصة التي تكفل لها صنع القرار بشكل مستقل عن الحكومة المركزية.

وهاجت المدن الهندية حتى في كيرالا أقصى جنوب الهند احتجاجًا على هذا القانون الذي فرضه بي ج بخلف ستار الوطنية والوحدة القومية، مما جعل الأحزاب الأخرى القيادية متورطة في الفخاخ التي نصبها بي ج ب، ومما جعلها منخدعة في تلك الأجندة التي وضعها خلف الكواليس، ولاحت انعكاساته في باكستان أيضا حتى انطلقت تتذامر وتتوعد بحتمية الحرب، وأقبل رئيسها عمران خان ليعلن يوم النكبة، والغريب في هذا الأمر أن القرار قد صادف شهر أغسطس الذي هو بالنسبة لكليهما موسم الاستقلال.

موقعها الجغرافي

يقع إقليم كشمير في شمال غرب شبه القارة الهندية، بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وبين خطي عرض 8, 32 و 58, 536، وخطي طول 26, 37, و 30, 80. وتقاسم حدودها أربعة دول: إقليم التبت من الشمال الشرقي والشرق لمسافة 450 ميلاً، والهند من الجنوب الشرقي لمسافة 350 ميلاً، وباكستان من الجنوب والجنوب الغربي ولمسافة 700 ميلاً، وأفغانستان من الشمال بشريط ضيق ولمسافة 160 ميلاً يفصلها عن تركمانستان.

تاريخ من الألم

لا تذكر كشمير إلا والألم منوط بكل حروفها رغم ما وشحها الله من البدائع والصنائع، من جمال وجلال، لكنها لم ترقأ لها العين في فترة من التاريخ، حروب طاحنة، وصراعات دامية عكرت صفو خاطرها الهادئ، وكل حزب قد جعل منها أسس الوطنية والبطولة، ورسموا خريطتها وفق مطامعهم السياسية، وبقيت كشمير لتحكي قصتها دامية الحروف.

استقلت الهند 15 أغسطس عام 1947 بينما سبقتها شقيقتها باكستان بيوم، وخاضت مباشرًا أتون من الهجرات المندفعة التي شهدت صراعات دامية ومجازر جماعية راحت ضحيتها عشرات الآلاف من الهندوس والمسلمين والسيخ، فلم يك صبح الاستقلال صباح الأمل والفأل بل كان بداية حروب من جديد بين الجارتين المتشاكستين، فلم تمر خمسة عقود حتى نشبت بين الهند وباكستان ثلاثة حروب طاحنة من أجل كشمير مما أودى بحياة الآلاف من كلتا الدولتين.

فتاريخ الأزمة الكشميرية يعود إلى فترة استقلال الهند، إذ أعرب ملكها آنذاك هار سانغ الهندوسي عن رغبته في انضمامها لجمهورية الهند رغم أكثرية المسلمين فيها، وكان الانضمام مشروطًا باستفتاء الرأي العام، ويقال إن انضمام كشمير في جمهورية الهند حدث وفق رغبة سياسية وعاهلية من أول رئيس الوزراء للهند جوهر لال نهرو، إذ كانت له وجهة نظر تختلف عن صاحبه سارداي والاباهي فاتيل، إذ أصر على وجود ولاية ذات أغلبية مسلمة لتدل على علمانية الهند المستقلة، بينما نظرت باكستان إلى موقعها الاستراتيجي والجغرافي ووجود المسلمين الضخم في ربوعها، بل يقال إنما جرت نهرو إلى هذا الموقف أصوله المنحدرة من بانديت كشمير وعلاقته الحميمة مع زعيم وادي كشمير الشيخ عبد الله.

و"بانديت كشمير" هي الطبقة العليا في الهندوس، وكان بينها وبين المسلمين اشتباكات عدة حتى نزح أكثرها إلى الولايات الأخرى في الهند، فكانت هذه الأمور شافية لتشتعل الحرب حتى تندلع نيرانها بخروج انفصاليين مسلحين من بين هذه الضجات النارية، وتمكنت من السيطرة على بعض المناطق الحدودية ليكونوا صداعًا للجيش الهندي، لكنهم أصبحوا الآن في حيرة وفوجئوا بهذا القرار الصادم مع أن الجيش الهندي في الفترات الأخيرة استرد السطوة في المناطق المتوترة بقوة وقمع، وهذا مما يوجس في خلايا الانفصاليين خيفة وهلعًا.

كشمير ضحية السياسات

اعتلى مودى عرش الهند في ظلال الدعايات والوعود الانتخابية التي رفعت لتمجيد الثقافة الهندوسية، وبُني معبد راما في أيودهيا في نفس المكان الذي انقض فيه مسجد البابري، وأُلغي الحكم الذاتي لكشمير، وفرض القانون المدني الموحد، وهذه الدعايات كفت لتبث أطياف الخوف والهلع في أوساط الأقليات إذ رأت انهدام مسجد البابري، وسمعت النعرات النارية التي تهتف لإقامة معبد راما في مكانه، بل لم تتلاش في الجو الأصداء التي أحدثها بي جي ب في قضية الطلاق الثلاث لتكون إلهامًا للقانون المدني الموحد الذي يتفوه به أبواق آر أس أس.

رغم الأصوات التي هتفت لكشمير وحقوقها من الأحزاب الشيوعية ومن الأحزاب التي تصف أنفسها بأنها لسان حال المسلمين، نشأت في الهند موجة عاتية ترى هذا القانون الجديد كجزء لا يتجزأ من دستور الهند، حتى تسنى لمودي وجبهته تغطية كل التهم الموجهة نحوه من التضخم المالي والبطالة، وقضايا أخرى حساسية تورط فيها قادة بي ج ب رجالًا ونساء، وجاء هذا القانون الجديد تزامنًا مع كل هذه الأوضاع البائسة التي يعاني منها بي جي ب ليكون بلسمًا ومرهمًا على جراحاته المبرحة وتغطية على أزماته الداخلية وترقيعًا لثغراته السياسية التي يعاني منها في هذه الفترة، إذ تمر به ساعات عصيبة إذ التصقت بجبهته عارات عدة، متعلقة بقادته أنفسهم من الاغتصاب والرشوة والعنف، فكان ينبغي عليه أن يحدث قضية صارمة ليشتت النظر العام ويغير بوصلة الإعلام، حقًا لقد نجح في هذه المهمة التي نفذها على حين غفلة من شعب الهند.

حتى احتفل أعضاء بي جي ب ونشطاء المنظمات الهندوسية المتطرفة من في أتش ف وباجرانغدال بهذا القرار الصارم، ووصفوها بأنها خطوة جريئة تاريخية وضربة قاضية للمتربصين بوادي كشمير، لكن الغريب في هذا الأمر، أن مؤتمر الهند الوطني تحير وتاه في اتخاذ موقف حاسم إزاء هذه القضية التي هو سببها في الأصل والمسؤول عن تبعاتها، فلم يستطع حتى لم شتات آراء ساسته، بما فيهم تشارن سنع زعيم كونجرس كشمير ونجل الملك هارسنع - مثار النقاش في تاريخ هذه القضية-إذ قال في حوار صحفي: "إن هذا القرار سيمنح سكان كشمير مزيدًا من الحرية لتضمن الهند حقوقهم وتحمي أراضيهم من المتوغلين". ونقد حزبه مؤتمر الهند الوطني بنقد مقذع إذ طالب من قادته بالوقوف مع بي جي ب في هذه القضية الوطنية، وهذه كلها مؤشرات على أن مودي وحاشيته استطاعوا حرف وجهة الشعب الهندي بهذه القضية المخدرة، لتعود كل الشعارات التي علت من أحزاب المعارضة الهندية أدراج الرياح.

ومن جانب باكستان، هي الآن في فترة السقوط والسكوت، إذ لم يصبح رئيسها عمران خان مبارزًا قويًا يقف في وجه مودي العملاق الذي يتمتع بشعبية كبيرة ويمتلك تجارب واسعة في ميدان السياسة العالمية، فلم يك خان سوى زعيم يتجه إلى البيت الأبيض، ويتشبس بقش الصين التي تتصيد أزمات الهند، وتنتفض بحق فيتو لضرب الهند في الأمم المتحدة، فما هو جرب الأمور الثقال وما جشم عليها حتى يقدم حلولًا ناجعة لهذه المشاكل الدولية بيد أنه اكتفى بعبارات قاسية أمام تكتيكات مودي وأمت شاه وزير الشؤون الداخلية الهندية، وعطفًا على ذلك دعمت أمريكا الهند في هذا الأمر لتورط باكستان في ورطة أكثر خطورة وتعقيدًا.

وأما تعاطف العالم الإسلامي وفي مقدمته تركيا وماليزيا مع باكستان إنما هو مجرد فقاعات وأحلام تتبخر، مع أن الإمارات المتحدة أعلنت تأييدها المطلق للهند، بل مسلمو الهند جميعهم لا يرون قضية كشمير كقضية دينية كما يشبهها البعض بقضية القدس حتى يتدخل فيها العالم العربي والإسلامي ويتكلم فيها كلام الجهاد والاستشهاد، إلا أنهم يشمون من تحركات بي جي ب رائحة البارود والعنف.

وإبان كل هذه الأزمات المتراكمة ظل المسلمون يعتقدون ويثقون في وحدة الهند اعتقاد المواطن الوفي، ويجددون لها بيعة الغازي المستميت، وفي مسلمي كشمير أيضًا عدد كبير يريدون الاندماج في المجتمع الهندي بغض النظر عن الأوهام التي صنعتها وكالات باكستان، وفي الوقت نفسه هناك شباب أحالتهم الأوضاع القاسية إلى متسلحين متطرفين فرارًا من قمع الجيوش الهندية وانبهارًا من أجندة الانفصاليين المرسومة لتشكيل دولة كشمير المستقلة.

وأما الحرب الرابعة من أجل كشمير فلا تورث إلا ضغثًا على إبالة في كلا الصفين، حيث إن لهما قضايا أخرى داخلية تشغلهما عن فكرة الحرب، فلو نشبت لا تعود إلا بأرواح الملايين، ولا يسمح الماضي لباكستان للخوض مرة أخرى في الحرب مع الهند حيث كانت الحروب الثلاث التي حدثت عام 1947م و1965م و1999م منهكة لها تمامًا.

ولا نخطئ لو قلنا إن المصالح السياسية هي التي عكرت صفو وادي كشمير، وجعلتها مرجلًا يغلى، بل أخطأ كل من الهند وباكستان والصين في اتخاذ الموقف من كشمير، إذ أخطأت الهند في محاصرتها وتطويقها وحمايتها بقوى الأمن التي لا رحمة فيهم تجاه المدنيين، بينما أخطأت باكستان في ترويج بضاعتها وتجنيد عصابات مسلحة تابعة لها، وبقي الكشميريون يتأرجحون بين كفتي الهند وباكستان، ويسمعون طبول الحرب تقرع من الحدود.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع

الأخبار المحلية وعدة برنامج تلفزيونية، وتحليلات من الصحافيين
تقرير قناة الجزيرة عن أزمة كشمير بين الهند وباكستان
timesofindia.indiatimes.com/blogs/stayingwired/debunking-a-myth-nehru-was-not-responsible-for-creating-the-kashmir-problem/
www.thehindu.com/opinion/op-ed/nehru-and-the-kashmir-quandary/article
www.aljazeera.net/news/politics/2019/8/9/الإمارات-الهند-كشمير-باكستان
en.wikipedia.org/wiki/Exodus_of_Kashmiri_Hindus
‏١٢‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٧:٣٠ م‏
أبو يزن الشامي وفريضة الاعتبار الغائبة 2 كرم الحفيان ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk مقدمة لعله من الضرورة الملحة بمكان، وفي ظل الحملة الجوية الروسية الأخيرة الشرسة المستمرة منذ أبريل 2019م على الشمال السوري المحرر آخر قلاع الثورة، ومع نزول القوات الخاصة الروسية للأرض بغية حسم المعركة، وتداعي إيران بنخبة قواتها وميليشياتها والتحاق مقاتلي حزب الله اللبناني بالمعركة في الأسابيع الأخيرة، ومع الاستبسال الأسطوري على الجبهات القتالية بحماة وإدلب والساحل السوري لعدد كبير من الفصائل الثورية وقادتها على اختلاف مشاربهم ومشاريعهم، لعله من الضرورات في هذا المقام (وفي هذه المقالة الثانية) مواصلة رصد استدراكات ومراجعات أبي يزن الشامي لذهنية وأثر السلفية الجهادية في الساحات وآخرها السورية، وسنكتفي في هذه العجالة بنقطتين في غاية الأهمية. أولاً: كارثية المعارك المنهجية أثناء تداعي وتكالب الأمم انطلاقًا من إدراكه للأبعاد الإقليمية والعالمية للثورة السورية، واستشفافه لطول المعركة وضراوة الحرب، واستيعابه للتأثير المدمر للمعارك المنهجية في هذا التوقيت على وحدة الصف الثوري المجاهد، وعلى الحاضنة الشعبية، لم يزل أبو يزن يردد مقولته التحذيرية التالية: "عندما يضيع المعلوم من الدين بالضرورة يدرك أصحاب المعارك المنهجية عبثية معاركهم، غداً إذا استباح النصيرية البلاد والعباد- لا قدر الله- لن نعد وقتها نفكر بإقامة الشريعة، وسينخفض سقف طموحاتنا من إقامة دولة إسلامية إلى أن يصبح الحصول على رخصة معهد شرعي كي نربي طلاباً يقومون بعد عشرين سنة بثورة، أو يكون سقف طموحاتنا قدوم حكومة ديمقراطية علمانية كي تسمح بالمعاهد الشرعية، عندها سنشعر كم كانت معاركنا عبثية، وأننا أضعنا وقتنا ووقت الأمة.. افهمني، لا أريد أن نصل لهذه المرحلة". هذا المعنى طالما دندن حوله أبو يزن وحذر من خطورة تخوين وتشكيك تنظيمات السلفية الجهادية بعقيدة وصدق غيرها من الجماعات الإسلامية المقاتلة، لأمور كـ: تهنئة أردوغان بالفوز في الانتخابات، أو إقامة علاقات وتحالفات مع بعض الدول، أو الاجتماع على ميثاق ثوري مرحلي يهدف لتوحيد الجهود وتركيزها على إسقاط النظام كاملأً ودحر سائر الغزاة، دون التصريح بهدف تحكيم الشريعة. س: هل التصريح بهدف تحكيم الشريعة في الخطابات السياسية واجب شرعي؟ أبو يزن الشامي: "الدولة الإسلامية هدفنا وهذا شيء صريح وواضح، لكن كما قلنا النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتؤمن الناس بالرسالة، هل وجدته في صلح الحديبية كتب من محمد رسول الله ونبيه وخليله؟!، لا لأنه يريد أن يحقق هدفًا مرحليًا وأنت أحياناً بحاجة لخطابات سياسية تحقق هدفًا مرحليًا لتصل إلى غايتك لكن هذه الإلزامات وهذه الدندنات ناتجة عن جهل بالشرع وضعف في فهم الواقع لابد من علاجها بالتربية السياسية والتناصح والتواصي بالحق". وإن ما نراه حالياً من قتال جل التنظيمات السلفية الجهادية في خندق واحد مع غالب الجماعات الأخرى (برها وفاجرها) التي قاتلتها سابقاً، وسكوتها عن، وتأجيلها للمعارك المنهجية معها، ليأكد صحة ما ذهب إليه أبو يزن وأمثاله. ثانياً: مناخ الغلو ومناهج التمكين ومقصود أبي يزن بالغلو هنا ليس فقط الغلو في التكفير، إنما رفع سقف المشروع الإسلامي لحد لا يطيقه في الوقت الراهن، قال أبو يزن: "لا يخفى على العاقل المتتبع لتاريخ نهوض الأمم أنها تمر بأطوار نمو كأطوار نمو الإنسان (على حد وصف ابن خلدون) أو نمو الشجر كما في التعبير القرآني:: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه) فإذا بلغ هذا أصبح (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وإن محاولات النهوض كثير منها ما يتعرض للاجتثاث أو أن فسيلة النهوض لا تجد أجواء صحية للنمو فتموت أو يطرأ عليها ما يفسد أسس نموها فتذبل وتموت. وإن أشد ما يفسد هذه النمو ويعود عليه بالهلكة والدمار هو الغلو، فإن الغلو لا يوصل إلى المطلوب ولا يحافظ على الجماعة التي منها الانطلاق وهي رأس المال، وإن أردت برهان ذلك من الشرع فتأمل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا يقطع أرضًا ولا يبقي ظهرًا". فالمغالي لا يعرف حدودًا للتوقف ولا يرضى التريث، فهو منبت (المُجد في السير) فلا يصل لهدفه ولا يحافظ على الظهر (الجماعة) التي منها الانطلاق، فالغلو عنصر تدمير ذاتي لأي مشروع إسلامي لأنه يعرض الزرع لتحديات بمرحلة الشطء كما لو أنها في مرحلة استوى على سوقه فلا يطيق المشروع الهجمة عليه فيجتث ويفنى، هذا من برهان الشرع، وإن أردت من شواهد الواقع فيكفي أن تسير في الأرض فتنظر في أحداث الجزائر فالصومال فالعراق والمأزق الحرج الذي وصل له الجهاد الشامي لطف الله به". وأضاف في موطن آخر، أنه ما من محاولة نهوض معاصرة، قُرنت بالجهاد المسلح، وبرز فيها التوجه والمناخ الإسلامي بين عموم الناس، إلا وتدخلت المخابرات الغربية، وقامت بتغذية طرفي نقيض: 1- الغلو لهدم المشروع من جذوره ومن داخله وفض الناس عنه بعد معايشتهم لصورة مشوهة وقمعية وطائشة، ثم يأتي دور 2- المشروع العلماني التابع للغرب بحُلة ديمقراطية "لإنقاذ" الناس من "جحيم" الغلاة، كما حدث في التجارب التي قادتها السلفية الجهادية. خاتمة وعلى الرغم من ظهور تغير في مسألة واقعية وسقف المشروع عند هيئة تحرير الشام (الفرع السابق للقاعدة في سورية) إلا أنه لا يظهر عليها أي تغير ملموس في مسألة المعارك المنهجية مع الجماعات الإسلامية الأخرى، أما فيما يخص عموم الجماعات السلفية الجهادية وخاصةً العالمية، ومع الأخذ في الحسبان التفاوت بين مشروعي تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، فيبدو أن كليهما متمسكٌ بنهجه، سواءً فيما يخص جوهر مشروعه وسقفه، أو معاركه المنهجية، وللحديث تتمة بحول الله وقوته.
أبو يزن الشامي وفريضة الاعتبار الغائبة 2
كرم الحفيان

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

مقدمة

لعله من الضرورة الملحة بمكان، وفي ظل الحملة الجوية الروسية الأخيرة الشرسة المستمرة منذ أبريل 2019م على الشمال السوري المحرر آخر قلاع الثورة، ومع نزول القوات الخاصة الروسية للأرض بغية حسم المعركة، وتداعي إيران بنخبة قواتها وميليشياتها والتحاق مقاتلي حزب الله اللبناني بالمعركة في الأسابيع الأخيرة، ومع الاستبسال الأسطوري على الجبهات القتالية بحماة وإدلب والساحل السوري لعدد كبير من الفصائل الثورية وقادتها على اختلاف مشاربهم ومشاريعهم، لعله من الضرورات في هذا المقام (وفي هذه المقالة الثانية) مواصلة رصد استدراكات ومراجعات أبي يزن الشامي لذهنية وأثر السلفية الجهادية في الساحات وآخرها السورية، وسنكتفي في هذه العجالة بنقطتين في غاية الأهمية.

أولاً: كارثية المعارك المنهجية أثناء تداعي وتكالب الأمم

انطلاقًا من إدراكه للأبعاد الإقليمية والعالمية للثورة السورية، واستشفافه لطول المعركة وضراوة الحرب، واستيعابه للتأثير المدمر للمعارك المنهجية في هذا التوقيت على وحدة الصف الثوري المجاهد، وعلى الحاضنة الشعبية، لم يزل أبو يزن يردد مقولته التحذيرية التالية: "عندما يضيع المعلوم من الدين بالضرورة يدرك أصحاب المعارك المنهجية عبثية معاركهم، غداً إذا استباح النصيرية البلاد والعباد- لا قدر الله- لن نعد وقتها نفكر بإقامة الشريعة، وسينخفض سقف طموحاتنا من إقامة دولة إسلامية إلى أن يصبح الحصول على رخصة معهد شرعي كي نربي طلاباً يقومون بعد عشرين سنة بثورة، أو يكون سقف طموحاتنا قدوم حكومة ديمقراطية علمانية كي تسمح بالمعاهد الشرعية، عندها سنشعر كم كانت معاركنا عبثية، وأننا أضعنا وقتنا ووقت الأمة.. افهمني، لا أريد أن نصل لهذه المرحلة".

هذا المعنى طالما دندن حوله أبو يزن وحذر من خطورة تخوين وتشكيك تنظيمات السلفية الجهادية بعقيدة وصدق غيرها من الجماعات الإسلامية المقاتلة، لأمور كـ: تهنئة أردوغان بالفوز في الانتخابات، أو إقامة علاقات وتحالفات مع بعض الدول، أو الاجتماع على ميثاق ثوري مرحلي يهدف لتوحيد الجهود وتركيزها على إسقاط النظام كاملأً ودحر سائر الغزاة، دون التصريح بهدف تحكيم الشريعة.

س: هل التصريح بهدف تحكيم الشريعة في الخطابات السياسية واجب شرعي؟

أبو يزن الشامي: "الدولة الإسلامية هدفنا وهذا شيء صريح وواضح، لكن كما قلنا النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتؤمن الناس بالرسالة، هل وجدته في صلح الحديبية كتب من محمد رسول الله ونبيه وخليله؟!، لا لأنه يريد أن يحقق هدفًا مرحليًا وأنت أحياناً بحاجة لخطابات سياسية تحقق هدفًا مرحليًا لتصل إلى غايتك لكن هذه الإلزامات وهذه الدندنات ناتجة عن جهل بالشرع وضعف في فهم الواقع لابد من علاجها بالتربية السياسية والتناصح والتواصي بالحق".

وإن ما نراه حالياً من قتال جل التنظيمات السلفية الجهادية في خندق واحد مع غالب الجماعات الأخرى (برها وفاجرها) التي قاتلتها سابقاً، وسكوتها عن، وتأجيلها للمعارك المنهجية معها، ليأكد صحة ما ذهب إليه أبو يزن وأمثاله.

ثانياً: مناخ الغلو ومناهج التمكين

ومقصود أبي يزن بالغلو هنا ليس فقط الغلو في التكفير، إنما رفع سقف المشروع الإسلامي لحد لا يطيقه في الوقت الراهن، قال أبو يزن: "لا يخفى على العاقل المتتبع لتاريخ نهوض الأمم أنها تمر بأطوار نمو كأطوار نمو الإنسان (على حد وصف ابن خلدون) أو نمو الشجر كما في التعبير القرآني:: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه) فإذا بلغ هذا أصبح (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وإن محاولات النهوض كثير منها ما يتعرض للاجتثاث أو أن فسيلة النهوض لا تجد أجواء صحية للنمو فتموت أو يطرأ عليها ما يفسد أسس نموها فتذبل وتموت.

وإن أشد ما يفسد هذه النمو ويعود عليه بالهلكة والدمار هو الغلو، فإن الغلو لا يوصل إلى المطلوب ولا يحافظ على الجماعة التي منها الانطلاق وهي رأس المال، وإن أردت برهان ذلك من الشرع فتأمل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا يقطع أرضًا ولا يبقي ظهرًا". فالمغالي لا يعرف حدودًا للتوقف ولا يرضى التريث، فهو منبت (المُجد في السير) فلا يصل لهدفه ولا يحافظ على الظهر (الجماعة) التي منها الانطلاق، فالغلو عنصر تدمير ذاتي لأي مشروع إسلامي لأنه يعرض الزرع لتحديات بمرحلة الشطء كما لو أنها في مرحلة استوى على سوقه فلا يطيق المشروع الهجمة عليه فيجتث ويفنى، هذا من برهان الشرع، وإن أردت من شواهد الواقع فيكفي أن تسير في الأرض فتنظر في أحداث الجزائر فالصومال فالعراق والمأزق الحرج الذي وصل له الجهاد الشامي لطف الله به".

وأضاف في موطن آخر، أنه ما من محاولة نهوض معاصرة، قُرنت بالجهاد المسلح، وبرز فيها التوجه والمناخ الإسلامي بين عموم الناس، إلا وتدخلت المخابرات الغربية، وقامت بتغذية طرفي نقيض: 1- الغلو لهدم المشروع من جذوره ومن داخله وفض الناس عنه بعد معايشتهم لصورة مشوهة وقمعية وطائشة، ثم يأتي دور 2- المشروع العلماني التابع للغرب بحُلة ديمقراطية "لإنقاذ" الناس من "جحيم" الغلاة، كما حدث في التجارب التي قادتها السلفية الجهادية.

خاتمة

وعلى الرغم من ظهور تغير في مسألة واقعية وسقف المشروع عند هيئة تحرير الشام (الفرع السابق للقاعدة في سورية) إلا أنه لا يظهر عليها أي تغير ملموس في مسألة المعارك المنهجية مع الجماعات الإسلامية الأخرى، أما فيما يخص عموم الجماعات السلفية الجهادية وخاصةً العالمية، ومع الأخذ في الحسبان التفاوت بين مشروعي تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، فيبدو أن كليهما متمسكٌ بنهجه، سواءً فيما يخص جوهر مشروعه وسقفه، أو معاركه المنهجية، وللحديث تتمة بحول الله وقوته.
‏١١‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٨:٢٣ م‏
الكليات العسكرية: بين الاندماج والانعزال محمود جمال ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk مقدمة: من يقراً تجارب ونماذج الحركات الإسلامية التي كانت تهدف إلى تغيير النظم الحاكمة في بلدانها، يرى أن لدي بعضها خططًا واضحة المعالم لكي تصل نهاية المطاف إلى أهدافها الموضوعة، ومن تلك الحركات من نجحت فعليًا في السيطرة على الحكم لعشرات السنين. كل هدف يقوم صاحبه للوصول إليه بإعداد العدة والأدوات المناسبة التي ستساعده في تحقيقه، ولكني هنا أحاول أن أركز على أمر مهم كان من أهم العوامل في قراءة التجارب السابقة التي نجحت وسيطرت فعلياً على الحكم، والتي لم تنجح ولكن لم تغفل هذا الأمر. وهو الانخراط في مؤسسات الدولة المتمثلة في الأجهزة العسكرية والأمنية والمعلوماتية والقضائية، حتى يكون هناك أفراد منتمون لتلك الحركات داخل تلك المؤسسات، لفهم تلك المؤسسات من ناحية، ومن ناحية أخري تكون تلك الأفراد هي اليد التنفيذية لأي حراك قد تقوم به تلك الحركات للسيطرة على الحكم. تجارب ونماذج: فعلي سبيل المثال من يقرأ في التجربة السودانية الإسلامية التي نجحت وسيطرت على الحكم عام 1989م، عن طريق انقلاب عسكري قام به الضباط المنتمون للحركة الإسلامية، يرى أنه قبل سنوات من تنفيذ هذا الانقلاب كانت الجماعة تعد نفسها لمثل ذلك الأمر. في يونيو 1969 قام العقيد أركان حرب جعفر النميري بانقلاب عسكري بالتحالف مع قيادات الحزب الشيوعي، وقبض على رئيس الجمهورية في ذلك الوقت "إسماعيل الأزهري" وأسس حزب "الاتحاد الاشتراكي السوداني" كحزب وحيد في البلاد. في هذه الفترة كان زعيم الحركة الإسلامية في السودان هو حسن الترابي، الذي كان يؤمن بالتغيير البطيء، فأقنع الإسلاميين بإدخال أبنائهم في المؤسسات العسكرية الجيش والشرطة، وقبل الانقلاب بعامين، وتحديدًا عام 1967، تخرج في الكلية الحربية دفعة جديدة، كان من بين طلابها عمر حسن أحمد البشير، البالغ من العمر 27 عامًا، وكان من طليعة الشباب الذين تخرجوا من شباب الإسلاميين. [1] استمر النميري في الحكم حتى عام 1985، وبينما كان في رحلة إلى الخارج اندلعت احتجاجات شعبية، قادها الإسلاميون بمختلف أحزابهم بالتعاون مع اليساريين، ضد حكمه العسكري. نُفي النميري، وتولي المجلس العسكري بقيادة عبدالرحمن سوار الذهب إدارة المشهد السياسي خلال فترة انتقالية استمرت لمدة عام كامل، إلى أن وصل الحكم أول رئيس مدني اسمه أحمد المرغني. عد تهميش الإسلاميين في عهد أحمد المرغني من أسباب غضب الحركة الإسلامية من نظام حكمه وخطّط الإسلاميون في تلك اللحظة للانقلاب على حكومة "المرغني" بدقة متناهية، وكان قد تخرج في الكليات العسكرية نحو 150 برتب عسكرية متفاوتة، موزعون على مناصب مختلفة في الجيش، وكان أعلاهم رتبة العقيد الركن آنذاك عمر البشير. جاء يوم 29 من يونيو 1989، واستدعي رجال "الجبهة القومية الإسلامية" داخل الجيش، واختير "البشير "لقراءة البيان الأول للانقلاب. الحركة الإسلامية في السودان لم تقم بمثل هذا الأمر الخطير والذي عند فشله يكون مشنقة ومحرقة ونهاية لمرتكبيه، إلا بعد توغلها في المؤسسة العسكرية نحو ما يقرب من 20 عام، فكان لها أفرادها في تلك المؤسسة التي يرتكز عليها أي انقلاب عسكري ومن يستطيع أن يخترقها بخطة محكمة مدروسة يستطيع أن يوصل لمبتغاه. جدير بالذكر أن البعض كان يرى أن المفكر سيد قطب كانت له رؤية مطابقة لمثل ذلك الأمر، والبعض فهم من كلام "قطب" أن تنظيم 65 والذي بسببه حكم على سيد قطب بالإعدام هو ومجموعة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بزعم محاولة إحياء التنظيم الخاص كان من ضمن أهدافه انخراط أفراد التنظيم داخل الجيش لإحداث التغيير المأمول. نص الاتهام في أوراق القضية رقم 12 لسنة 1965م على ما يلي: "المتهمون في الفترة من سنة 1959 حتى آخر سبتمبر 1965 بالجمهورية العربية المتحدة وبالخارج حاولوا تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها بالقوة، بأن ألفوا من بينهم وآخرين تجمعًا حركيًا وتنظيمًا سريًا مسلحًا لحزب الإخوان المسلمين المنحل يهدف إلى تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باغتيال السيد رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم في البلاد وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة في البلاد".[2] كارم الأناضولي وهو الطالب المسؤول عن الطلاب العسكريين في تنظيم الفنية العسكرية عام 1974م، عدّ موت سيد هو وقود النضال له ولأصدقائه العسكريين ، وأعلن ذلك صراحة في مرافعته أمام المحكمة والمنشورة بصوته: "فإن هذه القضية التي أنا متهم فيها الآن ليست قضية "الفنية العسكرية" ولا قضية "صالح سرية"، ولكنها في حقيقة الأمر هي نفس قضية حسن البنا، هي بعينها قضية يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة ومحمد هواش وعبد الفتاح إسماعيل، ويكفي أن نقول: إنه ما كان مقتل سيد قطب إعدامًا كما صوروه وأرادوه بقدر ما كان بعثًا للإسلام والمسلمين، وما هذا الشباب المتعطش للإسلام اليوم في الجامعات إلا بشائر هذا البعث، وإن أخانا سيد هو الرجل الذي قُتل لئلا يُعبد في الأرض إلا الله".[3] وبالعودة إلى المرافعات المسجلة صوتيًا في أحداث تنظيم الكلية الفنية العسكرية، نجد كلمات سيد قطب حاضرة في كلمات المتهمين على الدوام، فبحسب شهادة أيمن الظواهري، حين طلبت زوجة صالح سرية (المُنظر للتنظيم) أن يقدم طلب عفو إلى السادات، تمثل سرية مقولة قطب الشهيرة "إن السبابة التي ترتفع لهامات السماء موحدة بالله عز وجل لتأبى أن تكتب برقية تأييد لطاغية ولنظام مخالف لمنهج الله الذي شرعه لعباده". جدير بالإشارة أن طلال الأنصاري وهو أحد أعضاء تنظيم الفنية العسكرية، قال إن الشيخ محمد بسيوني كان يشجع الشباب على الالتحاق بالكليات العسكرية، وأضاف أنه بالفعل التحقت مجموعة من الشباب بالكليات العسكرية.[4] تنظيم الفنية العسكرية كان يقوده صالح سرية، وذلك التنظيم كان يهدف بالأساس إلى تغيير نظام الحكم في مصر عن طريق الانقلاب العسكري، كان من أولى اهتمامات صالح سرية توصيل أفكاره لبعض الطلاب المنتمين للكليات العسكرية حتى يكونوا الأداة التنفيذية فيما بعد لمخطط التنظيم، ونجح سرية بالفعل في توصيل أفكاره لبعض من طلبة الكلية الفنية العسكرية ثم انضم إليه بعض طلاب الكلية الجوية.[5] وحاولوا أن يغتالوا السادات مرتين ولكن لم ينجحوا وقُبض عليهم ومحاكمتهم. أيضاً الجماعة الإسلامية عند تخطيطها لاغتيال السادات عام 1981م، ركزت على أفرادها الموجودين داخل الجيش لتنفيذ مخططهم الذي نجحوا في تحقيقه. فمن نفذوا عملية مقتل السادات هم مجموعة من الضباط يحملون الفكر الإسلامي وهم خالد الإسلامبولي وهو المنفذ الرئيسي للعملية فقد كان ضابطاً بالجيش المصري "أُعدم"، وعبود الزمر كان أيضاً ضابطاً بالمخابرات الحربية وشارك في تنفيذ وتخطيط العملية، وحسين عباس "أعدم" كان رقيبًا متطوعًا بالقوات المسلحة بالدفاع الشعبي وهو قناص بارع.[6] كذلك عطا طايل حميدة رميح "أعدم" كان ملازمًا أول مهندس احتياط.[7] وعند النظر لمحاولة الانقلاب الفاشل الذي حاولت أن تقوم به جماعة فتح الله جولن كما أعلنت الدولة التركية في 15 يوليو 2016م، كان يرتكز هذا الانقلاب على الأفراد المنتمين لذلك التنظيم داخل الجيش وجهاز الشرطة والقضاء، والذي ظل تنظيم جولن يلحق أفراده داخل تلك المؤسسات على مدار عشرات السنين، حتى يستعين به في الوقت اللازم، وبناءً على ما يراه البعض فإن تنظيم جولن يسعى للسيطرة على الحكم وهذا هو مخططه ومبتغاه، لذلك كان يدمج أفراده داخل أجهزة الدولة، ليكونوا اليد التنفيذية لمخطط التنظيم عند ساعة الصفر.[8] ماذا إذاً: إن الحركات الإسلامية في مصر بمختلف أسمائها كانت طيلة الثلاثين عام الماضية تحذر أفرادها من الانتماء إلى المؤسسة العسكرية أو الشرطية في مصر بدعوى الخوف عليهم من الغرق في امتيازات تلك المؤسسات، وبذلك يبعدوا عن أفكار وتوجهات تلك الجماعات التي تقوم بغرسها لأفرادها منذ الصغر. تخوف من وجهة نظري ضرره أكبر من نفعه، إن تلك الجماعات من المفترض أنها جماعات تدعو إلى التغيير والإصلاح كما تصف أنفسها، فكيف تتقوقع على نفسها وأفرادها وتنزوي في ركن شديد وتقوم بالدعوة وإصلاح وتغيير مؤسسات الدولة؟ إن من مقتضيات وموجبات التغيير للجماعات والحركات التي تسعى وتعمل لمثل ذلك الأمر، أن تدعو أفرادها لكي تندمج في مثل هذه المؤسسات، والتي بالابتعاد عنها وعدم وجود أفراد تحمل فكر وإيديولوجيا تلك الجماعات بداخلها لن تنجح أي حركة تغيير. وأخيرًا هناك أهداف مختلفة تدفع الأفراد للالتحاق بالكليات العسكرية، فكل طالب يُقدم كي يلتحق بالكليات العسكرية يكون له هدف من وراء ذلك؛ فمثلاً البعض كان يرى أن إسرائيل هي العدو الأساسي للجيش المصري فينضم للجيش كي يواجه ذلك العدو، ومنهم من يلتحق من أجل الحصول على الامتيازات الخاصة التي يتحصل عليها ضباط الجيش، ومنهم من يلتحق وله تصور معين عن المؤسسة العسكرية ومباشرة بعد الالتحاق يرى أن تصوره كان خاطئاً ويحاول تصحيح المسار بطرق مختلفة. ولعل الضباط الذين ضحوا حديثًا بكل الامتيازات العسكرية من أجل تصحيح مسار المؤسسة التي من وجهة نظرهم حادت عن الطريق الصحيح بغض النظر عن صحة أو خطاً النموذج الذين اتخذوه في تصحيح مسار المؤسسة -خير مثال. ________________________________________ [1] عمر البشير.. رئيس الصدفة الذي وضعته العمامة الدينية في الحكم 30 عامًا، نون بوست، الرابط [2] بالفيديو| "تنظيم 65".. تهمة وضعت حبل المشنقة حول رقبة "قطب"، الوطن، الرابط [3] بعد القبض على "عشماوي".. لماذا كان الجيش المصري مصدرا لأخطر الجهاديين؟، ميدان، الرابط [4] الشهادة العكسية لطلال الأنصاري، المصريون، الرابط [5] تنظيم “شباب محمد” أو “الفنية العسكرية”، بوابة الشروق، تاريخ النشر 25 سبتمبر 2018م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط [6] اغتيال السادات : القصة الكاملة لاغتيال الرئيس المصري، الرابط [7] مجند مصري يروي تفاصيل اعدام قتلة السادات.. سألتهم قبل اعدامهم : هل تدخنون السجائر " صور و فيديو "، الرابط [8] كيف بدأت محاولة الانقلاب بتركيا وكيف انتهت؟، الجزيرة نت، الرابط
الكليات العسكرية: بين الاندماج والانعزال
محمود جمال

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

مقدمة:
من يقراً تجارب ونماذج الحركات الإسلامية التي كانت تهدف إلى تغيير النظم الحاكمة في بلدانها، يرى أن لدي بعضها خططًا واضحة المعالم لكي تصل نهاية المطاف إلى أهدافها الموضوعة، ومن تلك الحركات من نجحت فعليًا في السيطرة على الحكم لعشرات السنين.
كل هدف يقوم صاحبه للوصول إليه بإعداد العدة والأدوات المناسبة التي ستساعده في تحقيقه، ولكني هنا أحاول أن أركز على أمر مهم كان من أهم العوامل في قراءة التجارب السابقة التي نجحت وسيطرت فعلياً على الحكم، والتي لم تنجح ولكن لم تغفل هذا الأمر. وهو الانخراط في مؤسسات الدولة المتمثلة في الأجهزة العسكرية والأمنية والمعلوماتية والقضائية، حتى يكون هناك أفراد منتمون لتلك الحركات داخل تلك المؤسسات، لفهم تلك المؤسسات من ناحية، ومن ناحية أخري تكون تلك الأفراد هي اليد التنفيذية لأي حراك قد تقوم به تلك الحركات للسيطرة على الحكم.
تجارب ونماذج:
فعلي سبيل المثال من يقرأ في التجربة السودانية الإسلامية التي نجحت وسيطرت على الحكم عام 1989م، عن طريق انقلاب عسكري قام به الضباط المنتمون للحركة الإسلامية، يرى أنه قبل سنوات من تنفيذ هذا الانقلاب كانت الجماعة تعد نفسها لمثل ذلك الأمر.
في يونيو 1969 قام العقيد أركان حرب جعفر النميري بانقلاب عسكري بالتحالف مع قيادات الحزب الشيوعي، وقبض على رئيس الجمهورية في ذلك الوقت "إسماعيل الأزهري" وأسس حزب "الاتحاد الاشتراكي السوداني" كحزب وحيد في البلاد.
في هذه الفترة كان زعيم الحركة الإسلامية في السودان هو حسن الترابي، الذي كان يؤمن بالتغيير البطيء، فأقنع الإسلاميين بإدخال أبنائهم في المؤسسات العسكرية الجيش والشرطة، وقبل الانقلاب بعامين، وتحديدًا عام 1967، تخرج في الكلية الحربية دفعة جديدة، كان من بين طلابها عمر حسن أحمد البشير، البالغ من العمر 27 عامًا، وكان من طليعة الشباب الذين تخرجوا من شباب الإسلاميين. [1]
استمر النميري في الحكم حتى عام 1985، وبينما كان في رحلة إلى الخارج اندلعت احتجاجات شعبية، قادها الإسلاميون بمختلف أحزابهم بالتعاون مع اليساريين، ضد حكمه العسكري. نُفي النميري، وتولي المجلس العسكري بقيادة عبدالرحمن سوار الذهب إدارة المشهد السياسي خلال فترة انتقالية استمرت لمدة عام كامل، إلى أن وصل الحكم أول رئيس مدني اسمه أحمد المرغني.
عد تهميش الإسلاميين في عهد أحمد المرغني من أسباب غضب الحركة الإسلامية من نظام حكمه وخطّط الإسلاميون في تلك اللحظة للانقلاب على حكومة "المرغني" بدقة متناهية، وكان قد تخرج في الكليات العسكرية نحو 150 برتب عسكرية متفاوتة، موزعون على مناصب مختلفة في الجيش، وكان أعلاهم رتبة العقيد الركن آنذاك عمر البشير. جاء يوم 29 من يونيو 1989، واستدعي رجال "الجبهة القومية الإسلامية" داخل الجيش، واختير "البشير "لقراءة البيان الأول للانقلاب.
الحركة الإسلامية في السودان لم تقم بمثل هذا الأمر الخطير والذي عند فشله يكون مشنقة ومحرقة ونهاية لمرتكبيه، إلا بعد توغلها في المؤسسة العسكرية نحو ما يقرب من 20 عام، فكان لها أفرادها في تلك المؤسسة التي يرتكز عليها أي انقلاب عسكري ومن يستطيع أن يخترقها بخطة محكمة مدروسة يستطيع أن يوصل لمبتغاه.
جدير بالذكر أن البعض كان يرى أن المفكر سيد قطب كانت له رؤية مطابقة لمثل ذلك الأمر، والبعض فهم من كلام "قطب" أن تنظيم 65 والذي بسببه حكم على سيد قطب بالإعدام هو ومجموعة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بزعم محاولة إحياء التنظيم الخاص كان من ضمن أهدافه انخراط أفراد التنظيم داخل الجيش لإحداث التغيير المأمول. نص الاتهام في أوراق القضية رقم 12 لسنة 1965م على ما يلي: "المتهمون في الفترة من سنة 1959 حتى آخر سبتمبر 1965 بالجمهورية العربية المتحدة وبالخارج حاولوا تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة فيها بالقوة، بأن ألفوا من بينهم وآخرين تجمعًا حركيًا وتنظيمًا سريًا مسلحًا لحزب الإخوان المسلمين المنحل يهدف إلى تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باغتيال السيد رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم في البلاد وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة في البلاد".[2]
كارم الأناضولي وهو الطالب المسؤول عن الطلاب العسكريين في تنظيم الفنية العسكرية عام 1974م، عدّ موت سيد هو وقود النضال له ولأصدقائه العسكريين ، وأعلن ذلك صراحة في مرافعته أمام المحكمة والمنشورة بصوته: "فإن هذه القضية التي أنا متهم فيها الآن ليست قضية "الفنية العسكرية" ولا قضية "صالح سرية"، ولكنها في حقيقة الأمر هي نفس قضية حسن البنا، هي بعينها قضية يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة ومحمد هواش وعبد الفتاح إسماعيل، ويكفي أن نقول: إنه ما كان مقتل سيد قطب إعدامًا كما صوروه وأرادوه بقدر ما كان بعثًا للإسلام والمسلمين، وما هذا الشباب المتعطش للإسلام اليوم في الجامعات إلا بشائر هذا البعث، وإن أخانا سيد هو الرجل الذي قُتل لئلا يُعبد في الأرض إلا الله".[3]
وبالعودة إلى المرافعات المسجلة صوتيًا في أحداث تنظيم الكلية الفنية العسكرية، نجد كلمات سيد قطب حاضرة في كلمات المتهمين على الدوام، فبحسب شهادة أيمن الظواهري، حين طلبت زوجة صالح سرية (المُنظر للتنظيم) أن يقدم طلب عفو إلى السادات، تمثل سرية مقولة قطب الشهيرة "إن السبابة التي ترتفع لهامات السماء موحدة بالله عز وجل لتأبى أن تكتب برقية تأييد لطاغية ولنظام مخالف لمنهج الله الذي شرعه لعباده".
جدير بالإشارة أن طلال الأنصاري وهو أحد أعضاء تنظيم الفنية العسكرية، قال إن الشيخ محمد بسيوني كان يشجع الشباب على الالتحاق بالكليات العسكرية، وأضاف أنه بالفعل التحقت مجموعة من الشباب بالكليات العسكرية.[4]
تنظيم الفنية العسكرية كان يقوده صالح سرية، وذلك التنظيم كان يهدف بالأساس إلى تغيير نظام الحكم في مصر عن طريق الانقلاب العسكري، كان من أولى اهتمامات صالح سرية توصيل أفكاره لبعض الطلاب المنتمين للكليات العسكرية حتى يكونوا الأداة التنفيذية فيما بعد لمخطط التنظيم، ونجح سرية بالفعل في توصيل أفكاره لبعض من طلبة الكلية الفنية العسكرية ثم انضم إليه بعض طلاب الكلية الجوية.[5] وحاولوا أن يغتالوا السادات مرتين ولكن لم ينجحوا وقُبض عليهم ومحاكمتهم.
أيضاً الجماعة الإسلامية عند تخطيطها لاغتيال السادات عام 1981م، ركزت على أفرادها الموجودين داخل الجيش لتنفيذ مخططهم الذي نجحوا في تحقيقه. فمن نفذوا عملية مقتل السادات هم مجموعة من الضباط يحملون الفكر الإسلامي وهم خالد الإسلامبولي وهو المنفذ الرئيسي للعملية فقد كان ضابطاً بالجيش المصري "أُعدم"، وعبود الزمر كان أيضاً ضابطاً بالمخابرات الحربية وشارك في تنفيذ وتخطيط العملية، وحسين عباس "أعدم" كان رقيبًا متطوعًا بالقوات المسلحة بالدفاع الشعبي وهو قناص بارع.[6] كذلك عطا طايل حميدة رميح "أعدم" كان ملازمًا أول مهندس احتياط.[7]
وعند النظر لمحاولة الانقلاب الفاشل الذي حاولت أن تقوم به جماعة فتح الله جولن كما أعلنت الدولة التركية في 15 يوليو 2016م، كان يرتكز هذا الانقلاب على الأفراد المنتمين لذلك التنظيم داخل الجيش وجهاز الشرطة والقضاء، والذي ظل تنظيم جولن يلحق أفراده داخل تلك المؤسسات على مدار عشرات السنين، حتى يستعين به في الوقت اللازم، وبناءً على ما يراه البعض فإن تنظيم جولن يسعى للسيطرة على الحكم وهذا هو مخططه ومبتغاه، لذلك كان يدمج أفراده داخل أجهزة الدولة، ليكونوا اليد التنفيذية لمخطط التنظيم عند ساعة الصفر.[8]
ماذا إذاً:
إن الحركات الإسلامية في مصر بمختلف أسمائها كانت طيلة الثلاثين عام الماضية تحذر أفرادها من الانتماء إلى المؤسسة العسكرية أو الشرطية في مصر بدعوى الخوف عليهم من الغرق في امتيازات تلك المؤسسات، وبذلك يبعدوا عن أفكار وتوجهات تلك الجماعات التي تقوم بغرسها لأفرادها منذ الصغر. تخوف من وجهة نظري ضرره أكبر من نفعه، إن تلك الجماعات من المفترض أنها جماعات تدعو إلى التغيير والإصلاح كما تصف أنفسها، فكيف تتقوقع على نفسها وأفرادها وتنزوي في ركن شديد وتقوم بالدعوة وإصلاح وتغيير مؤسسات الدولة؟
إن من مقتضيات وموجبات التغيير للجماعات والحركات التي تسعى وتعمل لمثل ذلك الأمر، أن تدعو أفرادها لكي تندمج في مثل هذه المؤسسات، والتي بالابتعاد عنها وعدم وجود أفراد تحمل فكر وإيديولوجيا تلك الجماعات بداخلها لن تنجح أي حركة تغيير.
وأخيرًا هناك أهداف مختلفة تدفع الأفراد للالتحاق بالكليات العسكرية، فكل طالب يُقدم كي يلتحق بالكليات العسكرية يكون له هدف من وراء ذلك؛ فمثلاً البعض كان يرى أن إسرائيل هي العدو الأساسي للجيش المصري فينضم للجيش كي يواجه ذلك العدو، ومنهم من يلتحق من أجل الحصول على الامتيازات الخاصة التي يتحصل عليها ضباط الجيش، ومنهم من يلتحق وله تصور معين عن المؤسسة العسكرية ومباشرة بعد الالتحاق يرى أن تصوره كان خاطئاً ويحاول تصحيح المسار بطرق مختلفة. ولعل الضباط الذين ضحوا حديثًا بكل الامتيازات العسكرية من أجل تصحيح مسار المؤسسة التي من وجهة نظرهم حادت عن الطريق الصحيح بغض النظر عن صحة أو خطاً النموذج الذين اتخذوه في تصحيح مسار المؤسسة -خير مثال.

________________________________________
[1] عمر البشير.. رئيس الصدفة الذي وضعته العمامة الدينية في الحكم 30 عامًا، نون بوست، الرابط
[2] بالفيديو| "تنظيم 65".. تهمة وضعت حبل المشنقة حول رقبة "قطب"، الوطن، الرابط
[3] بعد القبض على "عشماوي".. لماذا كان الجيش المصري مصدرا لأخطر الجهاديين؟، ميدان، الرابط
[4] الشهادة العكسية لطلال الأنصاري، المصريون، الرابط
[5] تنظيم “شباب محمد” أو “الفنية العسكرية”، بوابة الشروق، تاريخ النشر 25 سبتمبر 2018م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط
[6] اغتيال السادات : القصة الكاملة لاغتيال الرئيس المصري، الرابط
[7] مجند مصري يروي تفاصيل اعدام قتلة السادات.. سألتهم قبل اعدامهم : هل تدخنون السجائر " صور و فيديو "، الرابط
[8] كيف بدأت محاولة الانقلاب بتركيا وكيف انتهت؟، الجزيرة نت، الرابط
‏٠٨‏/٠٩‏/٢٠١٩ ١١:١٨ م‏
الافتتاحية.. في اصطناع الرجال محمد إلهامي ⚫️ حمّل العدد 26 bit.ly/2Lp1qli ⚫️ هدية العدد bit.ly/32enNRg ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk هذه الافتتاحية ثلاثة أجزاء؛ الأول: قصة من قلب التاريخ عن شخصية لفتت النظر رغم قلة الأخبار المتوفرة عنها، لكن ذكرني بها أمور سأسردها في الجزء الثاني، وفي الجزء الثالث تعقيب على بعض ما ورد للمجلة من رسائل وتعليقات نحسب أنها مهمة. [1] قبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، فمن تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهذا رجلُ سياسة وحرب، واجتماع السياسة والحرب في الرجال قليل، إلا أنه كان في صدر دولة بني العباس فلم يتوهج نجمه بين أهل الثورة الناجحة وأهل الدولة في شروق شمسها، وكيف برجل عاش في زمن أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال وقحطبة بن شبيب الطائي؟! فأولئك كانوا وسيظلون من عظماء الساسة والخلفاء عبر كل التاريخ الإنساني، وإن نقدنا عليهم أمورا وكرهنا منهم أخرى. وفي شذرات الأخبار القليلة التي جاء فيها اسم جعفر بن حنظلة البهراني نرى رجلا حكيما وافر العقل سديد الرأي، بل هو من الكفاءات السياسية التي عملت مع الأمويين ثم مع العباسيين، فهو إذن من عينة أولئك الرجال الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها الذين خلعتهم بعد ثورة كبيرة ساحقة. فإذا لم نكن نعرف عنه غير هذا لكان يكفينا أن نبصر فيها كفاءته النادرة! أول ما نعرفه من أخبار جعفر أنه كان من قيادات الجيوش التي فتحت وسط آسيا ومناطق الشعوب التركية، في زمن الأمويين، إذ ينقل الطبري قيادته لكتيبة حمص في جيش أسد القسري (والي خراسان) ثم قيادته لكتائب المتطوعين في ذات هذه الحرب في عام (119هـ)، ثم تولى جعفرٌ خراسان أربعة أشهر في فترة انتقالية بين وفاة واليها أسد القسري وإلى أن واليها الجديد والأخير في دولة بني أمية نصر بن سيار (120هـ)، وقاد غزوة ضد الروم (139هـ)، وقاد غزوة أخرى (146هـ)، وهاتين في زمن العباسيين. ولكن جاء وصف شارد عند الطبري بأن جعفرًا هذا هو "أعلم الناس بالحرب، وأنه شهد مع مروان حروبه"، وأغلب الظن أن مروان المقصود هنا هو مروان بن محمد، وحروبه هذه إنما يقصد بها حروبه في أرمينية حيث كان مروان واليا قبل أن يلي الخلافة. ولو ثبت هذا فإن جعفرا كان متمرسا بالحروب وكان بين جبهتي الترك والأرمن في خراسان وما وراء النهر وفي جبال أرمينية! وتفيد مجمل أخباره مع المنصور أنه كان من المقربين إليه في الأمور الخطيرة، فحين قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني كان صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني من أول من علموا بالخبر ودخلوا عليه بعد قتله، فقال للمنصور: "عدّ خلافتك مذ اليوم"، وكان الأمر كما قال، إذ لم يستتب أمر المنصور ولا استقرت الدولة لبني العباس إلا بعد ذهاب أبي مسلم الذي كان أخطر مركز نفوذ يستطيع أن يتحدى الخليفة نفسه، ولو لم يستطع المنصور الخلاص من أبي مسلم لضرب الانقسام الدولة الإسلامية والخلافة العباسية منذ أيامها الأولى. وقد اشتعلت ضد المنصور ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وهي واحدة من الثورات العلوية ضد العباسيين، وكان التخطيط أن تعلن الثورة في المدينة على يد محمد، وفي البصرة على يد إبراهيم في نفس الليلة فيقع الارتباك والتشتت لدى المنصور، إلا أن خلافا في التقدير جعل محمدا يثور قبل الموعد المتفق عليه، وجاءت ثورته في ليلة كان إبراهيم فيها مريضا بالبصرة، فأعلنت الثورة من المدينة وحدها، وكان هذا من جملة أسباب إخفاقها. لكن الذي يهمنا هنا هو أن صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني تظهر له ثلاثة أخبار في هذه الثورة: أولها أنه بمجرد ظهور محمد في المدينة نصح المنصور أن يوجه الجيش إلى البصرة ويهتم بها الاهتمام الأكبر، لكن أبا جعفر أعرض عن هذا الرأي، فلما فوجئ بثورة إبراهيم تشتعل في البصرة وتتمدد تمددا خطيرا يكاد أن يصل إلى الكوفة استدعى جعفر بن حنظلة البهراني وسأله كيف استطاع أن يتوقع هذا؟ فقال جعفر مقالته التي تدل على خبرته بالبلدان وطبائع أهلها ووزنها الجيوسياسي (بالمصطلح المعاصر)، قال: "لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة". وتذكر رواية أخرى أن المنصور سأله حين وصله خبر ثورة محمد فقال له: "يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل"، وكانت هذه هي أساس الخطة التي اتبعها المنصور في مواجهة ثورة محمد. وثانيها: أنه خرج في قادة إخماد هذه الثورة، وهذا دليل كفاءة وثقة من المنصور فيه، فقد اجتمع له الحرب والرأي. وثالثها: أنه لما عاد بخبر هزيمة إبراهيم بن الحسن وإخماد الثورة، كان الناس يدخلون على المنصور فيهنئونه بهذا النصر، ويأخذون في سب محمد وإبراهيم كما يفعل أعوان السلطان على عادتهم، فلما دخل جعفر على المنصور قال مقالته التي تنم عن شرف العربي ورفعة أخلاقه حتى في حال الخصومة، قال: "أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك"، فَسُرَّ بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد مرحباً وأهلاً ها هنا (أي أجلسه قريبا منه)، فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله. وهذا درسٌ في أخلاق السياسة حتى مع الحرب والخصومة نحتاج أن نتذكره في زمن صار الخلاف فيه مبيحا للطعن في الأعراض وانتهاك الحرمات والتفنن في الكذب والتحقير. ويروي البيهقي في "المحاسن والمساوئ" أن صاحبنا جعفرًا كان صاحب النصيحة الشهيرة عن المقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك ومصائر أولادهما، وأنه نصحها للمنصور قائلا: "يا أمير المؤمنين أدركت عمر بن عبد العزيز سنتين، لم يتخذ مالاً ولم ينشيء عيناً، ولم يستخرج أرضاً، ولم يضع لبنة على لبنة، ولا أُحصي كم من ولده تحمل الحمالات، وحمل على الخيل، وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع". هذه أخبارٌ تعد على أصابع اليد الواحدة عن رجل واحد، إلا أنها تدل على مبلغ كفاءته في الحرب والسياسة معا، وليس المقصود من هذا المقال إلا لفت الانتباه إلى ضخامة عدد المجهولين وأخبارهم في تراثنا، وأن أخبار كثير منهم مطمورة مغمورة تحتاج من يستخرجها. [2] ما سبق كانت هي القصة.. فما سبب إيرادها هنا؟ السبب كان تقريرا قرأته قبل مدة يبحث في إنتاج المراكز البحثية الغربية عن سبل الانتصار على حركات الجهاد والمقاومة الإسلامية، وقد رصد هذا التقرير اتجاها عاما في المراكز الغربية يتلخص في: ضرورة الفصل بين هذه الحركات وبين حواضنها الشعبية، إذ ستظل هذه الحركات دائمة التجدد مهما أبيد بعضها وأخمد بعضها طالما أن الإسلام يمثل عقيدة قتالية تعتنقه الشعوب المسلمة، وهو ما سيوفر دائما مددا من المجاهدين والمقاتلين إما لرفد الحركات القائمة أو لإنبات حركات جديدة. [راجع: https://goo.gl/Fc4nZS] ومن ثَمَّ فلا بد من نشر وترويج نسخة جديدة من الإسلام في هذه المجتمعات المسلمة، ومن ضرورات هذه النسخة أن ينطق بها مسلمون مخلصون، إذ لو نطق بها الغربيون أو حتى العلماء الرسميون التابعون للسلطة فلن يمنحها هذا المصداقية اللازمة لانتشارها في المجتمعات الإسلامية.. وهكذا فلا بد من البحث عن البديل المناسب الذي لا بد أن يكون من داخل المجتمعات المسلمة، ويمثل نمطا طبيعيا فيها ليجري دعمه والترويج له بدون فجاجة ليسود خطابه المنافر لحركات الجهاد والمقاومة فتنقطع الأمة عن إمداد هذه الحركات فيسهل إخمادها وإبادتها بلا رجعة. بحسب التقرير تنحصر هذه البدائل في خمسة رئيسية، لكل طيف من المراكز البحثية الغربية واحد تميل إليه، وهم: الإسلام الرسمي التابع للسلطة، الطرق الصوفية، السلفية الدعوية (العلمية)، الحركات السياسية (الإخوان المسلمون). يعرف الباحثون الغربيون الذين اقترحوا هذه البدائل أن كلا منها قد يتحول إلى خطر بنفسه إذا جرى دعمه، وربما يشب عن الطوق، فحتى الأزهر الذي يمثل السلطة الرسمية يُخشى منه دعمه أن تتجدد زعامته المشيخية ودوره التاريخي القديم في مكافحة الاحتلال، وكذا الطرق الصوفية التي لها تاريخ عريق في الجهاد لا سيما في الشمال الإفريقي والعراق وتركيا والجناح الشرقي للعالم الإسلامي، وكذا السلفية العلمية التي تحتضن أصولها الفصل الواضح بين المسلمين وغيرهم وبين دار الإسلام ودار الكفر والتي تعد أضعف الاتجاهات الإسلامية في تقبل الحداثة، وكذلك الإخوان المسلمون الذين يمثلون خطرا قويا وهم الذين أفرزوا حركة مثل حماس ورجلا مثل أردوغان وكادوا أن يحققوا تحولا خطيرا بمصر! المضحك المبكي أن ما يعرفه هؤلاء الباحثون ويحذرون منه لا يعرفه أبناء التيار الإسلامي نفسه الذين يسود بينهم سوء الظن بعضهم في بعض، وتختزن عقول كل طائفة منهم قائمة طويلة من جنايات وإساءات وخيانات وأخطاء وجرائم الطائفة الأخرى!! الواقع أن هذه الخنادق والفوارق الواسعة من التباغض وسوء الظن هي التي دفعت أولئك الغربيين (الذين يكرهوننا جميعا ويحاربوننا جميعا) لأن يتوقعوا أن يكون بعض الإسلاميين بديلا عن بعضهم الآخر، بل وأن يكونوا ذراعا لضرب البعض الآخر، ويبدأ عملهم في التفريق والتوظيف، بينما هم يطمحون إلى غاية تدمير الجميع ونشر الكفر التام بين المسلمين. نحن نعلم بيقين، ومن واقع ما عايشناه وشاهدناه، أن في كل هذه البدائل أناسا مخلصين للإسلام إخلاصا لا سبيل للشك فيه، مجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم، باذلين له من أوقاتهم وأعمارهم ودموعهم ودمائهم، بل في كل أولئك أناس مستجابو الدعوة يُستعان بهم في الشدائد، فضلا عن أن في كل أولئك كفاءات علمية وشرعية ودعوية وإدارية وسياسية وعسكرية وغير ذلك. فلماذا ينبغي أن يكون بعض أولئك بديلا لبعضهم الآخر، ولا يكن بعضهم لبعض مكملا وسادًّا للفجوات والثغور والاحتياجات الملحة؟ نعم بين هذه الأطياف من المشكلات الفكرية والتاريخية بل والاختلافات العقدية ما هو معروف، وليس مطلوبا الآن التفتيش في هذه الأمور، بل المطلوب هو التعاون في ظل هذه النوازل الكاسحة التي تريد استئصال الإسلام كله. لئن وُجِد في الكفار الأصليين من يعرف الفوارق بين الاتجاهات الإسلامية إلى الحد الذي يريد فيه ويعمل على توظيف بعضهم ضد بعض، أفلا ينبغي أن يكون في العاملين للإسلام من المنصفين وأهل العدل والحلم والروِّية من يستثمر في العلاقة مع الأطياف الأخرى لسد النقص وملء الاحتياج وجبر الكسر؟! فإذا لم يكن هذا موجودا ولا محتملا فأضعف الإيمان أن تكون العلاقة بين الإسلاميين بالقدر الذي يتعطل معها توظيف بعضهم ضد بعض، لئن لم يكونوا معنا ولم يكونوا إلى جوارنا فليكونوا محايدين ولا يكونوا في المعسكر الآخر! ويجدر أن نتعلم هذا أول ما نتعمله من نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فقد جعل الوليد بن الوليد يراسل أخاه خالدا ويعده ويمنيه بأن رسول الله يعرف له حقه وما مثل خالد يجهل الإسلام، هذا وخالد هو صاحب الهزيمة القوية في أحد والتهديد الخطير في الحديبية. بل وفي اللحظة الأخيرة أعطى رسول الله لأبي سفيان شيئا لنفسه لأنه رجل يحب الفخر فذهب هذا مفتخرا ينادي "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وأبو سفيان قبل هذه اللحظة رأس العداوة للإسلام وللنبي.. والمواقف كثيرة وليس يجهلها الإسلاميون ففي كل منهم علماء وفقهاء وشرعيون. ثم لنتعلمه من تاريخنا، وهذه القصة التي سقتها عن جعفر بن حنظلة البهراني مجرد واحدة من كثير، بل إن قصص العفو عن الخصوم واصطناعهم لهي حديث طويل تزخر به كتب التاريخ وكتب آداب المجالس وكتب الحلم والأمثال. فإن لم يسعف هذا فلنتعلمه من أعدائنا، ولعمري إن العكوف على مذكرات الساسة البريطانيين وحدها، لتأتينا بثروة هائلة من حسن سياستهم في تدبير شأن القبائل ومعرفة الحق لرؤوسها، واصطناعهم لشيوخها ورجالها، مهما كانت بينهم وبين الإنجليز معارك طاحنة، وبهذه السياسة التي مهما كرهناها منهم فلا نملك إلا الإعجاب بها وبأنها وفرت عليهم أنهارا من دماء وبحارا من أموال وصنعت لهم نفوذا لا زلنا نصارعه ونكابده. وقد فعلوا هذا كثيرا بعد انتصارهم وتمكنهم، وبه كسبوا أوضاعا جديدة وانتزعوا فتيل ثورات كان يمكنها أن تطيح بهم وتسبب لهم إزعاجا شديدا. ولو أن لي من الأمر شيئا لخصصت مركزا بحثيا ينفق عليه من أموال الإسلاميين لتحليل مذكرات الساسة الأجانب فحسب في مراحل تاريخنا المختلفة فإن فيها دروسا عظيمة عظيمة، وما على الرجل أن يتعلم من عدوه إذا أحسن عدوه الإنجاز! [3] بقي أمرٌ أخير يحملنا على ذكره بعض التعليقات التي جاءتنا على بعض المقالات التي نشرت في المجلة، والتي ترى أن المجلة تتخذ موقفا معينا من فصيل في ثورة الشام المباركة، وقد جاءتنا تعليقات متعاكسة، فبعضها يرى أننا نأخذ موقفا مادحا من فصيل ما وبعضها يرى أننا نأخذ موقفا قادحا من الفصيل نفسه. ولتوضيح هذا الأمر، نقول: 1. قولا واحدا وقاطعا ليس للمجلة موقف أو انحياز لأحد الفصائل أو الفرق أو الجماعات لا في داخل الشام ولا في خارجه، ويشهد الله أن المجلة فكرة ذاتية من العبد الفقير، ومن معه من الأصدقاء ممن يقومون بشأن المجلة لا ينتمون لحزب ولا لجماعة ولا لطائفة. 2. المجلة تفتح أبوابها لاستقبال المقالات من الجميع، وتجري مراجعة المقال على قاعدة: هل هو نافع أم لا؟ فإذا ترجح ذلك نُشِر وإن لم نوافق على كل ما فيه، ونحن حريصون –كما ذكرنا ذلك مرارا- أن تكون مادة المجلة نافعة للعاملين.. فليست تهتم لا بالثناء على أحد ولا بالقدح في أحد.. وإن كان المدح والقدح يجريان بالضرورة في نقاش أية قضية، فكيف بمناقشة القضايا العويصة في زمن الاستضعاف وفي خضم الفتن التي تجعل الحليم حيرانا؟! 3. والمعنى المباشر لما سبق أن المجلة تستقبل المقالات من أفراد تختلف آراؤهم وتوجهاتهم، وكل هذا مرحب به، بل نحن حريصون عليه.. لكننا في ذات الوقت نحرص أيضا ألا تكون المجلة سجالات بين أطراف مختلفة، وألا تتحول إلى مجرد ساحة فكرية لتبادل الردود والاتهامات. فالأصل الذي يقاس عليه كما نكرر: هل المقال نافع أم لا؟ 4. وكل الأمور التقديرية عرضة للصواب والخطأ، فإنما نحن بشر، ولربما أخطأنا التقدير فنشرنا ما حقه الحجب، أو حجبنا ما حقه النشر، وإنما هذا مبلغ اجتهادنا.. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
الافتتاحية.. في اصطناع الرجال
محمد إلهامي

⚫️ حمّل العدد 26
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

هذه الافتتاحية ثلاثة أجزاء؛ الأول: قصة من قلب التاريخ عن شخصية لفتت النظر رغم قلة الأخبار المتوفرة عنها، لكن ذكرني بها أمور سأسردها في الجزء الثاني، وفي الجزء الثالث تعقيب على بعض ما ورد للمجلة من رسائل وتعليقات نحسب أنها مهمة.

[1]

قبل نحو سبع سنين، وبينما أعدّ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" (3 مجلدات) سجلت على هامش الأوراق العديد من الأسماء التي تغري بمزيد من البحث عنها، فمن تلك الأسماء جعفر بن حنظلة البهراني، وهذا رجلُ سياسة وحرب، واجتماع السياسة والحرب في الرجال قليل، إلا أنه كان في صدر دولة بني العباس فلم يتوهج نجمه بين أهل الثورة الناجحة وأهل الدولة في شروق شمسها، وكيف برجل عاش في زمن أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال وقحطبة بن شبيب الطائي؟! فأولئك كانوا وسيظلون من عظماء الساسة والخلفاء عبر كل التاريخ الإنساني، وإن نقدنا عليهم أمورا وكرهنا منهم أخرى.

وفي شذرات الأخبار القليلة التي جاء فيها اسم جعفر بن حنظلة البهراني نرى رجلا حكيما وافر العقل سديد الرأي، بل هو من الكفاءات السياسية التي عملت مع الأمويين ثم مع العباسيين، فهو إذن من عينة أولئك الرجال الأكفاء الذين لا تستغني عنهم السلطة وإن وجدتهم في أروقة قصور أعدائها الذين خلعتهم بعد ثورة كبيرة ساحقة. فإذا لم نكن نعرف عنه غير هذا لكان يكفينا أن نبصر فيها كفاءته النادرة!

أول ما نعرفه من أخبار جعفر أنه كان من قيادات الجيوش التي فتحت وسط آسيا ومناطق الشعوب التركية، في زمن الأمويين، إذ ينقل الطبري قيادته لكتيبة حمص في جيش أسد القسري (والي خراسان) ثم قيادته لكتائب المتطوعين في ذات هذه الحرب في عام (119هـ)، ثم تولى جعفرٌ خراسان أربعة أشهر في فترة انتقالية بين وفاة واليها أسد القسري وإلى أن واليها الجديد والأخير في دولة بني أمية نصر بن سيار (120هـ)، وقاد غزوة ضد الروم (139هـ)، وقاد غزوة أخرى (146هـ)، وهاتين في زمن العباسيين.

ولكن جاء وصف شارد عند الطبري بأن جعفرًا هذا هو "أعلم الناس بالحرب، وأنه شهد مع مروان حروبه"، وأغلب الظن أن مروان المقصود هنا هو مروان بن محمد، وحروبه هذه إنما يقصد بها حروبه في أرمينية حيث كان مروان واليا قبل أن يلي الخلافة. ولو ثبت هذا فإن جعفرا كان متمرسا بالحروب وكان بين جبهتي الترك والأرمن في خراسان وما وراء النهر وفي جبال أرمينية!

وتفيد مجمل أخباره مع المنصور أنه كان من المقربين إليه في الأمور الخطيرة، فحين قتل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني كان صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني من أول من علموا بالخبر ودخلوا عليه بعد قتله، فقال للمنصور: "عدّ خلافتك مذ اليوم"، وكان الأمر كما قال، إذ لم يستتب أمر المنصور ولا استقرت الدولة لبني العباس إلا بعد ذهاب أبي مسلم الذي كان أخطر مركز نفوذ يستطيع أن يتحدى الخليفة نفسه، ولو لم يستطع المنصور الخلاص من أبي مسلم لضرب الانقسام الدولة الإسلامية والخلافة العباسية منذ أيامها الأولى.

وقد اشتعلت ضد المنصور ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وهي واحدة من الثورات العلوية ضد العباسيين، وكان التخطيط أن تعلن الثورة في المدينة على يد محمد، وفي البصرة على يد إبراهيم في نفس الليلة فيقع الارتباك والتشتت لدى المنصور، إلا أن خلافا في التقدير جعل محمدا يثور قبل الموعد المتفق عليه، وجاءت ثورته في ليلة كان إبراهيم فيها مريضا بالبصرة، فأعلنت الثورة من المدينة وحدها، وكان هذا من جملة أسباب إخفاقها. لكن الذي يهمنا هنا هو أن صاحبنا جعفر بن حنظلة البهراني تظهر له ثلاثة أخبار في هذه الثورة:

أولها أنه بمجرد ظهور محمد في المدينة نصح المنصور أن يوجه الجيش إلى البصرة ويهتم بها الاهتمام الأكبر، لكن أبا جعفر أعرض عن هذا الرأي، فلما فوجئ بثورة إبراهيم تشتعل في البصرة وتتمدد تمددا خطيرا يكاد أن يصل إلى الكوفة استدعى جعفر بن حنظلة البهراني وسأله كيف استطاع أن يتوقع هذا؟ فقال جعفر مقالته التي تدل على خبرته بالبلدان وطبائع أهلها ووزنها الجيوسياسي (بالمصطلح المعاصر)، قال: "لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة". وتذكر رواية أخرى أن المنصور سأله حين وصله خبر ثورة محمد فقال له: "يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع، ابعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى، فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل"، وكانت هذه هي أساس الخطة التي اتبعها المنصور في مواجهة ثورة محمد.

وثانيها: أنه خرج في قادة إخماد هذه الثورة، وهذا دليل كفاءة وثقة من المنصور فيه، فقد اجتمع له الحرب والرأي.

وثالثها: أنه لما عاد بخبر هزيمة إبراهيم بن الحسن وإخماد الثورة، كان الناس يدخلون على المنصور فيهنئونه بهذا النصر، ويأخذون في سب محمد وإبراهيم كما يفعل أعوان السلطان على عادتهم، فلما دخل جعفر على المنصور قال مقالته التي تنم عن شرف العربي ورفعة أخلاقه حتى في حال الخصومة، قال: "أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك"، فَسُرَّ بذلك أبو جعفر وقال: أبا خالد مرحباً وأهلاً ها هنا (أي أجلسه قريبا منه)، فعلم الناس أنه قد سرته مقالته فقالوا مثل قوله. وهذا درسٌ في أخلاق السياسة حتى مع الحرب والخصومة نحتاج أن نتذكره في زمن صار الخلاف فيه مبيحا للطعن في الأعراض وانتهاك الحرمات والتفنن في الكذب والتحقير.

ويروي البيهقي في "المحاسن والمساوئ" أن صاحبنا جعفرًا كان صاحب النصيحة الشهيرة عن المقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك ومصائر أولادهما، وأنه نصحها للمنصور قائلا: "يا أمير المؤمنين أدركت عمر بن عبد العزيز سنتين، لم يتخذ مالاً ولم ينشيء عيناً، ولم يستخرج أرضاً، ولم يضع لبنة على لبنة، ولا أُحصي كم من ولده تحمل الحمالات، وحمل على الخيل، وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع".

هذه أخبارٌ تعد على أصابع اليد الواحدة عن رجل واحد، إلا أنها تدل على مبلغ كفاءته في الحرب والسياسة معا، وليس المقصود من هذا المقال إلا لفت الانتباه إلى ضخامة عدد المجهولين وأخبارهم في تراثنا، وأن أخبار كثير منهم مطمورة مغمورة تحتاج من يستخرجها.

[2]

ما سبق كانت هي القصة.. فما سبب إيرادها هنا؟

السبب كان تقريرا قرأته قبل مدة يبحث في إنتاج المراكز البحثية الغربية عن سبل الانتصار على حركات الجهاد والمقاومة الإسلامية، وقد رصد هذا التقرير اتجاها عاما في المراكز الغربية يتلخص في: ضرورة الفصل بين هذه الحركات وبين حواضنها الشعبية، إذ ستظل هذه الحركات دائمة التجدد مهما أبيد بعضها وأخمد بعضها طالما أن الإسلام يمثل عقيدة قتالية تعتنقه الشعوب المسلمة، وهو ما سيوفر دائما مددا من المجاهدين والمقاتلين إما لرفد الحركات القائمة أو لإنبات حركات جديدة. [راجع:
https://goo.gl/Fc4nZS]

ومن ثَمَّ فلا بد من نشر وترويج نسخة جديدة من الإسلام في هذه المجتمعات المسلمة، ومن ضرورات هذه النسخة أن ينطق بها مسلمون مخلصون، إذ لو نطق بها الغربيون أو حتى العلماء الرسميون التابعون للسلطة فلن يمنحها هذا المصداقية اللازمة لانتشارها في المجتمعات الإسلامية.. وهكذا فلا بد من البحث عن البديل المناسب الذي لا بد أن يكون من داخل المجتمعات المسلمة، ويمثل نمطا طبيعيا فيها ليجري دعمه والترويج له بدون فجاجة ليسود خطابه المنافر لحركات الجهاد والمقاومة فتنقطع الأمة عن إمداد هذه الحركات فيسهل إخمادها وإبادتها بلا رجعة.

بحسب التقرير تنحصر هذه البدائل في خمسة رئيسية، لكل طيف من المراكز البحثية الغربية واحد تميل إليه، وهم: الإسلام الرسمي التابع للسلطة، الطرق الصوفية، السلفية الدعوية (العلمية)، الحركات السياسية (الإخوان المسلمون).

يعرف الباحثون الغربيون الذين اقترحوا هذه البدائل أن كلا منها قد يتحول إلى خطر بنفسه إذا جرى دعمه، وربما يشب عن الطوق، فحتى الأزهر الذي يمثل السلطة الرسمية يُخشى منه دعمه أن تتجدد زعامته المشيخية ودوره التاريخي القديم في مكافحة الاحتلال، وكذا الطرق الصوفية التي لها تاريخ عريق في الجهاد لا سيما في الشمال الإفريقي والعراق وتركيا والجناح الشرقي للعالم الإسلامي، وكذا السلفية العلمية التي تحتضن أصولها الفصل الواضح بين المسلمين وغيرهم وبين دار الإسلام ودار الكفر والتي تعد أضعف الاتجاهات الإسلامية في تقبل الحداثة، وكذلك الإخوان المسلمون الذين يمثلون خطرا قويا وهم الذين أفرزوا حركة مثل حماس ورجلا مثل أردوغان وكادوا أن يحققوا تحولا خطيرا بمصر!

المضحك المبكي أن ما يعرفه هؤلاء الباحثون ويحذرون منه لا يعرفه أبناء التيار الإسلامي نفسه الذين يسود بينهم سوء الظن بعضهم في بعض، وتختزن عقول كل طائفة منهم قائمة طويلة من جنايات وإساءات وخيانات وأخطاء وجرائم الطائفة الأخرى!!
الواقع أن هذه الخنادق والفوارق الواسعة من التباغض وسوء الظن هي التي دفعت أولئك الغربيين (الذين يكرهوننا جميعا ويحاربوننا جميعا) لأن يتوقعوا أن يكون بعض الإسلاميين بديلا عن بعضهم الآخر، بل وأن يكونوا ذراعا لضرب البعض الآخر، ويبدأ عملهم في التفريق والتوظيف، بينما هم يطمحون إلى غاية تدمير الجميع ونشر الكفر التام بين المسلمين.

نحن نعلم بيقين، ومن واقع ما عايشناه وشاهدناه، أن في كل هذه البدائل أناسا مخلصين للإسلام إخلاصا لا سبيل للشك فيه، مجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم، باذلين له من أوقاتهم وأعمارهم ودموعهم ودمائهم، بل في كل أولئك أناس مستجابو الدعوة يُستعان بهم في الشدائد، فضلا عن أن في كل أولئك كفاءات علمية وشرعية ودعوية وإدارية وسياسية وعسكرية وغير ذلك.

فلماذا ينبغي أن يكون بعض أولئك بديلا لبعضهم الآخر، ولا يكن بعضهم لبعض مكملا وسادًّا للفجوات والثغور والاحتياجات الملحة؟

نعم بين هذه الأطياف من المشكلات الفكرية والتاريخية بل والاختلافات العقدية ما هو معروف، وليس مطلوبا الآن التفتيش في هذه الأمور، بل المطلوب هو التعاون في ظل هذه النوازل الكاسحة التي تريد استئصال الإسلام كله.

لئن وُجِد في الكفار الأصليين من يعرف الفوارق بين الاتجاهات الإسلامية إلى الحد الذي يريد فيه ويعمل على توظيف بعضهم ضد بعض، أفلا ينبغي أن يكون في العاملين للإسلام من المنصفين وأهل العدل والحلم والروِّية من يستثمر في العلاقة مع الأطياف الأخرى لسد النقص وملء الاحتياج وجبر الكسر؟!

فإذا لم يكن هذا موجودا ولا محتملا فأضعف الإيمان أن تكون العلاقة بين الإسلاميين بالقدر الذي يتعطل معها توظيف بعضهم ضد بعض، لئن لم يكونوا معنا ولم يكونوا إلى جوارنا فليكونوا محايدين ولا يكونوا في المعسكر الآخر!

ويجدر أن نتعلم هذا أول ما نتعمله من نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فقد جعل الوليد بن الوليد يراسل أخاه خالدا ويعده ويمنيه بأن رسول الله يعرف له حقه وما مثل خالد يجهل الإسلام، هذا وخالد هو صاحب الهزيمة القوية في أحد والتهديد الخطير في الحديبية. بل وفي اللحظة الأخيرة أعطى رسول الله لأبي سفيان شيئا لنفسه لأنه رجل يحب الفخر فذهب هذا مفتخرا ينادي "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وأبو سفيان قبل هذه اللحظة رأس العداوة للإسلام وللنبي.. والمواقف كثيرة وليس يجهلها الإسلاميون ففي كل منهم علماء وفقهاء وشرعيون.

ثم لنتعلمه من تاريخنا، وهذه القصة التي سقتها عن جعفر بن حنظلة البهراني مجرد واحدة من كثير، بل إن قصص العفو عن الخصوم واصطناعهم لهي حديث طويل تزخر به كتب التاريخ وكتب آداب المجالس وكتب الحلم والأمثال.

فإن لم يسعف هذا فلنتعلمه من أعدائنا، ولعمري إن العكوف على مذكرات الساسة البريطانيين وحدها، لتأتينا بثروة هائلة من حسن سياستهم في تدبير شأن القبائل ومعرفة الحق لرؤوسها، واصطناعهم لشيوخها ورجالها، مهما كانت بينهم وبين الإنجليز معارك طاحنة، وبهذه السياسة التي مهما كرهناها منهم فلا نملك إلا الإعجاب بها وبأنها وفرت عليهم أنهارا من دماء وبحارا من أموال وصنعت لهم نفوذا لا زلنا نصارعه ونكابده. وقد فعلوا هذا كثيرا بعد انتصارهم وتمكنهم، وبه كسبوا أوضاعا جديدة وانتزعوا فتيل ثورات كان يمكنها أن تطيح بهم وتسبب لهم إزعاجا شديدا. ولو أن لي من الأمر شيئا لخصصت مركزا بحثيا ينفق عليه من أموال الإسلاميين لتحليل مذكرات الساسة الأجانب فحسب في مراحل تاريخنا المختلفة فإن فيها دروسا عظيمة عظيمة، وما على الرجل أن يتعلم من عدوه إذا أحسن عدوه الإنجاز!

[3]

بقي أمرٌ أخير يحملنا على ذكره بعض التعليقات التي جاءتنا على بعض المقالات التي نشرت في المجلة، والتي ترى أن المجلة تتخذ موقفا معينا من فصيل في ثورة الشام المباركة، وقد جاءتنا تعليقات متعاكسة، فبعضها يرى أننا نأخذ موقفا مادحا من فصيل ما وبعضها يرى أننا نأخذ موقفا قادحا من الفصيل نفسه.

ولتوضيح هذا الأمر، نقول:
1. قولا واحدا وقاطعا ليس للمجلة موقف أو انحياز لأحد الفصائل أو الفرق أو الجماعات لا في داخل الشام ولا في خارجه، ويشهد الله أن المجلة فكرة ذاتية من العبد الفقير، ومن معه من الأصدقاء ممن يقومون بشأن المجلة لا ينتمون لحزب ولا لجماعة ولا لطائفة.

2. المجلة تفتح أبوابها لاستقبال المقالات من الجميع، وتجري مراجعة المقال على قاعدة: هل هو نافع أم لا؟ فإذا ترجح ذلك نُشِر وإن لم نوافق على كل ما فيه، ونحن حريصون –كما ذكرنا ذلك مرارا- أن تكون مادة المجلة نافعة للعاملين.. فليست تهتم لا بالثناء على أحد ولا بالقدح في أحد.. وإن كان المدح والقدح يجريان بالضرورة في نقاش أية قضية، فكيف بمناقشة القضايا العويصة في زمن الاستضعاف وفي خضم الفتن التي تجعل الحليم حيرانا؟!

3. والمعنى المباشر لما سبق أن المجلة تستقبل المقالات من أفراد تختلف آراؤهم وتوجهاتهم، وكل هذا مرحب به، بل نحن حريصون عليه.. لكننا في ذات الوقت نحرص أيضا ألا تكون المجلة سجالات بين أطراف مختلفة، وألا تتحول إلى مجرد ساحة فكرية لتبادل الردود والاتهامات. فالأصل الذي يقاس عليه كما نكرر: هل المقال نافع أم لا؟
4. وكل الأمور التقديرية عرضة للصواب والخطأ، فإنما نحن بشر، ولربما أخطأنا التقدير فنشرنا ما حقه الحجب، أو حجبنا ما حقه النشر، وإنما هذا مبلغ اجتهادنا.. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
‏٠٥‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٦:٥١ م‏
🔴 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 26 ))

🔵 يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (26)، ومعه هدية: مختصر كتاب (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة من 1492)، هوارد زن.

⚫️ حمّل العدد الجديد
bit.ly/2Lp1qli
⚫️ هدية العدد
bit.ly/32enNRg
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏٠١‏/٠٩‏/٢٠١٩ ٨:١٧ م‏
لا تعجز! حامد عبد العظيم ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk في هذه الأيام التي نحياها سيطر اليأس على قلوب كثير من الشباب والفتيات، نتيجة ضعف الأمة واستهداف أعدائها لها من كل حدب وصوب، وتوالي المصائب على بلاد الإسلام حتى بدا الأمر كأنه نهاية العالم وأن أمتنا على وشك الموت! في مقالي هذا أحاول معك أخي وأختي أن نعالج هذه الحالة من اليأس والضجر والعجز بهدوء عن طريق وضع أيدينا على الأسباب الرئيسية لها. أول سبب من وجهة نظري: هو تحميل النفس فوق طاقتها، فالسواد الأعظم من الشباب يقضي على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وقتًا طويلًا جدًا، فتُعرض عليه أخبار القتل والتدمير والحرق والإبادة والمواقف المخزية لعلماء ودعاة... إلخ، مما يؤدي إلى حالة شعورية بأن الحياة سوداء ولا توجد أي بارقة أمل فيها أو في إصلاحها. ولا شك أن هذا تحميل للنفس فوق طاقتها، فأنت لن تستطيع أن تُغير العالم، بل لا تستطيع أن تغير حال بلدك وحدك ولست مسؤولاً عن ذلك! نعم، ينبغي أن تعرف ذلك، أنت مسؤول عن مجتمعك الخاص الذي من الممكن أن تُحدث فيه تغييرًا، مسؤول فقط عن الإصلاح والدعوة والتغيير في المحيط الصغير الذي تتحرك فيه، في المسجد الذي تصلي فيه، في العمل الذي تذهب إليه، في المدرسة التي ترتادها، وهكذا. أنت لن تغير العالم بمعرفتك أخبار المسلمين ومآسيهم في كل مكان وكل يوم وكل دقيقة، أو بمشاهدتك للجثث المحروقة والأطفال تحت الأنقاض، وأنت غير مأمور بذلك خاصة وأن هذا يؤدي إلى إلف رؤية مآسي إخواننا مما يؤدي إلى تبلد شعورنا واعتيادنا على ذلك. أنت غير مأمور بذلك، بل مأمور بما تستطيع، والله لا يكلفك ما لا تطيق، وقد قال عز وجل: {لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها}. فإذا علمت ذلك سيسقط من على كاهلك هم كبير، وستستغل وقتك بصورة أفضل وبالاتجاه الصحيح. وبكل تأكيد نهتم بأحوال المسلمين وبمعرفة أخبارهم وتحديث الناس بها، ولكن هذا لا يكون بالسلبية وتعريض النفس لضغط نفسي هائل يؤدي بنا إلى حال "المُنبت" الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. فأنت لم تنصر المسلمين ولم تفعل شيئًا يؤدي إلى تغيير وإصلاح بالعكوف على متابعة الأخبار، فالأمر إذن وسط بلا إفراط ولا تفريط، بلا إفراط بجعل هذا الباب يؤدي إلى العجز والضغط النفسي، وبلا تفريط يجعلنا في دائرة الجهل بأحوال أمتنا ودائرة اللا مبالاة. السبب الثاني: هو فرع عن الأول وهو عدم الانخراط في أي جهد تغييري بحجج شيطانية بامتياز من قبيل وسوسته بأنك شخص واحد فماذا ستفعل لإصلاح هذا الكم الهائل من مصائب الأمة؟ وهذا من الأسئلة الخطيرة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يجيب عنه وأن يقف مع نفسه وقفة حازمة حتى لا يوسوس به الشيطان له ولا تحدثه نفسه به لتبرر له القعود والسلبية؛ فأول الجواب على هذا السؤال هو معرفة ما سبق من أن الفرد المسلم ليس مطالبًا بأن يغير العالم، بل فقط ينظر حوله ويرى أي ثغرة ليقف عليها. الدعوة إلى الله، وتعلُّم العلم وتعليمه، وحفظ القرآن وتحفيظه لصغار وشباب المسلمين، وكفالة المحتاجين، والجهاد في سبيل الله، وإعداد النفس إيمانيًا وبدنيًا ومن كافة النواحي، وبث الوعي بمكائد الغرب والصهاينة وعملائهم... إلخ كلها أعمال من الممكن أن يتحرك فيها المسلم والمسلمة. بإمكانك أن تفعل الكثير، بإمكانك إن كنت في عمر ما قبل الجامعة أن تخطط لدخول كلية ما تتمكن فيها من جانب تكنولوجي معين وتتوسع في دراستك لتفيد أمتك لتتخلص من التخلف التكنولوجي السائد فيها، أو إن كنت كبيرًا ولك أبناء أن تخطط لهم أن يتخصصوا في شيء معين ويتقنوه ليفيدوا أمتهم، وهكذا. نحن في مرحلة غاية في الحساسية من تاريخ أمتنا، ونحتاج أن يكون لدينا عقل استراتيجي واعٍ، لا نفكر فقط في اليوم وغدًا والأسبوع القادم، بل نفكر لعشرين عامًا قادمًا على الأقل، يجب وضع خطط مستقبلية متقنة والعمل على تنفيذها، ولا تنتظر أحدًا ليخطط لك وينفذ لك ويأخذ بيدك، فأنت مطالب أن تخطط لنفسك ولولدك ولأخيك الصغير وابن أخيك وأختك وكل الشباب الذين حولك، مطالب بالتخطيط لتلاميذك وطلابك الذين يثقون فيك وفي تعليمك أو دعوتك، مطالب بأن تساعدهم بالمال والخبرة والمشورة والمتابعة والتذكير الدائم، وعينك على ما يحققونه بعد عشرين عامًا، فلو فكرنا بهذه الطريقة سنجد ألوفًا مؤلفة من شبابنا المتميز المتخصص في كل فن وعلم وصناعة وتكنولوجيا بعد عشرين عامًا، ولكن المشكلة الخطيرة أننا غير متعودين على التخطيط المستقبلي وهذه الثقافة غريبة علينا، بعكس الصهاينة على سبيل المثال والأمريكان والغرب عمومًا الذين يدركون جيدًا أن عشرين عامًا ليست شيئًا في حسابات التاريخ والأعمار وأنها تمر كالبرق. ورضي الله عن سيدنا عمر الفاروق حين قال: "عجبت لعجز الثقة وجلد الكافر". ويقول المتنبي: ولم أرَ في عيوب الناس شيئًا *** كنقص القادرين على التمامِ فلا تعجز يا أخي فأمتك تنتظرك، واعلم أن هذه سنة نبوية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "استعن بالله ولا تعجز" وكان عليه أفضل الصلاةو السلام يستعيذ الله من العجز والكسل، وهو القائل: "استعن بالله ولا تعجز". فالعجز والإحباط والسلبية تقتل الإنسان وتجعله يعيش حياة سوداء بلا أي معنى، بعكس الأمل والنشاط والتفاؤل والعمل والإنجاز الذين يجعلون الروح فتية والنفس سوية. واعلم أنك إذا عوّدت نفسك على العجز ستزداد تمنعًا عليك، وستكون عصية على الترويض، وستصل إلى مرحلة ما لا تستطيع معها حتى أن تفعل الشيء بصعوبة، فالعجز ينمو مع الوقت ويتطور وتتعود النفس عليه. ولا يتلاعب بك الشيطان أن أمتنا قد انتهت، بل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخلافة على منهاج النبوة آتية، وقال: "إن أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره"، وقال ببقاء الطائفة المؤمنة تجاهد في سبيل الله، وبشّر الغرباء بطوبى، وقال من هلك الناس فهو أهلكهم. فقط تحرك واعمل وعينك على المستقبل فإن الأيام دول، والممالك تسقط مهما كانت قوتها بعد حين، والدول العظمى تتفكك بعد أن يقول المرء بأنها ستخلد لفرط قوتها، وإن شئت فاقرأ التاريخ منذ أن تعلم الإنسان الكتابة والتأريخ، ولكن حينها هل سيكون المسلمون مستعدين وتزخر أمتهم بالفاعلين والناشطين والمتميزين في كل مجال؟ هل سيكونون على أهبة الاستعداد ليأخذوا بزمام المبادرة؟ أم سيتمنون حينها أن لو كانوا بدؤوا منذ سنوات طويلة في الإعداد والفاعلية أو يتمنوا أنهم لم يعجزوا ويقولوا لا فائدة؟ ونختم بقول المولى جل وعلا في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (النساء: 84) وقوله تبارك وتعالى: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( 196 ) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ( 197 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( 198 ) [آل عمران] وقوله عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) [الأنفال]
لا تعجز!

حامد عبد العظيم

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

في هذه الأيام التي نحياها سيطر اليأس على قلوب كثير من الشباب والفتيات، نتيجة ضعف الأمة واستهداف أعدائها لها من كل حدب وصوب، وتوالي المصائب على بلاد الإسلام حتى بدا الأمر كأنه نهاية العالم وأن أمتنا على وشك الموت!
في مقالي هذا أحاول معك أخي وأختي أن نعالج هذه الحالة من اليأس والضجر والعجز بهدوء عن طريق وضع أيدينا على الأسباب الرئيسية لها.
أول سبب من وجهة نظري: هو تحميل النفس فوق طاقتها، فالسواد الأعظم من الشباب يقضي على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وقتًا طويلًا جدًا، فتُعرض عليه أخبار القتل والتدمير والحرق والإبادة والمواقف المخزية لعلماء ودعاة... إلخ، مما يؤدي إلى حالة شعورية بأن الحياة سوداء ولا توجد أي بارقة أمل فيها أو في إصلاحها.
ولا شك أن هذا تحميل للنفس فوق طاقتها، فأنت لن تستطيع أن تُغير العالم، بل لا تستطيع أن تغير حال بلدك وحدك ولست مسؤولاً عن ذلك! نعم، ينبغي أن تعرف ذلك، أنت مسؤول عن مجتمعك الخاص الذي من الممكن أن تُحدث فيه تغييرًا، مسؤول فقط عن الإصلاح والدعوة والتغيير في المحيط الصغير الذي تتحرك فيه، في المسجد الذي تصلي فيه، في العمل الذي تذهب إليه، في المدرسة التي ترتادها، وهكذا.
أنت لن تغير العالم بمعرفتك أخبار المسلمين ومآسيهم في كل مكان وكل يوم وكل دقيقة، أو بمشاهدتك للجثث المحروقة والأطفال تحت الأنقاض، وأنت غير مأمور بذلك خاصة وأن هذا يؤدي إلى إلف رؤية مآسي إخواننا مما يؤدي إلى تبلد شعورنا واعتيادنا على ذلك.
أنت غير مأمور بذلك، بل مأمور بما تستطيع، والله لا يكلفك ما لا تطيق، وقد قال عز وجل: {لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها}.
فإذا علمت ذلك سيسقط من على كاهلك هم كبير، وستستغل وقتك بصورة أفضل وبالاتجاه الصحيح. وبكل تأكيد نهتم بأحوال المسلمين وبمعرفة أخبارهم وتحديث الناس بها، ولكن هذا لا يكون بالسلبية وتعريض النفس لضغط نفسي هائل يؤدي بنا إلى حال "المُنبت" الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. فأنت لم تنصر المسلمين ولم تفعل شيئًا يؤدي إلى تغيير وإصلاح بالعكوف على متابعة الأخبار، فالأمر إذن وسط بلا إفراط ولا تفريط، بلا إفراط بجعل هذا الباب يؤدي إلى العجز والضغط النفسي، وبلا تفريط يجعلنا في دائرة الجهل بأحوال أمتنا ودائرة اللا مبالاة.
السبب الثاني: هو فرع عن الأول وهو عدم الانخراط في أي جهد تغييري بحجج شيطانية بامتياز من قبيل وسوسته بأنك شخص واحد فماذا ستفعل لإصلاح هذا الكم الهائل من مصائب الأمة؟
وهذا من الأسئلة الخطيرة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يجيب عنه وأن يقف مع نفسه وقفة حازمة حتى لا يوسوس به الشيطان له ولا تحدثه نفسه به لتبرر له القعود والسلبية؛ فأول الجواب على هذا السؤال هو معرفة ما سبق من أن الفرد المسلم ليس مطالبًا بأن يغير العالم، بل فقط ينظر حوله ويرى أي ثغرة ليقف عليها.
الدعوة إلى الله، وتعلُّم العلم وتعليمه، وحفظ القرآن وتحفيظه لصغار وشباب المسلمين، وكفالة المحتاجين، والجهاد في سبيل الله، وإعداد النفس إيمانيًا وبدنيًا ومن كافة النواحي، وبث الوعي بمكائد الغرب والصهاينة وعملائهم... إلخ كلها أعمال من الممكن أن يتحرك فيها المسلم والمسلمة.
بإمكانك أن تفعل الكثير، بإمكانك إن كنت في عمر ما قبل الجامعة أن تخطط لدخول كلية ما تتمكن فيها من جانب تكنولوجي معين وتتوسع في دراستك لتفيد أمتك لتتخلص من التخلف التكنولوجي السائد فيها، أو إن كنت كبيرًا ولك أبناء أن تخطط لهم أن يتخصصوا في شيء معين ويتقنوه ليفيدوا أمتهم، وهكذا.
نحن في مرحلة غاية في الحساسية من تاريخ أمتنا، ونحتاج أن يكون لدينا عقل استراتيجي واعٍ، لا نفكر فقط في اليوم وغدًا والأسبوع القادم، بل نفكر لعشرين عامًا قادمًا على الأقل، يجب وضع خطط مستقبلية متقنة والعمل على تنفيذها، ولا تنتظر أحدًا ليخطط لك وينفذ لك ويأخذ بيدك، فأنت مطالب أن تخطط لنفسك ولولدك ولأخيك الصغير وابن أخيك وأختك وكل الشباب الذين حولك، مطالب بالتخطيط لتلاميذك وطلابك الذين يثقون فيك وفي تعليمك أو دعوتك، مطالب بأن تساعدهم بالمال والخبرة والمشورة والمتابعة والتذكير الدائم، وعينك على ما يحققونه بعد عشرين عامًا، فلو فكرنا بهذه الطريقة سنجد ألوفًا مؤلفة من شبابنا المتميز المتخصص في كل فن وعلم وصناعة وتكنولوجيا بعد عشرين عامًا، ولكن المشكلة الخطيرة أننا غير متعودين على التخطيط المستقبلي وهذه الثقافة غريبة علينا، بعكس الصهاينة على سبيل المثال والأمريكان والغرب عمومًا الذين يدركون جيدًا أن عشرين عامًا ليست شيئًا في حسابات التاريخ والأعمار وأنها تمر كالبرق.
ورضي الله عن سيدنا عمر الفاروق حين قال: "عجبت لعجز الثقة وجلد الكافر". ويقول المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس شيئًا *** كنقص القادرين على التمامِ
فلا تعجز يا أخي فأمتك تنتظرك، واعلم أن هذه سنة نبوية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "استعن بالله ولا تعجز" وكان عليه أفضل الصلاةو السلام يستعيذ الله من العجز والكسل، وهو القائل: "استعن بالله ولا تعجز".
فالعجز والإحباط والسلبية تقتل الإنسان وتجعله يعيش حياة سوداء بلا أي معنى، بعكس الأمل والنشاط والتفاؤل والعمل والإنجاز الذين يجعلون الروح فتية والنفس سوية. واعلم أنك إذا عوّدت نفسك على العجز ستزداد تمنعًا عليك، وستكون عصية على الترويض، وستصل إلى مرحلة ما لا تستطيع معها حتى أن تفعل الشيء بصعوبة، فالعجز ينمو مع الوقت ويتطور وتتعود النفس عليه.
ولا يتلاعب بك الشيطان أن أمتنا قد انتهت، بل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخلافة على منهاج النبوة آتية، وقال: "إن أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره"، وقال ببقاء الطائفة المؤمنة تجاهد في سبيل الله، وبشّر الغرباء بطوبى، وقال من هلك الناس فهو أهلكهم.
فقط تحرك واعمل وعينك على المستقبل فإن الأيام دول، والممالك تسقط مهما كانت قوتها بعد حين، والدول العظمى تتفكك بعد أن يقول المرء بأنها ستخلد لفرط قوتها، وإن شئت فاقرأ التاريخ منذ أن تعلم الإنسان الكتابة والتأريخ، ولكن حينها هل سيكون المسلمون مستعدين وتزخر أمتهم بالفاعلين والناشطين والمتميزين في كل مجال؟ هل سيكونون على أهبة الاستعداد ليأخذوا بزمام المبادرة؟ أم سيتمنون حينها أن لو كانوا بدؤوا منذ سنوات طويلة في الإعداد والفاعلية أو يتمنوا أنهم لم يعجزوا ويقولوا لا فائدة؟
ونختم بقول المولى جل وعلا في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (النساء: 84)
وقوله تبارك وتعالى:
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( 196 ) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ( 197 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( 198 ) [آل عمران]
وقوله عز من قائل:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) [الأنفال]
‏٣١‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١:٤٢ م‏
من تراث الأزهر الجهاد ماض إلى يوم القيامة الشيخ محمد أبو زهرة[1] ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة: 73) بيّن الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين. والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد، والموجه، و(جاهد) معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين. ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعًا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد، والدس والفت في عضد المؤمنين، فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تأثيرهم. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم)، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرًا في جهاد المنافقين. ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، يقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. وفي الجملة بسدّ عليهم باب خديعتهم، وقال الحسن البصري: "إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود"، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة منافق، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر. ولقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: "بعث رسول الله بأربعة أسياف: سيف للمشركين بيّنه الله تعالى بقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا الْمُشركين حيث وجدتُمُوهُمْ}، وسيف لكفار أهل الكتاب، وبيّنه سبحانه وتعالى بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرمون ما حرم الله وَرَسُوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وسيف للمنافقين بيّنه الله سبحانه بقوله تعالى: {يا أيّها النبي جاهد الكفار والمنافقين}، وسيف للبغاة كما قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}. وقد روي أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حُدُود ما أنزل الله على رسوله}، وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق، وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه: «سلم مخزية، أو حرب مجلية». وقوله تعالى: {واغلظ عليهم} أي عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم، فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا ويكون بالهزيمة والخزي والخسران. أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى: {ومأواهم جهنم وبئس المصير } والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم، وفي هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكْر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران]. ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: {وبئس المصير} الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار . لقد قال صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». فقول الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا قال تعالى: {يحلفون بالله ما قَالُوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}. كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرًا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يعلم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد:30] وكانت كلماتهم الفاسقة تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال رجل من المنافقين، وزيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل [أي الرسول] صادقًا فنحن شر من الحمير )، فقال زيد رضي الله عنه: (فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار ). كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة. ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم: {ويحلفون باللهِ مَا قَالُوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا}. قلنا: إن أقوالهم المنافقة كثيرة لا تخص واحدة دون الأخرى ، بل كلما تكشف قول ينبئ عن نفاقهم كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة، كانت المساغ لكذبهم، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله، واستحقاقهم نار جهنم، وهي إنكار الرسالة المحمدية؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر، أو نقول "كلمة" بمعنى كلمات، ((وكلمة بها كلام قد يؤم))، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم، وإيقاع الفرقة، والدس والفساد، هو كفر . وقال {بعد إسلامهم} أي بعد إعلانهم الإسلام، وإبطانهم الكفر والنفاق، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستوراً بإعلان الإسلام، فما استفادوا إلا بيان حالهم، ومعرفة الوصف الحقيقى لهم. {وهموا بما لم ينالوا} أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين، ويوقعوا الفتنة والفشل فيهم، ولم ينالوه؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم، وكاشف للمؤمنين أمرهم، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفأها الله سبحانه وتعالى، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها. ____________________ [1] زهرة التفاسير، الشيخ أبو زهرة، تفسير سورة التوبة.
من تراث الأزهر

الجهاد ماض إلى يوم القيامة

الشيخ محمد أبو زهرة[1]

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة: 73)
بيّن الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين.
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد، والموجه، و(جاهد) معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين.
ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعًا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد، والدس والفت في عضد المؤمنين، فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تأثيرهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم)، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرًا في جهاد المنافقين. ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، يقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه.
وفي الجملة بسدّ عليهم باب خديعتهم، وقال الحسن البصري: "إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود"، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة منافق، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر. ولقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: "بعث رسول الله بأربعة أسياف: سيف للمشركين بيّنه الله تعالى بقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا الْمُشركين حيث وجدتُمُوهُمْ}، وسيف لكفار أهل الكتاب، وبيّنه سبحانه وتعالى بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرمون ما حرم الله وَرَسُوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، وسيف للمنافقين بيّنه الله سبحانه بقوله تعالى: {يا أيّها النبي جاهد الكفار والمنافقين}، وسيف للبغاة كما قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.
وقد روي أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حُدُود ما أنزل الله على رسوله}، وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق، وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه: «سلم مخزية، أو حرب مجلية».
وقوله تعالى: {واغلظ عليهم} أي عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم، فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا ويكون بالهزيمة والخزي والخسران.
أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى: {ومأواهم جهنم وبئس المصير } والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم، وفي هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكْر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران].
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: {وبئس المصير} الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار .
لقد قال صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». فقول الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا قال تعالى: {يحلفون بالله ما قَالُوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}. كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرًا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يعلم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد:30] وكانت كلماتهم الفاسقة تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال رجل من المنافقين، وزيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل [أي الرسول] صادقًا فنحن شر من الحمير )، فقال زيد رضي الله عنه: (فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار ).
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة.
ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم: {ويحلفون باللهِ مَا قَالُوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا}. قلنا: إن أقوالهم المنافقة كثيرة لا تخص واحدة دون الأخرى ، بل كلما تكشف قول ينبئ عن نفاقهم كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة، كانت المساغ لكذبهم، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله، واستحقاقهم نار جهنم، وهي إنكار الرسالة المحمدية؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر، أو نقول "كلمة" بمعنى كلمات، ((وكلمة بها كلام قد يؤم))، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم، وإيقاع الفرقة، والدس والفساد، هو كفر .
وقال {بعد إسلامهم} أي بعد إعلانهم الإسلام، وإبطانهم الكفر والنفاق، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستوراً بإعلان الإسلام، فما استفادوا إلا بيان حالهم، ومعرفة الوصف الحقيقى لهم.
{وهموا بما لم ينالوا} أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين، ويوقعوا الفتنة والفشل فيهم، ولم ينالوه؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم، وكاشف للمؤمنين أمرهم، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفأها الله سبحانه وتعالى، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها.

____________________
[1] زهرة التفاسير، الشيخ أبو زهرة، تفسير سورة التوبة.
‏٣٠‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٧:٥٣ م‏
مسار التغيير بين فرص ضائعة وأخرى سانحة د. عطية عدلان ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. اليوم - وبعد خراب الديار وانتشار الدمار - يتجدد بقوة سؤال كان يُطْرح على استحياء: هل كانت ثورات الربيع العربيّ مؤامرةً وخدعة؟ وهل كانت كل هذه الأحداث مصنوعةً موضوعة؛ لإخراج البلاد العربية من أوضاع نكدة إلى أوضاع أنكد منها وأكدر، ونقل الشعوب المسلمة من حياة يفقدون فيها الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم؛ إلى حياة يكفرون فيها بذلك كله لفقدانهم الحياة والأمن وكسرة الخبز؟ وللعدل والإنصاف: ليس على من اعتقد ذلك لوم إذا نظر إلى المشهد العام نظرة كلية فرأى المنطقة برمتها يظللها الموت وتنعق الغربان فوق أطلالها المتهدمة!! ومع ذلك فالحقيقة تختلف كثيرًا عمّا يبدو لكثير من الناس، والحقيقة كذلك أننا نستدعي وعيًا حاضرًا بأثر رجعيّ ثم نبالغ في جلد الذات، ولو أنّ المشهد بكل فصوله تكرر ألف مرة لما تغير موقفنا في مرة واحدة منها عن موقفنا الذي وقفناه من قبل سواء في أول الطريق أو آخره، ففي أول الطريق سعادة غامرة بالثورة وتلقي لها بالبشر والسرور، وفي آخر الطريق تعاسة طامرة بالثورة ودعوات عليها وعلى الثائرين بالويل والثبور؛ هذه هي طبيعة الأمور، فالثورة إلى أن تستقر وترسو مراكبها على شاطئ النصر والتمكين تمضي في موجات متتابعة، كل موجة منها تعلو وتهبط، فإذا علت وأقبلت ارتفعت همة الخلق واغتبطت قلوب العباد، وإذا هبطت أو أدبرت هبط بهبوطها العزم وإدبر بإدبارها المضاء والحزم. إنّ الثورة التي رأيناها ورآها العالم ليست من الأحداث التي يمكن أن تُصنع أو تُطبخ في دهاليز المؤامرات والمخابرات، ولو فُرض أنّ الذين أشعلوا فتيلها كانوا مدفوعين إلى ذلك بصورة ما - ولا أحسبهم كذلك أيضاً - فإنّ الثورة بعد إضرامها كانت ثورة شعب، ولا يضرها بعد اشتداد أوارها أن عود الثقاب كان مستعاراً، فليس القول بأنها مؤامرة مصنوعة إلا ضربًا من ضروب الخرص والتخمين، إن لم يكن استجابة لدعاوى الشيطنة لكل حركة والمباركة لكل سكون وركون واستكانة، فلنضرب الذكر صفحاً عن هذه الوساوس؛ لنخلص إلى ما يجب أن نخلص إليه وندلف فيه. إنّ الذي صنعه أعداء الأمة ليس صناعة الثورة من أجل تشكيل شرق أوسط جديد كما يقال، وإنما هو على وجه الدقة حسن استثمار للحدث بما يخدم مشروعهم ويعجل بمراحله التي كانت آجلة، وهذا نجاح يحسب لهم وفشل يحسب علينا، ولعل هذا هو طرف الخيط الذي تتدحرج عليه حلقات الفرص الضائعة، فالحدث مادة خام، والكبار هم الذين يرتبون لاستثمار الحدث وتوجيهه، فأين كان الكبار عندما سنحت هذه الفرصة فأهدروها وضيعوها؟ أين كان يعيش العلماء والصلحاء والدعاة والهداة؟ أين كان يوجد السياسيون الوطنيون والإعلاميون المهنيون والأكاديميون البارزون؟ أين كان كبار الأمة وأهل الحل والعقد منها؟ هذا هو السؤال الذي يكشف عن العلة وراء الفرصة الضائعة، والإجابة عليه يمكن أن تنشئ فرصة أخرى ويجعلها متاحة سانحة. إنّ الثورة عندما هبت رياحها فاجأت الجميع؛ فإذا هم ينظرون إلى الأحداث فاغرين أفواههم محدقين أبصارهم شاردين بألبابهم، لا رؤية لديهم ولا مشروع، لا مائدة تجمعهم ولا وثيقة توحدهم، وما إن أفاقوا من هول الصدمة حتى وجدوا أنفسهم يسيرون في فضاء الحرية التي هبطت عليهم من السماء كل في طريق، بينما صناديد الباطل قد نظموا صفوفهم وألقوا خلافاتهم خلف ظهورهم وشمروا عن ساعد الجد وأخذوا يرتبون ويخططون ويفعلون لنتحول نحن بكل تحركاتنا إلى رد فعل فقط!! كان يمكن أن تنتهي الثورة في وقت مبكر، وربما لو كان أعداؤنا يعلمون حالنا لأجهزوا علينا جميعًا في عشية أو ضحاها، ولكن الله سلم، فسنحت لنا فرصة ثانية، ها هي الثورة مستمرة في الميادين، ولم تفلح جموع البلطجية في فض الميدان عشية موقعة الجمل، وها هي جموع الشعب تعترف لنا بالفضل والسبق، وتؤكد بكافّة أبواقها على حقيقة نسيت اليوم وما كان لها أن تنسى، وهي أنّ الإخوان المسلمين أنقذوا الثورة في ساعة العسرة، والفرصة هي الالتحام بالشعب وتقوية اللحمة بالشباب؛ ألم نكن نعلم من قبل أن معركتنا مع الأنظمة إنما هي على هذا الشعب؟ ها هو الآن معنا كريش الطاووس حول جسده؛ فلماذا خسرناه، ولماذا بعد سقوط رأس النظام آثرنا أن ننحاز للعسكر؟! لقد كان خطأً فاحشاً أن نخسر من لا ربح لنا بخسرانه، وهذا الخطأ اضطرنا إلى الانجرار إلى خطأ آخر وهو التعجيل بالمسار السياسيّ قبل إتمام الثورة على الأرض، فضاعت الفرصة وخسرنا القوة الوحيدة التي كنّا نملكها وهي الحالة الثورية. ومع ذلك تداركتنا رحمة الله تعالى، فذهبنا بعد لأي إلى الانتخابات، ولا أستبعد أن يكون ثبات الشباب الذين أسلمناهم في واقعة (محمد محمود) كان سببًا في نزول العسكر على رغبتنا لتعجيل الانتخابات التي كانت عرضة للتأجيل والتسويف، وذهب الناس إلى صناديق الاقتراع ليصوتوا للإسلاميين، وليمنحوهم فرصة ليست قليلة ولا ضئيلة، فإذا هم يشكلون غالبية المجلس الذي سمي يومها برلمان الثورة، فوالله لو شاء البرلمان لامتلك زمام الأمور ولقاد مرحلة من الثورة داخل أروقة الدولة ومؤسساتها، ولكنه لم يشأ، وظل على مدى ستة أشهر يسن قوانين يعلم أنه لن يملك القدرة على تنفيذها، ويجلد حكومة يعلم أنها ليس لها من الأمر شيء، ونسي أنه برلمان الثورة وعاش دور برلمان الدولة التي اختزلت يومها في العسكر؛ فعصف العسكر بالبرلمان في عشية واحدة عبر مؤسسة هي أعرق مؤسسات الدولة العميقة (المحكمة الدستورية). لكن شبابنا الذين أُفْرِدوا في الشوارع بعد ضياع اللحمة الشعبية تحملوا عنّا هذا الوزر، ومرة أخرى تتداركنا رحمة الله تعالى؛ ليأتي رئيس للدولة منَّا نعرف صدقه وأمانته وحسبه ونسبه، فماذا فعلنا؟ لا يستطيع أحد أن يحاسبه الآن بعدما صعد شهيدًا وأخذ معه أسرار حكمه وقصره، لكننا نستطيع أن نحاسب أنفسنا: ألم نكن جميعاً على علم بما يجري من حولنا؟ ألم يكن الجو من حولنا يظلم يومًا بعد يوم؟ لماذا لم نتحرك بصورة ما؟ أين وحدتنا وإعدادنا وقوتنا الاجتماعية؟ لقد كان بوسعنا أن نفعل الكثير في وقت كانت الشرعية لنا والحكم في يدنا. وهذه فرصة ثالثة أهدرناها، لا تقل الآن إننا أخطانا من الأصل بدخولنا سباق الرئاسة؛ لأننا جميعًا إن عاد بنا الزمن للوراء ألف مرة فلن نصنع في كل مرة إلا ما صنعناه أول مرة، لا تقل هذا لأنه وعلى فرض أننا أخطأنا في الخيار فقد كان بالإمكان أن نحول الخطأ إلى صواب والإخفاق إلى نجاح؛ لأن الوصول لرئاسة دولة ليس أمرًا سهلًا ولا عبثاً، فكم من رئيس استطاع بمفرده من منصبه أن يوسع لنفسه؛ فكيف إذا كان الرئيس وراءه قاعدة شعبية عريضة ومتماسكة؟! كان ينبغي إذ جاء منّا رئيس - بغض النظر عن الخطوة أهي صواب أو خطأ - أن نحكم بأدوات الحكم، وأن نستثمر الظرف في نقل البلاد ونقل أنفسنا معها إلى وضع يعقد الأمور على المجرمين. وبما أنّ الزمام قد أفلت من أيدينا وصرنا بالحكم على حافة الهاوية ورأينا الأمور تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم؛ فلماذا لم نخرج على الناس بالدعوة لانتخابات مبكرة ونخرج من أوسع الأبواب وأسلمها؛ لنعود إلى بيوتنا الدعوية والعدو لا يزال لم يكتشف ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على خلق الله أجمعين؟ لماذا أهدرنا هذه الفرصة أيضًا والحرب كرٌّ وفرّ؟ وإذ آثرنا المضيّ في طريق (الصمود!) فلماذا لم نتخذ له عدته؟ أو لماذا اخترناه من الأصل إذا لم يكن لنا عدة؟ ومع ذلك فإن رحمة الله تداركتنا فجاءت رابعة على خلاف ما كنا نتوقع وما كان العالم كله يتوقع عددًا وقوة واستعدادًا للموت في سبيل الله؛ فما الذي صنعناه بهذا المخزون الاستراتيجي الهائل؟ جلسنا نغني ونخطب في ميدان رابعة؟! فرص تلو فرص ضائعة، فلو أنّ قطيعًا من البشر مثلنا كان يتقاضى رواتب من أعداء أمتنا مقابل أن يضيع علينا كل هذه الفرص ما أفلح في صنع ما صنعناه بأنفسنا لأنفسنا؛ فما أحلم الله علينا! وما أشد قسوتنا على أنفسنا وعلى أتباعنا!! والعجيب أننا لا نزال قادرين على تضييع الفرص وإهدار المكاسب، ولا نزال نمارس عن عمد هذا الإهدار وهذا التضييع، ولكن العجيب أننا لا نزال نملك من الفرص الكثير؛ فهل سنضيعها مثلما ضيعنا ما قبلها؟! لقد خرجنا من مصر ومكثنا في تركيا وقطر وماليزيا وغيرها من بلاد الله ننعم بالأمن والسكون، فلم نفلح في أخذ الخطوة الأولى، التي لا نجاح ولا فلاح بها، وهي أن نجلس معًا فندرس أخطاءنا ونضع رؤيتنا ومشروعنا لنبدأ بالحركة، ومرت السنون الآمنة المطمئنة، وهبت على الدنيا رياح أخرى منذرة بكثير مما نخشاه في المهجر، ومع ذلك الفرصة سانحة، وما دام في المسلم نفس يتردد فالفرصة أمامه متاحة، نستطيع في غربتنا هذه أن نتوحد إن شئنا وأن نتكتل إن أردنا وأن ننطلق في العمل إن توفرت لدينا النية الصحيحة، وساعتها سوف يفتح الله لنا الأبواب المغلقة. إننا أمّة صاحبة رسالة عالمية تستهدف الفطرة الإنسانية وتتناغم معها، وإن ديننا هو دين الفطرة، وإن قضيتنا قضية عادلة لا يتردد عاقل عادل في التجاوب معها، وإن الجسد المصري في الخارج ممتد من أقصى الأرض إلى أقصاها، ونستطيع بهذه الإمكانيات الجبارة أن نحول الكوكب الأرضي إلى غربة مظلمة على هذا النظام، وأن نحوله في هذه الأرض إلى قطعة من الخردة ملقاة في فلاة، والعالم الآن لا يعيش في جزائر منعزلة، وليس على وجه المعمورة شعب يعيش منفردًا ولا حكومة تحيا كما تشاء دون أن يكون لها شرعية ولو مزيفة، فإذا نجحنا في إحراج القوى الدولية التي تدعم النظام الانقلابي أمام شعوبها فسوف نستطيع فعل الكثير والكثير. وساعتها يمكن أن يصل صوتنا للداخل، ومع تفاقم الأزمات نستطيع أن نحرك الشعب، وإذا كانت الفرص التي سنحت عند بيع تيران وصنافير أو عند قرارات رفع الأسعار أو غير ذلك فلا يزال النظام غارقًا في مؤهلات الفشل والإخفاق، فهل سنستطيع فعل شيء؟ أم أننا سنستمر في إهدار الفرص إلى أن يأتي الاستبدال؟ ونسأل الله العافية، والكلام هنا للكبار، ولاسيما في الخارج، فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا. آمين
مسار التغيير
بين فرص ضائعة وأخرى سانحة

د. عطية عدلان

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
اليوم - وبعد خراب الديار وانتشار الدمار - يتجدد بقوة سؤال كان يُطْرح على استحياء: هل كانت ثورات الربيع العربيّ مؤامرةً وخدعة؟ وهل كانت كل هذه الأحداث مصنوعةً موضوعة؛ لإخراج البلاد العربية من أوضاع نكدة إلى أوضاع أنكد منها وأكدر، ونقل الشعوب المسلمة من حياة يفقدون فيها الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم؛ إلى حياة يكفرون فيها بذلك كله لفقدانهم الحياة والأمن وكسرة الخبز؟ وللعدل والإنصاف: ليس على من اعتقد ذلك لوم إذا نظر إلى المشهد العام نظرة كلية فرأى المنطقة برمتها يظللها الموت وتنعق الغربان فوق أطلالها المتهدمة!!
ومع ذلك فالحقيقة تختلف كثيرًا عمّا يبدو لكثير من الناس، والحقيقة كذلك أننا نستدعي وعيًا حاضرًا بأثر رجعيّ ثم نبالغ في جلد الذات، ولو أنّ المشهد بكل فصوله تكرر ألف مرة لما تغير موقفنا في مرة واحدة منها عن موقفنا الذي وقفناه من قبل سواء في أول الطريق أو آخره، ففي أول الطريق سعادة غامرة بالثورة وتلقي لها بالبشر والسرور، وفي آخر الطريق تعاسة طامرة بالثورة ودعوات عليها وعلى الثائرين بالويل والثبور؛ هذه هي طبيعة الأمور، فالثورة إلى أن تستقر وترسو مراكبها على شاطئ النصر والتمكين تمضي في موجات متتابعة، كل موجة منها تعلو وتهبط، فإذا علت وأقبلت ارتفعت همة الخلق واغتبطت قلوب العباد، وإذا هبطت أو أدبرت هبط بهبوطها العزم وإدبر بإدبارها المضاء والحزم.
إنّ الثورة التي رأيناها ورآها العالم ليست من الأحداث التي يمكن أن تُصنع أو تُطبخ في دهاليز المؤامرات والمخابرات، ولو فُرض أنّ الذين أشعلوا فتيلها كانوا مدفوعين إلى ذلك بصورة ما - ولا أحسبهم كذلك أيضاً - فإنّ الثورة بعد إضرامها كانت ثورة شعب، ولا يضرها بعد اشتداد أوارها أن عود الثقاب كان مستعاراً، فليس القول بأنها مؤامرة مصنوعة إلا ضربًا من ضروب الخرص والتخمين، إن لم يكن استجابة لدعاوى الشيطنة لكل حركة والمباركة لكل سكون وركون واستكانة، فلنضرب الذكر صفحاً عن هذه الوساوس؛ لنخلص إلى ما يجب أن نخلص إليه وندلف فيه.
إنّ الذي صنعه أعداء الأمة ليس صناعة الثورة من أجل تشكيل شرق أوسط جديد كما يقال، وإنما هو على وجه الدقة حسن استثمار للحدث بما يخدم مشروعهم ويعجل بمراحله التي كانت آجلة، وهذا نجاح يحسب لهم وفشل يحسب علينا، ولعل هذا هو طرف الخيط الذي تتدحرج عليه حلقات الفرص الضائعة، فالحدث مادة خام، والكبار هم الذين يرتبون لاستثمار الحدث وتوجيهه، فأين كان الكبار عندما سنحت هذه الفرصة فأهدروها وضيعوها؟ أين كان يعيش العلماء والصلحاء والدعاة والهداة؟ أين كان يوجد السياسيون الوطنيون والإعلاميون المهنيون والأكاديميون البارزون؟ أين كان كبار الأمة وأهل الحل والعقد منها؟ هذا هو السؤال الذي يكشف عن العلة وراء الفرصة الضائعة، والإجابة عليه يمكن أن تنشئ فرصة أخرى ويجعلها متاحة سانحة.
إنّ الثورة عندما هبت رياحها فاجأت الجميع؛ فإذا هم ينظرون إلى الأحداث فاغرين أفواههم محدقين أبصارهم شاردين بألبابهم، لا رؤية لديهم ولا مشروع، لا مائدة تجمعهم ولا وثيقة توحدهم، وما إن أفاقوا من هول الصدمة حتى وجدوا أنفسهم يسيرون في فضاء الحرية التي هبطت عليهم من السماء كل في طريق، بينما صناديد الباطل قد نظموا صفوفهم وألقوا خلافاتهم خلف ظهورهم وشمروا عن ساعد الجد وأخذوا يرتبون ويخططون ويفعلون لنتحول نحن بكل تحركاتنا إلى رد فعل فقط!!
كان يمكن أن تنتهي الثورة في وقت مبكر، وربما لو كان أعداؤنا يعلمون حالنا لأجهزوا علينا جميعًا في عشية أو ضحاها، ولكن الله سلم، فسنحت لنا فرصة ثانية، ها هي الثورة مستمرة في الميادين، ولم تفلح جموع البلطجية في فض الميدان عشية موقعة الجمل، وها هي جموع الشعب تعترف لنا بالفضل والسبق، وتؤكد بكافّة أبواقها على حقيقة نسيت اليوم وما كان لها أن تنسى، وهي أنّ الإخوان المسلمين أنقذوا الثورة في ساعة العسرة، والفرصة هي الالتحام بالشعب وتقوية اللحمة بالشباب؛ ألم نكن نعلم من قبل أن معركتنا مع الأنظمة إنما هي على هذا الشعب؟ ها هو الآن معنا كريش الطاووس حول جسده؛ فلماذا خسرناه، ولماذا بعد سقوط رأس النظام آثرنا أن ننحاز للعسكر؟! لقد كان خطأً فاحشاً أن نخسر من لا ربح لنا بخسرانه، وهذا الخطأ اضطرنا إلى الانجرار إلى خطأ آخر وهو التعجيل بالمسار السياسيّ قبل إتمام الثورة على الأرض، فضاعت الفرصة وخسرنا القوة الوحيدة التي كنّا نملكها وهي الحالة الثورية.
ومع ذلك تداركتنا رحمة الله تعالى، فذهبنا بعد لأي إلى الانتخابات، ولا أستبعد أن يكون ثبات الشباب الذين أسلمناهم في واقعة (محمد محمود) كان سببًا في نزول العسكر على رغبتنا لتعجيل الانتخابات التي كانت عرضة للتأجيل والتسويف، وذهب الناس إلى صناديق الاقتراع ليصوتوا للإسلاميين، وليمنحوهم فرصة ليست قليلة ولا ضئيلة، فإذا هم يشكلون غالبية المجلس الذي سمي يومها برلمان الثورة، فوالله لو شاء البرلمان لامتلك زمام الأمور ولقاد مرحلة من الثورة داخل أروقة الدولة ومؤسساتها، ولكنه لم يشأ، وظل على مدى ستة أشهر يسن قوانين يعلم أنه لن يملك القدرة على تنفيذها، ويجلد حكومة يعلم أنها ليس لها من الأمر شيء، ونسي أنه برلمان الثورة وعاش دور برلمان الدولة التي اختزلت يومها في العسكر؛ فعصف العسكر بالبرلمان في عشية واحدة عبر مؤسسة هي أعرق مؤسسات الدولة العميقة (المحكمة الدستورية).
لكن شبابنا الذين أُفْرِدوا في الشوارع بعد ضياع اللحمة الشعبية تحملوا عنّا هذا الوزر، ومرة أخرى تتداركنا رحمة الله تعالى؛ ليأتي رئيس للدولة منَّا نعرف صدقه وأمانته وحسبه ونسبه، فماذا فعلنا؟ لا يستطيع أحد أن يحاسبه الآن بعدما صعد شهيدًا وأخذ معه أسرار حكمه وقصره، لكننا نستطيع أن نحاسب أنفسنا: ألم نكن جميعاً على علم بما يجري من حولنا؟ ألم يكن الجو من حولنا يظلم يومًا بعد يوم؟ لماذا لم نتحرك بصورة ما؟ أين وحدتنا وإعدادنا وقوتنا الاجتماعية؟ لقد كان بوسعنا أن نفعل الكثير في وقت كانت الشرعية لنا والحكم في يدنا.
وهذه فرصة ثالثة أهدرناها، لا تقل الآن إننا أخطانا من الأصل بدخولنا سباق الرئاسة؛ لأننا جميعًا إن عاد بنا الزمن للوراء ألف مرة فلن نصنع في كل مرة إلا ما صنعناه أول مرة، لا تقل هذا لأنه وعلى فرض أننا أخطأنا في الخيار فقد كان بالإمكان أن نحول الخطأ إلى صواب والإخفاق إلى نجاح؛ لأن الوصول لرئاسة دولة ليس أمرًا سهلًا ولا عبثاً، فكم من رئيس استطاع بمفرده من منصبه أن يوسع لنفسه؛ فكيف إذا كان الرئيس وراءه قاعدة شعبية عريضة ومتماسكة؟! كان ينبغي إذ جاء منّا رئيس - بغض النظر عن الخطوة أهي صواب أو خطأ - أن نحكم بأدوات الحكم، وأن نستثمر الظرف في نقل البلاد ونقل أنفسنا معها إلى وضع يعقد الأمور على المجرمين.
وبما أنّ الزمام قد أفلت من أيدينا وصرنا بالحكم على حافة الهاوية ورأينا الأمور تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم؛ فلماذا لم نخرج على الناس بالدعوة لانتخابات مبكرة ونخرج من أوسع الأبواب وأسلمها؛ لنعود إلى بيوتنا الدعوية والعدو لا يزال لم يكتشف ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على خلق الله أجمعين؟ لماذا أهدرنا هذه الفرصة أيضًا والحرب كرٌّ وفرّ؟ وإذ آثرنا المضيّ في طريق (الصمود!) فلماذا لم نتخذ له عدته؟ أو لماذا اخترناه من الأصل إذا لم يكن لنا عدة؟ ومع ذلك فإن رحمة الله تداركتنا فجاءت رابعة على خلاف ما كنا نتوقع وما كان العالم كله يتوقع عددًا وقوة واستعدادًا للموت في سبيل الله؛ فما الذي صنعناه بهذا المخزون الاستراتيجي الهائل؟ جلسنا نغني ونخطب في ميدان رابعة؟!
فرص تلو فرص ضائعة، فلو أنّ قطيعًا من البشر مثلنا كان يتقاضى رواتب من أعداء أمتنا مقابل أن يضيع علينا كل هذه الفرص ما أفلح في صنع ما صنعناه بأنفسنا لأنفسنا؛ فما أحلم الله علينا! وما أشد قسوتنا على أنفسنا وعلى أتباعنا!! والعجيب أننا لا نزال قادرين على تضييع الفرص وإهدار المكاسب، ولا نزال نمارس عن عمد هذا الإهدار وهذا التضييع، ولكن العجيب أننا لا نزال نملك من الفرص الكثير؛ فهل سنضيعها مثلما ضيعنا ما قبلها؟!
لقد خرجنا من مصر ومكثنا في تركيا وقطر وماليزيا وغيرها من بلاد الله ننعم بالأمن والسكون، فلم نفلح في أخذ الخطوة الأولى، التي لا نجاح ولا فلاح بها، وهي أن نجلس معًا فندرس أخطاءنا ونضع رؤيتنا ومشروعنا لنبدأ بالحركة، ومرت السنون الآمنة المطمئنة، وهبت على الدنيا رياح أخرى منذرة بكثير مما نخشاه في المهجر، ومع ذلك الفرصة سانحة، وما دام في المسلم نفس يتردد فالفرصة أمامه متاحة، نستطيع في غربتنا هذه أن نتوحد إن شئنا وأن نتكتل إن أردنا وأن ننطلق في العمل إن توفرت لدينا النية الصحيحة، وساعتها سوف يفتح الله لنا الأبواب المغلقة.
إننا أمّة صاحبة رسالة عالمية تستهدف الفطرة الإنسانية وتتناغم معها، وإن ديننا هو دين الفطرة، وإن قضيتنا قضية عادلة لا يتردد عاقل عادل في التجاوب معها، وإن الجسد المصري في الخارج ممتد من أقصى الأرض إلى أقصاها، ونستطيع بهذه الإمكانيات الجبارة أن نحول الكوكب الأرضي إلى غربة مظلمة على هذا النظام، وأن نحوله في هذه الأرض إلى قطعة من الخردة ملقاة في فلاة، والعالم الآن لا يعيش في جزائر منعزلة، وليس على وجه المعمورة شعب يعيش منفردًا ولا حكومة تحيا كما تشاء دون أن يكون لها شرعية ولو مزيفة، فإذا نجحنا في إحراج القوى الدولية التي تدعم النظام الانقلابي أمام شعوبها فسوف نستطيع فعل الكثير والكثير.
وساعتها يمكن أن يصل صوتنا للداخل، ومع تفاقم الأزمات نستطيع أن نحرك الشعب، وإذا كانت الفرص التي سنحت عند بيع تيران وصنافير أو عند قرارات رفع الأسعار أو غير ذلك فلا يزال النظام غارقًا في مؤهلات الفشل والإخفاق، فهل سنستطيع فعل شيء؟ أم أننا سنستمر في إهدار الفرص إلى أن يأتي الاستبدال؟ ونسأل الله العافية، والكلام هنا للكبار، ولاسيما في الخارج، فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا. آمين
‏٢٧‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١٠:٤١ م‏
إعلام الثورة المصرية أ.د مجدي شلش ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk الإعلام بكل صوره وفنونه له تأثير السحر على العقول والقلوب للصغير والكبير والنساء والرجال. أصبح لغة عالمية للتواصل بين الناس له قواعده وقيمه وموازينه وعلمه وفقهه.لا يختلف اثنان أن الإعلام له دور كبير في بناء الأمم على قواعد راشدة إذا كان نابعًا من همومها ومعبرًا عن آمالها وثقافتها. الثورة المصرية الآن في حالة حرجة تحتاج إلى إنعاش إعلامي يقوي ظهرها ويدافع عن قيمها ويبين عدوها ويظهر خليلها. إعلام يؤمن بأن الثورة المصرية هي أقرب الثورات للنجاح ويقدم النموذج الراقي لجمع شمل الثوار ويعمل بكل طاقته لفضح إعلامي الانقلاب العسكري الخائن. الثورة المصرية جمع الله لها نماذج إعلامية فذة قادرة على التأثير بشكل إيجابي في عموم الشعب المصري. تطور الإعلام الثوري واضح وملحوظ في التقنية والمهنية وأصبح منافسًا قويًا لساحة الإعلام الانقلابي. ثورة الشعب المصري الآن تمثل حالة حياة أو موت ليس للشعب المصري فقط وإنما لعموم الأمة العربية والإسلامية، حيث الامتداد الشيعي والصهيوني ليس على مستوى الثقافة والتطبيع بل تعداه إلى ابتلاع عواصم عربية ترزح تحت الحكم الرافضي الذي لا يؤمن إلا بذاته وشيعته. وكذا الامتداد الصهيوني الذي يدير عواصم عربية وإفريقية كبرى. تبني فكرة المعارضة السياسية في ظل الحالة الراهنة من بعض القنوات الفضائية التي نشأت في ظلال الثورة وأثناء قوتها نوعًا من التراجع الثوري الذي قد تكون عواقبه وخيمة علينا جميعًا. الإعلام الثوري ليس في غالبه رد فعل يومي لما يقوله إعلاميي الانقلاب؛ وإنما له موضوعه واستراتيجيته التي ينطلق منها. كثرت البرامج التي تعلق علي شواذ فكر إعلاميي الانقلاب، حيث إعلامنا أصبح وسيلة لترويج سمومهم وضلالهم وعفنهم. قد تكون هناك مندوحة لنقل بعض الفقرات، لكن المساحة الكبيرة والمتكررة قد تنبئ عن عدم استراتيجية إعلامية ثورية. الثورة حية في القلوب، وروحها عطرة بين الحنايا والضلوع، وأسبابها قائمة أكثر من شرارة بدايتها، والإعلام الفذ ركن من أركانها، وباعث الروح فيها. الثورة أصبحت مضمون بعد أن كانت فكرة، ورصيد كبير بعد أن زلت فترة، وقوة صلبة تجاوزت الأرض الرخوة. أصبح الإعلام الثوري في حاجة ملحة إلى استراتيجية إعلامية ثورية تكون إطارًا حاكمًا لكل فنون الإعلام، صغيرها وكبيرها، المرئي منها والمقروء والمسموع. استراتيجية شاملة ومتنوعة وعميقة ومؤثرة، إذ الإعلام الثوري أصبح فريضة ثورية وضرورة واقعية وقوة معنوية ناعمة. الإعلام الانقلابي يكاد يتفق الجميع على قوته وتأثيره، لأنه نابع من ثورة مضادة أحسنت استغلاله لتمزيق الصفوف وبعثرة الجهود، وتشويه الثورة وأصحابها، وهدم كل القيم الإنسانية النبيلة. مساحة الإعلام كبيرة، غابت عن بعضها روح الثورة وريحتها، ونشم الآن من بعض القنوات الفضائية تبني فكرة المعارضة السياسية لأنظمة القتل والدمار، أنظمة خانت الأوطان وباعت الديار. رأيي المحدود في الإعلام الذي ينقلب على الثورة المصرية ويتجه نحو طرح البديل السياسي المعارض هو من قبيل أو قريب من الثورة المضادة. قلة من الإعلاميين تركب الموجة العالية، شأن أي جملة من البشر في أي تخصص سياسي أو شرعي أو اقتصادي، والظاهر من البعض الآن صوت المعارضة والتصالح مع القتلة والمجرمين، إذ أصبح صوت الثورة بلا دعم مادي ولا معنوي. الثورة المصرية تمتلك رصيد كبير من السادة الإعلاميين والصحفيين الأفذاذ الذين يؤمنون بأهدافها وغاياتها من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل أبناء الشعب المصري.تسعد الثورة المصرية بهم وتفتخر على غيرها من الثورات العربية الأخرى. إن مربع الإعلام قابل للاختراق كأي مربع آخر وأصبح من الضروري واللازم إنشاء منتدى إعلامي الثورة المصرية . يهتم بوضع التصورات والمضامين الإعلامية المناسبة، لحساسية وضعية الثورة في الداخل والخارج. وكيفية تفعيل وسائل الإعلام المختلفة للتخديم على الثورة والسير بها نحو النضوج والنجاح.
إعلام الثورة المصرية
أ.د مجدي شلش

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

الإعلام بكل صوره وفنونه له تأثير السحر على العقول والقلوب للصغير والكبير والنساء والرجال. أصبح لغة عالمية للتواصل بين الناس له قواعده وقيمه وموازينه وعلمه وفقهه.لا يختلف اثنان أن الإعلام له دور كبير في بناء الأمم على قواعد راشدة إذا كان نابعًا من همومها ومعبرًا عن آمالها وثقافتها.

الثورة المصرية الآن في حالة حرجة تحتاج إلى إنعاش إعلامي يقوي ظهرها ويدافع عن قيمها ويبين عدوها ويظهر خليلها. إعلام يؤمن بأن الثورة المصرية هي أقرب الثورات للنجاح ويقدم النموذج الراقي لجمع شمل الثوار ويعمل بكل طاقته لفضح إعلامي الانقلاب العسكري الخائن.

الثورة المصرية جمع الله لها نماذج إعلامية فذة قادرة على التأثير بشكل إيجابي في عموم الشعب المصري. تطور الإعلام الثوري واضح وملحوظ في التقنية والمهنية وأصبح منافسًا قويًا لساحة الإعلام الانقلابي.

ثورة الشعب المصري الآن تمثل حالة حياة أو موت ليس للشعب المصري فقط وإنما لعموم الأمة العربية والإسلامية، حيث الامتداد الشيعي والصهيوني ليس على مستوى الثقافة والتطبيع بل تعداه إلى ابتلاع عواصم عربية ترزح تحت الحكم الرافضي الذي لا يؤمن إلا بذاته وشيعته. وكذا الامتداد الصهيوني الذي يدير عواصم عربية وإفريقية كبرى.

تبني فكرة المعارضة السياسية في ظل الحالة الراهنة من بعض القنوات الفضائية التي نشأت في ظلال الثورة وأثناء قوتها نوعًا من التراجع الثوري الذي قد تكون عواقبه وخيمة علينا جميعًا.

الإعلام الثوري ليس في غالبه رد فعل يومي لما يقوله إعلاميي الانقلاب؛ وإنما له موضوعه واستراتيجيته التي ينطلق منها. كثرت البرامج التي تعلق علي شواذ فكر إعلاميي الانقلاب، حيث إعلامنا أصبح وسيلة لترويج سمومهم وضلالهم وعفنهم.

قد تكون هناك مندوحة لنقل بعض الفقرات، لكن المساحة الكبيرة والمتكررة قد تنبئ عن عدم استراتيجية إعلامية ثورية. الثورة حية في القلوب، وروحها عطرة بين الحنايا والضلوع، وأسبابها قائمة أكثر من شرارة بدايتها، والإعلام الفذ ركن من أركانها، وباعث الروح فيها. الثورة أصبحت مضمون بعد أن كانت فكرة، ورصيد كبير بعد أن زلت فترة، وقوة صلبة تجاوزت الأرض الرخوة.

أصبح الإعلام الثوري في حاجة ملحة إلى استراتيجية إعلامية ثورية تكون إطارًا حاكمًا لكل فنون الإعلام، صغيرها وكبيرها، المرئي منها والمقروء والمسموع. استراتيجية شاملة ومتنوعة وعميقة ومؤثرة، إذ الإعلام الثوري أصبح فريضة ثورية وضرورة واقعية وقوة معنوية ناعمة.

الإعلام الانقلابي يكاد يتفق الجميع على قوته وتأثيره، لأنه نابع من ثورة مضادة أحسنت استغلاله لتمزيق الصفوف وبعثرة الجهود، وتشويه الثورة وأصحابها، وهدم كل القيم الإنسانية النبيلة. مساحة الإعلام كبيرة، غابت عن بعضها روح الثورة وريحتها، ونشم الآن من بعض القنوات الفضائية تبني فكرة المعارضة السياسية لأنظمة القتل والدمار، أنظمة خانت الأوطان وباعت الديار.

رأيي المحدود في الإعلام الذي ينقلب على الثورة المصرية ويتجه نحو طرح البديل السياسي المعارض هو من قبيل أو قريب من الثورة المضادة. قلة من الإعلاميين تركب الموجة العالية، شأن أي جملة من البشر في أي تخصص سياسي أو شرعي أو اقتصادي، والظاهر من البعض الآن صوت المعارضة والتصالح مع القتلة والمجرمين، إذ أصبح صوت الثورة بلا دعم مادي ولا معنوي.

الثورة المصرية تمتلك رصيد كبير من السادة الإعلاميين والصحفيين الأفذاذ الذين يؤمنون بأهدافها وغاياتها من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل أبناء الشعب المصري.تسعد الثورة المصرية بهم وتفتخر على غيرها من الثورات العربية الأخرى.

إن مربع الإعلام قابل للاختراق كأي مربع آخر وأصبح من الضروري واللازم إنشاء منتدى إعلامي الثورة المصرية . يهتم بوضع التصورات والمضامين الإعلامية المناسبة، لحساسية وضعية الثورة في الداخل والخارج. وكيفية تفعيل وسائل الإعلام المختلفة للتخديم على الثورة والسير بها نحو النضوج والنجاح.
‏٢٤‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٢:٥٨ م‏
هل يمكننا صناعة ما يصنعون من صواريخ وغواصات؟ آدم الزراري ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk يقول المهدي المنجرة رحمه الله: "إن جهاز الحاسوب كان شرطًا من شروط حسابات القنبلة النووية وبإمكان جهاز الحاسوب العادي اليوم القيام بتلك الحسابات وأكثر ". مشيرًا بيده لجهاز حاسوبه أثناء حديثه في محاضرة في تسعينيات القرن الماضي. فالتكنولوجيا أصبحت متاحة لجميع الأمم وتتسابق لبيعها وتعليمها لأهداف اقتصادية وبناء تحالفات وخطوط ممانعة؛ ولم تعد حكرًا على قطب واحد؛ وأوجدت العولمة مناخًا للعلم والتكنولوجيا وكسرت أي محاولة للاحتكار؛ فعلى سبيل المثال أنظمة التموقع العالمي GPS أصبحت متاحة، وأجهزة الاتصال والبرمجة وكل ما كان عائقًا في السابق أصبح بإمكان أي شركة الحصول عليه. لن أسهب في الحديث عن تجربة عبد القادر خان في تجميع وصناعة القنبلة النووية، وهي أعقد ما يمكن من الصناعات، فبإمكان أفقر دولة من دولنا أن تمتلك مشاريع مماثلة، لكن غياب الإرادة، وعدم النجاح في فك الحصار وبناء تحالفات، أو الاكتفاء بالخطابات الشعبوية والصدام المباشر كما فعلت جماعة البغدادي، أو غياب تكوين الأطر وبناء مشاريع كما عجزت طالبان في ذلك، كلها أسباب حالت دون ذلك. فأي مشروع يقوم على: 1- كادر بشري 2- تمويل 3- مخطط وأمتنا تزخر بالركنين الأساسيين الأولين. لقد كانت تجربة محمد الزواوي في صناعة الطائرات وجمع الخبراء في نادي يصنع ما تكاسلت الدول العربية عن صناعته، رغم قلة اليد، علامة فارقة في تاريخ المعارك مع الصهاينة وأملًا لتأسيس رابطة صناعية من المهندسين لهدا الغرض حيث إننا نعلم أن الشهيد رحمه الله الزوواي كان بصدد صناعة غواصة نجح هواة الأوربيين في صناعتها في الغرب؛ فالغرب يعيش حرية الابتكار و الصناعة عكس بلداننا بل إن تسجيل براءة الاختراع يكون بلغتهم عكس بلادنا التي تشترط كتابته بلغة المحتل، ما يمنع العديد من المبتكرين من صياغة ذلك خوفًا من السرقة الموهومة في أنفسهم، ناهيك عن المكوس اللازمة لتسجيل براءة الاختراع ما يثقل المخترعين. إن صناعة الغواصة لا تتطلب إلا تخصصات المعادن والمكيانيك والهيدروليكي والتوجيه الآلي والكهرباء والتصميم عبر الحاسوب، وكل هده التخصصات متوفرة في أمتنا بل إن العالم اليوم لم يعد يعترف بالأسرار فكل الأسرار تباع وتخترق أو يمكن تحصيلها عبر البرمجة العكسية كما أسقطت إيران من طائرات الولايات المتحدة، وكذلك فعلت الصين بشرائها لقطع الطائرة التي سقطت قرب منزل بن لادن رحمه الله. ولهذا يعد الجانب الاستخباراتي أشد أهمية في الصناعة العسكرية للحماية من الاختراق الاستخبارتي والعمل على حماية المعطيات من التدمير أو الاغتيال العسكري، فقد اغتالت المخابرات الأمريكية والصهيونية العلماء الإيرانيين والعراقيين لإفشال الصناعة العسكرية واغتال الموساد الصهيوني محمد الزوواي؛ بل وصل بها الحد إلى اختراق مشروع أوربا لتسريع الجسيمات وتدمير بياناته بحجة عدم مشاركتهم لها بالمعلومات. كما أن معرفة أوجه العمل والأجدر في الصناعة أمر مهم، حتى لا يوجهنا الأعداء عبر معلومات مضللة و نبدد طاقاتنا في مشاريع غير استراتيجية، أو لا يمكن تطبيقها على غرار مشروع الليزر الياباني الذي لم يكن تطبيقه آنذاك ذا قابلية للتنفيذ أو مشاريع هتلر الصناعية ودخوله في حرب صناعية أكبر من طاقته. إن المال الذي يعد الركيزة الأولى يمكن الحصول عليه عبر التحالف مع دولة؛ فلا يمكن اليوم بناء صناعة عسكرية متطورة إلا ببناء حلف صناعي؛ فحتى الطائرات الأمريكية ليست إلا نتاج تحالفات وتكتلات، والسماح للشركات الخاصة للصناعات العسكرية مع الدعم الجزئي لأبحاثها سيعزز الإنتاج العسكري لأمتنا. بهذا الصدد تبرز أهمية تخصيص الأوقاف وتوجيه الشركات وبناء حلف مهندسين حول العالم الإسلامي، يدعمون المقاومة عبر منتدى يسمح لهم بتقسيم أعمالهم على سبيل المثال، والتخطيط لإنتاج غواصة أو طوربيد ودعم أبحاثهم ماليًا وماديًا ومتابعة مشاريعهم من بيوتهم وإجراء أبحاث دكتوراه في دولهم بالتخصصات التي تفيد أمتهم، وتخصيص جزء من راتبهم لهذا الوقف الإسلامي المهم. بل لا مانع من استنساخ تجربة غولن في صناعة قادة ومساعدتهم على الوصول للمناصب عبر الاختراق، أو دعم دراستهم في تخصصات معينة؛ فلو افترضنا أن مِن الأمة الاسلامية طائفة خصصت مالها ووقتها وطاقتها لدعم المقاومة عبر هدا المشروع فإن الكيان الصهيوني سيُصدم بتطوير صواريخ المقاومة وبعدها، ولربما إسقاط طائراتها، وقد نجحت القاعدة في إصابة مدمرة كول بطريقة بدائية و بـ300 كلغرام من مادة ليست قوية كالمواد البلاستيكية اليوم، وذلك دون توجيه و لا دراسة، فأصابوا المدمرة بعطب شبه قاتل، وهذا قمة الاستعجال وإدخال الأمة في متاهة دون بناء صناعة وكوادر توجه توجيهًا دقيقًا لتقويض الكيان الصهيوني، ولهذا وجب الحذر من وهم التفوق والتسرع في إدخال أمتنا في مقتل وحروب كان الأجدر تأخيرها إلى حين. كما يمكن جني أموال الأبحاث من تسويق المنتج وبيعه لدول ككوريا الشمالية أو فنزويلا والبرازيل ودول الممانعة، أو بيع الأبحاث لها مقابل الدعم أو شراء الغواصة حال صدور المنتج الأولي.
هل يمكننا صناعة ما يصنعون من صواريخ وغواصات؟
آدم الزراري

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

يقول المهدي المنجرة رحمه الله: "إن جهاز الحاسوب كان شرطًا من شروط حسابات القنبلة النووية وبإمكان جهاز الحاسوب العادي اليوم القيام بتلك الحسابات وأكثر ". مشيرًا بيده لجهاز حاسوبه أثناء حديثه في محاضرة في تسعينيات القرن الماضي.

فالتكنولوجيا أصبحت متاحة لجميع الأمم وتتسابق لبيعها وتعليمها لأهداف اقتصادية وبناء تحالفات وخطوط ممانعة؛ ولم تعد حكرًا على قطب واحد؛ وأوجدت العولمة مناخًا للعلم والتكنولوجيا وكسرت أي محاولة للاحتكار؛ فعلى سبيل المثال أنظمة التموقع العالمي GPS أصبحت متاحة، وأجهزة الاتصال والبرمجة وكل ما كان عائقًا في السابق أصبح بإمكان أي شركة الحصول عليه.

لن أسهب في الحديث عن تجربة عبد القادر خان في تجميع وصناعة القنبلة النووية، وهي أعقد ما يمكن من الصناعات، فبإمكان أفقر دولة من دولنا أن تمتلك مشاريع مماثلة، لكن غياب الإرادة، وعدم النجاح في فك الحصار وبناء تحالفات، أو الاكتفاء بالخطابات الشعبوية والصدام المباشر كما فعلت جماعة البغدادي، أو غياب تكوين الأطر وبناء مشاريع كما عجزت طالبان في ذلك، كلها أسباب حالت دون ذلك.

فأي مشروع يقوم على:

1- كادر بشري 2- تمويل 3- مخطط

وأمتنا تزخر بالركنين الأساسيين الأولين.

لقد كانت تجربة محمد الزواوي في صناعة الطائرات وجمع الخبراء في نادي يصنع ما تكاسلت الدول العربية عن صناعته، رغم قلة اليد، علامة فارقة في تاريخ المعارك مع الصهاينة وأملًا لتأسيس رابطة صناعية من المهندسين لهدا الغرض حيث إننا نعلم أن الشهيد رحمه الله الزوواي كان بصدد صناعة غواصة نجح هواة الأوربيين في صناعتها في الغرب؛ فالغرب يعيش حرية الابتكار و الصناعة عكس بلداننا بل إن تسجيل براءة الاختراع يكون بلغتهم عكس بلادنا التي تشترط كتابته بلغة المحتل، ما يمنع العديد من المبتكرين من صياغة ذلك خوفًا من السرقة الموهومة في أنفسهم، ناهيك عن المكوس اللازمة لتسجيل براءة الاختراع ما يثقل المخترعين.

إن صناعة الغواصة لا تتطلب إلا تخصصات المعادن والمكيانيك والهيدروليكي والتوجيه الآلي والكهرباء والتصميم عبر الحاسوب، وكل هده التخصصات متوفرة في أمتنا بل إن العالم اليوم لم يعد يعترف بالأسرار فكل الأسرار تباع وتخترق أو يمكن تحصيلها عبر البرمجة العكسية كما أسقطت إيران من طائرات الولايات المتحدة، وكذلك فعلت الصين بشرائها لقطع الطائرة التي سقطت قرب منزل بن لادن رحمه الله.

ولهذا يعد الجانب الاستخباراتي أشد أهمية في الصناعة العسكرية للحماية من الاختراق الاستخبارتي والعمل على حماية المعطيات من التدمير أو الاغتيال العسكري، فقد اغتالت المخابرات الأمريكية والصهيونية العلماء الإيرانيين والعراقيين لإفشال الصناعة العسكرية واغتال الموساد الصهيوني محمد الزوواي؛ بل وصل بها الحد إلى اختراق مشروع أوربا لتسريع الجسيمات وتدمير بياناته بحجة عدم مشاركتهم لها بالمعلومات.

كما أن معرفة أوجه العمل والأجدر في الصناعة أمر مهم، حتى لا يوجهنا الأعداء عبر معلومات مضللة و نبدد طاقاتنا في مشاريع غير استراتيجية، أو لا يمكن تطبيقها على غرار مشروع الليزر الياباني الذي لم يكن تطبيقه آنذاك ذا قابلية للتنفيذ أو مشاريع هتلر الصناعية ودخوله في حرب صناعية أكبر من طاقته.

إن المال الذي يعد الركيزة الأولى يمكن الحصول عليه عبر التحالف مع دولة؛ فلا يمكن اليوم بناء صناعة عسكرية متطورة إلا ببناء حلف صناعي؛ فحتى الطائرات الأمريكية ليست إلا نتاج تحالفات وتكتلات، والسماح للشركات الخاصة للصناعات العسكرية مع الدعم الجزئي لأبحاثها سيعزز الإنتاج العسكري لأمتنا.

بهذا الصدد تبرز أهمية تخصيص الأوقاف وتوجيه الشركات وبناء حلف مهندسين حول العالم الإسلامي، يدعمون المقاومة عبر منتدى يسمح لهم بتقسيم أعمالهم على سبيل المثال، والتخطيط لإنتاج غواصة أو طوربيد ودعم أبحاثهم ماليًا وماديًا ومتابعة مشاريعهم من بيوتهم وإجراء أبحاث دكتوراه في دولهم بالتخصصات التي تفيد أمتهم، وتخصيص جزء من راتبهم لهذا الوقف الإسلامي المهم.

بل لا مانع من استنساخ تجربة غولن في صناعة قادة ومساعدتهم على الوصول للمناصب عبر الاختراق، أو دعم دراستهم في تخصصات معينة؛ فلو افترضنا أن مِن الأمة الاسلامية طائفة خصصت مالها ووقتها وطاقتها لدعم المقاومة عبر هدا المشروع فإن الكيان الصهيوني سيُصدم بتطوير صواريخ المقاومة وبعدها، ولربما إسقاط طائراتها، وقد نجحت القاعدة في إصابة مدمرة كول بطريقة بدائية و بـ300 كلغرام من مادة ليست قوية كالمواد البلاستيكية اليوم، وذلك دون توجيه و لا دراسة، فأصابوا المدمرة بعطب شبه قاتل، وهذا قمة الاستعجال وإدخال الأمة في متاهة دون بناء صناعة وكوادر توجه توجيهًا دقيقًا لتقويض الكيان الصهيوني، ولهذا وجب الحذر من وهم التفوق والتسرع في إدخال أمتنا في مقتل وحروب كان الأجدر تأخيرها إلى حين.

كما يمكن جني أموال الأبحاث من تسويق المنتج وبيعه لدول ككوريا الشمالية أو فنزويلا والبرازيل ودول الممانعة، أو بيع الأبحاث لها مقابل الدعم أو شراء الغواصة حال صدور المنتج الأولي.
‏٢١‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١:٥٣ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (17) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط • لماذا عزلنا أول أمير للجماعة الإسلامية في أسيوط بعد شهور؟! • حاول الإخوان إثناءنا عن عزل أمير الجماعة الإسلامية لكننا أصررنا على ذلك! • لم نستجب لمحاولات الإخوان فرض هيمنتهم على شباب الجماعة الإسلامية! سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] خضع أسامة حافظ وكبار زعماء الطلاب لاختيار الشاب الطالب بالصف الأول بكلية الطب أسامة السيد كأمير للجماعة الإسلامية بالجامعة، في واحدة من وقائع الزهد وتوقير الكبار وتقديم مصلحة الدعوة على مصلحة النفس، على النحو الذي أشرنا إليه سابقًا. لكن وَضْع أميرٍ على رأس الإخوة الكبار، وهو لا يتمتع بمواهب القيادة، لم يكن أمرًا طبيعيًا، لقد صار الأمر كأنه وُضِع أمير شكلي ليدير شيئًا أكبر منه وأعظم، وجرى الأمر بهذه الصورة: الاسم والمنصب الرسمي لأسامة السيد، والزعامة الحقيقية لمن هم كأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وغيرهم. له الصورة ولهم حمل العبء العملي في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يصدرون عن طبعهم وما استقر عليه الأمر في الفترة الماضية، فهم الذين يملكون مقاليد العمل على الحقيقة. عُرِفت جامعة أسيوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان هذا أبرز سمت للعمل الدعوي الشبابي فيها، وقد حاول أسامة السيد تعطيل هذا الأمر مرارًا ولكنه لم يفلح! كان أسامة السيد واجهة قيادة الإخوان في الجامعة، وبدأ يظهر بالتدريج لماذا وضعوا أسامة السيد في هذا المنصب وأصروا عليه في ذلك المعسكر، كانت بداية المشكلات في اجتماع مجلس شورى الجامعة، حيث يجتمع أمراء الكليات ليتشاوروا ويقرروا ماذا يفعلون، فإذا اتفقوا على شيء قال أسامة السيد: لا بد من الرجوع للإخوة الكبار، لا يمكن أن نتصرف في هذا بغير إذن الإخوة الكبار، وهكذا!.. يقصد بهم قيادة الإخوان في المحافظة. وعندئذ يزمجر الإخوة أمراء الكليات، أولئك الذين أسسوا العمل ونظموه وتحملوه وكانوا يعملون باستقلال تام قبل أن يطرأ عليهم هذا الوضع الجديد، ويعترضون على هذا الأسلوب الذي يرهن العمل وقراره لآخرين، وأسامة من جهة يصرّ على ألا يُمْضِي أي أمر دون هذا الرجوع لقيادته في الإخوان واستئذانهم، ويتمسَّك بشرعية اختياره أميرًا وله على الجميع حق السمع والطاعة! تعددت الوقائع، يخرج أسامة من اجتماع مجلس شورى الجامعة إلى قيادة الإخوان بما استقر عليه أمرهم، فإما أقرُّوهم فعاد إليهم بإمضاء ما اتفقوا عليه، وإما اعترضوا فلم يُقِرُّوهم فسعى في نقض ما اتفقوا عليه بالأمس. هنا بدأ ينمو عزمٌ لدى أسامة حافظ بأن يعزل أسامة السيد! وحدَّث بقية الإخوة بما في نفسه، يقول: اخترنا أسامة السيد أميرًا فإذا هو مخبر، يذهب إلى الإخوان فيخبرهم بكل شيء، وكلما اتفقنا على أمر رهنه لقرار ورغبة "الإخوة الكبار" عنده، والجامعة لها وضعها الذي لا يفهمه من كان خارجها، ولا يمكن أن يُقاد العمل في الجامعة من خارجها، وذهب هذا مثلًا وشعاًرا "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها". وجد كلامه صدى في نفوس بقية الإخوة، وتشاوروا: كيف نعزله؟ قالوا: نجمع الناس كما جُمِعوا أول مرة، ونختار مرة أخرى، ولئن أعادوا اختياره فهم وما أرادوا، ولكن سيكون اختيارهم هذه المرة اختيارًا حرًّا يجب علينا قبوله، وإن لم يختاروه فلن نسمح مرة أخرى لهذا الضغط أن يُمارس علينا، ولن يُفرض علينا من لا نقتنع به. كان هذا في ذات السنة، لقد تولى أسامة السيد إمارة الجامعة في النصف الأول من العام الدراسي 1976 – 1977، بدأت ولايته في شهر نوفمبر أو ديسمبر 1976، وقضينا في هذه المشكلات الداخلية سحابة هذا العام حتى قررنا إقامة المعسكر العام لعزله في شهر مارس أو إبريل 1977، واخترنا أن يكون أيضًا في مسجد عمر مكرم. وليس يعني هذا أن العمل في الجامعة قد توقف، بل نحن في هذه السنة قد فزنا برئاسة اتحاد الطلاب في الجامعة. وكما هو معروف فقد كانت إمكانيات اتحاد الطلاب الرسمي العصب الأقوى في العمل الدعوي في الجامعات تلك الفترة. حاول الإخوان ما استطاعوا إثناءنا عن فكرة الدعوة إلى معسكر، ثم حاولوا إثناءنا عن فكرة الانتخابات في المعسكر أيضًا، طلبوا أن نعطيه فرصة أخرى، سنة أخرى، فترة جديدة، ونحن في إصرارنا نرفع شعار "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها" و"لا فرصة إلا لمن يأتي به الطلاب"، يجادلوننا: ها قد صرنا في نهاية السنة الدراسية والوقت قد ضاق بل قد فات، ولن يتمكن الجديد من فعل شيء إذا انتُخِب، ونحن نرد: المهم عندنا أن يتحقق اختيار حقيقي للطلاب، ولئن اختاروه مرة أخرى فلا مشكلة عندنا.. وهكذا أخفقت محاولاتهم في إفساد الأمر، وذهبوا في محاولة حشد أتباعهم لإعادة انتخابه! كان زعماء تنظيم المعسكر والدعوة إليه ثلاثة: أسامة حافظ وصلاح هاشم وأنا.. وكان حضور صلاح هاشم نوعًا من الدعم المعنوي والروحي بصفته مؤسس العمل الدعوي في الجامعة مع أنه كان قد تخرج في هذ الوقت. بدأنا بانتخابات أمراء الكليات، وفيما أتذكر كانت النتائج هي هي، فيما عدا أمير المدينة الجامعية التي فاز بها هذه المرة ناجح إبراهيم وكان طالبًا في كلية الطب، خلفًا لأخ اسمه محمد عباس أو شيئًا قريبًا من هذا، وقد كان هذا الأخ من الجماعة الإسلامية أيضًا لكنه لم يعد من المشهورين من رجالها فيما بعد. اختير أسامة السيد أميرًا لكلية الطب مرة أخرى، وجاء دور اللحظة المهمة، لاختيار أمير الجامعة. كانت قيادات الإخوان حاضرة أيضًا، نفس المجموعة: د. دسوقي شملول ود. محمد حبيب والمحامي محمد الغزالي، وفيما أظن الأستاذ عبود أيضًا، وحاولوا قدر إمكانهم منع اختيار بديل لأسامة سيد، ولكن قيادات العمل الطلابي التي بدأته كانوا حاضرين أيضًا: صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وعبد الله عبد السلام. ولم أحضر أيضًا هذا الاجتماع، ولا أتذكر السبب الآن، لكني أدركته في اللحظات الأخيرة! تداول الحاضرون فيمن يمكن أن يكون أميرًا للجامعة، كان الإجماع منعقدًا على رفض أسامة السيد، لكن ليس ثمة إجماع مقابل على شخص البديل، كان أسامة حافظ أول من طُرِح ليكون هو أمير الجامعة، ولكن أسامة حافظ رفض، رفض لئلا يقال: فعل هذا كله لأنها أرادها لنفسه. مثلما تنازل عنها أول مرة زهدًا فيها وإيثار لما ظنه مصلحة العمل الدعوي. وكان الشيخ أسامة حافظ هو الذي رشح ناجح إبراهيم ليكون أميرًا للجامعة! قال له الإخوان: لكن ناجح إبراهيم حليق، وأنت كنت تنتقد أسامة السيد لأنه حليق أيضًا، فقال: يلتحي من الآن. فالتحى ناجح من هذه اللحظة وصار أميرًا للجامعة. انتهى الأمر، وصعد أسامة السيد المنبر ليقول كلمة، وهنا دخلت المسجد فأدركت هذه الكلمة! الحق أنه قال كلمة مؤثرة حقًا، بل لقد أبكاني فيها، وذكر أن ما حدث اليوم أمر غير شرعي، وأنه خروج على أمير شرعي، وأنه عمل لا يجوز، ولا أرضى عنه، وبصفتي أميرًا للجماعة لا أقبل به، وذكر نحو هذا الكلام. كانت أشبه بخطبة التنحي عن العرش! وانقضى الأمر، وأعلن ناجح إبراهيم أميرًا للجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط. وقبل أن أترك هذا المقام فإني أسأل الله أن يجمعنا بالدكتور أسامة السيد على خير وعلى ما يحب ويرضى، هو الآن طبيب كبير، ولكنه ليس حاضرًا في الساحة الإسلامية، أو بالأحرى لا أدري الآن أين موقعه من العمل الإسلامي، وقد قابلته مرة أخرى في التسعينات، لقد كان أخًا دمث الخلق جدًا، وكان أصغر منا في السن ونحن أكبر منه، واختاره الإخوان –كما ذكرتُ من قبل- لكي يقضي أكبر فترة ممكنة داخل الجامعة، بحيث يؤسس لحركة الإخوان داخل جامعة أسيوط، لكن هو كشاب كانت إمكانياته القيادية ضعيفة، لم يكن الأمر مجرد صغر في السنّ، فربما كان الأخ صغيرًا ولكن ارتفعت به مواهبه، ولذلك لم يكن قادرًا على احتواء الإخوة الذين كانوا أكبر منه وأقوى في مسألة القيادة. كان يمكنه أن يعود للإخوان في كل القرارات لكن بشكل أذكى وأكثر احترافًا وحصافة، دون أن يعطي شعورًا لمجلس شورى الجماعة الإسلامية أنهم رهن قرار الإخوان، لقد كان يعلم أن هؤلاء الذين معه ليسوا أبناء جماعة الإخوان، ومن ثَمَّ فهم لا يقبلون بهذا الارتهان والقيادة من الخارج، أحسب أني لو كنتُ مكانه لكنت ركزت جهدي واهتمامي في احتواء أولئك الذين ليسوا من الإخوان ليصيروا جزءًا من الإخوان فيما بعد، فأشركهم معي في القرار والإدارة، بدلًا من أن أقول: لا بد من الرجوع للإخوان، يمكنني أن أقول: ما رأيكم أن نستفيد من رأي هؤلاء الإخوة الكبار ومن خبرتهم؟ هلم بنا لمزيد من الفائدة نناقش هذا الأمر مع هؤلاء الإخوة الكبار، وهكذا.. أنشئ نوعًا من التعامل والاحتكاك بين هؤلاء الإخوة وبين الإخوان الكبار عسى أن يجعلهم ذلك من الإخوان تدريجيًا! لكن الذي وقع أن الإخوة الكبار في الإخوان كانوا كأصحاب الفيتو والمرجعية المفروضة على مجلس شورى الجماعة الإسلامية بالجامعة، وبالتالي أنشأ هذا شعور النفور وقوَّى شعور الاستقلال لدى الشباب. لعله لو كان أسنَّ من ذلك وأخبر حركيًا كان سيمكنه أن يدير الأمر بشكل أفضل.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (17)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

كيف صار ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط

• لماذا عزلنا أول أمير للجماعة الإسلامية في أسيوط بعد شهور؟!
• حاول الإخوان إثناءنا عن عزل أمير الجماعة الإسلامية لكننا أصررنا على ذلك!
• لم نستجب لمحاولات الإخوان فرض هيمنتهم على شباب الجماعة الإسلامية!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

خضع أسامة حافظ وكبار زعماء الطلاب لاختيار الشاب الطالب بالصف الأول بكلية الطب أسامة السيد كأمير للجماعة الإسلامية بالجامعة، في واحدة من وقائع الزهد وتوقير الكبار وتقديم مصلحة الدعوة على مصلحة النفس، على النحو الذي أشرنا إليه سابقًا.

لكن وَضْع أميرٍ على رأس الإخوة الكبار، وهو لا يتمتع بمواهب القيادة، لم يكن أمرًا طبيعيًا، لقد صار الأمر كأنه وُضِع أمير شكلي ليدير شيئًا أكبر منه وأعظم، وجرى الأمر بهذه الصورة: الاسم والمنصب الرسمي لأسامة السيد، والزعامة الحقيقية لمن هم كأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وغيرهم. له الصورة ولهم حمل العبء العملي في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يصدرون عن طبعهم وما استقر عليه الأمر في الفترة الماضية، فهم الذين يملكون مقاليد العمل على الحقيقة.

عُرِفت جامعة أسيوط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان هذا أبرز سمت للعمل الدعوي الشبابي فيها، وقد حاول أسامة السيد تعطيل هذا الأمر مرارًا ولكنه لم يفلح!
كان أسامة السيد واجهة قيادة الإخوان في الجامعة، وبدأ يظهر بالتدريج لماذا وضعوا أسامة السيد في هذا المنصب وأصروا عليه في ذلك المعسكر، كانت بداية المشكلات في اجتماع مجلس شورى الجامعة، حيث يجتمع أمراء الكليات ليتشاوروا ويقرروا ماذا يفعلون، فإذا اتفقوا على شيء قال أسامة السيد: لا بد من الرجوع للإخوة الكبار، لا يمكن أن نتصرف في هذا بغير إذن الإخوة الكبار، وهكذا!.. يقصد بهم قيادة الإخوان في المحافظة.

وعندئذ يزمجر الإخوة أمراء الكليات، أولئك الذين أسسوا العمل ونظموه وتحملوه وكانوا يعملون باستقلال تام قبل أن يطرأ عليهم هذا الوضع الجديد، ويعترضون على هذا الأسلوب الذي يرهن العمل وقراره لآخرين، وأسامة من جهة يصرّ على ألا يُمْضِي أي أمر دون هذا الرجوع لقيادته في الإخوان واستئذانهم، ويتمسَّك بشرعية اختياره أميرًا وله على الجميع حق السمع والطاعة!

تعددت الوقائع، يخرج أسامة من اجتماع مجلس شورى الجامعة إلى قيادة الإخوان بما استقر عليه أمرهم، فإما أقرُّوهم فعاد إليهم بإمضاء ما اتفقوا عليه، وإما اعترضوا فلم يُقِرُّوهم فسعى في نقض ما اتفقوا عليه بالأمس.

هنا بدأ ينمو عزمٌ لدى أسامة حافظ بأن يعزل أسامة السيد! وحدَّث بقية الإخوة بما في نفسه، يقول: اخترنا أسامة السيد أميرًا فإذا هو مخبر، يذهب إلى الإخوان فيخبرهم بكل شيء، وكلما اتفقنا على أمر رهنه لقرار ورغبة "الإخوة الكبار" عنده، والجامعة لها وضعها الذي لا يفهمه من كان خارجها، ولا يمكن أن يُقاد العمل في الجامعة من خارجها، وذهب هذا مثلًا وشعاًرا "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها".

وجد كلامه صدى في نفوس بقية الإخوة، وتشاوروا: كيف نعزله؟ قالوا: نجمع الناس كما جُمِعوا أول مرة، ونختار مرة أخرى، ولئن أعادوا اختياره فهم وما أرادوا، ولكن سيكون اختيارهم هذه المرة اختيارًا حرًّا يجب علينا قبوله، وإن لم يختاروه فلن نسمح مرة أخرى لهذا الضغط أن يُمارس علينا، ولن يُفرض علينا من لا نقتنع به.

كان هذا في ذات السنة، لقد تولى أسامة السيد إمارة الجامعة في النصف الأول من العام الدراسي 1976 – 1977، بدأت ولايته في شهر نوفمبر أو ديسمبر 1976، وقضينا في هذه المشكلات الداخلية سحابة هذا العام حتى قررنا إقامة المعسكر العام لعزله في شهر مارس أو إبريل 1977، واخترنا أن يكون أيضًا في مسجد عمر مكرم.

وليس يعني هذا أن العمل في الجامعة قد توقف، بل نحن في هذه السنة قد فزنا برئاسة اتحاد الطلاب في الجامعة. وكما هو معروف فقد كانت إمكانيات اتحاد الطلاب الرسمي العصب الأقوى في العمل الدعوي في الجامعات تلك الفترة.

حاول الإخوان ما استطاعوا إثناءنا عن فكرة الدعوة إلى معسكر، ثم حاولوا إثناءنا عن فكرة الانتخابات في المعسكر أيضًا، طلبوا أن نعطيه فرصة أخرى، سنة أخرى، فترة جديدة، ونحن في إصرارنا نرفع شعار "الجامعة تقاد من داخلها لا من خارجها" و"لا فرصة إلا لمن يأتي به الطلاب"، يجادلوننا: ها قد صرنا في نهاية السنة الدراسية والوقت قد ضاق بل قد فات، ولن يتمكن الجديد من فعل شيء إذا انتُخِب، ونحن نرد: المهم عندنا أن يتحقق اختيار حقيقي للطلاب، ولئن اختاروه مرة أخرى فلا مشكلة عندنا..

وهكذا أخفقت محاولاتهم في إفساد الأمر، وذهبوا في محاولة حشد أتباعهم لإعادة انتخابه!

كان زعماء تنظيم المعسكر والدعوة إليه ثلاثة: أسامة حافظ وصلاح هاشم وأنا.. وكان حضور صلاح هاشم نوعًا من الدعم المعنوي والروحي بصفته مؤسس العمل الدعوي في الجامعة مع أنه كان قد تخرج في هذ الوقت.

بدأنا بانتخابات أمراء الكليات، وفيما أتذكر كانت النتائج هي هي، فيما عدا أمير المدينة الجامعية التي فاز بها هذه المرة ناجح إبراهيم وكان طالبًا في كلية الطب، خلفًا لأخ اسمه محمد عباس أو شيئًا قريبًا من هذا، وقد كان هذا الأخ من الجماعة الإسلامية أيضًا لكنه لم يعد من المشهورين من رجالها فيما بعد.

اختير أسامة السيد أميرًا لكلية الطب مرة أخرى، وجاء دور اللحظة المهمة، لاختيار أمير الجامعة.

كانت قيادات الإخوان حاضرة أيضًا، نفس المجموعة: د. دسوقي شملول ود. محمد حبيب والمحامي محمد الغزالي، وفيما أظن الأستاذ عبود أيضًا، وحاولوا قدر إمكانهم منع اختيار بديل لأسامة سيد، ولكن قيادات العمل الطلابي التي بدأته كانوا حاضرين أيضًا: صلاح هاشم وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وعبد الله عبد السلام.

ولم أحضر أيضًا هذا الاجتماع، ولا أتذكر السبب الآن، لكني أدركته في اللحظات الأخيرة!

تداول الحاضرون فيمن يمكن أن يكون أميرًا للجامعة، كان الإجماع منعقدًا على رفض أسامة السيد، لكن ليس ثمة إجماع مقابل على شخص البديل، كان أسامة حافظ أول من طُرِح ليكون هو أمير الجامعة، ولكن أسامة حافظ رفض، رفض لئلا يقال: فعل هذا كله لأنها أرادها لنفسه. مثلما تنازل عنها أول مرة زهدًا فيها وإيثار لما ظنه مصلحة العمل الدعوي.

وكان الشيخ أسامة حافظ هو الذي رشح ناجح إبراهيم ليكون أميرًا للجامعة!
قال له الإخوان: لكن ناجح إبراهيم حليق، وأنت كنت تنتقد أسامة السيد لأنه حليق أيضًا، فقال: يلتحي من الآن. فالتحى ناجح من هذه اللحظة وصار أميرًا للجامعة.

انتهى الأمر، وصعد أسامة السيد المنبر ليقول كلمة، وهنا دخلت المسجد فأدركت هذه الكلمة!

الحق أنه قال كلمة مؤثرة حقًا، بل لقد أبكاني فيها، وذكر أن ما حدث اليوم أمر غير شرعي، وأنه خروج على أمير شرعي، وأنه عمل لا يجوز، ولا أرضى عنه، وبصفتي أميرًا للجماعة لا أقبل به، وذكر نحو هذا الكلام. كانت أشبه بخطبة التنحي عن العرش! وانقضى الأمر، وأعلن ناجح إبراهيم أميرًا للجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط.

وقبل أن أترك هذا المقام فإني أسأل الله أن يجمعنا بالدكتور أسامة السيد على خير وعلى ما يحب ويرضى، هو الآن طبيب كبير، ولكنه ليس حاضرًا في الساحة الإسلامية، أو بالأحرى لا أدري الآن أين موقعه من العمل الإسلامي، وقد قابلته مرة أخرى في التسعينات، لقد كان أخًا دمث الخلق جدًا، وكان أصغر منا في السن ونحن أكبر منه، واختاره الإخوان –كما ذكرتُ من قبل- لكي يقضي أكبر فترة ممكنة داخل الجامعة، بحيث يؤسس لحركة الإخوان داخل جامعة أسيوط، لكن هو كشاب كانت إمكانياته القيادية ضعيفة، لم يكن الأمر مجرد صغر في السنّ، فربما كان الأخ صغيرًا ولكن ارتفعت به مواهبه، ولذلك لم يكن قادرًا على احتواء الإخوة الذين كانوا أكبر منه وأقوى في مسألة القيادة.

كان يمكنه أن يعود للإخوان في كل القرارات لكن بشكل أذكى وأكثر احترافًا وحصافة، دون أن يعطي شعورًا لمجلس شورى الجماعة الإسلامية أنهم رهن قرار الإخوان، لقد كان يعلم أن هؤلاء الذين معه ليسوا أبناء جماعة الإخوان، ومن ثَمَّ فهم لا يقبلون بهذا الارتهان والقيادة من الخارج، أحسب أني لو كنتُ مكانه لكنت ركزت جهدي واهتمامي في احتواء أولئك الذين ليسوا من الإخوان ليصيروا جزءًا من الإخوان فيما بعد، فأشركهم معي في القرار والإدارة، بدلًا من أن أقول: لا بد من الرجوع للإخوان، يمكنني أن أقول: ما رأيكم أن نستفيد من رأي هؤلاء الإخوة الكبار ومن خبرتهم؟ هلم بنا لمزيد من الفائدة نناقش هذا الأمر مع هؤلاء الإخوة الكبار، وهكذا.. أنشئ نوعًا من التعامل والاحتكاك بين هؤلاء الإخوة وبين الإخوان الكبار عسى أن يجعلهم ذلك من الإخوان تدريجيًا!

لكن الذي وقع أن الإخوة الكبار في الإخوان كانوا كأصحاب الفيتو والمرجعية المفروضة على مجلس شورى الجماعة الإسلامية بالجامعة، وبالتالي أنشأ هذا شعور النفور وقوَّى شعور الاستقلال لدى الشباب. لعله لو كان أسنَّ من ذلك وأخبر حركيًا كان سيمكنه أن يدير الأمر بشكل أفضل.
‏١٩‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٤:٥٨ م‏
مجلة كلمة حق - الصفحة البديلةfacebook.com
قراءنا الأعزاء، هذه صفحتنا البديلة، أنشأناها لأننا تعرضنا لحذف أكثر من منشور في الفترة السابقة.

نتشرف بمتابعتكم: ‌‎fb.me/klmtuhaq2

⚫️ حمّل الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

تابعنا على تيليجرام
t.me/klmtuhaq

تابعنا على تويتر
twitter.com/klmtuhaq
تمّ التحديث ‏‏١٧‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٢:٠٦ م‏‏
‏١٧‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٢:٠٦ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
اقرأ مقال: طلائع التحرير فتية النصر والتمكين

لكاتبه أحمد قنيطة

بالعدد الجديد من مجلة كلمة حق، ص37 وما بعدها

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏١٧‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١:٥٨ م‏
رسالة إلى منتظري تحرُك الجيش محمود جمال ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk مقدمة الانقلاب العسكري يعرف بأنه تغيير لنظام الحكم السائد في البلاد عن طريق إطاحة الجيش بالحاكم، سواء كان حاكمًا مدنيًا أو عسكريًا، ليتولى الحكم القائد العام للجيش أو قائد المجموعة التي تحركت للسيطرة على الحكم. تشتهر الدول العربية والأفريقية بالانقلابات العسكرية التي يستولي فيها الجيش على الحكم، الأسباب في معظم الحالات أطماع شخصية تتعلق برغبة العسكريين بالاستيلاء على الحكم، بخلاف بعض المحاولات التي تمت لاستعادة الحياة الديمقراطية وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم ولكن في معظمها فشلت ولم تحقق أهدافها. انقلابات مصر العسكرية منذ عام 1952م، وإلى وقتنا هذا وقع في مصر ثلاثة انقلابات عسكرية مكتملة الأركان ونسردها بتلخيص في السطور الآتية: 1-حركة 23 يوليو 1952م: حركة الضباط الأحرار عام 1952م، تمثل حركة تغيير من داخل القوات المسلحة، وهي حركة تغيير فكرية تنفيذية، أخذت الحركة شكل الانقلاب العسكري‏،‏ قادتها مجموعة من الضباط في رُتب مختلفة. وقد بدأ تنظيم الضباط الأحرار عام 1949م؛ يذكر السادات في كتابه (أسرار الثورة المصرية) أن عبد الناصر بدأ في تكوين قاعدة التنظيم في سبتمبر 1949؛ وهي الحقيقة التي اعترف بها جميع الضباط الأحرار دون استثناء سواء في كتبهم أو مذكراتهم التي نشرت أو في أقوالهم التي أدلوا بها أمام لجنة تسجيل تاريخ ثورة 23 يوليو 1952.[1] والذي يقرأ مذكرات اللواء محمد نجيب والكلمات التي تحدث بها جمال عبد الناصر ومذكرات جميع الضباط الأحرار التي كُتبت بعد نجاح تحرك الجيش عام 1952م، يرى أن من أهم أسباب غضب أفراد الجيش من قيادات المؤسسة العسكرية وقتها هي الهزيمة في حرب 1948 وضياع فلسطين وفضيحة الأسلحة الفاسدة، وكذلك الفساد الموجود بشكل كبير داخل المؤسسة العسكرية، والاستبداد بشكل عام الذي يمارَس على الشعب المصري من قبل الطبقة الحاكمة في تلك الفترة. وعن مضامين المنشورات التي كان ينشرها الضباط الأحرار للضباط والمدنيين لحثهم على التغيير كَتب الرئيس الأسبق محمد نجيب في مذكراته، والتي نُشرت الطبعة الأولي منها عام 1984م، تحت اسم "كنت رئيساً لمصر: "كانت منشورات الضباط الأحرار تملأ وحدات الجيش.. وأحياناً كانت تخرج إلى المدنيين.. وكانت تتكلم عن فساد الحكم وتفضح عيوبه، وتصرخ في وجه انحرافات قادة الجيش، وتطالب بالإصلاح والتغيير. صدر المنشور الأول للضباط الأحرار في أكتوبر 1950م، تحت عنوان (نداء وتحذير) جاء فيه: إن الضباط الأحرار جزء لا يتجزأ من الشعب، وإذا كان الشعب يُحكم حكماً ملكياً مستبداً، فإن الجيش هو الآخر يخضع لنفس الظروف منذ سيق إلى مجزرة فلسطين دون رأي ودون استعداد، وفُرضت عليه الخطط الفاسدة والأسلحة الفاسدة".[2] يرى البعض أن أهم عامل ساعد الضباط الأحرار على تنفيذ حركتهم والقيام بانقلاب عسكري على الملك فاروق، هو الغضب الشعبي في الشارع المصري وقتها، والذي كان يعبر عنه جموع الشعب المصري بالتظاهر في المدارس والجامعات والمصانع والميادين والشوارع، مع أن البعض يرى أن مجموعة الضباط الأحرار كانت سبباً في صناعة بعض الأحداث في تلك الفترة؛ لكي تخلق حالة من الضجر على الحكم الملكي، ولكن يتضح أنهم كانوا يعدون التظاهرات في الشوارع ووجود المواطنين في الميادين عاملاً أساسياً لحركتهم. 2- ثورة 25 يناير 2011م: ثورة 25 يناير 2011م تُعد من أهم الثورات التي حدثت في التاريخ المصري، نزل جموع الشعب المصري في ميادين أغلب محافظات مصر وبأعداد غفيرة، ولكن لم تكن تلك الثورة "لتنجح" إلا بإرادة الله، ثم بوقوف الجيش المصري الذي استغل تلك التظاهرات للإطاحة بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والبعض يصف ما تم من قبل المؤسسة العسكرية مع الرئيس الأسبق حسني مبارك بأنه "انقلاب عسكري" مكتمل الأركان. المؤسسة العسكرية تعاملت من أول لحظة اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير بخطة محكمة مدروسة، حتى تصل في نهاية الأمر إلى إعادة تموضعها مرة أخرى وتسيطر على زمام الأمور، وحتى وإن تعاملت المؤسسة العسكرية بشكل إيجابي في بداية الثورة وكانت عامل ضغط على حسني مبارك للتخلي عن الحكم لوجود مصالح كانت تبحث عنها المؤسسة العسكرية في أواخر حكمه، إلا أن تلك الخطوات كانت محسوبة بدقة، واتضح هذا جلياً في تفتيت القوى الثورية "صناعة الفرقة" التي عملت عليها المؤسسة العسكرية من أول لحظة تولى فيها المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي إدارة حكم البلاد في 11 فبراير 2011م، بداية من استفتاء التعديلات الدستورية في مارس 2011م، ومروراً بالانتخابات البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري نهاية 2011م، ثم الانتخابات الرئاسية في جولتيها في مايو- يونيو 2012م. بعد خطاب (مبارك) الأخير قبيل تنحيه عن الحكم، أصدر الجيش المصري يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011م بياناً أكد فيه أنه "يضمن" الإصلاحات السياسية التي أعلنها مبارك، غير أن هذا البيان زاد المحتجين إحباطاً على إحباط. وفي نهاية الأمر وتحديداً مساء يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011م، نتيجة لتصاعد حدة الغضب الشعبي على (مبارك) أعلن نائب رئيس الجمهورية وقتها اللواء عمر سليمان تنحي (مبارك) عن الحكم وتولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد، وأصبح المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي هو الحاكم الفعلي للبلاد ويدير كافة النواحي داخل الدولة المصرية السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية والمجتمعية. ويري البعض أن هناك أربع نقاط مهمة، كان لها أثر واضح في تحديد موقف الجيش الإيجابي من الثورة، هي: 1- عدم شعور الجيش بتوجه الاحتجاجات نحوه بشكل مباشر، خصوصاً أنه لم يكن أداة من أدوات النظام لقمع الشعب أو المعارضة، على الرغم من كونه حامياً للنظام. 2- عدم تأييد الجيش للتوريث لأن في ذلك خروجاً على مبدأ الحاكم ذي الخلفية العسكرية، بالإضافة لتهديد امتيازات الجيش وتقديره أن الاحتجاجات توقف فقط التوريث. 3- اتصاف الثورة بالشعبية منذ جمعة الغضب 28 يناير 2011م وسلميتها إلى حد كبير. 4- موقف الجيش التونسي من الثورة في بلاده وحمايته المتظاهرين، مما جعل الجيش المصري مقيدًا بما فعله التونسي خاصة أن الجيش المصري أسير صورته الوطنية التاريخية[3]. الجيش المصري أواخر حكم مبارك كان ينظر لجمال مبارك على أنه يُعد من قِبل مبارك ليصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية، وهذا عند الجيش خروج على قواعد الحكم العسكري الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1952، ولذلك يرى البعض أن الجيش كان متخذ قرار الإطاحة بحسني مبارك، ولكن كان ينتظر الوقت المناسب، وكانت ثورة يناير وخروج الشعب بمئات الآلاف في الشوارع حافزاً قوياً ومشجعاً له لإيقاف مشروع التوريث. 3- انقلاب 03 يوليو 2013م: منذ إعلان المستشار فاروق سلطان نتيجة الانتخابات الرئاسية في يونيو 2012م، وفوز الرئيس محمد مرسي على منافسه في جولة الإعادة الفريق أحمد شفيق وزير الطيران المدني وقائد قوات الدفاع الجوي الأسبق، عملت المؤسسة العسكرية بخطة محكمة مدروسة من أجل التخلص من الرئيس مرسي وإعادة زمام الأمور مرة أخرى للعسكر التي من الصعب أن يقبل برئيس مدني فوق هرم السلطة. فمن ينظر إلى تعامل العسكر مع الرئيس مرسي - أول رئيس مدني منتخب حكم الدولة المصرية - يرى كيفية خلق الأزمات الاقتصادية والأمنية والمجتمعية التي صنعها قيادات المؤسسة العسكرية التي كانت تملك مفاصل الدولة المصرية، لخلق حالة ضجر شعبي ضد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين، لتؤدي في نهاية الأمر للتخلص من مرسي ومن أكبر جماعة لها ظهير شعبي داخل الدولة المصرية. فإذن من اللحظات الأولي لحكم الرئيس مرسي كانت النية مُبيتة للتخلص منه، ولم يغفل العسكر الدور المهم الذي يعجّل بالإطاحة بالرئيس مرسي، ألا وهو الدور الشعبي، لذلك أسست المخابرات الحربية حركة تمرد حتى تزيد من الغضب الشعبي على الرئيس رحمه الله، وتزيد أعداد المتظاهرين في الشوارع والميادين للمطالبة برحيل النظام، وقد كان بالفعل. ختاماً: عند النظر إلى الانقلابات العسكرية التي حدثت في مصر ونجحت في تحقيق أهدافها، نرى أنها كانت تتمتع بظهير شعبي وإن كان مدبراً، بخلاف الانقلابات التي فشلت في تحقيق أهدافها والتي جرت بدون ظهير شعبي كالانقلابات التي حاول جمال عبد الناصر تنفيذها عامي 1953م و1954م. الظهير الشعبي من الممكن أن يكون حقيقياً أو يكون ظهيراً شعبياً مصنوعاً، فمثلًا ثورة 25 يناير 2011، كانت تعبر عن غضب شعبي حقيقي نتج عنه متظاهرون وثوار حقيقيون من مختلف الأحزاب والأيديولوجيات والتوجهات. وفي انقلاب 03 يوليو 2013، وبالرغم من سيطرة الجيش على مفاصل الدولة بشكل تام، إلا أنه صنع ظهيراً شعبياً لكي يتحرك ويطيح بالرئيس محمد مرسي، فالظهير الشعبي لأي حراك عسكري ضروري حتى يستطيع الانقلابيون تنفيذ مخططهم. فما المقصود بذلك الكلام؟ المقصود أن من حين لآخر يخرج علينا البعض بمقولة "شرفاء الجيش" وأنهم يراقبون ما يفعله السيسي من تدمير للاقتصاد المصري، والتقارب مع الكيان الصهيوني، وتغيير عقيدة الجيش المصري، وتنكيله بالجميع سواء المدنيين أو العسكريين، وهذا يزيد من حالة الغضب لديهم، وأنهم يحاولون تغيير ذلك الواقع المرير التي وصلت إليه الدولة المصرية. وهذا بالفعل موجود في رأيي؛ فالمؤسسة العسكرية المصرية ليست كتلة مصمتة، ولكنها في واقع الأمر عبارة عن تكوينات وأفراد، إذ كانت هناك اتجاهات متمثلة في عسكريين داخل الجيش المصري حاولت أن تعدل المسار الذي تحيد عنه المؤسسة العسكرية في بعض الفترات بسبب سياسة من يتولى قيادة الدولة وقتها. ومنها اتجاهات تخطت الفكر ودخلت إطار التنفيذ فنجح البعض وفشل البعض الآخر. [4] بعد انقلاب 03 يوليو 2013م، كانت هناك العديد من محاولات لتصحيح مسار المؤسسة العسكرية، ولعل أبرزها ما كان في 2015، والتي كُشفت وحوكم 26 ضابطاً بتهمة محاولة تنفيذ بانقلاب عسكري، وعند النظر إلى تاريخ تلك المحاولة (2015م)، نجدها حدثت في ظل الحراك الثوري في الشوارع والميادين المصرية. فمن ينتظر تحرك قوات من الجيش لتنقلب على عبد الفتاح السيسي ونظامه، عليه أن ينظر إلى الشارع أولاً، فشارع الثورة المصرية خاوٍ من الثوار، وأصبحت الميادين المصرية في قبضة جنود السيسي، فعلى الراغبين والداعين إلى لتحرك عناصر من الجيش لكي تخلصهم من السيسي، عليهم أن يحيوا الثورة في الشوارع والميادين مرة أخرى، وكما قال لي أحد العسكريين: "الجيش عادة يتحرك إذا الشعب تحرك". ـــــــــــــــــــــــ [1] كتاب محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة. د/رفعت يونان ص 23 [2] كتاب "كنت رئيساً لمصر" ص 92 [3] قراءة في كتاب العلاقات المدنية - العسكرية والتحول الديمقراطي في مصر بعد ثورة 25 يناير، نون بوست، تاريخ النشر 03 يوليو 2016م، تاريخ الدخول 10 سبتمبر 2018م [4] اتجاهات التغيير داخل المؤسسة العسكرية، محمود جمال
رسالة إلى منتظري تحرُك الجيش
محمود جمال


⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

مقدمة

الانقلاب العسكري يعرف بأنه تغيير لنظام الحكم السائد في البلاد عن طريق إطاحة الجيش بالحاكم، سواء كان حاكمًا مدنيًا أو عسكريًا، ليتولى الحكم القائد العام للجيش أو قائد المجموعة التي تحركت للسيطرة على الحكم.

تشتهر الدول العربية والأفريقية بالانقلابات العسكرية التي يستولي فيها الجيش على الحكم، الأسباب في معظم الحالات أطماع شخصية تتعلق برغبة العسكريين بالاستيلاء على الحكم، بخلاف بعض المحاولات التي تمت لاستعادة الحياة الديمقراطية وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم ولكن في معظمها فشلت ولم تحقق أهدافها.

انقلابات مصر العسكرية

منذ عام 1952م، وإلى وقتنا هذا وقع في مصر ثلاثة انقلابات عسكرية مكتملة الأركان ونسردها بتلخيص في السطور الآتية:

1-حركة 23 يوليو 1952م:

حركة الضباط الأحرار عام 1952م، تمثل حركة تغيير من داخل القوات المسلحة، وهي حركة تغيير فكرية تنفيذية، أخذت الحركة شكل الانقلاب العسكري‏،‏ قادتها مجموعة من الضباط في رُتب مختلفة. وقد بدأ تنظيم الضباط الأحرار عام 1949م؛ يذكر السادات في كتابه (أسرار الثورة المصرية) أن عبد الناصر بدأ في تكوين قاعدة التنظيم في سبتمبر 1949؛ وهي الحقيقة التي اعترف بها جميع الضباط الأحرار دون استثناء سواء في كتبهم أو مذكراتهم التي نشرت أو في أقوالهم التي أدلوا بها أمام لجنة تسجيل تاريخ ثورة 23 يوليو 1952.[1]

والذي يقرأ مذكرات اللواء محمد نجيب والكلمات التي تحدث بها جمال عبد الناصر ومذكرات جميع الضباط الأحرار التي كُتبت بعد نجاح تحرك الجيش عام 1952م، يرى أن من أهم أسباب غضب أفراد الجيش من قيادات المؤسسة العسكرية وقتها هي الهزيمة في حرب 1948 وضياع فلسطين وفضيحة الأسلحة الفاسدة، وكذلك الفساد الموجود بشكل كبير داخل المؤسسة العسكرية، والاستبداد بشكل عام الذي يمارَس على الشعب المصري من قبل الطبقة الحاكمة في تلك الفترة.

وعن مضامين المنشورات التي كان ينشرها الضباط الأحرار للضباط والمدنيين لحثهم على التغيير كَتب الرئيس الأسبق محمد نجيب في مذكراته، والتي نُشرت الطبعة الأولي منها عام 1984م، تحت اسم "كنت رئيساً لمصر: "كانت منشورات الضباط الأحرار تملأ وحدات الجيش.. وأحياناً كانت تخرج إلى المدنيين.. وكانت تتكلم عن فساد الحكم وتفضح عيوبه، وتصرخ في وجه انحرافات قادة الجيش، وتطالب بالإصلاح والتغيير. صدر المنشور الأول للضباط الأحرار في أكتوبر 1950م، تحت عنوان (نداء وتحذير) جاء فيه: إن الضباط الأحرار جزء لا يتجزأ من الشعب، وإذا كان الشعب يُحكم حكماً ملكياً مستبداً، فإن الجيش هو الآخر يخضع لنفس الظروف منذ سيق إلى مجزرة فلسطين دون رأي ودون استعداد، وفُرضت عليه الخطط الفاسدة والأسلحة الفاسدة".[2]

يرى البعض أن أهم عامل ساعد الضباط الأحرار على تنفيذ حركتهم والقيام بانقلاب عسكري على الملك فاروق، هو الغضب الشعبي في الشارع المصري وقتها، والذي كان يعبر عنه جموع الشعب المصري بالتظاهر في المدارس والجامعات والمصانع والميادين والشوارع، مع أن البعض يرى أن مجموعة الضباط الأحرار كانت سبباً في صناعة بعض الأحداث في تلك الفترة؛ لكي تخلق حالة من الضجر على الحكم الملكي، ولكن يتضح أنهم كانوا يعدون التظاهرات في الشوارع ووجود المواطنين في الميادين عاملاً أساسياً لحركتهم.

2- ثورة 25 يناير 2011م:

ثورة 25 يناير 2011م تُعد من أهم الثورات التي حدثت في التاريخ المصري، نزل جموع الشعب المصري في ميادين أغلب محافظات مصر وبأعداد غفيرة، ولكن لم تكن تلك الثورة "لتنجح" إلا بإرادة الله، ثم بوقوف الجيش المصري الذي استغل تلك التظاهرات للإطاحة بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والبعض يصف ما تم من قبل المؤسسة العسكرية مع الرئيس الأسبق حسني مبارك بأنه "انقلاب عسكري" مكتمل الأركان.

المؤسسة العسكرية تعاملت من أول لحظة اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير بخطة محكمة مدروسة، حتى تصل في نهاية الأمر إلى إعادة تموضعها مرة أخرى وتسيطر على زمام الأمور، وحتى وإن تعاملت المؤسسة العسكرية بشكل إيجابي في بداية الثورة وكانت عامل ضغط على حسني مبارك للتخلي عن الحكم لوجود مصالح كانت تبحث عنها المؤسسة العسكرية في أواخر حكمه، إلا أن تلك الخطوات كانت محسوبة بدقة، واتضح هذا جلياً في تفتيت القوى الثورية "صناعة الفرقة" التي عملت عليها المؤسسة العسكرية من أول لحظة تولى فيها المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي إدارة حكم البلاد في 11 فبراير 2011م، بداية من استفتاء التعديلات الدستورية في مارس 2011م، ومروراً بالانتخابات البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري نهاية 2011م، ثم الانتخابات الرئاسية في جولتيها في مايو- يونيو 2012م.

بعد خطاب (مبارك) الأخير قبيل تنحيه عن الحكم، أصدر الجيش المصري يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011م بياناً أكد فيه أنه "يضمن" الإصلاحات السياسية التي أعلنها مبارك، غير أن هذا البيان زاد المحتجين إحباطاً على إحباط.

وفي نهاية الأمر وتحديداً مساء يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011م، نتيجة لتصاعد حدة الغضب الشعبي على (مبارك) أعلن نائب رئيس الجمهورية وقتها اللواء عمر سليمان تنحي (مبارك) عن الحكم وتولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد، وأصبح المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي هو الحاكم الفعلي للبلاد ويدير كافة النواحي داخل الدولة المصرية السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية والمجتمعية.

ويري البعض أن هناك أربع نقاط مهمة، كان لها أثر واضح في تحديد موقف الجيش الإيجابي من الثورة، هي:

1- عدم شعور الجيش بتوجه الاحتجاجات نحوه بشكل مباشر، خصوصاً أنه لم يكن أداة من أدوات النظام لقمع الشعب أو المعارضة، على الرغم من كونه حامياً للنظام.

2- عدم تأييد الجيش للتوريث لأن في ذلك خروجاً على مبدأ الحاكم ذي الخلفية العسكرية، بالإضافة لتهديد امتيازات الجيش وتقديره أن الاحتجاجات توقف فقط التوريث.

3- اتصاف الثورة بالشعبية منذ جمعة الغضب 28 يناير 2011م وسلميتها إلى حد كبير.

4- موقف الجيش التونسي من الثورة في بلاده وحمايته المتظاهرين، مما جعل الجيش المصري مقيدًا بما فعله التونسي خاصة أن الجيش المصري أسير صورته الوطنية التاريخية[3].

الجيش المصري أواخر حكم مبارك كان ينظر لجمال مبارك على أنه يُعد من قِبل مبارك ليصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية، وهذا عند الجيش خروج على قواعد الحكم العسكري الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1952، ولذلك يرى البعض أن الجيش كان متخذ قرار الإطاحة بحسني مبارك، ولكن كان ينتظر الوقت المناسب، وكانت ثورة يناير وخروج الشعب بمئات الآلاف في الشوارع حافزاً قوياً ومشجعاً له لإيقاف مشروع التوريث.

3- انقلاب 03 يوليو 2013م:

منذ إعلان المستشار فاروق سلطان نتيجة الانتخابات الرئاسية في يونيو 2012م، وفوز الرئيس محمد مرسي على منافسه في جولة الإعادة الفريق أحمد شفيق وزير الطيران المدني وقائد قوات الدفاع الجوي الأسبق، عملت المؤسسة العسكرية بخطة محكمة مدروسة من أجل التخلص من الرئيس مرسي وإعادة زمام الأمور مرة أخرى للعسكر التي من الصعب أن يقبل برئيس مدني فوق هرم السلطة.

فمن ينظر إلى تعامل العسكر مع الرئيس مرسي - أول رئيس مدني منتخب حكم الدولة المصرية - يرى كيفية خلق الأزمات الاقتصادية والأمنية والمجتمعية التي صنعها قيادات المؤسسة العسكرية التي كانت تملك مفاصل الدولة المصرية، لخلق حالة ضجر شعبي ضد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين، لتؤدي في نهاية الأمر للتخلص من مرسي ومن أكبر جماعة لها ظهير شعبي داخل الدولة المصرية.

فإذن من اللحظات الأولي لحكم الرئيس مرسي كانت النية مُبيتة للتخلص منه، ولم يغفل العسكر الدور المهم الذي يعجّل بالإطاحة بالرئيس مرسي، ألا وهو الدور الشعبي، لذلك أسست المخابرات الحربية حركة تمرد حتى تزيد من الغضب الشعبي على الرئيس رحمه الله، وتزيد أعداد المتظاهرين في الشوارع والميادين للمطالبة برحيل النظام، وقد كان بالفعل.

ختاماً:

عند النظر إلى الانقلابات العسكرية التي حدثت في مصر ونجحت في تحقيق أهدافها، نرى أنها كانت تتمتع بظهير شعبي وإن كان مدبراً، بخلاف الانقلابات التي فشلت في تحقيق أهدافها والتي جرت بدون ظهير شعبي كالانقلابات التي حاول جمال عبد الناصر تنفيذها عامي 1953م و1954م.

الظهير الشعبي من الممكن أن يكون حقيقياً أو يكون ظهيراً شعبياً مصنوعاً، فمثلًا ثورة 25 يناير 2011، كانت تعبر عن غضب شعبي حقيقي نتج عنه متظاهرون وثوار حقيقيون من مختلف الأحزاب والأيديولوجيات والتوجهات.

وفي انقلاب 03 يوليو 2013، وبالرغم من سيطرة الجيش على مفاصل الدولة بشكل تام، إلا أنه صنع ظهيراً شعبياً لكي يتحرك ويطيح بالرئيس محمد مرسي، فالظهير الشعبي لأي حراك عسكري ضروري حتى يستطيع الانقلابيون تنفيذ مخططهم.

فما المقصود بذلك الكلام؟

المقصود أن من حين لآخر يخرج علينا البعض بمقولة "شرفاء الجيش" وأنهم يراقبون ما يفعله السيسي من تدمير للاقتصاد المصري، والتقارب مع الكيان الصهيوني، وتغيير عقيدة الجيش المصري، وتنكيله بالجميع سواء المدنيين أو العسكريين، وهذا يزيد من حالة الغضب لديهم، وأنهم يحاولون تغيير ذلك الواقع المرير التي وصلت إليه الدولة المصرية.

وهذا بالفعل موجود في رأيي؛ فالمؤسسة العسكرية المصرية ليست كتلة مصمتة، ولكنها في واقع الأمر عبارة عن تكوينات وأفراد، إذ كانت هناك اتجاهات متمثلة في عسكريين داخل الجيش المصري حاولت أن تعدل المسار الذي تحيد عنه المؤسسة العسكرية في بعض الفترات بسبب سياسة من يتولى قيادة الدولة وقتها. ومنها اتجاهات تخطت الفكر ودخلت إطار التنفيذ فنجح البعض وفشل البعض الآخر. [4] بعد انقلاب 03 يوليو 2013م، كانت هناك العديد من محاولات لتصحيح مسار المؤسسة العسكرية، ولعل أبرزها ما كان في 2015، والتي كُشفت وحوكم 26 ضابطاً بتهمة محاولة تنفيذ بانقلاب عسكري، وعند النظر إلى تاريخ تلك المحاولة (2015م)، نجدها حدثت في ظل الحراك الثوري في الشوارع والميادين المصرية.

فمن ينتظر تحرك قوات من الجيش لتنقلب على عبد الفتاح السيسي ونظامه، عليه أن ينظر إلى الشارع أولاً، فشارع الثورة المصرية خاوٍ من الثوار، وأصبحت الميادين المصرية في قبضة جنود السيسي، فعلى الراغبين والداعين إلى لتحرك عناصر من الجيش لكي تخلصهم من السيسي، عليهم أن يحيوا الثورة في الشوارع والميادين مرة أخرى، وكما قال لي أحد العسكريين: "الجيش عادة يتحرك إذا الشعب تحرك".


ـــــــــــــــــــــــ
[1] كتاب محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة. د/رفعت يونان ص 23
[2] كتاب "كنت رئيساً لمصر" ص 92
[3] قراءة في كتاب العلاقات المدنية - العسكرية والتحول الديمقراطي في مصر بعد ثورة 25 يناير، نون بوست، تاريخ النشر 03 يوليو 2016م، تاريخ الدخول 10 سبتمبر 2018م
[4] اتجاهات التغيير داخل المؤسسة العسكرية، محمود جمال
‏١٣‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١١:٠٤ م‏
‏١٠‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٦:١٩ م‏
ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟! أسامة الرشيدي (كاتب سوري) ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk مقدمة اليوم، والثورة السورية في عامها التاسع، وقد تقلصت المناطق المحررة إلى أقصى درجاتها، وانحسر الثوار الأحرار في جيب إدلب الخضراء وريفها، وبلغ شهداء الثورة قرابة المليون شهيد، واضطر أكثر من عشرة مليون إنسان إلى ترك بيوتهم إلى مخيمات النزوح الداخلية، ودول اللجوء الخارجية، فضلًا عن التدمير الذي لحق بالبنى التحتية للدولة. بعد كل هذا، قد يسأل سائل: وماذا بعد؟! بعد كل هذه التضحيات الجسام، ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟ وأنا أقول: إن الناظر المتفحص في تاريخ الثورة السورية وأحداثها، يدرك جيدًا أن النتائج الإيجابية لثورة أهل الشام أكثر من أن تُحصى، ويصعب على باحث أن يحيط بها، لأنها أثرت تأثيرًا إيجابيًا في اتجاهات كثيرة، وعلى الأمة بأسرها، ولا تزال العقول والأفهام تتقلب بين أحداثها لتعود منها بالفوائد والعبر. وفي هذه السطور القليلة أحاول أن أرصد بعضًا من إيجابيات هذه الثورة المباركة، إبقاءً للأمل في النفوس، ودفعًا للقنوط عن القلوب، واستخراجًا لبعض أزهار ربيع الحرية من بين أشواك خريف الظلم والقهر، فأقول مستعينًا بالله: o لقد أحيت الثورة السورية روح الجهاد في الأمة كلها، وجددت فيها روح البذل والتضحية والفداء في سبيل نصرة الدين والمظلومين، فقد رأينا تداعي الشعوب المسلمة لنصرة إخوانهم المظلومين في الشام بكل ما يستطيعون، من إندونيسيا في أقصى الشرق إلى موريتانيا في أقصى الغرب. o لقد أحيت الثورة شعبًا بأكمله وأعادته إلى دينه وربه، فالناظر في حال الشعب السوري قبل الثورة، يجد أن نظام الأسد قد عمل على تغييبهم تمامًا عن حقائق الإسلام ومعانيه، حتى نشأ جيل لا يعرف الله - إلا قليلًا - ، ولا يعرف طريق المسجد، ولا يمثل الإسلامُ في حسه شيئًا على الإطلاق، وبلغ الانحلال ذروته – خاصة مع وجود النصيرية – وانتشر بين الناس سب الله ورسوله، وحوربت مظاهر الدين الصحيح في البلد، وقُهر وسُجن وعُذب وقُتل كل من يحاول أن يرفع اسم الله وأن يعلي من شريعته، فجاءت الثورة بأمر الله، لتحيي هذه الأمة الميتة الغارقة في بحور التيه، ولتعيد الشباب إلى ربهم، وتأخذ بأيديهم إلى الإسلام في أسمى درجاته، وأرقى معانيه، لنرى شابًا لم يكن يعرف طريق المسجد قبل الثورة، قد أصبح - في ظل الثورة - وأعظم أمانيه أن يرقى إلى ربه شهيدًا في سبيل دينه. o أظهرت الثورة مدى خيرية الأمة المسلمة، وأن الخير في أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقطع إلى قيام الساعة، وضرب شباب الإسلام في هذه الثورة نماذج خالدة للتضحية والفداء في سبيل الله عز وجل، وأظهروا من صنوف الشجاعة والإقدام في مواجهة العدو الصائل المدجج بالسلاح، ما تعجب له النفوس، وتقر به العيون، ليعيدوا لنا سيرة أبطال الإسلام الأوائل حية في واقع الأمة اليوم، ليكون هؤلاء الأبطال مثالًا يحتذى، ونبراًسا تهتدي به أجيال الأمة الناشئة، فتسير على دربهم – إن شاء الله – حتى تحقق للأمة النصر المنشود. o أظهرت الثورة السورية أن الأمة قادرة على إنتاج أدوات القوة إن استعادت مقدراتها من مغتصبيها من جوقة العملاء المتسلطين على رقابها. فعلى قلة إمكانات الثورة، فقد استطاعت إنتاج الكثير من الأسلحة والذخائر محلية الصنع، من مدافع هاون وراجمات صواريخ متعددة العيارات والمدايات، وأنتجت محليًا ذخائر لأسلحة متنوعة، وقناصات متعددة الأعيرة، وطائرات مسيرة (درونز) بقدرات كبيرة جدًا – لم تنتجها بعض الدول حتى – وطوّرت العديد من الأسلحة المغتنمة من النظام لتصبح أكثر فاعلية، إلى غير ذلك الكثير والكثير جدًا مما ابتكرته عقول أبناء الأمة في هذه الثورة، لتبقى هذه الصناعات رصيدًا في أرشيف الأمة الخالد، لتستفيد منه الأمة في صراعها الطويل. o كذلك أخرجت الثورة السورية الكثير من الكوادر المتميزين في شتى المجالات من أبناء الأمة الذين تركوا بصماتهم في صفحات تاريخ الأمة، لتثبت أن هذه الأمة حيةٌ ولودٌ معطاءة، وأن أبناءها قادرون على العودة بها إلى مكانتها الطبيعية، لتقود الناس وتهديهم إلى الحق والنور والرشاد. o لقد أثبتت الثورة السورية أن الجهاد على بصيرة، هو الوسيلة الأنجع لتحرير الشعوب من سلطان الطواغيت. فعلى الرغم مما آلت إليه الثورة في الوقت الراهن، وعلى الرغم مما اعتراها في بعض مراحلها من مظاهر التقصير في بعض الجوانب، إلا أن من عايش الثورة أو قرأ عن مراحلها، وتطور الأحداث خلالها، يدرك أن الثورة قد نجحت في إسقاط نظام الأسد فعليا. ففي عام ( 2013 ) كانت الثورة تسيطر على ما نسبته ( 75 % ) تقريبًا من مساحة سوريا، مع سيطرةٍ على موارد الدولة الزراعية والصناعية والنفطية، وانهاك جيش النظام، بانشقاق عناصره وضباطه، وتحييد جنوده في المعارك بالقتل والإصابات، واغتنام معداته، والسيطرة على مطاراته الحربية، وإسقاط طائراته، إلى غير ذلك من صور تقدم الثورة على حساب النظام على كافة الأصعدة. كل ذلك على الرغم من ضعف الإمكانات، وجوانب القصور في صف الثورة. إذن ما الذي حدث، حتى وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ هذا سؤال كبير جدًا، ولكن اختصارًا أقول: إن الدول قد تداعت لإنقاذ النظام المتهاوي المتهالك، فأخذت روسيا تمده بآلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر، وأنواع الوقود، والمواد الغذائية، والخبراء العسكريين، وتدخلت إيران عسكريا بذراعها اللبناني حزب الله، وبالفيالق النوعية في جيشها من الحرث الثوري وغيره، واستقدمت أكبر قادتها العسكريين وخبراءها الاستراتيجيين لإنقاذ نظام الأسد من التداعي التام، ودعمت اقتصاد النظام بمئات المليارات – مما أثر على اقتصادها كثيرًا - ، ومع كل هذا الدعم بكل أشكاله وأصنافه، فقد حافظت الثورة على تقدمها النوعي على حساب النظام وحلفائه، حتى أوائل عام (2016 ). لكن بعد الإخفاقات المتتالية للنظام وحلفائه الإيرانيين في مواجهة الثورة، أعلنت روسيا تدخلها العسكري المباشر أواخر عام ( 2015 ) ، لتزج بأعداد كبيرة من قطعها العسكرية (الجوية – البحرية – البرية ) في أرض المعركة، وتستقدم شركات المرتزقة الروسية مثل ( شركة واغنر) ، وتنشئ قواعدها العسكرية في الساحل السوري، وتستخدم آلاف الأطنان من الذخائر المحرمة دوليًا، لكسر عزيمة الثورة والضغط على الحاضنة الشعبية لها، تزامن ذلك مع طعنات داعش المتتالية في خاصرة الثورة، والتدخل الأمريكي تحت مظلة التحالف الدولي بحجة قتال داعش، وصناعة أمريكا أذرعًا عسكرية لها من الأحزاب الكردية الملحدة لتكون خنجرًا في خاصرة الثورة. ومن جهة أخرى زاد تحكم الدول الداعمة في قرارات الفصائل بضغط دولي للحد من قوة الثورة، وتركيع الفصائل للحلول التي يفرضها اللاعبون الكبار في المجتمع الدولي، ومع مرور الوقت ، كانت الدول الكبرى قد درست الثورة – من خلال مراكز أبحاثها وخبراءها - وحددت نقاط القوة فيها وعوامل الضعف الكامنة بين صفوفها، ووضعت استراتيجيات أضعافها تمهيدًا للقضاء عليها، ومع وجود جوانب قصور في صفوف الثورة، تمكن هؤلاء وأولئك من تنفيذ مخططاتهم، إلى أن وصلت الثورة لوضعها الحالي. الشاهد مما سبق أن الثورة أثبتت أن الشعوب قادرة على هزيمة الأنظمة إذا اتخذت الجهاد الراشد سبيلًا لها، وأعدت العدة، وأخذت بالأسباب اللازمة، وتسلحت بالعزيمة والإرادة، وتحركت وفق سنن الله عز وجل. o إن من أبرز إيجابيات هذه الثورة أنها فضحت الغلاة، وأظهرت كذب شعاراتهم التي يتشدقون بها، وبينت للأمة عوار هذا المنهج الخبيث، وأنه أبعد ما يكون عن هدي ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وضح جليًا أن الغلاة كانوا أمضى سلاحًا في يد أعداء الثورة، وأنهم كانوا خنجرًا في خاصرة الأمة بيد عدوها، فقد رأينا كيف أنهم شردوا الفصائل وقتلوا خيرة كوادر الأمة غدرًا وخيانة، وكفروا المسلمين والمجاهدين، وتعاونوا مع عدوهم على حصارهم في أكثر من موقف. ثم رأينا كيف أن دولتهم المزعومة قد زالت بعد أن أدوا لأعداء الأمة الدور الذي رسموه لهم. فالحمد لله الذي فضح منهجهم للأمة لتتعلم الدرس، وليتحصن أبناء الأمة بالوعي من هذه التجربة ضد هذا الفكر الخبيث، والمنهج السقيم. o أظهرت الثورة السورية نفاق المجتمع الدولي الذي ينادي بالحرية لسائر شعوب العالم، ويزعم أنه يدافع عن حقوق الإنسان، ويقف في صف المظلومين، فأين كان هذا المجتمع الدولي من قتل مليون إنسان بريء، أغلبهم من الأطفال والنساء، وتهجير ( 10 مليون ) إنسان بين مخيمات النزوح ودول اللجوء، واعتقال مئات الآلاف في سجون ومعتقلات نازية من قبل نظام الأسد المجرم. لقد بات جليًا لكل حر أن المجتمع الدولي لم يقف في صف المظلومين من الشعب السوري، ولا قام بدوره الإنساني الذي يدعيه على الإطلاق، بل كان أداة من أدوات الالتفاف على الثورة، وتضييع أهدافها بين أروقة قاعات المؤتمرات وصالات الاجتماعات. لذلك فإنه بعد التجربة السورية، ينبغي على الشعوب الثائرة التي تسعى للتحرر، أن تعد المجتمع الدولي وقراراته ومواقفه من الشعوب الثائرة في خندق الثورة المضادة، وتتحرك بناء على ذلك. o هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وكما ذكرت آنفًا، فإن الحديث عن إيجابيات الثورة السورية لا ينقضي، بل إنه يحتاج إلى أبحاث ودراسات، ترصد آثارها الإيجابية على الأمة، وآثارها السلبية على أعداء الأمة، وأكتفي بالنقاط التي ذكرتها، وأسأل الله أن يقيض للأمة من يخدم الثورة السورية دراسة وبحثًا، ليخرج للأمة بدروس تنتفع بها في حاضرها ومستقبلها. وبعد، فإن الثورة السورية لم تنتهِ ، ولا تزال رحى المعارك دائرة، في حملة إجرامية جديدة، - منذ قرابة ثلاثة أشهر من تاريخ كتابة هذه المقالة - بقيادة روسية، تخطيطًا ودعمًا ومشاركة جوية وبرية، تهدف إلى كسر عزائم رجال الثورة الأحرار، واحتلال المزيد من الأراضي المحررة، ولا يزال رجال الثورة الأبرار صامدين ثابتين يواجهون عدوهم بما لديهم من إمكانيات محدودة مقارنة بإمكانات دولة في حجم روسيا، وقد كتب الله عز وجل على أيديهم كسر هذه الحملة الأخيرة وإيقاف تقدمها، وإعادة الكرة عليهم واستعادة بعض المناطق التي خسروها، بل وحرروا مناطق جديدة لم تحرر من قبل قط طوال عمر الثورة، وكبدوا العدو خسائر فادحة في العتاد والأفراد، حتى طلب الروس أكثر من مرة – عبر الوسيط التركي – هدنة لإيقاف المعركة، بعد الذي رأوه من بسالة وصمود هؤلاء المجاهدين الأبطال، إلا أن رجال الثورة رفضوا وأعلنوا استمرارهم في المعركة حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم. ولعمري إن ما حدث في هذه الجولة الأخيرة – ثلاثة شهور من المعارك الضارية – لمن أعظم ما يبث الأمل في النفوس، ويثبت أننا - وإن كنا أضعف من عدونا على مستوى الأدوات - متى ما تسلحنا بالعزيمة، وأخذنا بالأسباب والأدوات المتاحة من غير تقصير، ووحدنا الصفوف، وتوكلنا على الله عزو جل، فإننا قادرون على مواجهة عدونا وكسره وإجباره على التراجع، بحول الله وقوته. ختامًا إن ثورات الربيع العربي تثبت أن الشعوب أقوى من حكامها، وأن هذه الأمة المسلمة أمة حية، وأن فجر حريتها آت لا ريب بحول الله وقوته. إن الشباب العربي المسلم الذي قام بهذه الثورات وذاق طعم الحرية فيها، لن يعود مرة أخرى إلى حظائر العبودية تحت سياط الجلادين. إن المقاومة والجهاد ستبقى هي خيار هذه الشعوب بإذن الله، وإن حاولوا تأديب الأحرار وإرهابهم بالتنكيل بالشعب السوري ليكون عبرة، فسينقلب السحر عليهم، وستكون دماء الأحرار الأبرار من كل الشعوب الثائرة، وقودًا للاستمرار، ونورًا يهتدي به السائرون على درب الحرية.
ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟!

أسامة الرشيدي
(كاتب سوري)

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

مقدمة
اليوم، والثورة السورية في عامها التاسع، وقد تقلصت المناطق المحررة إلى أقصى درجاتها، وانحسر الثوار الأحرار في جيب إدلب الخضراء وريفها، وبلغ شهداء الثورة قرابة المليون شهيد، واضطر أكثر من عشرة مليون إنسان إلى ترك بيوتهم إلى مخيمات النزوح الداخلية، ودول اللجوء الخارجية، فضلًا عن التدمير الذي لحق بالبنى التحتية للدولة. بعد كل هذا، قد يسأل سائل: وماذا بعد؟!

بعد كل هذه التضحيات الجسام، ماذا قدمت الثورة السورية للأمة؟

وأنا أقول: إن الناظر المتفحص في تاريخ الثورة السورية وأحداثها، يدرك جيدًا أن النتائج الإيجابية لثورة أهل الشام أكثر من أن تُحصى، ويصعب على باحث أن يحيط بها، لأنها أثرت تأثيرًا إيجابيًا في اتجاهات كثيرة، وعلى الأمة بأسرها، ولا تزال العقول والأفهام تتقلب بين أحداثها لتعود منها بالفوائد والعبر. وفي هذه السطور القليلة أحاول أن أرصد بعضًا من إيجابيات هذه الثورة المباركة، إبقاءً للأمل في النفوس، ودفعًا للقنوط عن القلوب، واستخراجًا لبعض أزهار ربيع الحرية من بين أشواك خريف الظلم والقهر، فأقول مستعينًا بالله:

o لقد أحيت الثورة السورية روح الجهاد في الأمة كلها، وجددت فيها روح البذل والتضحية والفداء في سبيل نصرة الدين والمظلومين، فقد رأينا تداعي الشعوب المسلمة لنصرة إخوانهم المظلومين في الشام بكل ما يستطيعون، من إندونيسيا في أقصى الشرق إلى موريتانيا في أقصى الغرب.

o لقد أحيت الثورة شعبًا بأكمله وأعادته إلى دينه وربه، فالناظر في حال الشعب السوري قبل الثورة، يجد أن نظام الأسد قد عمل على تغييبهم تمامًا عن حقائق الإسلام ومعانيه، حتى نشأ جيل لا يعرف الله - إلا قليلًا - ، ولا يعرف طريق المسجد، ولا يمثل الإسلامُ في حسه شيئًا على الإطلاق، وبلغ الانحلال ذروته – خاصة مع وجود النصيرية – وانتشر بين الناس سب الله ورسوله، وحوربت مظاهر الدين الصحيح في البلد، وقُهر وسُجن وعُذب وقُتل كل من يحاول أن يرفع اسم الله وأن يعلي من شريعته، فجاءت الثورة بأمر الله، لتحيي هذه الأمة الميتة الغارقة في بحور التيه، ولتعيد الشباب إلى ربهم، وتأخذ بأيديهم إلى الإسلام في أسمى درجاته، وأرقى معانيه، لنرى شابًا لم يكن يعرف طريق المسجد قبل الثورة، قد أصبح - في ظل الثورة - وأعظم أمانيه أن يرقى إلى ربه شهيدًا في سبيل دينه.

o أظهرت الثورة مدى خيرية الأمة المسلمة، وأن الخير في أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقطع إلى قيام الساعة، وضرب شباب الإسلام في هذه الثورة نماذج خالدة للتضحية والفداء في سبيل الله عز وجل، وأظهروا من صنوف الشجاعة والإقدام في مواجهة العدو الصائل المدجج بالسلاح، ما تعجب له النفوس، وتقر به العيون، ليعيدوا لنا سيرة أبطال الإسلام الأوائل حية في واقع الأمة اليوم، ليكون هؤلاء الأبطال مثالًا يحتذى، ونبراًسا تهتدي به أجيال الأمة الناشئة، فتسير على دربهم – إن شاء الله – حتى تحقق للأمة النصر المنشود.

o أظهرت الثورة السورية أن الأمة قادرة على إنتاج أدوات القوة إن استعادت مقدراتها من مغتصبيها من جوقة العملاء المتسلطين على رقابها. فعلى قلة إمكانات الثورة، فقد استطاعت إنتاج الكثير من الأسلحة والذخائر محلية الصنع، من مدافع هاون وراجمات صواريخ متعددة العيارات والمدايات، وأنتجت محليًا ذخائر لأسلحة متنوعة، وقناصات متعددة الأعيرة، وطائرات مسيرة (درونز) بقدرات كبيرة جدًا – لم تنتجها بعض الدول حتى – وطوّرت العديد من الأسلحة المغتنمة من النظام لتصبح أكثر فاعلية، إلى غير ذلك الكثير والكثير جدًا مما ابتكرته عقول أبناء الأمة في هذه الثورة، لتبقى هذه الصناعات رصيدًا في أرشيف الأمة الخالد، لتستفيد منه الأمة في صراعها الطويل.

o كذلك أخرجت الثورة السورية الكثير من الكوادر المتميزين في شتى المجالات من أبناء الأمة الذين تركوا بصماتهم في صفحات تاريخ الأمة، لتثبت أن هذه الأمة حيةٌ ولودٌ معطاءة، وأن أبناءها قادرون على العودة بها إلى مكانتها الطبيعية، لتقود الناس وتهديهم إلى الحق والنور والرشاد.

o لقد أثبتت الثورة السورية أن الجهاد على بصيرة، هو الوسيلة الأنجع لتحرير الشعوب من سلطان الطواغيت. فعلى الرغم مما آلت إليه الثورة في الوقت الراهن، وعلى الرغم مما اعتراها في بعض مراحلها من مظاهر التقصير في بعض الجوانب، إلا أن من عايش الثورة أو قرأ عن مراحلها، وتطور الأحداث خلالها، يدرك أن الثورة قد نجحت في إسقاط نظام الأسد فعليا.

ففي عام ( 2013 ) كانت الثورة تسيطر على ما نسبته ( 75 % ) تقريبًا من مساحة سوريا، مع سيطرةٍ على موارد الدولة الزراعية والصناعية والنفطية، وانهاك جيش النظام، بانشقاق عناصره وضباطه، وتحييد جنوده في المعارك بالقتل والإصابات، واغتنام معداته، والسيطرة على مطاراته الحربية، وإسقاط طائراته، إلى غير ذلك من صور تقدم الثورة على حساب النظام على كافة الأصعدة.

كل ذلك على الرغم من ضعف الإمكانات، وجوانب القصور في صف الثورة. إذن ما الذي حدث، حتى وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه اليوم؟ هذا سؤال كبير جدًا، ولكن اختصارًا أقول: إن الدول قد تداعت لإنقاذ النظام المتهاوي المتهالك، فأخذت روسيا تمده بآلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر، وأنواع الوقود، والمواد الغذائية، والخبراء العسكريين، وتدخلت إيران عسكريا بذراعها اللبناني حزب الله، وبالفيالق النوعية في جيشها من الحرث الثوري وغيره، واستقدمت أكبر قادتها العسكريين وخبراءها الاستراتيجيين لإنقاذ نظام الأسد من التداعي التام، ودعمت اقتصاد النظام بمئات المليارات – مما أثر على اقتصادها كثيرًا - ، ومع كل هذا الدعم بكل أشكاله وأصنافه، فقد حافظت الثورة على تقدمها النوعي على حساب النظام وحلفائه، حتى أوائل عام (2016 ).

لكن بعد الإخفاقات المتتالية للنظام وحلفائه الإيرانيين في مواجهة الثورة، أعلنت روسيا تدخلها العسكري المباشر أواخر عام ( 2015 ) ، لتزج بأعداد كبيرة من قطعها العسكرية (الجوية – البحرية – البرية ) في أرض المعركة، وتستقدم شركات المرتزقة الروسية مثل ( شركة واغنر) ، وتنشئ قواعدها العسكرية في الساحل السوري، وتستخدم آلاف الأطنان من الذخائر المحرمة دوليًا، لكسر عزيمة الثورة والضغط على الحاضنة الشعبية لها، تزامن ذلك مع طعنات داعش المتتالية في خاصرة الثورة، والتدخل الأمريكي تحت مظلة التحالف الدولي بحجة قتال داعش، وصناعة أمريكا أذرعًا عسكرية لها من الأحزاب الكردية الملحدة لتكون خنجرًا في خاصرة الثورة.

ومن جهة أخرى زاد تحكم الدول الداعمة في قرارات الفصائل بضغط دولي للحد من قوة الثورة، وتركيع الفصائل للحلول التي يفرضها اللاعبون الكبار في المجتمع الدولي، ومع مرور الوقت ، كانت الدول الكبرى قد درست الثورة – من خلال مراكز أبحاثها وخبراءها - وحددت نقاط القوة فيها وعوامل الضعف الكامنة بين صفوفها، ووضعت استراتيجيات أضعافها تمهيدًا للقضاء عليها، ومع وجود جوانب قصور في صفوف الثورة، تمكن هؤلاء وأولئك من تنفيذ مخططاتهم، إلى أن وصلت الثورة لوضعها الحالي.

الشاهد مما سبق أن الثورة أثبتت أن الشعوب قادرة على هزيمة الأنظمة إذا اتخذت الجهاد الراشد سبيلًا لها، وأعدت العدة، وأخذت بالأسباب اللازمة، وتسلحت بالعزيمة والإرادة، وتحركت وفق سنن الله عز وجل.

o إن من أبرز إيجابيات هذه الثورة أنها فضحت الغلاة، وأظهرت كذب شعاراتهم التي يتشدقون بها، وبينت للأمة عوار هذا المنهج الخبيث، وأنه أبعد ما يكون عن هدي ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وضح جليًا أن الغلاة كانوا أمضى سلاحًا في يد أعداء الثورة، وأنهم كانوا خنجرًا في خاصرة الأمة بيد عدوها، فقد رأينا كيف أنهم شردوا الفصائل وقتلوا خيرة كوادر الأمة غدرًا وخيانة، وكفروا المسلمين والمجاهدين، وتعاونوا مع عدوهم على حصارهم في أكثر من موقف. ثم رأينا كيف أن دولتهم المزعومة قد زالت بعد أن أدوا لأعداء الأمة الدور الذي رسموه لهم. فالحمد لله الذي فضح منهجهم للأمة لتتعلم الدرس، وليتحصن أبناء الأمة بالوعي من هذه التجربة ضد هذا الفكر الخبيث، والمنهج السقيم.

o أظهرت الثورة السورية نفاق المجتمع الدولي الذي ينادي بالحرية لسائر شعوب العالم، ويزعم أنه يدافع عن حقوق الإنسان، ويقف في صف المظلومين، فأين كان هذا المجتمع الدولي من قتل مليون إنسان بريء، أغلبهم من الأطفال والنساء، وتهجير ( 10 مليون ) إنسان بين مخيمات النزوح ودول اللجوء، واعتقال مئات الآلاف في سجون ومعتقلات نازية من قبل نظام الأسد المجرم. لقد بات جليًا لكل حر أن المجتمع الدولي لم يقف في صف المظلومين من الشعب السوري، ولا قام بدوره الإنساني الذي يدعيه على الإطلاق، بل كان أداة من أدوات الالتفاف على الثورة، وتضييع أهدافها بين أروقة قاعات المؤتمرات وصالات الاجتماعات. لذلك فإنه بعد التجربة السورية، ينبغي على الشعوب الثائرة التي تسعى للتحرر، أن تعد المجتمع الدولي وقراراته ومواقفه من الشعوب الثائرة في خندق الثورة المضادة، وتتحرك بناء على ذلك.

o هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وكما ذكرت آنفًا، فإن الحديث عن إيجابيات الثورة السورية لا ينقضي، بل إنه يحتاج إلى أبحاث ودراسات، ترصد آثارها الإيجابية على الأمة، وآثارها السلبية على أعداء الأمة، وأكتفي بالنقاط التي ذكرتها، وأسأل الله أن يقيض للأمة من يخدم الثورة السورية دراسة وبحثًا، ليخرج للأمة بدروس تنتفع بها في حاضرها ومستقبلها.

وبعد،

فإن الثورة السورية لم تنتهِ ، ولا تزال رحى المعارك دائرة، في حملة إجرامية جديدة، - منذ قرابة ثلاثة أشهر من تاريخ كتابة هذه المقالة - بقيادة روسية، تخطيطًا ودعمًا ومشاركة جوية وبرية، تهدف إلى كسر عزائم رجال الثورة الأحرار، واحتلال المزيد من الأراضي المحررة، ولا يزال رجال الثورة الأبرار صامدين ثابتين يواجهون عدوهم بما لديهم من إمكانيات محدودة مقارنة بإمكانات دولة في حجم روسيا، وقد كتب الله عز وجل على أيديهم كسر هذه الحملة الأخيرة وإيقاف تقدمها، وإعادة الكرة عليهم واستعادة بعض المناطق التي خسروها، بل وحرروا مناطق جديدة لم تحرر من قبل قط طوال عمر الثورة، وكبدوا العدو خسائر فادحة في العتاد والأفراد، حتى طلب الروس أكثر من مرة – عبر الوسيط التركي – هدنة لإيقاف المعركة، بعد الذي رأوه من بسالة وصمود هؤلاء المجاهدين الأبطال، إلا أن رجال الثورة رفضوا وأعلنوا استمرارهم في المعركة حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم.

ولعمري إن ما حدث في هذه الجولة الأخيرة – ثلاثة شهور من المعارك الضارية – لمن أعظم ما يبث الأمل في النفوس، ويثبت أننا - وإن كنا أضعف من عدونا على مستوى الأدوات - متى ما تسلحنا بالعزيمة، وأخذنا بالأسباب والأدوات المتاحة من غير تقصير، ووحدنا الصفوف، وتوكلنا على الله عزو جل، فإننا قادرون على مواجهة عدونا وكسره وإجباره على التراجع، بحول الله وقوته.

ختامًا
إن ثورات الربيع العربي تثبت أن الشعوب أقوى من حكامها، وأن هذه الأمة المسلمة أمة حية، وأن فجر حريتها آت لا ريب بحول الله وقوته. إن الشباب العربي المسلم الذي قام بهذه الثورات وذاق طعم الحرية فيها، لن يعود مرة أخرى إلى حظائر العبودية تحت سياط الجلادين. إن المقاومة والجهاد ستبقى هي خيار هذه الشعوب بإذن الله، وإن حاولوا تأديب الأحرار وإرهابهم بالتنكيل بالشعب السوري ليكون عبرة، فسينقلب السحر عليهم، وستكون دماء الأحرار الأبرار من كل الشعوب الثائرة، وقودًا للاستمرار، ونورًا يهتدي به السائرون على درب الحرية.
‏٠٩‏/٠٨‏/٢٠١٩ ١٠:٢١ م‏
أبو يزن الشامي وفريضة الاعتبار الغائبة كرم الحفيان ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk مقدمة أكاد أجزم أن العقبة الأكبر في طريق تحرر الأمة الإسلامية من محتليها وجلاديها هو غياب المراجعات الذاتية الصادقة في الفكر والأداء (أياً كان اتجاهها)، داخل أكبر الحركات والكيانات الإسلامية المعاصرة على اختلاف مشاربها ومناهجها التغييرية، أو ما عبر عنه أبو يزن الشامي بـ "فريضة الاعتبار الغائبة". وأبو يزن الشامي، لمن لا يعرفه، هو أحد أبرز العقول الشابة المفكرة الاستثنائية في الثورة السورية والحركات الجهادية الراشدة، التي لاقت قبولاً واسعاً من مجمل الثوار، لجمعها بين العلوم الشرعية والإنسانية، والعمل المسلح المميز، والتنظير الفكري والحركي القرآني الراقي، والنضج السياسي السريع، وقبل هذا كله سلامة القلب، وأمارته: الاعتراف بالأخطاء المنهجية ومحاولة إصلاحها أولاً بأول، قبل أن تتراكم، وتصبح إرثاً يتعصب المرء له في دوامة المناكفات بين المدارس الإسلامية المختلفة. لن نناقش صحة مراجعات أبي يزن الشامي في هذه السطور، إنما سنعرضها كمثال للمراجعات الصادقة. وهذا الجانب هو الأهم في نظر الكاتب، والمميز لها عن الكثير من المراجعات الأخرى، التي كانت إما: قهراً تحت الضغط الأمني، أو انقلاباً كاملاً للنقيض كردة فعل، أو عالجت الظواهر دون الجذور، أو أخذت طابعاً تكتيكياً مرحلياً، أو يصر أصحابها على المكابرة وعدم تحمل مسؤولية أفعالهم، ولسان حالهم "أننا معذورون في كل المراحل"! ولا تثريب علينا! وغيرها من الحجج والملابسات التي تنسحب على كبرى الجماعات المعاصرة، وتتسبب في قدر كبير مما تعانيه الأمة حالياً، وتقف سداً منيعاً أمام تصحيح المسار. من يقرأ كتابات أبي يزن، أو يستمع لدروسه، لا يمكن أن يتصور نسبتها لشخص لم يكمل بعد عقده الثالث! وقد ارتقى شهيداً عن ثمانية وعشرين عاماً في التفجير الشهير في 9 سبتمبر 2014م في محافظة إدلب بصحبة جل الصف الأول لحركة أحرار الشام. هل سمعتم عن شخص ذي علم شرعي وتجربة حركية جهادية، يراجع مسيرة تياره، ويسجل مراجعاته الشرعية والحركية، وهو في النصف الثاني من العشرينات، ويقره ويستفيد من مراجعاته قادة أكابر كثر يفوقونه علماً وتجارب، وبعضهم في عمر أبيه!، إنه الظاهرة أبو يزن الشامي. بوادر نبوغ أبي يزن وقوة شخصيته ظهرت في سن مبكرة، فرغم حصوله على مجموع يؤهله لدخول "كليات القمة" كالطب والهندسة وغيرها، إلا أنه اختار تخصصاً يحبه "الشريعة الإسلامية" والتحق بجامعة دمشق، إضافة إلى حضوره دروس علماء دمشق الكبار، ثم دخل مرحلة الماجستير، ولم يتمها بسبب الاعتقال والسجن بتهمة السلفية الجهادية قبل قيام الثورة السورية. خرج أبو يزن من السجن بداية الثورة السورية، وهو ما زال يحمل النهج السلفي الجهادي، إلا أنه من خلال اختلاطه بطيف واسع من الشخصيات والاتجاهات الإسلامية أثناء الثورة، واحتضان سورية لعدد ضخم جداً من القادة والتنظيمات السلفية الجهادية الوافدة من كل الدنيا، وعقب أبحاثه الميدانية المتواصلة بقراءات ومقاربات جديدة، انطلق في سلسلة مراجعات تدريجية لفكر وأداء تياره، بدءاً من أسلوب التعامل مع الحاضنة الشعبية، وطبيعة العلاقة مع تيارات وعلماء وكوادر الأمة، مروراً بالمشروع السياسي، والتركيبة النفسية لأبناء التيار، وانتهاءً بالمرجعية الفقهية والفكرية. وبعد سنتين تقريباً، كانت عملية "الاعتبار" قد نضجت عند أبي يزن، وظهرت ملامحها على النحو التالي: أولاً: تمسك أبو يزن ببعض الركائز المكونة للسلفية الجهادية (والمشتركة مع غيرها): 1- التصور الإسلامي للواقع المعاصر، والقائم على فهم النمط الفلسفي للجاهلية المعاصرة الحاكمة للعالم، والحرص على تمايز الإسلام بثقافته وتشريعه وحضارته عنه. 2- الفكر الجهادي الثوري في التعامل مع الأنظمة الحاكمة التابعة للمنظومة الفلسفية الغربية أو الشرقية. 3- الطبعة السلفية لابن تيمية في دعوته للاجتهاد والتجديد (بغض النظر عن مدى تباين فهم الطرفين لأطروحات ابن تيمية). ثانياً: وفي المقابل، وبعد التجربة الميدانية والبحث العميق، حمل أبو يزن بشدة على غالب الركائز والسمات الرئيسية المؤسسة للسلفية الجهادية، ودعا لضرورة الاعتبار بما ألم بالساحات الجهادية بسببها: 1- الطبعة المعاصرة للسلفية التي راجت منذ السبعينيات (والمختلفة عن سلفية ابن تيمية) والمفتقرة للبناء الفقهي المتماسك المتمثل بالتمذهب و"اكتمال النسب العلمي مع الأكابر جيلاً فجيل"، ما أنتج - من وجهة نظر أبي يزن- حالة من الفوضى الفقهية و"الفقه البهلواني وكثرة الرؤوس الجهال" المتصدرين للتكفير وإباحة الدماء في الساحات الجهادية المختلفة، الأمور التي عُصمت منها طالبان الحنفية لمذهبيتها. 2- التركيبة النفسية التي تخلط بين: الأمور الخبرية والتكاليف الشرعية "فالشرع يأمر بالاعتصام والوحدة وهذا يوجب الكثرة فيتعارض في أذهانهم مع أحاديث الغربة وقلة الطائفة وهنا يأتي دور تلبيس إبليس طبعًا، فيرون كل اجتماع هو شر.. وكل فرقة توجب القلة خير"، "حديث (بدأ الإسلام غريباً) في لبه للتعزية والمواساة وليس دعوة لتكريس واقع الغربة، بل بالعكس هو دعوة للتغيير فغربة الإسلام أمر محزن يا رعاك الله"، ولا شك أن هناك أسباباً أخرى لعدم وحدة المجاهدين والعاملين للإسلام، ولكن الحديث هنا عن النفسية الساعية للغربة والتمايز عن جموع المجاهدين وتزكية هذه الحال. 3- الحاضنة الشعبية وطريقة التعامل معها "من ينظِّرون لحرب العصابات يقولون المقولة الشهيرة إن الشعب للعصابة كالماء للسمك، كنا نفرح بهذه المقولة حتى اكتشفت أن في ديننا ما هو أعظم: الجسد الواحد "كنتم خير أمة أخرجت للناس".. للأسف أن منطق حرب العصابات الشيوعي الذي طغى على الفكر الجهادي جعل المتقدم منا فكرياً يتعامل مع الحاضنة كوسيلة، ونسي أنهم أهله وناسه.. على التجارب الجهادية أن تسير مع حاضنتها لا عليها". 4- بين التمكين والاستضعاف "علمني الجهاد أن الانطلاق من فقه عصر التمكين في زماننا انفصال عن الواقع، والاكتفاء بفقه عصر الاستضعاف مراوحة بالمكان، والأمر عوانٌ بين ذلك.. لسنا بمرحلة مكية أو مدنية بل بزمان آخر له مناطات من كليهما، فلننظر للسيرة نظرة استنباط فالأمر فقه لا محاكاة"، و"السبيل للغاية العظمى يستلزم منك التركيز على أهداف مرحلية، فيحسب من يقرأ المشهد معزولاً أنك تخليت عن الغاية"، وهذه الأخيرة قيلت بعد رفض الفصائل السلفية الجهادية لميثاق عمل جامع لجل الفصائل الثورية ركز على إسقاط النظام دون التصريح بماهية الدولة المستقبلية. 5- سبيل التمكين "من الأخطاء في مناهج التمكين تقديم الاتفاق الفكري ونسيان ما جرى في بني إسرائيل (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، بل أساس الاعتصام الائتلاف القلبي (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) ولم يقل في تناغمهم الفكري ومشربهم التصوري)". 6- سياسة "التكتيف" القائمة على الإفراط في مسألة سد الذرائع، بمعنى تجنب كل الأفعال (كالتحالفات والمفاوضات) التي ليست حراماً في الأصل ولكن قد تؤدي مستقبلاً إلى مخالفات شرعية، وهذه سمة بارزة في الخط السلفي الجهادي، وفي المقابل تبرز سياسة "التمييع" القائمة على الاستزادة من المصالح المرسلة بلا ضوابط، وهي صفة غالبة على أداء الإخوان السياسي، والسياسة الراشدة عند أبي يزن عوانٌ بين ذلك. والخلاصة النهائية التي وصل لها أبو يزن "إن المتأمل لتاريخ الخوارج المعاصر يجد أن المدرسة السلفية الجهادية كانت حاضنة لهم في معظم الساحات"، وعلى الرغم من عدم تعميمه الحكم على أفراد وتنظيمات السلفية الجهادية إلا أن "تكرار تجربة الخوارج في الجزائر وإفسادها للجهاد المعاصر في الجزائر، العراق..ووو وظهورها بالشام يوحي بعدم علاج المشكلة من جذورها مع قرب عهدها من بعض، وإن تكرار الدعوة بأن المنهج صحيح لكنه سرق يدل على عمش في الرؤيا لدى أبناء المنهج، فبعداً لمنهج يسرق في كل مكان!". وقبل شهادته بستة أيام سجل شهادة أخرى تاريخية قال فيها: "نعم أنا كنت سلفياً جهادياً وحبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه، وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنى عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يوماً، لأني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه، واختلطت بكم وبقلوبكم قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عندما قال (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، أعتذر منكم أعتذر، وإن شاء الله قابل الأيام خير من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا". وهنا وقفة في غاية الأهمية بخصوص مراجعات أبي يزن، أنه على الرغم من تبلور موقفه السلبي الحاسم من أدبيات وممارسات السلفية الجهادية، بعد معاينته لأداء عدد كبير من تنظيماتها وقادتها، واستقرائه لتاريخها، إلا أنه حافظ على "جهاديته" و"ثوريته" و"أصوليته" محاولاً إعادة توجيه جميع ما سبق شرعياً وحركياً وسياسياً في الميدان في الاتجاه الصحيح. ولم ينقلب إلى الضد كردة فعل، كما حصل مع الكثير من الإسلاميين وغيرهم إثر الثورات والثورات المضادة، فالبعض قفز من الجهادية إلى الإصلاحية المستأنسة، والبعض تحول من تقليدي محافظ إلى حداثي نصف ليبرالي، والبعض انقلب من سلمي متعايش ومتسامح مع "الكل" إلى داعشي يكفر ويقتل "الكل". والمراجعات الحقيقية التي حصلت غلب عليها طابع التكيف مع الواقع دون التطرق لجذور وأس المشكلة. ونظرة أبي يزن لمراجعات الكثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، أنه حتى المتقدم منها اقتصر على تجاوز مرحلة التكتيكات إلى وضع الاستراتيجيات "مع نسيانه مراجعة الفلسفة الناظمة للتحرك..الإخوان وثورة الضباط الأحرار، الإخوان والسيسي، السلفية الجهادية والجزائر، السلفية الجهادية والعراق، السلفية الجهادية وسورية، تجارب متكررة مؤلمة رغم تقارب الأزمنة، والعقد التاريخية تظهر مع كل منعطف، والتغافل عنها ما عاد يجدي، ليست المشكلة إلى أين نصل، ولكن إلى أين نوصل من بعدنا، سؤال لو سأله من قبلنا لكانت كثير من المعطيات تغيرت اليوم، فمن حق أمتنا علينا بوجودها الحاضر، وبامتدادها المستقبلي، أن نسأل هذا السؤال لأنفسنا، الرشد بات ضرورة ملحة". وكان يتوقع أن مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي هي الفرصة الأخيرة لكافة الجماعات الإسلامية الأم الحالية (إخوان - سلفية جهادية - تحرير- صوفية - سلفية علمية) لإصلاح سلبياتها القاتلة، و"علامات الرسوب هي الغالبة على المشهد"، وسيزداد عدد التاركين لهذه الجماعات أو "الإلكترونات الحرة" بتعبير الشيخ المصري رفاعي سرور صاحب النظرية وأحد المؤثرين المهمين في تصور أبي يزن الحركي. هذه الإلكترونات ستتجمع وتعيد هيكلة المشهد الحركي الإسلامي بصورة راشدة إن امتلكت فلسفة تحرك صحيحة، وإلا فستدخل في مرحلة تيه. وبغض النظر عن صحة بعض أو جل مراجعات أبي يزن فيما يخص السلفية الجهادية، إلا أنه رسم خطاً وقدم قدوةً فريدة لجميع الحركات والتيارات والشخصيات في صدق وعمق المراجعات، وإيثار النصح للأمة على "قداسة" السمعة الشخصية والمصلحة الحزبية والتنظيمية. خاتمة لا شك أن قطار التضحيات وقوافل الشهداء لم تقف للحظة طوال تاريخ الأمة الإسلامية المعاصر، إلا أن ذلك وحده لم يؤد لتحررها أو نهضتها، وذلك لغياب فريضة وسنة "الاعتبار" التي نبه لها الكثيرون، ومارسها بصدق قلة، من أبرزهم أبو يزن الشامي، ذلك الشاب المجاهد المفكر الاستثنائي، الذي جمع بين التضحية والتصفية، وبين عمق الفكر وسعة الصدر. التضحية بسلوك درب الثورة والجهاد، والتصفية (الميدانية) المصاحبة للسير في الأرض وخوض التجارب والنظر والمراجعة لفكر وأداء الحركات الجهادية والإسلامية، وعمق الفكر بالتمكن من العلوم الشرعية والإنسانية كالتاريخ والاجتماع والسياسة وغيرها، وسعة الصدر بالاعتراف بالأخطاء وتحمل مسؤوليتها، ثم محاولة تصحيحها، ومواصلة الطريق إلى الله تعالى.
أبو يزن الشامي وفريضة الاعتبار الغائبة
كرم الحفيان

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

مقدمة

أكاد أجزم أن العقبة الأكبر في طريق تحرر الأمة الإسلامية من محتليها وجلاديها هو غياب المراجعات الذاتية الصادقة في الفكر والأداء (أياً كان اتجاهها)، داخل أكبر الحركات والكيانات الإسلامية المعاصرة على اختلاف مشاربها ومناهجها التغييرية، أو ما عبر عنه أبو يزن الشامي بـ "فريضة الاعتبار الغائبة".

وأبو يزن الشامي، لمن لا يعرفه، هو أحد أبرز العقول الشابة المفكرة الاستثنائية في الثورة السورية والحركات الجهادية الراشدة، التي لاقت قبولاً واسعاً من مجمل الثوار، لجمعها بين العلوم الشرعية والإنسانية، والعمل المسلح المميز، والتنظير الفكري والحركي القرآني الراقي، والنضج السياسي السريع، وقبل هذا كله سلامة القلب، وأمارته: الاعتراف بالأخطاء المنهجية ومحاولة إصلاحها أولاً بأول، قبل أن تتراكم، وتصبح إرثاً يتعصب المرء له في دوامة المناكفات بين المدارس الإسلامية المختلفة.
لن نناقش صحة مراجعات أبي يزن الشامي في هذه السطور، إنما سنعرضها كمثال للمراجعات الصادقة. وهذا الجانب هو الأهم في نظر الكاتب، والمميز لها عن الكثير من المراجعات الأخرى، التي كانت إما: قهراً تحت الضغط الأمني، أو انقلاباً كاملاً للنقيض كردة فعل، أو عالجت الظواهر دون الجذور، أو أخذت طابعاً تكتيكياً مرحلياً، أو يصر أصحابها على المكابرة وعدم تحمل مسؤولية أفعالهم، ولسان حالهم "أننا معذورون في كل المراحل"! ولا تثريب علينا! وغيرها من الحجج والملابسات التي تنسحب على كبرى الجماعات المعاصرة، وتتسبب في قدر كبير مما تعانيه الأمة حالياً، وتقف سداً منيعاً أمام تصحيح المسار.

من يقرأ كتابات أبي يزن، أو يستمع لدروسه، لا يمكن أن يتصور نسبتها لشخص لم يكمل بعد عقده الثالث! وقد ارتقى شهيداً عن ثمانية وعشرين عاماً في التفجير الشهير في 9 سبتمبر 2014م في محافظة إدلب بصحبة جل الصف الأول لحركة أحرار الشام.
هل سمعتم عن شخص ذي علم شرعي وتجربة حركية جهادية، يراجع مسيرة تياره، ويسجل مراجعاته الشرعية والحركية، وهو في النصف الثاني من العشرينات، ويقره ويستفيد من مراجعاته قادة أكابر كثر يفوقونه علماً وتجارب، وبعضهم في عمر أبيه!، إنه الظاهرة أبو يزن الشامي.

بوادر نبوغ أبي يزن وقوة شخصيته ظهرت في سن مبكرة، فرغم حصوله على مجموع يؤهله لدخول "كليات القمة" كالطب والهندسة وغيرها، إلا أنه اختار تخصصاً يحبه "الشريعة الإسلامية" والتحق بجامعة دمشق، إضافة إلى حضوره دروس علماء دمشق الكبار، ثم دخل مرحلة الماجستير، ولم يتمها بسبب الاعتقال والسجن بتهمة السلفية الجهادية قبل قيام الثورة السورية.

خرج أبو يزن من السجن بداية الثورة السورية، وهو ما زال يحمل النهج السلفي الجهادي، إلا أنه من خلال اختلاطه بطيف واسع من الشخصيات والاتجاهات الإسلامية أثناء الثورة، واحتضان سورية لعدد ضخم جداً من القادة والتنظيمات السلفية الجهادية الوافدة من كل الدنيا، وعقب أبحاثه الميدانية المتواصلة بقراءات ومقاربات جديدة، انطلق في سلسلة مراجعات تدريجية لفكر وأداء تياره، بدءاً من أسلوب التعامل مع الحاضنة الشعبية، وطبيعة العلاقة مع تيارات وعلماء وكوادر الأمة، مروراً بالمشروع السياسي، والتركيبة النفسية لأبناء التيار، وانتهاءً بالمرجعية الفقهية والفكرية.

وبعد سنتين تقريباً، كانت عملية "الاعتبار" قد نضجت عند أبي يزن، وظهرت ملامحها على النحو التالي:

أولاً: تمسك أبو يزن ببعض الركائز المكونة للسلفية الجهادية (والمشتركة مع غيرها):
1- التصور الإسلامي للواقع المعاصر، والقائم على فهم النمط الفلسفي للجاهلية المعاصرة الحاكمة للعالم، والحرص على تمايز الإسلام بثقافته وتشريعه وحضارته عنه.

2- الفكر الجهادي الثوري في التعامل مع الأنظمة الحاكمة التابعة للمنظومة الفلسفية الغربية أو الشرقية.

3- الطبعة السلفية لابن تيمية في دعوته للاجتهاد والتجديد (بغض النظر عن مدى تباين فهم الطرفين لأطروحات ابن تيمية).

ثانياً: وفي المقابل، وبعد التجربة الميدانية والبحث العميق، حمل أبو يزن بشدة على غالب الركائز والسمات الرئيسية المؤسسة للسلفية الجهادية، ودعا لضرورة الاعتبار بما ألم بالساحات الجهادية بسببها:

1- الطبعة المعاصرة للسلفية التي راجت منذ السبعينيات (والمختلفة عن سلفية ابن تيمية) والمفتقرة للبناء الفقهي المتماسك المتمثل بالتمذهب و"اكتمال النسب العلمي مع الأكابر جيلاً فجيل"، ما أنتج - من وجهة نظر أبي يزن- حالة من الفوضى الفقهية و"الفقه البهلواني وكثرة الرؤوس الجهال" المتصدرين للتكفير وإباحة الدماء في الساحات الجهادية المختلفة، الأمور التي عُصمت منها طالبان الحنفية لمذهبيتها.


2- التركيبة النفسية التي تخلط بين: الأمور الخبرية والتكاليف الشرعية "فالشرع يأمر بالاعتصام والوحدة وهذا يوجب الكثرة فيتعارض في أذهانهم مع أحاديث الغربة وقلة الطائفة وهنا يأتي دور تلبيس إبليس طبعًا، فيرون كل اجتماع هو شر.. وكل فرقة توجب القلة خير"، "حديث (بدأ الإسلام غريباً) في لبه للتعزية والمواساة وليس دعوة لتكريس واقع الغربة، بل بالعكس هو دعوة للتغيير فغربة الإسلام أمر محزن يا رعاك الله"، ولا شك أن هناك أسباباً أخرى لعدم وحدة المجاهدين والعاملين للإسلام، ولكن الحديث هنا عن النفسية الساعية للغربة والتمايز عن جموع المجاهدين وتزكية هذه الحال.

3- الحاضنة الشعبية وطريقة التعامل معها "من ينظِّرون لحرب العصابات يقولون المقولة الشهيرة إن الشعب للعصابة كالماء للسمك، كنا نفرح بهذه المقولة حتى اكتشفت أن في ديننا ما هو أعظم: الجسد الواحد "كنتم خير أمة أخرجت للناس".. للأسف أن منطق حرب العصابات الشيوعي الذي طغى على الفكر الجهادي جعل المتقدم منا فكرياً يتعامل مع الحاضنة كوسيلة، ونسي أنهم أهله وناسه.. على التجارب الجهادية أن تسير مع حاضنتها لا عليها".

4- بين التمكين والاستضعاف "علمني الجهاد أن الانطلاق من فقه عصر التمكين في زماننا انفصال عن الواقع، والاكتفاء بفقه عصر الاستضعاف مراوحة بالمكان، والأمر عوانٌ بين ذلك.. لسنا بمرحلة مكية أو مدنية بل بزمان آخر له مناطات من كليهما، فلننظر للسيرة نظرة استنباط فالأمر فقه لا محاكاة"، و"السبيل للغاية العظمى يستلزم منك التركيز على أهداف مرحلية، فيحسب من يقرأ المشهد معزولاً أنك تخليت عن الغاية"، وهذه الأخيرة قيلت بعد رفض الفصائل السلفية الجهادية لميثاق عمل جامع لجل الفصائل الثورية ركز على إسقاط النظام دون التصريح بماهية الدولة المستقبلية.

5- سبيل التمكين "من الأخطاء في مناهج التمكين تقديم الاتفاق الفكري ونسيان ما جرى في بني إسرائيل (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)، بل أساس الاعتصام الائتلاف القلبي (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) ولم يقل في تناغمهم الفكري ومشربهم التصوري)".

6- سياسة "التكتيف" القائمة على الإفراط في مسألة سد الذرائع، بمعنى تجنب كل الأفعال (كالتحالفات والمفاوضات) التي ليست حراماً في الأصل ولكن قد تؤدي مستقبلاً إلى مخالفات شرعية، وهذه سمة بارزة في الخط السلفي الجهادي، وفي المقابل تبرز سياسة "التمييع" القائمة على الاستزادة من المصالح المرسلة بلا ضوابط، وهي صفة غالبة على أداء الإخوان السياسي، والسياسة الراشدة عند أبي يزن عوانٌ بين ذلك.

والخلاصة النهائية التي وصل لها أبو يزن "إن المتأمل لتاريخ الخوارج المعاصر يجد أن المدرسة السلفية الجهادية كانت حاضنة لهم في معظم الساحات"، وعلى الرغم من عدم تعميمه الحكم على أفراد وتنظيمات السلفية الجهادية إلا أن "تكرار تجربة الخوارج في الجزائر وإفسادها للجهاد المعاصر في الجزائر، العراق..ووو وظهورها بالشام يوحي بعدم علاج المشكلة من جذورها مع قرب عهدها من بعض، وإن تكرار الدعوة بأن المنهج صحيح لكنه سرق يدل على عمش في الرؤيا لدى أبناء المنهج، فبعداً لمنهج يسرق في كل مكان!".

وقبل شهادته بستة أيام سجل شهادة أخرى تاريخية قال فيها: "نعم أنا كنت سلفياً جهادياً وحبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه، وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنى عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يوماً، لأني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه، واختلطت بكم وبقلوبكم قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عندما قال (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، أعتذر منكم أعتذر، وإن شاء الله قابل الأيام خير من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا".

وهنا وقفة في غاية الأهمية بخصوص مراجعات أبي يزن، أنه على الرغم من تبلور موقفه السلبي الحاسم من أدبيات وممارسات السلفية الجهادية، بعد معاينته لأداء عدد كبير من تنظيماتها وقادتها، واستقرائه لتاريخها، إلا أنه حافظ على "جهاديته" و"ثوريته" و"أصوليته" محاولاً إعادة توجيه جميع ما سبق شرعياً وحركياً وسياسياً في الميدان في الاتجاه الصحيح.

ولم ينقلب إلى الضد كردة فعل، كما حصل مع الكثير من الإسلاميين وغيرهم إثر الثورات والثورات المضادة، فالبعض قفز من الجهادية إلى الإصلاحية المستأنسة، والبعض تحول من تقليدي محافظ إلى حداثي نصف ليبرالي، والبعض انقلب من سلمي متعايش ومتسامح مع "الكل" إلى داعشي يكفر ويقتل "الكل". والمراجعات الحقيقية التي حصلت غلب عليها طابع التكيف مع الواقع دون التطرق لجذور وأس المشكلة.

ونظرة أبي يزن لمراجعات الكثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، أنه حتى المتقدم منها اقتصر على تجاوز مرحلة التكتيكات إلى وضع الاستراتيجيات "مع نسيانه مراجعة الفلسفة الناظمة للتحرك..الإخوان وثورة الضباط الأحرار، الإخوان والسيسي، السلفية الجهادية والجزائر، السلفية الجهادية والعراق، السلفية الجهادية وسورية، تجارب متكررة مؤلمة رغم تقارب الأزمنة، والعقد التاريخية تظهر مع كل منعطف، والتغافل عنها ما عاد يجدي، ليست المشكلة إلى أين نصل، ولكن إلى أين نوصل من بعدنا، سؤال لو سأله من قبلنا لكانت كثير من المعطيات تغيرت اليوم، فمن حق أمتنا علينا بوجودها الحاضر، وبامتدادها المستقبلي، أن نسأل هذا السؤال لأنفسنا، الرشد بات ضرورة ملحة".

وكان يتوقع أن مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي هي الفرصة الأخيرة لكافة الجماعات الإسلامية الأم الحالية (إخوان - سلفية جهادية - تحرير- صوفية - سلفية علمية) لإصلاح سلبياتها القاتلة، و"علامات الرسوب هي الغالبة على المشهد"، وسيزداد عدد التاركين لهذه الجماعات أو "الإلكترونات الحرة" بتعبير الشيخ المصري رفاعي سرور صاحب النظرية وأحد المؤثرين المهمين في تصور أبي يزن الحركي.

هذه الإلكترونات ستتجمع وتعيد هيكلة المشهد الحركي الإسلامي بصورة راشدة إن امتلكت فلسفة تحرك صحيحة، وإلا فستدخل في مرحلة تيه.

وبغض النظر عن صحة بعض أو جل مراجعات أبي يزن فيما يخص السلفية الجهادية، إلا أنه رسم خطاً وقدم قدوةً فريدة لجميع الحركات والتيارات والشخصيات في صدق وعمق المراجعات، وإيثار النصح للأمة على "قداسة" السمعة الشخصية والمصلحة الحزبية والتنظيمية.

خاتمة

لا شك أن قطار التضحيات وقوافل الشهداء لم تقف للحظة طوال تاريخ الأمة الإسلامية المعاصر، إلا أن ذلك وحده لم يؤد لتحررها أو نهضتها، وذلك لغياب فريضة وسنة "الاعتبار" التي نبه لها الكثيرون، ومارسها بصدق قلة، من أبرزهم أبو يزن الشامي، ذلك الشاب المجاهد المفكر الاستثنائي، الذي جمع بين التضحية والتصفية، وبين عمق الفكر وسعة الصدر.

التضحية بسلوك درب الثورة والجهاد، والتصفية (الميدانية) المصاحبة للسير في الأرض وخوض التجارب والنظر والمراجعة لفكر وأداء الحركات الجهادية والإسلامية، وعمق الفكر بالتمكن من العلوم الشرعية والإنسانية كالتاريخ والاجتماع والسياسة وغيرها، وسعة الصدر بالاعتراف بالأخطاء وتحمل مسؤوليتها، ثم محاولة تصحيحها، ومواصلة الطريق إلى الله تعالى.
‏٠٧‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٩:٣٤ م‏
@[520036614:2048:محمد إلهامي] يكتب: (( ضرورات الحركات )).. افتتاحية العدد الجديد [عدد 25] ⚫️ حمّل العدد 25 bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk ما من صاحب هم وحرص على هذه الأمة إلا وهو يحاول إدراك السر الذي ينقل من حال الضعف والهزيمة إلى حال العز والنصر، فتراه لا يجلس مجلسًا ولا يفتح كتابًا ولا يحضر ندوة ولا يستمع إلى متكلم، إلا وهو يحاول أن يفتش في كل ذلك عن طريق الحل. هذا السعي من أدلة الهمَّ ولعله من أدلة الصدق مع الله. وفي هذا الحال يثار التفتيش في التجارب التاريخية، مع أنه لن يمكن تكرار تجربة تاريخية بحذافيرها أبدًا، فالزمن نفسه جزء من تغير المشكلات وتغير الأوضاع، ومع ذلك يظل المسلم يحاول دائمًا استخلاص السنن والقواعد العامة التي لا تتبدل مع تغير الزمن. ونحن المسلمون ننظر أول ما ننظر إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أنجح تجربة تاريخية بشرية على الإطلاق وبشهادة غير المسلمين من المؤرخين والباحثين، بل لأن الاقتداء بالنبي أمرٌ شرعي، أُمِرنا به في الكتاب والسنة، وإن كثيرًا من تجارب الملوك والزعماء الأقوياء الناجحين لا يجوز لنا الاقتداء بها، فكم كان ثمن نجاح كثير من الزعماء دماء ملايين الناس وخراب المدن والبلاد! إذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولنا أن نرى ما هي الإمكانيات والأدوات التي كانت بيده عند لحظة بدئه الدعوة، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على امتلاك ما لم يكن معه، فلعل ذلك أن يكون واجب الوقت. وما سأكتبه هنا إنما هي قراءة سريعة عجلى لهذا الأمر، وهي جهد الـمُقل الـمُقَصِّر الكسير، ويظل الواجب الأكبر على علماء السيرة والتاريخ أن يبذلوا لأمتهم هذا العلم، فلعل كلمة من هنا مع كلمة من هناك، فتحًا يأتي به هذا مع فتح يأتينا من ذلك، فيكون ذلك أول الشرر، وسبيل الهداية لقوم يبحثون عن عمل وينقصهم بعض العلم. 1. أول الأمر فكرة ورسالة، وحي ألقاه الله لنبيه، فأول الأمر هو هذه الفكرة والرسالة الدينية الصافية، بدونها ما كان ليحدث شيء على الإطلاق. 2. وثاني الأمر إيمان عميق راسخ أصيل لا يتزعزع ولا يتردد، إيمان بهذا الدين، وبصلاحيته لهذه الحياة في كل زمان ومكان، وبقدرته على إصلاح حياة الناس وإنقاذهم دائمًا وأبدًا، إيمانٌ يختلط باللحم والدم والعظم، يجري في العروق وينبض في القلوب، إيمانٌ لا تستطيع قوة أن تنتزعه أو أن تصرف عن العمل له، التخلي عن الإيمان بالرسالة يساوي التخلي عن الحياة، إيمانٌ عبر عنه النبي في قوله: "أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة". 3. شخصية عظيمة موهوبة، تملك مؤهلات القيادة، تستطيع أن تجمع إليها العقول والقلوب، قائد يملك أن يفصح عن فكرته، شديد الصلة والارتباط بربه، يعرف مداخل الناس وله فيهم فراسة ونظر ورأي، رجلٌ على قدر المهمة. سيقول قائل: أين هذا القائد؟ وأجيب: إنها والله لمعضلة حقًا، لكن أمة تبلغ أكثر من مليار ونصف يستحيل ألا تحتوي على هذا الرجل، ربما تفرزه الأحداث فيجب عندها أن تكون القوى والجهود في ظهره ومن خلفه، وأن تخلص النفوس من حظ نفسها وتتجرد لله ولمصلحة الأمة، فأن نكون ذيولًا في الحق خير لنا من أن نكون رؤوسًا في الباطل، وهو خير لنا في الدنيا، فأن نسوق للزعيم المسلم دابته خير من أن نرعى خنازير الكافر الذي سيحتلنا ويذلنا. ربما تفرزه الأحداث، وربما نحتاج أن نبحث عنه بعينٍ أخرى كما كان طالوت في أمة بني إسرائيل المهزومة، كان بينهم وكانوا يبحثون عن قيادة، مقاييسهم كانت تحجبه عن عيونهم، ولما جاءهم خبر السماء بأنه القائد المصطفى من الله استنكروا هذا الاصطفاء (تعسًا لأمة مهزومة ترفض نخبتها القائد المصطفى من الله استكبارًا وعلوًا، لهذا هُزِموا واستُذِلُّوا)، نحتاج أن نبحث عن كل كفاءة وطاقة وموهبة ونوسع لها ما استطعنا سبيل الارتقاء، وما أكثر قادة أمتنا الذين نصروها وأعزها فكانت مسيرة حياتهم فصولًا من تقديم المخلصين لهم والتعريف بهم. [اقرأ أيضًا: melhamy.blogspot.com/2015/01/blog-post_3.html] 4. رجالٌ أكفاء على قدر المهمة، رجال صالحون في أنفسهم، فعَّالون في مجتمعهم، رجال يتشربون الفكرة والرسالة حتى تبلغ منهم مبلغ اللحم والدم والعظم، وهم مع ذلك أهل كفاءة وفعالية، ونحن إذا نظرنا في الذين دعاهم النبي أول أمره لوجدناهم شخصيات متميزة في نفسها، أبو بكر أمة وحده، وهو فوق معدنه الأصيل النفيس، رجل تاجر صاحب أموال قادر على التمويل والإسناد، نسابة يعرف خريطة قبائل قريش، مؤرخ يعرف أيام قريش، مركز علاقات عامة "يألف ويؤلف"، وبمجرد ما آمن التقط ستة من كل قريش، فكانوا من العشرة المبشرين بالجنة ومن أعمدة الإسلام الكبرى، انظر مدى الخبرة والدقة والفراسة في معادن الناس. وعلي بن أبي طالب صبي فتى مستقل بنفسه قوي الشخصية يؤمن بدين يخالف دين قومه، وسيرته تدل على مبلغ قوته وشجاعته مع ذكائه ومقدرته. وخديجة، هي فوق معدنها النفيس امرأة مستقلة صاحبة قرارها، تدير تجارة وأموالًا، تتاجر تجارة عالمية، ولا يخرجها هذا عن معنى الشرف والعفة والنزاهة، ولا يخرجها فيما بعد عن حسن التبعل للزوج واللين له، وإنها لموهبة وحزم وقوة. ثم فتش في كتب السيرة عن عثمان وأبي عبيدة وطلحة وزيد وسعد، كل واحدٍ منهم كان مع كونه شابًا مستقل الرأي والنظر، معروف القدر والأثر. والحركة الإسلامية الآن لا تدعو للإسلام من جديد، بل واجبها أن تنتقي الكفاءات المؤثرة، ولا تستكثر من الضعفاء والهزلاء والكسالى الذين ما دخلوا حركة إلا أثقلوها وجعلوها منتفخة بلا أثر، بل إن حقيقة نكبتنا المعاصرة أن غالب جسد الحركة الإسلامية ليس أهلًا للمهمات، بل وصل أولئك إلى مواقع القيادة فساقوا أتباعهم إلى المذبحة وقدموهم غنيمة باردة. يجب أن تكون الدعوة والانتقاء لمن يضيف إليها ولا يكون عالة عليها، دعوة للمؤثر الكفء الفعال مهما كان سبيل دعوته صعبًا ومجهدًا، وهي دعوة تستهدف نخبة الناس، ومراكز القوى والتأثير في المجتمع، والناظر في الخريطة القبلية للمسلمين الأوائل يشعر أنه انتقاء مقصود من أفضل نخبة الشباب في القبائل العليا لمجتمع قريش. الحركة تنتقي، ولكنها لا ترفض من أقبل إليها مهما ضعفت إمكانياته ولا تصرفه (وهذا هو موضع عتاب الله لنبيه في ابن أم مكتوم، عاتبه الله في الانصراف عن الذي أقبل، لا في أنه دعا سادة القوم). إننا نؤمن بقول نبينا "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" وسنستعين بهؤلاء في الدعاء فكم فيهم من مستجاب الدعوة، ونتقرب إلى الله بخدمتهم ورعايتهم والنظر في أحوالهم، لكن حديثنا الآن عن مسارات العمل وما تحتاجه من كفاءات. 5. تربية إيمانية مكثفة لهذه النخبة المختارة من الرجال، تربية تستهدف الارتقاء بأرواحهم وعقولهم بما ينزع عنهم شوائب الجاهلية ويجعلهم خالصين لهذا الدين. فَرَضَ الله على المسلمين قيام الليل كله أو نصفه أو ثلثه سنة كاملة (أربع ساعات قيام ليل بحد أدنى، يوميًا، لمدة سنة، ثم نزل التخفيف). لا بد للحركة من برنامج إيماني قاسٍ لكوادرها الأساسية. إن أولئك الذين خاضوا هذه التجربة الإيمانية صاروا أعمدة الإسلام، أسقطوا ملك فارس والروم، وجاءت كنوز المملكتين بين أيديهم فلم يغتروا ولم ينهزموا ولم يتحولوا، كان رصيد الإيمان الذي امتزج بروحهم قد رفعها عن هذا، وكم رأينا في التاريخ وفي حياتنا من تخطفته أنواع الترهيب وشدة التكاليف، ثم رأينا من صمد في الشدة ولكن زل في الرخاء فزاغ وضل وبدَّل الدين حرصًا على سلطة ومال بعدما صمد للسلخ والتعذيب. نسأل الله لأنفسنا ولجميع المسلمين الثبات على طريقه. 6. حماية سياسية، مثل التي وفَّرتها بنو هاشم وزعيمها أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم، وكان النبي يُبعث في "ثروة" (مَنَعة) من قومه، وذلك حتى تقوى الدعوة ويشتد عودها وتستقل بحماية نفسها، وسيرة الدعوات أنها تستفيد من واقع المجتمع الذي تريد تغييره، وتوظفها لمصلحتها، فيجب أن تقصد الدعوة مواضع الحماية وعصبيات القبائل ومراكز القوى لتحتمي بقوتها ومكانتها، ولهذا يجب عليها أن تعرف خريطة مجتمعها جيدًا قبل أن تبدأ الحركة. وفي الوقت الحاضر ربما يجب الاجتهاد في مسألة مراكز القوى العالمية، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منها، وكيف يمكن ذلك؟.. هذا عملٌ نضعه بين أيدي السادة العلماء. [اقرأ أيضًا: melhamy.blogspot.com/2013/12/blog-post_11.html] 7. عاصمة مؤثرة، إن العمل في الأطراف والهوامش أسهل كثيرًا، ونتائجه أسرع كثيرًا، ولكنها أيضا: أضعف كثيرًا، بينما العمل في العواصم أصعب كثيرًا، ونتائجه أبطأ كثيرًا، ولكن النجاح فيها يغير التاريخ. لقد بُعِث النبي في مكة وهي عاصمة العرب، وظل فيها عشرة أعوام يحاول أن يهتدي سادتها لكي يتبعهم العرب، فلما أبوا ولم يعد من أمل، ذهب إلى العاصمة الثانية: الطائف، ولما وجد صدودًا لا إمكان معه لمحاولة أخرى، بدأ بعرض نفسه على القبائل حتى وجد الأنصار، ثم كانت المرحلة المدنية صراعًا مع العاصمة المكية نفسها، حتى فُتِحت، ولما فُتِحت أقبلت جزيرة العرب مسلمة! تنجح الثورة طالما سيطرت على العاصمة، ينجح الاحتلال إن سيطر على العاصمة، يبقى النظام طالما سيطر على العاصمة، يفشل الاحتلال طالما لم يدخل العاصمة، العاصمة قادرة على استعادة الأطراف مهما ضعفت زمنًا ولو طال، وبعض الثورات والتمردات استمرت خمسين سنة ثم ذبلت لما لم تنجح في السيطرة على العاصمة. [اقرأ أيضًا: melhamy.blogspot.com/2016/08/blog-post_20.html] [اقرأ أيضًا: melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html] 8. خطة واضحة، خطة البحث عن أرض تكون أرضًا للدعوة، خطة تحول الدعوة إلى دولة، لقد كانت الفترة المكية فترة البحث عن دولة، استمرت المحاولة في مكة ما بقيت حماية بني هاشم وأبي طالب، فلما كُسِرت هذه الحماية بموت أبي طالب، و/أو لما بدا أن أهل مكة لن يؤمنوا، ذهب النبي إلى الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، وقبل من هذه القبائل حمايتها ولو داخل البلدة فحسب كما كانت بيعته للأنصار "وأن تحموني مما تحمون منه أنفسكم وأبناءكم"، ولو لم يؤمن الأنصار لطاف النبي على قبائل أخرى وأخرى حتى يجد له أرضًا تنصره ليبلغ منها رسالة ربه، ولتكون أرض الدعوة وليكون أهلها أنصاره وحزبه. إن الوصول إلى الاستقلال بأرض لإقامة الدولة من بعد الدعوة كانت خطوة في طريق كل حركة ناجحة، سواءٌ أكان ذلك بتنفيذ ثورة، أو انقلاب، أو الاستقلال بناحية، ويظل الصراع دائما حول السيطرة على العاصمة التي تعني نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد. وهذه الخطة يجب أن يستخلص لها أهل كل مكان ما يناسب وضعهم، إذ هي حصيلة النظر في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والأمن والسياسة، وبدون وجود رؤية كهذه يستحيل أن تحقق الحركة نجاحا، لأنها تصير كالتائه الذي لا يدري ماذا يفعل، يتحرك بالانطباع الانفعالي اللحظي، تحت ضغط الظرف والضرورة، يوظفه الأقوياء من حوله في صراعاتهم، ويدفع هو ثمنها كاملة دون أن يربح شيئًا. [اقرأ: melhamy.blogspot.com/2015/05/blog-post_4.html] [اقرأ: melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html] 9. كفاح مرير مستمر، وتلك سنة الدعوات والحركات والدول والإمبراطوريات، نشاط لا يهدأ وجهاد لا ينقطع، وتحديات يتلو بعضها بعضًا، ولا تستقر الدنيا لأحد، ولا تستقر على حال، ولقد كان هذا الأمر معلنًا منذ اللحظة الأولى للدعوة (إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا)، وقالها النبي لزوجه "مضى عهد النوم يا خديجة"، فمن كفاح لزرع الدعوة وغرسها في مكة، إلى كفاح لإيجاد الأرض والأنصار لها، إلى كفاح لإنشاء الدولة في المدينة، إلى كفاح لحمايتها وتثبيتها، إلى كفاح للفتح ونشر الدعوة، وراحة المؤمن –كما يقول الإمام أحمد- عند أول قدم يضعها في الجنة، لن تصل الحركة إلى مرحلة تتنسم فيها عبير الراحة، صراع يتصل فيه العدو من الشرطي الذي يراقب المسجد في القرية إلى رأس النظام العالمي الذي يراقب "التهديد الإسلامي" القادم، ومن نوازل زماننا أن هذا الخط بين شرطي القرية ورأس النظام العالمي قد صار متصلًا ومتيًنا وسريعًا، حتى كأنه عدو واحد في جسد واحد، إذا تهدد شرطي القرية تداعى له جسد النظام العالمي بالحمى والسهر. وتلك نازلة تحتاج اجتهادًا في النظر ثم اجتهادًا في العمل، تحتاج فوق مجرد الذكاء والحكمة واقتناص الفرصة، قوة أعصاب فولاذية في الصبر والتحمل وترتيب الأولويات وتحييد الأعداء وتسكين هذا وترغيب ذاك وتهدئة ذلك وتطمين أولئك. صراعٌ ما أصعبه على الضعيف المقهور. لهذا فالواقعية شعار المراحل كلها، والواقعية ضد التهور وضد التنازل، وهي في الواقع تكاد تكون شعرة لا يدركها غير الحكيم الحصيف الذي جمع إلى الذكاء القوة، ولم يختر نبينا أن يتصارع مع جهتين في وقت واحد أبدًا، فإذا اجتمعوا سعى في تفريقهم، ولو ببذل بعض المال وبعض التنازل. [اقرأ: www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10152723798661615] وفي النهاية فإن مهمتنا –على صعوبتها الشديدة- أسهل كثيرًا فنحن لا نبعث أمة، ولا نبنيها من جديد، بل ننفض عنها الغبار ونزيل طبقة الصدأ، إنما نُذَكِّر بمعاني الدين التي هي عميقة في النفوس وفي الأرواح، فوق أننا إذا أحسنا الفقه في الدين علمنا أنه الرحمة للعالمين، وبقي أن نحسن عرضه والدعوة إليه، فكم من مظلوم مقهور لا يعرفه، فإذا عرفه آمن به وأخلص له. الحركة الإسلامية ليست بديلًا عن المجتمع، هي له كالمغناطيس لبرادة الحديد، تجمع طاقاته وتنظمها، ليست جزءًا متعاليًا على الناس، فكم في الناس من هو أحسن وأفضل من أفراد الحركة الإسلامية، إلا أنهم لظرف ما كانوا خارجها، الحركة الإسلامية ليست بديلًا عن المؤسسات الدينية ولا وظيفتها أن تقدم العلم الشرعي، بل وظيفتها أن تجد الطريقة لتحريك هذه المؤسسات الدينية والاستفادة منها وبعثها واستثمار طاقتها. الحركة الإسلامية بنت الأمة والأمة حاضنتها، نمط التعالي والعزلة بل والتكفير نمطٌ مدمر للحركة الإسلامية نفسها. وقد كانت الأمة أسبق من الحركات إلى الثورات، وبذل الأمة في الثورات أوسع وأعظم من بذل الحركات. الحركة الإسلامية روح تسري في الأمة لتعيد تنشيط ما خمل منها. [اقرأ: www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10156137185031615]
محمد إلهامي يكتب:

(( ضرورات الحركات )).. افتتاحية العدد الجديد [عدد 25]

⚫️ حمّل العدد 25
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk

ما من صاحب هم وحرص على هذه الأمة إلا وهو يحاول إدراك السر الذي ينقل من حال الضعف والهزيمة إلى حال العز والنصر، فتراه لا يجلس مجلسًا ولا يفتح كتابًا ولا يحضر ندوة ولا يستمع إلى متكلم، إلا وهو يحاول أن يفتش في كل ذلك عن طريق الحل. هذا السعي من أدلة الهمَّ ولعله من أدلة الصدق مع الله.

وفي هذا الحال يثار التفتيش في التجارب التاريخية، مع أنه لن يمكن تكرار تجربة تاريخية بحذافيرها أبدًا، فالزمن نفسه جزء من تغير المشكلات وتغير الأوضاع، ومع ذلك يظل المسلم يحاول دائمًا استخلاص السنن والقواعد العامة التي لا تتبدل مع تغير الزمن.

ونحن المسلمون ننظر أول ما ننظر إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أنجح تجربة تاريخية بشرية على الإطلاق وبشهادة غير المسلمين من المؤرخين والباحثين، بل لأن الاقتداء بالنبي أمرٌ شرعي، أُمِرنا به في الكتاب والسنة، وإن كثيرًا من تجارب الملوك والزعماء الأقوياء الناجحين لا يجوز لنا الاقتداء بها، فكم كان ثمن نجاح كثير من الزعماء دماء ملايين الناس وخراب المدن والبلاد!

إذا نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحاولنا أن نرى ما هي الإمكانيات والأدوات التي كانت بيده عند لحظة بدئه الدعوة، وكيف عمل صلى الله عليه وسلم على امتلاك ما لم يكن معه، فلعل ذلك أن يكون واجب الوقت.
وما سأكتبه هنا إنما هي قراءة سريعة عجلى لهذا الأمر، وهي جهد الـمُقل الـمُقَصِّر الكسير، ويظل الواجب الأكبر على علماء السيرة والتاريخ أن يبذلوا لأمتهم هذا العلم، فلعل كلمة من هنا مع كلمة من هناك، فتحًا يأتي به هذا مع فتح يأتينا من ذلك، فيكون ذلك أول الشرر، وسبيل الهداية لقوم يبحثون عن عمل وينقصهم بعض العلم.

1. أول الأمر فكرة ورسالة، وحي ألقاه الله لنبيه، فأول الأمر هو هذه الفكرة والرسالة الدينية الصافية، بدونها ما كان ليحدث شيء على الإطلاق.

2. وثاني الأمر إيمان عميق راسخ أصيل لا يتزعزع ولا يتردد، إيمان بهذا الدين، وبصلاحيته لهذه الحياة في كل زمان ومكان، وبقدرته على إصلاح حياة الناس وإنقاذهم دائمًا وأبدًا، إيمانٌ يختلط باللحم والدم والعظم، يجري في العروق وينبض في القلوب، إيمانٌ لا تستطيع قوة أن تنتزعه أو أن تصرف عن العمل له، التخلي عن الإيمان بالرسالة يساوي التخلي عن الحياة، إيمانٌ عبر عنه النبي في قوله: "أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة".

3. شخصية عظيمة موهوبة، تملك مؤهلات القيادة، تستطيع أن تجمع إليها العقول والقلوب، قائد يملك أن يفصح عن فكرته، شديد الصلة والارتباط بربه، يعرف مداخل الناس وله فيهم فراسة ونظر ورأي، رجلٌ على قدر المهمة.

سيقول قائل: أين هذا القائد؟

وأجيب: إنها والله لمعضلة حقًا، لكن أمة تبلغ أكثر من مليار ونصف يستحيل ألا تحتوي على هذا الرجل، ربما تفرزه الأحداث فيجب عندها أن تكون القوى والجهود في ظهره ومن خلفه، وأن تخلص النفوس من حظ نفسها وتتجرد لله ولمصلحة الأمة، فأن نكون ذيولًا في الحق خير لنا من أن نكون رؤوسًا في الباطل، وهو خير لنا في الدنيا، فأن نسوق للزعيم المسلم دابته خير من أن نرعى خنازير الكافر الذي سيحتلنا ويذلنا.

ربما تفرزه الأحداث، وربما نحتاج أن نبحث عنه بعينٍ أخرى كما كان طالوت في أمة بني إسرائيل المهزومة، كان بينهم وكانوا يبحثون عن قيادة، مقاييسهم كانت تحجبه عن عيونهم، ولما جاءهم خبر السماء بأنه القائد المصطفى من الله استنكروا هذا الاصطفاء (تعسًا لأمة مهزومة ترفض نخبتها القائد المصطفى من الله استكبارًا وعلوًا، لهذا هُزِموا واستُذِلُّوا)، نحتاج أن نبحث عن كل كفاءة وطاقة وموهبة ونوسع لها ما استطعنا سبيل الارتقاء، وما أكثر قادة أمتنا الذين نصروها وأعزها فكانت مسيرة حياتهم فصولًا من تقديم المخلصين لهم والتعريف بهم.
[اقرأ أيضًا:
melhamy.blogspot.com/2015/01/blog-post_3.html]

4. رجالٌ أكفاء على قدر المهمة، رجال صالحون في أنفسهم، فعَّالون في مجتمعهم، رجال يتشربون الفكرة والرسالة حتى تبلغ منهم مبلغ اللحم والدم والعظم، وهم مع ذلك أهل كفاءة وفعالية، ونحن إذا نظرنا في الذين دعاهم النبي أول أمره لوجدناهم شخصيات متميزة في نفسها، أبو بكر أمة وحده، وهو فوق معدنه الأصيل النفيس، رجل تاجر صاحب أموال قادر على التمويل والإسناد، نسابة يعرف خريطة قبائل قريش، مؤرخ يعرف أيام قريش، مركز علاقات عامة "يألف ويؤلف"، وبمجرد ما آمن التقط ستة من كل قريش، فكانوا من العشرة المبشرين بالجنة ومن أعمدة الإسلام الكبرى، انظر مدى الخبرة والدقة والفراسة في معادن الناس.

وعلي بن أبي طالب صبي فتى مستقل بنفسه قوي الشخصية يؤمن بدين يخالف دين قومه، وسيرته تدل على مبلغ قوته وشجاعته مع ذكائه ومقدرته. وخديجة، هي فوق معدنها النفيس امرأة مستقلة صاحبة قرارها، تدير تجارة وأموالًا، تتاجر تجارة عالمية، ولا يخرجها هذا عن معنى الشرف والعفة والنزاهة، ولا يخرجها فيما بعد عن حسن التبعل للزوج واللين له، وإنها لموهبة وحزم وقوة. ثم فتش في كتب السيرة عن عثمان وأبي عبيدة وطلحة وزيد وسعد، كل واحدٍ منهم كان مع كونه شابًا مستقل الرأي والنظر، معروف القدر والأثر.

والحركة الإسلامية الآن لا تدعو للإسلام من جديد، بل واجبها أن تنتقي الكفاءات المؤثرة، ولا تستكثر من الضعفاء والهزلاء والكسالى الذين ما دخلوا حركة إلا أثقلوها وجعلوها منتفخة بلا أثر، بل إن حقيقة نكبتنا المعاصرة أن غالب جسد الحركة الإسلامية ليس أهلًا للمهمات، بل وصل أولئك إلى مواقع القيادة فساقوا أتباعهم إلى المذبحة وقدموهم غنيمة باردة. يجب أن تكون الدعوة والانتقاء لمن يضيف إليها ولا يكون عالة عليها، دعوة للمؤثر الكفء الفعال مهما كان سبيل دعوته صعبًا ومجهدًا، وهي دعوة تستهدف نخبة الناس، ومراكز القوى والتأثير في المجتمع، والناظر في الخريطة القبلية للمسلمين الأوائل يشعر أنه انتقاء مقصود من أفضل نخبة الشباب في القبائل العليا لمجتمع قريش.

الحركة تنتقي، ولكنها لا ترفض من أقبل إليها مهما ضعفت إمكانياته ولا تصرفه (وهذا هو موضع عتاب الله لنبيه في ابن أم مكتوم، عاتبه الله في الانصراف عن الذي أقبل، لا في أنه دعا سادة القوم). إننا نؤمن بقول نبينا "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" وسنستعين بهؤلاء في الدعاء فكم فيهم من مستجاب الدعوة، ونتقرب إلى الله بخدمتهم ورعايتهم والنظر في أحوالهم، لكن حديثنا الآن عن مسارات العمل وما تحتاجه من كفاءات.

5. تربية إيمانية مكثفة لهذه النخبة المختارة من الرجال، تربية تستهدف الارتقاء بأرواحهم وعقولهم بما ينزع عنهم شوائب الجاهلية ويجعلهم خالصين لهذا الدين.

فَرَضَ الله على المسلمين قيام الليل كله أو نصفه أو ثلثه سنة كاملة (أربع ساعات قيام ليل بحد أدنى، يوميًا، لمدة سنة، ثم نزل التخفيف). لا بد للحركة من برنامج إيماني قاسٍ لكوادرها الأساسية. إن أولئك الذين خاضوا هذه التجربة الإيمانية صاروا أعمدة الإسلام، أسقطوا ملك فارس والروم، وجاءت كنوز المملكتين بين أيديهم فلم يغتروا ولم ينهزموا ولم يتحولوا، كان رصيد الإيمان الذي امتزج بروحهم قد رفعها عن هذا، وكم رأينا في التاريخ وفي حياتنا من تخطفته أنواع الترهيب وشدة التكاليف، ثم رأينا من صمد في الشدة ولكن زل في الرخاء فزاغ وضل وبدَّل الدين حرصًا على سلطة ومال بعدما صمد للسلخ والتعذيب. نسأل الله لأنفسنا ولجميع المسلمين الثبات على طريقه.

6. حماية سياسية، مثل التي وفَّرتها بنو هاشم وزعيمها أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا كان الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم، وكان النبي يُبعث في "ثروة" (مَنَعة) من قومه، وذلك حتى تقوى الدعوة ويشتد عودها وتستقل بحماية نفسها، وسيرة الدعوات أنها تستفيد من واقع المجتمع الذي تريد تغييره، وتوظفها لمصلحتها، فيجب أن تقصد الدعوة مواضع الحماية وعصبيات القبائل ومراكز القوى لتحتمي بقوتها ومكانتها، ولهذا يجب عليها أن تعرف خريطة مجتمعها جيدًا قبل أن تبدأ الحركة. وفي الوقت الحاضر ربما يجب الاجتهاد في مسألة مراكز القوى العالمية، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منها، وكيف يمكن ذلك؟.. هذا عملٌ نضعه بين أيدي السادة العلماء.
[اقرأ أيضًا:
melhamy.blogspot.com/2013/12/blog-post_11.html]

7. عاصمة مؤثرة، إن العمل في الأطراف والهوامش أسهل كثيرًا، ونتائجه أسرع كثيرًا، ولكنها أيضا: أضعف كثيرًا، بينما العمل في العواصم أصعب كثيرًا، ونتائجه أبطأ كثيرًا، ولكن النجاح فيها يغير التاريخ. لقد بُعِث النبي في مكة وهي عاصمة العرب، وظل فيها عشرة أعوام يحاول أن يهتدي سادتها لكي يتبعهم العرب، فلما أبوا ولم يعد من أمل، ذهب إلى العاصمة الثانية: الطائف، ولما وجد صدودًا لا إمكان معه لمحاولة أخرى، بدأ بعرض نفسه على القبائل حتى وجد الأنصار، ثم كانت المرحلة المدنية صراعًا مع العاصمة المكية نفسها، حتى فُتِحت، ولما فُتِحت أقبلت جزيرة العرب مسلمة! تنجح الثورة طالما سيطرت على العاصمة، ينجح الاحتلال إن سيطر على العاصمة، يبقى النظام طالما سيطر على العاصمة، يفشل الاحتلال طالما لم يدخل العاصمة، العاصمة قادرة على استعادة الأطراف مهما ضعفت زمنًا ولو طال، وبعض الثورات والتمردات استمرت خمسين سنة ثم ذبلت لما لم تنجح في السيطرة على العاصمة.

[اقرأ أيضًا:
melhamy.blogspot.com/2016/08/blog-post_20.html]
[اقرأ أيضًا:
melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html]

8. خطة واضحة، خطة البحث عن أرض تكون أرضًا للدعوة، خطة تحول الدعوة إلى دولة، لقد كانت الفترة المكية فترة البحث عن دولة، استمرت المحاولة في مكة ما بقيت حماية بني هاشم وأبي طالب، فلما كُسِرت هذه الحماية بموت أبي طالب، و/أو لما بدا أن أهل مكة لن يؤمنوا، ذهب النبي إلى الطائف، ثم عرض نفسه على القبائل، وقبل من هذه القبائل حمايتها ولو داخل البلدة فحسب كما كانت بيعته للأنصار "وأن تحموني مما تحمون منه أنفسكم وأبناءكم"، ولو لم يؤمن الأنصار لطاف النبي على قبائل أخرى وأخرى حتى يجد له أرضًا تنصره ليبلغ منها رسالة ربه، ولتكون أرض الدعوة وليكون أهلها أنصاره وحزبه.

إن الوصول إلى الاستقلال بأرض لإقامة الدولة من بعد الدعوة كانت خطوة في طريق كل حركة ناجحة، سواءٌ أكان ذلك بتنفيذ ثورة، أو انقلاب، أو الاستقلال بناحية، ويظل الصراع دائما حول السيطرة على العاصمة التي تعني نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد.

وهذه الخطة يجب أن يستخلص لها أهل كل مكان ما يناسب وضعهم، إذ هي حصيلة النظر في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والأمن والسياسة، وبدون وجود رؤية كهذه يستحيل أن تحقق الحركة نجاحا، لأنها تصير كالتائه الذي لا يدري ماذا يفعل، يتحرك بالانطباع الانفعالي اللحظي، تحت ضغط الظرف والضرورة، يوظفه الأقوياء من حوله في صراعاتهم، ويدفع هو ثمنها كاملة دون أن يربح شيئًا.
[اقرأ:
melhamy.blogspot.com/2015/05/blog-post_4.html]
[اقرأ:
melhamy.blogspot.com/2018/02/blog-post_56.html]

9. كفاح مرير مستمر، وتلك سنة الدعوات والحركات والدول والإمبراطوريات، نشاط لا يهدأ وجهاد لا ينقطع، وتحديات يتلو بعضها بعضًا، ولا تستقر الدنيا لأحد، ولا تستقر على حال، ولقد كان هذا الأمر معلنًا منذ اللحظة الأولى للدعوة (إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا)، وقالها النبي لزوجه "مضى عهد النوم يا خديجة"، فمن كفاح لزرع الدعوة وغرسها في مكة، إلى كفاح لإيجاد الأرض والأنصار لها، إلى كفاح لإنشاء الدولة في المدينة، إلى كفاح لحمايتها وتثبيتها، إلى كفاح للفتح ونشر الدعوة، وراحة المؤمن –كما يقول الإمام أحمد- عند أول قدم يضعها في الجنة، لن تصل الحركة إلى مرحلة تتنسم فيها عبير الراحة، صراع يتصل فيه العدو من الشرطي الذي يراقب المسجد في القرية إلى رأس النظام العالمي الذي يراقب "التهديد الإسلامي" القادم، ومن نوازل زماننا أن هذا الخط بين شرطي القرية ورأس النظام العالمي قد صار متصلًا ومتيًنا وسريعًا، حتى كأنه عدو واحد في جسد واحد، إذا تهدد شرطي القرية تداعى له جسد النظام العالمي بالحمى والسهر.

وتلك نازلة تحتاج اجتهادًا في النظر ثم اجتهادًا في العمل، تحتاج فوق مجرد الذكاء والحكمة واقتناص الفرصة، قوة أعصاب فولاذية في الصبر والتحمل وترتيب الأولويات وتحييد الأعداء وتسكين هذا وترغيب ذاك وتهدئة ذلك وتطمين أولئك. صراعٌ ما أصعبه على الضعيف المقهور.

لهذا فالواقعية شعار المراحل كلها، والواقعية ضد التهور وضد التنازل، وهي في الواقع تكاد تكون شعرة لا يدركها غير الحكيم الحصيف الذي جمع إلى الذكاء القوة، ولم يختر نبينا أن يتصارع مع جهتين في وقت واحد أبدًا، فإذا اجتمعوا سعى في تفريقهم، ولو ببذل بعض المال وبعض التنازل.
[اقرأ:
www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10152723798661615]

وفي النهاية فإن مهمتنا –على صعوبتها الشديدة- أسهل كثيرًا فنحن لا نبعث أمة، ولا نبنيها من جديد، بل ننفض عنها الغبار ونزيل طبقة الصدأ، إنما نُذَكِّر بمعاني الدين التي هي عميقة في النفوس وفي الأرواح، فوق أننا إذا أحسنا الفقه في الدين علمنا أنه الرحمة للعالمين، وبقي أن نحسن عرضه والدعوة إليه، فكم من مظلوم مقهور لا يعرفه، فإذا عرفه آمن به وأخلص له.

الحركة الإسلامية ليست بديلًا عن المجتمع، هي له كالمغناطيس لبرادة الحديد، تجمع طاقاته وتنظمها، ليست جزءًا متعاليًا على الناس، فكم في الناس من هو أحسن وأفضل من أفراد الحركة الإسلامية، إلا أنهم لظرف ما كانوا خارجها، الحركة الإسلامية ليست بديلًا عن المؤسسات الدينية ولا وظيفتها أن تقدم العلم الشرعي، بل وظيفتها أن تجد الطريقة لتحريك هذه المؤسسات الدينية والاستفادة منها وبعثها واستثمار طاقتها. الحركة الإسلامية بنت الأمة والأمة حاضنتها، نمط التعالي والعزلة بل والتكفير نمطٌ مدمر للحركة الإسلامية نفسها. وقد كانت الأمة أسبق من الحركات إلى الثورات، وبذل الأمة في الثورات أوسع وأعظم من بذل الحركات. الحركة الإسلامية روح تسري في الأمة لتعيد تنشيط ما خمل منها.
[اقرأ:
www.fb.com/mohammad.elhamy/posts/10156137185031615]
‏٠٥‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٨:٥٦ م‏
🔴 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 25)) 🔵 يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (25)، ومعه هدية: مختصر كتاب (تجارب ست ثورات عالمية)، منير شفيق. ⚫️ حمّل العدد الجديد bit.ly/2ZrRJZ8 ⚫️ هدية العدد bit.ly/2YCuLNP ⚫️ الأعداد والهدايا السابقة bit.ly/2vvtufk
🔴 (( العدد الجديد من مجلة كلمة حق - عدد 25))

🔵 يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد (25)، ومعه هدية: مختصر كتاب (تجارب ست ثورات عالمية)، منير شفيق.

⚫️ حمّل العدد الجديد
bit.ly/2ZrRJZ8
⚫️ هدية العدد
bit.ly/2YCuLNP
⚫️ الأعداد والهدايا السابقة
bit.ly/2vvtufk
‏٠١‏/٠٨‏/٢٠١٩ ٩:٣٩ م‏
الحرب في الإسلام الشيخ محمد أبو زهرة * والرحمة الإسلامية ليست هي مجرد الشفقة أو الرأفة أو الانفعال بالعطف نحو جريح أو مكلوم؛ إنما الرحمة الإسلامية تختص بأنها الرحمة بالجماعة أولاً وبالآحاد العادلين ثانيًا... ولأن الرحمة الإسلامية تعم ولا تخص كان لها جانبان: أحدهما: بث التآلف والتوادّ والتراحم بين أهل الإيمان وأهل الحق، والتعاون معهم على إقامته ونصرته و إعلاء كلمته. والجانب الثاني : منع الظلم ودفع الأذى والغلظة على الظالمين حتى يؤبوا إلى الحق، و على المعتدين حتى يكفوا عن الاعتداء. وكان المسلمون حقًا بين جانبي الرحمة متصفين بما قاله رب العزة فيهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وكما قال فيهم تعالت كلماته: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. والرحمة والشدة في الآية الأولى كلتاهما تنبعثان من معين الرحمة ، كما أن الذلة والعزة في الآية الثانية كلتاهما تنزعان من منزع العزة؛ فعزة المؤمن أن يكون متطامنًا لأهل الحق مستعليًا على أهل الباطل. ليست إذن رحمة الإسلام أمرًا سلبيًا بل هي أمر إيجابي. ومن أنواع الرحمة السلبية ما يخفي في ثناياه قسوة على الجماعة كأولئك الذين يرحمون الجناة، فإن رحمتهم من قبيل الانفعال الذي يكون ظلمًا للجماعة وأهل الحق؛ إذ يُفزع الآمنين ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من لا يرحم لا يُرحم". وقال تعالى في محكم كتابه: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. [البقرة: 179] ومن قانون الرحمة شرعت شريعة الجهاد؛ فالجهاد في الإسلام دفع الاعتداء، وإقامة الحق ورفع مناره، والقضاء على الظلم والفساد. إن الرحمة بالإنسانية توجب وقف المعتدي عن الاعتداء ومنع الظالم من الظلم ودفع الفساد في الأرض وإقامة دعائم الحق، وذلك لا يكون إلا إذا قيل للمعتدي: قف مكانك لا ترم، وقيل للمظلوم إن معك من يحميك ومن يدفع عنك شر الظالم، فإذا كان في الحرب قتل ففيها منع لسفك الدماء إن قام بها العادلون. إن الله خلق الإنسان وفيه نزوع إلى الخير ومعه نزغات الشيطان كما قال سبحانه: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. [الشمس: 7،8] وإن الخير والشر يتنازعان في نفس كل إنسان وفي أنفس الجماعة وبين الدول، فمع الشر الاعتداء ومع الخير منع الاعتداء. فإذا اعتدى الشر وجب على أهل الخير أن يدفعوا، وإذا كان العبث والفساد وجب على أهل الإصلاح أن يمنعوا، وإذا كانت الفضائل تُنتهك وجب على الفضلاء أن يكفوا الرذيلة عن غوايتها ويمنعوا استشراءها واستمرارها مع الفساد. ولذلك كان الجهاد شريعة ماضية إلى يوم القيامة... لأن النزاع بين الخير والشر ماضٍ إلى يوم القيامة، فكان الجهاد أيضًا لابد أن يستمر ليمنع الشر من أن يسيطر. وليظهر الخير حتى لا ينزوي ولا يستخذي ولا يضعف ولا يذل، ولولا ذلك لعمّ الظلم ولطغى الشر وظهر الفساد في البر والبحر من غير أن يظهر خير بجواره {... وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. [البقرة: 251] ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * من مقدمة الشيخ محمد أبو زهرة لكتابه: نظرية الحرب في الإسلام، ص8-11، سلسلة دراسات إسلامية، ط: وزارة الأوقاف المصرية، عدد 160، 2008م.
الحرب في الإسلام
الشيخ محمد أبو زهرة *

والرحمة الإسلامية ليست هي مجرد الشفقة أو الرأفة أو الانفعال بالعطف نحو جريح أو مكلوم؛ إنما الرحمة الإسلامية تختص بأنها الرحمة بالجماعة أولاً وبالآحاد العادلين ثانيًا...
ولأن الرحمة الإسلامية تعم ولا تخص كان لها جانبان:
أحدهما: بث التآلف والتوادّ والتراحم بين أهل الإيمان وأهل الحق، والتعاون معهم على إقامته ونصرته و إعلاء كلمته. والجانب الثاني : منع الظلم ودفع الأذى والغلظة على الظالمين حتى يؤبوا إلى الحق، و على المعتدين حتى يكفوا عن الاعتداء.
وكان المسلمون حقًا بين جانبي الرحمة متصفين بما قاله رب العزة فيهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وكما قال فيهم تعالت كلماته: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
والرحمة والشدة في الآية الأولى كلتاهما تنبعثان من معين الرحمة ، كما أن الذلة والعزة في الآية الثانية كلتاهما تنزعان من منزع العزة؛ فعزة المؤمن أن يكون متطامنًا لأهل الحق مستعليًا على أهل الباطل.
ليست إذن رحمة الإسلام أمرًا سلبيًا بل هي أمر إيجابي.
ومن أنواع الرحمة السلبية ما يخفي في ثناياه قسوة على الجماعة كأولئك الذين يرحمون الجناة، فإن رحمتهم من قبيل الانفعال الذي يكون ظلمًا للجماعة وأهل الحق؛ إذ يُفزع الآمنين ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من لا يرحم لا يُرحم". وقال تعالى في محكم كتابه: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. [البقرة: 179]
ومن قانون الرحمة شرعت شريعة الجهاد؛ فالجهاد في الإسلام دفع الاعتداء، وإقامة الحق ورفع مناره، والقضاء على الظلم والفساد.
إن الرحمة بالإنسانية توجب وقف المعتدي عن الاعتداء ومنع الظالم من الظلم ودفع الفساد في الأرض وإقامة دعائم الحق، وذلك لا يكون إلا إذا قيل للمعتدي: قف مكانك لا ترم، وقيل للمظلوم إن معك من يحميك ومن يدفع عنك شر الظالم، فإذا كان في الحرب قتل ففيها منع لسفك الدماء إن قام بها العادلون.
إن الله خلق الإنسان وفيه نزوع إلى الخير ومعه نزغات الشيطان كما قال سبحانه: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. [الشمس: 7،8]
وإن الخير والشر يتنازعان في نفس كل إنسان وفي أنفس الجماعة وبين الدول، فمع الشر الاعتداء ومع الخير منع الاعتداء.
فإذا اعتدى الشر وجب على أهل الخير أن يدفعوا، وإذا كان العبث والفساد وجب على أهل الإصلاح أن يمنعوا، وإذا كانت الفضائل تُنتهك وجب على الفضلاء أن يكفوا الرذيلة عن غوايتها ويمنعوا استشراءها واستمرارها مع الفساد.
ولذلك كان الجهاد شريعة ماضية إلى يوم القيامة... لأن النزاع بين الخير والشر ماضٍ إلى يوم القيامة، فكان الجهاد أيضًا لابد أن يستمر ليمنع الشر من أن يسيطر. وليظهر الخير حتى لا ينزوي ولا يستخذي ولا يضعف ولا يذل، ولولا ذلك لعمّ الظلم ولطغى الشر وظهر الفساد في البر والبحر من غير أن يظهر خير بجواره {... وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. [البقرة: 251]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مقدمة الشيخ محمد أبو زهرة لكتابه: نظرية الحرب في الإسلام، ص8-11، سلسلة دراسات إسلامية، ط: وزارة الأوقاف المصرية، عدد 160، 2008م.
‏٠١‏/٠٧‏/٢٠١٩ ١٢:٤٧ م‏
قراءنا الأعزاء
قراءنا الأعزاء
‏٠٤‏/٠٦‏/٢٠١٩ ١:٥٤ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
الليلة يصدر العدد الشهري الجديد من #مجلة_كلمة_حق فانتظرونا
‏٠١‏/٠٦‏/٢٠١٩ ١:٣٥ م‏
‏٠٦‏/٠٥‏/٢٠١٩ ١٢:٥٧ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
انتظرونا الليلة والعدد الجديد من مجلة كلمة حق، ومع العدد كُتيب هدية كما عودناكم.
‏٠١‏/٠٥‏/٢٠١٩ ١١:٢٣ ص‏
الإرهاب الصليبي قادم.. فهل نحن مستعدون؟ حامد عبد العظيم [موعدكم غدًا مع العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق] فُجعت الأمة الإسلامية يوم الجمعة الثامن من رجب عام 1440 بتلك الجريمة الصليبية الشنيعة في مسجدين ببلاد #نيوزلاندا، حيث استشهد واحد وخمسون مسلماً ومسلمة على يد صليبي جبان قد فتح عليهم النار من سلاحه نصف الآلي وهم يتعبدون لله سبحانه وتعالى آمنين مطمئنين، ولم يرحم هذا الجبان الأطفال أو النساء أو الشيوخ والعجائز، بل قتلهم بكل وحشية وحقد وبلا أدنى رحمة. إن هذه الجريمة البشعة صيحة نذير للأمة الإسلامية جمعاء، وكأن الصمت الذي عم محيط المسجدين بعد مقتل الضحايا مباشرة والذي لم يقطعه إلا صوت المتألمين وأنين ذويهم، كأنه يسألنا محدقاً في أعيننا: ماذا أنتم فاعلون؟ هل ستصمتون كالعادة؟ هل أصبحت دماء المسلمين رخيصة إلى هذا الحد؟ إن هذا الحادث لا ينبغي النظر إليه على أنه حادث عادي من مجرم صليبي، لكنه علامة تحول إلى حملة صليبية عسكرية بشكل وأسلوب جديد، موجهة بشكل أساسي إلى المسلمين في بلاد الغرب، في أوروبا وأستراليا ونيوزلاندا وأمريكا وكندا، إنها بداية حركة شعبية للإرهابيين الصليبيين للتحرك في صورة عصابات صغير لقتل المسلمين واغتيالهم وحرق مساجدهم وتحطيمها، حتى يُصاب المسلمون بالذعر والخوف ويتركوا تلك البلاد أو لينعزلوا ويجلسوا في بيوتهم. لا أستطيع أن أقتنع بأن هذا الحادث فردي وشخصي قام به مجرم واحد دون وجود أجهزة واستخبارات تدعمه، فالكتاب الذي أصدره هذا الجبان لا يكتبه مثله، فهو شخص تافه تماماً كما يبدو من سيرة حياته وظروف معيشته وتنقله من بلد إلى بلد، فالكتاب يحتوي على معلومات تاريخية وجغرافية وواقعية واستراتيجية، ويحتوي على تحليل رصين (وإن كان بحقد صليبي) لا يكتبه إلا مجموعة من المفكرين والاستراتيجيين، وكأنه بيان يعلن إشارة البدء وحلول ساعة الصفر. فهو أشبه بدليل لموجة الإرهاب الصليبي في المرحلة القادمة، فلم تفلح محاولات الصليبيين المستمرة في القضاء على الإسلام والمسلمين، سواء عن طريق الحملات الصليبية والاستعمار (الاستخراب) أو الغزو الفكري والتنصير أو نهب بلادهم وتعيين الحُكام المنافقين ليديروا البلاد نيابة عن الصليبيين. لم تنجح كل هذه المحاولات، بل يشاء السميع العليم أن تُحدث سيطرة الغرب على بلادنا عن طريق وكلائهم وما نتج عن ذلك من فقر، ثم ما أحدثته الحروب الأمريكية الأوروبية الصهيونية على ديار المسلمين الصومال وأفغانستان والعراق وفلسطين واليمن وسوريا من دمار، واندلاع الثورات العربية وما آلت إليه من انقلابات وإجهاضات بدعم غربي، وإذا بالكثير منا يظن أن ذلك كله شر محض وخراب، ولكن من رحم الألم والدمار ومرارة فقْد الأحبة والإخوة والأخوات يخرج نور الهداية متجهاً خُفية إلى بلاد الغرب، يفر المسلمون من شتى الدول العربية والإسلامية مهاجرين إلى الغرب عن طريق البر والبحر والجو. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر والكافر، فلم يظن عباد الصليب يوماً أن حملاتهم الصليبية على بلادنا وإفشالهم لثورات شعوبنا سوف يأتي على أدمغتهم ويهدد بقاءهم، فعلى مدى خمسة وعشرين عاماً تقريباً وتحديداً منذ الحرب الأمريكية على الصومال، يفر المسلمون إلى الغرب في محاولة للنجاة بأنفسهم وعائلاتهم من جحيم الحرب، وقبل ذلك وبعده يفرون سعياً للنجاة من الفقر وشظف العيش والأزمات التي تسبب فيها الغرب ومؤسساته الأمم المتحدة وصندوق النقد ومجلس الأمن وغير ذلك. صار منظراً مألوفاً أن ترى الرجل الصومالي والإريتري صاحب البشرة الداكنة يمشي مع زوجته البيضاء وبجانبهم أطفالهم البيض والسود، أو الرجل العربي القمحي يسير وبجانبه امرأة بيضاء قد ارتدت الحجاب وأطفال صغار يحملون الجنسية الأوروبية وولدوا في أوروبا ودينهم الإسلام ويتحدثون الإنجليزية أو الألمانية أو السويدية أو غير ذلك من اللغات المحلية بطلاقة إلى جانب اللغة العربية.. هذه المشاهد العادية الطبيعية جُنّ منها الصليبيون الحاقدون، فها هو الإسلام يأتي ويمتد داخل ديارنا وبدون طلقة واحدة وبدون السيف الذي أقنعونا أنه قد انتشر به! في كتاب المجرم الإرهابي نقطة يكررها كثيراً مرة تلو مرة، بل وقال في مقدمة الكتاب لينبه على خطورة هذه النقطة إنه لو أن هناك شيئاً واحداً يريد أن يخرج به القارئ لكتابه به سيكون هو: "معدلات المواليد"، فيقول لعنه الله: "إن الهجرة الجماعية وارتفاع معدلات الخصوبة للمهاجرين أنفسهم، تسببا في زيادة عدد السكان. نحن نشهد غزواً على مستوى لم يسبق له مثيل في التاريخ، الملايين من الناس يتدفقون عبر حدودنا، بشكل قانوني، وبدعوة من الدولة والشركات، لاستبدالهم بالأشخاص البِيض الذين فشلوا في الإنجاب، وفشلوا في خلق العمالة الرخيصة والمستهلكين الجدد والقاعدة الضريبية التي تحتاجها الشركات والدول من أجل الأزدهار". فسبحان الحكيم الذي يخلق المنحة من قلب المحنة، فالمسلمون بالفعل الآن يكثرون بصورة كبيرة في بلاد الغرب، سواء عن طريق زيادة معدلات الإنجاب، أو عن طريق تحوّل أهل هذه البلاد إلى الإسلام، وقد حدث ذلك ويحدث دون تخطيط بشري أو تدبير إنساني، ليكون ذلك أكبر دليل على كذب الذين يدعون أن الإسلام قد انتشر بالسيف وإكراه الناس على الدخول في الإسلام. ولكن السؤال يظل مطروحاً: ماذا نحن فاعلون؟ إن أقل شيء نفعله هو أن ندرك مكامن قوتنا وأن نستعد لدفع الصائل المعتدي. ندرك مكامن قوتنا فالكثير منا لا يدرك مدى قوة الإسلام كدين، فالإسلام ينتشر في العالم الآن بصورة كبيرة، وقد صدق من قال "يا له من دين لو كان له رجال"، فالبشر من الشرق والغرب يدخلون في دين الله أفواجاً، وهذه ليست بشارة خرقاء لرفع الأمل وفقط، بل هي دراسات بحثية صدرت عن الغرب نفسه، فقد ذكرت دراسة بمركز بيو الشهير للأبحاث قام بها باحثون متميزون أنه بحلول عام 2050 سيصبح الإسلام الدين الأكثر اعتناقاً في العالم، أي بعد ثلاثين عاماً فقط، وقالت إن الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً على الإطلاق. يحدث ذلك رغم الضعف الشديد للأمة الإسلامية، ورغم عدم وجود كيان سياسي لنا كمسلمين منذ سقوط الدولة العثمانية، فما بالكم لو أن لنا خلافة تنفق على الدعوة والعلم والدعاة والعلماء وتنشرهم في ربوع الأرض وتجاهد في سبيل الله وتفتح الأقطار؟ وهذا يُظهر سفاهة من يطالبون المسلمين باعتزال الصراع السلطوي! إن الذي يجعل الشعوب تُقبل على الإسلام هو القوة الكامنة فيه كدين الحق والعدل والفطرة السليمة ودين الله الواحد الأحد، فلا يجب أن نسمح لأعداء أمتنا أن يجعلونا نصدق أن ديننا ضعيف وأن العالم يبتعد عن ديننا ويكرهه. بل الذين يكرهون ديننا هم الحكومات الصليبية والصهيونية والساسة المتطرفون الذين يسعون وراء مصالحهم، أما عامة الناس فهم في الجملة في إقبال على الدين وكثير منهم يريد الحق والخير، ويجب أن ينشط المسلمون ليأخذوا بأيدي هؤلاء إلى واحة الإسلام وليعطوهم طوق النجاة من عبادة الصليب والإلحاد والكفر بالله. فهناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المسلمين في الغرب، ولا يليق بهم أن ينغمسوا في شهوات الدنيا والنفس وينسوا دينهم، بينما الأوربيون يدخلون في دين الله أفواجاً، بل عليهم أن يستحوا من الله ويعودوا إلى دينهم ويكونوا جنوداً للإسلام يدعون إليه ويعملون به ويكونوا نموذجاً يُقتدى به، ولا يصبحوا فتنة للخلق عندما يرون سلوكهم مشيناً. إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى سلاح فتاك. وأن نستعد دفع الصائل المعتدي رحم الله شهداء نيوزلاندا وغفر لهم وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة، تخيل لو أن رجلاً فقط كان لديه مسدس في جيبه أثناء الصلاة، هل كان سيسقط نفس العدد من القتلى؟ أم كان سيفر هذا الجبان من المكان؟ لقد آن الأوان لمراجعة أنفسنا حول العديد من الأمور، ومنها حمل السلاح للدفاع عن النفس، فهذا حق مشروع في كل دول العالم، وقبل ذلك يحث عليه الإسلام، بل ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ". فالمسلم لا يكون فريسة سهلة في أيدي أعدائه، فروحه المؤمنة غالية وقد كرمه الله سبحانه وتعالى كإنسان أولاً ثم كمسلم ثانياً. ولا تلتفت إلى وسائل الإعلام التي تتهم من يحمل السلاح من المسلمين أنه إرهابي، فهذه دعاية مقصودة لتجعل المسلمين ضعفاء دائماً وأذلاء، وإلا فدستور أمريكا وقوانينها وغيرها من الدول الغربية تسمح بحمل الأسلحة النارية وتجعل هذا حقاً يعود بالنفع على الأمة لحمايتها من أي اعتداء وأن سلب الأمة سلاحها يجعلها عرضة للاحتلال الخارجي والاستبداد السلطوي. لو أن مجرماً صليبياً دخل مسجداً ليقتل المصلين فأرداه أحد المسلمين أو المسلمات قتيلاً برصاصة في رأسه أو قلبه، وذاع ذلك الخبر في الإعلام، لن يجرؤ أحد الجبناء على أن يقترب من المسجد بعد ذلك فمصيره سيكون الموت. الأمر الآخر أن الجاليات المسلمة في الغرب لابد أن تسعى إلى الحصول على حراسة حكومية على المسجد بواسطة فرد أمن على الأقل، فلابد أن يكون هذا المطلب حاضراً بقوة في الفترة المقبلة وشرطاً لتأييد المرشحين في البرلمان، فهناك خطر أكيد وسينمو أكثر وأكثر. أما الشباب فقد جاء دورهم الحقيقي بالدفاع عن إخوانهم وأخواتهم، بالتحلي بالقوة البدنية وممارسة الرياضات القتالية وفنون الدفاع عن النفس، والتدرب على استخدام السلاح والانتباه والاستعداد الدائم والكامل لردّ أي كافر متعصب يريد أن يعتدي على المسلمين والمسلمات. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ المسلمين في كل مكان.
الإرهاب الصليبي قادم.. فهل نحن مستعدون؟
حامد عبد العظيم

[موعدكم غدًا مع العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق]

فُجعت الأمة الإسلامية يوم الجمعة الثامن من رجب عام 1440 بتلك الجريمة الصليبية الشنيعة في مسجدين ببلاد #نيوزلاندا، حيث استشهد واحد وخمسون مسلماً ومسلمة على يد صليبي جبان قد فتح عليهم النار من سلاحه نصف الآلي وهم يتعبدون لله سبحانه وتعالى آمنين مطمئنين، ولم يرحم هذا الجبان الأطفال أو النساء أو الشيوخ والعجائز، بل قتلهم بكل وحشية وحقد وبلا أدنى رحمة.
إن هذه الجريمة البشعة صيحة نذير للأمة الإسلامية جمعاء، وكأن الصمت الذي عم محيط المسجدين بعد مقتل الضحايا مباشرة والذي لم يقطعه إلا صوت المتألمين وأنين ذويهم، كأنه يسألنا محدقاً في أعيننا:
ماذا أنتم فاعلون؟ هل ستصمتون كالعادة؟ هل أصبحت دماء المسلمين رخيصة إلى هذا الحد؟
إن هذا الحادث لا ينبغي النظر إليه على أنه حادث عادي من مجرم صليبي، لكنه علامة تحول إلى حملة صليبية عسكرية بشكل وأسلوب جديد، موجهة بشكل أساسي إلى المسلمين في بلاد الغرب، في أوروبا وأستراليا ونيوزلاندا وأمريكا وكندا، إنها بداية حركة شعبية للإرهابيين الصليبيين للتحرك في صورة عصابات صغير لقتل المسلمين واغتيالهم وحرق مساجدهم وتحطيمها، حتى يُصاب المسلمون بالذعر والخوف ويتركوا تلك البلاد أو لينعزلوا ويجلسوا في بيوتهم.
لا أستطيع أن أقتنع بأن هذا الحادث فردي وشخصي قام به مجرم واحد دون وجود أجهزة واستخبارات تدعمه، فالكتاب الذي أصدره هذا الجبان لا يكتبه مثله، فهو شخص تافه تماماً كما يبدو من سيرة حياته وظروف معيشته وتنقله من بلد إلى بلد، فالكتاب يحتوي على معلومات تاريخية وجغرافية وواقعية واستراتيجية، ويحتوي على تحليل رصين (وإن كان بحقد صليبي) لا يكتبه إلا مجموعة من المفكرين والاستراتيجيين، وكأنه بيان يعلن إشارة البدء وحلول ساعة الصفر.
فهو أشبه بدليل لموجة الإرهاب الصليبي في المرحلة القادمة، فلم تفلح محاولات الصليبيين المستمرة في القضاء على الإسلام والمسلمين، سواء عن طريق الحملات الصليبية والاستعمار (الاستخراب) أو الغزو الفكري والتنصير أو نهب بلادهم وتعيين الحُكام المنافقين ليديروا البلاد نيابة عن الصليبيين.
لم تنجح كل هذه المحاولات، بل يشاء السميع العليم أن تُحدث سيطرة الغرب على بلادنا عن طريق وكلائهم وما نتج عن ذلك من فقر، ثم ما أحدثته الحروب الأمريكية الأوروبية الصهيونية على ديار المسلمين الصومال وأفغانستان والعراق وفلسطين واليمن وسوريا من دمار، واندلاع الثورات العربية وما آلت إليه من انقلابات وإجهاضات بدعم غربي، وإذا بالكثير منا يظن أن ذلك كله شر محض وخراب، ولكن من رحم الألم والدمار ومرارة فقْد الأحبة والإخوة والأخوات يخرج نور الهداية متجهاً خُفية إلى بلاد الغرب، يفر المسلمون من شتى الدول العربية والإسلامية مهاجرين إلى الغرب عن طريق البر والبحر والجو.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر والكافر، فلم يظن عباد الصليب يوماً أن حملاتهم الصليبية على بلادنا وإفشالهم لثورات شعوبنا سوف يأتي على أدمغتهم ويهدد بقاءهم، فعلى مدى خمسة وعشرين عاماً تقريباً وتحديداً منذ الحرب الأمريكية على الصومال، يفر المسلمون إلى الغرب في محاولة للنجاة بأنفسهم وعائلاتهم من جحيم الحرب، وقبل ذلك وبعده يفرون سعياً للنجاة من الفقر وشظف العيش والأزمات التي تسبب فيها الغرب ومؤسساته الأمم المتحدة وصندوق النقد ومجلس الأمن وغير ذلك.
صار منظراً مألوفاً أن ترى الرجل الصومالي والإريتري صاحب البشرة الداكنة يمشي مع زوجته البيضاء وبجانبهم أطفالهم البيض والسود، أو الرجل العربي القمحي يسير وبجانبه امرأة بيضاء قد ارتدت الحجاب وأطفال صغار يحملون الجنسية الأوروبية وولدوا في أوروبا ودينهم الإسلام ويتحدثون الإنجليزية أو الألمانية أو السويدية أو غير ذلك من اللغات المحلية بطلاقة إلى جانب اللغة العربية.. هذه المشاهد العادية الطبيعية جُنّ منها الصليبيون الحاقدون، فها هو الإسلام يأتي ويمتد داخل ديارنا وبدون طلقة واحدة وبدون السيف الذي أقنعونا أنه قد انتشر به!
في كتاب المجرم الإرهابي نقطة يكررها كثيراً مرة تلو مرة، بل وقال في مقدمة الكتاب لينبه على خطورة هذه النقطة إنه لو أن هناك شيئاً واحداً يريد أن يخرج به القارئ لكتابه به سيكون هو: "معدلات المواليد"، فيقول لعنه الله:
"إن الهجرة الجماعية وارتفاع معدلات الخصوبة للمهاجرين أنفسهم، تسببا في زيادة عدد السكان. نحن نشهد غزواً على مستوى لم يسبق له مثيل في التاريخ، الملايين من الناس يتدفقون عبر حدودنا، بشكل قانوني، وبدعوة من الدولة والشركات، لاستبدالهم بالأشخاص البِيض الذين فشلوا في الإنجاب، وفشلوا في خلق العمالة الرخيصة والمستهلكين الجدد والقاعدة الضريبية التي تحتاجها الشركات والدول من أجل الأزدهار".
فسبحان الحكيم الذي يخلق المنحة من قلب المحنة، فالمسلمون بالفعل الآن يكثرون بصورة كبيرة في بلاد الغرب، سواء عن طريق زيادة معدلات الإنجاب، أو عن طريق تحوّل أهل هذه البلاد إلى الإسلام، وقد حدث ذلك ويحدث دون تخطيط بشري أو تدبير إنساني، ليكون ذلك أكبر دليل على كذب الذين يدعون أن الإسلام قد انتشر بالسيف وإكراه الناس على الدخول في الإسلام.

ولكن السؤال يظل مطروحاً: ماذا نحن فاعلون؟
إن أقل شيء نفعله هو أن ندرك مكامن قوتنا وأن نستعد لدفع الصائل المعتدي.
ندرك مكامن قوتنا
فالكثير منا لا يدرك مدى قوة الإسلام كدين، فالإسلام ينتشر في العالم الآن بصورة كبيرة، وقد صدق من قال "يا له من دين لو كان له رجال"، فالبشر من الشرق والغرب يدخلون في دين الله أفواجاً، وهذه ليست بشارة خرقاء لرفع الأمل وفقط، بل هي دراسات بحثية صدرت عن الغرب نفسه، فقد ذكرت دراسة بمركز بيو الشهير للأبحاث قام بها باحثون متميزون أنه بحلول عام 2050 سيصبح الإسلام الدين الأكثر اعتناقاً في العالم، أي بعد ثلاثين عاماً فقط، وقالت إن الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً على الإطلاق.
يحدث ذلك رغم الضعف الشديد للأمة الإسلامية، ورغم عدم وجود كيان سياسي لنا كمسلمين منذ سقوط الدولة العثمانية، فما بالكم لو أن لنا خلافة تنفق على الدعوة والعلم والدعاة والعلماء وتنشرهم في ربوع الأرض وتجاهد في سبيل الله وتفتح الأقطار؟ وهذا يُظهر سفاهة من يطالبون المسلمين باعتزال الصراع السلطوي!
إن الذي يجعل الشعوب تُقبل على الإسلام هو القوة الكامنة فيه كدين الحق والعدل والفطرة السليمة ودين الله الواحد الأحد، فلا يجب أن نسمح لأعداء أمتنا أن يجعلونا نصدق أن ديننا ضعيف وأن العالم يبتعد عن ديننا ويكرهه. بل الذين يكرهون ديننا هم الحكومات الصليبية والصهيونية والساسة المتطرفون الذين يسعون وراء مصالحهم، أما عامة الناس فهم في الجملة في إقبال على الدين وكثير منهم يريد الحق والخير، ويجب أن ينشط المسلمون ليأخذوا بأيدي هؤلاء إلى واحة الإسلام وليعطوهم طوق النجاة من عبادة الصليب والإلحاد والكفر بالله.
فهناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المسلمين في الغرب، ولا يليق بهم أن ينغمسوا في شهوات الدنيا والنفس وينسوا دينهم، بينما الأوربيون يدخلون في دين الله أفواجاً، بل عليهم أن يستحوا من الله ويعودوا إلى دينهم ويكونوا جنوداً للإسلام يدعون إليه ويعملون به ويكونوا نموذجاً يُقتدى به، ولا يصبحوا فتنة للخلق عندما يرون سلوكهم مشيناً. إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى سلاح فتاك.
وأن نستعد دفع الصائل المعتدي
رحم الله شهداء نيوزلاندا وغفر لهم وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة، تخيل لو أن رجلاً فقط كان لديه مسدس في جيبه أثناء الصلاة، هل كان سيسقط نفس العدد من القتلى؟ أم كان سيفر هذا الجبان من المكان؟
لقد آن الأوان لمراجعة أنفسنا حول العديد من الأمور، ومنها حمل السلاح للدفاع عن النفس، فهذا حق مشروع في كل دول العالم، وقبل ذلك يحث عليه الإسلام، بل ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ". فالمسلم لا يكون فريسة سهلة في أيدي أعدائه، فروحه المؤمنة غالية وقد كرمه الله سبحانه وتعالى كإنسان أولاً ثم كمسلم ثانياً.
ولا تلتفت إلى وسائل الإعلام التي تتهم من يحمل السلاح من المسلمين أنه إرهابي، فهذه دعاية مقصودة لتجعل المسلمين ضعفاء دائماً وأذلاء، وإلا فدستور أمريكا وقوانينها وغيرها من الدول الغربية تسمح بحمل الأسلحة النارية وتجعل هذا حقاً يعود بالنفع على الأمة لحمايتها من أي اعتداء وأن سلب الأمة سلاحها يجعلها عرضة للاحتلال الخارجي والاستبداد السلطوي.
لو أن مجرماً صليبياً دخل مسجداً ليقتل المصلين فأرداه أحد المسلمين أو المسلمات قتيلاً برصاصة في رأسه أو قلبه، وذاع ذلك الخبر في الإعلام، لن يجرؤ أحد الجبناء على أن يقترب من المسجد بعد ذلك فمصيره سيكون الموت.
الأمر الآخر أن الجاليات المسلمة في الغرب لابد أن تسعى إلى الحصول على حراسة حكومية على المسجد بواسطة فرد أمن على الأقل، فلابد أن يكون هذا المطلب حاضراً بقوة في الفترة المقبلة وشرطاً لتأييد المرشحين في البرلمان، فهناك خطر أكيد وسينمو أكثر وأكثر.
أما الشباب فقد جاء دورهم الحقيقي بالدفاع عن إخوانهم وأخواتهم، بالتحلي بالقوة البدنية وممارسة الرياضات القتالية وفنون الدفاع عن النفس، والتدرب على استخدام السلاح والانتباه والاستعداد الدائم والكامل لردّ أي كافر متعصب يريد أن يعتدي على المسلمين والمسلمات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ المسلمين في كل مكان.
‏٣٠‏/٠٤‏/٢٠١٩ ٩:١٣ م‏
أنقذوا مريم رضوان وأطفالها من مخالب الكنيسة! حامد عبد العظيم [حمّل العدد الأخير https://archive.org/details/klmtuhaq1920] [موعدنا غداً مع العدد الجديد] الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وبعد: فبينما يستمر القمع والظلم وقتل الأبرياء من السلطات المصرية، يعمل آخرون بصمت، أعني الكنيسة المصرية التي تسير وفق مخطط محكم بعناية وذي خطوات راسخة نحو ما يسمونه التحرر من الاحتلال "العربي الإسلامي"، والذي بدأ في عقيدتهم بفتح عمرو بن العاص رضي الله عنه لمصر عام 642 ميلادية. الكنيسة المصرية بقيادة الأنبا تواضروس رأت في عهد السيسي عهدها الذهبي وفرصته السانحة لتوسيع إمبراطوريتها العملاقة، بمزيد من الأراضي والكنائس والمشروعات، وزيادة ميزانيتها التي تُعد الميزانية الثانية في مصر التي لا يُسمح لأحد أن يقترب منها أو يعرف مقدارها أو مصادر إيرادتها ومصروفاتها بعد ميزانية الجيش، في حين أن الأزهر الشريف والأوقاف الإسلامية والجمعيات الخيرية مراقبةٌ مراقبةً شديدة ولا يوجد جنيه يدخل لها أو يخرج منها إلا ويُعرف من أين جاء وإلى أين يتجه. ومن استراتيجيات ونهج الكنيسة المصرية للحفاظ على كيانها: (استرداد الشعب الضال)، أي العمل على استعادة الذين يتحولون من الأقباط إلى الإسلام إلى حظيرة الكنيسة مرة أخرى، سواء بطريقة سلمية أو بالجبر والإكراه، كما حدث من قبل في قضايا عديدة فُضحت على مرأى ومسمع الرأي العام المصري والتي بلغت ذروتها قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير في قضية الأخت كاميليا شحاتة كان الله في عونها. أشهر هذه القضايا كانت قضية الشهيدة وفاء قسطنطين، زوجة الراهب التي أسلمت ثم خطفتها الكنيسة وأودعتها أحد الأديرة وماتت تحت التعذيب، رحمها الله رحمة واسعة. وقد قلّت عمليات اختطاف الكنيسة للمسلمين والمسلمات الجُدد بعد اندلاع ثورة 25 يناير، ولكن مع الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013م وترسُّخ الطغيان مرة أخرى عادت عمليات الاختطاف، وآخرها والتي افتُضح أمرها خطف أسرة كاملة مسلمة، مكونة من أم وثلاثة أبناء، وهي الأخت مريم رضوان وابنتها فاطمة عمر رفاعي (4 سنوات)، وعائشة عمر رفاعي (عامان ونصف) وعبد الرحمن عمر رفاعي (6 أشهر). وقد كان الاختطاف هذه المرة عن طريق عقد صفقة مع النظام المصري، الذي تسلم الأسرة بدوره من السلطات الليبية، ثم من حينها اختفت الأسرة ولم يُعرف مصيرها حتى تسربت تسريبات من جهات متعددة بأن الأسرة في قبضة الكنيسة، وصدر بيان من ثمانية وعشرين من علماء المسلمين يطالب بإظهار الأسرة، وكتب نشطاء سياسيون وحقوقيون عن هذا الأمر. لقد عُقد في سنوات ما قبل الثورة مؤتمر برعاية الكنيسة المصرية بعنوان: "مؤتمر تثبيت الإيمان"، وهو بدعوة وحث من الأنبا السابق "شنودة"؛ لبحث ظاهرة زيادة أعداد الداخلين في الإسلام من الأقباط، وشارك في هذا المؤتمر الكثير من القساوسة؛ كالأنبا باخوميوس مطران البحيرة، والأنبا دانيال الأسقف العام، والأنبا موسى أسقف الشباب، والقمص أنسطاسي الصموئيلي، وغيرهم.. ومعظمهم أعضاء في المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وقد سُجل وسُرب بعض ما دار في هذا المؤتمر، ونُشر الشريط المسجَّل على الإنترنت في مواقع كثيرة (رابط إلكتروني: www.youtube.com/watch?v=PjAOiszyGdg) في هذا الشريط اعترف القساوسة بأنه لا يخلو حي -بدون استثناء- بالقاهرة من حالات ارتداد "يقصدون بالارتداد: التحول للإسلام"، وأن الدعاوى التي يدعيها النصارى من الاختطافات من قِبل المسلمين والإكراه على الإسلام غير صحيحة، وأن يوميًّا توجد عدة حالات تحوّل للإسلام، وفي بعض الأيام توجد أعداد لا تخطر على بال أحد، وأن الداخلين إلى الإسلام من جميع الأعمار حتى ممن هم في المرحلة الإعدادية والثانوية، وقالوا إن إسلام فرد واحد من النصارى يورث الكهنة إحباطـًا وتعبًا نفسيًّا؛ لشعوره بأنه فقد خروفـًا من رعيته! وأن التحول إلى الإسلام يُعد أخطر مشكلة يواجهها النصارى، وأن التحول إلى الإسلام لا يقتصر على الأفراد، بل قد تتحول أسرة بل عائلات بأكملها للإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهذا شيء يحزنهم جدًّا، وأنه لابد من وجود مَن يتفرغون لمنع التحول إلى الإسلام في كل مدينة، وأن بعض القساوسة يصل بهم الأمر أنهم يُقبّلون أرجل وأحذية المسلمين الجُدد حتى يعودوا للنصرانية مرة أخرى، وأن مِن المتحولين إلى الإسلام خُدامًا وخادمات سابقين للكنائس، وأنهم لابد أن يُصَلوا كثيرًا من أجل التقليل من حالات التحول إلى الإسلام، وأنه لا ينبغي تعريف الناس بحالات التحول إلى الإسلام، وأنهم يموتون بالبطيء من حالات التحول إلى الإسلام، وأنكروا مرة أخرى أن هناك من يُختطَف سواء رجل أو امرأة، وأن أعداد الداخلين في الإسلام يوميًّا من 80 إلى 200 فرد! وأن النصارى سينقرضون بعد 200 أو 300 سنة. هذا بعض ما جاء في هذا المؤتمر، وقد أكد صحة هذا الكلام الأنبا مكسيموس في لقاء معه على قناة الجزيرة (رابط إلكتروني: http://www.youtube.com/watch?v=5zKZxmHH9yc) وعلى صعيد آخر حذرَ الدكتور النصراني "كمال فريد إسحاق" أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية من انقراض معتنقي النصرانية في مصر، مؤكـِّدًا أن نسبة النصارى المصريين تقل تدريجيًا بسبب هجرة بعضهم إلي الخارج، واعتناق عدد كبير منهم الإسلام، إضافة إلي ارتفاع معدلات إنجاب المسلمين، وأكـّد أن النصارى سينقرضون فعلاً من مصر في زمن أقصاه مائة عام بسبب الهجرة والتحول إلى الإسلام، إضافة إلي أن معدل الإنجاب عند المسيحيين ضعيف علي عكس المسلمين (جريدة المصري اليوم، بتاريخ: السبت ١٢ مايو ٢٠٠٧م، العدد رقم ١٠٦٣). إننا نناشد كل مسلم وكل إنسان حر، أن يسعى بكل ما أوتي من قوة لمعرفة مصير السيدة مريم رضوان وأطفالها، فهي قضية إنسانية لا يمكن أن يُختلف فيها، ولا يمكن السكوت عليها، فهذا يُعيدنا إلى القرون الوسطى الكنسية المظلمة التي يبدو أن الكنيسة المصرية لا تستطيع أن تحيا بدون ارتكاب نفس أفعالها من الخطف والتعذيب والحبس، فما أضعف دين يفعل أصحابه هذه الأفعال! أنقذوا مريم ورضوان وأطفالها من مخالب الكنيسة المصرية!
أنقذوا مريم رضوان وأطفالها من مخالب الكنيسة!
حامد عبد العظيم

[حمّل العدد الأخير https://archive.org/details/klmtuhaq1920]

[موعدنا غداً مع العدد الجديد]

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وبعد:

فبينما يستمر القمع والظلم وقتل الأبرياء من السلطات المصرية، يعمل آخرون بصمت، أعني الكنيسة المصرية التي تسير وفق مخطط محكم بعناية وذي خطوات راسخة نحو ما يسمونه التحرر من الاحتلال "العربي الإسلامي"، والذي بدأ في عقيدتهم بفتح عمرو بن العاص رضي الله عنه لمصر عام 642 ميلادية.

الكنيسة المصرية بقيادة الأنبا تواضروس رأت في عهد السيسي عهدها الذهبي وفرصته السانحة لتوسيع إمبراطوريتها العملاقة، بمزيد من الأراضي والكنائس والمشروعات، وزيادة ميزانيتها التي تُعد الميزانية الثانية في مصر التي لا يُسمح لأحد أن يقترب منها أو يعرف مقدارها أو مصادر إيرادتها ومصروفاتها بعد ميزانية الجيش، في حين أن الأزهر الشريف والأوقاف الإسلامية والجمعيات الخيرية مراقبةٌ مراقبةً شديدة ولا يوجد جنيه يدخل لها أو يخرج منها إلا ويُعرف من أين جاء وإلى أين يتجه.

ومن استراتيجيات ونهج الكنيسة المصرية للحفاظ على كيانها: (استرداد الشعب الضال)، أي العمل على استعادة الذين يتحولون من الأقباط إلى الإسلام إلى حظيرة الكنيسة مرة أخرى، سواء بطريقة سلمية أو بالجبر والإكراه، كما حدث من قبل في قضايا عديدة فُضحت على مرأى ومسمع الرأي العام المصري والتي بلغت ذروتها قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير في قضية الأخت كاميليا شحاتة كان الله في عونها.

أشهر هذه القضايا كانت قضية الشهيدة وفاء قسطنطين، زوجة الراهب التي أسلمت ثم خطفتها الكنيسة وأودعتها أحد الأديرة وماتت تحت التعذيب، رحمها الله رحمة واسعة. وقد قلّت عمليات اختطاف الكنيسة للمسلمين والمسلمات الجُدد بعد اندلاع ثورة 25 يناير، ولكن مع الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013م وترسُّخ الطغيان مرة أخرى عادت عمليات الاختطاف، وآخرها والتي افتُضح أمرها خطف أسرة كاملة مسلمة، مكونة من أم وثلاثة أبناء، وهي الأخت مريم رضوان وابنتها فاطمة عمر رفاعي (4 سنوات)، وعائشة عمر رفاعي (عامان ونصف) وعبد الرحمن عمر رفاعي (6 أشهر).

وقد كان الاختطاف هذه المرة عن طريق عقد صفقة مع النظام المصري، الذي تسلم الأسرة بدوره من السلطات الليبية، ثم من حينها اختفت الأسرة ولم يُعرف مصيرها حتى تسربت تسريبات من جهات متعددة بأن الأسرة في قبضة الكنيسة، وصدر بيان من ثمانية وعشرين من علماء المسلمين يطالب بإظهار الأسرة، وكتب نشطاء سياسيون وحقوقيون عن هذا الأمر.

لقد عُقد في سنوات ما قبل الثورة مؤتمر برعاية الكنيسة المصرية بعنوان: "مؤتمر تثبيت الإيمان"، وهو بدعوة وحث من الأنبا السابق "شنودة"؛ لبحث ظاهرة زيادة أعداد الداخلين في الإسلام من الأقباط، وشارك في هذا المؤتمر الكثير من القساوسة؛ كالأنبا باخوميوس مطران البحيرة، والأنبا دانيال الأسقف العام، والأنبا موسى أسقف الشباب، والقمص أنسطاسي الصموئيلي، وغيرهم..
ومعظمهم أعضاء في المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وقد سُجل وسُرب بعض ما دار في هذا المؤتمر، ونُشر الشريط المسجَّل على الإنترنت في مواقع كثيرة (رابط إلكتروني:
www.youtube.com/watch?v=PjAOiszyGdg)

في هذا الشريط اعترف القساوسة بأنه لا يخلو حي -بدون استثناء- بالقاهرة من حالات ارتداد "يقصدون بالارتداد: التحول للإسلام"، وأن الدعاوى التي يدعيها النصارى من الاختطافات من قِبل المسلمين والإكراه على الإسلام غير صحيحة، وأن يوميًّا توجد عدة حالات تحوّل للإسلام، وفي بعض الأيام توجد أعداد لا تخطر على بال أحد، وأن الداخلين إلى الإسلام من جميع الأعمار حتى ممن هم في المرحلة الإعدادية والثانوية، وقالوا إن إسلام فرد واحد من النصارى يورث الكهنة إحباطـًا وتعبًا نفسيًّا؛ لشعوره بأنه فقد خروفـًا من رعيته! وأن التحول إلى الإسلام يُعد أخطر مشكلة يواجهها النصارى، وأن التحول إلى الإسلام لا يقتصر على الأفراد، بل قد تتحول أسرة بل عائلات بأكملها للإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهذا شيء يحزنهم جدًّا، وأنه لابد من وجود مَن يتفرغون لمنع التحول إلى الإسلام في كل مدينة، وأن بعض القساوسة يصل بهم الأمر أنهم يُقبّلون أرجل وأحذية المسلمين الجُدد حتى يعودوا للنصرانية مرة أخرى، وأن مِن المتحولين إلى الإسلام خُدامًا وخادمات سابقين للكنائس، وأنهم لابد أن يُصَلوا كثيرًا من أجل التقليل من حالات التحول إلى الإسلام، وأنه لا ينبغي تعريف الناس بحالات التحول إلى الإسلام، وأنهم يموتون بالبطيء من حالات التحول إلى الإسلام، وأنكروا مرة أخرى أن هناك من يُختطَف سواء رجل أو امرأة، وأن أعداد الداخلين في الإسلام يوميًّا من 80 إلى 200 فرد! وأن النصارى سينقرضون بعد 200 أو 300 سنة.

هذا بعض ما جاء في هذا المؤتمر، وقد أكد صحة هذا الكلام الأنبا مكسيموس في لقاء معه على قناة الجزيرة (رابط إلكتروني:
http://www.youtube.com/watch?v=5zKZxmHH9yc)

وعلى صعيد آخر حذرَ الدكتور النصراني "كمال فريد إسحاق" أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية من انقراض معتنقي النصرانية في مصر، مؤكـِّدًا أن نسبة النصارى المصريين تقل تدريجيًا بسبب هجرة بعضهم إلي الخارج، واعتناق عدد كبير منهم الإسلام، إضافة إلي ارتفاع معدلات إنجاب المسلمين، وأكـّد أن النصارى سينقرضون فعلاً من مصر في زمن أقصاه مائة عام بسبب الهجرة والتحول إلى الإسلام، إضافة إلي أن معدل الإنجاب عند المسيحيين ضعيف علي عكس المسلمين (جريدة المصري اليوم، بتاريخ: السبت ١٢ مايو ٢٠٠٧م، العدد رقم ١٠٦٣).

إننا نناشد كل مسلم وكل إنسان حر، أن يسعى بكل ما أوتي من قوة لمعرفة مصير السيدة مريم رضوان وأطفالها، فهي قضية إنسانية لا يمكن أن يُختلف فيها، ولا يمكن السكوت عليها، فهذا يُعيدنا إلى القرون الوسطى الكنسية المظلمة التي يبدو أن الكنيسة المصرية لا تستطيع أن تحيا بدون ارتكاب نفس أفعالها من الخطف والتعذيب والحبس، فما أضعف دين يفعل أصحابه هذه الأفعال!

أنقذوا مريم ورضوان وأطفالها من مخالب الكنيسة المصرية!
‏٣١‏/٠٣‏/٢٠١٩ ١١:٠٨ ص‏
القضية الأكثر إلحاحاً د. عطية عدلان [حمّل العدد الجديد https://archive.org/details/klmtuhaq1920] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. فليس بالضرورة أن تكون القضية الأكثر إلحاحاً هي القضية الأكبر أو الألصق بآمال الأمّة وطموحاتها؛ فقد يطفو على سطح الاهتمامات قضايا جزئية ليست مُنْبَتَّةً عن القضية الأمّ ولا خارجة عن سياق العمل لأجلها، ولكنها تبدو - وإن لم تكن كذلك - متعارضة فيما تستدعيه من إجراءات مع ما يتطلبه الوصول للهدف الأكبر؛ لذلك يقع التعارض الوهميّ بين الغايات القريبة والغايات البعيدة، وهذا في الحقيقة أحد أعراض المرض العضال الذي أصاب الجميع بعد ما يسمى في أدبياتنا السياسية والثورية بالانقلاب العسكريّ، ألا وهو مرض "اختلال الرؤية". والقضية الأكثر إلحاحاً والأشد طلباً وإلحافاً هي قضية المعتقلين، وما يتعرضون له هم وذووهم من عسف وظلم وقهر؛ ينتهي بالكثيرين منهم بعد طول عذاب إلى مقصلة الإعدام، أمَّا القضية الكبرى التي تمثل لنا الغاية والمنتهى فهي غير واضحة المعالم، رغم كل ما نرفعه من شعارات وما نردده من هتافات؛ وهذا أيضاً أثر من آثار اختلال الرؤية، وليته كان انعداماً للرؤية؛ فلربما كان العلاج حينئذ أهون. إنَّ قوماً لا زالوا مُصِرّين على أن يتصوروا ويصوروا للناس أنّهم حكموا وأقاموا دولة، وأنَّ ما جرى هو انقلاب عسكريّ على هذا الحكم وهذه الدولة، لا تُقِرُّه الشرعية الدولية ولا يقبله المجتمع الدوليّ، وأنّ عليهم أن يلزموا الصبر الجميل والصمت الطويل على أعتاب من يمسكون بتلابيب هذا الكوكب؛ وأن يستمروا في "الحراك السلميّ!" مهما كَلَّف من أبناء الدعوة الأطهار الأنقياء، ريثما يمتهد السبيل لـ"دحر الانقلاب!" ذلك الـ"الدحر!" الذي لا يستطيعون تقديم تفسير له ولو على مستوى المعنى اللغويّ، فضلاً عن أن يقدموا لمن يخاطبونهم بهذا الخطاب رؤية لما قبل وما بعد ذلك "الدحر!" المنتظر؛ إنَّهم لقوم لا يملكون رؤية لتحرير أنفسهم من أسر الأوهام؛ فكيف سيحررون الأسرى ويخلصونهم من مصير الإعدام؟! ليس صحيحاً ولو بمقدار ذرة أنَّ تحرير الأسرى لدى من يمتلكون رؤية صحيحة سياق مختلف أو متعارض مع تحرير الأمَّة، وليس حقاً ولو بوزن هباءة أنَّ التنازل والتصالح حلٌّ لأزمة المعتقلين فضلاً عن أن يكون هو الحل الوحيد، وليس إلا وهماً وسراباً ذلك التصور القاضي بأنَّ السيسي والنظام العسكريّ الحاكم يعيشون أزمة من نوع ما، أزمة شرعية أو أزمة اقتصادية أو أزمة عدم ضمان الاستمرارية، أو أزمة تعارض مصالح بين قوى متعارضة، وأنَّ حل هذه الأزمات سينتهي بمجرد اعتراف الإخوان بالسيسي، أو بمجرد التوافق مع "القوى!" المتنوعة عبر اصطفاف "يطيح!" بالسيسي ليأتي بـ"بديل توافقيّ!" يرتضيه "المجتمع الدولي!"؛ فليكن هذا أو ذاك من أجل خروج المعتقلين، وعودة "الإسلاميين!" للعمل الدعوي والاجتماعي، ويتوجب على الإسلاميين عندئذ أن يأخذوا خطوة للوراء في ميدان السياسة، يقدرها بعض "المجتهدين!" بخمسة أعوام وآخرون بعشرة على التمام، كل هذا وهم خداع وسراب خلاب. صحيح أنَّ الشعب المصريّ يعيش أزمات، لكنها وإن تضاعفت لن تمثل تهديداً لنظام يحكم بالحديد والنار، وصحيح كذلك أنَّ النظام فاشل في ممارسة الإدارة والسياسة داخلياً وخارجياً، ولكن منذ متى حَكَمَتْنا أنظمة متوشحة في حكمها بخبرة سياسية أو إدارية، ومنذ متى أعيتها الحيلة ما دامت قبضتها الأمنية ماضية وعبوديتها للغرب سارية، ثم صحيح كل الصحة أنّ هذا النظام يفتقد الشرعية افتقاد المجنون لعقله والصبي لرشده، وأنَّه يتسولها في المحافل الدولية وعلى أبواب السادة وأعتاب المتسلطين تسول العاهر لما يسد رمقها ببذل ما يستره سروالها، ولكن دلوني على فقرة واحدة في تاريخنا المعاصر - باستثناء تلك السنة التي كانت في السياق كله مجرد استثناء - لم يكن فيها الحكم على هذا النحو المشين المهين؛ فلنستفق من أوهامنا قبل أن نستفيق على صوت ارتطام جسد الرئيس على أرض المقصلة. إنَّ هذا النظام الذي يمارس التعذيب والإعدام هو ذاته النظام الذي حَكَمَنَا عقوداً عديدة وأزماناً مديدة بممارسة التعذيب والإعدام، هو ذاته النظام الذي لم تنجح الموجة الأولى من الثورة في اقتلاعه ولا حتى تحييده، ولم يعط من السلطة لمن حازوا الشرعية الثورية والشعبية معاً إلا بقدر ما كان ولا يزال يعطيه لمن ينهي دراسته بنجاح وتفوق: "ورقة تخرج!"، هو ذاته النظام الذي خلفه الاحتلال ليقوم بالوكالة بذات الدور الذي كان يقوم به هو بالأصالة، وسيظل يمثله ما دام قادراً على تأمين مصالحه، فلنوسع دائرة الإبصار، ولنقم بعمل (آوت زوووم) حتى نبصر المشهد الواقعيّ بتمامه؛ علنا نظفر بؤية واضحة. هذا النظام له دوافعه وفلسفته في الاعتقال والتعذيب والسجن والتغييب والتصفية والإعدام والقهر والإذلال، فهو يؤدب شعباً تجرأ على أن يثور على سيده ويتمرد على مالكه ووليّ نعمته، ويهذب جيلاً مما علق في ذهنه من شوائب فكرية تتعلق بالتغيير، ويمسخ من العقول والقلوب كل رغبة في الجهاد أو النضال أو ما يقترب من هذه المعاني المفزعة له ولأسياده، ويخيف بالمربوط السائب ويضرب على يد الحصيف ليخضع الخائب الرائب، وينهي من الوجود جماعة تمثل له وللنظام الدولي الذي يتحنث في محرابه وجعاً دائماً وصداعاً مستمراً، وتمثل للكيان الصهيونيّ مكمن خطر ومنصة تهديد. وما دام الأمر كذلك فهو ماض في طريقه، حتى يأتيه "الوجع" الذي يحمله على شرب الدواء المرّ؛ فيستسيغ الْمُرَّ دفعاً للأَمَرِّ، ويضطر اضطراراً لإدارة وجهه لمن كان يدير له من قبلُ قفاه، وهذا "الوجع" وهذا الإيلام هو ذاته سبيل الوصول للهدف الكبير والغاية الأمّ، فإن سألتني كيف؟ قلت: عليّ تقرير المبدأ وإبراز المنهج الذي جاء به كتاب الله، والذي ينطلق من قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة 251) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 40). ثم يحلق في آفاق شتى من آفاق الدفع والمقاومة، تتنوع وتتدرج وتمضي في طريقها على تؤدة وريث، لا تتهور ولا تتأخر، وتتخذ في كل مرحلة من الأسباب والوسائل ما يناسب المرحلة وما تطيقه الطاقات، وهذه الأسباب والوسائل - بعد إقرار المبدأ - دور أهل الخبرة في تلك الميادين، فلنسألهم عندئذ؛ (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ولتعقد ورش العمل ووحدات إدارة العمل وغير ذلك مما ينتج الأفكار ويتابع تنفيذها. وهذا لا يمنع من أهمية الحراك السياسيّ الرشيد، الذي يحدث الوجع والصداع أيضاً ولا يكون مبنياً على الاستجداء وحسب، مثل الفعاليات المستمرة على مستوى العديد من الدول في العالم أمام المؤسسات الدولية لإيقاعها وما يدور في فلكها من أنظمة في الحرج، مع مخاطبة المكونات السياسية المعارضة للحكومات التي تمكن للنظام المصريّ الظالم، وغير ذلك مما يمكن أن يبدع فيه الناس وتجيش له الطاقات المعطلة في المهجر. وهذا ليس سوى اجتهاد مني يملك كل قارئ الاعتراض عليه والانتقاد له، لكنني ألتمس ممن يعترض أو ينتقد طرح البديل عمّا طرحته بما يقنع العقول وترضى به القلوب، والله المستعان.
القضية الأكثر إلحاحاً
د. عطية عدلان

[حمّل العدد الجديد https://archive.org/details/klmtuhaq1920]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

فليس بالضرورة أن تكون القضية الأكثر إلحاحاً هي القضية الأكبر أو الألصق بآمال الأمّة وطموحاتها؛ فقد يطفو على سطح الاهتمامات قضايا جزئية ليست مُنْبَتَّةً عن القضية الأمّ ولا خارجة عن سياق العمل لأجلها، ولكنها تبدو - وإن لم تكن كذلك - متعارضة فيما تستدعيه من إجراءات مع ما يتطلبه الوصول للهدف الأكبر؛ لذلك يقع التعارض الوهميّ بين الغايات القريبة والغايات البعيدة، وهذا في الحقيقة أحد أعراض المرض العضال الذي أصاب الجميع بعد ما يسمى في أدبياتنا السياسية والثورية بالانقلاب العسكريّ، ألا وهو مرض "اختلال الرؤية".

والقضية الأكثر إلحاحاً والأشد طلباً وإلحافاً هي قضية المعتقلين، وما يتعرضون له هم وذووهم من عسف وظلم وقهر؛ ينتهي بالكثيرين منهم بعد طول عذاب إلى مقصلة الإعدام، أمَّا القضية الكبرى التي تمثل لنا الغاية والمنتهى فهي غير واضحة المعالم، رغم كل ما نرفعه من شعارات وما نردده من هتافات؛ وهذا أيضاً أثر من آثار اختلال الرؤية، وليته كان انعداماً للرؤية؛ فلربما كان العلاج حينئذ أهون.

إنَّ قوماً لا زالوا مُصِرّين على أن يتصوروا ويصوروا للناس أنّهم حكموا وأقاموا دولة، وأنَّ ما جرى هو انقلاب عسكريّ على هذا الحكم وهذه الدولة، لا تُقِرُّه الشرعية الدولية ولا يقبله المجتمع الدوليّ، وأنّ عليهم أن يلزموا الصبر الجميل والصمت الطويل على أعتاب من يمسكون بتلابيب هذا الكوكب؛ وأن يستمروا في "الحراك السلميّ!" مهما كَلَّف من أبناء الدعوة الأطهار الأنقياء، ريثما يمتهد السبيل لـ"دحر الانقلاب!" ذلك الـ"الدحر!" الذي لا يستطيعون تقديم تفسير له ولو على مستوى المعنى اللغويّ، فضلاً عن أن يقدموا لمن يخاطبونهم بهذا الخطاب رؤية لما قبل وما بعد ذلك "الدحر!" المنتظر؛ إنَّهم لقوم لا يملكون رؤية لتحرير أنفسهم من أسر الأوهام؛ فكيف سيحررون الأسرى ويخلصونهم من مصير الإعدام؟!

ليس صحيحاً ولو بمقدار ذرة أنَّ تحرير الأسرى لدى من يمتلكون رؤية صحيحة سياق مختلف أو متعارض مع تحرير الأمَّة، وليس حقاً ولو بوزن هباءة أنَّ التنازل والتصالح حلٌّ لأزمة المعتقلين فضلاً عن أن يكون هو الحل الوحيد، وليس إلا وهماً وسراباً ذلك التصور القاضي بأنَّ السيسي والنظام العسكريّ الحاكم يعيشون أزمة من نوع ما، أزمة شرعية أو أزمة اقتصادية أو أزمة عدم ضمان الاستمرارية، أو أزمة تعارض مصالح بين قوى متعارضة، وأنَّ حل هذه الأزمات سينتهي بمجرد اعتراف الإخوان بالسيسي، أو بمجرد التوافق مع "القوى!" المتنوعة عبر اصطفاف "يطيح!" بالسيسي ليأتي بـ"بديل توافقيّ!" يرتضيه "المجتمع الدولي!"؛ فليكن هذا أو ذاك من أجل خروج المعتقلين، وعودة "الإسلاميين!" للعمل الدعوي والاجتماعي، ويتوجب على الإسلاميين عندئذ أن يأخذوا خطوة للوراء في ميدان السياسة، يقدرها بعض "المجتهدين!" بخمسة أعوام وآخرون بعشرة على التمام، كل هذا وهم خداع وسراب خلاب.

صحيح أنَّ الشعب المصريّ يعيش أزمات، لكنها وإن تضاعفت لن تمثل تهديداً لنظام يحكم بالحديد والنار، وصحيح كذلك أنَّ النظام فاشل في ممارسة الإدارة والسياسة داخلياً وخارجياً، ولكن منذ متى حَكَمَتْنا أنظمة متوشحة في حكمها بخبرة سياسية أو إدارية، ومنذ متى أعيتها الحيلة ما دامت قبضتها الأمنية ماضية وعبوديتها للغرب سارية، ثم صحيح كل الصحة أنّ هذا النظام يفتقد الشرعية افتقاد المجنون لعقله والصبي لرشده، وأنَّه يتسولها في المحافل الدولية وعلى أبواب السادة وأعتاب المتسلطين تسول العاهر لما يسد رمقها ببذل ما يستره سروالها، ولكن دلوني على فقرة واحدة في تاريخنا المعاصر - باستثناء تلك السنة التي كانت في السياق كله مجرد استثناء - لم يكن فيها الحكم على هذا النحو المشين المهين؛ فلنستفق من أوهامنا قبل أن نستفيق على صوت ارتطام جسد الرئيس على أرض المقصلة.

إنَّ هذا النظام الذي يمارس التعذيب والإعدام هو ذاته النظام الذي حَكَمَنَا عقوداً عديدة وأزماناً مديدة بممارسة التعذيب والإعدام، هو ذاته النظام الذي لم تنجح الموجة الأولى من الثورة في اقتلاعه ولا حتى تحييده، ولم يعط من السلطة لمن حازوا الشرعية الثورية والشعبية معاً إلا بقدر ما كان ولا يزال يعطيه لمن ينهي دراسته بنجاح وتفوق: "ورقة تخرج!"، هو ذاته النظام الذي خلفه الاحتلال ليقوم بالوكالة بذات الدور الذي كان يقوم به هو بالأصالة، وسيظل يمثله ما دام قادراً على تأمين مصالحه، فلنوسع دائرة الإبصار، ولنقم بعمل (آوت زوووم) حتى نبصر المشهد الواقعيّ بتمامه؛ علنا نظفر بؤية واضحة.

هذا النظام له دوافعه وفلسفته في الاعتقال والتعذيب والسجن والتغييب والتصفية والإعدام والقهر والإذلال، فهو يؤدب شعباً تجرأ على أن يثور على سيده ويتمرد على مالكه ووليّ نعمته، ويهذب جيلاً مما علق في ذهنه من شوائب فكرية تتعلق بالتغيير، ويمسخ من العقول والقلوب كل رغبة في الجهاد أو النضال أو ما يقترب من هذه المعاني المفزعة له ولأسياده، ويخيف بالمربوط السائب ويضرب على يد الحصيف ليخضع الخائب الرائب، وينهي من الوجود جماعة تمثل له وللنظام الدولي الذي يتحنث في محرابه وجعاً دائماً وصداعاً مستمراً، وتمثل للكيان الصهيونيّ مكمن خطر ومنصة تهديد.

وما دام الأمر كذلك فهو ماض في طريقه، حتى يأتيه "الوجع" الذي يحمله على شرب الدواء المرّ؛ فيستسيغ الْمُرَّ دفعاً للأَمَرِّ، ويضطر اضطراراً لإدارة وجهه لمن كان يدير له من قبلُ قفاه، وهذا "الوجع" وهذا الإيلام هو ذاته سبيل الوصول للهدف الكبير والغاية الأمّ، فإن سألتني كيف؟ قلت: عليّ تقرير المبدأ وإبراز المنهج الذي جاء به كتاب الله، والذي ينطلق من قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة 251) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 40).

ثم يحلق في آفاق شتى من آفاق الدفع والمقاومة، تتنوع وتتدرج وتمضي في طريقها على تؤدة وريث، لا تتهور ولا تتأخر، وتتخذ في كل مرحلة من الأسباب والوسائل ما يناسب المرحلة وما تطيقه الطاقات، وهذه الأسباب والوسائل - بعد إقرار المبدأ - دور أهل الخبرة في تلك الميادين، فلنسألهم عندئذ؛ (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ولتعقد ورش العمل ووحدات إدارة العمل وغير ذلك مما ينتج الأفكار ويتابع تنفيذها.

وهذا لا يمنع من أهمية الحراك السياسيّ الرشيد، الذي يحدث الوجع والصداع أيضاً ولا يكون مبنياً على الاستجداء وحسب، مثل الفعاليات المستمرة على مستوى العديد من الدول في العالم أمام المؤسسات الدولية لإيقاعها وما يدور في فلكها من أنظمة في الحرج، مع مخاطبة المكونات السياسية المعارضة للحكومات التي تمكن للنظام المصريّ الظالم، وغير ذلك مما يمكن أن يبدع فيه الناس وتجيش له الطاقات المعطلة في المهجر.
وهذا ليس سوى اجتهاد مني يملك كل قارئ الاعتراض عليه والانتقاد له، لكنني ألتمس ممن يعترض أو ينتقد طرح البديل عمّا طرحته بما يقنع العقول وترضى به القلوب، والله المستعان.
‏٢٧‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:٥١ م‏
لتحميل جميع إصدارات @[196164480909426:274:مجلة كلمة حق] : 1) الرابط الأول (مُشفر): https://mega.nz/#F!b7B1GQxa كلمة المرور: !-C3LcA_unYWfURE1WfVObw 2) الرابط الثاني (غير مُشفر) https://archive.org/details/@klmtuhaq ----------- تابعنا على تيليجرام https://t.me/klmtuhaq تابعنا على تويتر https://twitter.com/klmtuhaq
لتحميل جميع إصدارات مجلة كلمة حق :

1) الرابط الأول (مُشفر):
https://mega.nz/#F!b7B1GQxa

كلمة المرور:
!-C3LcA_unYWfURE1WfVObw

2) الرابط الثاني (غير مُشفر)
https://archive.org/details/@klmtuhaq

-----------
تابعنا على تيليجرام
https://t.me/klmtuhaq

تابعنا على تويتر
https://twitter.com/klmtuhaq
‏٢٥‏/٠٣‏/٢٠١٩ ١٠:١١ م‏
من تراث الأزهر: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فضيلة الشيخ عطية صقر رحمه الله [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] سُئل فضيلة الشيخ العالم الأزهري عطية صقر: ما التهلكة الواردة في قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟ فأجاب رحمه الله: هذا جزء من الآية { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] جاءت هذه الآية بعد آيات تتحدث عن الجهاد في سبيل الله. وفيها أمور ثلاثة، أولها الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وثانيها النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وثالثها الأمر بالإحسان، أما الإنفاق في سبيل الله فمعناه واضح وإن كان سبيل الله واسع الميدان فمن أهمه الجهاد، وكذلك الإحسان واضح المعنى فهو يلتقي مع الإنفاق في سبيل الله في أكثر مظاهره وإن كان من معانيه الإجادة والإتقان والإخلاص في أي عمل. على ما جاء في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأما الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ففي تفسيره عدة أقوال: لا تتركوا النفقة ولا تخرجوا إلى الجهاد بغير زاد ولا تتركوا الجهاد، ولا تدخلوا على العدو الذي لا طاقة لكم به ولا تيأسوا من المغفرة وقد قال الطبري: هو عام في جميعها، كما ذكره ابن العربي في أحكام القرآن. ومن الوارد في ذلك ما رواه البخاري عن حذيفة أن الآية نزلت في النفقة، وكذلك قال ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس كما ذكره القرطبي، وقال المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وذكر القرطبي خمسة أقوال في تفسير هذه الآية. وقال: روى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران أنهم في غزو القسطنطينية حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: إنه يلقي بيديه إلى التهلكة! فصحح لهم أبو أيوب الأنصاري معنى الآية بأنها نزلت في الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه قالوا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها لأنها ضاعت. فالتهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو. ثم تحدث القرطبي عن حكم اقتحام الرجل في العرب وحمله على العدو وحده. وقال: إن بعض العلماء المالكية أجازوا أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة، وقيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ}. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فهو حسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتَل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنّس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أُقتَل ويُفتح للمسلمين! وفعل البراء بن مالك حيلة في حرب بني حنيفة حتى دخل حصنهم وفتح الباب فدخل المسلمون. وذكر القرطبي ما رواه مسلك في دفاع رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقاتل العدو حتى قُتل، وفعل مثله العدد القليل الذين أحاطوا بالرسول، وهذا دليل على أن المخاطرة التي فيها منفعة للمسلمين لا بأس بها ولا تُعد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما ذكر القرطبي عن محمد بن الحسن أن المخاطرة بالنفس إذا كان فيها طمع في النجاة أو النكاية في العدو لا بأس بها، وإلا كانت مكروهة لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، إلا إذا قصد تشجيع المسلمين حتى يصنعوا مثله فلا بأس بها لأن فيها منفعة لهم على بعض الوجوه. ثم تطرق القرطبي من حكم المخاطرة في الجهاد إلى المخاطرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وفي حديث النسائي وابن ماجه بسند صحيح: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وجاء مثل ذلك في أحكام القرآن لابن العربي.
من تراث الأزهر: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

فضيلة الشيخ عطية صقر
رحمه الله

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

سُئل فضيلة الشيخ العالم الأزهري عطية صقر:

ما التهلكة الواردة في قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟

فأجاب رحمه الله:

هذا جزء من الآية { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] جاءت هذه الآية بعد آيات تتحدث عن الجهاد في سبيل الله.

وفيها أمور ثلاثة، أولها الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وثانيها النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وثالثها الأمر بالإحسان، أما الإنفاق في سبيل الله فمعناه واضح وإن كان سبيل الله واسع الميدان فمن أهمه الجهاد، وكذلك الإحسان واضح المعنى فهو يلتقي مع الإنفاق في سبيل الله في أكثر مظاهره وإن كان من معانيه الإجادة والإتقان والإخلاص في أي عمل. على ما جاء في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وأما الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ففي تفسيره عدة أقوال: لا تتركوا النفقة ولا تخرجوا إلى الجهاد بغير زاد ولا تتركوا الجهاد، ولا تدخلوا على العدو الذي لا طاقة لكم به ولا تيأسوا من المغفرة وقد قال الطبري: هو عام في جميعها، كما ذكره ابن العربي في أحكام القرآن.

ومن الوارد في ذلك ما رواه البخاري عن حذيفة أن الآية نزلت في النفقة، وكذلك قال ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس كما ذكره القرطبي، وقال المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وذكر القرطبي خمسة أقوال في تفسير هذه الآية. وقال: روى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران أنهم في غزو القسطنطينية حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس: إنه يلقي بيديه إلى التهلكة! فصحح لهم أبو أيوب الأنصاري معنى الآية بأنها نزلت في الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه قالوا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها لأنها ضاعت. فالتهلكة هي الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو.

ثم تحدث القرطبي عن حكم اقتحام الرجل في العرب وحمله على العدو وحده. وقال: إن بعض العلماء المالكية أجازوا أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة، وقيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ}.

وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فهو حسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتَل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً، وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنّس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أُقتَل ويُفتح للمسلمين! وفعل البراء بن مالك حيلة في حرب بني حنيفة حتى دخل حصنهم وفتح الباب فدخل المسلمون.

وذكر القرطبي ما رواه مسلك في دفاع رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقاتل العدو حتى قُتل، وفعل مثله العدد القليل الذين أحاطوا بالرسول، وهذا دليل على أن المخاطرة التي فيها منفعة للمسلمين لا بأس بها ولا تُعد من الإلقاء باليد إلى التهلكة، كما ذكر القرطبي عن محمد بن الحسن أن المخاطرة بالنفس إذا كان فيها طمع في النجاة أو النكاية في العدو لا بأس بها، وإلا كانت مكروهة لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، إلا إذا قصد تشجيع المسلمين حتى يصنعوا مثله فلا بأس بها لأن فيها منفعة لهم على بعض الوجوه.

ثم تطرق القرطبي من حكم المخاطرة في الجهاد إلى المخاطرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] وفي حديث النسائي وابن ماجه بسند صحيح: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وجاء مثل ذلك في أحكام القرآن لابن العربي.
‏٢٥‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٩:٤٩ م‏
لَبـرَلة الولاء والبراء (1/2) إبراهيم السكران* [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] في الأوساط المحلية طرح كثيراً موضوع ضرورة إعادة قراءة الولاء والبراء وقضايا بغض الكفار والزوجة الكتابية ونحوها، وكل هذه القراءات والمراجعات طبعاً تحت وطأة موجات الحرية الليبرالية الغالبة؛ فليست قراءة علمية معرفية تتوخى البرهان؛ بل هي قراءات تستهدف بشكل مكشوف تخفيض مضمون الولاء والبراء ليقترب من نظرية الحرية الليبرالية؛ فالولاء والبراء في القرآن يقيم نظام العلاقات على أساس العقيدة بينما الحرية الليبرالية تقيم نظام العلاقات على أسس مادية. والطريف في الأمر أنني لما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن الولاء والبراء مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شيء حول وجود الولاء والبراء في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو أرضية الولاء والبراء، أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط؛ فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل مَن كفر بالله بغضاً دينياً، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لشنعوا عليك، ولو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً. فالقضية فيما يبدو ليست تخلياً عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء؛ فقد كانوا سابقاً يقولون إن الله هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، صاروا يقولون إن وطنهم هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، هذه كل القضية بحسب دراستي لهذه الأطروحات؛ فالولاء والبراء لم ينتهِ لحظة واحدة، ولكن تحول على أساس الولاء والبراء من الله إلى الأرض، كما أشار تعالى فقال: {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه}. [الأعراف 176] وقال تعالى: {اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع الجهاد على أسس أرضية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضوا القتال ولكن يرون القتال مبرراً على أساس الأرض لا العقيدة، كما قالوا في تحليلهم الفكرى لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا} [الأحزاب 13] إنه مشهد يتكرر ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الأرض أمراً مقبولاً بل رقياً فكرياً، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص. الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من الله جل جلاله إلى الأرض. القضية باختصار شديد لو كانوا يريدون الحق أن كل كافر هو عدو الله بمجرد كفره؛ كما قال تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98] وأخبر أنه {لا يحب الكافرين}، وقال {ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مَقتاً} [فاطر: 39] وأخبر أن عداوة المؤمن تبع لعداوة الله؛ كما قال تعالى: {إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً} [النساء: 101] فكل مؤمن لابد أن تقوم في نفسه العداوة القلبية الدينية لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد، إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحباب له فهذا شأن آخر، أو كان المرء يقول إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو الله وإذا حاربنا فهو عدو الله، فصارت كرامته أعظم من كرامة الله! فهل يقول هذا عاقل؟ فأي تحد لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين وأن الله لا يحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول أما نحن فنحب بعض الكافرين؟ وتأمل معي في قوله تعالى: {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ} [آل عمران:119] فهؤلاء قوم مظهرون للمسالمة بل يُظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم ولم يُبِح لهم حبهم بحسب ظاهرهم. ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة، تقول كما في صحيح البخاري: "كنا في أرض البُعَداء البُغَضاء بالحبشة". فانظر في قول هذه الصحابية الجليلة! فأهل الحبشة مسالمون بل نفعوا أصحاب النبي، وفّروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم البغضاء، لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافر هو قطعاً عدو لله، مبغوض له مهما كان، مسالماً عسكريا، ولما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار، خافوا أن يظلمهم فقال لهم -كما عند أحمد بسند صحيح-: "يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم". فهؤلاء كفار مسالمون وليسوا محاربين، ومع ذلك يستعلن رضى الله عنه ببغضه لهم. وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً. ومن الطرائف أن بعض الناس لكى يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم، صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى الفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية... إلخ، وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية، والواقع أن قاعدة البغض العقدي للكافر قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، وليس مسألة ابتكرتها "الدرر السنية". فقد قال السرخسي الحنفي: "وهكذا ينبغى لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة". وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال: "حب المؤمنين وبغض الكافرين وتعظيم رب العالمين، وغير ذلك من المأمورات". وقال ابن الحاج المالكي: "واجب على كل مسلم أن يبغض في الله مَن يكفر به". وقال الشيخ عليش المالكى: "نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين". وفي أشهر متون الشافعية: "وتحرم مودة الكافر". وقال العز بن عبد السلام الشافعي: "جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه". بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكفر فيقول: "الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين وعداوتهم". والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يزعم البعض ويدعي أن وجوب بغض الكافر فكرة وُلدت في "الدرعية" وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟ أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون الأربعة المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟ أم أرسلت إليهم نسَخ من "الدرر السنية"؟ وهؤلاء الذين يسعون لِلَبرلة الولاء والبراء يتمسكون ببعض التأويلات للنصوص والمفاهيم الشرعية، وسأناقش بعضها: فأما قولهم: "إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه؛ كقوله تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" [الممتحنة:1] لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء الله". فهل يقول هذا مَن قرأ كتاب الله؟ فكل كافر هو عدو لله أصلاً؛ كما قال تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]، وقال تعالى: {إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً}. [النساء: 101] وأما قولهم: "إننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكافر لا يلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم؛ لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي النصرة". فالجواب أن الموالاة لفظ عام يشمل الحب والنصرة؛ فالحب موالاة والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده، ومن ظن أن الموالاة لا تكون إلا لما تركب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب؛ كقوله" { هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119] وهي في المسالمين. وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته، فضلاً عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققون؛ كقول الإمام ابن تيمية: "وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة هو البغض". وأما قولهم: "إننا نقر أن الله نهى عن موادّة من يحادّ الله ورسوله، لكن المحادّ هو المحارب". فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 62-63] فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين، ومع ذلك جعلهم الله محادين، ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال: {إن الذين يُحادُّون الله} [المجادلة:5] ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة ومع ذلك جعله الله محاداة لله جل وعلا، فإن كان هؤلاء يجعلون المحادّة هي المحاربة فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى ما دون المحاربه محادة، وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسيء إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته فلا يكاد يوجد كافر معاصر لا يسيء لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال... إلخ. فهؤلاء يقولون لنا إن الموادّة المنهي عنها مخصوصة بالمحادة، فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين يسيئون لأحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامةً في المجتمعات الكافرة لكنهم مسالمون غير محاربين، فهل يجوز مودتهم؟ عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين! وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة بمعنى الإساءة. وليس مقصودنا هاهنا المرادفة بين الكفر والمحادة؛ فإن المحادة بلا شك قدر زائد على مجرد الكفر كما قرره ابن تيمية في الصارم المسلول، وإنما المراد أن المحادة أوسع من المقاتلة. وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة.. فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها؛ بل لديه إشكالية منهجية، وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى القاعدة. والجواب من استدلالهم بأن الله أباح الزواج بالكتابية والزواج يفضي للمودة، أن يُقال المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يعترض عليها بالأمور الكونية، والمحتج بذلك هو نظير من يقول إن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف، فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني، أو كمن يقول إن الله قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي، وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟ ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية؛ كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ } [التغابن: 14] فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة؛ فلا أدري لماذا يأخذون آية { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ } [الروم:21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية ولا يضعون معها هذه الآية (التغابن 14)؟ والتى تثبت احتمال قيام العدواة الدينية؟ ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لا يلزم منها أن تكون دوماً هي الحب؛ بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان؛ كما قال تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب أن يتحاب مع كفار قريش، وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة". ثم إن ما يجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه، أعظم مما يجده من الولاء لزوجته، ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم والشقيق الكافر المسالم؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] ثم إن أهل العلم بيّنوا أن مورد الأمرين مختلف أصلاً؛ فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبيه دينية، أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية، ولا يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد الأمران. [يتبع العدد القادم (التحرير)] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ننشر هذا المقالة للباحث إبراهيم السكران - المعتقل ظلماً بالسعودية - وهي مقتطفة من كتابه: سلطة الثقافة الغالبة، ص194 وما بعدها، ط: دار الحضارة، ط1، الرياض، 1435.
لَبـرَلة الولاء والبراء (1/2)
إبراهيم السكران*

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

في الأوساط المحلية طرح كثيراً موضوع ضرورة إعادة قراءة الولاء والبراء وقضايا بغض الكفار والزوجة الكتابية ونحوها، وكل هذه القراءات والمراجعات طبعاً تحت وطأة موجات الحرية الليبرالية الغالبة؛ فليست قراءة علمية معرفية تتوخى البرهان؛ بل هي قراءات تستهدف بشكل مكشوف تخفيض مضمون الولاء والبراء ليقترب من نظرية الحرية الليبرالية؛ فالولاء والبراء في القرآن يقيم نظام العلاقات على أساس العقيدة بينما الحرية الليبرالية تقيم نظام العلاقات على أسس مادية.

والطريف في الأمر أنني لما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن الولاء والبراء مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شيء حول وجود الولاء والبراء في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو أرضية الولاء والبراء، أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط؛ فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل مَن كفر بالله بغضاً دينياً، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لشنعوا عليك، ولو قلت لهم إنني أحب من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً.

فالقضية فيما يبدو ليست تخلياً عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء؛ فقد كانوا سابقاً يقولون إن الله هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، صاروا يقولون إن وطنهم هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، هذه كل القضية بحسب دراستي لهذه الأطروحات؛ فالولاء والبراء لم ينتهِ لحظة واحدة، ولكن تحول على أساس الولاء والبراء من الله إلى الأرض، كما أشار تعالى فقال: {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه}. [الأعراف 176] وقال تعالى: {اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاملون مع الجهاد على أسس أرضية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضوا القتال ولكن يرون القتال مبرراً على أساس الأرض لا العقيدة، كما قالوا في تحليلهم الفكرى لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارجعوا} [الأحزاب 13]

إنه مشهد يتكرر ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الأرض أمراً مقبولاً بل رقياً فكرياً، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص.

الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من الله جل جلاله إلى الأرض. القضية باختصار شديد لو كانوا يريدون الحق أن كل كافر هو عدو الله بمجرد كفره؛ كما قال تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98] وأخبر أنه {لا يحب الكافرين}، وقال {ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مَقتاً} [فاطر: 39] وأخبر أن عداوة المؤمن تبع لعداوة الله؛ كما قال تعالى: {إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً} [النساء: 101]

فكل مؤمن لابد أن تقوم في نفسه العداوة القلبية الدينية لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد، إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحباب له فهذا شأن آخر، أو كان المرء يقول إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو الله وإذا حاربنا فهو عدو الله، فصارت كرامته أعظم من كرامة الله! فهل يقول هذا عاقل؟ فأي تحد لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين وأن الله لا يحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول أما نحن فنحب بعض الكافرين؟

وتأمل معي في قوله تعالى: {هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ} [آل عمران:119] فهؤلاء قوم مظهرون للمسالمة بل يُظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم ولم يُبِح لهم حبهم بحسب ظاهرهم. ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة، تقول كما في صحيح البخاري: "كنا في أرض البُعَداء البُغَضاء بالحبشة". فانظر في قول هذه الصحابية الجليلة! فأهل الحبشة مسالمون بل نفعوا أصحاب النبي، وفّروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم البغضاء، لماذا؟

لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافر هو قطعاً عدو لله، مبغوض له مهما كان، مسالماً عسكريا، ولما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار، خافوا أن يظلمهم فقال لهم -كما عند أحمد بسند صحيح-: "يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم". فهؤلاء كفار مسالمون وليسوا محاربين، ومع ذلك يستعلن رضى الله عنه ببغضه لهم. وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً.

ومن الطرائف أن بعض الناس لكى يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم، صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى الفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية... إلخ، وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية، والواقع أن قاعدة البغض العقدي للكافر قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، وليس مسألة ابتكرتها "الدرر السنية".

فقد قال السرخسي الحنفي: "وهكذا ينبغى لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة". وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال: "حب المؤمنين وبغض الكافرين وتعظيم رب العالمين، وغير ذلك من المأمورات". وقال ابن الحاج المالكي: "واجب على كل مسلم أن يبغض في الله مَن يكفر به".

وقال الشيخ عليش المالكى: "نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين". وفي أشهر متون الشافعية: "وتحرم مودة الكافر". وقال العز بن عبد السلام الشافعي: "جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه". بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكفر فيقول: "الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين وعداوتهم".

والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يزعم البعض ويدعي أن وجوب بغض الكافر فكرة وُلدت في "الدرعية" وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟ أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون الأربعة المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟ أم أرسلت إليهم نسَخ من "الدرر السنية"؟

وهؤلاء الذين يسعون لِلَبرلة الولاء والبراء يتمسكون ببعض التأويلات للنصوص والمفاهيم الشرعية، وسأناقش بعضها:

فأما قولهم: "إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه؛ كقوله تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" [الممتحنة:1] لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء الله". فهل يقول هذا مَن قرأ كتاب الله؟ فكل كافر هو عدو لله أصلاً؛ كما قال تعالى: {فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]، وقال تعالى: {إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً}. [النساء: 101]

وأما قولهم: "إننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكافر لا يلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم؛ لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي النصرة". فالجواب أن الموالاة لفظ عام يشمل الحب والنصرة؛ فالحب موالاة والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده، ومن ظن أن الموالاة لا تكون إلا لما تركب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب؛ كقوله" { هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119] وهي في المسالمين. وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته، فضلاً عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققون؛ كقول الإمام ابن تيمية: "وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة هو البغض".

وأما قولهم: "إننا نقر أن الله نهى عن موادّة من يحادّ الله ورسوله، لكن المحادّ هو المحارب". فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 62-63] فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين، ومع ذلك جعلهم الله محادين، ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال: {إن الذين يُحادُّون الله} [المجادلة:5] ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة ومع ذلك جعله الله محاداة لله جل وعلا، فإن كان هؤلاء يجعلون المحادّة هي المحاربة فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى ما دون المحاربه محادة، وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسيء إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته فلا يكاد يوجد كافر معاصر لا يسيء لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال... إلخ.

فهؤلاء يقولون لنا إن الموادّة المنهي عنها مخصوصة بالمحادة، فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين يسيئون لأحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامةً في المجتمعات الكافرة لكنهم مسالمون غير محاربين، فهل يجوز مودتهم؟ عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين! وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة بمعنى الإساءة.

وليس مقصودنا هاهنا المرادفة بين الكفر والمحادة؛ فإن المحادة بلا شك قدر زائد على مجرد الكفر كما قرره ابن تيمية في الصارم المسلول، وإنما المراد أن المحادة أوسع من المقاتلة.

وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة.. فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها؛ بل لديه إشكالية منهجية، وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى القاعدة.

والجواب من استدلالهم بأن الله أباح الزواج بالكتابية والزواج يفضي للمودة، أن يُقال المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يعترض عليها بالأمور الكونية، والمحتج بذلك هو نظير من يقول إن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف، فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني، أو كمن يقول إن الله قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي، وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟

ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية؛ كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ } [التغابن: 14] فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة؛ فلا أدري لماذا يأخذون آية { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ } [الروم:21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية ولا يضعون معها هذه الآية (التغابن 14)؟ والتى تثبت احتمال قيام العدواة الدينية؟

ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لا يلزم منها أن تكون دوماً هي الحب؛ بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان؛ كما قال تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب أن يتحاب مع كفار قريش، وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة".

ثم إن ما يجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه، أعظم مما يجده من الولاء لزوجته، ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم والشقيق الكافر المسالم؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] ثم إن أهل العلم بيّنوا أن مورد الأمرين مختلف أصلاً؛ فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبيه دينية، أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية، ولا يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد الأمران.

[يتبع العدد القادم (التحرير)]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ننشر هذا المقالة للباحث إبراهيم السكران - المعتقل ظلماً بالسعودية - وهي مقتطفة من كتابه: سلطة الثقافة الغالبة، ص194 وما بعدها، ط: دار الحضارة، ط1، الرياض، 1435.
‏٢٣‏/٠٣‏/٢٠١٩ ١٠:١٦ م‏
أشكال الدعم الشعبي (مترجم من دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد) مركز حازم للترجمة [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] يأخذ الدعم الشعبي أشكالاً متعددة. فيمكن ان ينشأ داخلياً أو خارجياً، ويكون سلبياً أو فعالاً. وهناك أربعة أشكال من الدعم الشعبي: • الدعم الخارجي الفعال. • الدعم الخارجي السلبي. • الدعم الداخلي الفعال. • الدعم الداخلي السلبي. وتختلف الأهمية النسبية لكل شكل من أشكال الدعم حسب الظروف، إلا أن جميعها تصب في فائدة التمرد. -. يشمل الدعم الخارجي الفعال التمويل، واللوجستيات، والتدريب، والمقاتلين، والملاذات الآمنة. ويمكن توفير جميع أشكال الدعم هذه عبر حكومة أجنبية أو منظمات غير حكومية مثل الجمعيات الخيرية. - يحدث الدعم الخارجي السلبي عندما تدعم حكومة أجنبية التمرد من خلال التقاعس عن العمل. وتشمل صور الدعم السلبي ما يلي: • عدم وضع حد لنشاطات المتمردين الذين يعيشون أو يعملون داخل حدود الدولة. • الاعتراف بشرعية مجموعة المتمردين. • إنكار شرعية حكومة الدولة المضيفة. - عادة ما يكون الدعم الداخلي الفعال هو الأكثر أهمية لمجموعة المتمردين. وتشمل صور الدعم الداخلي الفعال ما يلي: • انضمام الأفراد أو الجماعات إلى التمرد. • تقديم الدعم المالي أو اللوجستي. • تقديم المعلومات. • توفير الملاذات الآمنة. • تقديم المساعدة الطبية. • توفير وسائل النقل. • القيام بأعمال نيابة عن المتمردين. - الدعم الداخلي السلبي مفيد أيضاً. فلا يقدم الداعمون السلبيون الدعم المادي، إلا أنهم يسمحون للمتمردين بالعمل ولا يقدمون أي معلومات لقوات مكافحة التمرد. وهذا الشكل من الدعم غالباً ما يشار إليه بالقبول أو الإذعان. أساليب تكوين الدعم الشعبي - يستخدم المتمردون العديد من الأساليب لتكوين الدعم الشعبي. وتتضمن تلك الأساليب ما يلي: • الإقناع. • الإكراه. • تشجيع ردود الفعل المبالغ فيها. • المقاتلون السياسيون. - يمكن استخدام الإقناع للحصول على الدعم الداخلي أو الخارجي. وتشمل أشكال الإقناع ما يلي: • الانجذاب لكاريزما زعيم أو جماعة. • الاعجاب بأيدولوجية معينة. • الوعود بمعالجة المظالم. • إظهار القوة، من خلال شن هجمات واسعة النطاق أو تقديم برامج اجتماعية للفقراء. وقد يكون الإقناع من خلال إظهار القوة هو أكثر الأساليب فاعلية، لأنه يستطيع خلق تصور بأن التمرد لديه زخم وسوف ينجح. - يستخدم المتمردون الإكراه لإجبار الناس على دعم أو تقبل أنشطتهم. وتشمل وسائل الإكراه: التكتيكات الإرهابية، والعنف، والتهديد باستخدام العنف. ويمكن استخدام الإكراه لتغيير سلوك الأفراد أو المجموعات أو المنظمات أو الحكومات. وغالباً ما يكون الإكراه فعالاً للغاية على المدى القصير، ولا سيما على مستوى المجتمع. إلا أن الإرهاب ضد عامة السكان والزعماء الشعبيين، أو الهجمات التي تؤثر سلباً على أسلوب حياة الناس، يمكن أن تقوّض شعبية المتمردين. فالإكراه طريقة سهلة تسمح للمتمردين بتكوين الدعم السلبي، إلا أن هذا الدعم يوجد فقط طالما كان في إمكان المتمردين ترويع السكان. - إن تشجيع رد الفعل المبالغ فيه يشير إلى إغراء قوات مكافحة التمرد على استخدام تكتيكات قمعية تُنفِر السكان، وتجلب التدقيق في أفعال الحكومة، كما يشير أيضاً إلى استفزاز الحكومة لتقوم بالرد. - قد يُجتذب المقاتلون السياسيون بعدة وسائل غير أيدولوجية. تتضمن الحوافز النقدية، والوعود بالانتقام، والمشاعر الرومانسية التي يشعر بها الفرد أثناء قتاله في حرب ثورية. - وبالرغم من صعوبة تحديد حجم الدعم الشعبي، يقوم المحللون بتقييم مقدار الدعم الشعبي الذي تتلقاه جماعة المتمردين، وقدرتها على تكوين المزيد من الدعم. وتقدم المصادر المفتوحة وتقارير الاستخبارات بيانات تدعم هذا التحليل. ويمكن أن تكون بيانات استطلاع الرأي وسيلة قيمة رغم عدم دقتها لقياس الدعم المقدم لحكومة الدولة المضيفة والدعم المقدم للتمرد. كما أن ما تنشره وسائل الإعلام وغيرها من المصادر المفتوحة يكون مهما على جميع المستويات. ويمكن الاستفادة من تقييم توجهات المجتمع في تقدير الدعم الشعبي على المستوى التكتيكي عن طريق قياس بعض الأمور مثل ردود فعل عامة السكان المحليين تجاه تواجد قوات عسكرية أو قادة الحكومة. - على الرغم من أن العنف قد يكون ملحوظاً، إلا أنه قد يمثل جزءاً صغيراً فقط من نشاط المتمردين بشكل عام. فنشاطات المتمردين غير المرئية تشمل التدريب والأعمال اللوجستية. وهذه الأنشطة الداعمة تديم التمردات. وهي تأتي من قدرة التمرد على تكوين الدعم الشعبي. ويحتاج المتمردون عادة مثلهم مثل القوات العسكرية التقليدية، إلى المزيد من المساندين أكثر من احتياجهم لمزيد من المقاتلين. وقد تكون شبكات دعم المتمردين كبيرة، حتى عندما تكون مستويات العنف منخفضة، لذلك يكون من السهل مراقبتها في المراحل المبكرة من تطور التمرد. -إن تقويض الدعم الشعبي للتمرد من أكثر الوسائل فاعلية في الحد من قدرات دعم المتمردين. ومع ذلك، يظل تحديد قدرات الدعم ونقاط ضعفه أمراً مهما. وإن القيام بذلك يتيح للمحللين تقييم مسارات التهديد المحتملة للعمل. ومثل ذلك التحليل يتيح للقادة تحديد نقاط ضعف شبكة دعم المتمردين
أشكال الدعم الشعبي
(مترجم من دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد)

مركز حازم للترجمة

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

يأخذ الدعم الشعبي أشكالاً متعددة. فيمكن ان ينشأ داخلياً أو خارجياً، ويكون سلبياً أو فعالاً. وهناك أربعة أشكال من الدعم الشعبي:

• الدعم الخارجي الفعال.
• الدعم الخارجي السلبي.
• الدعم الداخلي الفعال.
• الدعم الداخلي السلبي.

وتختلف الأهمية النسبية لكل شكل من أشكال الدعم حسب الظروف، إلا أن جميعها تصب في فائدة التمرد.

-. يشمل الدعم الخارجي الفعال التمويل، واللوجستيات، والتدريب، والمقاتلين، والملاذات الآمنة. ويمكن توفير جميع أشكال الدعم هذه عبر حكومة أجنبية أو منظمات غير حكومية مثل الجمعيات الخيرية.

- يحدث الدعم الخارجي السلبي عندما تدعم حكومة أجنبية التمرد من خلال التقاعس عن العمل. وتشمل صور الدعم السلبي ما يلي:

• عدم وضع حد لنشاطات المتمردين الذين يعيشون أو يعملون داخل حدود الدولة.

• الاعتراف بشرعية مجموعة المتمردين.

• إنكار شرعية حكومة الدولة المضيفة.

- عادة ما يكون الدعم الداخلي الفعال هو الأكثر أهمية لمجموعة المتمردين. وتشمل صور الدعم الداخلي الفعال ما يلي:

• انضمام الأفراد أو الجماعات إلى التمرد.

• تقديم الدعم المالي أو اللوجستي.

• تقديم المعلومات.

• توفير الملاذات الآمنة.

• تقديم المساعدة الطبية.

• توفير وسائل النقل.

• القيام بأعمال نيابة عن المتمردين.

- الدعم الداخلي السلبي مفيد أيضاً. فلا يقدم الداعمون السلبيون الدعم المادي، إلا أنهم يسمحون للمتمردين بالعمل ولا يقدمون أي معلومات لقوات مكافحة التمرد. وهذا الشكل من الدعم غالباً ما يشار إليه بالقبول أو الإذعان.

أساليب تكوين الدعم الشعبي

- يستخدم المتمردون العديد من الأساليب لتكوين الدعم الشعبي. وتتضمن تلك الأساليب ما يلي:

• الإقناع.

• الإكراه.

• تشجيع ردود الفعل المبالغ فيها.

• المقاتلون السياسيون.

- يمكن استخدام الإقناع للحصول على الدعم الداخلي أو الخارجي. وتشمل أشكال الإقناع ما يلي:

• الانجذاب لكاريزما زعيم أو جماعة.

• الاعجاب بأيدولوجية معينة.

• الوعود بمعالجة المظالم.

• إظهار القوة، من خلال شن هجمات واسعة النطاق أو تقديم برامج اجتماعية للفقراء.

وقد يكون الإقناع من خلال إظهار القوة هو أكثر الأساليب فاعلية، لأنه يستطيع خلق تصور بأن التمرد لديه زخم وسوف ينجح.

- يستخدم المتمردون الإكراه لإجبار الناس على دعم أو تقبل أنشطتهم. وتشمل وسائل الإكراه: التكتيكات الإرهابية، والعنف، والتهديد باستخدام العنف. ويمكن استخدام الإكراه لتغيير سلوك الأفراد أو المجموعات أو المنظمات أو الحكومات. وغالباً ما يكون الإكراه فعالاً للغاية على المدى القصير، ولا سيما على مستوى المجتمع.

إلا أن الإرهاب ضد عامة السكان والزعماء الشعبيين، أو الهجمات التي تؤثر سلباً على أسلوب حياة الناس، يمكن أن تقوّض شعبية المتمردين. فالإكراه طريقة سهلة تسمح للمتمردين بتكوين الدعم السلبي، إلا أن هذا الدعم يوجد فقط طالما كان في إمكان المتمردين ترويع السكان.

- إن تشجيع رد الفعل المبالغ فيه يشير إلى إغراء قوات مكافحة التمرد على استخدام تكتيكات قمعية تُنفِر السكان، وتجلب التدقيق في أفعال الحكومة، كما يشير أيضاً إلى استفزاز الحكومة لتقوم بالرد.

- قد يُجتذب المقاتلون السياسيون بعدة وسائل غير أيدولوجية. تتضمن الحوافز النقدية، والوعود بالانتقام، والمشاعر الرومانسية التي يشعر بها الفرد أثناء قتاله في حرب ثورية.

- وبالرغم من صعوبة تحديد حجم الدعم الشعبي، يقوم المحللون بتقييم مقدار الدعم الشعبي الذي تتلقاه جماعة المتمردين، وقدرتها على تكوين المزيد من الدعم. وتقدم المصادر المفتوحة وتقارير الاستخبارات بيانات تدعم هذا التحليل. ويمكن أن تكون بيانات استطلاع الرأي وسيلة قيمة رغم عدم دقتها لقياس الدعم المقدم لحكومة الدولة المضيفة والدعم المقدم للتمرد. كما أن ما تنشره وسائل الإعلام وغيرها من المصادر المفتوحة يكون مهما على جميع المستويات. ويمكن الاستفادة من تقييم توجهات المجتمع في تقدير الدعم الشعبي على المستوى التكتيكي عن طريق قياس بعض الأمور مثل ردود فعل عامة السكان المحليين تجاه تواجد قوات عسكرية أو قادة الحكومة.

- على الرغم من أن العنف قد يكون ملحوظاً، إلا أنه قد يمثل جزءاً صغيراً فقط من نشاط المتمردين بشكل عام. فنشاطات المتمردين غير المرئية تشمل التدريب والأعمال اللوجستية. وهذه الأنشطة الداعمة تديم التمردات. وهي تأتي من قدرة التمرد على تكوين الدعم الشعبي.

ويحتاج المتمردون عادة مثلهم مثل القوات العسكرية التقليدية، إلى المزيد من المساندين أكثر من احتياجهم لمزيد من المقاتلين. وقد تكون شبكات دعم المتمردين كبيرة، حتى عندما تكون مستويات العنف منخفضة، لذلك يكون من السهل مراقبتها في المراحل المبكرة من تطور التمرد.

-إن تقويض الدعم الشعبي للتمرد من أكثر الوسائل فاعلية في الحد من قدرات دعم المتمردين. ومع ذلك، يظل تحديد قدرات الدعم ونقاط ضعفه أمراً مهما. وإن القيام بذلك يتيح للمحللين تقييم مسارات التهديد المحتملة للعمل. ومثل ذلك التحليل يتيح للقادة تحديد نقاط ضعف شبكة دعم المتمردين
‏١٩‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٩:٠٢ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
رابط بديل للعدد التاسع عشر (قبل الأخير) بعد أن حذفه جوجل درايف:

رابط مباشر: https://ia801500.us.archive.org/3/items/klmtuhaq1920/klmtuhaq19.pdf

رجاء من متابعينا تحميل أعداد المجلة ورفعها على روابط متنوعة حتى تبقى متاحة للقراء.

لتحميل بقية الأعداد بما فيها العدد الجديد والهدايا التي صدرت معها:
http://bit.ly/2Rv0LDS

أو

https://archive.org/details/@klmtuhaq
‏١٨‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:٤٤ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (12) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] بعد حوار دافعت فيه عن الشريعة الإسلامية انضممت للتيار اليساري: • قال لي عميد الحقوق: أنا مثل مالك والشافعي وأحمد ولا تقرأ في الكتب الصفراء • كانت الجماعة الدينية في الجامعة أوائل السبعينات ضعيفة متهالكة تجمع الصوفيين والأمنجية • كان الخطاب اليساري جذابا يمس المشكلات اليومية سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] أول ما أتذكره من أيام الجامعة ذلك النقاش الذي اندلع مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية، وقد كان من محاسن الجامعة ذلك التقارب الذي يكون بين الطالب والأستاذ الجامعي، فإنه أفضل من العلاقة الأبوية التي بين تلميذ المدرسة والـمُدَرِّس، وذلك أنك تستطيع الحديث مع أستاذ الجامعة في أي وقت، تطرح وجهة نظرك، تجادل فيها، تناقش المادة نفسها ومعلوماتها ولا تتعامل معها كأنها مقدسة كما هو الحال مع المادة في المدرسة، وذلك هو ما شجعني لبدء هذا النقاش. غاب عني الآن اسم الأستاذ، لعل اسمه كان "محمود سلام زناتي"، وكان عميداً لكلية الحقوق، لكنه كان يُدَرِّس لنا مادة "مبادئ القانون" في كلية التجارة، وكانت تشتمل على جزء من القانون البحري أو القانون التجاري، لا أتذكر الآن بدقة، على أن مقدمة هذه المادة جاء فيها أن "الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع" أو نحواً من هذا، فاستفزني هذا الكلام، فذهبت إليه في الاستراحة التي تكون بين جزئي المحاضرة، وفيها كان الطلاب يذهبون فيسألون الأستاذ، وقد كانت شخصيته لطيفة فكان يجيبهم ويبش لهم، فعمدت إليه ومعي الكتاب، وانتظرت حتى فرغ الطلاب من حوله، ثم دار بيننا هذا الحوار، قلت له: - لو سمحت حضرتك، أريد أن أسأل سؤالاً - تفضل يا بني - أنت تقول في المذكرة إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع.. هذا صحيح؟ - نعم، صحيح! - الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع؟! - نعم! - الشريعة الإسلامية!! المصدر الثالث!! للتشريع؟!! زاد استغرابه، وصار لا يفهم ما أقول، فقال بنوع جدية وصرامة: - أين السؤال؟! فقلت له وأنا سادر في أسلوبي: - يعني لم تدرك السؤال بعد؟! - عيب يا بني.. عيب! ما هذه اللهجة وما هذه الطريقة في الكلام.. من أين أنت؟ - من أرمنت، قنا (وأنطقها بلهجتي الصعيدية التي تُنطق فيها القاف كأنها جيم قاهرية) - أين أرمنت قنا هذه؟! - ألا تعرفها.. لا تعرف أرمنت، قنا؟! - لا، لا أعرف - مركز أرمنت، محافظة قنا. - آها، نعم، محافظة قنا معروفة.. المهم، أين السؤال، عم تريد أن تسأل؟ - حضرتك تقول: الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع، هل هذا صحيح؟! - نعم، هذا صحيح، أنا أقول هذا فعلاً، ما الذي يعسر عليك في فهم هذا؟! - أنا معترض على قولك: إن الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع. - حسناً، فماذا تريدني أن أقول؟ هل تحب أن أقول إنها المصدر الأول؟ - نعم، يجب أن تقول: المصدر الأول - ولكنها ليست كذلك، ليست المصدر الأول - ليكن، ليكن أنها الآن ليست المصدر الأول، لكن هل أنت مقتنع أن مكانها الطبيعي أن تكون المصدر الثالث؟! هل يليق بالشريعة أن تكون المصدر الثالث برأيك؟ أم أنك تسير مع الوضع الحالي الذي جعلها المصدر الثالث؟ - رد بتجهم: أنت تكثر القراءة في الكتب الصفراء! لم أفهم إشارته وتلميحه، ولم أكن أعرف أن الكتب الصفراء مصطلح يطلق على كتب التراث الإسلامي، وتصورت أنه يقصد الكتب التي ورقها أصفر كالكتب القديمة المطبوعة على الورق الأصفر، وقع في ذهني المعنى المباشر للألوان، وهو ظاهر الكلام، فأجبته ببراءة ولهجة دفاعية: - لا والله العظيم، أنا لا أقرأ أبداً في كتب صفراء.. أنا... وجد الدكتور نفسه أمام طالب بينه وبينه فجوة في التواصل! فقال بلهجة ودود: - الشريعة الإسلامية يا بني لا تصلح أن تكون مصدراً مستقلاً في التشريع - لكن هذا الكلام غلط يا دكتور - أين الغلط يا ابني؟ - هذه الشريعة الإسلامية أنزلها الله تعالى - من قال لك: أنزلها الله؟! الشريعة الإسلامية هذه هي أقوال الفقهاء، مجرد اجتهاد بشري، مجرد فهم للنص، وأنا فقيه.. أنا من فقهاء الأمة! وأنا أفهم النص مثلما كان يفهمه الإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام مالك وهؤلاء الفقهاء - لا طبعا.. كيف؟ كيف تُسَوِّي نفسك بهؤلاء الأئمة؟ - وما أدراك أنت بهؤلاء؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف أنت مالك والشافعي وأحمد؟ هل قرأت لهم شيئاً؟ هل إذا أعطيتك الآن مجموعة من كتبي مثل كتبهم.. هل تشهد أني أفهم مثلهم؟! أصابني الارتباك، كان موقفاً غريباً وغير متوقع، رجل يقول إنه مثل مالك وأحمد، ويفهم مثلهم.. لكني مع ذلك تماسكت وقلت: - لا، حضرتك لديك علم في القانون الوضعي الذي تُدَرِّسه، لكن لا يمكن يكون لديك من علم الشريعة مثل أحمد ومالك وهؤلاء الأئمة، هؤلاء أخذوا علمهم من القرآن والسنة. - نحن أيضاً مصدر علمنا الكتاب والسنة، كيف تتخيل العلم الذي لدينا؟ القانون الفرنسي نفسه مأخوذ عن الشريعة الإسلامية، ثم نُقِل إلينا بهذه الكيفية، ففي الواقع فإن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية حين يحتكم إلى القانون الفرنسي. هنا أصابني الانبهار، وأخذني مسار الكلام لأعجب به، لقد رسم لي أن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وكفى بهذا فخراً ومصدر سعادة.. ومع ذلك فقد كان شيءٌ ما في نفسي يرفض هذا، ويراه تلفيقاً أو تزويراً أو كلاماً غير مقبول، فعاودت أقول وأرد: - لا.. لا يمكن أن يكون هذا القانون هو القانون الإسلامي - يا بني، أنا عميد كلية الحقوق، وعندما أقول لك: إن القانون الفرنسي مأخوذ من الشريعة الإسلامية، فأنا أعلم ما أقول! في هذه العبارة الأخيرة احتد عليَّ، وارتفع صوته في النقاش، وما كنتُ لأستغرب هذا، فمثل هذا الحوار والجدال لم يكن ممكناً أن يدور مع مُدَرِّسٍ في المدرسة، وها هو يدور بين طالب وعميد لكلية الحقوق، ومع أن الرجل أفحمني وأسكتني، ومع أني لم أعد أعرف بم أجيب ولا كيف أرد، إلا أنني بقيت على انبهاري بالرجل وإعجابي به. ثم مع ذلك فقد كرهت مادة القانون، وعزمت ألا أحضر هذه المحاضرة! كنت مبهوراً نعم، لكن أيضاً لم أبتلع قوله إن الشريعة هي المصدر الثالث للتشريع، ثم إن له فلسفة تُعْجِزُني، والعجز يضيق الصدر ويسبب أزمة، ما هذا الرجل؟! هل يمكن أن يكون فعلاً كالإمام أحمد أم أنه يريد بهذا تشويه علماء الشرع حين ينزل بهم إلى نفسه؟! هل له فعلاً مثل إنتاجهم؟! هل يمكن أن يكون له مثل فهمهم وعلمهم بالدين؟! أمور لم أستطع أن أبتلعها وإن أسكتني حواره، وكان الحل الأسهل أن أتجنب هذه المادة وصاحبها.. وقد كان! ثم كانت بعد ذلك آثارها، لقد ظللت أرسب في هذه المادة ثلاث سنوات متتاليات! ويبدو أن ذلك الحوار قد طبع صورتي في ذهنه، فقد شاهدني ذات يوم وأنا داخل إلى المدرج فنادى عليَّ، ثم سألني: لم لا تحضر معنا؟ فأجبته باقتضاب وأنا أتملص من الموقف: سأحضر سأحضر، ثم سارعتُ منصرفاً. ومن المفارقات، أني وبعد هذه المحاورة التي أبدو فيها كإسلامي متشدد، ما لبثت أن انخرطت في صفوف التيار اليساري، ناشطاً طلابياً! ومن المفارقات أيضاً أني لم أحاول فيما بعد هذا الحوار أن أعود إلى الكتب فأقرأ لأردَّ عليه، استمر شأني في القراءة كما هو، القراءة المتنوعة غير الموجهة، لكن لم أقرأ بغرض الردّ عليه، كأن الحوار لم يستفزني للرد رغم أنه أعجزني وأضاق صدري، لقد وقر في نفسي أنه أستاذي وكيف أردّ عليه؟! أتذكر أني كنت في تلك الفترة أقرأ في الكتب الإسلامية عموماً، وأقرأ تفسير القرآن لابن كثير، ومقدمة ابن رشد التي هي بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكتاب أصول الفقه الصغير الذي ألفه الشيخ محمد خلاف. كانت هذه الكتب الثلاثة تلازمني في المرحلة الثانوية، ثم في أول سنة بالجامعة كنت أقرأ فيهم فيتحسن فهمي، ثم اشتريت كتاب "الأم" للإمام الشافعي، وبمرور الوقت بدأت تتكون ملكة القراءة في كتب السلف، لا سيما في المعسكرات الطلابية ومعارض الكتاب الإسلامية، ولقد أعطى نشاط التيار الإسلامي في السبعينات دفعة هائلة لمثل هذه الميول.. لكن هذا سيأتي فيما بعد! أما قصة انضمامي إلى التيار اليساري فكان السبب فيها أني بطبعي شخص نشط، ولا أستطيع الخمول والسكون، وفي ذلك الوقت لم يكن قد بدأ النشاط الإسلامي في الجامعات، بل كان النشاط يكاد يكون حكراً على اليساريين، نعم.. كان هناك ثمة جماعة ضعيفة اسمها "الجماعة الدينية" إلا أنه يغلب عليهم التوجه الصوفي والتوجه الأمني كذلك، كان معظمهم صوفية وتابعين للأمن! كنت أعرف الصوفيين بما لدي من تجربة قديمة في الصوفية، لكن التابعين للأمن كان تصنيفاً جديداً أخذته من الرفاق الشباب اليساريين الذين كنا نعمل معاً. ومع هذا فلم يكن أولئك التابعون للأمن عتاة أو دهاة، إنما كان توجههم الصوفي ينزع بهم إلى ذلك كما ذكرت سابقاً، من أن التدين في عصر عبد الناصر كان ذا مسحة صوفية وأن هذا كان مطلب السلطة لتوظيف الدين ضمن سياستها، ولقد كان مألوفاً أن يكون المرء اشتراكياً وصوفياً معاً كما سبق الحديث. ثم إن هذه الجماعة الدينية ضعيفة وخاملة ولا نشاط لها، إنهم يُعرفون بالتزامهم الصلاة وبمجلة حائط ضعيفة متهالكة لا تسمن ولا تغني من جوع. وهو ما يخالف طبعي ويجعلني نافراً من حالة السبات هذه! أما اليساريون فأصحاب نشاط وحركة، يصدرون عدداً من مجلات الحائط، بل لقد كنتُ أصدر مجلة حائط وحدي، إعداداً وتنفيذاً، وقد شاركوا فيها وكانوا يدعمونني، وكانت الجامعة تشهد حرية طلابية، وقد كان الطلاب اليساريون يُجَهِّزون معرضاً ويتكلمون فيه عن السادات والحرب والحق في الخبز والعدالة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية والبلد التي تعاني من المجاعة والشعب الذي يعضه الفقر، يتكلمون أحياناً أخرى عن الطالب المصري، وأزمة الكتاب لدى الطالب المصري، أزمة التعليم لدى الطالب المصري، ما الذي يتلقاه الطالب في مصر من المناهج الضعيفة غير العلمية غير المركزة.. إلخ! كان اهتمامهم منصباً على المشاكل التي تمس الحياة اليومية، إضافة إلى البعد السياسي، وقد كان للسادات نصيب الأسد من نقدهم وهجومهم. وكان هذا ما يجذب إليهم، وهو من جملة ما جذبني كذلك.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (12)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

بعد حوار دافعت فيه عن الشريعة الإسلامية انضممت للتيار اليساري:

• قال لي عميد الحقوق: أنا مثل مالك والشافعي وأحمد ولا تقرأ في الكتب الصفراء
• كانت الجماعة الدينية في الجامعة أوائل السبعينات ضعيفة متهالكة تجمع الصوفيين والأمنجية
• كان الخطاب اليساري جذابا يمس المشكلات اليومية

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

أول ما أتذكره من أيام الجامعة ذلك النقاش الذي اندلع مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية، وقد كان من محاسن الجامعة ذلك التقارب الذي يكون بين الطالب والأستاذ الجامعي، فإنه أفضل من العلاقة الأبوية التي بين تلميذ المدرسة والـمُدَرِّس، وذلك أنك تستطيع الحديث مع أستاذ الجامعة في أي وقت، تطرح وجهة نظرك، تجادل فيها، تناقش المادة نفسها ومعلوماتها ولا تتعامل معها كأنها مقدسة كما هو الحال مع المادة في المدرسة، وذلك هو ما شجعني لبدء هذا النقاش.

غاب عني الآن اسم الأستاذ، لعل اسمه كان "محمود سلام زناتي"، وكان عميداً لكلية الحقوق، لكنه كان يُدَرِّس لنا مادة "مبادئ القانون" في كلية التجارة، وكانت تشتمل على جزء من القانون البحري أو القانون التجاري، لا أتذكر الآن بدقة، على أن مقدمة هذه المادة جاء فيها أن "الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع" أو نحواً من هذا، فاستفزني هذا الكلام، فذهبت إليه في الاستراحة التي تكون بين جزئي المحاضرة، وفيها كان الطلاب يذهبون فيسألون الأستاذ، وقد كانت شخصيته لطيفة فكان يجيبهم ويبش لهم، فعمدت إليه ومعي الكتاب، وانتظرت حتى فرغ الطلاب من حوله، ثم دار بيننا هذا الحوار، قلت له:

- لو سمحت حضرتك، أريد أن أسأل سؤالاً
- تفضل يا بني
- أنت تقول في المذكرة إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع.. هذا صحيح؟
- نعم، صحيح!
- الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع؟!
- نعم!
- الشريعة الإسلامية!! المصدر الثالث!! للتشريع؟!!
زاد استغرابه، وصار لا يفهم ما أقول، فقال بنوع جدية وصرامة:
- أين السؤال؟!
فقلت له وأنا سادر في أسلوبي:
- يعني لم تدرك السؤال بعد؟!
- عيب يا بني.. عيب! ما هذه اللهجة وما هذه الطريقة في الكلام.. من أين أنت؟
- من أرمنت، قنا (وأنطقها بلهجتي الصعيدية التي تُنطق فيها القاف كأنها جيم قاهرية)
- أين أرمنت قنا هذه؟!
- ألا تعرفها.. لا تعرف أرمنت، قنا؟!
- لا، لا أعرف
- مركز أرمنت، محافظة قنا.
- آها، نعم، محافظة قنا معروفة.. المهم، أين السؤال، عم تريد أن تسأل؟
- حضرتك تقول: الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع، هل هذا صحيح؟!
- نعم، هذا صحيح، أنا أقول هذا فعلاً، ما الذي يعسر عليك في فهم هذا؟!
- أنا معترض على قولك: إن الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع.
- حسناً، فماذا تريدني أن أقول؟ هل تحب أن أقول إنها المصدر الأول؟
- نعم، يجب أن تقول: المصدر الأول
- ولكنها ليست كذلك، ليست المصدر الأول
- ليكن، ليكن أنها الآن ليست المصدر الأول، لكن هل أنت مقتنع أن مكانها الطبيعي أن تكون المصدر الثالث؟! هل يليق بالشريعة أن تكون المصدر الثالث برأيك؟ أم أنك تسير مع الوضع الحالي الذي جعلها المصدر الثالث؟
- رد بتجهم: أنت تكثر القراءة في الكتب الصفراء!
لم أفهم إشارته وتلميحه، ولم أكن أعرف أن الكتب الصفراء مصطلح يطلق على كتب التراث الإسلامي، وتصورت أنه يقصد الكتب التي ورقها أصفر كالكتب القديمة المطبوعة على الورق الأصفر، وقع في ذهني المعنى المباشر للألوان، وهو ظاهر الكلام، فأجبته ببراءة ولهجة دفاعية:
- لا والله العظيم، أنا لا أقرأ أبداً في كتب صفراء.. أنا...
وجد الدكتور نفسه أمام طالب بينه وبينه فجوة في التواصل! فقال بلهجة ودود:
- الشريعة الإسلامية يا بني لا تصلح أن تكون مصدراً مستقلاً في التشريع
- لكن هذا الكلام غلط يا دكتور
- أين الغلط يا ابني؟
- هذه الشريعة الإسلامية أنزلها الله تعالى
- من قال لك: أنزلها الله؟! الشريعة الإسلامية هذه هي أقوال الفقهاء، مجرد اجتهاد بشري، مجرد فهم للنص، وأنا فقيه.. أنا من فقهاء الأمة! وأنا أفهم النص مثلما كان يفهمه الإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام مالك وهؤلاء الفقهاء
- لا طبعا.. كيف؟ كيف تُسَوِّي نفسك بهؤلاء الأئمة؟
- وما أدراك أنت بهؤلاء؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف أنت مالك والشافعي وأحمد؟ هل قرأت لهم شيئاً؟ هل إذا أعطيتك الآن مجموعة من كتبي مثل كتبهم.. هل تشهد أني أفهم مثلهم؟!
أصابني الارتباك، كان موقفاً غريباً وغير متوقع، رجل يقول إنه مثل مالك وأحمد، ويفهم مثلهم.. لكني مع ذلك تماسكت وقلت:
- لا، حضرتك لديك علم في القانون الوضعي الذي تُدَرِّسه، لكن لا يمكن يكون لديك من علم الشريعة مثل أحمد ومالك وهؤلاء الأئمة، هؤلاء أخذوا علمهم من القرآن والسنة.
- نحن أيضاً مصدر علمنا الكتاب والسنة، كيف تتخيل العلم الذي لدينا؟ القانون الفرنسي نفسه مأخوذ عن الشريعة الإسلامية، ثم نُقِل إلينا بهذه الكيفية، ففي الواقع فإن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية حين يحتكم إلى القانون الفرنسي.
هنا أصابني الانبهار، وأخذني مسار الكلام لأعجب به، لقد رسم لي أن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وكفى بهذا فخراً ومصدر سعادة.. ومع ذلك فقد كان شيءٌ ما في نفسي يرفض هذا، ويراه تلفيقاً أو تزويراً أو كلاماً غير مقبول، فعاودت أقول وأرد:
- لا.. لا يمكن أن يكون هذا القانون هو القانون الإسلامي
- يا بني، أنا عميد كلية الحقوق، وعندما أقول لك: إن القانون الفرنسي مأخوذ من الشريعة الإسلامية، فأنا أعلم ما أقول!

في هذه العبارة الأخيرة احتد عليَّ، وارتفع صوته في النقاش، وما كنتُ لأستغرب هذا، فمثل هذا الحوار والجدال لم يكن ممكناً أن يدور مع مُدَرِّسٍ في المدرسة، وها هو يدور بين طالب وعميد لكلية الحقوق، ومع أن الرجل أفحمني وأسكتني، ومع أني لم أعد أعرف بم أجيب ولا كيف أرد، إلا أنني بقيت على انبهاري بالرجل وإعجابي به. ثم مع ذلك فقد كرهت مادة القانون، وعزمت ألا أحضر هذه المحاضرة!

كنت مبهوراً نعم، لكن أيضاً لم أبتلع قوله إن الشريعة هي المصدر الثالث للتشريع، ثم إن له فلسفة تُعْجِزُني، والعجز يضيق الصدر ويسبب أزمة، ما هذا الرجل؟! هل يمكن أن يكون فعلاً كالإمام أحمد أم أنه يريد بهذا تشويه علماء الشرع حين ينزل بهم إلى نفسه؟! هل له فعلاً مثل إنتاجهم؟! هل يمكن أن يكون له مثل فهمهم وعلمهم بالدين؟! أمور لم أستطع أن أبتلعها وإن أسكتني حواره، وكان الحل الأسهل أن أتجنب هذه المادة وصاحبها.. وقد كان! ثم كانت بعد ذلك آثارها، لقد ظللت أرسب في هذه المادة ثلاث سنوات متتاليات!

ويبدو أن ذلك الحوار قد طبع صورتي في ذهنه، فقد شاهدني ذات يوم وأنا داخل إلى المدرج فنادى عليَّ، ثم سألني: لم لا تحضر معنا؟ فأجبته باقتضاب وأنا أتملص من الموقف: سأحضر سأحضر، ثم سارعتُ منصرفاً.

ومن المفارقات، أني وبعد هذه المحاورة التي أبدو فيها كإسلامي متشدد، ما لبثت أن انخرطت في صفوف التيار اليساري، ناشطاً طلابياً!

ومن المفارقات أيضاً أني لم أحاول فيما بعد هذا الحوار أن أعود إلى الكتب فأقرأ لأردَّ عليه، استمر شأني في القراءة كما هو، القراءة المتنوعة غير الموجهة، لكن لم أقرأ بغرض الردّ عليه، كأن الحوار لم يستفزني للرد رغم أنه أعجزني وأضاق صدري، لقد وقر في نفسي أنه أستاذي وكيف أردّ عليه؟!

أتذكر أني كنت في تلك الفترة أقرأ في الكتب الإسلامية عموماً، وأقرأ تفسير القرآن لابن كثير، ومقدمة ابن رشد التي هي بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكتاب أصول الفقه الصغير الذي ألفه الشيخ محمد خلاف. كانت هذه الكتب الثلاثة تلازمني في المرحلة الثانوية، ثم في أول سنة بالجامعة كنت أقرأ فيهم فيتحسن فهمي، ثم اشتريت كتاب "الأم" للإمام الشافعي، وبمرور الوقت بدأت تتكون ملكة القراءة في كتب السلف، لا سيما في المعسكرات الطلابية ومعارض الكتاب الإسلامية، ولقد أعطى نشاط التيار الإسلامي في السبعينات دفعة هائلة لمثل هذه الميول.. لكن هذا سيأتي فيما بعد!

أما قصة انضمامي إلى التيار اليساري فكان السبب فيها أني بطبعي شخص نشط، ولا أستطيع الخمول والسكون، وفي ذلك الوقت لم يكن قد بدأ النشاط الإسلامي في الجامعات، بل كان النشاط يكاد يكون حكراً على اليساريين، نعم.. كان هناك ثمة جماعة ضعيفة اسمها "الجماعة الدينية" إلا أنه يغلب عليهم التوجه الصوفي والتوجه الأمني كذلك، كان معظمهم صوفية وتابعين للأمن! كنت أعرف الصوفيين بما لدي من تجربة قديمة في الصوفية، لكن التابعين للأمن كان تصنيفاً جديداً أخذته من الرفاق الشباب اليساريين الذين كنا نعمل معاً.

ومع هذا فلم يكن أولئك التابعون للأمن عتاة أو دهاة، إنما كان توجههم الصوفي ينزع بهم إلى ذلك كما ذكرت سابقاً، من أن التدين في عصر عبد الناصر كان ذا مسحة صوفية وأن هذا كان مطلب السلطة لتوظيف الدين ضمن سياستها، ولقد كان مألوفاً أن يكون المرء اشتراكياً وصوفياً معاً كما سبق الحديث. ثم إن هذه الجماعة الدينية ضعيفة وخاملة ولا نشاط لها، إنهم يُعرفون بالتزامهم الصلاة وبمجلة حائط ضعيفة متهالكة لا تسمن ولا تغني من جوع. وهو ما يخالف طبعي ويجعلني نافراً من حالة السبات هذه!

أما اليساريون فأصحاب نشاط وحركة، يصدرون عدداً من مجلات الحائط، بل لقد كنتُ أصدر مجلة حائط وحدي، إعداداً وتنفيذاً، وقد شاركوا فيها وكانوا يدعمونني، وكانت الجامعة تشهد حرية طلابية، وقد كان الطلاب اليساريون يُجَهِّزون معرضاً ويتكلمون فيه عن السادات والحرب والحق في الخبز والعدالة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية والبلد التي تعاني من المجاعة والشعب الذي يعضه الفقر، يتكلمون أحياناً أخرى عن الطالب المصري، وأزمة الكتاب لدى الطالب المصري، أزمة التعليم لدى الطالب المصري، ما الذي يتلقاه الطالب في مصر من المناهج الضعيفة غير العلمية غير المركزة.. إلخ!

كان اهتمامهم منصباً على المشاكل التي تمس الحياة اليومية، إضافة إلى البعد السياسي، وقد كان للسادات نصيب الأسد من نقدهم وهجومهم. وكان هذا ما يجذب إليهم، وهو من جملة ما جذبني كذلك.
‏١٧‏/٠٣‏/٢٠١٩ ١٠:٢٦ م‏
هل تريد/ تريدين الكتابة معنا في مجلة كلمة حق؟ الإخوة الكرام والأخوات الفاضلات.. تصلنا طلبات من حين لآخر للكتابة معنا في مجلة كلمة حق، ونحب أن نضع بين أيديكم نوع الموضوعات وخط المجلة الفكري: خط المجلة وهدفها باختصار شديد: انبثقت فكرة المجلة من واقع الندرة الشديدة في عالم الكُتَّاب والباحثين والمفكرين الذين إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ قالوا كلاما مفيداً. فالواقع أن عالم التنظير يكاد ينفصل عن عالم التطبيق، فأهل الكتابة والتفكير هائمون في عالم الأفكار والنادر منهم من يتعرف على مشكلات الواقع، ثم النادر من هؤلاء من يستطيع أن يفيد بشيء في حل هذه المشكلات، وإنما يقضي هؤلاء حياتهم بين كلام وكتابة وندوة ومؤتمر ولقاء تلفازي، وقد يقول كلاماً يبدو جميلاً ويبدو مفيداً ويبدو مهما، لكن بغير أثر. وأما عالم التطبيق فقد تولاه المتحمسون المتحركون المنفعلون بقضايا أمتهم، ولهم في هذا بذل وجهد وأثر يُشكر ولا يُنكر، لكن النادر منهم من له من الفكر والبحث والنظر والخبرة والنضج ما يستطيع به تصحيح المسارات وكبح الاندفاع واختيار الأمثل عند النوازل! وهكذا، لو شبهنا الحالة الحاضرة بقطار، لوجدنا قطاراً يندفع بلا توجيه سديد، بينما أجهزة التوجيه تخاطب الفراغ ولا تتصل بالقطار.. والنتيجة في الحالتين أن المحتل والأنظمة الحاكمة بما لديها من قدرات وإمكانيات تتولى تضليل الطرفين.. فعالم التنظير والتفكير مشغول بالقضايا التي تطرحها الثقافة الغالبة وأغلب استجاباته تكون تطويعاً للدين وفقاً لها، وعالم التطبيق تتحكم فيه التمويلات وألاعيب الاستخبارات وعلوم إدارة الأزمة والنزاعات بما يجعلها تصب في النهاية لصالحهم. تحاول المجلة على ضعفها الشديد أن تغرس بذرة في عالم الوصل بين التفكير والتطبيق، بين العلم والعمل.. وكما قلنا ونكرر: الثغور كلها فارغة، والأمة بحاجة إلى كل مجهود.. وكل صاحب خبرة في مجال يمكنه أن يوظف خبرته في صالح هذه الأمة: فالإعلامي يعلمنا كيف يكون الخطاب وكيف يكون التوجيه وكيف هو علم نفس الجماهير وكيف هي الوسائل التي يمكن للمستضعفين استثمارها وكيف يكون إعلام المقاومة وكيف ينبغي أن يكون الإعلامي المقاوم... إلخ! والقانوني يعلمنا كيف يكون تنظيم شأن الناس وإدارة الخلافات في لحظات الفوضى وصناعة القضاة وتأهليهم وضمان استقلالهم عن الأمراء والأجناد؛ بل ضمان خضوع أولئك لحكم الشريعة فيهم وفض النزاعات بينهم.. ثم كيف تسوق قضايانا في المحاكم المحلية والدولية.. إلخ! وقل مثل هذا عن كل شخص، عن علماء الشرع والمختصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ والأمن والإدارة والعسكرية... إلخ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لتحميل أعداد المجلة والكُتيبات التي صدرت معها: http://bit.ly/2Rv0LDS
هل تريد/ تريدين الكتابة معنا في مجلة كلمة حق؟

الإخوة الكرام والأخوات الفاضلات..

تصلنا طلبات من حين لآخر للكتابة معنا في مجلة كلمة حق، ونحب أن نضع بين أيديكم نوع الموضوعات وخط المجلة الفكري:

خط المجلة وهدفها باختصار شديد:

انبثقت فكرة المجلة من واقع الندرة الشديدة في عالم الكُتَّاب والباحثين والمفكرين الذين إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ قالوا كلاما مفيداً.

فالواقع أن عالم التنظير يكاد ينفصل عن عالم التطبيق، فأهل الكتابة والتفكير هائمون في عالم الأفكار والنادر منهم من يتعرف على مشكلات الواقع، ثم النادر من هؤلاء من يستطيع أن يفيد بشيء في حل هذه المشكلات، وإنما يقضي هؤلاء حياتهم بين كلام وكتابة وندوة ومؤتمر ولقاء تلفازي، وقد يقول كلاماً يبدو جميلاً ويبدو مفيداً ويبدو مهما، لكن بغير أثر.

وأما عالم التطبيق فقد تولاه المتحمسون المتحركون المنفعلون بقضايا أمتهم، ولهم في هذا بذل وجهد وأثر يُشكر ولا يُنكر، لكن النادر منهم من له من الفكر والبحث والنظر والخبرة والنضج ما يستطيع به تصحيح المسارات وكبح الاندفاع واختيار الأمثل عند النوازل!

وهكذا، لو شبهنا الحالة الحاضرة بقطار، لوجدنا قطاراً يندفع بلا توجيه سديد، بينما أجهزة التوجيه تخاطب الفراغ ولا تتصل بالقطار.. والنتيجة في الحالتين أن المحتل والأنظمة الحاكمة بما لديها من قدرات وإمكانيات تتولى تضليل الطرفين.. فعالم التنظير والتفكير مشغول بالقضايا التي تطرحها الثقافة الغالبة وأغلب استجاباته تكون تطويعاً للدين وفقاً لها، وعالم التطبيق تتحكم فيه التمويلات وألاعيب الاستخبارات وعلوم إدارة الأزمة والنزاعات بما يجعلها تصب في النهاية لصالحهم.

تحاول المجلة على ضعفها الشديد أن تغرس بذرة في عالم الوصل بين التفكير والتطبيق، بين العلم والعمل..

وكما قلنا ونكرر: الثغور كلها فارغة، والأمة بحاجة إلى كل مجهود.. وكل صاحب خبرة في مجال يمكنه أن يوظف خبرته في صالح هذه الأمة:

فالإعلامي يعلمنا كيف يكون الخطاب وكيف يكون التوجيه وكيف هو علم نفس الجماهير وكيف هي الوسائل التي يمكن للمستضعفين استثمارها وكيف يكون إعلام المقاومة وكيف ينبغي أن يكون الإعلامي المقاوم... إلخ!

والقانوني يعلمنا كيف يكون تنظيم شأن الناس وإدارة الخلافات في لحظات الفوضى وصناعة القضاة وتأهليهم وضمان استقلالهم عن الأمراء والأجناد؛ بل ضمان خضوع أولئك لحكم الشريعة فيهم وفض النزاعات بينهم.. ثم كيف تسوق قضايانا في المحاكم المحلية والدولية.. إلخ!

وقل مثل هذا عن كل شخص، عن علماء الشرع والمختصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ والأمن والإدارة والعسكرية... إلخ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لتحميل أعداد المجلة والكُتيبات التي صدرت معها:
http://bit.ly/2Rv0LDS
‏١٤‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:٤٧ م‏
حالات التمرد داخل الجيش المصري (2) محمود جمال [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] ذكرنا في المقال السابق محاولات التمرد التي وقعت في الجيش المصري، وفي هذا المقال نتابع محاولات التغيير السلمية، التي تراوحت بين محاولات فكرية أو تظاهرات واعتصامات أو الترشح لانتخابات الرئاسة. 1- الفريق سعد الدين الشاذلي يعده الكثيرون من الأصوات الإصلاحية داخل الجيش، وأنه أراد أن تكون حرب أكتوبر حرب تحرير لا حرب تحريك كما أرادها السادات، ثم معارضته لكامب ديفيد التي غيرت عقيدة الجيش المصري تجاه إسرائيل، وقد اتهم الشاذليُّ السادات بالتسبب في الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث. وما إن عاد الشاذلي إلى مصر بعد 14 سنة من منفاه بالجزائر (مساء 14 مارس 1992م) حتى سُجِن في السجن الحربي، وسُحبت منه جميع الأوسمة والنياشين، وذلك تنفيذاً لحكم محكمة عسكرية بتهمة نشر كتاب دون موافقة مسبقة، وإفشاء أسرار عسكرية، وهذه التهمة هي التي نفاها الشاذلي بشدة، وطالب أن يُحاكم محاكمة علنية، إلا أن طلبه قوبل بالرفض. قضى الشاذلي سنة ونصف السنة ثم أفرج عنه (أكتوبر 1993م) بعفو عام، وعاش منعزلاً في قريته، وخصص أرضاً كوقف للإنفاق على مسجد، وقضى بقية حياته كخبير استراتيجي يحلل ويكتب ما يدور على الساحة. 2- المشير الجمسي كان رئيسَ هيئة العمليات في حرب أكتوبر، ثم وزيراً للحربية (1974 – 1978م)، وقد شهد الجمسي حرب فلسطين 1948 وشارك في حربي 1956، 1967. كتب الجمسي مذكراته "خواطر مقاتل ساهم في حرب أكتوبر 1973" بعد وفاة السادات، وكشفت مذكراته مدى الخلاف القائم بينه وبين السادات، وأوضح كيف عملت القيادات العسكرية على تغيير عقيدة الجيش المصري، وكيف سعى السادات لإخراجه من القيادة العسكرية بسبب أفكاره هذه . 3- المشير محمد أبو غزالة يراه الكثيرون رمز العسكرية المصرية، لما يثار من سعيه الاستغناء عن المعونات الخارجية للجيش المصري وإنشاء منظومة تسليحية خاصة، وحرصه على إحداث طفرة تصنيعية داخل الجيش المصري، فضلاً عن كونه ممن يعد إسرائيل عدواً استراتيجياً للشعب، ويقال إنه كان يحاول كبح جماح مبارك عن التقارب مع إسرائيل، وهو ما أدى إلى إبعاده من الجيش (1989م) تلبية لرغبة أمريكا، التي أغضبتها سياساته ومحاولاته الوصول إلى تدخل في صناعة الصواريخ المتقدمة. يشبهه البعض بالمشير عبد الحكيم عامر في قوته ونديته لمبارك، ولتمتع أبو غزالة بشعبية كبيرة داخل أجهزة الدولة، فضلاً عن شعبيته في صفوف الجيش، حتى إن مبارك لم يعد رئيساً حقاً إلا بعد استبعاد أبو غزالة من الجيش. كتب أبو غزالة كتابه الأول "وانطلقت المدافع وقت الظهيرة.. المدفعية المصرية من خلال حرب رمضان"، وشرح فيه دور المدفعية المصرية في حرب أكتوبر، وكشف في كلماته عن نظرته وعقيدته نحو إسرائيل، ومن ذلك قوله: "الخطر الصهيوني ليس موجهاً لدولة عربية بالذات وإنما هو خطر يهدد كيان الأمة العربية كلها" ، وكشف غير مرة عن أنه ضد التطبيع العسكري مع إسرائيل، وضد أي علاقة تقام مع ذلك الكيان. 4- الضباط وثورة يناير شارك عدد قليل من الضباط في ثورة 25 يناير 2001م، من أبرزهم: الرائد أحمد شومان الذي أعلن انضمامه إلى الثوار في ميدان التحرير، وهو أول ضابط بالجيش ينضم للثورة، وتكرر نقده للحكم العسكري، وطالب المجلس العسكري بالتخلي عن السلطة للمدنيين. وعبر عن موقفه بأنه أقسم الولاء لجمهورية مصر وليس لأي أحد آخر، وأنه يتشرف أن يكون مع المتظاهرين ولو كانت بزته العسكرية ستمنعه من أداء واجبه فسيخلعها. وأطلق نداء لسامي عنان (رئيس الأركان وقتها) أن يتدخل لعزل مبارك، وندد بعمر سليمان (نائب مبارك وقتها) أنه لم يفعل شيئاً وقت أن كان رئيس جهاز الأمن القومي المصري حين تسربت أموال مصر إلى البنوك السويسرية . فيما بعد قضت المحكمة العسكرية بسجنه ست سنوات وتأخيره في الأقدمية العسكرية. ومنهم العقيد المتقاعد هاني شرف، الذي قال بأنه اعتقل في أول مجموعة في الفترة ما بين (9 أبريل - 22 أبريل 2011م) وهي التي عرفت بمجموعة ضباط 8 إبريل، ثم اعتقل مع ثلاثة آخرين (26 مايو2011م) مع المجموعة التي عرفت باسم مجموعة ضباط 27 مايو. وهذا بخلاف المجموعة التي شاركت في أحداث محمد محمود الأولى وسُميت مجموعة 20 نوفمبر. ولكن أفرج عن شرف (2012م) بقرار من وزير الدفاع وقتها محمد حسين طنطاوي . ذكر شرف أن عدد الضباط الذين اشتركوا في ثورة يناير 29 ضابطاً، بالإضافة إلى مقدم يُدعى أيمن أحمد سالم، اعتقل قبل الثورة مباشرة بسبب مطالبته الشعب المصري بالثورة على نظام "مبارك"، ودعوته على صفحته في "فيسبوك" وبين أصدقائه وزملائه إلى الخروج في كل جمعة للتظاهر لإسقاط الرئيس حسني مبارك. والمقدم أيمن أحمد سالم، وهو ضابط مهندس بالقوات المسلحة المصرية وكان يعمل بالمخابرات الحربية وكان قد كتب علي موقعه الشخصي رسالة موجهه للشعب المصري يدعوه فيها للخروج لإسقاط النظام، وذلك بتاريخ 3 ديسمبر 2010 أي قبل اندلاع الثورة بشهرين، وبعدها اختفي في ظروف غامضه . 5- ضباط 8 إبريل مجموعة من 21 ضابطًا شاركوا في تظاهرات جمعة 8 أبريل 2011 بزيهم العسكري، ضمن شعور عام بأن المجلس العسكري يتلاعب بالثورة، ويتعمد تصفيتها ، ثم ألقي القبض عليهم في فض عنيف لاعتصامهم مع أهالي الشهداء والآلاف من الثوار على يد قوات الشرطة العسكرية والمظلات وحكم على 13 منهم بالسجن مدة 10 سنوات، خُففت بعد ذلك من عام إلى ثلاثة أعوام. 6- نماذج التغيير القانوني والدستوري بعد انقلاب يوليو 2013م بعد الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013م) حاولت عدة قيادات عسكرية تغيير الوضع بالطرق الدستورية والقانونية، كمنافسة السيسي في انتخابات الرئاسة عامي 2014م-2018م، ولكن السيسي نكل بهم جميعاً، وزج بالعقيد أحمد قنصوه والفريق سامي عنان في السجن، وأودع الفريق أحمد شفيق قيد الإقامة الجبرية . خلاصات واستنتاجات يراقب العسكريون الأوضاع السياسية، وتتغير استجاباتهم للتحولات الجارية، خصوصاً حين تتجه السياسة إلى ما من شأنه الإضرار بالأوضاع العامة أو مزاياهم الخاصة التي يتمتعون بها. بالرغم من كون عبد الناصر ومجموعته رسخوا أصول الحكم العسكري، وصنعوا عقيدة لدى العسكريين بأن مصر لا يصلح لها إلا العسكر، وبالرغم من امتيازات العسكريين الهائلة التي بلغت ذروتها في عصر السيسي؛ إذ حقق العسكريون هيمنة على كل المجالات، مع كل هذا فقد بقيت مجموعات ترى أنه ينبغي تسليم الحكم للمدنيين والعودة لحماية الحدود. وبناء عليه فقد استفزت سياسات السيسي –وخصوصاً تغيير العقيدة الوطنية المصرية والتقارب غير المسبوق مع إسرائيل، والتنازل عن بعض أراضي الوطن، والتنكيل العام بالشعب- مجموعة من العسكريين، إلا أن السيسي قد نجح في إحباط تلك المحاولات إلى الآن. يرى البعض أن الانقلابات العسكرية في مصر لا تنجح إلا ضد المدنيين، مثل انقلاب يوليو 1952 وانقلاب يوليو 2013، وذلك أن الحاكم العسكري يتحسب جيداً ويحتاط من محاولات انقلابية، ومن ذلك إنشاء السيسي لقوات التدخل السريع (2014م) قبيل توليه الرئاسة، وهي بمثابة القوة الخاصة التابعة له. كما أن الحاكم العسكري يعمل بعنف وقوة ضد أي معارضة محتملة داخل الجيش، مثل عبد الناصر الذي صفى كل رفاقه في مجلس قيادة الثورة، ومثل السيسي الذي استبعد وحاكم مئات العسكريين من أعلى الهرم (المجلس الأعلى) وحتى صفوف الجنود، ويصف البعض تصفيته 36 عضواً بالمجلس العسكري بأنه انقلاب داخل الانقلاب ليتاح له الانفراد بالحكم. تنوعت المحاولات العسكرية الفاشلة للانقلاب على السيسي، لكن يرى البعض أنه حتى لو نجحت محاولة ما فإن التغيير لن يكون جذرياً، ولن يكون في صالح تصحيح العلاقات المدنية العسكرية التي تقضي بعودة الجيش لحماية الحدود، فحتى محاولات قنصوه وشفيق وعنان إنما كانت تريد حكماً عسكرياً لكن بسياسات جزئية مختلفة، ومن ثَمَّ فعلى الذين يأملون في تغيير جذري ألا يكون تعويلهم على الجيش المصري لثلاثة أسباب رئيسية: 1. السيطرة التامة للسيسي على المجلس العسكري، بإزاحة السابق وتشكيل آخر يدين له بالولاء. 2. القيود المحكمة التي تحكم حركة الضباط والقيادات الوسطى، إذ تعمل المخابرات الحربية على التصفية الدورية لمن يلوح منهم أدنى توجه مخالف لسياسات النظام، مع التدقيق الشديد في التحريات العسكرية على طلبة الكليات العسكرية، وهو التدقيق الذي يبلغ أقصى حالاته عند نهاية رتبة العقيد حيث لا يُسمح بالترقي إلا لمن كان مضمون الولاء تماماً. إذ تتولى الرتب التالية قيادة الوحدات والتشكيلات العسكرية، وإذا وصل الضابط لرتبة العميد واللواء فإنه يحصل على "بدل الولاء" الذي يبلغ مئات آلاف الجنيهات لضمان ولائهم وتوسيع مزاياهم. ولهذا فلن يوجد أمثال هشام عشماوي أو عماد عبد الحميد في صفوف الجيش، ومن ثَمَّ يضطر هؤلاء أنفسهم إلى ترك الجيش والانضمام للجماعات الجهادية. 3. الامتيازات الكبيرة التي يحصل عليها الضابط، حتى في أدنى الرتب "رتبة الملازم"، وهو ما يجعل العسكريين فئة ممتازة ومنفصلة عن عموم الشعب المصري، ويحولهم إلى جماعة وظيفية مرتبطة بالنظام وحريصة على استمراره، يضاف الي هذا قانون "معاملة كبار القادة" الذي أقره السيسي (03 يوليو 2018م)، والذي منح كبار قادة الجيش المصري الكثير من الامتيازات الشخصية . ومن هنا فعلى راغبي التغيير الجذري ألا ينتظروا ذلك من الجيش، وإن كان هذا لا ينفي وجود أصوات عسكرية ستتفهم أي محاولة لتغيير النظام، وربما دفعهم هذا للتعامل بشكل إيجابي مع تلك المحاولات، وهذا عامل مهم ستحتاجه أي حركة تغيير، إلا أن هذه الحاجة سرعان ما ستنقلب إلى تصادم في الرؤى والمسارات حول وضعية الجيش بعد التغيير. يرى آخرون أن سياسيات السيسي تنتج زيادة في شرائح الناقمين الراغبين في التغيير داخل الجيش، وأن تلك الشرائح لن تفكر في سلوك الطرق القانونية بطبيعة الحال وإنما سيفكرون في المواجهة، لا سيما وقد أعلن رأس النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً.
حالات التمرد داخل الجيش المصري (2)
محمود جمال

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

ذكرنا في المقال السابق محاولات التمرد التي وقعت في الجيش المصري، وفي هذا المقال نتابع محاولات التغيير السلمية، التي تراوحت بين محاولات فكرية أو تظاهرات واعتصامات أو الترشح لانتخابات الرئاسة.

1- الفريق سعد الدين الشاذلي
يعده الكثيرون من الأصوات الإصلاحية داخل الجيش، وأنه أراد أن تكون حرب أكتوبر حرب تحرير لا حرب تحريك كما أرادها السادات، ثم معارضته لكامب ديفيد التي غيرت عقيدة الجيش المصري تجاه إسرائيل، وقد اتهم الشاذليُّ السادات بالتسبب في الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث.

وما إن عاد الشاذلي إلى مصر بعد 14 سنة من منفاه بالجزائر (مساء 14 مارس 1992م) حتى سُجِن في السجن الحربي، وسُحبت منه جميع الأوسمة والنياشين، وذلك تنفيذاً لحكم محكمة عسكرية بتهمة نشر كتاب دون موافقة مسبقة، وإفشاء أسرار عسكرية، وهذه التهمة هي التي نفاها الشاذلي بشدة، وطالب أن يُحاكم محاكمة علنية، إلا أن طلبه قوبل بالرفض.

قضى الشاذلي سنة ونصف السنة ثم أفرج عنه (أكتوبر 1993م) بعفو عام، وعاش منعزلاً في قريته، وخصص أرضاً كوقف للإنفاق على مسجد، وقضى بقية حياته كخبير استراتيجي يحلل ويكتب ما يدور على الساحة.

2- المشير الجمسي

كان رئيسَ هيئة العمليات في حرب أكتوبر، ثم وزيراً للحربية (1974 – 1978م)، وقد شهد الجمسي حرب فلسطين 1948 وشارك في حربي 1956، 1967. كتب الجمسي مذكراته "خواطر مقاتل ساهم في حرب أكتوبر 1973" بعد وفاة السادات، وكشفت مذكراته مدى الخلاف القائم بينه وبين السادات، وأوضح كيف عملت القيادات العسكرية على تغيير عقيدة الجيش المصري، وكيف سعى السادات لإخراجه من القيادة العسكرية بسبب أفكاره هذه .

3- المشير محمد أبو غزالة

يراه الكثيرون رمز العسكرية المصرية، لما يثار من سعيه الاستغناء عن المعونات الخارجية للجيش المصري وإنشاء منظومة تسليحية خاصة، وحرصه على إحداث طفرة تصنيعية داخل الجيش المصري، فضلاً عن كونه ممن يعد إسرائيل عدواً استراتيجياً للشعب، ويقال إنه كان يحاول كبح جماح مبارك عن التقارب مع إسرائيل، وهو ما أدى إلى إبعاده من الجيش (1989م) تلبية لرغبة أمريكا، التي أغضبتها سياساته ومحاولاته الوصول إلى تدخل في صناعة الصواريخ المتقدمة.

يشبهه البعض بالمشير عبد الحكيم عامر في قوته ونديته لمبارك، ولتمتع أبو غزالة بشعبية كبيرة داخل أجهزة الدولة، فضلاً عن شعبيته في صفوف الجيش، حتى إن مبارك لم يعد رئيساً حقاً إلا بعد استبعاد أبو غزالة من الجيش.

كتب أبو غزالة كتابه الأول "وانطلقت المدافع وقت الظهيرة.. المدفعية المصرية من خلال حرب رمضان"، وشرح فيه دور المدفعية المصرية في حرب أكتوبر، وكشف في كلماته عن نظرته وعقيدته نحو إسرائيل، ومن ذلك قوله: "الخطر الصهيوني ليس موجهاً لدولة عربية بالذات وإنما هو خطر يهدد كيان الأمة العربية كلها" ، وكشف غير مرة عن أنه ضد التطبيع العسكري مع إسرائيل، وضد أي علاقة تقام مع ذلك الكيان.

4- الضباط وثورة يناير

شارك عدد قليل من الضباط في ثورة 25 يناير 2001م، من أبرزهم: الرائد أحمد شومان الذي أعلن انضمامه إلى الثوار في ميدان التحرير، وهو أول ضابط بالجيش ينضم للثورة، وتكرر نقده للحكم العسكري، وطالب المجلس العسكري بالتخلي عن السلطة للمدنيين. وعبر عن موقفه بأنه أقسم الولاء لجمهورية مصر وليس لأي أحد آخر، وأنه يتشرف أن يكون مع المتظاهرين ولو كانت بزته العسكرية ستمنعه من أداء واجبه فسيخلعها. وأطلق نداء لسامي عنان (رئيس الأركان وقتها) أن يتدخل لعزل مبارك، وندد بعمر سليمان (نائب مبارك وقتها) أنه لم يفعل شيئاً وقت أن كان رئيس جهاز الأمن القومي المصري حين تسربت أموال مصر إلى البنوك السويسرية . فيما بعد قضت المحكمة العسكرية بسجنه ست سنوات وتأخيره في الأقدمية العسكرية.

ومنهم العقيد المتقاعد هاني شرف، الذي قال بأنه اعتقل في أول مجموعة في الفترة ما بين (9 أبريل - 22 أبريل 2011م) وهي التي عرفت بمجموعة ضباط 8 إبريل، ثم اعتقل مع ثلاثة آخرين (26 مايو2011م) مع المجموعة التي عرفت باسم مجموعة ضباط 27 مايو. وهذا بخلاف المجموعة التي شاركت في أحداث محمد محمود الأولى وسُميت مجموعة 20 نوفمبر. ولكن أفرج عن شرف (2012م) بقرار من وزير الدفاع وقتها محمد حسين طنطاوي .

ذكر شرف أن عدد الضباط الذين اشتركوا في ثورة يناير 29 ضابطاً، بالإضافة إلى مقدم يُدعى أيمن أحمد سالم، اعتقل قبل الثورة مباشرة بسبب مطالبته الشعب المصري بالثورة على نظام "مبارك"، ودعوته على صفحته في "فيسبوك" وبين أصدقائه وزملائه إلى الخروج في كل جمعة للتظاهر لإسقاط الرئيس حسني مبارك. والمقدم أيمن أحمد سالم، وهو ضابط مهندس بالقوات المسلحة المصرية وكان يعمل بالمخابرات الحربية وكان قد كتب علي موقعه الشخصي رسالة موجهه للشعب المصري يدعوه فيها للخروج لإسقاط النظام، وذلك بتاريخ 3 ديسمبر 2010 أي قبل اندلاع الثورة بشهرين، وبعدها اختفي في ظروف غامضه .

5- ضباط 8 إبريل

مجموعة من 21 ضابطًا شاركوا في تظاهرات جمعة 8 أبريل 2011 بزيهم العسكري، ضمن شعور عام بأن المجلس العسكري يتلاعب بالثورة، ويتعمد تصفيتها ، ثم ألقي القبض عليهم في فض عنيف لاعتصامهم مع أهالي الشهداء والآلاف من الثوار على يد قوات الشرطة العسكرية والمظلات وحكم على 13 منهم بالسجن مدة 10 سنوات، خُففت بعد ذلك من عام إلى ثلاثة أعوام.

6- نماذج التغيير القانوني والدستوري بعد انقلاب يوليو 2013م

بعد الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013م) حاولت عدة قيادات عسكرية تغيير الوضع بالطرق الدستورية والقانونية، كمنافسة السيسي في انتخابات الرئاسة عامي 2014م-2018م، ولكن السيسي نكل بهم جميعاً، وزج بالعقيد أحمد قنصوه والفريق سامي عنان في السجن، وأودع الفريق أحمد شفيق قيد الإقامة الجبرية .

خلاصات واستنتاجات

يراقب العسكريون الأوضاع السياسية، وتتغير استجاباتهم للتحولات الجارية، خصوصاً حين تتجه السياسة إلى ما من شأنه الإضرار بالأوضاع العامة أو مزاياهم الخاصة التي يتمتعون بها.

بالرغم من كون عبد الناصر ومجموعته رسخوا أصول الحكم العسكري، وصنعوا عقيدة لدى العسكريين بأن مصر لا يصلح لها إلا العسكر، وبالرغم من امتيازات العسكريين الهائلة التي بلغت ذروتها في عصر السيسي؛ إذ حقق العسكريون هيمنة على كل المجالات، مع كل هذا فقد بقيت مجموعات ترى أنه ينبغي تسليم الحكم للمدنيين والعودة لحماية الحدود.

وبناء عليه فقد استفزت سياسات السيسي –وخصوصاً تغيير العقيدة الوطنية المصرية والتقارب غير المسبوق مع إسرائيل، والتنازل عن بعض أراضي الوطن، والتنكيل العام بالشعب- مجموعة من العسكريين، إلا أن السيسي قد نجح في إحباط تلك المحاولات إلى الآن.

يرى البعض أن الانقلابات العسكرية في مصر لا تنجح إلا ضد المدنيين، مثل انقلاب يوليو 1952 وانقلاب يوليو 2013، وذلك أن الحاكم العسكري يتحسب جيداً ويحتاط من محاولات انقلابية، ومن ذلك إنشاء السيسي لقوات التدخل السريع (2014م) قبيل توليه الرئاسة، وهي بمثابة القوة الخاصة التابعة له. كما أن الحاكم العسكري يعمل بعنف وقوة ضد أي معارضة محتملة داخل الجيش، مثل عبد الناصر الذي صفى كل رفاقه في مجلس قيادة الثورة، ومثل السيسي الذي استبعد وحاكم مئات العسكريين من أعلى الهرم (المجلس الأعلى) وحتى صفوف الجنود، ويصف البعض تصفيته 36 عضواً بالمجلس العسكري بأنه انقلاب داخل الانقلاب ليتاح له الانفراد بالحكم.

تنوعت المحاولات العسكرية الفاشلة للانقلاب على السيسي، لكن يرى البعض أنه حتى لو نجحت محاولة ما فإن التغيير لن يكون جذرياً، ولن يكون في صالح تصحيح العلاقات المدنية العسكرية التي تقضي بعودة الجيش لحماية الحدود، فحتى محاولات قنصوه وشفيق وعنان إنما كانت تريد حكماً عسكرياً لكن بسياسات جزئية مختلفة، ومن ثَمَّ فعلى الذين يأملون في تغيير جذري ألا يكون تعويلهم على الجيش المصري لثلاثة أسباب رئيسية:

1. السيطرة التامة للسيسي على المجلس العسكري، بإزاحة السابق وتشكيل آخر يدين له بالولاء.

2. القيود المحكمة التي تحكم حركة الضباط والقيادات الوسطى، إذ تعمل المخابرات الحربية على التصفية الدورية لمن يلوح منهم أدنى توجه مخالف لسياسات النظام، مع التدقيق الشديد في التحريات العسكرية على طلبة الكليات العسكرية، وهو التدقيق الذي يبلغ أقصى حالاته عند نهاية رتبة العقيد حيث لا يُسمح بالترقي إلا لمن كان مضمون الولاء تماماً. إذ تتولى الرتب التالية قيادة الوحدات والتشكيلات العسكرية، وإذا وصل الضابط لرتبة العميد واللواء فإنه يحصل على "بدل الولاء" الذي يبلغ مئات آلاف الجنيهات لضمان ولائهم وتوسيع مزاياهم. ولهذا فلن يوجد أمثال هشام عشماوي أو عماد عبد الحميد في صفوف الجيش، ومن ثَمَّ يضطر هؤلاء أنفسهم إلى ترك الجيش والانضمام للجماعات الجهادية.

3. الامتيازات الكبيرة التي يحصل عليها الضابط، حتى في أدنى الرتب "رتبة الملازم"، وهو ما يجعل العسكريين فئة ممتازة ومنفصلة عن عموم الشعب المصري، ويحولهم إلى جماعة وظيفية مرتبطة بالنظام وحريصة على استمراره، يضاف الي هذا قانون "معاملة كبار القادة" الذي أقره السيسي (03 يوليو 2018م)، والذي منح كبار قادة الجيش المصري الكثير من الامتيازات الشخصية .

ومن هنا فعلى راغبي التغيير الجذري ألا ينتظروا ذلك من الجيش، وإن كان هذا لا ينفي وجود أصوات عسكرية ستتفهم أي محاولة لتغيير النظام، وربما دفعهم هذا للتعامل بشكل إيجابي مع تلك المحاولات، وهذا عامل مهم ستحتاجه أي حركة تغيير، إلا أن هذه الحاجة سرعان ما ستنقلب إلى تصادم في الرؤى والمسارات حول وضعية الجيش بعد التغيير.

يرى آخرون أن سياسيات السيسي تنتج زيادة في شرائح الناقمين الراغبين في التغيير داخل الجيش، وأن تلك الشرائح لن تفكر في سلوك الطرق القانونية بطبيعة الحال وإنما سيفكرون في المواجهة، لا سيما وقد أعلن رأس النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً.
‏١٤‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:١٠ م‏
لماذا صمدت طالبان؟ كرم الحفيان [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] مقدمة مع بداية عام 2019م عادت القضية الأفغانية لصدارة نشرات الأخبار العالمية عقب دخول الأمريكان في مفاوضات مباشرة مع حركة طالبان، بغية الوصول لاتفاقية تخرج بموجبها القوات الأمريكية من أفغانستان إثر فشلها في إنهاء أو حتى إخضاع مقاومة طالبان خلال سبعة عشرعاماً مضت، في واحدة من أطول الحروب التي انخرطت فيها الإدارة الأمريكية مع من احتلتهم. ما يهمنا في هذه المقالة هو محاولة استشفاف أسباب تماسك حركة طالبان بل وتصاعد قوتها رغم شراسة الحرب عليها، وذلك عبر الإضاءة على الجذورالتاريخية والتركيبة الفكرية الاجتماعية للحركة، والخصائص الشخصية للقادة، بالإضافة إلى مقاربة حقيقة مشروعها السياسي. بدايةً لا بد من تصحيح المعلومة الإعلامية الشائعة عن نشأة طالبان عام 1994م، فقد ذكر الملا عبد السلام ضعيف أحد مؤسسي طالبان الأحياء أن الحركة كانت موجودة قبل ذلك بعقود، في صورة حركة علمية يرتاد منتسبوها المدارس الدينية التقليدية ويتدرجون في تلقي العلوم الشرعية، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى أن ينهوا دراساتهم العليا ويحصلوا على لقب مولوي (عالم). هذه الحركة كانت تتسم بالسلبية السياسية كغالب التيارات العلمية المعاصرة فتتفادى المشاركة السياسية بشقيها السلمي والمسلح، إلا أن أحداثاً كتهديدها من قبل الحكومة الشيوعية في نهاية السبعينيات، ثم احتلال السوفييت لأفغانستان، وأخيراً انتشارالجرائم وتهديد أمن المجتمع في زمن اقتتال الأحزاب المجاهدة بعد رحيل السوفييت وسقوط الحكم الشيوعي، هذه الحوادث الثلاث استثارت حمية الطالبان ودفعتها للتحرك، وقد نتج عن تحركها الأخير صدارة المشهد السياسي (وليس فقط دخوله) منذ ربع قرن تقريباً. ومن خلال استقراء تجربة طالبان من مصادر متنوعة (أفغانية وغير أفغانية)، يمكننا أن نلخص سبب قوة وتماسك الحركة في النقاط التالية: أولا: الأرضية الفكرية الصلبة فالعلماء والفقهاء وطلبة العلم لا يشكلون عمودها الفقري فحسب، إنما هم جسم الحركة الرئيس وهو ما لا يكاد يوجد في أي حركة مجاهدة بعد رحيل الاستعمار، وهم ينتسبون للمدرسة التي تشكل الهوية الاجتماعية الدينية للأفغان: المدرسة الديوبندية الماتريدية الحنفية الصوفية، ما جعلهم يسبحون في محيطهم بأريحية. والحصانة المقصودة هنا هي الحصانة العلمية داخلياً وخارجياً، بمعنى عدم الانقسام الداخلي إلى تيارات فكرية متناحرة، وصعوبة قبول أفكار من خارج الإطار الداخلي، حصل هذا خلال جهاد السوفييت حين كانت أكبر الجماعات تتبنى فكر المودودي، وتكرر بصورة أوضح مع القاعدة، فعلى الرغم من وجود أكبر رموزها في أفغانستان لم ينتشر فكرها، في حين انتشر و ساد في غالب الساحات الجهادية بعد دوي أحداث سبتمبر، وكذلك الأمر مع بروز تنظيم الدولة بعد إعلانه للخلافة. ثانياً: الشخصيات القيادية المميزة ويتجسد هذا التميز في ثلاث صفات محورية: الزهد والانتماء والروح القتالية، فحتى بعد وصول طالبان للسلطة كان الكثير من وزرائها يعملون في مكاتبهم إلى أن ينتهي الدوام، ثم يمتشقون أسلحتهم ويتوجهون إلى جبهات الرباط. وظلت بيوت قادة الحركة وكبار المسؤولين في "الإمارة الإسلامية" وطريقة حياتهم تتسم بالبساطة والتقشف. لعل هذا من آثار طرق التربية الروحية والسلوكية التي تلقوها في معاهدهم الديوبندية. أما عن الانتماء للحركة فخيرما يستدل به عليه هو فشل المساعي الأمريكية (خلال سنوات طويلة ورغم ممارستها ضغوطات ومغريات كثيرة) في تقسيم الحركة إلى معتدلين ومتشددين. ثالثاً: العصبية العرقية الحاضنة نظراً لأن انطلاقة الحركة كانت من جنوب أفغانستان وتحديداً من محافظة قندهار، فإن قادة الحركة وخزانها البشري وحاضنتها الرئيسية كانوا من العرق البشتوني (60 %من الشعب الأفغاني) المنتشر في جنوب وشرق أفغانستان وصولاً إلى الحدود الباكستانية، التي تقطن خلفها قبائل البشتون الباكستانية البالغ عددها عشرين مليوناً أو ما يقارب 10 % من مجموع السكان. في مناطق القبائل تكاد تختفي سلطة الحكومة الباكستانية ونفوذها، ولطالما شكلت هذه المناطق ملاذاً آمناً لإعادة ترتيب صفوف المجاهدين الأفغان في أحلك الظروف التي مروا بها، سواءً في حقبة السوفييت أو في زمن جهاد الأمريكان. إلا أن التحدي الأخطرالذي واجه ويواجه طالبان، هو إزالة آثار الصراعات المتراكمة بين البشتون الذي تنتمي لهم، وبين الأعراق الأفغانية الأخرى كالأوزبك والطاجيك وغيرهم من أبناء الشمال. رابعاً: المشروع والعلاقات السياسية منذ أن سيطرت طالبان على العاصمة كابول 1996م وإلى يومنا هذا، تصر الحركة على أن مشروعها أفغاني وطني وليس مشروعاً أممياً. ففي مرحلة حكمها طرحت نفسها كممثل سياسي وحيد عن الأفغان وسعت لنيل اعتراف دولي بذلك. وبعد الغزو الأمريكي قدمت نفسها كقائد المقاومة الأفغانية ونجحت مؤخراً في كسب اعتراف سياسي هام من روسيا والصين. أما عن العلاقات الخارجية، ففي جميع مراحلها (في الحكم والمقاومة)، حرصت الحركة على استجلاب الدعم الخارجي، وطمأنة جيرانها وجميع دول العالم أنها لا تشكل خطراً عليهم، ولا تسمح لأحد باستخدام أراضيها لتنفيذ هجمات خارجية (قال هذا الملا عمر شخصياً لسفير الصين بعد استفسار الأخير عن دعم طالبان لتركستان في قتالها الحكومة الصينية) وأنها تطمح لإقامات علاقات ودية مع الجميع، ذات الأمر قيل للأمريكان سابقاً ويقال لهم حالياً بشرط إنهاء الاحتلال، أما عن إيوائها للقاعدة وعلاقتها بها وبالجهاد العالمي، فالأمر بحاجة لمقال مستقل لتفاصيله وملابساته الكثيرة، ومن أراد الرواية الطالبانية فعليه بكتاب "حياتي مع طالبان" للملا عبد السلام ضعيف أحد أبرز قيادات الحركة. خاتمة الانتصارات الأخيرة لطالبان واقترابها من تحريرأفغانستان بعد هزيمة أمريكا عسكرياً أمرٌ يفرح كل مؤمن، ويبث الأمل في قلب كل مستضعف. ولا شك أن لثباتها وصمودها طوال 17 عاماً خلت عوامل كثيرة، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي. فالأرضية الفكرية الصلبة شكلت صمام الأمان أمام الانشقاقات الداخلية، والشخصيات القيادية المميزة بصفات الزهد والانتماء والروح الفدائية ثبتت كيان الحركة، والعصبية العرقية الكبيرة الحاضنة للحركة في معاقلها بأفغانستان وفي ملاذاتها بباكستان أنقذتها في مهب المعركة، والإصرارعلى عدم عولمة مشروعها السياسي واللعب على التناقضات الدولية والإقليمية أسهما بشكل كبير في استمرار وجودها وزخمها وانتصاراتها السياسية بجانب العسكرية.
لماذا صمدت طالبان؟
كرم الحفيان

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

مقدمة

مع بداية عام 2019م عادت القضية الأفغانية لصدارة نشرات الأخبار العالمية عقب دخول الأمريكان في مفاوضات مباشرة مع حركة طالبان، بغية الوصول لاتفاقية تخرج بموجبها القوات الأمريكية من أفغانستان إثر فشلها في إنهاء أو حتى إخضاع مقاومة طالبان خلال سبعة عشرعاماً مضت، في واحدة من أطول الحروب التي انخرطت فيها الإدارة الأمريكية مع من احتلتهم.

ما يهمنا في هذه المقالة هو محاولة استشفاف أسباب تماسك حركة طالبان بل وتصاعد قوتها رغم شراسة الحرب عليها، وذلك عبر الإضاءة على الجذورالتاريخية والتركيبة الفكرية الاجتماعية للحركة، والخصائص الشخصية للقادة، بالإضافة إلى مقاربة حقيقة مشروعها السياسي.

بدايةً لا بد من تصحيح المعلومة الإعلامية الشائعة عن نشأة طالبان عام 1994م، فقد ذكر الملا عبد السلام ضعيف أحد مؤسسي طالبان الأحياء أن الحركة كانت موجودة قبل ذلك بعقود، في صورة حركة علمية يرتاد منتسبوها المدارس الدينية التقليدية ويتدرجون في تلقي العلوم الشرعية، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى أن ينهوا دراساتهم العليا ويحصلوا على لقب مولوي (عالم).

هذه الحركة كانت تتسم بالسلبية السياسية كغالب التيارات العلمية المعاصرة فتتفادى المشاركة السياسية بشقيها السلمي والمسلح، إلا أن أحداثاً كتهديدها من قبل الحكومة الشيوعية في نهاية السبعينيات، ثم احتلال السوفييت لأفغانستان، وأخيراً انتشارالجرائم وتهديد أمن المجتمع في زمن اقتتال الأحزاب المجاهدة بعد رحيل السوفييت وسقوط الحكم الشيوعي، هذه الحوادث الثلاث استثارت حمية الطالبان ودفعتها للتحرك، وقد نتج عن تحركها الأخير صدارة المشهد السياسي (وليس فقط دخوله) منذ ربع قرن تقريباً.

ومن خلال استقراء تجربة طالبان من مصادر متنوعة (أفغانية وغير أفغانية)، يمكننا أن نلخص سبب قوة وتماسك الحركة في النقاط التالية:

أولا: الأرضية الفكرية الصلبة

فالعلماء والفقهاء وطلبة العلم لا يشكلون عمودها الفقري فحسب، إنما هم جسم الحركة الرئيس وهو ما لا يكاد يوجد في أي حركة مجاهدة بعد رحيل الاستعمار، وهم ينتسبون للمدرسة التي تشكل الهوية الاجتماعية الدينية للأفغان: المدرسة الديوبندية الماتريدية الحنفية الصوفية، ما جعلهم يسبحون في محيطهم بأريحية.

والحصانة المقصودة هنا هي الحصانة العلمية داخلياً وخارجياً، بمعنى عدم الانقسام الداخلي إلى تيارات فكرية متناحرة، وصعوبة قبول أفكار من خارج الإطار الداخلي، حصل هذا خلال جهاد السوفييت حين كانت أكبر الجماعات تتبنى فكر المودودي، وتكرر بصورة أوضح مع القاعدة، فعلى الرغم من وجود أكبر رموزها في أفغانستان لم ينتشر فكرها، في حين انتشر و ساد في غالب الساحات الجهادية بعد دوي أحداث سبتمبر، وكذلك الأمر مع بروز تنظيم الدولة بعد إعلانه للخلافة.

ثانياً: الشخصيات القيادية المميزة

ويتجسد هذا التميز في ثلاث صفات محورية: الزهد والانتماء والروح القتالية، فحتى بعد وصول طالبان للسلطة كان الكثير من وزرائها يعملون في مكاتبهم إلى أن ينتهي الدوام، ثم يمتشقون أسلحتهم ويتوجهون إلى جبهات الرباط. وظلت بيوت قادة الحركة وكبار المسؤولين في "الإمارة الإسلامية" وطريقة حياتهم تتسم بالبساطة والتقشف. لعل هذا من آثار طرق التربية الروحية والسلوكية التي تلقوها في معاهدهم الديوبندية.

أما عن الانتماء للحركة فخيرما يستدل به عليه هو فشل المساعي الأمريكية (خلال سنوات طويلة ورغم ممارستها ضغوطات ومغريات كثيرة) في تقسيم الحركة إلى معتدلين ومتشددين.

ثالثاً: العصبية العرقية الحاضنة

نظراً لأن انطلاقة الحركة كانت من جنوب أفغانستان وتحديداً من محافظة قندهار، فإن قادة الحركة وخزانها البشري وحاضنتها الرئيسية كانوا من العرق البشتوني (60 %من الشعب الأفغاني) المنتشر في جنوب وشرق أفغانستان وصولاً إلى الحدود الباكستانية، التي تقطن خلفها قبائل البشتون الباكستانية البالغ عددها عشرين مليوناً أو ما يقارب 10 % من مجموع السكان.

في مناطق القبائل تكاد تختفي سلطة الحكومة الباكستانية ونفوذها، ولطالما شكلت هذه المناطق ملاذاً آمناً لإعادة ترتيب صفوف المجاهدين الأفغان في أحلك الظروف التي مروا بها، سواءً في حقبة السوفييت أو في زمن جهاد الأمريكان.

إلا أن التحدي الأخطرالذي واجه ويواجه طالبان، هو إزالة آثار الصراعات المتراكمة بين البشتون الذي تنتمي لهم، وبين الأعراق الأفغانية الأخرى كالأوزبك والطاجيك وغيرهم من أبناء الشمال.

رابعاً: المشروع والعلاقات السياسية

منذ أن سيطرت طالبان على العاصمة كابول 1996م وإلى يومنا هذا، تصر الحركة على أن مشروعها أفغاني وطني وليس مشروعاً أممياً. ففي مرحلة حكمها طرحت نفسها كممثل سياسي وحيد عن الأفغان وسعت لنيل اعتراف دولي بذلك. وبعد الغزو الأمريكي قدمت نفسها كقائد المقاومة الأفغانية ونجحت مؤخراً في كسب اعتراف سياسي هام من روسيا والصين.

أما عن العلاقات الخارجية، ففي جميع مراحلها (في الحكم والمقاومة)، حرصت الحركة على استجلاب الدعم الخارجي، وطمأنة جيرانها وجميع دول العالم أنها لا تشكل خطراً عليهم، ولا تسمح لأحد باستخدام أراضيها لتنفيذ هجمات خارجية (قال هذا الملا عمر شخصياً لسفير الصين بعد استفسار الأخير عن دعم طالبان لتركستان في قتالها الحكومة الصينية) وأنها تطمح لإقامات علاقات ودية مع الجميع، ذات الأمر قيل للأمريكان سابقاً ويقال لهم حالياً بشرط إنهاء الاحتلال، أما عن إيوائها للقاعدة وعلاقتها بها وبالجهاد العالمي، فالأمر بحاجة لمقال مستقل لتفاصيله وملابساته الكثيرة، ومن أراد الرواية الطالبانية فعليه بكتاب "حياتي مع طالبان" للملا عبد السلام ضعيف أحد أبرز قيادات الحركة.

خاتمة

الانتصارات الأخيرة لطالبان واقترابها من تحريرأفغانستان بعد هزيمة أمريكا عسكرياً أمرٌ يفرح كل مؤمن، ويبث الأمل في قلب كل مستضعف. ولا شك أن لثباتها وصمودها طوال 17 عاماً خلت عوامل كثيرة، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي.
فالأرضية الفكرية الصلبة شكلت صمام الأمان أمام الانشقاقات الداخلية، والشخصيات القيادية المميزة بصفات الزهد والانتماء والروح الفدائية ثبتت كيان الحركة، والعصبية العرقية الكبيرة الحاضنة للحركة في معاقلها بأفغانستان وفي ملاذاتها بباكستان أنقذتها في مهب المعركة، والإصرارعلى عدم عولمة مشروعها السياسي واللعب على التناقضات الدولية والإقليمية أسهما بشكل كبير في استمرار وجودها وزخمها وانتصاراتها السياسية بجانب العسكرية.
‏١١‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:٥٩ م‏
كيف أطاحت غزة بأعتى قادة العدو؟! أحمد قنيطة [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] مستمرةٌ هي التداعيات الكبيرة المترتبة على العملية الأمنية التي نفذها جيش الاحتلال شرق خانيونس، فلم يكد المجتمع الصهيوني يصحو من صدمة انهيار حكومته بعد استقالة وزير حربه "أفيغدور ليبرمان" وحزبه من الحكومة، وهو الذي كان قد وعدهم بتصفية قادة المقاومة فور استلامه لمنصبه، حتى نزل عليهم كالصاعقة خبر استقالة قائد وحدة الـ "سييرت متكال" الملقب بالرمز "خ"، -وهي الوحدة الأكثر سرّية في الجيش الصهيوني- إثر فشلها في تنفيذ العملية الأمنية المعقّدة شرق خانيونس، وذلك بُعيد اكتشاف تحركاتها من قبل مجاهدي كتائب القسام، ثم الاشتباك معها وقتل أحد أهم قادتها وإصابة آخرين، وهو ضابطٌ برتبة مقدّم وصفه ليبرمان عبر حسابه على تويتر بقوله: "إن "إسرائيل" خسرت مقاتلاً متعدد المهمات، وسيبقى إسهامه في أمن الدولة السرية لعدة سنوات قادمة"، فيما وصفه نتنياهو قائلاً: "المقدم "م" الذي قتل في خانيونس مقاتلٌ باسل، ستُكشف أعماله البطولية في يوم ما". فما هي وحد (السييرت متكال) وما المهام الموكلة إليها؟ (سييرت متكال) هي الوحدة العسكرية الأكثر نخبوية في جيش الاحتلال، وتتبع مباشرة لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، هدفها الأساسي القيام بجمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختطاف واغتيال وزرع منظومات تجسس لدى "الجهات المعادية" للكيان الصهيوني، ومن بين الشخصيات العسكرية البارزة الذين قادوا هذه الوحدة وتخرّجوا منها: إيهود باراك "وزير الحرب الأسبق"، وبنيامين نتنياهو "رئيس الوزراء الحالي"، وشاؤول موفاز وموشيه يعلون "رئيسا هيئة الأركان العامة ووزيرا الحرب سابقا" وغيرهم من كبار قادة العدو. يروي وزير الحرب الصهيوني السابق إيهود باراك، أن الوحدة نفذت عدداً من العمليات الاستخبارية التي تركت تأثيراً استراتيجياً على مسار المواجهة مع مصر تحديداً، وتمكنت في حرب عام 1973م من اختراق شبكة الاتصالات التي يستخدمها الجيش المصري، بشكل مكّن "إسرائيل" من التعرف على طابع التعليمات التي تصدر عن المستويات القيادية المصرية". ضربة جديدة توجهها غزة المُحاصَرة - بل المُحاصِرة- لمخططات العدو الأمنية والعسكرية ضمن معركة العقول وصراع الأدمغة، التي لم تتوقف بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الغاصب، والتي أثبتت فيها المقاومة الفلسطينية أنها خصم عنيدٌ لا يُستهان به، ويستطيع إفساد مخططات العدو، بل وتوجيه ضربات مؤلمة وقاسية لعدو يمتلك أحدث المنظومات الأمنية والتكنولوجية في العالم، برغم تواضع وضعف إمكانيات المقاومة في غزة. فلم ينسَ الغزيون بعدُ تمكّن مجاهدي القسام في شهر مايو العام الماضي من إفشال أكبر عملية تجسس على الشبكة السلكية لاتصالات المقاومة شرق المحافظة الوسطى، باكتشاف منظومة التنصت التي زرعها العدو في أحد مقاسم الاتصالات والسيطرة عليها، قبل أن يقوم العدو بتفجيرها آلياً ليرتقي على إثر ذلك 5 من خيرة مجاهدي كتائب القسام، حفظ الله بدمائهم الزكية تضحيات شعبنا وإنجازات مقاومتنا. العملية الأمنية شرق خانيونس التي نفذتها وحدة مُختارة من نخبة العدو في نوفمبر من العام الماضي، كانت تستهدف مجدداً زرع منظومة أمنية خطيرة داخل شبكة اتصالات القسام، لمحاولة سد العجز المعلوماتي الكبير الذي تعاني منه أجهزة استخبارات العدو، بعد الضربات القاسية التي وجّهتها الجهات الأمنية في غزة لشبكة العملاء، ما اضطر العدو للمغامرة بالدخول لوحل غزة والمخاطرة بأهم وحداته السرية وأكثرها حِرفيّة لتنفيذ هذه المهمة، فكانت غزة مقبرةً لهم، حيث كان يسعى العدو من خلال تلك العملية للتنصت على اتصالات المقاومة ومعرفة الخطط الدفاعية والهجومية التي أعدها المجاهدون استعداداً للمعركة القادمة، والأخطر من ذلك هو التنصت على تعليمات قيادة المقاومة للمجاهدين خلال المعركة، ما من شأنه أن يحقق للعدو تفوقاً أمنياً واستخباراتياً كبيراً في أي حرب قادمة. لأول مرة منذ 23 عام تُجبر غزة - بصمودها وثباتها - ضابطاً رفيع المستوى في جيش الاحتلال على إنهاء خدمته العسكرية وتقديم استقالته من منصبه، بسبب فشله في أداء المهام الموكلة إليه، فلقد اعتادت الوحدات الأمنية السرية التابعة للعدو الصهيوني -وعلى رأسها وحدة الـ "سيررت متكال"- على تنفيذ مهامها الأمنية في معظم دول العالم بهدوء ودون إحداث ضجيج، ليستيقظ العالم بعد ساعات من إخلاء مسرح الجريمة على عملية اغتيال أو اختطاف قائد من قادة المقاومة أو خبير من الخبراء الفلسطينيين، بعد أن تكون تلك الوحدات الأمنية الصهيونية قد غادرت البلاد، كما شاهدنا مؤخراً في عمليتي اغتيال الشهيد القسامي التونسي "محمد الزواري" مهندس طائرات الأبابيل في مدينة صفاقص التونسية، والشهيد الباحث والمخترع الفلسطيني د. فادي البطش الخبير في مجال الطاقة والهندسة الكهربائية الذي اغتيل في العاصمة الماليزية كوالالمبور. أما هذه المرة فقد كانت غزة المحروسة برعاية الله ويقظة المجاهدين هي الساحة الأخطر لعمل هذه الوحدة، التي تسللت تحت جنح الظلام في عملية أمنية مُعقّدة، سخرّ لها كيان العدو كل إمكاناته الأمنية والتكنولوجية –الهائلة- سعياً لإنجاحها، فقد تسللت الوحدة الصهيونية من إحدى المناطق الوعرة في السياج الفاصل شرق خانيونس، مستغلةً وجود الضباب الكثيف، وكانت مجهزةً بأدواتٍ متقدمة ومنظومة قيادة وسيطرة، ومعدات طوارئ، وكل ما يلزم لعمل قوة عسكرية خاصة، فكان لها مجاهدو القسام بالمرصاد وقتلوا قائد الوحدة وأصابوا آخرين واغتنموا منهم أسلحة خفيفة، والأهم من ذلك هو اغتنام منظومة القيادة والسيطرة التي وصفتها كتائب القسام بـ "الكنز المعلوماتي"، وقالت إنه سيعطيها ميزة استراتيجية على صعيد صراع العقول مع الاحتلال، ليرتقي في هذه العملية - التي أطلقت عليها كتائب القسام "حد السيف" – القائد القسامي الهُمام نور بركة وستة من مجاهدي كتائب القسام. ما تزال غزة ومقاومتها - بثبات حاضنتها الشعبية وبطولات مجاهديها - هي الصخرة الصماء التي تتحطم عليها كل المؤامرات، والعقبة الكؤود في وجه مخططات تصفية القضية الفلسطينية واحتوائها وتدجين مقاومتها الباسلة، والشوكة الصلبة في حناجر قادة العدو الذين يقفون عاجزين أمام عنفوان شعبٍ مُحاصر فشلت كل الحروب العسكرية القاسية، والاقتصادية القذرة، والأمنية الخطيرة، في كسر صموده وإرادة القتال لدى مجاهديه، هذا النموذج الذي تقدمه غزة لم يأتِ عبثاً أو محض صدفة، بل هو - بعد توفيق الله عز وجل - نتاج عملٍ دؤوبٍ وجهدٍ متواصلٍ يبذله المجاهدون على جميع الصُعُد (العسكرية والأمنية والجماهيرية والإعلامية) دون التفريط بجانب على حساب الآخر. المعركة الأمنية وملاحقة العملاء واليقظة المستمرة وإفشال مخططات العدو الاستخباراتية، لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية، كذلك فإن الاهتمام بالحاضنة الشعبية وإشراكها في تحمّل المسؤولية والرهان عليها – كما رأينا في مسيرات العودة وكسر الحصار- وتفقّد عائلات الشهداء والجرحى والفقراء برغم العجز المالي الكبير، بالتوازي مع العمل القتالي والتصعيد العسكري المنضبط بقرارات غرفة العمليات المشتركة، بالإضافة للعمل الإعلامي المميز الذي يهدف إلى ترسيخ فكرة الجهاد والمقاومة، والتحدي الصمود، ونبذ الأفكار الهدّامة التي تدعو للاستسلام وقبول الدنيّة والرضى بالحلول الدولية، كلها عوامل مهمة ساعدت المقاومة في غزة بالصمود والثبات والاستمرار في مقارعة العدو دون كللٍ أو مللٍ أو خور، حتى يقضي الله أمره بتمكين عباده المجاهدين من تحرير فلسطين وطرد الصهاينة المحتلين.
كيف أطاحت غزة بأعتى قادة العدو؟!
أحمد قنيطة

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

مستمرةٌ هي التداعيات الكبيرة المترتبة على العملية الأمنية التي نفذها جيش الاحتلال شرق خانيونس، فلم يكد المجتمع الصهيوني يصحو من صدمة انهيار حكومته بعد استقالة وزير حربه "أفيغدور ليبرمان" وحزبه من الحكومة، وهو الذي كان قد وعدهم بتصفية قادة المقاومة فور استلامه لمنصبه، حتى نزل عليهم كالصاعقة خبر استقالة قائد وحدة الـ "سييرت متكال" الملقب بالرمز "خ"، -وهي الوحدة الأكثر سرّية في الجيش الصهيوني- إثر فشلها في تنفيذ العملية الأمنية المعقّدة شرق خانيونس، وذلك بُعيد اكتشاف تحركاتها من قبل مجاهدي كتائب القسام، ثم الاشتباك معها وقتل أحد أهم قادتها وإصابة آخرين، وهو ضابطٌ برتبة مقدّم وصفه ليبرمان عبر حسابه على تويتر بقوله: "إن "إسرائيل" خسرت مقاتلاً متعدد المهمات، وسيبقى إسهامه في أمن الدولة السرية لعدة سنوات قادمة"، فيما وصفه نتنياهو قائلاً: "المقدم "م" الذي قتل في خانيونس مقاتلٌ باسل، ستُكشف أعماله البطولية في يوم ما".

فما هي وحد (السييرت متكال) وما المهام الموكلة إليها؟

(سييرت متكال) هي الوحدة العسكرية الأكثر نخبوية في جيش الاحتلال، وتتبع مباشرة لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، هدفها الأساسي القيام بجمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختطاف واغتيال وزرع منظومات تجسس لدى "الجهات المعادية" للكيان الصهيوني، ومن بين الشخصيات العسكرية البارزة الذين قادوا هذه الوحدة وتخرّجوا منها: إيهود باراك "وزير الحرب الأسبق"، وبنيامين نتنياهو "رئيس الوزراء الحالي"، وشاؤول موفاز وموشيه يعلون "رئيسا هيئة الأركان العامة ووزيرا الحرب سابقا" وغيرهم من كبار قادة العدو.

يروي وزير الحرب الصهيوني السابق إيهود باراك، أن الوحدة نفذت عدداً من العمليات الاستخبارية التي تركت تأثيراً استراتيجياً على مسار المواجهة مع مصر تحديداً، وتمكنت في حرب عام 1973م من اختراق شبكة الاتصالات التي يستخدمها الجيش المصري، بشكل مكّن "إسرائيل" من التعرف على طابع التعليمات التي تصدر عن المستويات القيادية المصرية".

ضربة جديدة توجهها غزة المُحاصَرة - بل المُحاصِرة- لمخططات العدو الأمنية والعسكرية ضمن معركة العقول وصراع الأدمغة، التي لم تتوقف بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الغاصب، والتي أثبتت فيها المقاومة الفلسطينية أنها خصم عنيدٌ لا يُستهان به، ويستطيع إفساد مخططات العدو، بل وتوجيه ضربات مؤلمة وقاسية لعدو يمتلك أحدث المنظومات الأمنية والتكنولوجية في العالم، برغم تواضع وضعف إمكانيات المقاومة في غزة.

فلم ينسَ الغزيون بعدُ تمكّن مجاهدي القسام في شهر مايو العام الماضي من إفشال أكبر عملية تجسس على الشبكة السلكية لاتصالات المقاومة شرق المحافظة الوسطى، باكتشاف منظومة التنصت التي زرعها العدو في أحد مقاسم الاتصالات والسيطرة عليها، قبل أن يقوم العدو بتفجيرها آلياً ليرتقي على إثر ذلك 5 من خيرة مجاهدي كتائب القسام، حفظ الله بدمائهم الزكية تضحيات شعبنا وإنجازات مقاومتنا.

العملية الأمنية شرق خانيونس التي نفذتها وحدة مُختارة من نخبة العدو في نوفمبر من العام الماضي، كانت تستهدف مجدداً زرع منظومة أمنية خطيرة داخل شبكة اتصالات القسام، لمحاولة سد العجز المعلوماتي الكبير الذي تعاني منه أجهزة استخبارات العدو، بعد الضربات القاسية التي وجّهتها الجهات الأمنية في غزة لشبكة العملاء، ما اضطر العدو للمغامرة بالدخول لوحل غزة والمخاطرة بأهم وحداته السرية وأكثرها حِرفيّة لتنفيذ هذه المهمة، فكانت غزة مقبرةً لهم، حيث كان يسعى العدو من خلال تلك العملية للتنصت على اتصالات المقاومة ومعرفة الخطط الدفاعية والهجومية التي أعدها المجاهدون استعداداً للمعركة القادمة، والأخطر من ذلك هو التنصت على تعليمات قيادة المقاومة للمجاهدين خلال المعركة، ما من شأنه أن يحقق للعدو تفوقاً أمنياً واستخباراتياً كبيراً في أي حرب قادمة.

لأول مرة منذ 23 عام تُجبر غزة - بصمودها وثباتها - ضابطاً رفيع المستوى في جيش الاحتلال على إنهاء خدمته العسكرية وتقديم استقالته من منصبه، بسبب فشله في أداء المهام الموكلة إليه، فلقد اعتادت الوحدات الأمنية السرية التابعة للعدو الصهيوني -وعلى رأسها وحدة الـ "سيررت متكال"- على تنفيذ مهامها الأمنية في معظم دول العالم بهدوء ودون إحداث ضجيج، ليستيقظ العالم بعد ساعات من إخلاء مسرح الجريمة على عملية اغتيال أو اختطاف قائد من قادة المقاومة أو خبير من الخبراء الفلسطينيين، بعد أن تكون تلك الوحدات الأمنية الصهيونية قد غادرت البلاد، كما شاهدنا مؤخراً في عمليتي اغتيال الشهيد القسامي التونسي "محمد الزواري" مهندس طائرات الأبابيل في مدينة صفاقص التونسية، والشهيد الباحث والمخترع الفلسطيني د. فادي البطش الخبير في مجال الطاقة والهندسة الكهربائية الذي اغتيل في العاصمة الماليزية كوالالمبور.

أما هذه المرة فقد كانت غزة المحروسة برعاية الله ويقظة المجاهدين هي الساحة الأخطر لعمل هذه الوحدة، التي تسللت تحت جنح الظلام في عملية أمنية مُعقّدة، سخرّ لها كيان العدو كل إمكاناته الأمنية والتكنولوجية –الهائلة- سعياً لإنجاحها، فقد تسللت الوحدة الصهيونية من إحدى المناطق الوعرة في السياج الفاصل شرق خانيونس، مستغلةً وجود الضباب الكثيف، وكانت مجهزةً بأدواتٍ متقدمة ومنظومة قيادة وسيطرة، ومعدات طوارئ، وكل ما يلزم لعمل قوة عسكرية خاصة، فكان لها مجاهدو القسام بالمرصاد وقتلوا قائد الوحدة وأصابوا آخرين واغتنموا منهم أسلحة خفيفة، والأهم من ذلك هو اغتنام منظومة القيادة والسيطرة التي وصفتها كتائب القسام بـ "الكنز المعلوماتي"، وقالت إنه سيعطيها ميزة استراتيجية على صعيد صراع العقول مع الاحتلال، ليرتقي في هذه العملية - التي أطلقت عليها كتائب القسام "حد السيف" – القائد القسامي الهُمام نور بركة وستة من مجاهدي كتائب القسام.

ما تزال غزة ومقاومتها - بثبات حاضنتها الشعبية وبطولات مجاهديها - هي الصخرة الصماء التي تتحطم عليها كل المؤامرات، والعقبة الكؤود في وجه مخططات تصفية القضية الفلسطينية واحتوائها وتدجين مقاومتها الباسلة، والشوكة الصلبة في حناجر قادة العدو الذين يقفون عاجزين أمام عنفوان شعبٍ مُحاصر فشلت كل الحروب العسكرية القاسية، والاقتصادية القذرة، والأمنية الخطيرة، في كسر صموده وإرادة القتال لدى مجاهديه، هذا النموذج الذي تقدمه غزة لم يأتِ عبثاً أو محض صدفة، بل هو - بعد توفيق الله عز وجل - نتاج عملٍ دؤوبٍ وجهدٍ متواصلٍ يبذله المجاهدون على جميع الصُعُد (العسكرية والأمنية والجماهيرية والإعلامية) دون التفريط بجانب على حساب الآخر.

المعركة الأمنية وملاحقة العملاء واليقظة المستمرة وإفشال مخططات العدو الاستخباراتية، لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية، كذلك فإن الاهتمام بالحاضنة الشعبية وإشراكها في تحمّل المسؤولية والرهان عليها – كما رأينا في مسيرات العودة وكسر الحصار- وتفقّد عائلات الشهداء والجرحى والفقراء برغم العجز المالي الكبير، بالتوازي مع العمل القتالي والتصعيد العسكري المنضبط بقرارات غرفة العمليات المشتركة، بالإضافة للعمل الإعلامي المميز الذي يهدف إلى ترسيخ فكرة الجهاد والمقاومة، والتحدي الصمود، ونبذ الأفكار الهدّامة التي تدعو للاستسلام وقبول الدنيّة والرضى بالحلول الدولية، كلها عوامل مهمة ساعدت المقاومة في غزة بالصمود والثبات والاستمرار في مقارعة العدو دون كللٍ أو مللٍ أو خور، حتى يقضي الله أمره بتمكين عباده المجاهدين من تحرير فلسطين وطرد الصهاينة المحتلين.
‏٠٩‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٩:٥٥ م‏
على هذا الرابط جميع ما صدر عن مجلة كلمة حق: bit.ly/2Rv0LDS
على هذا الرابط جميع ما صدر عن مجلة كلمة حق:

bit.ly/2Rv0LDS
‏٠٨‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٣:١٢ م‏
العمليات السيبرانية أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: http://bit.ly/2ErSNDd ] ازدادت أهمية الاستخبارات السيبرانية أو بمعنى أوضح الاستخبارات الإلكترونية مع تزايد الاعتماد على شبكة الانترنت في إدارة الكثير من الأنشطة البشرية، حيث صارت معظم قطاعات البنية التحتية الحيوية في الدول المتطورة تقنياً مثل قطاعات النفط والغاز والكهرباء والنقل والأمن تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كما أصبح الإنترنت أداة أساسية لدى كثير من الأفراد في التعلم والتواصل ومتابعة المستجدات فضلاً عن الترفيه وقضاء أوقات الفراغ. ونظراً لذلك ازداد الاهتمام بالأمن السيبراني من قبل أجهزة الاستخبارات والمؤسسات العسكرية على مستوى العالم. ومن أبرز تجليات ذلك طرح البنتاجون في عام 2018 لعقد ضخم يدعى (البنية التحتية للدفاع المشترك) والذي يهدف إلى بناء سحابة بيانات لوزارة الدفاع الأمريكية بتكلفة تقدر بعشرة مليارات دولار، وهو مبلغ ضخم غير معتاد إنفاقه في ذلك المجال في عقد واحد. وهو عقد تتنافس على نيله كبريات شركات القنية مثل أمازون وأوراكل. وكذلك أطلقت القوات الجوية الفرنسية مناقصة نهاية عام 2018 للتحقق من أمن أنظمة الحاسب المدمجة على متن طائراتها، حيث كان الاهتمام ينصب على أجهزة الحاسب الملحقة بالمعدات التي تعمل على الأرض، ولكن تزايد خطر الهجمات السيبرانية أدى إلى الاهتمام بالأنظمة المتواجدة على الطائرات. أما القسم التقني في جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) فقد أطلق عدداً من البرامج في عام 2019 للتعامل مع الطرق الجديدة لاستخدام الإنترنت، فبدأ في التركيز على مراقبة المحادثات الجارية بين ممارسي ألعاب الفيديو الجماعية، كما يحاول تلبية احتياجات موظفيه الذين يواظبون رغم العديد من المخاوف الأمنية على استخدام تطبيقات المواقع الجغرافية بشكل كبير مثل خرائط جوجل. وذلك عبر التخطيط لتدشين خرائط الجهاز الخاصة الآمنة، وبرامجه التجوالية. ومن أبرز الأحداث التي توضح مدى الأهمية التي تستحوذ عليها الاستخبارات السيبرانية، الأزمة الخليجية التي اندلعت في مايو عام 2017 على خلفية اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، وبثها لتصريحات مزيفة منسوبة للأمير تميم آل ثاني بخصوص إيران والسياسة القطرية في المنطقة. فخلف الكواليس دارت معركة سيبرانية حامية الوطيس بين الإمارات وقطر. معركة استعدت لها الإمارات مبكراً. فالإمارات العربية المتحدة هي أول دولة في الخليج تؤسس بنية تحتية لمنظومة هجومية سيبرانية. فوكالة الأمن الوطني الإلكتروني (NESA)- وهي الجهاز الإماراتي المكافئ لوكالة الأمن القومي الأميركي (NSA)- تمتلك معظم ترسانة أنظمة الاعتراض والهجوم السايبيري التابعة للدولة، وهي آخذة في التوسع، وقد جرى تغيير اسمها في نهاية عام 2018 إلى وكالة استخبارات الإشارة. وقد عقدت الوكالة عدة عقود مع شركات خاصة متخصصة في العمليات السيبرانية مثل شركة (Verint) الإسرائيلية- الأمريكية، ومجموعة (NSO) الإسرائيلية والتي تدعى الآن(Q) للتقنيات السيبرانية. إذ طُلب منها اعتراض اتصالات هواتف المسؤولين السعوديين والقطريين. وهذه الشركة سبق لها العمل لعدة سنوات مع جهاز أمن الدولة المصري مثلما فعلت شركة (جاما) البريطانية التي تقف خلف برنامج (فين فيشر). وهو برنامج أنتجته شركة جاما بغرض التجسس على نشاط مستخدمي الانترنت، وعندما اقتحم الثوار المصريون مقر مباحث جهاز أمن الدولة بمصر عام 2011 اكتشفوا عقداً بقيمة 387 ألف يورو بين جهاز أمن الدولة وجاما مقابل حصول الجهاز على البرنامج. أما على الجانب القطري، فقد كانت قطر أقل جاهزية من الإمارات لخوض الحرب السيبرانية، ومن ثم لجأت عقب حادث اختراق وكالة الأنباء القطرية إلى مجموعة من الشركات المتخصصة مثل شركة جلوبال ريسك أدفايزرز(GRA)، التي يعمل بها عدد من الموظفين السابقين بوكالة المخابرات المركزية مثل جون بويرير المسؤول السابق في الوكالة الوطنية السرية بوكالة المخابرات المركزية (NCS) وضابط المخابرات البريطاني السابق ديفيد باول، بينما يرأسها مسؤول وحدة الاستخبارات السيبرانية السابق في وكالة الاستخبارات المركزية كيفين تشاكر. وقد نفذت الشركة عدداً من عمليات القرصنة لحساب قطر. إذ أصبح من المعتاد عند الحصول على معلومات مهمة عبر عمليات القرصنة الالكترونية، أن تنشر تلك المعلومات عن طريق الصحافة العالمية، مثلما حدث في حالات اختراق البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، أو البريد الإلكتروني لرجل الأعمال وجامع التبرعات الجمهوري والناقد الشرس لقطر إليوت برودي. والذي تبين من مراسلاته الإلكترونية أنه أبرم عقداً بقيمة 200 مليون دولار مع الإمارات العربية المتحدة. وأنه رتب نظراً لقربه من جورج نادر صديق ترامب، لقاء لولي عهد الإمارات الأمير محمد بن زايد آل نهيان مع الرئيس الأميركي ترامب أثناء الحملة الرئاسية للأخير. ومن جهته حرص برودي على مقاضاة بعض المسئولين القطريين أمام إحدى المحاكم الأمريكية في ولاية كالفورنيا بتهمة تنظيم حملة ضده واختراق أجهزة الحاسب الخاصة به، عبر الاستعانة بشركة جلوبال ريسك آدفايزرز(GRA). إلا أن المحكمة رفضت الدعوى في سبتمبر 2018 الدعوى بحجة أن مسؤولي الحكومة القطرية محميون بموجب قانون الحصانة السيادية الأجنبية. مما سبق تتضح الأهمية العملية للفضاء والأمن السيبراني، وأن هذا المجال لا يقتصر العمل فيه على أجهزة ومؤسسات الدول، إنما تشارك فيه شركات القطاع الخاص بقوة. كما يتاح أيضاً للأفراد الموهوبين في المجال التقني أن يلعبوا دوراً بارزاً في العمليات السيبرانية، وهو ما يسترعي العناية بالموهوبين في ذلك المجال من الشباب المسلم، سواء عبر دعمهم بالدورات الفنية التي يحتاجونها، أو بتوفير الأجهزة والأدوات والبرامج التي تسهم في تطوير مستواهم.
العمليات السيبرانية
أحمد مولانا Mawlana

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2HeyJY5
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2ErSNDd ]

ازدادت أهمية الاستخبارات السيبرانية أو بمعنى أوضح الاستخبارات الإلكترونية مع تزايد الاعتماد على شبكة الانترنت في إدارة الكثير من الأنشطة البشرية، حيث صارت معظم قطاعات البنية التحتية الحيوية في الدول المتطورة تقنياً مثل قطاعات النفط والغاز والكهرباء والنقل والأمن تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كما أصبح الإنترنت أداة أساسية لدى كثير من الأفراد في التعلم والتواصل ومتابعة المستجدات فضلاً عن الترفيه وقضاء أوقات الفراغ.

ونظراً لذلك ازداد الاهتمام بالأمن السيبراني من قبل أجهزة الاستخبارات والمؤسسات العسكرية على مستوى العالم. ومن أبرز تجليات ذلك طرح البنتاجون في عام 2018 لعقد ضخم يدعى (البنية التحتية للدفاع المشترك) والذي يهدف إلى بناء سحابة بيانات لوزارة الدفاع الأمريكية بتكلفة تقدر بعشرة مليارات دولار، وهو مبلغ ضخم غير معتاد إنفاقه في ذلك المجال في عقد واحد. وهو عقد تتنافس على نيله كبريات شركات القنية مثل أمازون وأوراكل.

وكذلك أطلقت القوات الجوية الفرنسية مناقصة نهاية عام 2018 للتحقق من أمن أنظمة الحاسب المدمجة على متن طائراتها، حيث كان الاهتمام ينصب على أجهزة الحاسب الملحقة بالمعدات التي تعمل على الأرض، ولكن تزايد خطر الهجمات السيبرانية أدى إلى الاهتمام بالأنظمة المتواجدة على الطائرات.

أما القسم التقني في جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) فقد أطلق عدداً من البرامج في عام 2019 للتعامل مع الطرق الجديدة لاستخدام الإنترنت، فبدأ في التركيز على مراقبة المحادثات الجارية بين ممارسي ألعاب الفيديو الجماعية، كما يحاول تلبية احتياجات موظفيه الذين يواظبون رغم العديد من المخاوف الأمنية على استخدام تطبيقات المواقع الجغرافية بشكل كبير مثل خرائط جوجل. وذلك عبر التخطيط لتدشين خرائط الجهاز الخاصة الآمنة، وبرامجه التجوالية.

ومن أبرز الأحداث التي توضح مدى الأهمية التي تستحوذ عليها الاستخبارات السيبرانية، الأزمة الخليجية التي اندلعت في مايو عام 2017 على خلفية اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، وبثها لتصريحات مزيفة منسوبة للأمير تميم آل ثاني بخصوص إيران والسياسة القطرية في المنطقة.

فخلف الكواليس دارت معركة سيبرانية حامية الوطيس بين الإمارات وقطر. معركة استعدت لها الإمارات مبكراً. فالإمارات العربية المتحدة هي أول دولة في الخليج تؤسس بنية تحتية لمنظومة هجومية سيبرانية. فوكالة الأمن الوطني الإلكتروني (NESA)- وهي الجهاز الإماراتي المكافئ لوكالة الأمن القومي الأميركي (NSA)- تمتلك معظم ترسانة أنظمة الاعتراض والهجوم السايبيري التابعة للدولة، وهي آخذة في التوسع، وقد جرى تغيير اسمها في نهاية عام 2018 إلى وكالة استخبارات الإشارة.

وقد عقدت الوكالة عدة عقود مع شركات خاصة متخصصة في العمليات السيبرانية مثل شركة (Verint) الإسرائيلية- الأمريكية، ومجموعة (NSO) الإسرائيلية والتي تدعى الآن(Q) للتقنيات السيبرانية. إذ طُلب منها اعتراض اتصالات هواتف المسؤولين السعوديين والقطريين. وهذه الشركة سبق لها العمل لعدة سنوات مع جهاز أمن الدولة المصري مثلما فعلت شركة (جاما) البريطانية التي تقف خلف برنامج (فين فيشر). وهو برنامج أنتجته شركة جاما بغرض التجسس على نشاط مستخدمي الانترنت، وعندما اقتحم الثوار المصريون مقر مباحث جهاز أمن الدولة بمصر عام 2011 اكتشفوا عقداً بقيمة 387 ألف يورو بين جهاز أمن الدولة وجاما مقابل حصول الجهاز على البرنامج.

أما على الجانب القطري، فقد كانت قطر أقل جاهزية من الإمارات لخوض الحرب السيبرانية، ومن ثم لجأت عقب حادث اختراق وكالة الأنباء القطرية إلى مجموعة من الشركات المتخصصة مثل شركة جلوبال ريسك أدفايزرز(GRA)، التي يعمل بها عدد من الموظفين السابقين بوكالة المخابرات المركزية مثل جون بويرير المسؤول السابق في الوكالة الوطنية السرية بوكالة المخابرات المركزية (NCS) وضابط المخابرات البريطاني السابق ديفيد باول، بينما يرأسها مسؤول وحدة الاستخبارات السيبرانية السابق في وكالة الاستخبارات المركزية كيفين تشاكر.

وقد نفذت الشركة عدداً من عمليات القرصنة لحساب قطر. إذ أصبح من المعتاد عند الحصول على معلومات مهمة عبر عمليات القرصنة الالكترونية، أن تنشر تلك المعلومات عن طريق الصحافة العالمية، مثلما حدث في حالات اختراق البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، أو البريد الإلكتروني لرجل الأعمال وجامع التبرعات الجمهوري والناقد الشرس لقطر إليوت برودي.

والذي تبين من مراسلاته الإلكترونية أنه أبرم عقداً بقيمة 200 مليون دولار مع الإمارات العربية المتحدة. وأنه رتب نظراً لقربه من جورج نادر صديق ترامب، لقاء لولي عهد الإمارات الأمير محمد بن زايد آل نهيان مع الرئيس الأميركي ترامب أثناء الحملة الرئاسية للأخير.

ومن جهته حرص برودي على مقاضاة بعض المسئولين القطريين أمام إحدى المحاكم الأمريكية في ولاية كالفورنيا بتهمة تنظيم حملة ضده واختراق أجهزة الحاسب الخاصة به، عبر الاستعانة بشركة جلوبال ريسك آدفايزرز(GRA).

إلا أن المحكمة رفضت الدعوى في سبتمبر 2018 الدعوى بحجة أن مسؤولي الحكومة القطرية محميون بموجب قانون الحصانة السيادية الأجنبية.

مما سبق تتضح الأهمية العملية للفضاء والأمن السيبراني، وأن هذا المجال لا يقتصر العمل فيه على أجهزة ومؤسسات الدول، إنما تشارك فيه شركات القطاع الخاص بقوة. كما يتاح أيضاً للأفراد الموهوبين في المجال التقني أن يلعبوا دوراً بارزاً في العمليات السيبرانية، وهو ما يسترعي العناية بالموهوبين في ذلك المجال من الشباب المسلم، سواء عبر دعمهم بالدورات الفنية التي يحتاجونها، أو بتوفير الأجهزة والأدوات والبرامج التي تسهم في تطوير مستواهم.
‏٠٧‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٦:٤٩ م‏
افتتاحية العدد الجديد: شهداء الحق بقلم الشهيد: سيد قطب [حمل العدد الجديد: bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: bit.ly/2ErSNDd] {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة. إن الله مع الصابرين} يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولا بد من الصبر في هذا كله.. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض.. وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين. إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.. هنا تبدو قيمة الصلاة.. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.. ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: “أرحنا بها يا بلال” ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله. إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر.. إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً.. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان. ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام.. إلى الصبر وإلى الصلاة.. ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: {إن الله مع الصابرين}.. معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق.. وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: {يا أيها الذين آمنوا}.. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: {إن الله مع الصابرين}. والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها: عن خباب بن الأرثّ -رضي الله عنه- “قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة. فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم” والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل.. الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع، ومن تضحيات وآلام، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديراً صحيحاً: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}.. إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهم أحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان. إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه. فهم لا بد أحياء. إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس. ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: {أحياء ولكن لا تشعرون} لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنهم أحياء. أحياء. ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء. أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنها عظم الفداء. ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه: في صحيح مسلم: “إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة. فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا. وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا. فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون”. وعن أنس –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء. إلا الشهيد، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة.” (أخرجه مالك والشيخان). ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون {في سبيل الله}.. في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله. في سبيل هذا الحق الذي أنزله. في سبيل هذا المنهج الذي شرعه. في سبيل هذا الدين الذي اختاره.. في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار، وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر.. غير الله.. عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” (أخرجه مالك والشيخان) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- “أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال: لا أجر له. فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: لا أجر له” (أخرجه أبو داود). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله. لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي.. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل” (أخرجه مالك والشيخان). فهؤلاء هم الشهداء. هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله. ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه (وكان مولى من أهل فارس) قال: “شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحداً. فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي: فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلا قلت وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم” (أخرجه أبو داود). فقد كره له أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين.. وهذا هو الجهاد. وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء. ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون}.. ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.. ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده. لا يجد سنداً إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا شيء إلا الله.. لا قوة إلا قوته.. لا حول إلا حوله.. لا إرادة إلا إرادته.. لا ملجأ إلا إليه.. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح.. والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: {وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون}.. إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله.. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق.. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح. هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل.. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون}.. صلوات من ربهم.. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه.. وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون.. وكل أمر من هذه هائل عظيم.. وبعد.. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف. إن الله يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً، ولا يعدهم هنا تمكيناً ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته.. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها. فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها. إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور.. هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
افتتاحية العدد الجديد:

شهداء الحق

بقلم الشهيد: سيد قطب

[حمل العدد الجديد:
bit.ly/2HeyJY5

حمل هدية العدد:
bit.ly/2ErSNDd]

{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة. إن الله مع الصابرين}
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولا بد من الصبر في هذا كله.. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض..

وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.

إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق..
هنا تبدو قيمة الصلاة.. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض.

إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.. ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: “أرحنا بها يا بلال” ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله.

إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر.. إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له:

{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً. نصفه أو انقص منه قليلاً. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً.. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان.

ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام.. إلى الصبر وإلى الصلاة..

ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: {إن الله مع الصابرين}..

معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق.. وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: {يا أيها الذين آمنوا}.. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب:
{إن الله مع الصابرين}.

والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها:

عن خباب بن الأرثّ -رضي الله عنه- “قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة. فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم” والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل.. الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع، ومن تضحيات وآلام، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديراً صحيحاً:
{ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}..

إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهم أحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان. إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه. فهم لا بد أحياء.

إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.

ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: {أحياء ولكن لا تشعرون} لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنهم أحياء.

أحياء. ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.

أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنها عظم الفداء.

ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
في صحيح مسلم: “إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة. فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا. وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا. فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون”.

وعن أنس –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء. إلا الشهيد، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة.” (أخرجه مالك والشيخان).

ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون {في سبيل الله}.. في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله. في سبيل هذا الحق الذي أنزله. في سبيل هذا المنهج الذي شرعه. في سبيل هذا الدين الذي اختاره.. في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار، وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر.. غير الله..

عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” (أخرجه مالك والشيخان)

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- “أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال: لا أجر له. فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: لا أجر له” (أخرجه أبو داود).

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله. لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي.. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل” (أخرجه مالك والشيخان).
فهؤلاء هم الشهداء. هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله.

ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه (وكان مولى من أهل فارس) قال: “شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحداً. فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي: فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلا قلت وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم” (أخرجه أبو داود).

فقد كره له أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين.. وهذا هو الجهاد. وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء.

ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث:

{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون}..

ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً..

ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.

وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده. لا يجد سنداً إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا شيء إلا الله.. لا قوة إلا قوته.. لا حول إلا حوله.. لا إرادة إلا إرادته.. لا ملجأ إلا إليه.. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح..

والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق:
{وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون}..
إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله.. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق.. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل..

وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:
{أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون}..
صلوات من ربهم.. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه.. وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون..

وكل أمر من هذه هائل عظيم..

وبعد.. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.

إن الله يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً، ولا يعدهم هنا تمكيناً ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته.. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها.

فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها.

إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور..

هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
‏٠٥‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٨:١٢ م‏
(( العدد الجديد من مجلة كلمة حق )) نقدم لكم عدد 20، ومعه هدية: مختصر كتاب الدولة المستوردة، لبرتران بادي. حمل العدد الجديد: bit.ly/2HeyJY5 حمل هدية العدد: bit.ly/2ErSNDd حمّل جميع الأعداد والهدايا: bit.ly/2Rv0LDS
(( العدد الجديد من مجلة كلمة حق ))

نقدم لكم عدد 20، ومعه هدية: مختصر كتاب الدولة المستوردة، لبرتران بادي.

حمل العدد الجديد:
bit.ly/2HeyJY5

حمل هدية العدد:
bit.ly/2ErSNDd

حمّل جميع الأعداد والهدايا:
bit.ly/2Rv0LDS
‏٠١‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٩:٣٧ م‏
الاحتلال بالوكالة (2) حامد عبد العظيم (انتظروا العدد الجديد بعد قليل) تخوض أمتنا اليوم حرباً لا هوادة فيها وعلى جبهات متعددة، ويمكر بها بالليل والنهار أعداء الأمة من الصليبيين والصهاينة وعملائهم من الحُكام والأمراء، بعض هذه الجبهات مشتعلة وبعضها ساكن وبعضها على صفيح ساخن وقنبلة موقوتة ستنفجر لا محالة، جبهات بعضها لدينا فيها رجال أشداء يجاهدون بالسيف أعداء الله رغم قلة العتاد والزاد كفلسطين وسوريا وأفغانستان وغيرها، وجبهات فيها إخوان لنا مستضعفون يتربص بهم عدوهم باليل والنهار بغير رحمة ولا شفقة، كحال إخواننا في بورما (ميانمار) على يد البوذيين، وفي تركستان الشرقية (شينج يانج) على يد الصينيين، وغيرهم فرج الله عنهم وعنا جميعاً، وجبهات ثالثة لا هي مشتعلة ولا ساكنة، بل انفجارها قريب كما هي سنة الله تعالى في بلاد الظلم والاستبداد. تكلمنا في المقال السابق عن ضرورة إيجاد وعي عام بأننا في بلادنا الإسلامية محتلون، لكنه احتلال بالوكالة، وذكرنا أن الاحتلال عن طريق عملاء من كل بلد أصعب وأخفى بكثير من الاحتلال العسكري الواضح والصريح الذي يحفز الشعوب على الجهاد في سبيل الله والمقاومة لإخراج المحتل وطرده. هذا الوعي العام من شأنه أن يجيش الشعوب الإسلامية نحو هدف واحد وهو نيل الاستقلال لبلادهم وتحريرها من قبضة الأمريكان والصهاينة، ولكن نتساءل في هذا المقال عن الجهة التي تستطيع التغيير بالفعل مَن هي؟ دعونا نكون صرحاء ونذكر ما يلي: "لا يتغير النظام الحاكم في بلادنا إلا بالقوة". يمكنك أن تخالف كيفما تشاء، لكنها تبقى الحقيقة الواضحة، والنظام الحاكم ليس رأس السلطة فحسب، بل هو رأس وجسد، أصل وفروع، لا يتغير النظام إلا باجتثاث هذا الأصل وقطع تلك الفروع، والفروع أو ما نسميه الآن بالدولة العميقة أخطر بكثير من الأصل وهو رئيس الدولة، الذي لا يستطيع أن يحكم إلا عن طريق معاونيه ومستشاريه ورجال أعماله وقائد جيشه... إلخ فلو قامت ثورة ورأت الدولة العميقة أن نجاتها سيكون في التضحية برأس النظام الرئيس أو الأمير أو الملك، فستفعل ذلك بكل سهولة حتى ترتب أوضاعها من جديد، فالدولة العميقة هم جميع المنتفعين من بقاء النظام، من الساسة والعسكر والاقتصاديين والقضاة والنواب والإعلاميين وغيرهم، بمستويات مختلفة. وهذا لا تستطيع ثورة شعبية فوضوية تغييره، بل أقصى ما تنجح فيه هو تحقيق أهداف جزئية كإسقاط رئيس وعزل حكومة وحل برلمان وما شابه ذلك. فالحل في دولة محتلة نخر فيها الفساد وتعفنت جميع أجهزتها بالفساد، هو القوة التي تستطيع السيطرة على الدولة العميقة، التي تقدر على السيطرة على البلاد وشل فاعلية قوة وكلاء المحتل، وإدارة الدولة بعد ذلك داخليا، والتعامل مع المحتلين الصرحاء ودول الإقليم والعالم خارجياً. وهذا ما لا تعيه الأحزاب الإسلامية وأغلب الحركات التغييرية، لا يعون أنهم مسيطَر عليهم تماماً من النظام الحاكم، كل تحركاتهم تخدم النظام، بما فيها معارضتهم وتظاهراتهم وصياحهم تحت قبة البرلمان، فهم في النهاية يتحركون في دائرة قد رُسمت لهم، يعكسون الصورة المطلوبة من وجود معارضة وديمقراطية مسموح للمخالف فيها بالنقد العلني والكتابة في الجرائد وتنظيم الوقفات ورفع الصوت داخل البرلمان. هذه الأحزاب والحركات تتحول مع الوقت إلى منتفعين جدد من النظام الموجود، وينخفض سقفهم للغاية إلى الصراع حول حَفنة من المقاعد البرلمانية لا تسمن ولا تغني من جوع، ويظنون أن هذه المساحة المتاحة لهم قد كفلت لهم تحقيق أهدافهم التغييرية والإسلامية، ومع الوقت ينسون ويتناسون أهدافهم الرئيسية. ما أسعد الطغاة بهم! وهنا أؤكد أنه لا مانع من المشاركة في البرلمان لتحقيق مصالح للمسلمين حتى لو كانت دنيوية، ولكن لا تظن يوماً أنك بدخولك البرلمان تستطيع تغيير النظام والقضاء على الدولة العميقة، ولا تحصر جميع أنشطتك وجميع مشروعك في ذلك، فأنت بذلك مجرد سياسي آخر لا غير. ولا تصور لقاعدتك الجماهيرية أنك عن طريق البرلمان تستطيع إقامة الشريعة الإسلامية، فأنت بذلك تبيع لهم الوهم، فالشريعة الإسلامية ليست مجرد قوانين تمررها عن طريق المجلس النيابي، بل نظام منفصل تماماً قائم على العدل والشورى وله منهجه في إدارة البلاد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً وقضائياً... إلخ ربما يقول قائل إذن أنت تقول علينا أن نترك كل شيء للطغاة ولا نشارك في أي شيء نستطيع من خلاله الإصلاح وفق الوسع؟ بالطبع لا أقول ذلك، ونما أقول إن ذلك مسار مختلف عن مسار تحرير البلاد من حُكم وكلاء المحتلين، فلا توجد أي مشكلة أن يقوم كل منا بالإصلاح في مجاله ولكن لن نطرد وكلاء المحتلين بإتقان العمل ولا بدخول مجلس النواب ولا بالمشاركة في المحليات ولا بإنشاء جريدة أو قناة... إلخ، فمع أهمية كل ذلك للإصلاح، إلا أنه مسار موازٍ، والقوة الخشنة هي التي ستطرد وكلاء المحتلين، هي التي ستقضي على الثورة المضادة، هي وحدها التي تستطيع إدارة البلاد في فترة ما بعد إزاحة نظام الاحتلال بالوكالة، هي التي تقدر على فرض نفسها كلاعب إقليمي ودولة. نستنتج مما سبق أنه يجب إعداد القوة، بغض النظر عن الطريقة أو الوسيلة فتختلف من بلد إلى بلد، ولكن المجال العسكري يجب أن يكون من اهتمام كل حركة تغييرية تريد أن تحكم، لابد من وجود كتائب مسلحة ووعي عسكري ومعرفة واهتمام بالعلوم العسكرية والاستراتيجيات العسكرية وجاهزية الأعداء العسكرية سواء الوكلاء أو الصهاينة أو الأمريكان... إلخ وأي حركة تغييرية تخلو من ذلك فهي ليست جادة وتؤثر السلامة ولا تريد خوض المعركة الحقيقية الواقعية التي لا يُرحب فيها بالسذج أو الهاربين من الحقائق. وأي حركة لا تهتم بتلك المجالات فهي حركة دعوية أو خيرية أو سمها ما تشاء، لكنها لن تكون أبداً حركة قابلة لقيادة الشعوب لتحرير البلاد ونيل استقلالها.
الاحتلال بالوكالة (2)

حامد عبد العظيم

(انتظروا العدد الجديد بعد قليل)

تخوض أمتنا اليوم حرباً لا هوادة فيها وعلى جبهات متعددة، ويمكر بها بالليل والنهار أعداء الأمة من الصليبيين والصهاينة وعملائهم من الحُكام والأمراء، بعض هذه الجبهات مشتعلة وبعضها ساكن وبعضها على صفيح ساخن وقنبلة موقوتة ستنفجر لا محالة، جبهات بعضها لدينا فيها رجال أشداء يجاهدون بالسيف أعداء الله رغم قلة العتاد والزاد كفلسطين وسوريا وأفغانستان وغيرها، وجبهات فيها إخوان لنا مستضعفون يتربص بهم عدوهم باليل والنهار بغير رحمة ولا شفقة، كحال إخواننا في بورما (ميانمار) على يد البوذيين، وفي تركستان الشرقية (شينج يانج) على يد الصينيين، وغيرهم فرج الله عنهم وعنا جميعاً، وجبهات ثالثة لا هي مشتعلة ولا ساكنة، بل انفجارها قريب كما هي سنة الله تعالى في بلاد الظلم والاستبداد.

تكلمنا في المقال السابق عن ضرورة إيجاد وعي عام بأننا في بلادنا الإسلامية محتلون، لكنه احتلال بالوكالة، وذكرنا أن الاحتلال عن طريق عملاء من كل بلد أصعب وأخفى بكثير من الاحتلال العسكري الواضح والصريح الذي يحفز الشعوب على الجهاد في سبيل الله والمقاومة لإخراج المحتل وطرده.

هذا الوعي العام من شأنه أن يجيش الشعوب الإسلامية نحو هدف واحد وهو نيل الاستقلال لبلادهم وتحريرها من قبضة الأمريكان والصهاينة، ولكن نتساءل في هذا المقال عن الجهة التي تستطيع التغيير بالفعل مَن هي؟

دعونا نكون صرحاء ونذكر ما يلي:

"لا يتغير النظام الحاكم في بلادنا إلا بالقوة".

يمكنك أن تخالف كيفما تشاء، لكنها تبقى الحقيقة الواضحة، والنظام الحاكم ليس رأس السلطة فحسب، بل هو رأس وجسد، أصل وفروع، لا يتغير النظام إلا باجتثاث هذا الأصل وقطع تلك الفروع، والفروع أو ما نسميه الآن بالدولة العميقة أخطر بكثير من الأصل وهو رئيس الدولة، الذي لا يستطيع أن يحكم إلا عن طريق معاونيه ومستشاريه ورجال أعماله وقائد جيشه... إلخ

فلو قامت ثورة ورأت الدولة العميقة أن نجاتها سيكون في التضحية برأس النظام الرئيس أو الأمير أو الملك، فستفعل ذلك بكل سهولة حتى ترتب أوضاعها من جديد، فالدولة العميقة هم جميع المنتفعين من بقاء النظام، من الساسة والعسكر والاقتصاديين والقضاة والنواب والإعلاميين وغيرهم، بمستويات مختلفة. وهذا لا تستطيع ثورة شعبية فوضوية تغييره، بل أقصى ما تنجح فيه هو تحقيق أهداف جزئية كإسقاط رئيس وعزل حكومة وحل برلمان وما شابه ذلك.

فالحل في دولة محتلة نخر فيها الفساد وتعفنت جميع أجهزتها بالفساد، هو القوة التي تستطيع السيطرة على الدولة العميقة، التي تقدر على السيطرة على البلاد وشل فاعلية قوة وكلاء المحتل، وإدارة الدولة بعد ذلك داخليا، والتعامل مع المحتلين الصرحاء ودول الإقليم والعالم خارجياً.

وهذا ما لا تعيه الأحزاب الإسلامية وأغلب الحركات التغييرية، لا يعون أنهم مسيطَر عليهم تماماً من النظام الحاكم، كل تحركاتهم تخدم النظام، بما فيها معارضتهم وتظاهراتهم وصياحهم تحت قبة البرلمان، فهم في النهاية يتحركون في دائرة قد رُسمت لهم، يعكسون الصورة المطلوبة من وجود معارضة وديمقراطية مسموح للمخالف فيها بالنقد العلني والكتابة في الجرائد وتنظيم الوقفات ورفع الصوت داخل البرلمان.

هذه الأحزاب والحركات تتحول مع الوقت إلى منتفعين جدد من النظام الموجود، وينخفض سقفهم للغاية إلى الصراع حول حَفنة من المقاعد البرلمانية لا تسمن ولا تغني من جوع، ويظنون أن هذه المساحة المتاحة لهم قد كفلت لهم تحقيق أهدافهم التغييرية والإسلامية، ومع الوقت ينسون ويتناسون أهدافهم الرئيسية. ما أسعد الطغاة بهم!

وهنا أؤكد أنه لا مانع من المشاركة في البرلمان لتحقيق مصالح للمسلمين حتى لو كانت دنيوية، ولكن لا تظن يوماً أنك بدخولك البرلمان تستطيع تغيير النظام والقضاء على الدولة العميقة، ولا تحصر جميع أنشطتك وجميع مشروعك في ذلك، فأنت بذلك مجرد سياسي آخر لا غير. ولا تصور لقاعدتك الجماهيرية أنك عن طريق البرلمان تستطيع إقامة الشريعة الإسلامية، فأنت بذلك تبيع لهم الوهم، فالشريعة الإسلامية ليست مجرد قوانين تمررها عن طريق المجلس النيابي، بل نظام منفصل تماماً قائم على العدل والشورى وله منهجه في إدارة البلاد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً وقضائياً... إلخ

ربما يقول قائل إذن أنت تقول علينا أن نترك كل شيء للطغاة ولا نشارك في أي شيء نستطيع من خلاله الإصلاح وفق الوسع؟ بالطبع لا أقول ذلك، ونما أقول إن ذلك مسار مختلف عن مسار تحرير البلاد من حُكم وكلاء المحتلين، فلا توجد أي مشكلة أن يقوم كل منا بالإصلاح في مجاله ولكن لن نطرد وكلاء المحتلين بإتقان العمل ولا بدخول مجلس النواب ولا بالمشاركة في المحليات ولا بإنشاء جريدة أو قناة... إلخ، فمع أهمية كل ذلك للإصلاح، إلا أنه مسار موازٍ، والقوة الخشنة هي التي ستطرد وكلاء المحتلين، هي التي ستقضي على الثورة المضادة، هي وحدها التي تستطيع إدارة البلاد في فترة ما بعد إزاحة نظام الاحتلال بالوكالة، هي التي تقدر على فرض نفسها كلاعب إقليمي ودولة.

نستنتج مما سبق أنه يجب إعداد القوة، بغض النظر عن الطريقة أو الوسيلة فتختلف من بلد إلى بلد، ولكن المجال العسكري يجب أن يكون من اهتمام كل حركة تغييرية تريد أن تحكم، لابد من وجود كتائب مسلحة ووعي عسكري ومعرفة واهتمام بالعلوم العسكرية والاستراتيجيات العسكرية وجاهزية الأعداء العسكرية سواء الوكلاء أو الصهاينة أو الأمريكان... إلخ

وأي حركة تغييرية تخلو من ذلك فهي ليست جادة وتؤثر السلامة ولا تريد خوض المعركة الحقيقية الواقعية التي لا يُرحب فيها بالسذج أو الهاربين من الحقائق. وأي حركة لا تهتم بتلك المجالات فهي حركة دعوية أو خيرية أو سمها ما تشاء، لكنها لن تكون أبداً حركة قابلة لقيادة الشعوب لتحرير البلاد ونيل استقلالها.
‏٠١‏/٠٣‏/٢٠١٩ ٧:٣٢ م‏
الفكر السياسي بين القراءة والممارسة د. علي العمري* فك الله أسره (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) لا شكَّ أن القراءة في التاريخ السياسي تحدث عملية جدية لتكوين الفكر السياسي، ولكن الأفكار إنما تربط بين الخيوط العريضة لحوادث التاريخ السياسي، لا أكثر. وتبقى للممارسة الدور الأكبر في تجلية الواقع السياسي على حقيقته، والدور المطلوب في ظلاله. ولذلك فإن الكتب التي جمعت بين القراءة في التاريخ السياسي القديم والحديث، ونقلت تجارب العلم السياسي من خلال الممارسة الميدانية، والوقوف الحقيق على المشهد بكل تفاصيله وأبعاده، تعتبر ثروة مهمة، وأصولاً أساسية لبناء الفكر السياسي. وشباب الدعوة اليوم متطلعون جداً لمعرفة كواليس العملية السياسية التي تجري في بلدانهم، أو في ما يتعلق بشؤون أمتهم، وما يمسهم في مستقبلهم! وهذا التطلع هو ثمرة للانفتاح الإعلامي، وبروز بعض قيادات العمل السياسي الإسلامي. وإذا كان (رويبضة) العلم الشرعي، يخلخلون صف المسلمين، لضيق أفقهم، وقلة وعيهم، وضعف تكوينهم، إلا أن (رويبضة) العلم السياسي لجيل الدعاة، يسببون الفتن، ويخلطون الأولويات، ويزرعون الضغائن، ويفوتون المصالح! وللأسف فإن فكرة (الرأي والرأي الآخر) في الطرح السياسي لجيل الدعاة قد تكون غير مجدية! فالإطلاع السريع والمشوش لمجريات الأحداث في الواقع السياسي، لا يعطي الصورة الكاملة والحقيقة لأبعاد القضايا. وابتسار الكلمات السريعة في الحوارات واللقاءات وردود التصريحات يعطي انطباعاً ربما، لكنه لا يوضِّح جذر المشكلة، ولا أساس الخيط فيها، إلا من تكامل استيعابه من المصادر المهمة الأساسية لكل موضوع. ومن نافلة القول أن نبين أن عملية الفكر السياسي لا تتعلق بمشهد الحروب والكوارث والانتخابات والسلطة وما سوى ذلك. بل إنها تتعلق بفقه المصالح والمكتسبات وإدارة الأزمات والأولويات في كل قطر، وعلى صعيد التمثيل الشخصي في بعض المشاهد والمواقع المؤثرة أحياناً. وهذا يتطلب ميلاناً للقراءة الجادة في التاريخ السياسي، وسير رجالات السياسة، الذين قد يكون منهم العلماء والفقهاء والمصلحون! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ * نُشر هذا المقال بموقع الدكتور علي العمري فك الله أسره.
الفكر السياسي بين القراءة والممارسة
د. علي العمري*
فك الله أسره

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

لا شكَّ أن القراءة في التاريخ السياسي تحدث عملية جدية لتكوين الفكر السياسي، ولكن الأفكار إنما تربط بين الخيوط العريضة لحوادث التاريخ السياسي، لا أكثر.

وتبقى للممارسة الدور الأكبر في تجلية الواقع السياسي على حقيقته، والدور المطلوب في ظلاله.

ولذلك فإن الكتب التي جمعت بين القراءة في التاريخ السياسي القديم والحديث، ونقلت تجارب العلم السياسي من خلال الممارسة الميدانية، والوقوف الحقيق على المشهد بكل تفاصيله وأبعاده، تعتبر ثروة مهمة، وأصولاً أساسية لبناء الفكر السياسي.

وشباب الدعوة اليوم متطلعون جداً لمعرفة كواليس العملية السياسية التي تجري في بلدانهم، أو في ما يتعلق بشؤون أمتهم، وما يمسهم في مستقبلهم!
وهذا التطلع هو ثمرة للانفتاح الإعلامي، وبروز بعض قيادات العمل السياسي الإسلامي.

وإذا كان (رويبضة) العلم الشرعي، يخلخلون صف المسلمين، لضيق أفقهم، وقلة وعيهم، وضعف تكوينهم، إلا أن (رويبضة) العلم السياسي لجيل الدعاة، يسببون الفتن، ويخلطون الأولويات، ويزرعون الضغائن، ويفوتون المصالح!
وللأسف فإن فكرة (الرأي والرأي الآخر) في الطرح السياسي لجيل الدعاة قد تكون غير مجدية!

فالإطلاع السريع والمشوش لمجريات الأحداث في الواقع السياسي، لا يعطي الصورة الكاملة والحقيقة لأبعاد القضايا.

وابتسار الكلمات السريعة في الحوارات واللقاءات وردود التصريحات يعطي انطباعاً ربما، لكنه لا يوضِّح جذر المشكلة، ولا أساس الخيط فيها، إلا من تكامل استيعابه من المصادر المهمة الأساسية لكل موضوع.

ومن نافلة القول أن نبين أن عملية الفكر السياسي لا تتعلق بمشهد الحروب والكوارث والانتخابات والسلطة وما سوى ذلك. بل إنها تتعلق بفقه المصالح والمكتسبات وإدارة الأزمات والأولويات في كل قطر، وعلى صعيد التمثيل الشخصي في بعض المشاهد والمواقع المؤثرة أحياناً.

وهذا يتطلب ميلاناً للقراءة الجادة في التاريخ السياسي، وسير رجالات السياسة، الذين قد يكون منهم العلماء والفقهاء والمصلحون!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نُشر هذا المقال بموقع الدكتور علي العمري فك الله أسره.
‏٢٨‏/٠٢‏/٢٠١٩ ١٢:٢٥ م‏
ربيع السودان.. من أين يهب وإلى أين يتَّجه د. عطية عدلان (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .. على حين غِرَّةٍ .. وبينما الخَلْقُ قد نَفَضُوا أيديهم من كل ما تبقى لهم من الأمل والثقة؛ إذْ بموجة من الربيع العربيّ لم تكن متوقعة، تهب في الجنوب كأعنف ما يكون الهبوب، تهب لِتُرسل - قبل أن تُوَدِّعَ ذاهبةً في ذات الطريق الذي ذهبت فيه أخواتها - رسالةً مفادها: "إنَّ الشعوب شمس لا تغيب وأمل لا يخيب" وفحواها: "إنَّ الاستبداد عدو للشعوب مهما كان مصدره وأيَّاً ما كانت هوية المستبد". لقد برهنت أحداث الربيع السوداني على أننا لا زلنا لم نتعلم كثيراً، ولا زلنا لم نتحرر في ذات أنفسنا تحرراً يمكننا من رؤية الحقيقة مجردة من كل قيد، ولا زلنا - و نحن نُقَيِّم الأشخاص والأوضاع - ننحاز ونميل فتنحاز الرؤية بانحيازنا وتميل، وإنني لعلى يقين من أنَّ الكثيرين ممن يجلدون الاستبداد ويلعنون الظلم والفساد في مصر وغيرها يغضون طرفهم ويثنون صدورهم عمَّا يجري في السودان، وينقبون في زوايا الأذهان عن مخارج وتأويلات، لا تُغني في البحث عن الحقيقة إلا بقدر ما يغني من الجوع والظمأ والهلاك الاستياك بأعواد الأراك. إنَّ الاستبداد هو الاستبداد مهما كانت هوية المستبد، وإنَّ الظلم والعسف والقهر والقمع أمراض للسلطة لا يخفف من قبحها ودمامتها انتساب القائمين عليها إلى دين ولو كان الإسلام، وإنَّ الإسلام لم يحرم هذه الموبقات على الكافرين ليحلها للمسلمين، ولم يأت بشيء هلاميّ مُتَمَيِّع يكون في حق قوم رذائل وفي حق آخرين مناقب وفضائل، وإنَّه لا يُعرف دين تحت قبة السماء أوضح ولا أصرح من هذا الدين القيم الذي بلغ من الوضوح والصراحة والحنيفية والسماحة أنَّه وحده دين الفطرة الإنسانية السوية التي فطر الله عليها العباد أول مرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30). إنَّ نظاماً جاء من اللحظة الأولى عَبْرَ انقلاب عسكريّ على حكومة مختارة من الشعب، وعلى ظهر دبابة غشوم كوجه المستبد؛ ليحكم ويستمر في الحكم بذات الأدوات التي يحكم بها المستبدون من كل مذهب؛ لا يمكن أن يكون نظاماً شرعيا بنظر الإسلام، إلا بحكم الضرورة التي يجب أن تقدر بقدرها، وبشروط وضمانات لم يتحقق منها إلى الآن إلا بمقدار ما تحقق من قرارات مجلس الأمن بحق قضايا المستضعفين في الأرض، وإنَّ الإسلام بريء من كل هذه الصور المشوهة البائسة براءة عائشة مما رماها به المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ومن بين عشرات النصوص التي تؤسس للحكم الرشيد يكفينا نص واحد لا أرى الحيدة عنه إلا مفاصلة ومباينة لمنهج الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء 58). إنَّ البشير والطغمة الحاكمة لم يؤدوا الأمانات إلى أهلها ولم يحكموا بين الناس بالعدل، فلقد ضيعوا الأمانة بمشروع التمكين الذي بموجبه احتل (الإسلاميون!) مواقع النميريين في الدولة العميقة، وورثوا فسادهم الماليّ، ولم يعتبروا بما كانوا يرتلونه في حال الاستضعاف: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (إبراهيم 45)، وضيعوا الأمانة بالتفريط في أرض الإسلام والرضوخ لتقسيم السودان ولانفصال الجنوب، بلا مسوغ إلا أمانيّ كاذبة واغترار بوعود في فضاء الأحلام ذاهبة، وضيعوا الأمانة عندما صار ما تبقى من خيرات البلاد وأقوات العباد دولة بين السماسرة والأوغاد. لقد كانت تجربة السودان من أبأس وأنكد التجارب التي نسبت نفسها للإسلام، كانت بائسة ونكدة على المستويين النظريّ والعمليّ، فعلى المستوى النظريّ تشوهت الفكرة الإسلامية على يد (حسن الترابي) الذي غرس العلمنة في صميم الدين نفسه، وعلى المستوى العمليّ تشوهت التجربة على يد البشير الذي أفقر الشعب وجوعه ومزق البلاد وشتتها؛ حتى لم تعد السودان التي يفترض أن تكون سلة الخيرات للأمة كلها سوى مجاعة في قعر مَضْيَعَةٍ يأكل فيها القوي الضعيف بلا رحمة ولا شفقة. ومع ذلك ظلّ الخلق ينتظرون منهم خيراً، ويرجون فيهم عَوْداً إلى الحق، حتى جاءت قاصمة الظهر بزيارة البشير لبشار، ومباركته له في لقاء حار، فانتفضت الشعوب، وانتفض في قلوب الناس الغضب، وتحركت الأوجاع التي كانت هاجعة، فإذا بالبشير الذي كان - بنظر الجميع - جالساً على شاطئ طوفان الربيع العربيّ حاسراً سراويله (يَمُصُّ القصب) إذا به يغرق فجأة في لججه ويغوص في أعماقة؛ فهل سيكون مصيره كمصير بشار: يقتل شعبه؛ فيُلعن على أسلنة الغادين والرائحين؟ أم كمصير غيره ممن غادروا الحكم إلى ظلمات القبور أو مزابل التاريخ؟ الذي يلوح لي أنَّ الوضع غاية في التعقيد؛ فالبشير يخشى من المحاكمة في الجنائية الدولية، ويخشى كذلك من محاكمة شعبة، فلا ملجأ له ولا معتصم إلا اللصوق بالكرسيّ، والاحتماء بالعصبة المنتفعة في الداخل وبالقوى المتربصة في الخارج، ويستطيع أن يحظى بالحماية والدعم من روسيا والإمارات والسعودية، والثمن سيكون باهظ التكاليف؛ فإذا لم يتراجع المدّ الثوري ليحاكم قادته وأصحاب الصوت العالي فيه محاكمة كلها عسف وجور، فلا مفرّ من تجرع المرّ أو الأَمَرّ، فأما المرّ فهو القمع الغشوم على طريقة السيسي في رابعة والنهضة وما سبقهما وما تلاهما، والأَمَرُّ هو الدخول في نفق الحرب الأهلية. في حالة واحدة يمكن أن يلج الجمل في سم الخياط وتنجو السودان من المصير الأسود، وهي أن يقبل البشير بالنزول عن عناده، ويترك الحكم لحكومة تقنوقراط انتقالية، في مقابل ضمانة من مجموعة دول عربية وإسلامية لينجو من المحاكمة بصورة ما تتسع لها تفاهمات دولية وإقليمية، وهذه لكي تحدث لا بد من دور للعلماء والدعاة في السودان؛ يبدأ بالانحياز التام لمطالب الشعب، وينتهي بعد سلسلة من التفاوضات بالتعاون مع بعض الدول لإتمام مشروع المصالحة، فهل يمكن أن يفعل العلماء شيئاً هذه المرة؟! هذا ما نتمناه، ونسأل الله لأهل السودان الفلاح والنجاة.
ربيع السودان.. من أين يهب وإلى أين يتَّجه

د. عطية عدلان

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..

على حين غِرَّةٍ .. وبينما الخَلْقُ قد نَفَضُوا أيديهم من كل ما تبقى لهم من الأمل والثقة؛ إذْ بموجة من الربيع العربيّ لم تكن متوقعة، تهب في الجنوب كأعنف ما يكون الهبوب، تهب لِتُرسل - قبل أن تُوَدِّعَ ذاهبةً في ذات الطريق الذي ذهبت فيه أخواتها - رسالةً مفادها: "إنَّ الشعوب شمس لا تغيب وأمل لا يخيب" وفحواها: "إنَّ الاستبداد عدو للشعوب مهما كان مصدره وأيَّاً ما كانت هوية المستبد".

لقد برهنت أحداث الربيع السوداني على أننا لا زلنا لم نتعلم كثيراً، ولا زلنا لم نتحرر في ذات أنفسنا تحرراً يمكننا من رؤية الحقيقة مجردة من كل قيد، ولا زلنا - و نحن نُقَيِّم الأشخاص والأوضاع - ننحاز ونميل فتنحاز الرؤية بانحيازنا وتميل، وإنني لعلى يقين من أنَّ الكثيرين ممن يجلدون الاستبداد ويلعنون الظلم والفساد في مصر وغيرها يغضون طرفهم ويثنون صدورهم عمَّا يجري في السودان، وينقبون في زوايا الأذهان عن مخارج وتأويلات، لا تُغني في البحث عن الحقيقة إلا بقدر ما يغني من الجوع والظمأ والهلاك الاستياك بأعواد الأراك.

إنَّ الاستبداد هو الاستبداد مهما كانت هوية المستبد، وإنَّ الظلم والعسف والقهر والقمع أمراض للسلطة لا يخفف من قبحها ودمامتها انتساب القائمين عليها إلى دين ولو كان الإسلام، وإنَّ الإسلام لم يحرم هذه الموبقات على الكافرين ليحلها للمسلمين، ولم يأت بشيء هلاميّ مُتَمَيِّع يكون في حق قوم رذائل وفي حق آخرين مناقب وفضائل، وإنَّه لا يُعرف دين تحت قبة السماء أوضح ولا أصرح من هذا الدين القيم الذي بلغ من الوضوح والصراحة والحنيفية والسماحة أنَّه وحده دين الفطرة الإنسانية السوية التي فطر الله عليها العباد أول مرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30).

إنَّ نظاماً جاء من اللحظة الأولى عَبْرَ انقلاب عسكريّ على حكومة مختارة من الشعب، وعلى ظهر دبابة غشوم كوجه المستبد؛ ليحكم ويستمر في الحكم بذات الأدوات التي يحكم بها المستبدون من كل مذهب؛ لا يمكن أن يكون نظاماً شرعيا بنظر الإسلام، إلا بحكم الضرورة التي يجب أن تقدر بقدرها، وبشروط وضمانات لم يتحقق منها إلى الآن إلا بمقدار ما تحقق من قرارات مجلس الأمن بحق قضايا المستضعفين في الأرض، وإنَّ الإسلام بريء من كل هذه الصور المشوهة البائسة براءة عائشة مما رماها به المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ومن بين عشرات النصوص التي تؤسس للحكم الرشيد يكفينا نص واحد لا أرى الحيدة عنه إلا مفاصلة ومباينة لمنهج الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء 58).

إنَّ البشير والطغمة الحاكمة لم يؤدوا الأمانات إلى أهلها ولم يحكموا بين الناس بالعدل، فلقد ضيعوا الأمانة بمشروع التمكين الذي بموجبه احتل (الإسلاميون!) مواقع النميريين في الدولة العميقة، وورثوا فسادهم الماليّ، ولم يعتبروا بما كانوا يرتلونه في حال الاستضعاف: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (إبراهيم 45)، وضيعوا الأمانة بالتفريط في أرض الإسلام والرضوخ لتقسيم السودان ولانفصال الجنوب، بلا مسوغ إلا أمانيّ كاذبة واغترار بوعود في فضاء الأحلام ذاهبة، وضيعوا الأمانة عندما صار ما تبقى من خيرات البلاد وأقوات العباد دولة بين السماسرة والأوغاد.

لقد كانت تجربة السودان من أبأس وأنكد التجارب التي نسبت نفسها للإسلام، كانت بائسة ونكدة على المستويين النظريّ والعمليّ، فعلى المستوى النظريّ تشوهت الفكرة الإسلامية على يد (حسن الترابي) الذي غرس العلمنة في صميم الدين نفسه، وعلى المستوى العمليّ تشوهت التجربة على يد البشير الذي أفقر الشعب وجوعه ومزق البلاد وشتتها؛ حتى لم تعد السودان التي يفترض أن تكون سلة الخيرات للأمة كلها سوى مجاعة في قعر مَضْيَعَةٍ يأكل فيها القوي الضعيف بلا رحمة ولا شفقة.

ومع ذلك ظلّ الخلق ينتظرون منهم خيراً، ويرجون فيهم عَوْداً إلى الحق، حتى جاءت قاصمة الظهر بزيارة البشير لبشار، ومباركته له في لقاء حار، فانتفضت الشعوب، وانتفض في قلوب الناس الغضب، وتحركت الأوجاع التي كانت هاجعة، فإذا بالبشير الذي كان - بنظر الجميع - جالساً على شاطئ طوفان الربيع العربيّ حاسراً سراويله (يَمُصُّ القصب) إذا به يغرق فجأة في لججه ويغوص في أعماقة؛ فهل سيكون مصيره كمصير بشار: يقتل شعبه؛ فيُلعن على أسلنة الغادين والرائحين؟ أم كمصير غيره ممن غادروا الحكم إلى ظلمات القبور أو مزابل التاريخ؟

الذي يلوح لي أنَّ الوضع غاية في التعقيد؛ فالبشير يخشى من المحاكمة في الجنائية الدولية، ويخشى كذلك من محاكمة شعبة، فلا ملجأ له ولا معتصم إلا اللصوق بالكرسيّ، والاحتماء بالعصبة المنتفعة في الداخل وبالقوى المتربصة في الخارج، ويستطيع أن يحظى بالحماية والدعم من روسيا والإمارات والسعودية، والثمن سيكون باهظ التكاليف؛ فإذا لم يتراجع المدّ الثوري ليحاكم قادته وأصحاب الصوت العالي فيه محاكمة كلها عسف وجور، فلا مفرّ من تجرع المرّ أو الأَمَرّ، فأما المرّ فهو القمع الغشوم على طريقة السيسي في رابعة والنهضة وما سبقهما وما تلاهما، والأَمَرُّ هو الدخول في نفق الحرب الأهلية.

في حالة واحدة يمكن أن يلج الجمل في سم الخياط وتنجو السودان من المصير الأسود، وهي أن يقبل البشير بالنزول عن عناده، ويترك الحكم لحكومة تقنوقراط انتقالية، في مقابل ضمانة من مجموعة دول عربية وإسلامية لينجو من المحاكمة بصورة ما تتسع لها تفاهمات دولية وإقليمية، وهذه لكي تحدث لا بد من دور للعلماء والدعاة في السودان؛ يبدأ بالانحياز التام لمطالب الشعب، وينتهي بعد سلسلة من التفاوضات بالتعاون مع بعض الدول لإتمام مشروع المصالحة، فهل يمكن أن يفعل العلماء شيئاً هذه المرة؟! هذا ما نتمناه، ونسأل الله لأهل السودان الفلاح والنجاة.
‏٢٦‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٦:٣٠ م‏
ميزان الاعتدال في تعامل العلماء مع الحكام د. وصفي عاشور أبو زيد (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) في تراثنا السياسي الإسلامي وفي عصور الخلافة المتتالية نجد تحذيرا واضحا من الدخول على السلاطين والحكام، وأن من دخل عليهم افتتن، وباع دينه بدنياه حتى يبيع دينه بدنيا غيره .. وانتشرت هذه المقولة في تراثنا السياسي الإسلامي لتكون قضية مسلمة وحكمًا عامًّا في حرمة الدخول على الحكام حتى ألف السيوطي رحمه الله تعالى كتابا أسماه: "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" أورد فيه مقولات تقطع بمنع دخول العلماء على الحكام! حتى قال بعدما أورده من أدلة : (ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها سواء دعوه إلى المجيء إليهم - أي السلاطين - أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها. قال سفيان الثوري: « إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم » رواه البيهقي .. ) ا.هـ. [تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ويليه ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين: 184. دار الكتب العلمية]. ونحن لا نسلم بهذه المقولة على إطلاقها، ولا نأخذها على عواهنها، فينبغي حمل هذا المنع على ظروف خاصة، وحالات بعينها، لا تمثل حكمًا مطردا، ولا نهيا عاما يحرم تعامل العلماء مع الحكام، ويحصر تعاملهم معهم عن بعد وفي نهيهم والإنكار عليهم. صحيح أن الحكام في كل عصر استخدموا علماء الدين في تمرير ما يريدون، وفي تسويغ ما يفعلون، وفي إضفاء غطاء شرعي على جرائمهم ومخالفاتهم في تعطيل مصالح الخلق ومخالفة الحق، لكن هذا لا يكون مسوغًا لإعطاء حكم عام انطلاقا من وقائع بعينها في عصور بعينها وحلات بعينها وحكام بأعيانهم؛ إذ عندنا في تاريخنا صور مشرفة لتعامل العلماء مع الحكام واستقامتهم بهم وتقويمهم بنصائحهم تعدل النماذج الأخرى الفاسدة الفاجرة! السلطان الحق من نعم الحق على الخلق والسلطان الحق نعمة من نعم الله تعالى على عباده، ولهذا فإنه إذا تولى بحق فلا غنى له عن نصيحة العلماء وتوجيههم ومشورتهم حتى قال ابن عطية: "والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه". [المحرر الوجيز: 1/534. دار الكتب العلمية]. والسلطان الحق تقوم به حدود الله، ويُحرَس به الدين، وتساس الدنيا به وفق الدين؛ ولهذا فإن الله يزع به ما لا يزع بالقرآن، ويمحو به ما يشاء ويثبت بما لا يمحوه بشيء آخر، ولا ننسى حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منها: "إمام عادل" [رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة]؛ ولهذا وجب التفريق عند الحديث عن هذه القضية بين سلاطين العدل وسلاطين الجور، وبين علماء السلطان وعلماء القرآن. وجوب التفرقة بين سلاطين العدل والجور وبين علماء السلطان والقرآن فنحن مع سلاطين العدل لا يمكن أن نقول بحرمة الدخول عليهم بل يجب تقديم العون والمشورة لهم والنصيحة الصادقة في كل أمر يحزبهم وينزل بهم، وهذا لا يكون إلا من علماء الحق والصدق. أما علماء السلاطين فهؤلاء ربما يضلون الحكام، ويزينون لهم السوء، ويوشون عندهم بالعلماء الصادقين والدعاة الربانيين كما تواترت بذلك قصص ومواقف في التاريخ القديم والحديث سواء؛ ولهذا يجب تحذير هؤلاء الحكام من إدخال علماء السلاطين والنفاق عليهم!. أما حكام السوء وسلاطين الظلام والضلال والقتل والإفساد في الأرض فهؤلاء لا يدخل عليهم العالم إلا منكرًا، ناهيًا لهم عن مسلكهم، ومحذرًا لهم من مغبة أفعالهم، وهذا لا يكون إلا من علماء القرآن العاملين الصادقين. أما علماء السلاطين فيزينون لهم أفعالهم ليروها حسنة، ويشرعنون لهم القتل والفساد والإفساد والجرئم التي يقومون بها، بل يقومون بتحريض هؤلاء الحكام الطغاة على علماء الحق ودعاة الصدق ليفتكون بهم وينزلون عليهم غضبهم وسخطهم وعقابهم حين يتلقى علماء الحق ذلك حسبة لله في رضاء واحتساب غير مبالين بغضب الحكام وسخطهم، وإنما يسعون لرضا الله وفضله، شعارهم قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي"!. خطأ تنزيل نصوص طاعة السلطان وفضله على سلاطين الجور ومن الخطأ البين أن ننزل النصوص الشرعية الآمرة بطاعة الحكام ما داموا يطيعون الله ورسوله على أمراء السوء وسلاطين الفُجر والفساد، فهذا خطأ في مناط النصوص حمل كثيرا من العلماء قديما وحديثا على التحذير من الدخول على الحكام والنهي عن ذلك. ولهذا قال الإمام الجمال يوسف بن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله تعالى (ت:909هـ) بعد سرده لأحاديث فضل السلطان، وطاعته: "العجب من بعض المُتفقِّهة الفجَرة! يذكرون هذه الأحاديث لكثيرٍ من الظلَمة، ممن انغمس في الظلم، وعامَ فيه وسبَح، وأخذ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثر من ألفِ مرة بغير حقّ، واستحلَّ أموال الناس، ودماءَهم وأعراضهم، ويُزيِّن له أنه عادل، ولولا أنت ولولا أنت! ليتوجَّه بذلك عنده، ويُنفق سوقَه، فلا كثَّر الله في المسلمين مِن أمثالهم". [إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة لابن عبد الهادي: 123. دار النوادر. سوريا. 1432هـ]. وقال أيضًا : "فالعجبُ كلَّ العجب من كلب نجس لا دين له ولا عقل، ومع ذلك يزعم أنه فقيه، ويدخل على الظلمة الفجَرة في القرن التاسع والعاشر، ويُزيِّن لهم، ويُحسِّن لهم أنهم على العدل، وأنهم من العادلين! مع قتل النفس المُحرمة، وعدم توقِّي دماءَ المسلمين وأموالَهم وأعراضهم، ومع ذلك منهم مَن يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أباح قتل الثُّلثين في صلاح الثُّلث، ونحو ذلك..! وكلُّ ذلك زورٌ وبهتان، وافتراءٌ على الأئمة، لا حقيقة له ولا أصل، ومَن عنده إيمانٌ ومعرفة؛ يعلم أنه لا يَحِلُّ قتلُ أدنى أدنى نفسٍ مُسلمة لصلاح أحد، كائنًا من كان، ولو اجتمع أهلُ الأرض على قتْل نفسٍ مسلمة بغير حق أكبَّهم الله به في نارِ جهنم". [إيضاح طرق الاستقامة: 127]. هؤلاء الحكام الظلمة واجب العلماء نحوهم هو الإنكار وليس المداهنات في دين الله أو المجاملات على حساب شريعته، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن لا إيمان بعده". [رواه البزار في مسند 1896]. إذ المجاملات والمداهنات تعمل على توسيع مساحات الطغيان وتمكين دوائر الفساد؛ ولهذا ربط أبو حامد الغزالي بين فساد الحكام وفساد العلماء فقال: " إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم". [إحياء علوم الدين: 2/ 150. دار المعرفة]. نماذج مشرفة من التاريخ وقد حفظ لنا التاريخ نماذج مشرفة من العلماء الأحرار ضد سلاطين الجور، ومن ذلك ما أورده الإمام الذهبي من قصة إنكار الأوزاعي على السفاح قال: حدثنا الأوزاعي ، قال : بعث عبد الله بن عليإلي ، فاشتد ذلك علي ، وقدمت ، فدخلت ، والناس سماطان فقال : ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ قلت : أصلح الله الأمير ! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة . قال : لتخبرني . فتفكرت ، ثم قلت : لأصدقنه ، واستبسلت للموت ، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال وبيده قضيب ينكت به ، ثم قال : يا عبد الرحمن : ما تقول في قتل أهل هذا البيت ؟ قلت : حدثني محمد بن مروان ، عن مطرف بن الشخير ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث . . . " . فقال : أخبرني عن الخلافة ، وصية لنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : لو كانت وصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك علي - رضي الله عنه - أحدا يتقدمه . قال : فما تقول في أموال بني أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالا ، فهي عليك حرام ، وإن كانت عليهم حراما ، فهي عليك أحرم . فأمرني ، فأخرجت. قلت – يعني الذهبي - قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا - قاتلهم الله - أو "يسكتون مع القدرة على بيان الحق"). [سير أعلام النبلاء: 1497-1498. تحقيق شعيب الأرناؤوط والعرقسوسي. مؤسسة الرسالة]. و‏لما علم الإمام أحمد بإدخاله على المأمون جثى على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: (سيدي غرّ حلمُك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم إن يكن القرآنُ كلامَك غيرَ مخلوق فاكفنا مؤنته) فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال الإمام أحمد: (ففرحنا) [البداية والنهاية: 10/366. دار إجياء التراث العربي]. أما سلطان العلماء العز بن عبد السلام فله مواقف مشرفة في هذا المقام تذكر فتشكر، من ذلك: **حين أنكر على حاكم دمشق “الصالح إسماعيل” تحالفه مع الصليبيين وتنازله لهم عن بعض المواقع، وسماحه للناس ببيع السلاح للإفرنج، فأفتى الشيخ بتحريم ذلك كله، وأعلن موقفه على المنبر، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به“. فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لي أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم. **ومن ذلك أيضا بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فقد أبطل "العز" تصرفاتهم، لأن المملوك لا ينفُذُ تصرُّفُه شرعاً. وقد ضايقهم ذلك، وعطّل مصالحهم، فراجعوه فقال: لابد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتُباعوا فيه، ويردَّ ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي… فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض؟. وثار نائب السلطان وذهب في جماعة من الأمراء إلى بيت الشيخ يريدون قتله، فلما رآهم ابنه فزع وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: “يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله” أي إن من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، لم أَبْلُغْها!. وغضب الملك نجم الدين أيوب من هذه الفتوى وقال: ليس هذا من اختصاص الشيخ، وليس له به شأن!. فلما علم “العز” بذلك عزل نفسه عن القضاء، وقرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان. وجاء من هَمَس في أذن الملك: متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ. فرجع العز ونفّذ الحكم!. وموقف ثالث لسلطان العلماء؛ حيث كان مع الملك نجم الدين أيوب نفسه. ذكر السبكيّ في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه! فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات! فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟! وقد أمر السلطان بإقفال الحانة فوراً. ثم سأل الشيخَ أحدُ تلامذته: أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا؟! فقال الشيخ: استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ!". [راجع هذه المواقف وغيرها في كتاب د. محمد الزحيلي: " العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك الداعية المصلح القاضي الفقيه الأصولي المفسر". ضمن سلسلة أعلام المسلمين رقم 39. دار القلم دمشق]. *** والخلاصة أن هذا يبين لنا بجلاء أن المقولة التي شاعت في تراثنا السياسي حتى استقرت بحرمة الدخول على الحكام هي مقولة غير مسلمة، ولا يمكن الأخذ بها باطراد، فيجب التفريق بين حكام الحق والصدق والعدل الذين يجب عونهم وتقديم المشورة الحقة والنصيحة المخلصة لهم، والذين وردت النصوص بفضلهم ومكانتهم، ويجب على هؤلاء الحكام ألا يُدخلوا علماء النفاق عليهم .. أما علماء الجور فهؤلاء لا يمنع الدخول عليهم كذلك، بل إذا أتيح فهي فرصة للعلماء الربانيين للإنكار عليهم والنصح لهم – والدين النصيحة – وإقامة الحجة عليهم، أما علماء السلاطين فهؤلاء يقومون بدور " التيس المستعار" للحكام: ينافقونهم، ويبررون لهم انحرافهم، ويشرعنون لهم جرائمهم .. ومن رحمة الله تعالى أنه لم يُعدم تاريخنا من نماذج مشرفة قدمت النصح لحكام الجور، وصدعت بالحق وقالت الصدق، وما أحوجنا لهم في عصرنا وفي كل عصر، وهم لا يخلو منهم جيل ولا مكان بحمد الله ولطفه، وما أصدق قول الشاعر: إن الذي خلق الحقيقة علقمًا ** لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا
ميزان الاعتدال في تعامل العلماء مع الحكام

د. وصفي عاشور أبو زيد

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

في تراثنا السياسي الإسلامي وفي عصور الخلافة المتتالية نجد تحذيرا واضحا من الدخول على السلاطين والحكام، وأن من دخل عليهم افتتن، وباع دينه بدنياه حتى يبيع دينه بدنيا غيره .. وانتشرت هذه المقولة في تراثنا السياسي الإسلامي لتكون قضية مسلمة وحكمًا عامًّا في حرمة الدخول على الحكام حتى ألف السيوطي رحمه الله تعالى كتابا أسماه: "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين" أورد فيه مقولات تقطع بمنع دخول العلماء على الحكام! حتى قال بعدما أورده من أدلة : (ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها سواء دعوه إلى المجيء إليهم - أي السلاطين - أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها. قال سفيان الثوري: « إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم » رواه البيهقي .. ) ا.هـ. [تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ويليه ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين: 184. دار الكتب العلمية].

ونحن لا نسلم بهذه المقولة على إطلاقها، ولا نأخذها على عواهنها، فينبغي حمل هذا المنع على ظروف خاصة، وحالات بعينها، لا تمثل حكمًا مطردا، ولا نهيا عاما يحرم تعامل العلماء مع الحكام، ويحصر تعاملهم معهم عن بعد وفي نهيهم والإنكار عليهم.

صحيح أن الحكام في كل عصر استخدموا علماء الدين في تمرير ما يريدون، وفي تسويغ ما يفعلون، وفي إضفاء غطاء شرعي على جرائمهم ومخالفاتهم في تعطيل مصالح الخلق ومخالفة الحق، لكن هذا لا يكون مسوغًا لإعطاء حكم عام انطلاقا من وقائع بعينها في عصور بعينها وحلات بعينها وحكام بأعيانهم؛ إذ عندنا في تاريخنا صور مشرفة لتعامل العلماء مع الحكام واستقامتهم بهم وتقويمهم بنصائحهم تعدل النماذج الأخرى الفاسدة الفاجرة!

السلطان الحق من نعم الحق على الخلق

والسلطان الحق نعمة من نعم الله تعالى على عباده، ولهذا فإنه إذا تولى بحق فلا غنى له عن نصيحة العلماء وتوجيههم ومشورتهم حتى قال ابن عطية: "والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه". [المحرر الوجيز: 1/534. دار الكتب العلمية].

والسلطان الحق تقوم به حدود الله، ويُحرَس به الدين، وتساس الدنيا به وفق الدين؛ ولهذا فإن الله يزع به ما لا يزع بالقرآن، ويمحو به ما يشاء ويثبت بما لا يمحوه بشيء آخر، ولا ننسى حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منها: "إمام عادل" [رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة]؛ ولهذا وجب التفريق عند الحديث عن هذه القضية بين سلاطين العدل وسلاطين الجور، وبين علماء السلطان وعلماء القرآن.

وجوب التفرقة بين سلاطين العدل والجور وبين علماء السلطان والقرآن

فنحن مع سلاطين العدل لا يمكن أن نقول بحرمة الدخول عليهم بل يجب تقديم العون والمشورة لهم والنصيحة الصادقة في كل أمر يحزبهم وينزل بهم، وهذا لا يكون إلا من علماء الحق والصدق.

أما علماء السلاطين فهؤلاء ربما يضلون الحكام، ويزينون لهم السوء، ويوشون عندهم بالعلماء الصادقين والدعاة الربانيين كما تواترت بذلك قصص ومواقف في التاريخ القديم والحديث سواء؛ ولهذا يجب تحذير هؤلاء الحكام من إدخال علماء السلاطين والنفاق عليهم!.

أما حكام السوء وسلاطين الظلام والضلال والقتل والإفساد في الأرض فهؤلاء لا يدخل عليهم العالم إلا منكرًا، ناهيًا لهم عن مسلكهم، ومحذرًا لهم من مغبة أفعالهم، وهذا لا يكون إلا من علماء القرآن العاملين الصادقين.

أما علماء السلاطين فيزينون لهم أفعالهم ليروها حسنة، ويشرعنون لهم القتل والفساد والإفساد والجرئم التي يقومون بها، بل يقومون بتحريض هؤلاء الحكام الطغاة على علماء الحق ودعاة الصدق ليفتكون بهم وينزلون عليهم غضبهم وسخطهم وعقابهم حين يتلقى علماء الحق ذلك حسبة لله في رضاء واحتساب غير مبالين بغضب الحكام وسخطهم، وإنما يسعون لرضا الله وفضله، شعارهم قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي"!.

خطأ تنزيل نصوص طاعة السلطان وفضله على سلاطين الجور

ومن الخطأ البين أن ننزل النصوص الشرعية الآمرة بطاعة الحكام ما داموا يطيعون الله ورسوله على أمراء السوء وسلاطين الفُجر والفساد، فهذا خطأ في مناط النصوص حمل كثيرا من العلماء قديما وحديثا على التحذير من الدخول على الحكام والنهي عن ذلك.

ولهذا قال الإمام الجمال يوسف بن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله تعالى (ت:909هـ) بعد سرده لأحاديث فضل السلطان، وطاعته: "العجب من بعض المُتفقِّهة الفجَرة! يذكرون هذه الأحاديث لكثيرٍ من الظلَمة، ممن انغمس في الظلم، وعامَ فيه وسبَح، وأخذ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثر من ألفِ مرة بغير حقّ، واستحلَّ أموال الناس، ودماءَهم وأعراضهم، ويُزيِّن له أنه عادل، ولولا أنت ولولا أنت! ليتوجَّه بذلك عنده، ويُنفق سوقَه، فلا كثَّر الله في المسلمين مِن أمثالهم". [إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة لابن عبد الهادي: 123. دار النوادر. سوريا. 1432هـ].

وقال أيضًا : "فالعجبُ كلَّ العجب من كلب نجس لا دين له ولا عقل، ومع ذلك يزعم أنه فقيه، ويدخل على الظلمة الفجَرة في القرن التاسع والعاشر، ويُزيِّن لهم، ويُحسِّن لهم أنهم على العدل، وأنهم من العادلين! مع قتل النفس المُحرمة، وعدم توقِّي دماءَ المسلمين وأموالَهم وأعراضهم، ومع ذلك منهم مَن يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أباح قتل الثُّلثين في صلاح الثُّلث، ونحو ذلك..! وكلُّ ذلك زورٌ وبهتان، وافتراءٌ على الأئمة، لا حقيقة له ولا أصل، ومَن عنده إيمانٌ ومعرفة؛ يعلم أنه لا يَحِلُّ قتلُ أدنى أدنى نفسٍ مُسلمة لصلاح أحد، كائنًا من كان، ولو اجتمع أهلُ الأرض على قتْل نفسٍ مسلمة بغير حق أكبَّهم الله به في نارِ جهنم". [إيضاح طرق الاستقامة: 127].

هؤلاء الحكام الظلمة واجب العلماء نحوهم هو الإنكار وليس المداهنات في دين الله أو المجاملات على حساب شريعته، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن لا إيمان بعده". [رواه البزار في مسند 1896].

إذ المجاملات والمداهنات تعمل على توسيع مساحات الطغيان وتمكين دوائر الفساد؛ ولهذا ربط أبو حامد الغزالي بين فساد الحكام وفساد العلماء فقال: " إنما فسدت الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم". [إحياء علوم الدين: 2/ 150. دار المعرفة].

نماذج مشرفة من التاريخ

وقد حفظ لنا التاريخ نماذج مشرفة من العلماء الأحرار ضد سلاطين الجور، ومن ذلك ما أورده الإمام الذهبي من قصة إنكار الأوزاعي على السفاح قال: حدثنا الأوزاعي ، قال : بعث عبد الله بن عليإلي ، فاشتد ذلك علي ، وقدمت ، فدخلت ، والناس سماطان فقال : ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ قلت : أصلح الله الأمير ! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة . قال : لتخبرني . فتفكرت ، ثم قلت : لأصدقنه ، واستبسلت للموت ، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال وبيده قضيب ينكت به ، ثم قال : يا عبد الرحمن : ما تقول في قتل أهل هذا البيت ؟ قلت : حدثني محمد بن مروان ، عن مطرف بن الشخير ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث . . . " . فقال : أخبرني عن الخلافة ، وصية لنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : لو كانت وصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك علي - رضي الله عنه - أحدا يتقدمه . قال : فما تقول في أموال بني أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالا ، فهي عليك حرام ، وإن كانت عليهم حراما ، فهي عليك أحرم . فأمرني ، فأخرجت. قلت – يعني الذهبي - قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا - قاتلهم الله - أو "يسكتون مع القدرة على بيان الحق"). [سير أعلام النبلاء: 1497-1498. تحقيق شعيب الأرناؤوط والعرقسوسي. مؤسسة الرسالة].

و‏لما علم الإمام أحمد بإدخاله على المأمون جثى على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: (سيدي غرّ حلمُك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم إن يكن القرآنُ كلامَك غيرَ مخلوق فاكفنا مؤنته) فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال الإمام أحمد: (ففرحنا) [البداية والنهاية: 10/366. دار إجياء التراث العربي].

أما سلطان العلماء العز بن عبد السلام فله مواقف مشرفة في هذا المقام تذكر فتشكر، من ذلك:

**حين أنكر على حاكم دمشق “الصالح إسماعيل” تحالفه مع الصليبيين وتنازله لهم عن بعض المواقع، وسماحه للناس ببيع السلاح للإفرنج، فأفتى الشيخ بتحريم ذلك كله، وأعلن موقفه على المنبر، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به“. فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لي أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم.

**ومن ذلك أيضا بيعه لأمراء المماليك الذين كان يستعملهم الملك نجم الدين في خدمته وجيشه وتصريف أمور الدولة، فقد أبطل "العز" تصرفاتهم، لأن المملوك لا ينفُذُ تصرُّفُه شرعاً. وقد ضايقهم ذلك، وعطّل مصالحهم، فراجعوه فقال: لابد من إصلاح أمركم بأن يعقد لكم مجلس فتُباعوا فيه، ويردَّ ثمنكم إلى بيت مال المسلمين، ثم يحصل عتقكم بطريق شرعي… فلما سمعوا هذا الحكم ازدادوا غيظاً وقالوا: كيف يبيعنا هذا الشيخ ونحن ملوك الأرض؟.

وثار نائب السلطان وذهب في جماعة من الأمراء إلى بيت الشيخ يريدون قتله، فلما رآهم ابنه فزع وخاف على أبيه، فما اكترث الشيخ، بل قال: “يا ولدي، أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله” أي إن من يُقتَل في سبيل الله يكون على مرتبة عالية عند الله، لم أَبْلُغْها!. وغضب الملك نجم الدين أيوب من هذه الفتوى وقال: ليس هذا من اختصاص الشيخ، وليس له به شأن!. فلما علم “العز” بذلك عزل نفسه عن القضاء، وقرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان. وجاء من هَمَس في أذن الملك: متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك. فخرج الملك مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ. فرجع العز ونفّذ الحكم!.

وموقف ثالث لسلطان العلماء؛ حيث كان مع الملك نجم الدين أيوب نفسه. ذكر السبكيّ في طبقاته أن الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، إلى القلعة (في القاهرة) فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه! فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى ذلك؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات! فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟! وقد أمر السلطان بإقفال الحانة فوراً. ثم سأل الشيخَ أحدُ تلامذته: أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا؟! فقال الشيخ: استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ!". [راجع هذه المواقف وغيرها في كتاب د. محمد الزحيلي: " العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك الداعية المصلح القاضي الفقيه الأصولي المفسر". ضمن سلسلة أعلام المسلمين رقم 39. دار القلم دمشق].

***

والخلاصة أن هذا يبين لنا بجلاء أن المقولة التي شاعت في تراثنا السياسي حتى استقرت بحرمة الدخول على الحكام هي مقولة غير مسلمة، ولا يمكن الأخذ بها باطراد، فيجب التفريق بين حكام الحق والصدق والعدل الذين يجب عونهم وتقديم المشورة الحقة والنصيحة المخلصة لهم، والذين وردت النصوص بفضلهم ومكانتهم، ويجب على هؤلاء الحكام ألا يُدخلوا علماء النفاق عليهم .. أما علماء الجور فهؤلاء لا يمنع الدخول عليهم كذلك، بل إذا أتيح فهي فرصة للعلماء الربانيين للإنكار عليهم والنصح لهم – والدين النصيحة – وإقامة الحجة عليهم، أما علماء السلاطين فهؤلاء يقومون بدور " التيس المستعار" للحكام: ينافقونهم، ويبررون لهم انحرافهم، ويشرعنون لهم جرائمهم .. ومن رحمة الله تعالى أنه لم يُعدم تاريخنا من نماذج مشرفة قدمت النصح لحكام الجور، وصدعت بالحق وقالت الصدق، وما أحوجنا لهم في عصرنا وفي كل عصر، وهم لا يخلو منهم جيل ولا مكان بحمد الله ولطفه، وما أصدق قول الشاعر:

إن الذي خلق الحقيقة علقمًا ** لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا
‏٢٤‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٩:٢١ م‏
أمة عزيزة بلا قيادة رشيدة د مجدي شلش (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) أمة خصها الله بالمناقب والمزايا بما ليس لغيرها، فهي وارثة الخلافة في الأرض بعد سقوط وضياع اليهود والنصاري في دهاليز التحريف والتزييف والقتل والإرهاب. جعل الله سبحانه وتعالى شريعته صالحة لكل زمان ومكان باجتهاد أهل الحل والعقد في تفاصيل العمومات والإطلاقات التي جاءت بها النصوص، فأهل الذكر والاختصاص يقومون مقام النبوة في قوله تعالى في حق النبي: " ... لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ..." فقال في أهل العلم والذكر: " ... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ..." وهذه منزلة وخصيصة للأمة، علماؤها ورثة نبيها، وفي مقام أنبياء غيرها. أمة صلى الله عليها وملائكته فقال: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ..." وقال جل شأنه:" أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ..." أمة رضي الله عنها وأرضاها فقال: " ... رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ..." أمة غفر الله لها ذنبها، وكفر عنها سيئاتها، وأتم النعمة عليها، وطهرها وزكاها وأنزل الوحي موافقاً لبعض أبنائها، وسمع شكاية امرأة منها، وبرأ السيدة عائشة بشرف ذكرها في القرآن؛ إذ قالت رضي الله عنها: "وأنا حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئنى الله بها ". أمة ميزها الله بالشفاعة لشهدائها وعلمائها وأوليائها، وشرح صدرها، وأعلى ذكرها، ورفع قدرها، فجعلها أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس، وجعلها شاهدة على الأمم التي سبقتها، وأحبها وأكرمها وأعزها . أمة مَن والاها فقد والى الله ورسوله، ومَن عاداها فقد عادى الله ورسوله، اجتباها وهداها ورفع عنها الحرج وأورثها الكتاب وثبتها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. أعطاها من غير منة، وخاطبها بكل شفقة وحنان فقال: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..." وقال: " يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" وقال: "وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ". أمة لا تجتمع على ضلالة، عصمها الله من الغي المطلق، والزيغ التام، والفساد الذين ليس معه إصلاح، والانحراف والزلل، فما رأته حسناً فهو عند الله حسن، وما رأته قبيح فهو عند الله قبيح، من سنّ من أبنائها سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. نعم كل هذه السمات والصفات وغيرها مرهون باتباع كتاب ربها وسنة حبيبها، لا خيرية باللون، ولا كرامة للعرق، ولا مزية للحسب، ولا رفعة بالنسب، كل ذلك من أوزار الجاهلية العفنة النتنة، وقد أبدلنا الله خيراً منها بدينه وشريعته فقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ". أعلنها بكل قوة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله". ومن بعده ربعي بن عامر - رضى الله عنه - فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق االدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". نعم أمتنا هي الأمة الخاتمة، جعل الله الخيرية فيها إلى يوم القيامة، إن لم يكن في كلها لكن لا تزال طائفة منها قائمة على الحق لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى يوم القيامة، فالأمة باقية وظاهرة ما بقى الزمان، لن تأتي أمة بعدها، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام حين نزوله يكون متبعاً لها، حاكماً بشريعتها، واحداً من أبنائها، تابعاً لنبيها. هذه الخيرية تقوى وتزداد بقيادة راشدة حكيمة واعية، قيادة تنهل من سلسبيل الفكرة، وتكرع من رحيق النبوة، وتأخذ من نهر السلف الصالح، وتقتدي بالأبطال والمغاوير والأماجد. قيادة نزهت نفسها من سفاف الأمور، وأعلت قدرها بعظائم الأهداف والغايات، قيادة تعرف للقريب والحبيب حقه وقدره، وللبعيد والعدو والطريد ما يناسبه، قيادة زكية طاهرة من رجس الدنيا، هواها من هوى دينها وأمتها، ومزاجها من مزاج نبيها وصحابته. القيادة الراشدة روح الأمة ومظهر فخرها وعزها وقوتها، قيادة تستعلي بدينها على عدوها المتكبر المتغطرس، وفي نفس الوقت رحيمة بالخلق جميعاً إلا من شذ وند. قيادة عقلها رشيد، وقلبها فسيح، وإيمانها بأمتها كبير، قيادة شجاعة بلا تهور، وكريمة بلا إسراف، ومتواضعة بلا انكسار أو دعة، الله غايتها، والجهاد سبيلها، والقرآن دستورها، والإسلام شرعتها، والموت في سبيل الله أسمي أمانيها. قيادة مدركة للتاريخ والماضي، ومخططة للواقع والحاضر، ومستشرفة للآتي والمستقبل، قيادة تحترم العلماء وتقدرهم وتنزل الناس منازلهم، تأتمر بالشورى وتنزل عليها، وتؤمن بالمؤسسية في كل قراراتها. كفي حُكماً للفرد وإن كان عبداً تقياً، أو موهوباً وإن كان عاقلاً ذكياً، وللهوى والمزاج وإن خرج من ولي أو صالح أو تقي، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وبالأخص في المنصب والجاه والسلطان. نحن في أمس الحاجة إلى قيادة ربانية مجاهدة لنفسها ولعدوها، عاشقة لدينها وتاريخها، تعيد لنا تاريخ الأبطال من أمثال أبي عبيدة في قوته وإخلاصه وأمانته، وخالد في جرأته وإقدامه وشجاعته، وسعد في حكمته وصبره وصلابته، والمقداد في سيرته وتقدمه ومنزلته، وصلاح الدين في نصرته وعزته وإدارته، وقطز في تصدره وعلو همته وجهاده، وغيرهم الكثير والكثير. نكبتنا الآن في قيادتنا التي زلت، وعن الصواب انحرفت وتخلت، وللباطل انحازت ووالت وتجلت، ماذا يفعل حكام المسلمين اليوم سوى الانبطاح للعدو، والتعري له، والقرب منه، والأخذ عنه، والخوف والرجاء منه، جعلت حياتها مرهونة بحياته، وقوتها من قوته. ألا لا بارك الله في كل قائد لئيم لا يقدر حق من له حق وإن كان أمام الناس تقياً، ولعن الله كل مستبد متعجرف ولو كان للقرآن حافظاً تالياً، وهزم الله كل متصدر تعالى وتكبر وظلم ولو كان في الظاهر ولياً، وقاتل الله كل زعيم طاغية قاتل غشوم جهول عن نصرة الحق كسول وإن كان ذكياً. سيرة العظماء تبقي بحسن الذكر والقدوة والعمل، لا بالجعجعة وعلو الصوت والدجل، اللهم إن كانت القيادة رزقاً منك للأمة فاجعل خير رزقك لنا في قيادتنا، وإن كانت القيادة هبة منك فاجعل خير هبتك لنا قيادة تعز بها دينك، وترفع بها شريعتك، وتعلي بها قدر أمة حبيبك المصطفي صلي الله عليه وسلم.
أمة عزيزة بلا قيادة رشيدة
د مجدي شلش

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

أمة خصها الله بالمناقب والمزايا بما ليس لغيرها، فهي وارثة الخلافة في الأرض بعد سقوط وضياع اليهود والنصاري في دهاليز التحريف والتزييف والقتل والإرهاب.

جعل الله سبحانه وتعالى شريعته صالحة لكل زمان ومكان باجتهاد أهل الحل والعقد في تفاصيل العمومات والإطلاقات التي جاءت بها النصوص، فأهل الذكر والاختصاص يقومون مقام النبوة في قوله تعالى في حق النبي: " ... لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ..." فقال في أهل العلم والذكر: " ... لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ..." وهذه منزلة وخصيصة للأمة، علماؤها ورثة نبيها، وفي مقام أنبياء غيرها.

أمة صلى الله عليها وملائكته فقال: "هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ..." وقال جل شأنه:" أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ..." أمة رضي الله عنها وأرضاها فقال: " ... رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ..."

أمة غفر الله لها ذنبها، وكفر عنها سيئاتها، وأتم النعمة عليها، وطهرها وزكاها وأنزل الوحي موافقاً لبعض أبنائها، وسمع شكاية امرأة منها، وبرأ السيدة عائشة بشرف ذكرها في القرآن؛ إذ قالت رضي الله عنها: "وأنا حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئنى الله بها ".

أمة ميزها الله بالشفاعة لشهدائها وعلمائها وأوليائها، وشرح صدرها، وأعلى ذكرها، ورفع قدرها، فجعلها أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس، وجعلها شاهدة على الأمم التي سبقتها، وأحبها وأكرمها وأعزها .

أمة مَن والاها فقد والى الله ورسوله، ومَن عاداها فقد عادى الله ورسوله، اجتباها وهداها ورفع عنها الحرج وأورثها الكتاب وثبتها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.

أعطاها من غير منة، وخاطبها بكل شفقة وحنان فقال: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..." وقال: " يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" وقال: "وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ".

أمة لا تجتمع على ضلالة، عصمها الله من الغي المطلق، والزيغ التام، والفساد الذين ليس معه إصلاح، والانحراف والزلل، فما رأته حسناً فهو عند الله حسن، وما رأته قبيح فهو عند الله قبيح، من سنّ من أبنائها سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

نعم كل هذه السمات والصفات وغيرها مرهون باتباع كتاب ربها وسنة حبيبها، لا خيرية باللون، ولا كرامة للعرق، ولا مزية للحسب، ولا رفعة بالنسب، كل ذلك من أوزار الجاهلية العفنة النتنة، وقد أبدلنا الله خيراً منها بدينه وشريعته فقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ".

أعلنها بكل قوة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله". ومن بعده ربعي بن عامر - رضى الله عنه - فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق االدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

نعم أمتنا هي الأمة الخاتمة، جعل الله الخيرية فيها إلى يوم القيامة، إن لم يكن في كلها لكن لا تزال طائفة منها قائمة على الحق لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى يوم القيامة، فالأمة باقية وظاهرة ما بقى الزمان، لن تأتي أمة بعدها، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام حين نزوله يكون متبعاً لها، حاكماً بشريعتها، واحداً من أبنائها، تابعاً لنبيها.

هذه الخيرية تقوى وتزداد بقيادة راشدة حكيمة واعية، قيادة تنهل من سلسبيل الفكرة، وتكرع من رحيق النبوة، وتأخذ من نهر السلف الصالح، وتقتدي بالأبطال والمغاوير والأماجد.

قيادة نزهت نفسها من سفاف الأمور، وأعلت قدرها بعظائم الأهداف والغايات، قيادة تعرف للقريب والحبيب حقه وقدره، وللبعيد والعدو والطريد ما يناسبه، قيادة زكية طاهرة من رجس الدنيا، هواها من هوى دينها وأمتها، ومزاجها من مزاج نبيها وصحابته.

القيادة الراشدة روح الأمة ومظهر فخرها وعزها وقوتها، قيادة تستعلي بدينها على عدوها المتكبر المتغطرس، وفي نفس الوقت رحيمة بالخلق جميعاً إلا من شذ وند.

قيادة عقلها رشيد، وقلبها فسيح، وإيمانها بأمتها كبير، قيادة شجاعة بلا تهور، وكريمة بلا إسراف، ومتواضعة بلا انكسار أو دعة، الله غايتها، والجهاد سبيلها، والقرآن دستورها، والإسلام شرعتها، والموت في سبيل الله أسمي أمانيها.

قيادة مدركة للتاريخ والماضي، ومخططة للواقع والحاضر، ومستشرفة للآتي والمستقبل، قيادة تحترم العلماء وتقدرهم وتنزل الناس منازلهم، تأتمر بالشورى وتنزل عليها، وتؤمن بالمؤسسية في كل قراراتها.

كفي حُكماً للفرد وإن كان عبداً تقياً، أو موهوباً وإن كان عاقلاً ذكياً، وللهوى والمزاج وإن خرج من ولي أو صالح أو تقي، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وبالأخص في المنصب والجاه والسلطان.

نحن في أمس الحاجة إلى قيادة ربانية مجاهدة لنفسها ولعدوها، عاشقة لدينها وتاريخها، تعيد لنا تاريخ الأبطال من أمثال أبي عبيدة في قوته وإخلاصه وأمانته، وخالد في جرأته وإقدامه وشجاعته، وسعد في حكمته وصبره وصلابته، والمقداد في سيرته وتقدمه ومنزلته، وصلاح الدين في نصرته وعزته وإدارته، وقطز في تصدره وعلو همته وجهاده، وغيرهم الكثير والكثير.

نكبتنا الآن في قيادتنا التي زلت، وعن الصواب انحرفت وتخلت، وللباطل انحازت ووالت وتجلت، ماذا يفعل حكام المسلمين اليوم سوى الانبطاح للعدو، والتعري له، والقرب منه، والأخذ عنه، والخوف والرجاء منه، جعلت حياتها مرهونة بحياته، وقوتها من قوته.

ألا لا بارك الله في كل قائد لئيم لا يقدر حق من له حق وإن كان أمام الناس تقياً، ولعن الله كل مستبد متعجرف ولو كان للقرآن حافظاً تالياً، وهزم الله كل متصدر تعالى وتكبر وظلم ولو كان في الظاهر ولياً، وقاتل الله كل زعيم طاغية قاتل غشوم جهول عن نصرة الحق كسول وإن كان ذكياً.

سيرة العظماء تبقي بحسن الذكر والقدوة والعمل، لا بالجعجعة وعلو الصوت والدجل، اللهم إن كانت القيادة رزقاً منك للأمة فاجعل خير رزقك لنا في قيادتنا، وإن كانت القيادة هبة منك فاجعل خير هبتك لنا قيادة تعز بها دينك، وترفع بها شريعتك، وتعلي بها قدر أمة حبيبك المصطفي صلي الله عليه وسلم.
‏٢٢‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٥:٤٧ م‏
معايير انتقاء المترجمين في الجيش الأميركي م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed] (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) أسفر حادث تفجير شخص لنفسه في دورية أمريكية وسط سوق بمدينة منبج السورية في الشهر المنصرم (يناير 2019م) عن مقتل قرابة 20 شخصا من بينهم 4 أميركيين، كما كانت من بين القتلى مترجمة سورية تعمل لحساب الجيش الأميركي. وتكررت سابقا تلك النوعية من الحوادث التي سقط خلالها مترجمون يعملون رفقة الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. فما هي تصنيفات هؤلاء المترجمين؟ وما المعايير المطلوب اتصافهم بها من أجل السماح لهم بالعمل مع الجيش الأميركي؟ وما هي التوجيهات الخاصة التي يقدمها لهم الجيش الأميركي؟ أولا: تصنيف المترجمين: يصنف الجيش الأميركي المترجمين إلى ثلاثة أصناف: 1- الفئة رقم 1: وهي فئة يتم الاستعانة بها من أجل القيام بالترجمة الفورية في أنشطة معتادة مثل الدوريات، وتغطية المداخل الرئيسية للمدن والقرى والمعسكرات والحواجز وما شابه، وجمع المعلومات من مصادر الاستخبارات المفتوحة، وفي تنفيذ العمليات (المدنية – العسكرية). ومن المفترض بالجيش الأميركي أن تضم كل كتيبة مشاة في ساحة العمليات ما بين 30 إلى 40 مترجما من هذه الفئة، بينما يحتفظ مقر اللواء بحوالي 15 مترجما كاحتياطي في حالة تصاعد العمليات الميدانية. 2- الفئة رقم 2: وهي فئة أقل عددا من الفئة السابقة إذ تضم مواطنين أمريكيين لديهم تصريح أمني سري، وغالبا ما يمتلكون مهارات تواصل شفوية وكتابية جيدة. وتختص مهمتهم بالترجمة على مستوى الكتيبة، والترجمة للقيادات في المستوى الأعلى أو لفرق الاستخبارات البشرية التكتيكية. ومن المفترض أن تضم كل كتيبة مشاة في ساحة العمليات ما بين 10 إلى 15 مترجما من هذه الفئة بالإضافة إلى مترجم فوري واحد لقائد اللواء، ومترجم واحد لكل قائد كتيبة مشاة، وحوالي 10 مترجمين لدعم سرية الاستخبارات العسكرية. 3- الفئة رقم 3: وهي فئة تضم مواطنين أمريكيين لديهم تصريح أمني سري للغاية، وغالبا ما يُستعان بهم في الفرق والمستويات القيادية الأعلى. إذ إنهم يتمتعون بمهارات فائقة في الاتصالات الشفهية والكتابية. معايير انتقاء المترجمين الفوريين : يحرص الجيش الأميركي على أن يستوفي جميع المترجمين الفوريين مجموعة أساسية من المعايير. مثل: - الطلاقة في اللغة الإنجليزية، بحيث يفهم المترجم الجنود والعكس، ويجري التحقق من ذلك عبر التحدث بكلام إلى المترجم الفوري باللغة الانجليزية، ومطالبته بإعادة صياغته. - أن يكونوا من أهل البلد المتحدثين بلغته، بحيث يمكنهم التمييز بين اللهجات المختلفة للأقاليم والمحافظات. فقد تساعد هذه المعرفة على تحديد الغرباء الذين لا ينتمون للمنطقة المحلية. -أن يتسم المترجمون بقدرات فكرية جيدة من قبيل اليقظة، والقدرة على الاستجابة للظروف والمواقف المتغيرة. والقدرة على فهم المفاهيم المعقدة، ومناقشتها بشكل واضح و منطقي. - أن يكون لديهم ولاء قدر الإمكان لأميركا، ونظرا لأن من المرجح أن يكون ولاء المترجم الأول لبلده أو للجماعة العرقية التي ينتمي لها، فيشدد الجيش الأميركي على جنوده بتوخي الحذر عند التعامل مع المترجمين بحيث يحدوا من المعلومات التي يمكن للمترجم أن ينصت لها وينقلها إلى قوى قد تكون معادية لأميركا. - أن تتوافق أجناسهم، وأعمارهم، وسلالتهم، وأعراقهم مع الجمهور المستهدف، فمثلا في الدول التي تشهد صراعات عرقية، قد يحد الاختلاف العرقي بين المترجم والجمهور من التفاعل بينهما. ومن ثم يشدد الجيش الأميركي على أهمية دراسة ثقافة البلد بدقة لتحديد السمات الأكثر تفضيلا للمترجمين الفوريين نظرا لأن التقاليد والقيم والتحيزات تختلف من بلد لآخر. توجيهات خاصة للمترجمين يقدم الجيش الأميركي توجيهات خاصة للمترجمين تختص بشرح البيئة التي يعملون فيها، والواجبات المطلوبة منهم. إذ يعود ذلك بالنفع على الجيش ذاته نظرا لأن الجنود الذين يعملون من خلال مترجم فوري قد يستغرقون ضعفي أو ثلاثة أضعاف الوقت الذي يحتاجونه للتعامل مع أي حدث، بينما قد يوفرون الكثير من الوقت إذا أتاحوا للمترجم الفوري المعلومات اللازمة سلفا. ومن ثم يتم تقديم التالي للمترجم لمساعدته على القيام بدوره: • شرح الوضع التكتيكي الحاضر. • معلومات عن المصدر، أو الشخص الذي ستجري مقابلته، أو الجمهور المستهدف. • الأهداف المحددة للمقابلة، أو الاجتماع، أو التحقيق. • طريقة سير اللقاء، أو الدرس، أو التحقيق. • الترتيبات الفعلية لموقع اللقاء، إن كان ذلك ملائما. وبالمقابل تشمل واجبات المترجم عدة أمور من بينها إخطار العسكري الذي يعقد المقابلة عن أي عدم توافق مع لغة ضيف اللقاء. فقد يدعي شخص أنه أستاذ جامعي، ولكنه يتحدث كشخص غير متعلم. راحة وحماية المترجمين ونظرا لأهمية دور المترجمين، يحرص الجيش الأميركي على توفير سبل الراحة لهم قدر الإمكان، إذ يتمتعون بنفس الميزات التي يتمتع بها الجنود في القواعد العسكرية، فيتم توفير المأوى، ومكيف الهواء، والمدفأة لهم. كما يتم إمداد المترجمين بالخوذ والسترات الواقية من الرصاص. وكذلك يتم توفير الحماية الأمنية لهم ولعائلاتهم. ـــــــــــــــــــــــ المصدر: الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد، 2006، الملحق ج (الدعم اللغوي).
معايير انتقاء المترجمين في الجيش الأميركي
م. أحمد مولانا Ahmed

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

أسفر حادث تفجير شخص لنفسه في دورية أمريكية وسط سوق بمدينة منبج السورية في الشهر المنصرم (يناير 2019م) عن مقتل قرابة 20 شخصا من بينهم 4 أميركيين، كما كانت من بين القتلى مترجمة سورية تعمل لحساب الجيش الأميركي.

وتكررت سابقا تلك النوعية من الحوادث التي سقط خلالها مترجمون يعملون رفقة الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان. فما هي تصنيفات هؤلاء المترجمين؟ وما المعايير المطلوب اتصافهم بها من أجل السماح لهم بالعمل مع الجيش الأميركي؟ وما هي التوجيهات الخاصة التي يقدمها لهم الجيش الأميركي؟

أولا: تصنيف المترجمين:

يصنف الجيش الأميركي المترجمين إلى ثلاثة أصناف:

1- الفئة رقم 1: وهي فئة يتم الاستعانة بها من أجل القيام بالترجمة الفورية في أنشطة معتادة مثل الدوريات، وتغطية المداخل الرئيسية للمدن والقرى والمعسكرات والحواجز وما شابه، وجمع المعلومات من مصادر الاستخبارات المفتوحة، وفي تنفيذ العمليات (المدنية – العسكرية). ومن المفترض بالجيش الأميركي أن تضم كل كتيبة مشاة في ساحة العمليات ما بين 30 إلى 40 مترجما من هذه الفئة، بينما يحتفظ مقر اللواء بحوالي 15 مترجما كاحتياطي في حالة تصاعد العمليات الميدانية.

2- الفئة رقم 2: وهي فئة أقل عددا من الفئة السابقة إذ تضم مواطنين أمريكيين لديهم تصريح أمني سري، وغالبا ما يمتلكون مهارات تواصل شفوية وكتابية جيدة. وتختص مهمتهم بالترجمة على مستوى الكتيبة، والترجمة للقيادات في المستوى الأعلى أو لفرق الاستخبارات البشرية التكتيكية. ومن المفترض أن تضم كل كتيبة مشاة في ساحة العمليات ما بين 10 إلى 15 مترجما من هذه الفئة بالإضافة إلى مترجم فوري واحد لقائد اللواء، ومترجم واحد لكل قائد كتيبة مشاة، وحوالي 10 مترجمين لدعم سرية الاستخبارات العسكرية.

3- الفئة رقم 3: وهي فئة تضم مواطنين أمريكيين لديهم تصريح أمني سري للغاية، وغالبا ما يُستعان بهم في الفرق والمستويات القيادية الأعلى. إذ إنهم يتمتعون بمهارات فائقة في الاتصالات الشفهية والكتابية.

معايير انتقاء المترجمين الفوريين :

يحرص الجيش الأميركي على أن يستوفي جميع المترجمين الفوريين مجموعة أساسية من المعايير. مثل:

- الطلاقة في اللغة الإنجليزية، بحيث يفهم المترجم الجنود والعكس، ويجري التحقق من ذلك عبر التحدث بكلام إلى المترجم الفوري باللغة الانجليزية، ومطالبته بإعادة صياغته.

- أن يكونوا من أهل البلد المتحدثين بلغته، بحيث يمكنهم التمييز بين اللهجات المختلفة للأقاليم والمحافظات. فقد تساعد هذه المعرفة على تحديد الغرباء الذين لا ينتمون للمنطقة المحلية.

-أن يتسم المترجمون بقدرات فكرية جيدة من قبيل اليقظة، والقدرة على الاستجابة للظروف والمواقف المتغيرة. والقدرة على فهم المفاهيم المعقدة، ومناقشتها بشكل واضح و منطقي.

- أن يكون لديهم ولاء قدر الإمكان لأميركا، ونظرا لأن من المرجح أن يكون ولاء المترجم الأول لبلده أو للجماعة العرقية التي ينتمي لها، فيشدد الجيش الأميركي على جنوده بتوخي الحذر عند التعامل مع المترجمين بحيث يحدوا من المعلومات التي يمكن للمترجم أن ينصت لها وينقلها إلى قوى قد تكون معادية لأميركا.

- أن تتوافق أجناسهم، وأعمارهم، وسلالتهم، وأعراقهم مع الجمهور المستهدف، فمثلا في الدول التي تشهد صراعات عرقية، قد يحد الاختلاف العرقي بين المترجم والجمهور من التفاعل بينهما. ومن ثم يشدد الجيش الأميركي على أهمية دراسة ثقافة البلد بدقة لتحديد السمات الأكثر تفضيلا للمترجمين الفوريين نظرا لأن التقاليد والقيم والتحيزات تختلف من بلد لآخر.

توجيهات خاصة للمترجمين

يقدم الجيش الأميركي توجيهات خاصة للمترجمين تختص بشرح البيئة التي يعملون فيها، والواجبات المطلوبة منهم. إذ يعود ذلك بالنفع على الجيش ذاته نظرا لأن الجنود الذين يعملون من خلال مترجم فوري قد يستغرقون ضعفي أو ثلاثة أضعاف الوقت الذي يحتاجونه للتعامل مع أي حدث، بينما قد يوفرون الكثير من الوقت إذا أتاحوا للمترجم الفوري المعلومات اللازمة سلفا. ومن ثم يتم تقديم التالي للمترجم لمساعدته على القيام بدوره:

• شرح الوضع التكتيكي الحاضر.
• معلومات عن المصدر، أو الشخص الذي ستجري مقابلته، أو الجمهور المستهدف.
• الأهداف المحددة للمقابلة، أو الاجتماع، أو التحقيق.
• طريقة سير اللقاء، أو الدرس، أو التحقيق.
• الترتيبات الفعلية لموقع اللقاء، إن كان ذلك ملائما.

وبالمقابل تشمل واجبات المترجم عدة أمور من بينها إخطار العسكري الذي يعقد المقابلة عن أي عدم توافق مع لغة ضيف اللقاء. فقد يدعي شخص أنه أستاذ جامعي، ولكنه يتحدث كشخص غير متعلم.

راحة وحماية المترجمين

ونظرا لأهمية دور المترجمين، يحرص الجيش الأميركي على توفير سبل الراحة لهم قدر الإمكان، إذ يتمتعون بنفس الميزات التي يتمتع بها الجنود في القواعد العسكرية، فيتم توفير المأوى، ومكيف الهواء، والمدفأة لهم. كما يتم إمداد المترجمين بالخوذ والسترات الواقية من الرصاص. وكذلك يتم توفير الحماية الأمنية لهم ولعائلاتهم.

ـــــــــــــــــــــــ

المصدر: الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد، 2006، الملحق ج (الدعم اللغوي).
‏٢٠‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٥:٤٧ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (11) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير • هتفنا في أول لحظات الحرب: لا وقف للحرب إلا بعد تحرير فلسطين • لم نكن في غمرة الانتصار نصدق وسائل الإعلام المصرية • كان الانتقال من القرية والمدرسة إلى المدينة والجامعة صدمة كبيرة سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) حين أتذكر اليوم الأول من حرب أكتوبر أتذكر أن أول بيان صدر من القيادة العسكرية المصرية يقول: قامت طائرات من العدو الإسرائيلي بضرب قواتنا شرق (!) وغرب القناة، وأن طائراتنا المصرية قد تصدت لهذا العدوان وطاردت الطائرات الإسرائيلية حتى فوق سيناء. كانوا فيما يبدو قد بدأوا يتعلمون فن صياغة البيانات التي تمهد للفكرة أو التي تجعل الموقف العسكري يبدو قانونيا منطلقا من حق الدفاع عن النفس، فكانت الصياغة تحمل معنى أن الأمر بدأ دفاعا لكنه تطور إلى مطاردة الطائرات الإسرائيلية حتى شرق القناة فوق سيناء، وبعد زمن جاء البيان الثاني الذي يتحدث عن نجاح قواتنا في ضرب قوات العدو، وأنها الآن موجودة في سيناء وأنها تمكنت من عبور قناة السويس. هذا البيان هو الذي كان بمثابة الإعلان عن اشتعال الحرب وهو الذي أشعل الروح المعنوية في صفوف الشعب المصري، وانطلقت الحناجر تهتف باسم القدس ولرفض إيقاف الحرب قبل تحرير فلسطين. سرى هذا النداء الفطري التلقائي بين الناس في اللحظات الأولى، كأن ثمة شعورا خفيا يجمع بينهم في أن هذه الحرب ستتوقف قبل القدس!! ربما يعود الأمر إلى الثقة المفقودة بين الشعوب العربية وحكامها وهو الأمر الذي يدفعهم لئلا يصدقوا حتى في لحظة الحرب أنها حرب صادقة وحقيقية وستستمر إلى بلوغ هدفها، وربما لهذا الأمر تفسيرات أخرى نتركها لعلماء الاجتماع وعلم النفس السياسي. لكن المهم هنا أنني وجدتني مع ثلاثة أو أربعة من الطلاب من كليات مختلفة: هذا في كلية العلوم وهذا في كلية التجارة وهذا في كلية الهندسة، وجميعنا في اليوم الأول من الجامعة، وفي لحظة المعنويات المرتفعة، ومع ذلك، فسرعان ما اتفقنا على أن ننظم غدا مظاهرات بالجامعة تطالب باستمرار الحرب، لكن وقفت أمامنا مشكلة غير متوقعة: أن الحرب مستمرة بالفعل! جاء اليوم التالي والحرب مستمرة، ثم اليوم الثالث والحرب مستمرة.. وهكذا لم يعد للمظاهرات التي تطالب باستمرار الحرب أي معنى لأن الحرب مستمرة بالفعل! طفق الناس يفكرون فيما ينبغي لهم فعله خلاف التظاهر، ومن نافلة القول أن الهبة الشعبية فعلت في الساعات الأولى ما كان ميسورا لها، لقد تدفق الناس كالسيل على المستشفيات للتبرع بالدم، كان الناس يتبرعون بدمائهم بانهمار غريب يمكن حتى وصفه بالجنون، إن التهاب المشاعر جعل الذين لم يحاربوا يسارعون في "سفك" دمائهم –إن صحَّ التعبير- تضامنا مع أولئك الذين يجاهدون الآن في سيناء.. ومع مرور الأيام الثلاثة والحرب مستمرة والناس تتبرع بالدم ظهرت وانتشرت وسادت أفكار التطوع للقتال ومساندة الذين على الجبهة! ومع هذا كله فلقد كان جدار الثقة لا يزال غير مكتمل، كان الناس يتابعون الأخبار عبر الإذاعات الأجنبية، يتأكدون من حقيقة العبور وانتشار القوات المصرية من إذاعات لندن وأمريكا ومونت كارلو، بعضٌ من أثر الخديعة الإعلامية في 1967 لا يزال حيًّا في النفوس، لكن الأمر يبدو وكأنه حقيقي هذه المرة، ها هي القوات المصرية تتوغل بعمق عشر كليومترات في شرق سيناء، وها هي الجولان تتحرر ويتقدم فيها الجيش السوري، وتفيد الأنباء أن القوات المصرية تستعد لمواصلة زحفها إلى ممرات متلا! رغم أن القوات المصرية –كما عرفنا فيما بعد- لم تخطط ولم تنو أن تتقدم بعد هذه الكيلومترات العشر، ولم يكن في خطتها أصلا الوصول إلى ممر متلا إلا أن الإذاعات الأجنبية نقلت أحيانا خبر الزحف أو الوصول إلى ممرات متلا، حتى تلك المصادر لم تكن دقيقة، أو لعلها أرادت إعطاء المبرر والزخم لمعركة الدبابات التي كانت إسرائيل تحشد لها. فالصورة التي كانت تصلنا أن قواتنا في تقدم إلى وسط سيناء وأن إسرائيل تحاول عرقلتها ومدافعتها. وقد عرفنا فيما بعد أن مصر لم تكن تمتلك أكثر من أربعمائة دبابة، لكن الأخبار والإذاعات كانت تتحدث عن أكبر معركة دبابات تدور الآن، عن ألف دبابة مصرية تواجه ألف دبابة إسرائيلية في سيناء، وكل هذا كان يعطي مزيدا من الزخم للمعنويات المرتفعة في الشعب المصري، والتي تسكب عليها الشعوب من نفسها مبالغات أخرى. ثم تنتهي معركة الدبابات هذه بأسر القائد الإسرائيلي عساف ياجوري والذي عُرضِت صورته وصورة بعض جنوده على الصحف والشاشات في مصر مما بلغ بمعنويات الناس عنان السماء، وأثبت لهم أن الأمور تسير على ما يرام أو حتى تسير بأفضل من المتوقَّع. لا شك أنه سقطت من ذاكرتي أشياء مهمة عن هذه المرحلة، لكن الذي أتحقق منه أن معنويات الناس ظلت في ارتفاع حتى خطاب السادات الذي ألقاه في مجلس الشعب (16 أكتوبر) بعد عشرة أيام من الحرب، وفيه طرح مسألة السلام وعقد مؤتمر سلام. هنا انكسرت معنويات الناس ودخلنا في مرحلة أخرى جديدة، مرحلةٌ صرنا نسمع فيها قول الناس: سنخسر دماء الشهداء ونحوها من العبارات التي تصب في نفس المعنى. لم يلبث الأمر إلا ساعات بعد خطاب السادات إلا وبدأت تتسرب أنباء الثغرة، وبأن القتال صار عند حافة قناة السويس بعدما كانت الآمال تتابع تقدمه من وسط سيناء إلى ما وراءها، وبدأت الإذاعات تنقل أنباء استعادة الإسرائيليين لمناطق الجولان مرة أخرى، بدأ ميزان المعركة ينقلب وبدأت إسرائيل تستعيد زمام المعركة، ثم جاءت الأنباء بأن القتال يحدث في السويس، ونقلت الشاشات والإذاعات أن جولدا مائير تزور قواتها في الجبهة وتعلن أنها تقاتل من قارة إفريقيا!! خرج السادات مرة أخرى على الإعلام وقلَّل من أهمية الثغرة، والإذاعات تنقل أن قوات مصرية شرق القناة في سيناء ولكن ثمة قوات إسرائيلية أيضا غرب القناة، إذن فعلى الأقل لم نعد منتصرين والأمر ليس محسوما، برر السادات هذا الوضع وقال بأنه تكتيك وأن ما حققه الإسرائيليون ليس انتصارا استراتيجيا وأنهم محاصَرين أكثر مما هم مُحاصِرين، وأكد على الوضع المتفوق للقوات المصرية. لكن الذي أستطيع تأكيده أن البيانات العسكرية كانت مهتزة بوضوح في أيام 22 و23 و24 أكتوبر، وكان يتضح فيها استصراخ العالم لوقف إطلاق النار، كان الشاب منا في تلك الفترة يستطيع أن يميز بسهولة حالة الهلع التي كان عليها الإعلام المصري آنذاك، ولست أدري ما إن كانت هذه هي الحالة العامة الموجودة في الجيش آنذاك أم لا، إلا أنها على كل حال –وكما عرفنا فيما بعد- كانت تعكس الحالة على الأرض، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استطاعت التقدم على طريق السويس واستطاعت حصار الجيش الثالث في جنوب غرب سيناء، وكان النظام المصري ملهوفا على وقف إطلاق النار. وبدا بشكل لا ريب فيه أن إسرائيل امتصت الضربة الأولى وأنها استعادت زمام الموقف. ذلك ما أتذكره بوضوح من تلك الأيام، بالإضافة إلى الحالة النفسية العامة التي تدهورت بعد قبول وقف إطلاق النار، وبعد تسرب الخلافات التي كانت موجودة في قيادة الجيش كما عرفنا تفاصيلها بعد ذلك مما كان بين رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وبين وزير الحربية أحمد إسماعيل والسادات، وما سوى ذلك لا أستطيع الآن تذكره بوضوح. منذ لحظة وقف إطلاق النار، بل منذ لحظة بدأ السادات الحديث عن السلام، وبدأت المعارضة تتصاعد ضده، وكانت الجامعة واحدة من أهم المسارح التي شهدت المعارضة الشرسة للسادات. قاد التيار اليساري حملة ضخمة تنكر أن يكون السادات بطل حرب أو حتى بطل سلام، وأنه إنما سيبيع القضة للأمريكان، وقد دُعِم هذا الكلام حين خرج السادات فيما بعد وصرَّح قائلا بأن 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكان، ثم دُعِم أكثر حين زار نيكسون الرئيس الأمريكي القاهرة في ربيع عام 1974م كنوع من الدعم والتأييد لموقف السادات، لكنها الزيارة التي أثبتت أن مصر قد تحولت إلى المعسكر الأمريكي وتخلت تماما عن المعسكر السوفيتي، وأن حرب أكتوبر التي استبشر بها الجميع قد انتهت إلى النتيجة التي لم يتوقعها أحد، وهنا تختلف التفسيرات: هل كانت من البداية حرب تحريك لا تحرير وكان مصيرها هذا مخطط سلفا عند قادة السياسة الكبار؟ أم أنها بدأت حرب تحرير ثم انتهت حرب تحريك وتمهيد لإنهاء ملف الصراع مع إسرائيل بل ولفتح ملف التطبيع والسلام معها؟.. هذا أمر نتركه للمؤرخين. والشاهد أن دخولي إلى الجامعة ارتبط بهذه الحرب، وارتبطت أيامي الجامعية بالمعارضة التي انبثقت في أرجائها اعتراضا على سياسة السادات، ولقد كان ذلك يمثل لي تطورا دراميا شديدا، لقد كان خروجا من عصر عبد الناصر الذي كانت معارضته تكلف كثيرا في قرية نائية إلى عصر السادات الذي كانت معارضته ممكنة وصاخبة في ساحة ضخمة ومركزية كالجامعة. وقد ترافق هذا مع تطور درامي آخر على مستواي الشخصي، فهذا ابن القرية النائية المغمورة وجد نفسه فجأة في مدينة ضخمة مثل أسيوط، نقلة أشبه بالصدمة الحضارية، وهذا ابن المدرسة الصغيرة محددة الحصص ومحكومة النظام وجد نفسه في الجامعة الفسيحة المتراخية النظام والقيود، وهذا ابن الفصل الصغير يجد نفسه في المدرج الواسع المهيب، وهذا التلميذ الذي قد اعتاد التعامل مع أستاذ الفصل في المدرسة يجد نوعا آخر من الأساتذة في شخصية وأسلوب وطباع أستاذ الجامعة، وهذا ابن القرية المنضبطة أخلاقيا والتي ينتصب فيها حاجز واضح بين الرجال والنساء يجد هذا الاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة وفي ظل انعدام رقابة أبوية لطالما اعتاد عليها حتى شكَّلت جزءا من نفسيته وتفكيره وإذا هي الآن غائبة مفقودة. لولا وجود "السيكشن" لانتفى كل شبه بين المدرسة والجامعة، لكن هذه "السكاشن" ذَكَّرتنا بفصول المدرسة الصغيرة وأعداد الطلاب المحدودة. كنت أحتاج وقتا حتى أستوعب هذا التغير في حياتي وأتعرف على هذا المجتمع الجديد كليا على تصوراتي، لكن الحياة لا تترك لأحد وقتا، وسرعان ما دخلت في المعمعة، ووجدتني في أيام الجامعة الأولى أخوض اشتباكا مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية!
مذكرات الشيخ رفاعي طه (11)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

هكذا شاهد جيلنا حرب أكتوبر وانكسرت أحلامه في التحرير

• هتفنا في أول لحظات الحرب: لا وقف للحرب إلا بعد تحرير فلسطين
• لم نكن في غمرة الانتصار نصدق وسائل الإعلام المصرية
• كان الانتقال من القرية والمدرسة إلى المدينة والجامعة صدمة كبيرة

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

حين أتذكر اليوم الأول من حرب أكتوبر أتذكر أن أول بيان صدر من القيادة العسكرية المصرية يقول: قامت طائرات من العدو الإسرائيلي بضرب قواتنا شرق (!) وغرب القناة، وأن طائراتنا المصرية قد تصدت لهذا العدوان وطاردت الطائرات الإسرائيلية حتى فوق سيناء.

كانوا فيما يبدو قد بدأوا يتعلمون فن صياغة البيانات التي تمهد للفكرة أو التي تجعل الموقف العسكري يبدو قانونيا منطلقا من حق الدفاع عن النفس، فكانت الصياغة تحمل معنى أن الأمر بدأ دفاعا لكنه تطور إلى مطاردة الطائرات الإسرائيلية حتى شرق القناة فوق سيناء، وبعد زمن جاء البيان الثاني الذي يتحدث عن نجاح قواتنا في ضرب قوات العدو، وأنها الآن موجودة في سيناء وأنها تمكنت من عبور قناة السويس. هذا البيان هو الذي كان بمثابة الإعلان عن اشتعال الحرب وهو الذي أشعل الروح المعنوية في صفوف الشعب المصري، وانطلقت الحناجر تهتف باسم القدس ولرفض إيقاف الحرب قبل تحرير فلسطين.

سرى هذا النداء الفطري التلقائي بين الناس في اللحظات الأولى، كأن ثمة شعورا خفيا يجمع بينهم في أن هذه الحرب ستتوقف قبل القدس!! ربما يعود الأمر إلى الثقة المفقودة بين الشعوب العربية وحكامها وهو الأمر الذي يدفعهم لئلا يصدقوا حتى في لحظة الحرب أنها حرب صادقة وحقيقية وستستمر إلى بلوغ هدفها، وربما لهذا الأمر تفسيرات أخرى نتركها لعلماء الاجتماع وعلم النفس السياسي.

لكن المهم هنا أنني وجدتني مع ثلاثة أو أربعة من الطلاب من كليات مختلفة: هذا في كلية العلوم وهذا في كلية التجارة وهذا في كلية الهندسة، وجميعنا في اليوم الأول من الجامعة، وفي لحظة المعنويات المرتفعة، ومع ذلك، فسرعان ما اتفقنا على أن ننظم غدا مظاهرات بالجامعة تطالب باستمرار الحرب، لكن وقفت أمامنا مشكلة غير متوقعة: أن الحرب مستمرة بالفعل! جاء اليوم التالي والحرب مستمرة، ثم اليوم الثالث والحرب مستمرة.. وهكذا لم يعد للمظاهرات التي تطالب باستمرار الحرب أي معنى لأن الحرب مستمرة بالفعل!

طفق الناس يفكرون فيما ينبغي لهم فعله خلاف التظاهر، ومن نافلة القول أن الهبة الشعبية فعلت في الساعات الأولى ما كان ميسورا لها، لقد تدفق الناس كالسيل على المستشفيات للتبرع بالدم، كان الناس يتبرعون بدمائهم بانهمار غريب يمكن حتى وصفه بالجنون، إن التهاب المشاعر جعل الذين لم يحاربوا يسارعون في "سفك" دمائهم –إن صحَّ التعبير- تضامنا مع أولئك الذين يجاهدون الآن في سيناء.. ومع مرور الأيام الثلاثة والحرب مستمرة والناس تتبرع بالدم ظهرت وانتشرت وسادت أفكار التطوع للقتال ومساندة الذين على الجبهة!

ومع هذا كله فلقد كان جدار الثقة لا يزال غير مكتمل، كان الناس يتابعون الأخبار عبر الإذاعات الأجنبية، يتأكدون من حقيقة العبور وانتشار القوات المصرية من إذاعات لندن وأمريكا ومونت كارلو، بعضٌ من أثر الخديعة الإعلامية في 1967 لا يزال حيًّا في النفوس، لكن الأمر يبدو وكأنه حقيقي هذه المرة، ها هي القوات المصرية تتوغل بعمق عشر كليومترات في شرق سيناء، وها هي الجولان تتحرر ويتقدم فيها الجيش السوري، وتفيد الأنباء أن القوات المصرية تستعد لمواصلة زحفها إلى ممرات متلا!

رغم أن القوات المصرية –كما عرفنا فيما بعد- لم تخطط ولم تنو أن تتقدم بعد هذه الكيلومترات العشر، ولم يكن في خطتها أصلا الوصول إلى ممر متلا إلا أن الإذاعات الأجنبية نقلت أحيانا خبر الزحف أو الوصول إلى ممرات متلا، حتى تلك المصادر لم تكن دقيقة، أو لعلها أرادت إعطاء المبرر والزخم لمعركة الدبابات التي كانت إسرائيل تحشد لها. فالصورة التي كانت تصلنا أن قواتنا في تقدم إلى وسط سيناء وأن إسرائيل تحاول عرقلتها ومدافعتها.

وقد عرفنا فيما بعد أن مصر لم تكن تمتلك أكثر من أربعمائة دبابة، لكن الأخبار والإذاعات كانت تتحدث عن أكبر معركة دبابات تدور الآن، عن ألف دبابة مصرية تواجه ألف دبابة إسرائيلية في سيناء، وكل هذا كان يعطي مزيدا من الزخم للمعنويات المرتفعة في الشعب المصري، والتي تسكب عليها الشعوب من نفسها مبالغات أخرى. ثم تنتهي معركة الدبابات هذه بأسر القائد الإسرائيلي عساف ياجوري والذي عُرضِت صورته وصورة بعض جنوده على الصحف والشاشات في مصر مما بلغ بمعنويات الناس عنان السماء، وأثبت لهم أن الأمور تسير على ما يرام أو حتى تسير بأفضل من المتوقَّع.

لا شك أنه سقطت من ذاكرتي أشياء مهمة عن هذه المرحلة، لكن الذي أتحقق منه أن معنويات الناس ظلت في ارتفاع حتى خطاب السادات الذي ألقاه في مجلس الشعب (16 أكتوبر) بعد عشرة أيام من الحرب، وفيه طرح مسألة السلام وعقد مؤتمر سلام. هنا انكسرت معنويات الناس ودخلنا في مرحلة أخرى جديدة، مرحلةٌ صرنا نسمع فيها قول الناس: سنخسر دماء الشهداء ونحوها من العبارات التي تصب في نفس المعنى.

لم يلبث الأمر إلا ساعات بعد خطاب السادات إلا وبدأت تتسرب أنباء الثغرة، وبأن القتال صار عند حافة قناة السويس بعدما كانت الآمال تتابع تقدمه من وسط سيناء إلى ما وراءها، وبدأت الإذاعات تنقل أنباء استعادة الإسرائيليين لمناطق الجولان مرة أخرى، بدأ ميزان المعركة ينقلب وبدأت إسرائيل تستعيد زمام المعركة، ثم جاءت الأنباء بأن القتال يحدث في السويس، ونقلت الشاشات والإذاعات أن جولدا مائير تزور قواتها في الجبهة وتعلن أنها تقاتل من قارة إفريقيا!!

خرج السادات مرة أخرى على الإعلام وقلَّل من أهمية الثغرة، والإذاعات تنقل أن قوات مصرية شرق القناة في سيناء ولكن ثمة قوات إسرائيلية أيضا غرب القناة، إذن فعلى الأقل لم نعد منتصرين والأمر ليس محسوما، برر السادات هذا الوضع وقال بأنه تكتيك وأن ما حققه الإسرائيليون ليس انتصارا استراتيجيا وأنهم محاصَرين أكثر مما هم مُحاصِرين، وأكد على الوضع المتفوق للقوات المصرية.

لكن الذي أستطيع تأكيده أن البيانات العسكرية كانت مهتزة بوضوح في أيام 22 و23 و24 أكتوبر، وكان يتضح فيها استصراخ العالم لوقف إطلاق النار، كان الشاب منا في تلك الفترة يستطيع أن يميز بسهولة حالة الهلع التي كان عليها الإعلام المصري آنذاك، ولست أدري ما إن كانت هذه هي الحالة العامة الموجودة في الجيش آنذاك أم لا، إلا أنها على كل حال –وكما عرفنا فيما بعد- كانت تعكس الحالة على الأرض، إذ كانت القوات الإسرائيلية قد استطاعت التقدم على طريق السويس واستطاعت حصار الجيش الثالث في جنوب غرب سيناء، وكان النظام المصري ملهوفا على وقف إطلاق النار. وبدا بشكل لا ريب فيه أن إسرائيل امتصت الضربة الأولى وأنها استعادت زمام الموقف.

ذلك ما أتذكره بوضوح من تلك الأيام، بالإضافة إلى الحالة النفسية العامة التي تدهورت بعد قبول وقف إطلاق النار، وبعد تسرب الخلافات التي كانت موجودة في قيادة الجيش كما عرفنا تفاصيلها بعد ذلك مما كان بين رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وبين وزير الحربية أحمد إسماعيل والسادات، وما سوى ذلك لا أستطيع الآن تذكره بوضوح.

منذ لحظة وقف إطلاق النار، بل منذ لحظة بدأ السادات الحديث عن السلام، وبدأت المعارضة تتصاعد ضده، وكانت الجامعة واحدة من أهم المسارح التي شهدت المعارضة الشرسة للسادات.

قاد التيار اليساري حملة ضخمة تنكر أن يكون السادات بطل حرب أو حتى بطل سلام، وأنه إنما سيبيع القضة للأمريكان، وقد دُعِم هذا الكلام حين خرج السادات فيما بعد وصرَّح قائلا بأن 99% من أوراق اللعبة بيد الأمريكان، ثم دُعِم أكثر حين زار نيكسون الرئيس الأمريكي القاهرة في ربيع عام 1974م كنوع من الدعم والتأييد لموقف السادات، لكنها الزيارة التي أثبتت أن مصر قد تحولت إلى المعسكر الأمريكي وتخلت تماما عن المعسكر السوفيتي، وأن حرب أكتوبر التي استبشر بها الجميع قد انتهت إلى النتيجة التي لم يتوقعها أحد، وهنا تختلف التفسيرات: هل كانت من البداية حرب تحريك لا تحرير وكان مصيرها هذا مخطط سلفا عند قادة السياسة الكبار؟ أم أنها بدأت حرب تحرير ثم انتهت حرب تحريك وتمهيد لإنهاء ملف الصراع مع إسرائيل بل ولفتح ملف التطبيع والسلام معها؟.. هذا أمر نتركه للمؤرخين.

والشاهد أن دخولي إلى الجامعة ارتبط بهذه الحرب، وارتبطت أيامي الجامعية بالمعارضة التي انبثقت في أرجائها اعتراضا على سياسة السادات، ولقد كان ذلك يمثل لي تطورا دراميا شديدا، لقد كان خروجا من عصر عبد الناصر الذي كانت معارضته تكلف كثيرا في قرية نائية إلى عصر السادات الذي كانت معارضته ممكنة وصاخبة في ساحة ضخمة ومركزية كالجامعة.

وقد ترافق هذا مع تطور درامي آخر على مستواي الشخصي، فهذا ابن القرية النائية المغمورة وجد نفسه فجأة في مدينة ضخمة مثل أسيوط، نقلة أشبه بالصدمة الحضارية، وهذا ابن المدرسة الصغيرة محددة الحصص ومحكومة النظام وجد نفسه في الجامعة الفسيحة المتراخية النظام والقيود، وهذا ابن الفصل الصغير يجد نفسه في المدرج الواسع المهيب، وهذا التلميذ الذي قد اعتاد التعامل مع أستاذ الفصل في المدرسة يجد نوعا آخر من الأساتذة في شخصية وأسلوب وطباع أستاذ الجامعة، وهذا ابن القرية المنضبطة أخلاقيا والتي ينتصب فيها حاجز واضح بين الرجال والنساء يجد هذا الاختلاط بين الشباب والفتيات في الجامعة وفي ظل انعدام رقابة أبوية لطالما اعتاد عليها حتى شكَّلت جزءا من نفسيته وتفكيره وإذا هي الآن غائبة مفقودة.

لولا وجود "السيكشن" لانتفى كل شبه بين المدرسة والجامعة، لكن هذه "السكاشن" ذَكَّرتنا بفصول المدرسة الصغيرة وأعداد الطلاب المحدودة.

كنت أحتاج وقتا حتى أستوعب هذا التغير في حياتي وأتعرف على هذا المجتمع الجديد كليا على تصوراتي، لكن الحياة لا تترك لأحد وقتا، وسرعان ما دخلت في المعمعة، ووجدتني في أيام الجامعة الأولى أخوض اشتباكا مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية!
‏١٨‏/٠٢‏/٢٠١٩ ١٠:١٧ ص‏
قراءة صوتية لافتتاحية العدد الجديد بقلم الأستاذ @[520036614:2048:محمد إلهامي]
تمّ التحديث ‏‏١٧‏/٠٢‏/٢٠١٩ ١:١٤ م‏‏
‏١٧‏/٠٢‏/٢٠١٩ ١:١٤ م‏
حرب النظام العالمي أم دفع الصائل المباشر؟ كرم الحفيان (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) مقدمة بعد أن فرغنا في المقالة السابقة من استعراض أوجه الخلاف في الخاصية الأولى من خصائص الجهاد العالمي عند بن لادن وعزام، والممثلة بـ"جهاد المهاجرة" عند بن لادن، تلك النسخة القائمة على: الاستقلال بمشروع سياسي جهادي عن مجاهدي البلاد المضيفة، وعلى المشاركة الكثيفة المؤثرة في الاقتتالات الداخلية، و"جهاد المناصرة" عند عزام، المقتصرعلى مؤازرة الساحات المشتعلة وتجنب الدخول في النزاعات الداخلية بين المجاهدين. نعرّج في الأسطر القادمة على أبرز ملامح الخاصية الثانية، ونبدأ بفكرة "حرب النظام العالمي" عند بن لادن المؤلفة من شقين: الشق الأول: عسكري قتالي، ويتلخص بالاشتباك الشامل مع رأس النظام العالمي (أمريكا والغرب) لاستنزافه وإجباره على الانكفاء ورفع هيمنته على العالم الإسلامي، وآنذاك يكون التحرك ضد الأنظمة المحلية لإسقاطها وإقامة الخلافة. الشق الثاني: سياسي قانوني، ويتمثل باعتزال المنظومة القانونية العالمية والإقليمية (الأمم المتحدة وتوابعها)، وعدم الاعتراف بأي سلطة أو نظام حاكم ضمنها. وفلسفة الشق الأول لها ثلاثة تجليات: التجلي الأول (قتال الغربيين كافة): قتل وقتال الأمريكان وحلفائهم الغربيين واليهود مدنيين وعسكريين في أي بقعة ممكنة، كما جاء في البيان الأول للجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين في بداية عام 1998م، والذي صُدّر بتوقيع بن لادن "إن حكم قتل الأمريكان وحلفائهم مدنيين وعسكريين وقتالهم فرض عين على كل مسلم في كل بلد تيسر فيه" استناداً إلى قوله تعالى "وقاتلوا المشركين كآفةً كما يقاتلونكم كآفة" . التجلي الثاني (أولوية قتال أمريكا): أولوية استهداف الأمريكان على غيرهم لأن "أمريكا هي رأس الكفر" و"أعداء الله اليوم كشجرة خبيثة ساقها أمريكي قطره 50 سم وفروعه كثيرة متفاوتة الأحجام منها دول حلف النيتو وكثيرٌ من الأنظمة في المنطقة، ونحن نريد إسقاط هذه الشجرة بنشرها في حين أن قوتنا وطاقتنا محدودة، فطريقنا السليم والفعال لإسقاطها هو بتركيزنا المنشار على أصلها الأمريكي" . التجلي الثالث (ضرب العمق الأمريكي): ضرورة "تركيز القتل والقتال على الشعب الأمريكي" لأن "السيادة والسلطة العليا في أمريكا هي للشعب وهو صاحب القرار الأول ويمثله مجلس النواب والبيت الأبيض"، ولـ"إيقاف هذه الحرب من مصدرها الرئيسي وبالقوة القادرة على إيقافها بأسرع وقت.. الشعب الأمريكي"، ويكون هذا "بعمليات داخل أمريكا تفقده أمنه" ، إضافةً إلى زيادة أعبائه المعيشية وخاصةً وقوده، عبراستهداف النفط خاصةً في الدول المصدرة لأمريكا، ويتم ربط جميع ما سبق بفقدان الأمن الذي سببته أمريكا وحلفاؤها في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان والصومال . وأدوات الاشتباك الأهم كانت "العمليات الاستشهادية" والتفجيرات وخطف الطائرات. أما فلسفة الشق الثاني فعائدة إلى ما نقلناه في مقالة "فرق الأحكام بين بن لادن وعزام" من اعتقاد بن لادن بحرمة بل كفر المنضمين للأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الإقليمية، والمتحاكمين إلى محاكمها الحاكمة بالقوانين الوضعية ، وبضلال التعاون مع ومداهنة الأنظمة والحكومات لأن هذا يتناقض مع مبدأ "الولاء والبراء"، ففي أثناء مقارنته بين منهج دولة العراق الإسلامية وغيرها من الجماعات العراقية المجاهدة مدح بن لادن نهج الأولى في "العلاقات الدولية" قائلاً: "كما يرفضون أن يداهنوا أي حكومة من حكومات العالم الإسلامي بدون استثناء وأبوا أن يتولوا المشركين لنصرة الدين..وهو غنيٌ سبحانه عن أن نشرك به لننصر دينه، ومحال أن تكون نصرة الدين بتولي الحكام الطواغيت المشركين" . أما الخاصية الثانية لنظرية عزام لعالمية الجهاد فذات شقين أيضاً: الشق الأول: عسكري قتالي، ويتمثل بالتركيز على قتال وطرد الاحتلال المباشر وعملائه، ثم السعي لإقامة نظم إسلامية في البلاد المحررة . الشق الثاني: سياسي قانوني، ويتمثل بالتعاطي مع المنظومة القانونية العالمية، والترحيب ببناء علاقات مع الدول والحكومات. وتنبثق فلسفة الشق الأول عند عزام من "فقه دفع الصائل" في الشريعة الإسلامية وتطبيقاته المعاصرة التي تتجلى في صورتين: الصورة الأولى: الجهاد الميداني الموضِعي، أي تركيز القتال في ساحات الجهاد الملتهبة ضد المحتلين وعملائهم، وعدم توسعة نطاقه إلى خارج البلاد المحتلة لتشمل مصالح أو جغرافية الدول الحليفة أو العميلة أو المحايدة. وهذا ظاهر جداً في مسيرة عزام الجهادية، إضافةً إلى إفتائه بعدم جواز قتل النصارى الغربيين والشرقيين في بلاد المسلمين إذ دخلوا بتأشيرة؛ "فهذا عقد أمان.. إلا إنْ نكث العهد بأن بدأ ينصّر المسلمين" فيتم تحذيره أولاً، وكذلك الأمر في من دخل أي بلد في العالم بالطرق القانونية فإنه لا يجوز له إحداث أي ضرر فيها . الصورة الثاني: الجهاد المركزي الموضوعي، "يجب أن نركز جهودنا على أفغانستان وفلسطين، لأنها قضايا مركزية والعدو المحتل ماكر يحمل برنامجاً توسعياً في المنطقة كلها.. وحمايتها حماية للمنطقة كلها"، "من استطاع من العرب أن يجاهد في فلسطين فعليه أن يبدأ بها، ومن لم يستطع فليذهب إلى أفغانستان، وأما باقي المسلمين فإني أرى أن يبدأوا جهادهم بأفغانستان..لا لأن أفغانستان أهم من فلسطين، بل فلسطين هي قضية الإسلام الأولى" ولكن لمعطيات أهمها: المعركة قائمة ومشتدة، والراية إسلامية واضحة، والإسلاميون سبقوا للقيادة، واستقلال القضية، والحدود مفتوحة، والشعب فريد. أما في ما يتعلق بالشق السياسي القانوني، فيؤمن عزام بأهمية تحصيل اعتراف سياسي وقانوني لأي دولة أو حكومة إسلامية ينشئها المجاهدون، ويرحب بذلك، وقد خطب بعد أسبوعين من تشكيل أول حكومة للمجاهدين في أفغانستان مطلع 1989م، فكان من جُملة ما قال إن رئيس دولة المجاهدين "مجددي من المعتدلين في نظر الغرب والأمريكان، إذن يمكن أن توافق عليها بعض الدول وتعترف بشرعيتها وقانونيتها" ، وفي آخر حوار صحفي أُجريَّ معه قبل مقتله ثمَّن موقف أربع دول اعترفت بحكومة المجاهدين ، واستنكر طعن بعض الشباب العرب بدولة المجاهدين لأن وزير خارجيتها حكمتيار ذهب إلى العراق وليبيا وغيرهما طالباً منهم الاعتراف بدولته، وهذا ما اعتبروه عدم وضوح وعدم تطبيق لعقيدة الولاء والبراء . كذلك لم يُخفِ عزام سروره بحصول دولة المجاهدين على مقعد أفغانستان (لوزارة الخارجية) في منظمة المؤتمر الإسلامي الملتزمة بميثاق وقوانين الأمم المتحدة . يرجع هذا إلى رؤية عزام لكيفية وحكم التعامل والمتعاملين مع القوانين الوضعية والهيئات الحاكمة بها بحسب نية وطريقة واتجاه المنخرط فيها والمعطيات والظروف المحيطة . غير أن جميع ما سبق لم يمنعه من إبقاء جميع الخيارات مفتوحة: "إذا اعترفوا أهلاً وسهلاً، وإذا لم يعترفوا نحن لسنا بحاجة إلى أحد" . وكان يعتقد أن قيام دولة إسلامية منعزلة ومحاصرة سياسياً واقتصادياً من العالم وارد في الحالة الأفغانية، فالموارد الداخلية تعين على الاكتفاء الذاتي، والسيطرة المطلقة للإسلاميين ، والحكم بالشريعة سيكون تدريجياً على فترات . خاتمة لا شك أن طريقة بن لادن في "حرب النظام العالمي" عسكرياً وسياسياً كانت مبتكرة ولم يسبقه إليها أحد في الوسط الإسلامي الجهادي ولم تحظَ بتأييد فقهي معتبر. إنما أخذت طابع الطرح الفكري المجرد (القريب من الأدبيات القتالية اليسارية) الباحث عن مستندات فقهية معززة له. فمسألة توسيع نطاق الحرب لتشمل أمريكا وجميع حلفائها الغربيين مدنيين وعسكريين بدت مستغربة ومستنكرة من الكثيرين من الناحية الإستراتيجية والشرعية، ولم يستنّ بها إلا أفرع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة. أيضاً مسألة مناهضة النظام العالمي سياسياً عبر مقاطعة جميع الهيئات الدولية والإقليمية، والحكم بالكفر على المنضمين لها، ورفض أي علاقة طبيعية مع أي نظام سياسي، عزز الإنطباع ببعد هذه الأطروحة عن مسار الفقه والجهاد الإسلامي. من ناحية أخرى، اعتمد عزام في جهاده العالمي على فقه دفع الصائل في الشريعة الإسلامية، ومال لثقافة تحييد الخصوم عند كل قضية جهادية، وكان يفرحه نيل حكومات المجاهدين اعترافاً سياسياً وقانونياً على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية، ولم يعدّ هذا الأمر منافياً للتوحيد، وكذلك كان يؤمن بأهمية بناء العلاقات مع الدول والحكومات، ولم يعد هذه المسألة مناقضةً لعقيدة الولاء والبراء بعكس بن لادن.
حرب النظام العالمي أم دفع الصائل المباشر؟

كرم الحفيان

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

مقدمة

بعد أن فرغنا في المقالة السابقة من استعراض أوجه الخلاف في الخاصية الأولى من خصائص الجهاد العالمي عند بن لادن وعزام، والممثلة بـ"جهاد المهاجرة" عند بن لادن، تلك النسخة القائمة على: الاستقلال بمشروع سياسي جهادي عن مجاهدي البلاد المضيفة، وعلى المشاركة الكثيفة المؤثرة في الاقتتالات الداخلية، و"جهاد المناصرة" عند عزام، المقتصرعلى مؤازرة الساحات المشتعلة وتجنب الدخول في النزاعات الداخلية بين المجاهدين.
نعرّج في الأسطر القادمة على أبرز ملامح الخاصية الثانية، ونبدأ بفكرة "حرب النظام العالمي" عند بن لادن المؤلفة من شقين:

الشق الأول: عسكري قتالي، ويتلخص بالاشتباك الشامل مع رأس النظام العالمي (أمريكا والغرب) لاستنزافه وإجباره على الانكفاء ورفع هيمنته على العالم الإسلامي، وآنذاك يكون التحرك ضد الأنظمة المحلية لإسقاطها وإقامة الخلافة.

الشق الثاني: سياسي قانوني، ويتمثل باعتزال المنظومة القانونية العالمية والإقليمية (الأمم المتحدة وتوابعها)، وعدم الاعتراف بأي سلطة أو نظام حاكم ضمنها.

وفلسفة الشق الأول لها ثلاثة تجليات:

التجلي الأول (قتال الغربيين كافة): قتل وقتال الأمريكان وحلفائهم الغربيين واليهود مدنيين وعسكريين في أي بقعة ممكنة، كما جاء في البيان الأول للجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين في بداية عام 1998م، والذي صُدّر بتوقيع بن لادن "إن حكم قتل الأمريكان وحلفائهم مدنيين وعسكريين وقتالهم فرض عين على كل مسلم في كل بلد تيسر فيه" استناداً إلى قوله تعالى "وقاتلوا المشركين كآفةً كما يقاتلونكم كآفة" .

التجلي الثاني (أولوية قتال أمريكا): أولوية استهداف الأمريكان على غيرهم لأن "أمريكا هي رأس الكفر" و"أعداء الله اليوم كشجرة خبيثة ساقها أمريكي قطره 50 سم وفروعه كثيرة متفاوتة الأحجام منها دول حلف النيتو وكثيرٌ من الأنظمة في المنطقة، ونحن نريد إسقاط هذه الشجرة بنشرها في حين أن قوتنا وطاقتنا محدودة، فطريقنا السليم والفعال لإسقاطها هو بتركيزنا المنشار على أصلها الأمريكي" .

التجلي الثالث (ضرب العمق الأمريكي): ضرورة "تركيز القتل والقتال على الشعب الأمريكي" لأن "السيادة والسلطة العليا في أمريكا هي للشعب وهو صاحب القرار الأول ويمثله مجلس النواب والبيت الأبيض"، ولـ"إيقاف هذه الحرب من مصدرها الرئيسي وبالقوة القادرة على إيقافها بأسرع وقت.. الشعب الأمريكي"، ويكون هذا "بعمليات داخل أمريكا تفقده أمنه" ، إضافةً إلى زيادة أعبائه المعيشية وخاصةً وقوده، عبراستهداف النفط خاصةً في الدول المصدرة لأمريكا، ويتم ربط جميع ما سبق بفقدان الأمن الذي سببته أمريكا وحلفاؤها في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان والصومال . وأدوات الاشتباك الأهم كانت "العمليات الاستشهادية" والتفجيرات وخطف الطائرات.

أما فلسفة الشق الثاني فعائدة إلى ما نقلناه في مقالة "فرق الأحكام بين بن لادن وعزام" من اعتقاد بن لادن بحرمة بل كفر المنضمين للأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الإقليمية، والمتحاكمين إلى محاكمها الحاكمة بالقوانين الوضعية ، وبضلال التعاون مع ومداهنة الأنظمة والحكومات لأن هذا يتناقض مع مبدأ "الولاء والبراء"، ففي أثناء مقارنته بين منهج دولة العراق الإسلامية وغيرها من الجماعات العراقية المجاهدة مدح بن لادن نهج الأولى في "العلاقات الدولية" قائلاً: "كما يرفضون أن يداهنوا أي حكومة من حكومات العالم الإسلامي بدون استثناء وأبوا أن يتولوا المشركين لنصرة الدين..وهو غنيٌ سبحانه عن أن نشرك به لننصر دينه، ومحال أن تكون نصرة الدين بتولي الحكام الطواغيت المشركين" .

أما الخاصية الثانية لنظرية عزام لعالمية الجهاد فذات شقين أيضاً:

الشق الأول: عسكري قتالي، ويتمثل بالتركيز على قتال وطرد الاحتلال المباشر وعملائه، ثم السعي لإقامة نظم إسلامية في البلاد المحررة .

الشق الثاني: سياسي قانوني، ويتمثل بالتعاطي مع المنظومة القانونية العالمية، والترحيب ببناء علاقات مع الدول والحكومات.

وتنبثق فلسفة الشق الأول عند عزام من "فقه دفع الصائل" في الشريعة الإسلامية وتطبيقاته المعاصرة التي تتجلى في صورتين:

الصورة الأولى: الجهاد الميداني الموضِعي، أي تركيز القتال في ساحات الجهاد الملتهبة ضد المحتلين وعملائهم، وعدم توسعة نطاقه إلى خارج البلاد المحتلة لتشمل مصالح أو جغرافية الدول الحليفة أو العميلة أو المحايدة. وهذا ظاهر جداً في مسيرة عزام الجهادية، إضافةً إلى إفتائه بعدم جواز قتل النصارى الغربيين والشرقيين في بلاد المسلمين إذ دخلوا بتأشيرة؛ "فهذا عقد أمان.. إلا إنْ نكث العهد بأن بدأ ينصّر المسلمين" فيتم تحذيره أولاً، وكذلك الأمر في من دخل أي بلد في العالم بالطرق القانونية فإنه لا يجوز له إحداث أي ضرر فيها .

الصورة الثاني: الجهاد المركزي الموضوعي، "يجب أن نركز جهودنا على أفغانستان وفلسطين، لأنها قضايا مركزية والعدو المحتل ماكر يحمل برنامجاً توسعياً في المنطقة كلها.. وحمايتها حماية للمنطقة كلها"، "من استطاع من العرب أن يجاهد في فلسطين فعليه أن يبدأ بها، ومن لم يستطع فليذهب إلى أفغانستان، وأما باقي المسلمين فإني أرى أن يبدأوا جهادهم بأفغانستان..لا لأن أفغانستان أهم من فلسطين، بل فلسطين هي قضية الإسلام الأولى" ولكن لمعطيات أهمها: المعركة قائمة ومشتدة، والراية إسلامية واضحة، والإسلاميون سبقوا للقيادة، واستقلال القضية، والحدود مفتوحة، والشعب فريد.


أما في ما يتعلق بالشق السياسي القانوني، فيؤمن عزام بأهمية تحصيل اعتراف سياسي وقانوني لأي دولة أو حكومة إسلامية ينشئها المجاهدون، ويرحب بذلك، وقد خطب بعد أسبوعين من تشكيل أول حكومة للمجاهدين في أفغانستان مطلع 1989م، فكان من جُملة ما قال إن رئيس دولة المجاهدين "مجددي من المعتدلين في نظر الغرب والأمريكان، إذن يمكن أن توافق عليها بعض الدول وتعترف بشرعيتها وقانونيتها" ، وفي آخر حوار صحفي أُجريَّ معه قبل مقتله ثمَّن موقف أربع دول اعترفت بحكومة المجاهدين ، واستنكر طعن بعض الشباب العرب بدولة المجاهدين لأن وزير خارجيتها حكمتيار ذهب إلى العراق وليبيا وغيرهما طالباً منهم الاعتراف بدولته، وهذا ما اعتبروه عدم وضوح وعدم تطبيق لعقيدة الولاء والبراء .

كذلك لم يُخفِ عزام سروره بحصول دولة المجاهدين على مقعد أفغانستان (لوزارة الخارجية) في منظمة المؤتمر الإسلامي الملتزمة بميثاق وقوانين الأمم المتحدة . يرجع هذا إلى رؤية عزام لكيفية وحكم التعامل والمتعاملين مع القوانين الوضعية والهيئات الحاكمة بها بحسب نية وطريقة واتجاه المنخرط فيها والمعطيات والظروف المحيطة .

غير أن جميع ما سبق لم يمنعه من إبقاء جميع الخيارات مفتوحة: "إذا اعترفوا أهلاً وسهلاً، وإذا لم يعترفوا نحن لسنا بحاجة إلى أحد" . وكان يعتقد أن قيام دولة إسلامية منعزلة ومحاصرة سياسياً واقتصادياً من العالم وارد في الحالة الأفغانية، فالموارد الداخلية تعين على الاكتفاء الذاتي، والسيطرة المطلقة للإسلاميين ، والحكم بالشريعة سيكون تدريجياً على فترات .

خاتمة

لا شك أن طريقة بن لادن في "حرب النظام العالمي" عسكرياً وسياسياً كانت مبتكرة ولم يسبقه إليها أحد في الوسط الإسلامي الجهادي ولم تحظَ بتأييد فقهي معتبر. إنما أخذت طابع الطرح الفكري المجرد (القريب من الأدبيات القتالية اليسارية) الباحث عن مستندات فقهية معززة له.

فمسألة توسيع نطاق الحرب لتشمل أمريكا وجميع حلفائها الغربيين مدنيين وعسكريين بدت مستغربة ومستنكرة من الكثيرين من الناحية الإستراتيجية والشرعية، ولم يستنّ بها إلا أفرع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة.

أيضاً مسألة مناهضة النظام العالمي سياسياً عبر مقاطعة جميع الهيئات الدولية والإقليمية، والحكم بالكفر على المنضمين لها، ورفض أي علاقة طبيعية مع أي نظام سياسي، عزز الإنطباع ببعد هذه الأطروحة عن مسار الفقه والجهاد الإسلامي.

من ناحية أخرى، اعتمد عزام في جهاده العالمي على فقه دفع الصائل في الشريعة الإسلامية، ومال لثقافة تحييد الخصوم عند كل قضية جهادية، وكان يفرحه نيل حكومات المجاهدين اعترافاً سياسياً وقانونياً على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية، ولم يعدّ هذا الأمر منافياً للتوحيد، وكذلك كان يؤمن بأهمية بناء العلاقات مع الدول والحكومات، ولم يعد هذه المسألة مناقضةً لعقيدة الولاء والبراء بعكس بن لادن.
‏١٤‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٥:١٩ م‏
الإرشادات المعاصرة لمكافحة التمرد (مترجم من: الدليل الأمريكي لمكافحة التمرد) ترجمة مركز حازم (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) لقد حددت الخبرات الحديثة لمكافحة التمرد مجموعة مهمة من الإرشادات الإضافية التي يتعين أخذها في الاعتبار من أجل تحقيق النجاح. ومن بين تلك الإرشادات: 1) استخدام المستوى المناسب من القوة - إن أي استخدام للقوة يولد مجموعة من ردود الأفعال. وفي بعض الأحيان قد يكون من الضروري بذل مجهود خارق من أجل تدمير أو تخويف العدو وطمأنة السكان. وغالبا ما يتعين قتل العناصر المتمردة المتطرفة. وعلى أي حال، فمع ذلك ينبغي على قوات مكافحة التمرد أن تحسب بعناية نوع وكمية القوة التي يلزم استخدامها، ومَن سوف يستخدمها ببراعة في أي عملية. فالعملية التي يُقتل فيها خمسة متمردين ستأتي بنتائج عكسية تماماً في حالة ما إذا أدت الأضرار الشاملة التي نتجت عنها إلى استقطاب خمسين متمردا أو أكثر. - في بيئة مكافحة التمرد، يتعين على القادة إقرار مستويات مناسبة ومحسوبة من القوة، واستخدام هذه القوة بصورة دقيقة ومحددة عند تنفيذ المهمة دون إحداث أي أذى أو خسائر غير ضرورية في الأرواح. وفي العادة، فإن قوات مكافحة التمرد يمكن أن تستخدم التصعيد المتدرج للقوة، مثل إجراءات استخدام القوة للتقليل من المخاطر المحتملة لفقدان حياة الأشخاص. وهذه الإجراءات تكون مناسبة تماما أثناء عمليات الإنزال وعند نقاط التفتيش والحواجز المرورية في الطرق. كما أن زيادة أو تصعيد قوة الإجراءات تشير إلى استخدام وسائل قوة أقل عندما يكون من المرجح أن يحقق هذا الاستخدام النتائج المرغوبة، ويمكن للجنود ومشاة البحرية القيام بذلك دون تعريض أنفسهم والآخرين أو المهمة للخطر. تصعيد وزيادة القوة وإجراءات زيادتها تدريجيا لا يحد من الحق في الدفاع عن النفس، ولا من استخدام القوة المميتة عندما تكون هذه القوة ضرورية من أجل الدفاع ضد أي عدوان أو عندما تتضح النوايا العدوانية. ويتعين على القادة التأكد من أن الجنود ومشاة البحرية تدربوا جيدا على هذه الإجراءات، والأهم من ذلك على طرق التعامل مع المواقف المختلفة، إذ يتعين على قادة الوحدات الصغيرة اتخاذ قرارات حياة أو موت في ثوان معدودة. -إن تولى مسئولية القوة أمر في غاية الأهمية أيضا. ففي حالة ما إذا كانت شرطة الدولة المضيفة تتمتع بسمعة مقبولة من حيث الكفاءة والنزاهة، فمن الأفضل لها أن تنفذ العمليات في المناطق الحضرية، حيث من المرجح أن يرى السكان أن استخدام هذه القوة أمر شرعي. ويكون هذا صحيحا حتى في حالة عدم تمتع قوات الشرطة بتسليح جيد أو عدم تمتعها بنفس القوة التي تتمتع بها الوحدات العسكرية. ومع ذلك، فإن الظروف والملابسات المحلية تؤثر على هذا القرار. أما في حال ما إذا ثبت للبعض أن قوات الشرطة تمثل جزءا من مجموعة عرقية أو طائفية وتعمل على اضطهاد وقمع المواطن بصفة عامة، فإن استخدامها قد يأتي بنتائج عكسية. لذا فإن قوات مكافحة التمرد الفعالة هي تلك القوات التي تتفهم خصائص الشرطة المحلية والتصورات الشعبية عن كل من وحدات الشرطة والوحدات العسكرية. وهذا الفهم يساعد على التأكد من أن تطبيق هذه القوة مناسب ويدعم حكم القانون. 2) التعلم والتكيف -إن قوة مكافحة حركة التمرد الفعالة عبارة عن منظومة تعليمية. حيث يمزج المتمردون بصفة مستمرة بين المراحل والتكتيكات العسكرية والسياسية. كما يتبادل المتمردون الذين يعملون على شكل شبكات المعلومات باستمرار عن مواطن ضعف عدوهم، حتى مع المتمردين الآخرين في مسارح العمليات البعيدة. ومع ذلك فإن قوات مكافحة التمرد الماهرة يمكنها أن تتكيف مع ذلك على الأقل بنفس سرعة المتمردين. فكل وحدة تحتاج إلى القدرة على إبداء الملاحظات، وتعلم وتطبيق الدروس المستفادة، وتقييم النتائج. ومن ثم يتعين على القادة تطوير نظام فعال يعمل على تعميم أفضل الممارسات ضمن منظومة قيادتهم. وقد يحتاج القادة المقاتلين إلى البحث عن قوانين أو سياسات جديدة تخول أو تحقق التغيرات الضرورية. فانتقال المتمردين عبر مناطق العمليات بحثا عن روابط ضعيفة، يستلزم توافر كفاءة أعلى على مستوى قوة مكافحة التمرد. منح الصلاحيات للمستويات الأدنى -إن قيادة المهمة تتمثل في تسيير العمليات العسكرية عبر تنفيذها بصورة لا مركزية، وتعتمد على تنفيذ الأوامر من أجل إنجاز المهمة بصورة فعالة. كما أن القيادة الناجحة للمهمة تنتج عن القادة المرؤوسين في جميع الصفوف، والذين يعتمدون على روح المبادرة المنضبطة وفقا لغرض القائد من تنفيذ المهام. كما أنها تتطلب جوا من الثقة والفهم المتبادل (الدليل الميداني 6-0). وهذه هي الطريقة المفضلة لدى الجيش وقوات مشاة البحرية للقيادة والسيطرة على القوات أثناء جميع أنواع العمليات. وفي قيادة المهمة، يزود القادة المرؤوسين بالمهمة اللازمة، وغرض القائد، ومفهوم العمليات، والموارد المناسبة والكافية لإنجاز المهمة. وتفوض القيادة العليا الصلاحيات للمرؤوسين لاتخاذ القرارات الواجبة طبقا لغرض القائد. كما أنهم يتركون كافة التفاصيل التنفيذية لمرؤوسيهم، ويتوقعون منهم استخدام المبادرة والرأي السديد لإنجاز المهمة. - تتناسب غالبا قيادة المهمة مع الطبيعة المختلطة لعمليات مكافحة التمرد، فعادة ما يستوعب القادة المحليون الأوضاع في منطقتهم بشكل أفضل. وبرعاية قيادة المهمة، يمكنهم استخدام الموارد المطلوبة أو التحكم فيها من أجل تنفيذ العمليات الاستخبارية اللازمة في الوقت المناسب، وتنفيذ عمليات تكتيكية فعالة، وإدارة العمليات الاستخباراتية والعمليات المدنية – العسكرية. وهكذا فإن عمليات مكافحة التمرد الفعالة تصبح لا مركزية، وتفوضها القيادة العليا إلى مرؤوسيها من أجل دفع أكبر قدرات ممكنة قدر المستطاع إلى المستويات الدنيا. كما تشجع قيادة المهمة المرؤوسين على المبادرة وتسهل عملية التعلم التي ينبغي أن تحدث في كل مستوى. ومن الخصائص الرئيسية لقوة مكافحة التمرد أن تتمكن من التكيف والتفاعل على الأقل بنفس سرعة المتمردين.
الإرشادات المعاصرة لمكافحة التمرد
(مترجم من: الدليل الأمريكي لمكافحة التمرد)

ترجمة مركز حازم

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

لقد حددت الخبرات الحديثة لمكافحة التمرد مجموعة مهمة من الإرشادات الإضافية التي يتعين أخذها في الاعتبار من أجل تحقيق النجاح. ومن بين تلك الإرشادات:

1) استخدام المستوى المناسب من القوة

- إن أي استخدام للقوة يولد مجموعة من ردود الأفعال. وفي بعض الأحيان قد يكون من الضروري بذل مجهود خارق من أجل تدمير أو تخويف العدو وطمأنة السكان. وغالبا ما يتعين قتل العناصر المتمردة المتطرفة. وعلى أي حال، فمع ذلك ينبغي على قوات مكافحة التمرد أن تحسب بعناية نوع وكمية القوة التي يلزم استخدامها، ومَن سوف يستخدمها ببراعة في أي عملية. فالعملية التي يُقتل فيها خمسة متمردين ستأتي بنتائج عكسية تماماً في حالة ما إذا أدت الأضرار الشاملة التي نتجت عنها إلى استقطاب خمسين متمردا أو أكثر.

- في بيئة مكافحة التمرد، يتعين على القادة إقرار مستويات مناسبة ومحسوبة من القوة، واستخدام هذه القوة بصورة دقيقة ومحددة عند تنفيذ المهمة دون إحداث أي أذى أو خسائر غير ضرورية في الأرواح. وفي العادة، فإن قوات مكافحة التمرد يمكن أن تستخدم التصعيد المتدرج للقوة، مثل إجراءات استخدام القوة للتقليل من المخاطر المحتملة لفقدان حياة الأشخاص. وهذه الإجراءات تكون مناسبة تماما أثناء عمليات الإنزال وعند نقاط التفتيش والحواجز المرورية في الطرق. كما أن زيادة أو تصعيد قوة الإجراءات تشير إلى استخدام وسائل قوة أقل عندما يكون من المرجح أن يحقق هذا الاستخدام النتائج المرغوبة، ويمكن للجنود ومشاة البحرية القيام بذلك دون تعريض أنفسهم والآخرين أو المهمة للخطر.

تصعيد وزيادة القوة وإجراءات زيادتها تدريجيا لا يحد من الحق في الدفاع عن النفس، ولا من استخدام القوة المميتة عندما تكون هذه القوة ضرورية من أجل الدفاع ضد أي عدوان أو عندما تتضح النوايا العدوانية. ويتعين على القادة التأكد من أن الجنود ومشاة البحرية تدربوا جيدا على هذه الإجراءات، والأهم من ذلك على طرق التعامل مع المواقف المختلفة، إذ يتعين على قادة الوحدات الصغيرة اتخاذ قرارات حياة أو موت في ثوان معدودة.

-إن تولى مسئولية القوة أمر في غاية الأهمية أيضا. ففي حالة ما إذا كانت شرطة الدولة المضيفة تتمتع بسمعة مقبولة من حيث الكفاءة والنزاهة، فمن الأفضل لها أن تنفذ العمليات في المناطق الحضرية، حيث من المرجح أن يرى السكان أن استخدام هذه القوة أمر شرعي. ويكون هذا صحيحا حتى في حالة عدم تمتع قوات الشرطة بتسليح جيد أو عدم تمتعها بنفس القوة التي تتمتع بها الوحدات العسكرية. ومع ذلك، فإن الظروف والملابسات المحلية تؤثر على هذا القرار.

أما في حال ما إذا ثبت للبعض أن قوات الشرطة تمثل جزءا من مجموعة عرقية أو طائفية وتعمل على اضطهاد وقمع المواطن بصفة عامة، فإن استخدامها قد يأتي بنتائج عكسية. لذا فإن قوات مكافحة التمرد الفعالة هي تلك القوات التي تتفهم خصائص الشرطة المحلية والتصورات الشعبية عن كل من وحدات الشرطة والوحدات العسكرية. وهذا الفهم يساعد على التأكد من أن تطبيق هذه القوة مناسب ويدعم حكم القانون.

2) التعلم والتكيف

-إن قوة مكافحة حركة التمرد الفعالة عبارة عن منظومة تعليمية. حيث يمزج المتمردون بصفة مستمرة بين المراحل والتكتيكات العسكرية والسياسية. كما يتبادل المتمردون الذين يعملون على شكل شبكات المعلومات باستمرار عن مواطن ضعف عدوهم، حتى مع المتمردين الآخرين في مسارح العمليات البعيدة.

ومع ذلك فإن قوات مكافحة التمرد الماهرة يمكنها أن تتكيف مع ذلك على الأقل بنفس سرعة المتمردين. فكل وحدة تحتاج إلى القدرة على إبداء الملاحظات، وتعلم وتطبيق الدروس المستفادة، وتقييم النتائج. ومن ثم يتعين على القادة تطوير نظام فعال يعمل على تعميم أفضل الممارسات ضمن منظومة قيادتهم. وقد يحتاج القادة المقاتلين إلى البحث عن قوانين أو سياسات جديدة تخول أو تحقق التغيرات الضرورية. فانتقال المتمردين عبر مناطق العمليات بحثا عن روابط ضعيفة، يستلزم توافر كفاءة أعلى على مستوى قوة مكافحة التمرد.

منح الصلاحيات للمستويات الأدنى

-إن قيادة المهمة تتمثل في تسيير العمليات العسكرية عبر تنفيذها بصورة لا مركزية، وتعتمد على تنفيذ الأوامر من أجل إنجاز المهمة بصورة فعالة. كما أن القيادة الناجحة للمهمة تنتج عن القادة المرؤوسين في جميع الصفوف، والذين يعتمدون على روح المبادرة المنضبطة وفقا لغرض القائد من تنفيذ المهام. كما أنها تتطلب جوا من الثقة والفهم المتبادل (الدليل الميداني 6-0). وهذه هي الطريقة المفضلة لدى الجيش وقوات مشاة البحرية للقيادة والسيطرة على القوات أثناء جميع أنواع العمليات.

وفي قيادة المهمة، يزود القادة المرؤوسين بالمهمة اللازمة، وغرض القائد، ومفهوم العمليات، والموارد المناسبة والكافية لإنجاز المهمة. وتفوض القيادة العليا الصلاحيات للمرؤوسين لاتخاذ القرارات الواجبة طبقا لغرض القائد. كما أنهم يتركون كافة التفاصيل التنفيذية لمرؤوسيهم، ويتوقعون منهم استخدام المبادرة والرأي السديد لإنجاز المهمة.

- تتناسب غالبا قيادة المهمة مع الطبيعة المختلطة لعمليات مكافحة التمرد، فعادة ما يستوعب القادة المحليون الأوضاع في منطقتهم بشكل أفضل. وبرعاية قيادة المهمة، يمكنهم استخدام الموارد المطلوبة أو التحكم فيها من أجل تنفيذ العمليات الاستخبارية اللازمة في الوقت المناسب، وتنفيذ عمليات تكتيكية فعالة، وإدارة العمليات الاستخباراتية والعمليات المدنية – العسكرية.

وهكذا فإن عمليات مكافحة التمرد الفعالة تصبح لا مركزية، وتفوضها القيادة العليا إلى مرؤوسيها من أجل دفع أكبر قدرات ممكنة قدر المستطاع إلى المستويات الدنيا. كما تشجع قيادة المهمة المرؤوسين على المبادرة وتسهل عملية التعلم التي ينبغي أن تحدث في كل مستوى. ومن الخصائص الرئيسية لقوة مكافحة التمرد أن تتمكن من التكيف والتفاعل على الأقل بنفس سرعة المتمردين.
‏١٢‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٨:٥٧ م‏
حالات التمرد داخل الجيش المصري محمود جمال (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) مقدمة: ليس الجيش في مصر كتلة مصمتة وإنما يحتوي على تكوينات وأفراد تختلف طبائعهم ونفوسهم ومبادئهم وأيدولوجياتهم. وكانت العقود السبعة الماضية شاهداً على ذلك التنوع، إذ كانت هناك اتجاهات متمثلة في عسكريين داخل الجيش المصري حاولت أن تعدل المسار في بعض الفترات، واختلفت تلك الاتجاهات في أساليبها وطرق التعبير عنها؛ فمنها ما توقف عند التفكير ومنها ما دخل في التنفيذ، ومنها ما نجح ومنها ما فشل. عصر عبد الناصر: 1. مثلت حركة الضباط الأحرار حركة تغيير فكرية وعملية نفذت انقلاباً عسكرياً، بدأ عبد الناصر تكوين التنظيم –بحسب ما قاله السادات في كتابه "أسرار الثورة المصرية"- في سبتمبر 1949م، وهو ما أيدته شهادات بقية الضباط الأحرار في كتبهم أو مذكراتهم أو في أقوالهم أمام لجنة تسجيل تاريخ ثورة 23 يوليو 1952[1]. وبحسب هذه المذكرات فإن هزيمة 1948 كانت أهم أسباب غضب الجيش، وما شهدته من ضياع فلسطين وفضيحة الأسلحة الفاسدة، بالإضافة إلى الفساد الكبير في الجيش، والاستبداد الذي يعانيه الشعب المصري. ويذكر محمد نجيب في مذكراته التي نُشرت عام 1984م بعنوان "كنت رئيساً لمصر" أنه: “كانت منشورات الضباط الأحرار تملأ وحدات الجيش.. وأحياناً كانت تخرج إلي المدنيين.. وكانت تتكلم عن فساد الحكم وتفضح عيوبه، وتصرخ في وجه انحرافات قادة الجيش، وتطالب بالإصلاح والتغيير. صدر المنشور الأول للضباط الأحرار في أكتوبر 1950م، تحت عنوان (نداء وتحذير) جاء فيه: "إن الضباط الأحرار جزء لا يتجزأ من الشعب، وإذا كان الشعب يُحكم حكماً ملكياً مستبداً، فإن الجيش هو الآخر يخضع لنفس الظروف منذ سيق إلى مجزرة فلسطين دون رأي ودون استعداد، وفُرضت عليه الخطط الفاسدة والأسلحة الفاسدة"[2]. 2. كما يتفق الكثيرون على أن نظام فاروق كان فاسداً ومستبداً، يتفق الكثيرون أيضاً أن عبد الناصر ومجموعته انحرفوا عن أهداف ومبادئ يوليو 1952م، ومن هنا جرت محاولتان للانقلاب على مجلس قيادة الثورة وعلى عبد الناصر: - في مارس 1953م، حاول قائد أركان حرب قسم قوات القاهرة (تسمى الآن: المنطقة المركزية) الضابط محمد رشاد مهنا تنفيذ انقلاب عسكري[3]، ولكن تسربت أنباء المحاولة وفشلت، وأذيع نبأ الحكم على رشاد مهنا في 30 مارس 1953م. - وفي إبريل 1954، وبعد عزل محمد نجيب، تحرك الضابط القيادي بسلاح الفرسان أحمد المصري، وحاول تنفيذ انقلاب على عبد الناصر، وقد أتيح له أن يتحدث عن دوافعه في حديث مع الإعلام المصري، ففي بداية اللقاء سأل المذيع الضابط أحمد المصري بوضوح شديد هل قمت بمحاولة انقلاب على جمال عبد الناصر؟ فكانت إجابته "نعم، حدث في إبريل 1954م، وما كانت قضية محمد نجيب بحد ذاتها هي المحك، بل كانت عملية تفريغ الثورة أول بأول من رجالها أو أبنائها، وقد تكررت هذه المسألة أكثر من مرة، وظهر أن مجلس الثورة ينتهج نهجاً بعيداً تماماً عن أهداف الثورة، ولعل أهمها من وجهة نظري هي الديمقراطية والحريات العامة".[4] 3. وبعد فشل هذه المحاولة سيطرت مجموعة عبد الناصر على الجيش، فلم يحصل تمرد حتى نهاية عصر عبد الناصر، لكن يمكن تسمية هذه الفترة الطويلة بـ "الانقلاب الصامت" الذي يتمثل بنزاع مكتوم بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ويرى البعض أن النزاع بين الجيش والرئاسة إنما تأسس وترسخ في تلك الفترة. وكان من طبيعة الأمور أن يسعى عبد الناصر إلى إزاحة عامر عن المشهد بأي شكل، وهو ما انتهى برواية انتحار عبد الحكيم عامر بعد هزيمة 1967م، وهو الأمر الذي يؤكد مقربون من عامر أنه كان حادثة قتل؛ فقد روت الممثلة برلنتي عبد الحكيم –وكانت زوجة عامر- أنها اطلعت على صورة التقرير الطبي الأصلي الذي يؤكد وفاته مسموماً، وذكرت أن عامراً أخبرها بمخاوفه من الاغتيال للتخلص مما يملكه من معلومات، وأنه أفضى إلى صلاح نصر –رئيس المخابرات العامة حينئذ- بهذه المخاوف؛ إذ توقع أنهم سيجعلونه «كبش فداء» للهزيمة، وأن الحديث عن تخاذل الجيش وقادته هو بمثابة تحضير لقتله. وحاول نجله جمال عامر إعادة فتح التحقيقات في وفاة أبيه خلال عهد مبارك، لكن زكريا عزمي – رئيس الديوان حينها – طالبه بإغلاق هذا الموضوع بتعليمات من مبارك لدواعٍ أمنية. وأكد جمال أن المشير قُتل بالسم، بعد ما "أعطوا له جرعة مات بعدها بـ 5 دقائق، لأنها طبقاً لآراء خبراء الطب الشرعي، كانت كفيلة بقتل 50 شخصًا". عصر أنور السادات: 1. قوبلت سياسة السادات بمعارضة شديدة بعد عدة أشهر من تنصيبه رئيساً، وكان وزير الدفاع في ذلك التوقيت هو الفريق محمد فوزي (الذي عُيِّن في 24 نوفمبر 1967م). قدم فوزي استقالته من جميع مناصبه في 14 مايو 1971 تضامناً مع بعض الوزراء احتجاجاً على سياسة السادات، ثم اعتُقِل مع عدد كبير من كبار المسؤولين السابقين وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لاتهامه بالتآمر ضد الرئيس فيما عُرف بثورة التصحيح وحوكم عسكرياً، ورغم أن السادات أصدر قراراً بإعدامه إلا أنّ المحكمة العسكرية رفضت باعتبار أن قائد الجيش لا يُعدم ألا بتهمة خيانة الوطن والاتصال بالعدو أثناء الحرب، ثم صدر العفو عنه عام 1974[5]. وقد أوضح فوزي خلافه مع السادات وحقيقة تفكيره في تنفيذ انقلاب في لقاء مع الإعلامي عماد الدين أديب عام 1995م، وذكر فيه أن السادات لم يكن يريد حرباً حقيقية مع إسرائيل، بل كان له تواصل سري مع الأمريكان والإسرائيليين، وهو ما كشفته المخابرات الحربية وقتها، وكان هذا –بحسب كلامه- السبب الرئيسي في الخلاف بينه وبين السادات[6]. 2. كوَّن مجموعة من طلاب الكليات العسكرية تنظيماً عُرف فيما بعد باسم "تنظيم الكلية الفنية العسكرية" عام 1974م، وكانت هذه المحاولة أحد أهم أشكال محاولات التغيير العسكرية، وتشير هذه المحاولة إلى حقيقة مهمة، وهي اختلاف الدوافع التي تدفع الطلاب إلى الالتحاق بالكليات العسكرية، فمنهم من يراه وسيلته لمحاربة إسرائيل، ومنهم من يريد التمتع بالمزايا الخاصة الممنوحة للعسكريين، ومنهم من يلتحق بالجيش ويصطدم بخطأ تصوره فيسعى لتصحيح الوضع. وقد بدأ تنظيم الكلية الفنية العسكرية متبنياً فكر الجهاد القائم على تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة؛ إذ إنها في تصوّره “أنظمة كافرة” والواجب تغييرها بالقوة. أُسس التنظيم في عام 1973 على يد الدكتور صالح سرية، الفلسطيني الأصل الأردني الجنسية [7]، الذي نجح في استقطاب بعض طلاب الفنية العسكرية ثم طلاب الكلية الجوية، ويعد طلال عبد المنعم الأنصاري -ابن الشاعر السكندري الراحل عبد المنعم الأنصاري- الرجل الثاني بالتنظيم، وهو من مواليد محافظة الإسكندرية عام 1941 وكان أحد المدبرين الأساسيين لعملية الهجوم على الكلية الفنية العسكرية. ويأتي بعده كارم الأناضولي الطالب بالفنية العسكرية، ويحيى هاشم من مواليد القاهرة ومن خريجي كلية الحقوق جامعة القاهرة والذين عُين وكيلاً للنائب العام عقب تخرجه[8]. 3. منذ عام 1981م وحتى الآن يلف الغموض عملية مصرع وزير الدفاع الفريق أحمد بدوي ومعه 13 قائد من قيادات الجيش في تحطم الطائرة العسكرية. وبحسب ما رواه الضابط علوي حافظ –وهو أحد الضباط الأحرار- في كتابه “الفساد” فربما كان الفريق أحمد بدوي غير راضٍ علي نهج المؤسسة العسكرية في فترة السادات ونائبه حسني مبارك، وأن بدوي ربما كان يفكر في الانقلاب العسكري وهو الأمر الذي اكتشفه السادات فتخلص منه[9]. وكانت قضية تسلح الجيش من أهم نقاط الخلاف، إذ كان يتربح منها السادات ورجاله، ولم تكن تخدم الجيش المصري. 4. يُعد اغتيال السادات من أهم عمليات التمرد داخل الجيش المصري، إذ قام بالاغتيال مجموعة من ضباط الجيش، اعتراضاً على اتفاقية كامب ديفيد وعلى حملات القمع التي شنها السادات على الإسلامين والمعارضين بشكل عام، ولكن المشكلة أنهم لم يكونوا يملكون تصوراً عن كيفية السيطرة على الأوضاع بعد اغتيال السادات لقلة عددهم، وركزوا فقط على التخلص من رأس النظام. إن من نفذوا عملية مقتل الرئيس السادات هم مجموعة من الضباط كانوا يراقبون ما يحدث على الساحة السياسية، وهم خالد الإسلامبولي وهو المنفذ الرئيسي للعملية وقد كان ضابطاً بالجيش المصري "أُعدم"، وعبود الزمر الذي كان أيضاً ضابطاً بالمخابرات وشارك في تنفيذ وتخطيط العملية، وحسين عباس "أعدم" الذي كان رقيباً متطوعاً بالقوات المسلحة بالدفاع الشعبي، وهو قناص بارع لذلك كان أول من أطلق الرصاص على الرئيس السادات.[10] كذلك أيضاً عطا طايل حميدة رميح "أعدم" وهو كان ملازم أول مهندس احتياط وهو من ألقى قنبلة اليد على المنصة.[11] ما بعد ثورة يناير 1. يرى البعض أن نية الانقلاب العسكري بدأت من أول لحظة 25 يناير، وربما قبلها أيضاً، بهدف العودة إلى السيطرة على الأمور بعد تهميش مبارك للجيش في السنوات الأخيرة من حكمه ونيته توريث الحكم لابنه الذي لا ينتمي للعسكر، وأن هذا هو سر تعاملها الإيجابي مع ثورة يناير. وبعد انقلاب 2013، سعى السيسي للسيطرة على الأوضاع داخل الجيش المصري ليتحول من الحكم العسكري إلى حكم الفرد الواحد، وتمثل ذلك بخطوات عديدة من أهمها: إخراج 36 قائد عسكري من المجلس العسكري، ويطلق البعض على هذه الخطوة بأنها "انقلاب داخل الانقلاب" بمعنى أنها انقلاب السيسي على المجلس العسكري. 2. دفعت الجرائم وسلسلة المذابح والتصفيات الجسدية التي نفذها العسكر ما بعد الانقلاب العسكري، والتي أدت إلى مقتل الآلاف وإصابة عشرات الآلاف واعتقال مئات الآلاف، فضلاً عن تردي الأحوال الاقتصادية، دفع كل هذا إلى ظهور مجموعات داخل الجيش المصري حاولت تنفيذ تغيير بالقوة. وكان أبرز تلك المحاولات في تاريخ 16/6/2015 إذ اعتُقل 26 ضابطاً مصرياً برتب مختلفة، منهم ضابطان برتبة عميد، وأربعة ضباط برتبة عقيد، وثلاثة ضباط برتبة مقدم، وسبعة عشر ضابطاً برتبة رائد، وضابطان برتبة نقيب، ووُجهت لهم تهم ارتكاب جريمة محاولتهم بالقوة قلب وتغيير دستور البلاد، واحتلال بعض المباني العامة ومرافق ومؤسسات الدولة ومنها: مقر وزارة الدفاع وإدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدينة الإنتاج الإعلامي، ووزارة الداخلية وقطاع الأمن الوطني. والاتفاق على عدم طاعة رئيس الجمهورية ومناهضة السياسة العامة التي تتبعها الدولة في المجال الداخلي والخارجي. واتُّهم الرائد مصطفى محمد مصطفى، بصفته موظفاً عاماً بأنه أفشى سرًا من أسرار الدولة، وفي 16/8/2015 أصدرت المحكمة العسكرية مصرية حكمها في القضية وتراوحت الأحكام بين 25 عاماً و15 عاماً و10 أعوام. كما حُكم غيابياً على الدكتور حلمي الجزار، القيادي بحزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ومحمد عبد الرحمن، عضو مكتب الإرشاد في الجماعة، بالسجن 25 عاما.[12] 3. من جهة أخرى فإن بعض العسكريين هاجروا إلى الجماعات المسلحة، حيث اقتنعوا بأن العمل الجهادي هو الوسيلة المناسبة للتغيير، وهي ظاهرة متكررة في العقود الماضية، ومن أبرز هؤلاء الضباط: هشام على عشماوي مسعد، وضابط الشرطة عماد عبد الحميد، والضابط وليد بدر. ختاماً: في مختلف مراحل تاريخ الحكم العسكري ظلت ثمة مجموعات داخل الجيش المصري تحاول تصحيح المسار لإعادة الجيش إلى الدور المنوط به، ولهذا يتوقع البعض أن ثمة من يراقب ويشاهد من العسكريين ما يحدث الآن من تغيير للعقيدة المصرية الوطنية وتعزيز التقارب مع العدو الإسرائيلي والتنازل عن أجزاء من أراضي البلد، والتدهور العام في سائر المجالات، والتنكيل الذي يشمل الجميع مدنيين وعسكريين. ويري آخرون أن سياسة السيسي سنزيد من الشرائح التي ترغب في تغيير الوضع القائم داخل الجيش المصري، وفي مستويات مختلفة داخل هيكل الجيش المصري، ومن المرجح أنهم لن يلجأوا إلى المحاولات القانونية والسياسية التي قد أثبتت فشلها وكتبت شهادة وفاتها، ولكنهم سيسلكون طرقاً أكثر خشونة لمواجهة ذلك النظام الذي نكل وما زال ينكل بكل من يطالب بالتغيير، وخاصة بعد أن أعلن رأس هذا النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً. ـــــــــــــــــــــــــــــــ [1] كتاب محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة .. د/رفعت يونان ص 23، رابط (الروابط تجدها في المجلة المنشورة). [2] كتاب "كنت رئيساً لمصر" ص 92، الرابط [3] محمد رشاد مهنا.. أول من فرمتهم يوليو من قياداتها، مدونات الجزيرة، تاريخ النشر 25 أبريل 2018م، تاريخ النشر 27 ديسمبر 2018م، الرابط [4] ضابط الأحرار الذي انقلب علي عبد الناصر، لقاء متلفز، الرابط [5] وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة يونية 1967- مايو 1971 ، الرابط [6] حصرياً: الفريق أول محمد فوزي شاهد على العصر في مقابلة مع عماد أديب 1995، "الحلقة الثامنة والأخيرة"، الرابط [7] تنظيم “شباب محمد” أو “الفنية العسكرية”، بوابة الشروق، تاريخ النشر 25 سبتمبر 2018م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط [8] تنظيم الفنية العسكرية، بوابة الحركات الإسلامية تاريخ النشر 06 فبراير 2014م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط [9] [9] أسرار استشهاد المشير أحمد بدوي ولا يزال الغموض مستمر، أرشيف مصر، تاريخ النشر 23 أبريل 2017م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط [10] اغتيال السادات: القصة الكاملة لاغتيال الرئيس المصري، الرابط [11] مجند مصري يروي تفاصيل اعدام قتلة السادات.. سألتهم قبل إعدامهم: هل تدخنون السجائر "صور و فيديو "، الرابط [12] محكمة عسكرية تحبس 26 ضابطاً وقياديين بالإخوان بتهمة الانقلاب، العربي الجديد، تاريخ النشر 16 أغسطس 2015م، تاريخ الدخول 28 ديسمبر 2018م، الرابط
حالات التمرد داخل الجيش المصري
محمود جمال

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

مقدمة:

ليس الجيش في مصر كتلة مصمتة وإنما يحتوي على تكوينات وأفراد تختلف طبائعهم ونفوسهم ومبادئهم وأيدولوجياتهم. وكانت العقود السبعة الماضية شاهداً على ذلك التنوع، إذ كانت هناك اتجاهات متمثلة في عسكريين داخل الجيش المصري حاولت أن تعدل المسار في بعض الفترات، واختلفت تلك الاتجاهات في أساليبها وطرق التعبير عنها؛ فمنها ما توقف عند التفكير ومنها ما دخل في التنفيذ، ومنها ما نجح ومنها ما فشل.

عصر عبد الناصر:

1. مثلت حركة الضباط الأحرار حركة تغيير فكرية وعملية نفذت انقلاباً عسكرياً، بدأ عبد الناصر تكوين التنظيم –بحسب ما قاله السادات في كتابه "أسرار الثورة المصرية"- في سبتمبر 1949م، وهو ما أيدته شهادات بقية الضباط الأحرار في كتبهم أو مذكراتهم أو في أقوالهم أمام لجنة تسجيل تاريخ ثورة 23 يوليو 1952[1].

وبحسب هذه المذكرات فإن هزيمة 1948 كانت أهم أسباب غضب الجيش، وما شهدته من ضياع فلسطين وفضيحة الأسلحة الفاسدة، بالإضافة إلى الفساد الكبير في الجيش، والاستبداد الذي يعانيه الشعب المصري. ويذكر محمد نجيب في مذكراته التي نُشرت عام 1984م بعنوان "كنت رئيساً لمصر" أنه: “كانت منشورات الضباط الأحرار تملأ وحدات الجيش.. وأحياناً كانت تخرج إلي المدنيين.. وكانت تتكلم عن فساد الحكم وتفضح عيوبه، وتصرخ في وجه انحرافات قادة الجيش، وتطالب بالإصلاح والتغيير.

صدر المنشور الأول للضباط الأحرار في أكتوبر 1950م، تحت عنوان (نداء وتحذير) جاء فيه: "إن الضباط الأحرار جزء لا يتجزأ من الشعب، وإذا كان الشعب يُحكم حكماً ملكياً مستبداً، فإن الجيش هو الآخر يخضع لنفس الظروف منذ سيق إلى مجزرة فلسطين دون رأي ودون استعداد، وفُرضت عليه الخطط الفاسدة والأسلحة الفاسدة"[2].

2. كما يتفق الكثيرون على أن نظام فاروق كان فاسداً ومستبداً، يتفق الكثيرون أيضاً أن عبد الناصر ومجموعته انحرفوا عن أهداف ومبادئ يوليو 1952م، ومن هنا جرت محاولتان للانقلاب على مجلس قيادة الثورة وعلى عبد الناصر:

- في مارس 1953م، حاول قائد أركان حرب قسم قوات القاهرة (تسمى الآن: المنطقة المركزية) الضابط محمد رشاد مهنا تنفيذ انقلاب عسكري[3]، ولكن تسربت أنباء المحاولة وفشلت، وأذيع نبأ الحكم على رشاد مهنا في 30 مارس 1953م.

- وفي إبريل 1954، وبعد عزل محمد نجيب، تحرك الضابط القيادي بسلاح الفرسان أحمد المصري، وحاول تنفيذ انقلاب على عبد الناصر، وقد أتيح له أن يتحدث عن دوافعه في حديث مع الإعلام المصري، ففي بداية اللقاء سأل المذيع الضابط أحمد المصري بوضوح شديد هل قمت بمحاولة انقلاب على جمال عبد الناصر؟ فكانت إجابته "نعم، حدث في إبريل 1954م، وما كانت قضية محمد نجيب بحد ذاتها هي المحك، بل كانت عملية تفريغ الثورة أول بأول من رجالها أو أبنائها، وقد تكررت هذه المسألة أكثر من مرة، وظهر أن مجلس الثورة ينتهج نهجاً بعيداً تماماً عن أهداف الثورة، ولعل أهمها من وجهة نظري هي الديمقراطية والحريات العامة".[4]

3. وبعد فشل هذه المحاولة سيطرت مجموعة عبد الناصر على الجيش، فلم يحصل تمرد حتى نهاية عصر عبد الناصر، لكن يمكن تسمية هذه الفترة الطويلة بـ "الانقلاب الصامت" الذي يتمثل بنزاع مكتوم بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ويرى البعض أن النزاع بين الجيش والرئاسة إنما تأسس وترسخ في تلك الفترة.

وكان من طبيعة الأمور أن يسعى عبد الناصر إلى إزاحة عامر عن المشهد بأي شكل، وهو ما انتهى برواية انتحار عبد الحكيم عامر بعد هزيمة 1967م، وهو الأمر الذي يؤكد مقربون من عامر أنه كان حادثة قتل؛ فقد روت الممثلة برلنتي عبد الحكيم –وكانت زوجة عامر- أنها اطلعت على صورة التقرير الطبي الأصلي الذي يؤكد وفاته مسموماً، وذكرت أن عامراً أخبرها بمخاوفه من الاغتيال للتخلص مما يملكه من معلومات، وأنه أفضى إلى صلاح نصر –رئيس المخابرات العامة حينئذ- بهذه المخاوف؛ إذ توقع أنهم سيجعلونه «كبش فداء» للهزيمة، وأن الحديث عن تخاذل الجيش وقادته هو بمثابة تحضير لقتله. وحاول نجله جمال عامر إعادة فتح التحقيقات في وفاة أبيه خلال عهد مبارك، لكن زكريا عزمي – رئيس الديوان حينها – طالبه بإغلاق هذا الموضوع بتعليمات من مبارك لدواعٍ أمنية. وأكد جمال أن المشير قُتل بالسم، بعد ما "أعطوا له جرعة مات بعدها بـ 5 دقائق، لأنها طبقاً لآراء خبراء الطب الشرعي، كانت كفيلة بقتل 50 شخصًا".

عصر أنور السادات:

1. قوبلت سياسة السادات بمعارضة شديدة بعد عدة أشهر من تنصيبه رئيساً، وكان وزير الدفاع في ذلك التوقيت هو الفريق محمد فوزي (الذي عُيِّن في 24 نوفمبر 1967م). قدم فوزي استقالته من جميع مناصبه في 14 مايو 1971 تضامناً مع بعض الوزراء احتجاجاً على سياسة السادات، ثم اعتُقِل مع عدد كبير من كبار المسؤولين السابقين وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لاتهامه بالتآمر ضد الرئيس فيما عُرف بثورة التصحيح وحوكم عسكرياً، ورغم أن السادات أصدر قراراً بإعدامه إلا أنّ المحكمة العسكرية رفضت باعتبار أن قائد الجيش لا يُعدم ألا بتهمة خيانة الوطن والاتصال بالعدو أثناء الحرب، ثم صدر العفو عنه عام 1974[5]. وقد أوضح فوزي خلافه مع السادات وحقيقة تفكيره في تنفيذ انقلاب في لقاء مع الإعلامي عماد الدين أديب عام 1995م، وذكر فيه أن السادات لم يكن يريد حرباً حقيقية مع إسرائيل، بل كان له تواصل سري مع الأمريكان والإسرائيليين، وهو ما كشفته المخابرات الحربية وقتها، وكان هذا –بحسب كلامه- السبب الرئيسي في الخلاف بينه وبين السادات[6].

2. كوَّن مجموعة من طلاب الكليات العسكرية تنظيماً عُرف فيما بعد باسم "تنظيم الكلية الفنية العسكرية" عام 1974م، وكانت هذه المحاولة أحد أهم أشكال محاولات التغيير العسكرية، وتشير هذه المحاولة إلى حقيقة مهمة، وهي اختلاف الدوافع التي تدفع الطلاب إلى الالتحاق بالكليات العسكرية، فمنهم من يراه وسيلته لمحاربة إسرائيل، ومنهم من يريد التمتع بالمزايا الخاصة الممنوحة للعسكريين، ومنهم من يلتحق بالجيش ويصطدم بخطأ تصوره فيسعى لتصحيح الوضع.

وقد بدأ تنظيم الكلية الفنية العسكرية متبنياً فكر الجهاد القائم على تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة؛ إذ إنها في تصوّره “أنظمة كافرة” والواجب تغييرها بالقوة. أُسس التنظيم في عام 1973 على يد الدكتور صالح سرية، الفلسطيني الأصل الأردني الجنسية [7]، الذي نجح في استقطاب بعض طلاب الفنية العسكرية ثم طلاب الكلية الجوية، ويعد طلال عبد المنعم الأنصاري -ابن الشاعر السكندري الراحل عبد المنعم الأنصاري- الرجل الثاني بالتنظيم، وهو من مواليد محافظة الإسكندرية عام 1941 وكان أحد المدبرين الأساسيين لعملية الهجوم على الكلية الفنية العسكرية. ويأتي بعده كارم الأناضولي الطالب بالفنية العسكرية، ويحيى هاشم من مواليد القاهرة ومن خريجي كلية الحقوق جامعة القاهرة والذين عُين وكيلاً للنائب العام عقب تخرجه[8].

3. منذ عام 1981م وحتى الآن يلف الغموض عملية مصرع وزير الدفاع الفريق أحمد بدوي ومعه 13 قائد من قيادات الجيش في تحطم الطائرة العسكرية. وبحسب ما رواه الضابط علوي حافظ –وهو أحد الضباط الأحرار- في كتابه “الفساد” فربما كان الفريق أحمد بدوي غير راضٍ علي نهج المؤسسة العسكرية في فترة السادات ونائبه حسني مبارك، وأن بدوي ربما كان يفكر في الانقلاب العسكري وهو الأمر الذي اكتشفه السادات فتخلص منه[9]. وكانت قضية تسلح الجيش من أهم نقاط الخلاف، إذ كان يتربح منها السادات ورجاله، ولم تكن تخدم الجيش المصري.

4. يُعد اغتيال السادات من أهم عمليات التمرد داخل الجيش المصري، إذ قام بالاغتيال مجموعة من ضباط الجيش، اعتراضاً على اتفاقية كامب ديفيد وعلى حملات القمع التي شنها السادات على الإسلامين والمعارضين بشكل عام، ولكن المشكلة أنهم لم يكونوا يملكون تصوراً عن كيفية السيطرة على الأوضاع بعد اغتيال السادات لقلة عددهم، وركزوا فقط على التخلص من رأس النظام.

إن من نفذوا عملية مقتل الرئيس السادات هم مجموعة من الضباط كانوا يراقبون ما يحدث على الساحة السياسية، وهم خالد الإسلامبولي وهو المنفذ الرئيسي للعملية وقد كان ضابطاً بالجيش المصري "أُعدم"، وعبود الزمر الذي كان أيضاً ضابطاً بالمخابرات وشارك في تنفيذ وتخطيط العملية، وحسين عباس "أعدم" الذي كان رقيباً متطوعاً بالقوات المسلحة بالدفاع الشعبي، وهو قناص بارع لذلك كان أول من أطلق الرصاص على الرئيس السادات.[10] كذلك أيضاً عطا طايل حميدة رميح "أعدم" وهو كان ملازم أول مهندس احتياط وهو من ألقى قنبلة اليد على المنصة.[11]

ما بعد ثورة يناير

1. يرى البعض أن نية الانقلاب العسكري بدأت من أول لحظة 25 يناير، وربما قبلها أيضاً، بهدف العودة إلى السيطرة على الأمور بعد تهميش مبارك للجيش في السنوات الأخيرة من حكمه ونيته توريث الحكم لابنه الذي لا ينتمي للعسكر، وأن هذا هو سر تعاملها الإيجابي مع ثورة يناير. وبعد انقلاب 2013، سعى السيسي للسيطرة على الأوضاع داخل الجيش المصري ليتحول من الحكم العسكري إلى حكم الفرد الواحد، وتمثل ذلك بخطوات عديدة من أهمها: إخراج 36 قائد عسكري من المجلس العسكري، ويطلق البعض على هذه الخطوة بأنها "انقلاب داخل الانقلاب" بمعنى أنها انقلاب السيسي على المجلس العسكري.

2. دفعت الجرائم وسلسلة المذابح والتصفيات الجسدية التي نفذها العسكر ما بعد الانقلاب العسكري، والتي أدت إلى مقتل الآلاف وإصابة عشرات الآلاف واعتقال مئات الآلاف، فضلاً عن تردي الأحوال الاقتصادية، دفع كل هذا إلى ظهور مجموعات داخل الجيش المصري حاولت تنفيذ تغيير بالقوة.

وكان أبرز تلك المحاولات في تاريخ 16/6/2015 إذ اعتُقل 26 ضابطاً مصرياً برتب مختلفة، منهم ضابطان برتبة عميد، وأربعة ضباط برتبة عقيد، وثلاثة ضباط برتبة مقدم، وسبعة عشر ضابطاً برتبة رائد، وضابطان برتبة نقيب، ووُجهت لهم تهم ارتكاب جريمة محاولتهم بالقوة قلب وتغيير دستور البلاد، واحتلال بعض المباني العامة ومرافق ومؤسسات الدولة ومنها: مقر وزارة الدفاع وإدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدينة الإنتاج الإعلامي، ووزارة الداخلية وقطاع الأمن الوطني. والاتفاق على عدم طاعة رئيس الجمهورية ومناهضة السياسة العامة التي تتبعها الدولة في المجال الداخلي والخارجي.

واتُّهم الرائد مصطفى محمد مصطفى، بصفته موظفاً عاماً بأنه أفشى سرًا من أسرار الدولة، وفي 16/8/2015 أصدرت المحكمة العسكرية مصرية حكمها في القضية وتراوحت الأحكام بين 25 عاماً و15 عاماً و10 أعوام. كما حُكم غيابياً على الدكتور حلمي الجزار، القيادي بحزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ومحمد عبد الرحمن، عضو مكتب الإرشاد في الجماعة، بالسجن 25 عاما.[12]

3. من جهة أخرى فإن بعض العسكريين هاجروا إلى الجماعات المسلحة، حيث اقتنعوا بأن العمل الجهادي هو الوسيلة المناسبة للتغيير، وهي ظاهرة متكررة في العقود الماضية، ومن أبرز هؤلاء الضباط: هشام على عشماوي مسعد، وضابط الشرطة عماد عبد الحميد، والضابط وليد بدر.

ختاماً:

في مختلف مراحل تاريخ الحكم العسكري ظلت ثمة مجموعات داخل الجيش المصري تحاول تصحيح المسار لإعادة الجيش إلى الدور المنوط به، ولهذا يتوقع البعض أن ثمة من يراقب ويشاهد من العسكريين ما يحدث الآن من تغيير للعقيدة المصرية الوطنية وتعزيز التقارب مع العدو الإسرائيلي والتنازل عن أجزاء من أراضي البلد، والتدهور العام في سائر المجالات، والتنكيل الذي يشمل الجميع مدنيين وعسكريين.

ويري آخرون أن سياسة السيسي سنزيد من الشرائح التي ترغب في تغيير الوضع القائم داخل الجيش المصري، وفي مستويات مختلفة داخل هيكل الجيش المصري، ومن المرجح أنهم لن يلجأوا إلى المحاولات القانونية والسياسية التي قد أثبتت فشلها وكتبت شهادة وفاتها، ولكنهم سيسلكون طرقاً أكثر خشونة لمواجهة ذلك النظام الذي نكل وما زال ينكل بكل من يطالب بالتغيير، وخاصة بعد أن أعلن رأس هذا النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] كتاب محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة .. د/رفعت يونان ص 23، رابط (الروابط تجدها في المجلة المنشورة).
[2] كتاب "كنت رئيساً لمصر" ص 92، الرابط
[3] محمد رشاد مهنا.. أول من فرمتهم يوليو من قياداتها، مدونات الجزيرة، تاريخ النشر 25 أبريل 2018م، تاريخ النشر 27 ديسمبر 2018م، الرابط
[4] ضابط الأحرار الذي انقلب علي عبد الناصر، لقاء متلفز، الرابط
[5] وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة يونية 1967- مايو 1971 ، الرابط
[6] حصرياً: الفريق أول محمد فوزي شاهد على العصر في مقابلة مع عماد أديب 1995، "الحلقة الثامنة والأخيرة"، الرابط
[7] تنظيم “شباب محمد” أو “الفنية العسكرية”، بوابة الشروق، تاريخ النشر 25 سبتمبر 2018م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط
[8] تنظيم الفنية العسكرية، بوابة الحركات الإسلامية تاريخ النشر 06 فبراير 2014م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط
[9] [9] أسرار استشهاد المشير أحمد بدوي ولا يزال الغموض مستمر، أرشيف مصر، تاريخ النشر 23 أبريل 2017م، تاريخ الدخول 27 ديسمبر 2018م، الرابط
[10] اغتيال السادات: القصة الكاملة لاغتيال الرئيس المصري، الرابط
[11] مجند مصري يروي تفاصيل اعدام قتلة السادات.. سألتهم قبل إعدامهم: هل تدخنون السجائر "صور و فيديو "، الرابط
[12] محكمة عسكرية تحبس 26 ضابطاً وقياديين بالإخوان بتهمة الانقلاب، العربي الجديد، تاريخ النشر 16 أغسطس 2015م، تاريخ الدخول 28 ديسمبر 2018م، الرابط
‏١٠‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٧:١٣ م‏
الجزائر.. إلى أين (02) الصغير منير (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) التجربة (الديموقراطيّة) في الجزائر مشوّهة وبائسة ورديئة جدّا حتى بالمعايير الديموقراطيّة نفسها. فهي تجربة نشأت في ظروف غير سويّة ولا طبيعيّة، وكانت منذ البداية شيئاً أشبه بالخدعة والفخّ الذي نصبتْه السلطة لتقوم من خلاله باحتواء واختراق وتوظيف كلّ من أعلن عن نفسه معارضاً سواء كان شخصيّة عامّة أو حزباً أو نقابة أو غيرها. لم يعرف الجزائريّون شيئاً عن الديموقراطيّة قبل أحداث 05 أكتوبر 1988، وما كانوا يقرؤون هذا المصطلح إلا في الاسم الرسميّ للدولة: (الجمهوريّة الجزائريّة الديموقراطيّة الشعبيّة). ولقد ولدت هذه الديموقراطيّة ولادة قيصريّة صاحبها مئات من القتلى والجرحى وجاءت الاستجابة لمطالب المتظاهرين سريعة على غير تفكير سابق ولا تخطيط ولا مشاورات سياسيّة فلم يكن في الساحة أصلاً من يُتشاوَر معه. كانت أحداث أكتوبر 1988 محطّة فارقة في تاريخ الجزائر المستقلّة، وأصبحت الجزائر بعده كما لم تكن قبله، وهناك مقاربة تاريخيّة لها ما يسندها من القرائن أن هذه الأحداث كانت مفتعلة من طرف جناح معيّن في السلطة لم يكن أمامه من طريق لتمرير مشروعه إلا بتدبير هذه المظاهرات وما صحبها من عنف وتخريب ومن مطالب سياسيّة واجتماعيّة كانت قبل الأحداث جريمة يعاقب عليها القانون. لا أميل شخصياً إلى هذه المقاربة التي تصوّر ما حدث عام 1988 مؤامرة وقع ضحيّتها مئات الآلاف ممن شاركوا في المظاهرات والمسيرات، ولكنني أعتبر أن الاحتقان والسخط الشعبي والانسداد السياسيّ كان قد بلغ أوجه، وأن انفجار الوضع كان متوقّعاً بقوة ومرتقباً من طرف دوائر الرّصد داخل أجنحة النظام، ومن بين هذه الأجنحة كان أحدها أكثر استعداداً وتأهّباً لتوجيهها بما يخدم مصلحته ويحقق أهدافه، فتصرّف بما يتيحه له موقعه وعلاقاته وموارده وتموقعه في مراكز التأثير وصناعة القرار. لم تمرّ هذه الأحداث خلال عشرة أيّام كانت عنيفة جدّا كما كان يشتهي النّظام، فقد وقع فيها من التجاوزات وصاحبها من المطالب الشعبيّة وحدث فيها وبعدها ما لم يكن في الحسبان، وكانت السلطات السياسيّة والأمنيّة تتعامل مع المستجدّات بشكل شبه يوميّ ومستعجل وكان في قراراتها كثير من الأخطاء والمزالق والثغرات تسرّبت من خلالها أفكار ومشاريع ومبادرات ما كان للنظام أن يسمح بها لو كانت خيوط اللعبة كلّها في يديه. بعد انجلاء أحداث أكتوبر 1988 عُدِّل الدستور وفتح المجال السياسيّ وتأسّست عشرات الأحزاب السياسيّة، إلّا أن المفاجأة كانت هي تأسيس حزب إسلاميّ جديد لا علاقة له بالحركات والجماعات الدعويّة المعروفة في الساحة قبل الأحداث، هو (الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ)، فقد كان الحزب الوحيد الذي رفع مطلب تحكيم الشريعة وإقامة دولة إسلاميّة، بينما آثرت الجماعات والحركات الإسلاميّة البقاء بعيداً عن المعترك السياسيّ، أما عشرات الأحزاب الأخرى فكانت موزّعة بين التيّار اليساريّ بكلّ أطيافه والليبراليّ الديموقراطيّ بكلّ توجّهاته والوطني بكلّ تشكّلاته، التي كان أكبرها وأقدمها وأكثرها انتشاراً حزب جبهة التحرير الوطنيّ. لم تكن كلّ تلك الأحزاب لتزعج النّظام أو تحرجه أو تمثّل له أيّ تهديد ما عدا الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، فقد كانت كلّها تتقاطع مع النّظام ككتلة متماسكة أو مع أحد أجنحتها في كثير من المبادئ والمشتركات الفكريّة الأيديولوجيّة أو السياسيّة والاجتماعيّة، وكانت كلّها تقبل أن تتنازل أو تتحالف أو ترضى ببعض المواقع والمناصب والمكاسب، وكانت كلّها –ولو بتفاوت– تنطلق من أرضيّة الاعتراف بشرعيّة النّظام والقبول بإمكانيّة استمراريته وبقائه. ولم تكن جبهة الإنقاذ تمثّل تحدّياً وتهديداً وإزعاجاً للنّظام وحده في الحقيقة وإنّما للأحزاب كلّها، ولعلّ هذا ما يفسّر أن مواقف الأحزاب من الجبهة واختياراتها السياسيّة ومواقفها والانتقادات التي كانت توجّهها إليها لم تكن تختلف أبداً عن مواقف النّظام، بل كانت في أحيان كثيرة داعمة ومساندة له ومبرّرة او مؤوّلة لكلّ تجاوزاته السياسيّة والإدارية والقانونيّة بعد ذلك، ولعلّه هو ما يفسّر بوضوح اصطفاف أكثر هذه الأحزاب مع الانقلابيّين في 1992 وتحالفهم معهم وانخراطهم في عمليّة حشد وتجييش وتلبيس وتدليس لم يعرف تاريخ الجزائر المعاصر لها مثيلاً في بشاعتها وخسّتها ونذالتها، وحتى تلك الأحزاب التي لم تتحالف مع الانقلابيين ولم تؤيّدهم كان موقفها السياسيّ ضعيفاً لم يتجاوز التنديد والشجب والاستنكار وآثر أكثرها الصمت والمحافظة على مسافة مقبولة من النّظام الجديد الذي تأسّس بعد الانقلاب والمحاولة ألّا تخرج خالية الوفاض من المكاسب والمناصب، التي كان الانقلابيّون يوزّعونها بسخاء على جميع من رأوا في موقفه قرباً أو تأييداً أو صمتاً يخدمهم. كانت هذه الإحالة التاريخيّة ضروريّة لنفهم الرداءة والبؤس الذي وصل إليه الشأن السياسيّ في الجزائر، فكلّ تفاصيل اللحظة الرّاهنة هي نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لما حدث بين 1988 و 1992 ثمّ لما حدث بعد الانقلاب. النّظام السياسيّ في الجزائر ورّط كلّ الأحزاب السياسيّة، واستخدم معها كلّ الأساليب الخسيسة، من اختراق وإغراء بالمال والمناصب وإشراك في البرلمان وفي المجالس البلديّة والولائيّة، ومن رعاية لعمليات الانشقاق والانقسام بداخلها، ومن استمالة واحتواء الرموز والقيادات، ومن تشويه وإسقاط لبعضها، ومن إغراق لبعضها في دوّامة من القضايا الإداريّة والقانونيّة، ومن محاصرة وتهميش، و النّظام يمتلك من الموارد المادّية والبشريّة ومن المؤسسات ما يستطيع به فعل ذلك وأكثر منه، والأحزاب نفسها كانت سهلة المنال ولم يجد النّظام صعوبة كبرى في تحقيق مآربه منها وأن يهشّ بعصاه عليها فإذا هي طيّعة منقادة. إنّ من ينتظر من طبقة سياسيّة بهذه الرداءة والهشاشة والضعف أن تنقذ الجزائر، أو تقدّم مشروعاً سياسيّاً أصيلاً أو تقف من النّظام موقفا تاريخيّاً مشرّفاً، كمكلّف الأيّام ضد طباعها أو كملتمس في الماء جذوة نار. واحدة من أكبر نقاط ضعف هذه الأحزاب هي أنّها لا تمتلك أيّ رؤية سياسيّة تستند إلى عقيدة سياسيّة واضحة تحكم أداءها مسطرة ثوابت صلبة. فما كان ممنوعاً عندها اليوم يصبح مباحاً غداً، والعدوّ يتحوّل إلى صديق والمحتلّ إلى حليف ويقاطعون الانتخابات ثم يدخلونها، ويخرجون من الحكومة ثمّ يشاركون فيها وينتقدون السلطة ثم يمتدحونها، كلّ ذلك دون أيّ مرجعيّة فكريّة وسياسيّة ثابتة ودون أيّ التزام أخلاقيّ يليق بمن يرشّح نفسه للقيادة والإصلاح، ودون أن يتغيّر أيّ شيء في سلوك النّظام أو استراتيجيّته أو علاقته بالشعب، ودون أن تحدث أي تغيّرات في السياقات العامّة والظروف والملابسات التي تتحرّك في نطاقها هذه الأحزاب. لقد أصبح سلوك الأحزاب إسلاميّها ووطنيّها وليبراليّها أشبه بالنزوات السياسيّة التي لا تضبطها سوى غريزة حبّ البقاء واقتسام الغنيمة وشهوة الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن؛ بل أحياناً مجرّد الرغبة في مغنم رخيص تافه كمقعد أو مقعدين في برلمان هزيل يفتقد للشرعيّة. افتقاد هذه الأحزاب للرؤية والثوابت المرجعيّة الكبرى كان سبباً في أنّها فقدت قدرتها على التأثير في الشعب وحشده لمواجهة الاستبداد والفساد، فلم تعد قادرة سوى على تجميع مناضليها في قاعات مغلقة أكبرها يتّسع لبضعة آلاف يبقى ثلثها فارغاً، ولم تعد تستطيع أن تخرج الجماهير لتحتجّ وتتظاهر أو تعتصم رفضاً لقرار حكوميّ أو قرار سياسيّ داخليّ أو خارجيّ، أو نصرة لقضيّة عادلة من قضايا الأمّة وما أكثرها. هذا العجز المتراكم عبر قرابة ثلاثة عقود من الزّمن رسّخ لدى الأحزاب السياسيّة كلّها قناعة مفادها أنّ أيّ تغيير لا يكون النظام طرفاً فيه ومشاركاً في صياغته وموافقاً عليه، فإنّما هو عبث ومضيعة للوقت. فإذا تذكّرنا غموض تشكيلة النّظام وتعمّده أن يبقى شبحاً بلا اسم بحيث يتحدّث الجميع عن (النّظام) بينما لا يستطيعون تسمية أيّ شخص باسمه باعتباره هو النّظام أو من يمثّله على الأقلّ، وأصبح واضحاً أنّه يوجد أكثر من نظام داخل النّظام وأنّ كل الفاعلين والمؤثّرين الحقيقيين داخل كلّ أنظمة النظام يفضّلون وعن عمد وقصد أن يبقوا بعيداً عن الأضواء ولا يعرفهم ولا يذكرهم أحد بأسمائهم وهو ما يجعلني استخدم كثيراً وصف: (منظومة الحكم) بدلاً من (نظام الحكم). هذا الغموض وهذه الحالة الشبحيّة (للنظام/ المنظومة) كانت وما زالت تبعث مزيداً من الرهبة والخوف منه. والأحزاب كلّها في الحقيقة لا تعرف أصلاً هذا النظام الذي تريد أن تجعله شريكاً في الحلّ وطرفاً في صياغته وأحياناً ضامناً له، أو بعضها يعرفه جيّداً ولكنّه مستفيد من بقاء الأمور في حالة من الغموض، وقد يكون طرفاً فيه بشكل من الأشكال. من الواضح أنّني هنا أتحدّث عن الأحزاب جميعاً، ولكنْ وجب التركيز على (الأحزاب الإسلاميّة)، وتسليط الضوء عليها لأنّنا نشترك معها في الثوابت والمحكمات والقطعيات، أو على الأقلّ ذلك ما ينبغي أن يكون، مع أنّه لم يعُدْ هناك حزب في الجزائر يصنّف نفسه إسلاميّاً تحت ضغط المانع القانونيّ الذي يمنع تأسيس أحزاب على أساس دينيّ أو عرقيّ، وتحت ضغط الحملة العالميّة سياسيّاً وإعلاميّاً على الكيانات التي تعرّف نفسها من خلال علاقتها بالإسلام كمرجعيّة سياسيّة حاكمة. لقد زكّت هذه الأحزاب الانقلاب على الإرادة الشعبيّة عام 1992، بصرف النّظر عن التبريرات والتأصيلات والتأويلات التي صاحبت هذه التزكية والعبارات المنمّقة التي صيغت بها. ولقد شاركت هذه الأحزاب في مؤسسات نظام ما بعد الانقلاب وعلى رأسها: المجلس الانتقالي الذي أراده الانقلابيّون بديلاً عن البرلمان المنتخب ومؤسسة تضفي الشرعيّة عليهم وتبيّض جرائمهم. ولقد شاركت هذه الأحزاب في كل المحطّات السياسيّة التي صمّمها وأخرجها الانقلابيّون، وفي مقدّمتها المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة والمحلّية. ولقد تعاملت هذه الأحزاب مع النّظام في كلّ تشكّلاته بالمنطق والتأصيل نفسه الذي تعاملت به (السلفيّة الإرجائيّة) مع الأنظمة السياسيّة، مع فارق بسيط وهو أنّ كثافة التأصيل والتبرير العقديّ والفقهي كانت أخفّ بكثير عند الأحزاب بحكم اشتغالها بالسياسة والشأن العامّ بخلاف السلفيّة الإرجائيّة التي كان مجال اشتغالها وتخصصها هو التعليم والفتوى. لقد كانت وما زالت هذه الأحزاب تستمدّ شرعيتها من (الاعتماد القانونيّ) الذي تمنحه وزارة الداخليّة، وتستفيد من الأموال التي توزّعها الحكومات عليها في المحطّات الانتخابيّة، ويظهر قادتها ورموزها على وسائل الإعلام التي صُنعت كلّها ودون استثناء على أعين المخابرات في خطّها التحريريّ وفي طاقمها المسيّر سواءً، وتقبل بالدستور الذي فصّله النّظام على مقاسه وغيّره وعدّله أكثر من مرّة وتجعله في كلّ نزاع شكليّ معه هو المرجع والحَكَم. ولقد أصبح لهذه الأحزاب في ظلّ هذه التوازنات السلطويّة والتنازلات السياسية والتفكير الخطّي البراغماتيّ في أسوأ مظاهره سفراءُ ووزراء ومديرون تنفيذيّون في الوزارات ورؤساء بلديات ومنتخبون في البرلمان و مجلس الأمّة. وليس ذلك في الحقيقة هو ما تُنتقَد عليه هذه الأحزاب لو أنّ كلّ هذه الجهود والتنازلات والتوافقات والأوقات المهدرة والأمانيّ التي شغلوا بها الشعب الجزائريّ لأكثر من عقدين من الزمن أثمرت تقدّماً في ميدان كان منذ الجلاء العسكريّ الفرنسيّ حكراً على المستبدّين والفاسدين والخونة والعملاء، ولو أنّها أثمرت اختراقاً لهذا الواقع قرّب الصالحين المصلحين في الجزائر من مواقع السلطة والقرار والتأثير، ولو أنّها قلّلت من مستويات العمالة والخيانة والوظيفيّة في دوائر السلطة، ولو أنّها حفظت على الشعب تماسكه ووحدته وهويّته وأخلاقه وقيمه. لم يتحقّق من ذلك شيء للأسف، ولن يتحقّق في المدى المنظور ما دامت هذه الأحزاب متمسّكة بنفس المنهج والأساليب التقليديّة، وتنطلق من ذات المنطلقات التي كانت سبباً في تحوّلها إلى (أحزاب وظيفيّة) في ظلّ (نظام وظيفيّ). ولقد أصبح ظاهراً وجليّاً في الجزائر في السنتين الأخيرتين عجز هذه الأحزاب كلّها عن تقديم أيّ بديل أو تشكيل أيّ ضغط أو القدرة على الحشد فضلاً عن مغالبة النّظام ومزاحمته على الأرض أو اقتراح حلول ومسالك تغيير خارج الصندوق، كيف وهي وليدة هذا الصندوق نفسه وصنيعة من يمتلك مفاتيحه وشفرته؟! ولقد جاء في مراسلة داخليّة لحزب حركة مجتمع السلم (حمس) الصادر يوم 05/01/2019 أن : (المعارضة غير قادرة على مواجهة النّظام السياسيّ رغم ضعفه، وغير مستعدّة لتحريك الشارع أو تقديم بدائل أخرى). هذا والنّظام في أضعف حالاته وأسوأ مراحله، فكيف لو تغيّرت الظروف والمعطيات واستعاد زمام المبادرة وامتلك أسباب القوّة من جديد وأعاد ترميم نفسه وإعادة تشكيل نواته الصلبة وبناء منظومته؟! إذا عدنا إلى ظاهرة عزوف الشعب والنّخب عن المشاركة في الشأن العامّ والسياسيّ منه خاصّة إذ هو المقصود أصالة، واستصحبنا قاعدة أنّ الواقع لا يقبل الفراغ وسيملؤه الجسم الحاضر المتحيّز، فإنّ كلّ ما سوف يحدث في الشأن السياسيّ لن يعدو تكرار واستنساخ النماذج السابقة وتدوير الأوجه القديمة وطرح أفكار ومشاريع من داخل المنظومة نفسها، لأنّ الشخصيات والأحزاب تتلقّى نفس المدخلات والمؤثرات ولها نفس العلاقات ونشأت في نفس الظروف والسياقات وعاشت تجارب متشابهة أو متطابقة، ولأنّها جميعاً تفتقد الخيال السياسيّ والجرأة والحزم والقدرة على المبادرة والمباغتة وإنعاش الواقع المتردّي بأطروحات مبتكرة تحرّك الساكن، وتحيي قدراً من الأمل لدى الشعب الجزائريّ وتنجح في استقطابه إليها وحشده وإلهامه وقيادته. وليس هذا التشخيص في الحقيقة مقتصراً على الحالة الجزائريّة، وإنما يصحّ تعميمه على العالم العربيّ كله مع احتفاظ كل شعب وبلد بخصوصياته التي لن تؤثّر في اشتراكه مع غيره في الملامح الكبرى لهذه الأزمة. وهو أمر مفهوم جدّا يفسّره أن شعوب هذه الأمة تمتلك من المشتركات والقواسم الكبرى في الدين واللغة والرصيد الحضاري والنّضال السياسيّ والماضي التاريخيّ ما يجعل تقسيمها إلى وحدات تمتلك كلُّ منها خصائص مختلفة وجذريّة تعسّفاً ينافي الحقائق على الأرض، كما أن النظام السياسيّ العربيّ كلّه متشابه في نشأته وخصائصه وعلاقاته بمنظومة الهيمنة العالميّة من جهة وفي أساليب وأشكال إدارته للدولة وعلاقته مع الشعوب من جهة أخرى. الخلاصة: أنّه لا أمل يُرجى من كلّ ما تطرحه الأحزاب السياسيّة في الجزائر، تستوي في ذلك الأحزاب الإسلاميّة مع غيرها. ولعلّ ممّا يبعث الأمل بعد قطع الأمل في الأحزاب، أنّ الكيانات السياسيّة في الجزائر لا تمثّل عمقاً شعبيّاً حقيقيّاً، ولا فكرة أو رسالة تستحقّ النظر فيها ويحزن الجزائريّ إذا انتكست أو هُزِمت، وأنّ ألوفاً مؤلّفة من الجزائريّين لا علاقة لهم بهذه الأحزاب ولا بما تروّج له وتدعو إليه وتناضل في سبيله، وفيهم من الطاقات والكفاءات ما يمكنه تغيير المعادلة وقلب قواعد اللعبة. فما الذي يحول بينهم وبين ذلك إذن؟ سيكون الجواب غير مكتمل قبل أن ننهي تشخيص الحالة الجزائريّة من جميع جوانبها. فما زال للحديث بقيّة.
الجزائر.. إلى أين (02)
الصغير منير

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

التجربة (الديموقراطيّة) في الجزائر مشوّهة وبائسة ورديئة جدّا حتى بالمعايير الديموقراطيّة نفسها. فهي تجربة نشأت في ظروف غير سويّة ولا طبيعيّة، وكانت منذ البداية شيئاً أشبه بالخدعة والفخّ الذي نصبتْه السلطة لتقوم من خلاله باحتواء واختراق وتوظيف كلّ من أعلن عن نفسه معارضاً سواء كان شخصيّة عامّة أو حزباً أو نقابة أو غيرها.
لم يعرف الجزائريّون شيئاً عن الديموقراطيّة قبل أحداث 05 أكتوبر 1988، وما كانوا يقرؤون هذا المصطلح إلا في الاسم الرسميّ للدولة: (الجمهوريّة الجزائريّة الديموقراطيّة الشعبيّة). ولقد ولدت هذه الديموقراطيّة ولادة قيصريّة صاحبها مئات من القتلى والجرحى وجاءت الاستجابة لمطالب المتظاهرين سريعة على غير تفكير سابق ولا تخطيط ولا مشاورات سياسيّة فلم يكن في الساحة أصلاً من يُتشاوَر معه.
كانت أحداث أكتوبر 1988 محطّة فارقة في تاريخ الجزائر المستقلّة، وأصبحت الجزائر بعده كما لم تكن قبله، وهناك مقاربة تاريخيّة لها ما يسندها من القرائن أن هذه الأحداث كانت مفتعلة من طرف جناح معيّن في السلطة لم يكن أمامه من طريق لتمرير مشروعه إلا بتدبير هذه المظاهرات وما صحبها من عنف وتخريب ومن مطالب سياسيّة واجتماعيّة كانت قبل الأحداث جريمة يعاقب عليها القانون.
لا أميل شخصياً إلى هذه المقاربة التي تصوّر ما حدث عام 1988 مؤامرة وقع ضحيّتها مئات الآلاف ممن شاركوا في المظاهرات والمسيرات، ولكنني أعتبر أن الاحتقان والسخط الشعبي والانسداد السياسيّ كان قد بلغ أوجه، وأن انفجار الوضع كان متوقّعاً بقوة ومرتقباً من طرف دوائر الرّصد داخل أجنحة النظام، ومن بين هذه الأجنحة كان أحدها أكثر استعداداً وتأهّباً لتوجيهها بما يخدم مصلحته ويحقق أهدافه، فتصرّف بما يتيحه له موقعه وعلاقاته وموارده وتموقعه في مراكز التأثير وصناعة القرار.
لم تمرّ هذه الأحداث خلال عشرة أيّام كانت عنيفة جدّا كما كان يشتهي النّظام، فقد وقع فيها من التجاوزات وصاحبها من المطالب الشعبيّة وحدث فيها وبعدها ما لم يكن في الحسبان، وكانت السلطات السياسيّة والأمنيّة تتعامل مع المستجدّات بشكل شبه يوميّ ومستعجل وكان في قراراتها كثير من الأخطاء والمزالق والثغرات تسرّبت من خلالها أفكار ومشاريع ومبادرات ما كان للنظام أن يسمح بها لو كانت خيوط اللعبة كلّها في يديه.
بعد انجلاء أحداث أكتوبر 1988 عُدِّل الدستور وفتح المجال السياسيّ وتأسّست عشرات الأحزاب السياسيّة، إلّا أن المفاجأة كانت هي تأسيس حزب إسلاميّ جديد لا علاقة له بالحركات والجماعات الدعويّة المعروفة في الساحة قبل الأحداث، هو (الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ)، فقد كان الحزب الوحيد الذي رفع مطلب تحكيم الشريعة وإقامة دولة إسلاميّة، بينما آثرت الجماعات والحركات الإسلاميّة البقاء بعيداً عن المعترك السياسيّ، أما عشرات الأحزاب الأخرى فكانت موزّعة بين التيّار اليساريّ بكلّ أطيافه والليبراليّ الديموقراطيّ بكلّ توجّهاته والوطني بكلّ تشكّلاته، التي كان أكبرها وأقدمها وأكثرها انتشاراً حزب جبهة التحرير الوطنيّ.
لم تكن كلّ تلك الأحزاب لتزعج النّظام أو تحرجه أو تمثّل له أيّ تهديد ما عدا الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، فقد كانت كلّها تتقاطع مع النّظام ككتلة متماسكة أو مع أحد أجنحتها في كثير من المبادئ والمشتركات الفكريّة الأيديولوجيّة أو السياسيّة والاجتماعيّة، وكانت كلّها تقبل أن تتنازل أو تتحالف أو ترضى ببعض المواقع والمناصب والمكاسب، وكانت كلّها –ولو بتفاوت– تنطلق من أرضيّة الاعتراف بشرعيّة النّظام والقبول بإمكانيّة استمراريته وبقائه.
ولم تكن جبهة الإنقاذ تمثّل تحدّياً وتهديداً وإزعاجاً للنّظام وحده في الحقيقة وإنّما للأحزاب كلّها، ولعلّ هذا ما يفسّر أن مواقف الأحزاب من الجبهة واختياراتها السياسيّة ومواقفها والانتقادات التي كانت توجّهها إليها لم تكن تختلف أبداً عن مواقف النّظام، بل كانت في أحيان كثيرة داعمة ومساندة له ومبرّرة او مؤوّلة لكلّ تجاوزاته السياسيّة والإدارية والقانونيّة بعد ذلك، ولعلّه هو ما يفسّر بوضوح اصطفاف أكثر هذه الأحزاب مع الانقلابيّين في 1992 وتحالفهم معهم وانخراطهم في عمليّة حشد وتجييش وتلبيس وتدليس لم يعرف تاريخ الجزائر المعاصر لها مثيلاً في بشاعتها وخسّتها ونذالتها، وحتى تلك الأحزاب التي لم تتحالف مع الانقلابيين ولم تؤيّدهم كان موقفها السياسيّ ضعيفاً لم يتجاوز التنديد والشجب والاستنكار وآثر أكثرها الصمت والمحافظة على مسافة مقبولة من النّظام الجديد الذي تأسّس بعد الانقلاب والمحاولة ألّا تخرج خالية الوفاض من المكاسب والمناصب، التي كان الانقلابيّون يوزّعونها بسخاء على جميع من رأوا في موقفه قرباً أو تأييداً أو صمتاً يخدمهم.
كانت هذه الإحالة التاريخيّة ضروريّة لنفهم الرداءة والبؤس الذي وصل إليه الشأن السياسيّ في الجزائر، فكلّ تفاصيل اللحظة الرّاهنة هي نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لما حدث بين 1988 و 1992 ثمّ لما حدث بعد الانقلاب.
النّظام السياسيّ في الجزائر ورّط كلّ الأحزاب السياسيّة، واستخدم معها كلّ الأساليب الخسيسة، من اختراق وإغراء بالمال والمناصب وإشراك في البرلمان وفي المجالس البلديّة والولائيّة، ومن رعاية لعمليات الانشقاق والانقسام بداخلها، ومن استمالة واحتواء الرموز والقيادات، ومن تشويه وإسقاط لبعضها، ومن إغراق لبعضها في دوّامة من القضايا الإداريّة والقانونيّة، ومن محاصرة وتهميش، و النّظام يمتلك من الموارد المادّية والبشريّة ومن المؤسسات ما يستطيع به فعل ذلك وأكثر منه، والأحزاب نفسها كانت سهلة المنال ولم يجد النّظام صعوبة كبرى في تحقيق مآربه منها وأن يهشّ بعصاه عليها فإذا هي طيّعة منقادة.
إنّ من ينتظر من طبقة سياسيّة بهذه الرداءة والهشاشة والضعف أن تنقذ الجزائر، أو تقدّم مشروعاً سياسيّاً أصيلاً أو تقف من النّظام موقفا تاريخيّاً مشرّفاً، كمكلّف الأيّام ضد طباعها أو كملتمس في الماء جذوة نار.
واحدة من أكبر نقاط ضعف هذه الأحزاب هي أنّها لا تمتلك أيّ رؤية سياسيّة تستند إلى عقيدة سياسيّة واضحة تحكم أداءها مسطرة ثوابت صلبة. فما كان ممنوعاً عندها اليوم يصبح مباحاً غداً، والعدوّ يتحوّل إلى صديق والمحتلّ إلى حليف ويقاطعون الانتخابات ثم يدخلونها، ويخرجون من الحكومة ثمّ يشاركون فيها وينتقدون السلطة ثم يمتدحونها، كلّ ذلك دون أيّ مرجعيّة فكريّة وسياسيّة ثابتة ودون أيّ التزام أخلاقيّ يليق بمن يرشّح نفسه للقيادة والإصلاح، ودون أن يتغيّر أيّ شيء في سلوك النّظام أو استراتيجيّته أو علاقته بالشعب، ودون أن تحدث أي تغيّرات في السياقات العامّة والظروف والملابسات التي تتحرّك في نطاقها هذه الأحزاب.
لقد أصبح سلوك الأحزاب إسلاميّها ووطنيّها وليبراليّها أشبه بالنزوات السياسيّة التي لا تضبطها سوى غريزة حبّ البقاء واقتسام الغنيمة وشهوة الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن؛ بل أحياناً مجرّد الرغبة في مغنم رخيص تافه كمقعد أو مقعدين في برلمان هزيل يفتقد للشرعيّة.
افتقاد هذه الأحزاب للرؤية والثوابت المرجعيّة الكبرى كان سبباً في أنّها فقدت قدرتها على التأثير في الشعب وحشده لمواجهة الاستبداد والفساد، فلم تعد قادرة سوى على تجميع مناضليها في قاعات مغلقة أكبرها يتّسع لبضعة آلاف يبقى ثلثها فارغاً، ولم تعد تستطيع أن تخرج الجماهير لتحتجّ وتتظاهر أو تعتصم رفضاً لقرار حكوميّ أو قرار سياسيّ داخليّ أو خارجيّ، أو نصرة لقضيّة عادلة من قضايا الأمّة وما أكثرها.
هذا العجز المتراكم عبر قرابة ثلاثة عقود من الزّمن رسّخ لدى الأحزاب السياسيّة كلّها قناعة مفادها أنّ أيّ تغيير لا يكون النظام طرفاً فيه ومشاركاً في صياغته وموافقاً عليه، فإنّما هو عبث ومضيعة للوقت. فإذا تذكّرنا غموض تشكيلة النّظام وتعمّده أن يبقى شبحاً بلا اسم بحيث يتحدّث الجميع عن (النّظام) بينما لا يستطيعون تسمية أيّ شخص باسمه باعتباره هو النّظام أو من يمثّله على الأقلّ، وأصبح واضحاً أنّه يوجد أكثر من نظام داخل النّظام وأنّ كل الفاعلين والمؤثّرين الحقيقيين داخل كلّ أنظمة النظام يفضّلون وعن عمد وقصد أن يبقوا بعيداً عن الأضواء ولا يعرفهم ولا يذكرهم أحد بأسمائهم وهو ما يجعلني استخدم كثيراً وصف: (منظومة الحكم) بدلاً من (نظام الحكم).
هذا الغموض وهذه الحالة الشبحيّة (للنظام/ المنظومة) كانت وما زالت تبعث مزيداً من الرهبة والخوف منه. والأحزاب كلّها في الحقيقة لا تعرف أصلاً هذا النظام الذي تريد أن تجعله شريكاً في الحلّ وطرفاً في صياغته وأحياناً ضامناً له، أو بعضها يعرفه جيّداً ولكنّه مستفيد من بقاء الأمور في حالة من الغموض، وقد يكون طرفاً فيه بشكل من الأشكال.
من الواضح أنّني هنا أتحدّث عن الأحزاب جميعاً، ولكنْ وجب التركيز على (الأحزاب الإسلاميّة)، وتسليط الضوء عليها لأنّنا نشترك معها في الثوابت والمحكمات والقطعيات، أو على الأقلّ ذلك ما ينبغي أن يكون، مع أنّه لم يعُدْ هناك حزب في الجزائر يصنّف نفسه إسلاميّاً تحت ضغط المانع القانونيّ الذي يمنع تأسيس أحزاب على أساس دينيّ أو عرقيّ، وتحت ضغط الحملة العالميّة سياسيّاً وإعلاميّاً على الكيانات التي تعرّف نفسها من خلال علاقتها بالإسلام كمرجعيّة سياسيّة حاكمة.
لقد زكّت هذه الأحزاب الانقلاب على الإرادة الشعبيّة عام 1992، بصرف النّظر عن التبريرات والتأصيلات والتأويلات التي صاحبت هذه التزكية والعبارات المنمّقة التي صيغت بها.
ولقد شاركت هذه الأحزاب في مؤسسات نظام ما بعد الانقلاب وعلى رأسها: المجلس الانتقالي الذي أراده الانقلابيّون بديلاً عن البرلمان المنتخب ومؤسسة تضفي الشرعيّة عليهم وتبيّض جرائمهم.
ولقد شاركت هذه الأحزاب في كل المحطّات السياسيّة التي صمّمها وأخرجها الانقلابيّون، وفي مقدّمتها المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة والمحلّية.
ولقد تعاملت هذه الأحزاب مع النّظام في كلّ تشكّلاته بالمنطق والتأصيل نفسه الذي تعاملت به (السلفيّة الإرجائيّة) مع الأنظمة السياسيّة، مع فارق بسيط وهو أنّ كثافة التأصيل والتبرير العقديّ والفقهي كانت أخفّ بكثير عند الأحزاب بحكم اشتغالها بالسياسة والشأن العامّ بخلاف السلفيّة الإرجائيّة التي كان مجال اشتغالها وتخصصها هو التعليم والفتوى.
لقد كانت وما زالت هذه الأحزاب تستمدّ شرعيتها من (الاعتماد القانونيّ) الذي تمنحه وزارة الداخليّة، وتستفيد من الأموال التي توزّعها الحكومات عليها في المحطّات الانتخابيّة، ويظهر قادتها ورموزها على وسائل الإعلام التي صُنعت كلّها ودون استثناء على أعين المخابرات في خطّها التحريريّ وفي طاقمها المسيّر سواءً، وتقبل بالدستور الذي فصّله النّظام على مقاسه وغيّره وعدّله أكثر من مرّة وتجعله في كلّ نزاع شكليّ معه هو المرجع والحَكَم.
ولقد أصبح لهذه الأحزاب في ظلّ هذه التوازنات السلطويّة والتنازلات السياسية والتفكير الخطّي البراغماتيّ في أسوأ مظاهره سفراءُ ووزراء ومديرون تنفيذيّون في الوزارات ورؤساء بلديات ومنتخبون في البرلمان و مجلس الأمّة. وليس ذلك في الحقيقة هو ما تُنتقَد عليه هذه الأحزاب لو أنّ كلّ هذه الجهود والتنازلات والتوافقات والأوقات المهدرة والأمانيّ التي شغلوا بها الشعب الجزائريّ لأكثر من عقدين من الزمن أثمرت تقدّماً في ميدان كان منذ الجلاء العسكريّ الفرنسيّ حكراً على المستبدّين والفاسدين والخونة والعملاء، ولو أنّها أثمرت اختراقاً لهذا الواقع قرّب الصالحين المصلحين في الجزائر من مواقع السلطة والقرار والتأثير، ولو أنّها قلّلت من مستويات العمالة والخيانة والوظيفيّة في دوائر السلطة، ولو أنّها حفظت على الشعب تماسكه ووحدته وهويّته وأخلاقه وقيمه.
لم يتحقّق من ذلك شيء للأسف، ولن يتحقّق في المدى المنظور ما دامت هذه الأحزاب متمسّكة بنفس المنهج والأساليب التقليديّة، وتنطلق من ذات المنطلقات التي كانت سبباً في تحوّلها إلى (أحزاب وظيفيّة) في ظلّ (نظام وظيفيّ).
ولقد أصبح ظاهراً وجليّاً في الجزائر في السنتين الأخيرتين عجز هذه الأحزاب كلّها عن تقديم أيّ بديل أو تشكيل أيّ ضغط أو القدرة على الحشد فضلاً عن مغالبة النّظام ومزاحمته على الأرض أو اقتراح حلول ومسالك تغيير خارج الصندوق، كيف وهي وليدة هذا الصندوق نفسه وصنيعة من يمتلك مفاتيحه وشفرته؟! ولقد جاء في مراسلة داخليّة لحزب حركة مجتمع السلم (حمس) الصادر يوم 05/01/2019 أن :
(المعارضة غير قادرة على مواجهة النّظام السياسيّ رغم ضعفه، وغير مستعدّة لتحريك الشارع أو تقديم بدائل أخرى).
هذا والنّظام في أضعف حالاته وأسوأ مراحله، فكيف لو تغيّرت الظروف والمعطيات واستعاد زمام المبادرة وامتلك أسباب القوّة من جديد وأعاد ترميم نفسه وإعادة تشكيل نواته الصلبة وبناء منظومته؟!
إذا عدنا إلى ظاهرة عزوف الشعب والنّخب عن المشاركة في الشأن العامّ والسياسيّ منه خاصّة إذ هو المقصود أصالة، واستصحبنا قاعدة أنّ الواقع لا يقبل الفراغ وسيملؤه الجسم الحاضر المتحيّز، فإنّ كلّ ما سوف يحدث في الشأن السياسيّ لن يعدو تكرار واستنساخ النماذج السابقة وتدوير الأوجه القديمة وطرح أفكار ومشاريع من داخل المنظومة نفسها، لأنّ الشخصيات والأحزاب تتلقّى نفس المدخلات والمؤثرات ولها نفس العلاقات ونشأت في نفس الظروف والسياقات وعاشت تجارب متشابهة أو متطابقة، ولأنّها جميعاً تفتقد الخيال السياسيّ والجرأة والحزم والقدرة على المبادرة والمباغتة وإنعاش الواقع المتردّي بأطروحات مبتكرة تحرّك الساكن، وتحيي قدراً من الأمل لدى الشعب الجزائريّ وتنجح في استقطابه إليها وحشده وإلهامه وقيادته.
وليس هذا التشخيص في الحقيقة مقتصراً على الحالة الجزائريّة، وإنما يصحّ تعميمه على العالم العربيّ كله مع احتفاظ كل شعب وبلد بخصوصياته التي لن تؤثّر في اشتراكه مع غيره في الملامح الكبرى لهذه الأزمة. وهو أمر مفهوم جدّا يفسّره أن شعوب هذه الأمة تمتلك من المشتركات والقواسم الكبرى في الدين واللغة والرصيد الحضاري والنّضال السياسيّ والماضي التاريخيّ ما يجعل تقسيمها إلى وحدات تمتلك كلُّ منها خصائص مختلفة وجذريّة تعسّفاً ينافي الحقائق على الأرض، كما أن النظام السياسيّ العربيّ كلّه متشابه في نشأته وخصائصه وعلاقاته بمنظومة الهيمنة العالميّة من جهة وفي أساليب وأشكال إدارته للدولة وعلاقته مع الشعوب من جهة أخرى.
الخلاصة: أنّه لا أمل يُرجى من كلّ ما تطرحه الأحزاب السياسيّة في الجزائر، تستوي في ذلك الأحزاب الإسلاميّة مع غيرها.
ولعلّ ممّا يبعث الأمل بعد قطع الأمل في الأحزاب، أنّ الكيانات السياسيّة في الجزائر لا تمثّل عمقاً شعبيّاً حقيقيّاً، ولا فكرة أو رسالة تستحقّ النظر فيها ويحزن الجزائريّ إذا انتكست أو هُزِمت، وأنّ ألوفاً مؤلّفة من الجزائريّين لا علاقة لهم بهذه الأحزاب ولا بما تروّج له وتدعو إليه وتناضل في سبيله، وفيهم من الطاقات والكفاءات ما يمكنه تغيير المعادلة وقلب قواعد اللعبة.
فما الذي يحول بينهم وبين ذلك إذن؟
سيكون الجواب غير مكتمل قبل أن ننهي تشخيص الحالة الجزائريّة من جميع جوانبها.
فما زال للحديث بقيّة.
‏٠٧‏/٠٢‏/٢٠١٩ ١٠:٢٦ م‏
افتتاحية العدد.. الإلحاد والجهاد، هل يستويان وهل يتقابلان؟ @[520036614:2048:محمد إلهامي] (حمل العدد الجديد: bit.ly/2S44ABi حمل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB) بثت قناة الجزيرة فيلما وثائقيا بعنوان "في سبع سنين"، يروي الفيلم قصة تغير المسارات لدى الشباب واختار أن يتحدث عن تطرفين متقابلين، فكان نصف الفيلم حديثا عن شباب من الإسلاميين تحولوا إلى الإلحاد، ونصفه الآخر شباب لم يكن متدينا بالأصل وهو الآن يقاتل في سوريا. ويمكن أن نعدّ هذا الفيلم مدخلا مناسبا للحديث عن بعض أمور: 1. تنطلق فكرة الفيلم من أن الذهاب إلى الإلحاد كالذهاب إلى الجهاد، كلاهما رد فعل متطرف على الأزمات التي عاشها الشباب، والواقع أن هذا التصور نفسه بحاجة إلى نقد ونقض أساسي، وهو تصور ينطلق أساسا من رؤية تعودت وتآلفت وتصالحت مع مشهد الدين المقهور تحت الدولة العلمانية، ومن ثَمَّ فهو يستنكر ويستبشع الخروج من الدين إلى الإلحاد بنفس القدر الذي يستنكر به ويستبشع الخروج عن الدولة إلى الجهاد. وإذا شئنا الحق فإن الخروج عن دين لا يجيب عن الأسئلة الجوهرية أو الخروج عن الدولة التي لا تقوم بوظائفها الأساسية هو رد الفعل الطبيعي الفطري التلقائي المتوقع، بينما المُستغرب حقا هو الولاء لدين مهما بدا أنه لا يحقق الاطمئنان الفكري والإيماني أو الولاء لدولة تعمل بنقيض وظائفها. إنما الذي ينبغي أن يُستغرب كيف يستطيع أحدٌ بعد هذه الزلازل أن يعتنق ذات الموقف الذي يجمع بين دين ودولة كلاهما فارغ من مضمونه! 2. لم يكن الذين قدَّم الفيلم قصصهم على أنهم جهاديون متطرفون من "تنظيم الدولة" (داعش)، فغاية ما يمكن أن يكونوا هو أنهم من هيئة تحرير الشام التابعة للقاعدة والتي انفصلت عنها مؤخرا سعيا لبناء توافق داخلي فصائلي سوري، يدل على ذلك عدد من الشواهد ليس هذا محل التفصيل فيها. وإنما كانت هذه الإشارة مهمة لكي نقول بأن الذين ظهروا في هذا الفيلم لا يمثلون "داعش" التكفيرية، وإنما يمثلون الحالة الجهادية التي هي في سوريا حالة ثورية بالأساس آلت إلى حالة جهادية. وهذا أمر مهم في التأسيس للحوار حول "التطرف" الذي سوَّقه الفيلم. والذهاب للجهاد في سوريا ضد نظام بشار الأسد هو في الأصل –ومهما خالطه من أخطاء عملية وتفصيلية- عملٌ ثوري نبيل في ميزان الشرائع الأرضية وتاريخ حركات المقاومة، والمناضلون اليسار –وأشهرهم: جيفارا- هم النموذج غير الإسلامي لما يسمى "الجهاد العالمي"، لكن الأدبيات اليسارية تسميه "الثورة العالمية"، فضلا عن كونه واجبا دينيا إسلاميا بفتوى كثير من العلماء المعاصرين يوم أن كانوا يملكون النطق والفتوى كما فعلوا في زمن مرسي فك الله أسره. فلو أن الفيلم كان صادقا في رصد حالة التطرف والتكفير لكان عليه أن يلتقي بداعشي ليتحدث عن تطور فكره إلى التكفير واستحلال الدماء. 3. كان متدينا ثم ألحد.. لم يكن متدينا ثم ذهب للجهاد لو حاولنا تحليل هذه الثنائية التي يمكن أن تكون خلاصة الفيلم الوثائقي، فيجب أن يلفت انتباهنا أن الإلحاد هو موقف من الإله ومن الكون ومن الناس عموما.. بينما الجهاد موقف من الدولة ومن النظام! فالإلحاد هو خروج من المعركة بينما الجهاد هو دخول فيها. الإلحاد هو نفض اليد من كل التكاليف بينما الجهاد هو تحمل أشق وأشد أنواع التكاليف.. فمن منهما أصلب عودا وأقوى نفسا وأعظم هما وأعلى همة؟! لا يستوي من استثقل تكاليف المعركة فنفض يده منها، ومن لم يكن يعلم بها فلما رآها عزم على خوضها مهما كانت التكاليف! ولو تأملتَ لرأيت الذين ذهبوا للجهاد يُغَطّون وجوههم ويحرصون ألا يُعرفوا، بينما الذين ألحدوا يتحدثون ويعيشون مكشوفي الوجوه ببساطة، وما ذلك إلا لأن الأولين يخوضون المعركة ضد الواقع الظالم وأنظمته الجبارة، بينما الآخرون لا يمثلون خطرا على أنظمة الظلم والقهر.. هذا بنفسه دليل فارق في أنهما لا يستويان ولا يتقابلان، ويجب ألا يُقدَّما باعتبارهما وجهان للتطرف! 4. في ثنايا هذه الثنائية معنى مهم، وهو أن الدين المغشوش الذي تشربه بعض الناس أسوأ من بقائهم بغير تدين.. الجهل خير من الأفكار المسمومة كالجوع خير من الطعام المسموم، وفي حالتنا هذه فالمسألة ليست جهلا بقدر ما هي البقاء على الفطرة. إن تحرك الإنسان نحو الجهاد والمقاومة والثورة حين يرى المظالم والمذابح هو رد الفعل الإنساني الطبيعي، وأعرف بعض الأصدقاء ألحد أو كاد يلحد حتى سمع عما في الإسلام من مقاومة للظلم ورفض له وجهاد ضده فدُهِش لأن الإسلام فيه هذه الأمور، فوافق هذا فطرته فكان من بعد ذلك متدينا صبورا متحملا لتكاليف المقاومة ومضحيا في سبيل هذا الدين. وقد عبَّر بعض الذين ظهروا في الفيلم عن هذا المعنى ببساطة: "لا يمكن أن يكون هذا الخنوع في الإسلام، ولو كان الإسلام فيه هذا الخنوع فصالحوا النظام واخضعوا له"، وهذه العبارة مع بساطتها ووضوحها تمثل ما يشبه المعضلة الفكرية العويصة التي يتجادل حولها وحول مقتضاها كثير من الموصوفين بأنهم نخبة ومفكرون، ويهيمون في أودية محاولات الجمع والتوفيق بين حقائق الدين وحقائق الواقع، ولأنهم أضعف وأعجز وأقل رغبة في تغيير الواقع فإنهم يمارسون مجهوداتهم في تأويل وتمييع وتفكيك حقائق الدين، حتى يريدون أن يجعلوا من الإسلام مسيحية تعطي الدنيا لقيصر وتستسلم للعلمانية وتنزوي في الشعائر والطقوس! أمثال هذه المحاولات التي تنتج خطابا دينيا مقهورا على مقاس السلطة الحاكمة من جهة بينما تعد أتباعها بالخلافة وأستاذية العالم من جهة أخرى، هي التي تنتج في النهاية هذه المحاولات الارتدادية عن الدين كله، إن آخر ما يحتاجه جندي في معركة أن يُشَنَّف سمعه بعبارات النصر والتمكين بينما لا يدري ماذا يفعل في ظل قرار حائر مضطرب مرتبك! ولقد قيل كثيرا على لسان الذين شاهدوا المذبحة "لم نكن نظن أن الله لن ينصرنا"، "ما معنى هذا؟ هل فعلا سنغادر رابعة قبل عودة الرئيس؟!"، "أين نصر الله؟!"، وكتب أحدهم مقالا عنوانه "الله الذي لا ينصرنا".. وبغض النظر الآن عن مآل كل واحد من هؤلاء (إذ ليس بالضرورة أن يصل المسار دائما إلى الإلحاد) فإن أصل هذه الحيرة هو ذلك الظن الكبير في أن النصر يتنزل بمجرد الدعاء والتضرع، أو لمجرد وجود الظلم، أو لمجرد وجود الحق. من أين جاء هذا الظن؟! من خطاب ديني مسموم مزيف، خطاب يريد تمكينا بلا تكاليف، نصرا بلا جهاد، عزة بغير تضحيات.. خطاب يتحدث عن الاعتصام باعتباره صمودا، وعن المسيرات باعتبارها جهادا، خطاب يسوق أن "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فلما جاء الرصاص انقشع الوهم وظهر الزيف، وسالت الأفكار مع مسيل الدم! وهنا يجب أن يستشعر العلماء والدعاة وقادة الحركات الإسلامية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحجم ما يمكن أن يسببوه من الخراب والضلال في نفوس الناس، وأن تزييف الدين أو إهمال فهم الواقع وحسن الإعداد له ينقلهم من كونهم أئمة هداية إلى كونهم أئمة ضلالة! وبئس الانتكاس! 5. ومع هذا فإن موقف الإلحاد هنا هو نتيجة صدمة نفسية وليست ناتجة عن فحص وقراءة ودراسة وتشبع بشبهات فكرية، وهو أهم ما ينبغي التأسيس عليه في تحليل ظاهرة الإلحاد في زمن ما بعد الانقلاب العسكري، وهذه ظاهرة لن يكون علاجها على يد المتميزين في المجادلة والحجاج والتمكن العلمي، بل يكون على يد أهل التربية والفراسة والذكاء، وإن كان يلزم في كل الأحوال حدا أدنى من العلم، إن الذين صدمتهم الحياة بعنفها وقسوتها ومضادتها لمسيرتهم الحالمة ورأوا سقوط أفكارهم وقناعاتهم تحت عجلاتها الجبارة لن يستمعوا ولا يحتاجون لحجاج منطقي متقن كحاجتهم إلى تفسير، وقد قال الشهيد سيد قطب "تظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتُسْكِت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا"، وإنها لمهمة ثقيلة وطويلة. ولو فقه أهل العلم والدعوة شأن الواقع لعلموا أن مكافحة الظلم والطغيان والوقوف في اللحظات الفاصلة موقفا مشرفا خير من معالجة الآثار الوخيمة له، وأن ملاحقة الظالمين الفاجرين في لحظة ثورة وقوة خير من ملاحقة بقايا الدين في نفوس الضائعين والتائهين في زمن الذل والهزيمة، وأن كلمة حق في وجه الجائر تعصم من آلاف الحوارات التي تقنع الملحد، وأن معارك السياسة في بلادنا إنما هي معارك دين، لأن الصراع في بلادنا على أصل الهوية وأصل التوجه وأصل الشريعة وأصل الولاء والبراء. 6. بقيت ملاحظة أخيرة وضرورية، لئن كان مفهوما أن الفيلم الوثائقي ليس عملا بحثيا، ولا يتسع وقته لمناقشة ظاهرة معمقة، فعلى الأقل لا بد من الحد الأدنى من الاتساق والتفسير، وهذا ما لم يكن.. إن عددا من الشواهد التي روى بعض الشباب أنها كانت سببا في تحولاتهم غير صحيحة بيقين: فالفتاة التي تحدثت عن أن مظاهرات محمد محمود لم يكن فيها إسلاميون، وأن هذا كان بداية شكها وتخليها، هذه الفتاة لا تخلو من أحد احتماليْن: إما أنها تكذب أو أنها كانت هناك ولم تنظر إلا في جزء صغير من الميدان ثم سَلَّمت عقلها للإعلام، ذلك أن مظاهرات محمد محمود كانت تزخر بالإسلاميين، حتى من الإخوان المسلمين رغم القرار الرسمي من الجماعة بعدم النزول (لتخوف الجماعة من أن تكون هذه فوضى تعطل مسيرة انتقال السلطة، حيث كانت انتخابات البرلمان مقررة بعد أيام)، وهذا فضلا عن الحضور المميز والواضح للشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره، ولأطياف الشباب الإسلامي المتعددة، وقد سجلت بنفسي شهادتي على ما حدث في هذه الفترة في هذا المقال، وكنت الصف الأول للمعارك في شارع محمود محمود صبيحة يوم 20 فبراير فالتفتُّ ذات مشهد فرأيت الصف الأول جميعه من الشباب الملتحي (الإسلاميين) وخطر لي وقتها في هذه الأجواء أن هذا يحتاج تسجيلا للتاريخ، فانتحيت جانبا وكتبت هذه التغريدة من هاتفي (https://twitter.com/melhamy/status/138141346627194881) والفتاة التي تحدثت عن أنها كانت سلفية وأنها لا تدرس سوى عن المسلمين غير المسلمين (الشيعة والصوفية والإخوان ونحوهما)، وذكرت أنها كانت تداوم سماع قناة الناس، وأنها تشبعت من ألفاظ: زنديق، خرج عن الملة، كفر، منافق.. إلخ! وهذا الكلام غير صحيح، فهذه المدرسة السلفية لا تكاد تستعمل لفظ "كفر" و"زنديق" و"خرج من الملة"، كما لا يكثر في خطابها لفظ "منافق"، بينما الذي يكثر في خطابها لفظ "مبتدع، عاصي".. فلا أدري هل هذا مما اختلط عليها أو مما نسيته مع طول البعد والعهد. ثم إنها ذكرت موقف التحرش بها باعتبارها من الإخوان وهو ما تسبب في خلعها النقاب، ثم لفتة سريعة حول زوج سيئ يعاملها معاملة قاسية تقوم على الخوف منه، وهي المعاملة التي شبهتها بالمعاملة مع الله: الخوف منه! وهنا افتقدنا كمشاهدين فهم تفسير هذا التحول، فلو كان مفهوما ببعض الصعوبة خلع النقاب للنجاة من التحرش، فليس مفهوما موقف الإلحاد لوجود الزوج القاسي!! وهذا يعد عيبا كان على الفيلم أن يتلافاه لكي يقدم الحد الأدنى من صورة متماسكة مفهومة للحالة.
افتتاحية العدد..

الإلحاد والجهاد، هل يستويان وهل يتقابلان؟

محمد إلهامي

(حمل العدد الجديد:
bit.ly/2S44ABi

حمل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB)

بثت قناة الجزيرة فيلما وثائقيا بعنوان "في سبع سنين"، يروي الفيلم قصة تغير المسارات لدى الشباب واختار أن يتحدث عن تطرفين متقابلين، فكان نصف الفيلم حديثا عن شباب من الإسلاميين تحولوا إلى الإلحاد، ونصفه الآخر شباب لم يكن متدينا بالأصل وهو الآن يقاتل في سوريا.

ويمكن أن نعدّ هذا الفيلم مدخلا مناسبا للحديث عن بعض أمور:

1. تنطلق فكرة الفيلم من أن الذهاب إلى الإلحاد كالذهاب إلى الجهاد، كلاهما رد فعل متطرف على الأزمات التي عاشها الشباب، والواقع أن هذا التصور نفسه بحاجة إلى نقد ونقض أساسي، وهو تصور ينطلق أساسا من رؤية تعودت وتآلفت وتصالحت مع مشهد الدين المقهور تحت الدولة العلمانية، ومن ثَمَّ فهو يستنكر ويستبشع الخروج من الدين إلى الإلحاد بنفس القدر الذي يستنكر به ويستبشع الخروج عن الدولة إلى الجهاد. وإذا شئنا الحق فإن الخروج عن دين لا يجيب عن الأسئلة الجوهرية أو الخروج عن الدولة التي لا تقوم بوظائفها الأساسية هو رد الفعل الطبيعي الفطري التلقائي المتوقع، بينما المُستغرب حقا هو الولاء لدين مهما بدا أنه لا يحقق الاطمئنان الفكري والإيماني أو الولاء لدولة تعمل بنقيض وظائفها. إنما الذي ينبغي أن يُستغرب كيف يستطيع أحدٌ بعد هذه الزلازل أن يعتنق ذات الموقف الذي يجمع بين دين ودولة كلاهما فارغ من مضمونه!

2. لم يكن الذين قدَّم الفيلم قصصهم على أنهم جهاديون متطرفون من "تنظيم الدولة" (داعش)، فغاية ما يمكن أن يكونوا هو أنهم من هيئة تحرير الشام التابعة للقاعدة والتي انفصلت عنها مؤخرا سعيا لبناء توافق داخلي فصائلي سوري، يدل على ذلك عدد من الشواهد ليس هذا محل التفصيل فيها. وإنما كانت هذه الإشارة مهمة لكي نقول بأن الذين ظهروا في هذا الفيلم لا يمثلون "داعش" التكفيرية، وإنما يمثلون الحالة الجهادية التي هي في سوريا حالة ثورية بالأساس آلت إلى حالة جهادية. وهذا أمر مهم في التأسيس للحوار حول "التطرف" الذي سوَّقه الفيلم.

والذهاب للجهاد في سوريا ضد نظام بشار الأسد هو في الأصل –ومهما خالطه من أخطاء عملية وتفصيلية- عملٌ ثوري نبيل في ميزان الشرائع الأرضية وتاريخ حركات المقاومة، والمناضلون اليسار –وأشهرهم: جيفارا- هم النموذج غير الإسلامي لما يسمى "الجهاد العالمي"، لكن الأدبيات اليسارية تسميه "الثورة العالمية"، فضلا عن كونه واجبا دينيا إسلاميا بفتوى كثير من العلماء المعاصرين يوم أن كانوا يملكون النطق والفتوى كما فعلوا في زمن مرسي فك الله أسره. فلو أن الفيلم كان صادقا في رصد حالة التطرف والتكفير لكان عليه أن يلتقي بداعشي ليتحدث عن تطور فكره إلى التكفير واستحلال الدماء.

3. كان متدينا ثم ألحد.. لم يكن متدينا ثم ذهب للجهاد

لو حاولنا تحليل هذه الثنائية التي يمكن أن تكون خلاصة الفيلم الوثائقي، فيجب أن يلفت انتباهنا أن الإلحاد هو موقف من الإله ومن الكون ومن الناس عموما.. بينما الجهاد موقف من الدولة ومن النظام! فالإلحاد هو خروج من المعركة بينما الجهاد هو دخول فيها. الإلحاد هو نفض اليد من كل التكاليف بينما الجهاد هو تحمل أشق وأشد أنواع التكاليف.. فمن منهما أصلب عودا وأقوى نفسا وأعظم هما وأعلى همة؟!

لا يستوي من استثقل تكاليف المعركة فنفض يده منها، ومن لم يكن يعلم بها فلما رآها عزم على خوضها مهما كانت التكاليف!

ولو تأملتَ لرأيت الذين ذهبوا للجهاد يُغَطّون وجوههم ويحرصون ألا يُعرفوا، بينما الذين ألحدوا يتحدثون ويعيشون مكشوفي الوجوه ببساطة، وما ذلك إلا لأن الأولين يخوضون المعركة ضد الواقع الظالم وأنظمته الجبارة، بينما الآخرون لا يمثلون خطرا على أنظمة الظلم والقهر.. هذا بنفسه دليل فارق في أنهما لا يستويان ولا يتقابلان، ويجب ألا يُقدَّما باعتبارهما وجهان للتطرف!

4. في ثنايا هذه الثنائية معنى مهم، وهو أن الدين المغشوش الذي تشربه بعض الناس أسوأ من بقائهم بغير تدين.. الجهل خير من الأفكار المسمومة كالجوع خير من الطعام المسموم، وفي حالتنا هذه فالمسألة ليست جهلا بقدر ما هي البقاء على الفطرة. إن تحرك الإنسان نحو الجهاد والمقاومة والثورة حين يرى المظالم والمذابح هو رد الفعل الإنساني الطبيعي، وأعرف بعض الأصدقاء ألحد أو كاد يلحد حتى سمع عما في الإسلام من مقاومة للظلم ورفض له وجهاد ضده فدُهِش لأن الإسلام فيه هذه الأمور، فوافق هذا فطرته فكان من بعد ذلك متدينا صبورا متحملا لتكاليف المقاومة ومضحيا في سبيل هذا الدين.

وقد عبَّر بعض الذين ظهروا في الفيلم عن هذا المعنى ببساطة: "لا يمكن أن يكون هذا الخنوع في الإسلام، ولو كان الإسلام فيه هذا الخنوع فصالحوا النظام واخضعوا له"، وهذه العبارة مع بساطتها ووضوحها تمثل ما يشبه المعضلة الفكرية العويصة التي يتجادل حولها وحول مقتضاها كثير من الموصوفين بأنهم نخبة ومفكرون، ويهيمون في أودية محاولات الجمع والتوفيق بين حقائق الدين وحقائق الواقع، ولأنهم أضعف وأعجز وأقل رغبة في تغيير الواقع فإنهم يمارسون مجهوداتهم في تأويل وتمييع وتفكيك حقائق الدين، حتى يريدون أن يجعلوا من الإسلام مسيحية تعطي الدنيا لقيصر وتستسلم للعلمانية وتنزوي في الشعائر والطقوس!

أمثال هذه المحاولات التي تنتج خطابا دينيا مقهورا على مقاس السلطة الحاكمة من جهة بينما تعد أتباعها بالخلافة وأستاذية العالم من جهة أخرى، هي التي تنتج في النهاية هذه المحاولات الارتدادية عن الدين كله، إن آخر ما يحتاجه جندي في معركة أن يُشَنَّف سمعه بعبارات النصر والتمكين بينما لا يدري ماذا يفعل في ظل قرار حائر مضطرب مرتبك! ولقد قيل كثيرا على لسان الذين شاهدوا المذبحة "لم نكن نظن أن الله لن ينصرنا"، "ما معنى هذا؟ هل فعلا سنغادر رابعة قبل عودة الرئيس؟!"، "أين نصر الله؟!"، وكتب أحدهم مقالا عنوانه "الله الذي لا ينصرنا".. وبغض النظر الآن عن مآل كل واحد من هؤلاء (إذ ليس بالضرورة أن يصل المسار دائما إلى الإلحاد) فإن أصل هذه الحيرة هو ذلك الظن الكبير في أن النصر يتنزل بمجرد الدعاء والتضرع، أو لمجرد وجود الظلم، أو لمجرد وجود الحق.

من أين جاء هذا الظن؟!

من خطاب ديني مسموم مزيف، خطاب يريد تمكينا بلا تكاليف، نصرا بلا جهاد، عزة بغير تضحيات.. خطاب يتحدث عن الاعتصام باعتباره صمودا، وعن المسيرات باعتبارها جهادا، خطاب يسوق أن "سلميتنا أقوى من الرصاص"، فلما جاء الرصاص انقشع الوهم وظهر الزيف، وسالت الأفكار مع مسيل الدم!

وهنا يجب أن يستشعر العلماء والدعاة وقادة الحركات الإسلامية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وحجم ما يمكن أن يسببوه من الخراب والضلال في نفوس الناس، وأن تزييف الدين أو إهمال فهم الواقع وحسن الإعداد له ينقلهم من كونهم أئمة هداية إلى كونهم أئمة ضلالة! وبئس الانتكاس!

5. ومع هذا فإن موقف الإلحاد هنا هو نتيجة صدمة نفسية وليست ناتجة عن فحص وقراءة ودراسة وتشبع بشبهات فكرية، وهو أهم ما ينبغي التأسيس عليه في تحليل ظاهرة الإلحاد في زمن ما بعد الانقلاب العسكري، وهذه ظاهرة لن يكون علاجها على يد المتميزين في المجادلة والحجاج والتمكن العلمي، بل يكون على يد أهل التربية والفراسة والذكاء، وإن كان يلزم في كل الأحوال حدا أدنى من العلم، إن الذين صدمتهم الحياة بعنفها وقسوتها ومضادتها لمسيرتهم الحالمة ورأوا سقوط أفكارهم وقناعاتهم تحت عجلاتها الجبارة لن يستمعوا ولا يحتاجون لحجاج منطقي متقن كحاجتهم إلى تفسير، وقد قال الشهيد سيد قطب "تظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتُسْكِت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا"، وإنها لمهمة ثقيلة وطويلة.

ولو فقه أهل العلم والدعوة شأن الواقع لعلموا أن مكافحة الظلم والطغيان والوقوف في اللحظات الفاصلة موقفا مشرفا خير من معالجة الآثار الوخيمة له، وأن ملاحقة الظالمين الفاجرين في لحظة ثورة وقوة خير من ملاحقة بقايا الدين في نفوس الضائعين والتائهين في زمن الذل والهزيمة، وأن كلمة حق في وجه الجائر تعصم من آلاف الحوارات التي تقنع الملحد، وأن معارك السياسة في بلادنا إنما هي معارك دين، لأن الصراع في بلادنا على أصل الهوية وأصل التوجه وأصل الشريعة وأصل الولاء والبراء.

6. بقيت ملاحظة أخيرة وضرورية، لئن كان مفهوما أن الفيلم الوثائقي ليس عملا بحثيا، ولا يتسع وقته لمناقشة ظاهرة معمقة، فعلى الأقل لا بد من الحد الأدنى من الاتساق والتفسير، وهذا ما لم يكن.. إن عددا من الشواهد التي روى بعض الشباب أنها كانت سببا في تحولاتهم غير صحيحة بيقين:

فالفتاة التي تحدثت عن أن مظاهرات محمد محمود لم يكن فيها إسلاميون، وأن هذا كان بداية شكها وتخليها، هذه الفتاة لا تخلو من أحد احتماليْن: إما أنها تكذب أو أنها كانت هناك ولم تنظر إلا في جزء صغير من الميدان ثم سَلَّمت عقلها للإعلام، ذلك أن مظاهرات محمد محمود كانت تزخر بالإسلاميين، حتى من الإخوان المسلمين رغم القرار الرسمي من الجماعة بعدم النزول (لتخوف الجماعة من أن تكون هذه فوضى تعطل مسيرة انتقال السلطة، حيث كانت انتخابات البرلمان مقررة بعد أيام)، وهذا فضلا عن الحضور المميز والواضح للشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره، ولأطياف الشباب الإسلامي المتعددة، وقد سجلت بنفسي شهادتي على ما حدث في هذه الفترة في هذا المقال، وكنت الصف الأول للمعارك في شارع محمود محمود صبيحة يوم 20 فبراير فالتفتُّ ذات مشهد فرأيت الصف الأول جميعه من الشباب الملتحي (الإسلاميين) وخطر لي وقتها في هذه الأجواء أن هذا يحتاج تسجيلا للتاريخ، فانتحيت جانبا وكتبت هذه التغريدة من هاتفي (
https://twitter.com/melhamy/status/138141346627194881)


والفتاة التي تحدثت عن أنها كانت سلفية وأنها لا تدرس سوى عن المسلمين غير المسلمين (الشيعة والصوفية والإخوان ونحوهما)، وذكرت أنها كانت تداوم سماع قناة الناس، وأنها تشبعت من ألفاظ: زنديق، خرج عن الملة، كفر، منافق.. إلخ!

وهذا الكلام غير صحيح، فهذه المدرسة السلفية لا تكاد تستعمل لفظ "كفر" و"زنديق" و"خرج من الملة"، كما لا يكثر في خطابها لفظ "منافق"، بينما الذي يكثر في خطابها لفظ "مبتدع، عاصي".. فلا أدري هل هذا مما اختلط عليها أو مما نسيته مع طول البعد والعهد.

ثم إنها ذكرت موقف التحرش بها باعتبارها من الإخوان وهو ما تسبب في خلعها النقاب، ثم لفتة سريعة حول زوج سيئ يعاملها معاملة قاسية تقوم على الخوف منه، وهي المعاملة التي شبهتها بالمعاملة مع الله: الخوف منه!

وهنا افتقدنا كمشاهدين فهم تفسير هذا التحول، فلو كان مفهوما ببعض الصعوبة خلع النقاب للنجاة من التحرش، فليس مفهوما موقف الإلحاد لوجود الزوج القاسي!! وهذا يعد عيبا كان على الفيلم أن يتلافاه لكي يقدم الحد الأدنى من صورة متماسكة مفهومة للحالة.
‏٠٢‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٧:٥٧ م‏
(( العدد الجديد من مجلة كلمة حق )) بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 19، من مجلة (كلمة حق)، لشهر فبراير 2019، ومع العدد هدية، كُتيب: مختصر كتاب النظام العالمي تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) لهنري كيسنجر. لا تنسَ أن تضغط (إعجاب ومشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: bit.ly/2S44ABi لتحميل هدية العدد: bit.ly/2Tqh0jB ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حمّل جميع أعداد مجلة كلمة حق والهدايا التي صدرت معها: bit.ly/2Rv0LDS لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر twitter.com/klmtuhaq تيليجرام t.me/klmtuhaq
(( العدد الجديد من مجلة كلمة حق ))

بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 19، من مجلة (كلمة حق)، لشهر فبراير 2019، ومع العدد هدية، كُتيب: مختصر كتاب النظام العالمي تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) لهنري كيسنجر.

لا تنسَ أن تضغط (إعجاب ومشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
bit.ly/2S44ABi

لتحميل هدية العدد:
bit.ly/2Tqh0jB

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حمّل جميع أعداد مجلة كلمة حق والهدايا التي صدرت معها:
bit.ly/2Rv0LDS

لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر
twitter.com/klmtuhaq

تيليجرام
t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٢‏/٢٠١٩ ٦:٣٠ م‏
الاحتلال بالوكالة حامد عبد العظيم [حمل العدد كاملاً: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وبعد: فإن أخبث ما توصل إليه المحتلون عموماً هو الاحتلال بالوكالة، إذ يجعل مواطني البلاد المحتلة لا يشعرون أنهم محتلون؛ بل يعتقدون أنهم يعيشون في بلاد مستقلة لا وجود للجيوش الأجنبية فيها. والاحتلال بالوكالة أن توكّل الدولة الاستعمارية فريقاً عميلاً من مواطني البلاد المحتلة ليكون بديلاً لها في حكم البلاد وضمان مصالحها. والحقيقة أن هذا الأمر صعّب للغاية من الجهود الساعية إلى تحرير البلاد والسعي نحو استقلالها، إذ إن الشعوب من الممكن أن تقاتل من أجل طرد الغزاة الأجانب من بلادهم، لكن أغلبها وفي معظم الظروف لن يجاهد من أجل القضاء على أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وتعمل وسائل الإعلام على تمجيدهم بالليل والنهار. والشعوب معذورة في ذلك، فهذا يحتاج درجة عالية من الوعي لا تتوفر لدى كل أحد، هي أشبه بالمنطقة الرمادية التي تُقعد عن الجهاد والمقاومة، بعكس المحتل الغازي الواضح، وهذه نقطة ينبغي للعاملين للإسلام أن يعوها حتى يعذروا أمتهم ويأخذوا بأيديها بالرفق واللين، لا أن يصرح البعض بكفر الشعوب لتواطئها ومهادنتها لحكامها كما تعتقد بعض حركات الغلو. وإذا أردنا أن نأخذ مثالاً حياً على خطورة وكلاء المحتل، فلدينا أفغانستان، فعلى الرغم من أن الإمارة الإسلامية (طالبان) والمجموعات المجاهدة المتعاونة معها، يذيقون الاحتلال الأمريكي المر والعذاب منذ سبعة عشر عاماً، إلا أن اعتماد الأمريكيين على الحكومة الأفغانية في إدارة البلاد ومواجهة المجاهدين، جعل كثيراً من عامة الشعب لا يشعر بأن جهاد الدفع ومقاومة المحتلين واجب عليه، بل يرى رئيس البلاد والحكومة أفغانية أفغاناً مثله، ويرى الجيش الأفغاني والشرطة الأفغانية والإعلام الأفغاني وكافة مؤسسات الدولة الأفغانية ترمي طالبان بالإرهاب وتحاربها. فمنهم من يقعد عن الجهاد، ومنهم من يشارك في الحرب على طالبان، ومنهم من يعتقد أنهم إرهابيون، على عكس الحالة الجهادية إبّان الاحتلال السوفيتي، فقد كان أغلب الشعب الأفغاني يجاهد السوفييت وكان لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة، ومن يتعاون مع السوفييت كان عميلاً قولاً واحداً لا شك أو لبس فيه. والأمر في أفغانستان أفضل كثيراً من وضع باقي الدول الإسلامية، فالخليج محتل بما تحمله الكلمة من معنى، والقواعد العسكرية الأمريكية في الخليج هي من بين الأكثر قوة وعتاداً وعدداً حول العالم، وملوك وأمراء الخليج ليس لهم قرار البتة ويأتمرون بأوامر سيدهم الأمريكي ولا يستطيعون مخالفته ولا يملكون ذلك أصلاً؛ بل تطور الوضع وأصبح الرئيس الأمريكي (السيد) يسخر من الملك السعودي (العبد) علناً، ويهاجمه الأيام تلو الأيام هجوماً مكثفاً بتصريحاته الإعلامية، دون أي رد من الجانب السعودي، رغم أن من أشهر هذه التصريحات قول البقرة البيضاء الأمريكية (ترامب) إن السعودية لا تستطيع البقاء أسبوعين لو تخلى عن دعمها الأمريكان. ومن كثرة الذلة والمهانة لم تجرؤ السعودية على الرد على هذه الإهانة. وهكذا الأمر في باقي البلاد الإسلامية بل وغير الإسلامية من البلاد المحتلة بالوكالة، كالعديد من البلاد الأفريقية التي تحتلها فرنسا احتلالاً كاملاً لكن فقط دون وجود جنود فرنسيين على الأرض، بل وتضع فرنسا أيديها حتى الآن بشكل كامل على عدة جزر أفريقية، مثل جزيرة مايوت أو مايوطة التي ينتمي أغلب سكانها إلى الإسلام، ولكنها أرض فرنسية. لذلك تعد الدندنة حول تبصير شعوب أمتنا بأننا "محتلون" مهمة للغاية، مع التأكيد على أنه ليس احتلالاً مجازاً بل هو احتلال حقيقي، وعلى هذا يجب أن يُربى الأطفال والشباب، ويعرف الكبار رجالاً ونساءً، ولا يقولن أحد هذا متعسر، فاليوم أصبح نشر المعلومات من أسهل ما يكون، وإن خفت على نفسك فبإمكانك أن تستخدم حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي باسم مستعار، وفي بيوتنا نحدث أطفالنا ونربيهم على ذلك ونبسط لهم الأمر. وهنا أقترح على من يجد في نفسه قدرة على ذلك أن ينشئ برامج تعليمية مناسبة لكل عمر لكن بطريقة جذابة وليس مجرد كتب، برامج تعليمية وتوعوية تحكي قصة الهجوم على الإسلام والمسلمين ومحاولات سرقة مقدراتهم والقضاء عليهم وعلى دينهم، وتربط الوكلاء بالمحتلين وتبرز دور المنافقين في تدمير الأمة، مع التركيز على التاريخ الصليبي واليهودي وخاصة الدور الأمريكي في تدمير الشعوب، وباستخدام الوسائل التي تسهل هذه القضية، من صور وأفلام وروايات ورسوم متحركة، وربما ألعاب تناسب فئة الأطفال، وحبذا لو كانت لعبة إلكترونية تصوّر دور العملاء مع المحتلين الحقيقيين، وهذا يؤثر بصورة كبيرة على الطفل. إضافة إلى جانب التوعية بأننا محتلون، ينبغي أن يكون هناك إعداد للكوادر في كافة النواحي تغنينا عن كوادر الوكلاء، وهذا ثغر قد هجره الكثيرون ولا يليق بمن يريد التغيير من أبناء هذه الأمة أن يهجره ويقول هذا شيء ربما نرى ثمرته بعد ثلاثين عاماً، وقد كانت الثورات العربية بعد اندلاعها في حالة فقد كبيرة للكثير من الكوادر في المجالات المختلفة، السياسية والعسكرية والاقتصادية والهندسية والتكنولوجية... إلخ، وكل من وُجدوا من كوادر هم ممن صُنعوا على أعين المحتلين ووكلائهم، وهذه نقطة ضعف كبيرة لابد من الانتباه لها وتساعد على تمكين وكلاء المحتلين أكثر بوصفهم الخبراء بكيفية إدارة دولاب الدولة، فإن كنت تريد ثورة ناجحة تتمكن من الحكم والإدارة فعليك البدء من الآن ضمن خطة تربوية تغرس في كل كادر أنه في جهاد ويقف على ثغر وربما تستفيد منه أمته يوماً ما. أما والحال هكذا فحتى لو اندلعت ثورة على وكلاء المحتل فلن تكون أمتنا قادرة على الحكم والإدارة. وهذا من أفضل ما تنفق فيه أموال المسلمين، ومن الصدقة الجارية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: “إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاَثَةِ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”. من ناحية أخرى، قد أثبتت الثورات العربية وتعثرها أهمية القوة في التغيير إذا وُضعت في مكانها الصحيح، فالقوة لا يُستغنى عنها في مقاومة وكلاء المحتلين، فلن يسمح لك الطواغيت بهامش حرية أو تمكين حتى تتبع ملتهم، ومن لا يعي هذا الدرس فهو على هامش الواقع ويهرب من مواجهة الحقائق. وأهمية مقاومة الوكلاء بالقوة أنها لو حدثت بضوابطها، تلتف حولها فئات من الشعب شيئاً فشيئاً حتى تتسع وتبتلع وكلاء المحتلين، لذلك من المهم للغاية التعليم العسكري والتدريب على السلاح وتكوين الخلايا متناهية الصغر التي تبدأ بأعمال لا خلاف حولها، مثل القصاص ممن ثبت عليه قتل المسلمين وتعذيبهم، وهذا يردع الطواغيت من ناحية، ويكسب الأفراد خبرة عملية من ناحية أخرى، تمهيداً للحظة الفارقة التي تتسع فيها الخلايا وتحظى بحاضنة شعبية كبيرة وتسحق الطغاة. وهذا في الحقيقة صعب للغاية ويحتاج عملاً طويلاً وشاقاً جداً. فتحصيل الحاضنة العشبية يحتاج إلى عمل دعوي وعلمي وتربوي واسع جداً ومتراكم ونشيط، لأن التجارب المختلفة أثبتت أن إهمال الشعب يؤدي إلى عزل الحركة المقاومة عن الأمة وحصرها والانقضاض عليها. فهي في الأصل معركة الأمة، ودورنا فقط كجزء من هذه الأمة هو المساعدة في تأهيلها وتنشيطها؛ لمواجهة هؤلاء المنافقين وكلاء المحتلين الجاثمين على صدورها، الذين يمنعونها أن تفيق من غفلتها وأن تستعيد ريادتها. وللحديث بقية إن شاء الله
الاحتلال بالوكالة

حامد عبد العظيم

[حمل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وبعد:

فإن أخبث ما توصل إليه المحتلون عموماً هو الاحتلال بالوكالة، إذ يجعل مواطني البلاد المحتلة لا يشعرون أنهم محتلون؛ بل يعتقدون أنهم يعيشون في بلاد مستقلة لا وجود للجيوش الأجنبية فيها.

والاحتلال بالوكالة أن توكّل الدولة الاستعمارية فريقاً عميلاً من مواطني البلاد المحتلة ليكون بديلاً لها في حكم البلاد وضمان مصالحها.

والحقيقة أن هذا الأمر صعّب للغاية من الجهود الساعية إلى تحرير البلاد والسعي نحو استقلالها، إذ إن الشعوب من الممكن أن تقاتل من أجل طرد الغزاة الأجانب من بلادهم، لكن أغلبها وفي معظم الظروف لن يجاهد من أجل القضاء على أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وتعمل وسائل الإعلام على تمجيدهم بالليل والنهار.

والشعوب معذورة في ذلك، فهذا يحتاج درجة عالية من الوعي لا تتوفر لدى كل أحد، هي أشبه بالمنطقة الرمادية التي تُقعد عن الجهاد والمقاومة، بعكس المحتل الغازي الواضح، وهذه نقطة ينبغي للعاملين للإسلام أن يعوها حتى يعذروا أمتهم ويأخذوا بأيديها بالرفق واللين، لا أن يصرح البعض بكفر الشعوب لتواطئها ومهادنتها لحكامها كما تعتقد بعض حركات الغلو.

وإذا أردنا أن نأخذ مثالاً حياً على خطورة وكلاء المحتل، فلدينا أفغانستان، فعلى الرغم من أن الإمارة الإسلامية (طالبان) والمجموعات المجاهدة المتعاونة معها، يذيقون الاحتلال الأمريكي المر والعذاب منذ سبعة عشر عاماً، إلا أن اعتماد الأمريكيين على الحكومة الأفغانية في إدارة البلاد ومواجهة المجاهدين، جعل كثيراً من عامة الشعب لا يشعر بأن جهاد الدفع ومقاومة المحتلين واجب عليه، بل يرى رئيس البلاد والحكومة أفغانية أفغاناً مثله، ويرى الجيش الأفغاني والشرطة الأفغانية والإعلام الأفغاني وكافة مؤسسات الدولة الأفغانية ترمي طالبان بالإرهاب وتحاربها. فمنهم من يقعد عن الجهاد، ومنهم من يشارك في الحرب على طالبان، ومنهم من يعتقد أنهم إرهابيون، على عكس الحالة الجهادية إبّان الاحتلال السوفيتي، فقد كان أغلب الشعب الأفغاني يجاهد السوفييت وكان لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة، ومن يتعاون مع السوفييت كان عميلاً قولاً واحداً لا شك أو لبس فيه.

والأمر في أفغانستان أفضل كثيراً من وضع باقي الدول الإسلامية، فالخليج محتل بما تحمله الكلمة من معنى، والقواعد العسكرية الأمريكية في الخليج هي من بين الأكثر قوة وعتاداً وعدداً حول العالم، وملوك وأمراء الخليج ليس لهم قرار البتة ويأتمرون بأوامر سيدهم الأمريكي ولا يستطيعون مخالفته ولا يملكون ذلك أصلاً؛ بل تطور الوضع وأصبح الرئيس الأمريكي (السيد) يسخر من الملك السعودي (العبد) علناً، ويهاجمه الأيام تلو الأيام هجوماً مكثفاً بتصريحاته الإعلامية، دون أي رد من الجانب السعودي، رغم أن من أشهر هذه التصريحات قول البقرة البيضاء الأمريكية (ترامب) إن السعودية لا تستطيع البقاء أسبوعين لو تخلى عن دعمها الأمريكان. ومن كثرة الذلة والمهانة لم تجرؤ السعودية على الرد على هذه الإهانة.

وهكذا الأمر في باقي البلاد الإسلامية بل وغير الإسلامية من البلاد المحتلة بالوكالة، كالعديد من البلاد الأفريقية التي تحتلها فرنسا احتلالاً كاملاً لكن فقط دون وجود جنود فرنسيين على الأرض، بل وتضع فرنسا أيديها حتى الآن بشكل كامل على عدة جزر أفريقية، مثل جزيرة مايوت أو مايوطة التي ينتمي أغلب سكانها إلى الإسلام، ولكنها أرض فرنسية.

لذلك تعد الدندنة حول تبصير شعوب أمتنا بأننا "محتلون" مهمة للغاية، مع التأكيد على أنه ليس احتلالاً مجازاً بل هو احتلال حقيقي، وعلى هذا يجب أن يُربى الأطفال والشباب، ويعرف الكبار رجالاً ونساءً، ولا يقولن أحد هذا متعسر، فاليوم أصبح نشر المعلومات من أسهل ما يكون، وإن خفت على نفسك فبإمكانك أن تستخدم حساباً على مواقع التواصل الاجتماعي باسم مستعار، وفي بيوتنا نحدث أطفالنا ونربيهم على ذلك ونبسط لهم الأمر.

وهنا أقترح على من يجد في نفسه قدرة على ذلك أن ينشئ برامج تعليمية مناسبة لكل عمر لكن بطريقة جذابة وليس مجرد كتب، برامج تعليمية وتوعوية تحكي قصة الهجوم على الإسلام والمسلمين ومحاولات سرقة مقدراتهم والقضاء عليهم وعلى دينهم، وتربط الوكلاء بالمحتلين وتبرز دور المنافقين في تدمير الأمة، مع التركيز على التاريخ الصليبي واليهودي وخاصة الدور الأمريكي في تدمير الشعوب، وباستخدام الوسائل التي تسهل هذه القضية، من صور وأفلام وروايات ورسوم متحركة، وربما ألعاب تناسب فئة الأطفال، وحبذا لو كانت لعبة إلكترونية تصوّر دور العملاء مع المحتلين الحقيقيين، وهذا يؤثر بصورة كبيرة على الطفل.

إضافة إلى جانب التوعية بأننا محتلون، ينبغي أن يكون هناك إعداد للكوادر في كافة النواحي تغنينا عن كوادر الوكلاء، وهذا ثغر قد هجره الكثيرون ولا يليق بمن يريد التغيير من أبناء هذه الأمة أن يهجره ويقول هذا شيء ربما نرى ثمرته بعد ثلاثين عاماً، وقد كانت الثورات العربية بعد اندلاعها في حالة فقد كبيرة للكثير من الكوادر في المجالات المختلفة، السياسية والعسكرية والاقتصادية والهندسية والتكنولوجية... إلخ، وكل من وُجدوا من كوادر هم ممن صُنعوا على أعين المحتلين ووكلائهم، وهذه نقطة ضعف كبيرة لابد من الانتباه لها وتساعد على تمكين وكلاء المحتلين أكثر بوصفهم الخبراء بكيفية إدارة دولاب الدولة، فإن كنت تريد ثورة ناجحة تتمكن من الحكم والإدارة فعليك البدء من الآن ضمن خطة تربوية تغرس في كل كادر أنه في جهاد ويقف على ثغر وربما تستفيد منه أمته يوماً ما.

أما والحال هكذا فحتى لو اندلعت ثورة على وكلاء المحتل فلن تكون أمتنا قادرة على الحكم والإدارة. وهذا من أفضل ما تنفق فيه أموال المسلمين، ومن الصدقة الجارية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: “إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاَثَةِ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.

من ناحية أخرى، قد أثبتت الثورات العربية وتعثرها أهمية القوة في التغيير إذا وُضعت في مكانها الصحيح، فالقوة لا يُستغنى عنها في مقاومة وكلاء المحتلين، فلن يسمح لك الطواغيت بهامش حرية أو تمكين حتى تتبع ملتهم، ومن لا يعي هذا الدرس فهو على هامش الواقع ويهرب من مواجهة الحقائق.

وأهمية مقاومة الوكلاء بالقوة أنها لو حدثت بضوابطها، تلتف حولها فئات من الشعب شيئاً فشيئاً حتى تتسع وتبتلع وكلاء المحتلين، لذلك من المهم للغاية التعليم العسكري والتدريب على السلاح وتكوين الخلايا متناهية الصغر التي تبدأ بأعمال لا خلاف حولها، مثل القصاص ممن ثبت عليه قتل المسلمين وتعذيبهم، وهذا يردع الطواغيت من ناحية، ويكسب الأفراد خبرة عملية من ناحية أخرى، تمهيداً للحظة الفارقة التي تتسع فيها الخلايا وتحظى بحاضنة شعبية كبيرة وتسحق الطغاة. وهذا في الحقيقة صعب للغاية ويحتاج عملاً طويلاً وشاقاً جداً.

فتحصيل الحاضنة العشبية يحتاج إلى عمل دعوي وعلمي وتربوي واسع جداً ومتراكم ونشيط، لأن التجارب المختلفة أثبتت أن إهمال الشعب يؤدي إلى عزل الحركة المقاومة عن الأمة وحصرها والانقضاض عليها.

فهي في الأصل معركة الأمة، ودورنا فقط كجزء من هذه الأمة هو المساعدة في تأهيلها وتنشيطها؛ لمواجهة هؤلاء المنافقين وكلاء المحتلين الجاثمين على صدورها، الذين يمنعونها أن تفيق من غفلتها وأن تستعيد ريادتها.

وللحديث بقية إن شاء الله
‏٣١‏/٠١‏/٢٠١٩ ٦:٤٠ م‏
انتظرونا غداً، والعدد الجديد من مجلتكم (كلمة حق). ومع العدد هدية (مختصر كتاب النظام العالمي تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) لهنري كيسنجر.
انتظرونا غداً، والعدد الجديد من مجلتكم (كلمة حق).

ومع العدد هدية (مختصر كتاب النظام العالمي تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) لهنري كيسنجر.
‏٣١‏/٠١‏/٢٠١٩ ١:٣٢ م‏
الاستبداد والشورى في فكر الشيخ محمد الغزالي د. وصفي عاشور أبو زيد [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] "الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا"، هكذا كان يرى الشيخ محمد الغزالي كارثة الاستبداد وآثارها في الدين والدنيا؛ حيث كرس حياته – نصفها الأول – لمحاربة هذا الاستبداد من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاستبداد هادم للحضارات، ومقوض للعمران، وطارد للكفاءات، ومعطل للطاقات، ومهدر للموارد؛ ولهذا استخقت محاربته أن تكون ضمن إرادة بناء حضارة وقيام أمة. ولهذا يؤكد الشيخ أن (الاستبداد السياسي … ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتة لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته) ([1])؛ وذلك لأن (الحكام المستبدين كالحشرات القذرة، لا تعيش أبدا فى جو نظيف، ولا تنصب شباكها للصيد والنهب إلا حيث الغفلة السائدة والجهالة القاتمة) ([2]). قال: (ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها) ([3]). وفي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، خاض رحمه الله أوّل معاركه الفكرية، فأصدر عدّة مؤلّفات كانت لبنة في مشروعه الحضاري: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، “الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر”، إذ قدّم فيها فكرًا ثوريًا بامتياز. كيف لا؟ وهو الذي قال: (حيث يكون العسف والخسف لابد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة. حيث يكون الاستعلاء والاستعباد لابد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا في غربة، أو قتلا في معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا في هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدون لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون.إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين) ([4]). ويعتبر كتابه "الإسلام والاستبداد السياسي" علامة فارقة في هذا المسار الذي كان اسمه سببا لأن يكون الشيخ "بغيضا إلى الجهة الحاكمة"، وحكى الشيخ الغزالي عن هذا الكتاب بقوله: (أشهر كتبي عندما هاجمت فيه الطغيان وفساد الحكم وأسميته (الإسلام والاستبداد السياسي) وكان ذلك في أواخر الأربعينيات، وكان هذا اليوم من أهم أيام حياتي وأعتبره نقطة انطلاق لي... بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب، وأحسست أن القصر الملكي اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض علىّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت علي شيء) ([5]). بل إننا إذا أردنا أن نتأمل في المكتبة الإسلامية والكتابات عن الاستبداد فيها لا تخطئنا محطتان فارقتان، وكتابان رئيسان، ومصدران أساسيان، هما: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب: (الإسلام والاستبداد السياسي) لمحمد الغزالي. كان الإمام الشيخ الغزالي يرى في الاستبداد عدوا للتقدم والحضارة، وكان يردد دائما: لا حرية حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا دين حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا حضارة حيث يكون هناك استبداد سياسي. وكان يقول إن "الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا. وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد، فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج"([6]). حتى إن الشيخ في تعامله مع القرآن كان مهموما بالبحث في هذا الموضوع، متأملا القرآن ومتدبرا له في هذا الإطار – ضمن الأطر التي كان يهتم بها في تعامله مع القرآن الكريم؛ حيث تمتع الشيخ بنظرته الأصيلة، وقراءته الكلية للقرآن الكريم، قال: (تلوت سورة القصص، وربطت آخرها بأولها، فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسى والطغيان الاقتصادى فى قصتى فرعون وقارون ثم ساق هذا القانون الحضارى الصارم (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه بعد عشر صفحات من السرد التاريخى الحافل قرر هذه الخلاصة أن الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير، كل فرد مزهو بنفسه فوضوى فى سلوكه سائب فى إدارته ظالم لغيره ناسٍ لربه لابد أن يجنى الويل من هذه الخلال) ([7]). بل إن قوعد الإيمان ومعاقد الشريعة ومكارم الأخلاق لا يمكن أن يقدم عليها مسلم في ظل استبداد وظلم وخسف يفضي بالناس إلى التجويع والمرض والجهل والخراب العمراني والاقتصادي، يقول الشيخ: (لقد رأيتُ بعد تجارب عدّة أنّني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجوّ الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة، إنّه من العسير جدًّا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التّقوى إذا كان بدنه عاريا ولابدّ من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشّامل إذا كنّا مخلصين حقًا في محاربة المعاصي والرّذائل والمعاصي باسم الدّين أو راغبين حقًّا في هداية النّاس لربّ العالمين) ([8]). وكي تعتدل الكفة ويستقيم الميزان فإن الشيخ لم يكتفِ بمحاربة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي المفضيين للتخلف الحضاري، وإنما تحدث عن الحرية والشورى، وحق الأمة في اختيار من يحكمها ويسوسها، وأنها هي مصدر السلطة، يقول: (الأمة مصدر السلطة، هي وحدها التي تختار حكامها، وهي التي إذا شاءت عزلتهم، وليس لأحد حق إلهي، ولا وصاية عليا على الناس، تجعل وجوده السياسي ضربة لازب، أو تجعل انقياد الجماهير له فريضة محكمة. إذا كانت لشيء ما مكانة دينية فهو الرأي العام الإسلامي، الذي إذا أحب كانت محبته آية على رضوان الله، وإذا كره كانت كراهيته آية على سخطه) ([9]). حتى إن الشيخ جعل للأمة الحق في ألا تسمع ولا تطيع حين يتناقض نصب الحاكم مع وظائفه، وهذا من صميم الحرية الجماعية، وتفعيل لأعلى مستوياتها، يقول: (والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام، وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد!!) ([10]). بل جعل الشيخ الخطوة الأولى في بناء الحياة السياسية، متمثلة في طريقة اختيار الحاكم وكيفيتها، قال: (ونحن نلحظ ـ دون كد ـ جرثومة خبيثة تفتك بالسياسة الإسلامية، وتدع فراغا سيئا بين الأمة والدولة، تلك هي طريقة اختيار الحاكم الذي يلي الأمور، ويقود الأمة إلى ما لا تعرف وتقر من أهداف، ونحن نريد استئصال هذه الجرثومة لا تركها، والتغلب على ما تنشئ من علل وأوجاع) ([11]). حتى في حرية الرأي والاجتهاد بضوابطه يرى أن هذا من مقومات بناء حضارة علمية ثقافية إنسانية، يقول: (فى أوج الحضارة الإسلامية كانت حرية الرأى مكفولة إلى حد بعيد، وكان البحث عن الحقيقة وتعرف وجه الصواب، ميسورا لكل من واتته الوسائل الصحيحة. وحيث لم يوجد فى مسألة علمية نص يعلو على الشبهة، ويثبت أمام التأويل، فإن المجال رحيب أمام عقول الرجال. أجل، حيث تتكاثر الأدلة، وتتلون أساليب الفهم ـ فى حدود قواعد اللغة ـ وتختلف الأنظار، ويختلف وزن المصلحة العامة، ويتسع الأفق، أو يضيق أمام مبتغى الحق، الساعى لكشف النقاب عنه، ففى الأمر مندوحة، ولا حرج على المسلم أن يعتنق أى مذهب، ويجنح إلى أى رأى) ([12]). إن الشيخ الإمام محمد الغزالي يستحق أن تُرصد جهوده العلمية ومواقفه العملية عن الاستبداد وآثاره، وفي الحديث عن الحرية والشورى، وعن حق الأمة في الحياة الحرة الكريمة، واختيارها لمن يحكمها ليحرس دينها ويسوس حياتها به .. هذا الجانب يستحق الإبراز والبحث والدراسة عند الشيخ فيما أنتجه من علم، وفيما وقفه من مواقف، وخاضه من معارك، وبيان أهمية ذلك وانعكاساته على واقعنا المعاصر. ــــــــــــــــــــــــ [1] الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية: 57. دار نهضة مصر. [2]الإسلام والاستبداد السياسي: 83. دار نهضة مصر. [3] من مقالات الشيخ الغزالي: 1/ 67. [4]حصاد الغرور: 154. دار نهضة مصر. [5]الإسلام والاستبداد السياسي: 8. دار نهضة مصر. [6] الإسلام والطاقات المعطلة: 40. دار نهضة مصر. [7]الطريق من هنا: 16. دار نهضة مصر. [8] الإسلام والأوضاع الاقتصادية: 43. دار نهضة مصر. [9] معركة المصحف في العالم الإسلامي: 136. دار نهضة مصر. [10]الإسلام والاستبداد السياسي: 163. [11]معركة المصحف في العالم الإسلامي: 91. [12]الإسلام المفترى عليه: 147. دار نهضة مصر.
الاستبداد والشورى في فكر الشيخ محمد الغزالي

د. وصفي عاشور أبو زيد

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

"الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا"، هكذا كان يرى الشيخ محمد الغزالي كارثة الاستبداد وآثارها في الدين والدنيا؛ حيث كرس حياته – نصفها الأول – لمحاربة هذا الاستبداد من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الاستبداد هادم للحضارات، ومقوض للعمران، وطارد للكفاءات، ومعطل للطاقات، ومهدر للموارد؛ ولهذا استخقت محاربته أن تكون ضمن إرادة بناء حضارة وقيام أمة.

ولهذا يؤكد الشيخ أن (الاستبداد السياسي … ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتة لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته) ([1])؛ وذلك لأن (الحكام المستبدين كالحشرات القذرة، لا تعيش أبدا فى جو نظيف، ولا تنصب شباكها للصيد والنهب إلا حيث الغفلة السائدة والجهالة القاتمة) ([2]). قال: (ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها) ([3]).

وفي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، خاض رحمه الله أوّل معاركه الفكرية، فأصدر عدّة مؤلّفات كانت لبنة في مشروعه الحضاري: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، “الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر”، إذ قدّم فيها فكرًا ثوريًا بامتياز.

كيف لا؟ وهو الذي قال: (حيث يكون العسف والخسف لابد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة. حيث يكون الاستعلاء والاستعباد لابد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا في غربة، أو قتلا في معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا في هذا؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدون لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون.إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين) ([4]).

ويعتبر كتابه "الإسلام والاستبداد السياسي" علامة فارقة في هذا المسار الذي كان اسمه سببا لأن يكون الشيخ "بغيضا إلى الجهة الحاكمة"، وحكى الشيخ الغزالي عن هذا الكتاب بقوله: (أشهر كتبي عندما هاجمت فيه الطغيان وفساد الحكم وأسميته (الإسلام والاستبداد السياسي) وكان ذلك في أواخر الأربعينيات، وكان هذا اليوم من أهم أيام حياتي وأعتبره نقطة انطلاق لي... بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب، وأحسست أن القصر الملكي اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض علىّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت علي شيء) ([5]).

بل إننا إذا أردنا أن نتأمل في المكتبة الإسلامية والكتابات عن الاستبداد فيها لا تخطئنا محطتان فارقتان، وكتابان رئيسان، ومصدران أساسيان، هما: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي، وكتاب: (الإسلام والاستبداد السياسي) لمحمد الغزالي.

كان الإمام الشيخ الغزالي يرى في الاستبداد عدوا للتقدم والحضارة، وكان يردد دائما: لا حرية حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا دين حيث يكون هناك استبداد سياسي، لا حضارة حيث يكون هناك استبداد سياسي.

وكان يقول إن "الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا. وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد، فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج"([6]).

حتى إن الشيخ في تعامله مع القرآن كان مهموما بالبحث في هذا الموضوع، متأملا القرآن ومتدبرا له في هذا الإطار – ضمن الأطر التي كان يهتم بها في تعامله مع القرآن الكريم؛ حيث تمتع الشيخ بنظرته الأصيلة، وقراءته الكلية للقرآن الكريم، قال: (تلوت سورة القصص، وربطت آخرها بأولها، فرأيت أن الله سبحانه شرح أحوال الاستبداد السياسى والطغيان الاقتصادى فى قصتى فرعون وقارون ثم ساق هذا القانون الحضارى الصارم (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه بعد عشر صفحات من السرد التاريخى الحافل قرر هذه الخلاصة أن الاستعلاء والفساد يستحيل أن يأتيا بخير، كل فرد مزهو بنفسه فوضوى فى سلوكه سائب فى إدارته ظالم لغيره ناسٍ لربه لابد أن يجنى الويل من هذه الخلال) ([7]).

بل إن قوعد الإيمان ومعاقد الشريعة ومكارم الأخلاق لا يمكن أن يقدم عليها مسلم في ظل استبداد وظلم وخسف يفضي بالناس إلى التجويع والمرض والجهل والخراب العمراني والاقتصادي، يقول الشيخ: (لقد رأيتُ بعد تجارب عدّة أنّني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجوّ الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة، إنّه من العسير جدًّا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التّقوى إذا كان بدنه عاريا ولابدّ من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشّامل إذا كنّا مخلصين حقًا في محاربة المعاصي والرّذائل والمعاصي باسم الدّين أو راغبين حقًّا في هداية النّاس لربّ العالمين) ([8]).

وكي تعتدل الكفة ويستقيم الميزان فإن الشيخ لم يكتفِ بمحاربة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي المفضيين للتخلف الحضاري، وإنما تحدث عن الحرية والشورى، وحق الأمة في اختيار من يحكمها ويسوسها، وأنها هي مصدر السلطة، يقول: (الأمة مصدر السلطة، هي وحدها التي تختار حكامها، وهي التي إذا شاءت عزلتهم، وليس لأحد حق إلهي، ولا وصاية عليا على الناس، تجعل وجوده السياسي ضربة لازب، أو تجعل انقياد الجماهير له فريضة محكمة. إذا كانت لشيء ما مكانة دينية فهو الرأي العام الإسلامي، الذي إذا أحب كانت محبته آية على رضوان الله، وإذا كره كانت كراهيته آية على سخطه) ([9]).

حتى إن الشيخ جعل للأمة الحق في ألا تسمع ولا تطيع حين يتناقض نصب الحاكم مع وظائفه، وهذا من صميم الحرية الجماعية، وتفعيل لأعلى مستوياتها، يقول: (والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام، وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد!!) ([10]).

بل جعل الشيخ الخطوة الأولى في بناء الحياة السياسية، متمثلة في طريقة اختيار الحاكم وكيفيتها، قال: (ونحن نلحظ ـ دون كد ـ جرثومة خبيثة تفتك بالسياسة الإسلامية، وتدع فراغا سيئا بين الأمة والدولة، تلك هي طريقة اختيار الحاكم الذي يلي الأمور، ويقود الأمة إلى ما لا تعرف وتقر من أهداف، ونحن نريد استئصال هذه الجرثومة لا تركها، والتغلب على ما تنشئ من علل وأوجاع) ([11]).

حتى في حرية الرأي والاجتهاد بضوابطه يرى أن هذا من مقومات بناء حضارة علمية ثقافية إنسانية، يقول: (فى أوج الحضارة الإسلامية كانت حرية الرأى مكفولة إلى حد بعيد، وكان البحث عن الحقيقة وتعرف وجه الصواب، ميسورا لكل من واتته الوسائل الصحيحة. وحيث لم يوجد فى مسألة علمية نص يعلو على الشبهة، ويثبت أمام التأويل، فإن المجال رحيب أمام عقول الرجال. أجل، حيث تتكاثر الأدلة، وتتلون أساليب الفهم ـ فى حدود قواعد اللغة ـ وتختلف الأنظار، ويختلف وزن المصلحة العامة، ويتسع الأفق، أو يضيق أمام مبتغى الحق، الساعى لكشف النقاب عنه، ففى الأمر مندوحة، ولا حرج على المسلم أن يعتنق أى مذهب، ويجنح إلى أى رأى) ([12]).

إن الشيخ الإمام محمد الغزالي يستحق أن تُرصد جهوده العلمية ومواقفه العملية عن الاستبداد وآثاره، وفي الحديث عن الحرية والشورى، وعن حق الأمة في الحياة الحرة الكريمة، واختيارها لمن يحكمها ليحرس دينها ويسوس حياتها به .. هذا الجانب يستحق الإبراز والبحث والدراسة عند الشيخ فيما أنتجه من علم، وفيما وقفه من مواقف، وخاضه من معارك، وبيان أهمية ذلك وانعكاساته على واقعنا المعاصر.


ــــــــــــــــــــــــ
[1] الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية: 57. دار نهضة مصر.
[2]الإسلام والاستبداد السياسي: 83. دار نهضة مصر.
[3] من مقالات الشيخ الغزالي: 1/ 67.
[4]حصاد الغرور: 154. دار نهضة مصر.
[5]الإسلام والاستبداد السياسي: 8. دار نهضة مصر.
[6] الإسلام والطاقات المعطلة: 40. دار نهضة مصر.
[7]الطريق من هنا: 16. دار نهضة مصر.
[8] الإسلام والأوضاع الاقتصادية: 43. دار نهضة مصر.
[9] معركة المصحف في العالم الإسلامي: 136. دار نهضة مصر.
[10]الإسلام والاستبداد السياسي: 163.
[11]معركة المصحف في العالم الإسلامي: 91.
[12]الإسلام المفترى عليه: 147. دار نهضة مصر.
‏٢٩‏/٠١‏/٢٠١٩ ٧:٥٦ م‏
الأمر في القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس فضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله (١) محدث الديار المصرية ونائب رئيس المحكمة الشرعية العليا [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] قال رحمه الله(٢): "أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس من تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟ إن المسلمين لم يُبْلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلمة والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره. أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير- في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمان سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيء بذلك "الياسق"(٣) الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباء وأبناء ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و"جامداً"!! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقى في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" بالهُوَينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون - ولايستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! ... إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد مما ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين". وقال رحمه الله في تفسير سورة النساء (٥٩-٦٥)(٤): " انظروا أيها المسلمون، في جميع البلاد الإسلامية، أو البلاد التي تنتسب إلى الإسلام في أقطار الأرض- إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون، إذ ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة للأخلاق والآداب والأديان، قوانين إفرنجية وثنية، لم تُبنَ على شريعة ولا دين... هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافرو العداوة، هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي؛ لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً كلمات "تقديس القانون"، "قدسية القانون"، "حرمة المحكمة"، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء الإسلاميين، بل حينئذ يصفونها بكلمات الرجعية والجمود والكهنوت وشريعة الغاب، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية... ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراستها كلمة "الفقه" و"الفقيه" و"التشريع" "والمشرع"، وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها. وينحدرون فيتجرؤون على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترَى الجديد!! ثم نفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدينين، فلا تصلح لهذا العصر... فترى الرجل المنتسب للإسلام، المتمسك به في ظاهر أمره، المُشرَب قلبه هذه القوانين الوثنية يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه، بل يجتهد ليتبرأ من العصبية للإسلام خشية أن يُرمى بالجنود والرجعية! ثم هو يصلي كما يصلي المسلمون، ويصوم كما يصوم المسلمون، وقد يحج كما يحج المسلمون، فإذا ما انتصب لإقامة القانون، لبسه شيطان الدين الجديد، فقام له قومة الأسد يحمي عرينه، ونفى عن عقله كل ما عرف من دينه الأصلي! ورأى أن هذه القوانين ألصق بقلبه وأقرب إلى نفسه! وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات، أرضعوهم لِبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة، واسعة المعرفة في هذا اللون من الدين الجديد الذي نسخوا به شريعتهم، ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوربا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر ما لم يُبتلَ به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور". وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) المائدة:٣٨ (٥): "هذا حكم الله في السارق والسارقة، قاطع صريح اللفظ والمعنى، لا يحتمل أي شك في الثبوت ولا في الدلالة، وهذا حكم رسول الله تنفيذاً لحكم الله وطاعة لأمره، في الرجال والنساء: قطع لليد، لا شك فيه، حتى ليقول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها"(٦). فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشرون المستعمرون! لعبوا بديننا، وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة، نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بُغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاسٍ لا يناسب هذا العصر الماجن، عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع سخريتهم وتندرهم! فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة، ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري. ثم أدخلوا في عقول الطبقة المثقفة- وخاصة القائمين على هذه القوانين الوثنية- ما يسمونه: "علم النفس"، ولقد جادلت منهم رجالاً كثيراً من أساطينهم، فليس عندهم إلا أن حكم القرآن لا يناسب هذا العصر!! وأن المجرم إن هو إلا مريض يجب علاجه لا عقابه، ثم ينسون قول الله سبحانه في الحكم بعينه: ( جزاء بما كسبا نكالاً من الله)، فالله سبحانه -وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم وهو العزيز الحكيم- يجعل هذه العقوبة للتنكيل بالسارقين، نصاً قاطعاً، فأين يذهب هؤلاء الناس؟! هذه المسألة -عندنا نحن المسلمين- هي من صميم العقيدة ومن صميم الإيمان، فهؤلاء المنتسبون للإسلام، المنكرون حد القطع، أو الراغبون عنه سنسألهم: أتؤمنون بالله وأنه خلق هذا الخلق؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه يعلم ما كان وما يكون، وبأنه أعلم بخلقه من أنفسهم وبما يصلحهم ويضرهم؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه هذا القرآن من لدنه هدى للناس وإصلاحاً في دينهم ودنياهم؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأن هذه الآية بعينها (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) من القرآن؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأن شريعة الله تعالى قائمة ملزمة للناس في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل حال؟ فسيقولون: نعم. إذن فأنى تصرفون وعلى أي شرع تقومون؟!... ولو عقل هؤلاء الناس -الذين ينتسبون للإسلام- لعلموا أن بضعة أيدٍ من أيدي السارقين لو قُطعت كل عام لنجت البلاد من سُبة اللصوص، ولما وقعت كل عام إلا بضع سرقات كالشيء النادر، ولخلت السجون من مئات الألوف التي تجعل السجون مدارس حقيقية للتفنن في الجرائم، لو عقلوا لفعلوا، ولكنهم يصرون على باطلهم ليرضى عنهم سادتهم ومعلموهم! وهيهات!! (7) ____________________________________ (١) ولد الشيخ رحمه الله عام ١٨٩٢م، وأبوه هو الشيخ محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهر، وقاضي قضاة السودان. حصل على الشهادة العالمية من الأزهر عام ١٩١٧ م، واشتغل بالتدريس فترة قصيرة، ثم عمل بالقضاء، حتى اختير نائباً لرئيس المحكمة الشرعية العليا، انتهت إليه إمامة الحديث في مصر. توفي عام ١٩٥٨ م تاركاً ما يزيد عن خمسين مصنفاً. (٢) "عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير" مختصر تفسير القرآن العظيم، للشيخ أحمد شاكر (١/٦٩٦،٦٩٧) دار الوفاء، الطبعة الثانية. (٣) هو دستور دولة "التتار" جمعه قائدهم "جنكيز خان" من شرائع شتى. (٤) المصدر السابق (١/٥٣٤،٥٣٥). (٥) المصدر السابق (١/٦٧٧،٦٧٨). (٦) أخرجه البخاري (٣٤٧٥)، مسلم (١٦٨٨) من حديث عائشة رضي الله عنها. (7) نقلاً عن كتاب: فتاوي كبار علماء الأزهر حول وجوب تحكيم الشريعة وتعظيمها، لمجموعة من العلماء، ط: دار اليسر، القاهرة.
الأمر في القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس

فضيلة الشيخ
أحمد محمد شاكر رحمه الله (١)

محدث الديار المصرية ونائب رئيس المحكمة الشرعية العليا

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

قال رحمه الله(٢):

"أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس من تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، ويبدلونه كما يشاءون، لا يبالي واضعه أوافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟

إن المسلمين لم يُبْلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلمة والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره.

أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير- في القرن الثامن- لذلك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمان سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيء بذلك "الياسق"(٣) الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباء وأبناء ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و"جامداً"!! إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقى في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" بالهُوَينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون - ولايستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!!

... إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد مما ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه، ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين".

وقال رحمه الله في تفسير سورة النساء (٥٩-٦٥)(٤): " انظروا أيها المسلمون، في جميع البلاد الإسلامية، أو البلاد التي تنتسب إلى الإسلام في أقطار الأرض- إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون، إذ ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة للأخلاق والآداب والأديان، قوانين إفرنجية وثنية، لم تُبنَ على شريعة ولا دين...

هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافرو العداوة، هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي؛ لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً كلمات "تقديس القانون"، "قدسية القانون"، "حرمة المحكمة"، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء الإسلاميين، بل حينئذ يصفونها بكلمات الرجعية والجمود والكهنوت وشريعة الغاب، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية...

ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراستها كلمة "الفقه" و"الفقيه" و"التشريع" "والمشرع"، وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها.

وينحدرون فيتجرؤون على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترَى الجديد!!

ثم نفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدينين، فلا تصلح لهذا العصر...

فترى الرجل المنتسب للإسلام، المتمسك به في ظاهر أمره، المُشرَب قلبه هذه القوانين الوثنية يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه، بل يجتهد ليتبرأ من العصبية للإسلام خشية أن يُرمى بالجنود والرجعية! ثم هو يصلي كما يصلي المسلمون، ويصوم كما يصوم المسلمون، وقد يحج كما يحج المسلمون، فإذا ما انتصب لإقامة القانون، لبسه شيطان الدين الجديد، فقام له قومة الأسد يحمي عرينه، ونفى عن عقله كل ما عرف من دينه الأصلي! ورأى أن هذه القوانين ألصق بقلبه وأقرب إلى نفسه!

وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات، أرضعوهم لِبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة، واسعة المعرفة في هذا اللون من الدين الجديد الذي نسخوا به شريعتهم، ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوربا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر ما لم يُبتلَ به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور".

وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) المائدة:٣٨ (٥):

"هذا حكم الله في السارق والسارقة، قاطع صريح اللفظ والمعنى، لا يحتمل أي شك في الثبوت ولا في الدلالة، وهذا حكم رسول الله تنفيذاً لحكم الله وطاعة لأمره، في الرجال والنساء: قطع لليد، لا شك فيه، حتى ليقول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها"(٦).

فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشرون المستعمرون!

لعبوا بديننا، وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة، نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بُغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاسٍ لا يناسب هذا العصر الماجن، عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع سخريتهم وتندرهم! فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة، ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري.

ثم أدخلوا في عقول الطبقة المثقفة- وخاصة القائمين على هذه القوانين الوثنية- ما يسمونه: "علم النفس"، ولقد جادلت منهم رجالاً كثيراً من أساطينهم، فليس عندهم إلا أن حكم القرآن لا يناسب هذا العصر!! وأن المجرم إن هو إلا مريض يجب علاجه لا عقابه، ثم ينسون قول الله سبحانه في الحكم بعينه: ( جزاء بما كسبا نكالاً من الله)، فالله سبحانه -وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم وهو العزيز الحكيم- يجعل هذه العقوبة للتنكيل بالسارقين، نصاً قاطعاً، فأين يذهب هؤلاء الناس؟!

هذه المسألة -عندنا نحن المسلمين- هي من صميم العقيدة ومن صميم الإيمان، فهؤلاء المنتسبون للإسلام، المنكرون حد القطع، أو الراغبون عنه سنسألهم: أتؤمنون بالله وأنه خلق هذا الخلق؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه يعلم ما كان وما يكون، وبأنه أعلم بخلقه من أنفسهم وبما يصلحهم ويضرهم؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأنه أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه هذا القرآن من لدنه هدى للناس وإصلاحاً في دينهم ودنياهم؟ فسيقولون: نعم.

أفتؤمنون بأن هذه الآية بعينها (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) من القرآن؟ فسيقولون: نعم. أفتؤمنون بأن شريعة الله تعالى قائمة ملزمة للناس في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل حال؟ فسيقولون: نعم. إذن فأنى تصرفون وعلى أي شرع تقومون؟!...

ولو عقل هؤلاء الناس -الذين ينتسبون للإسلام- لعلموا أن بضعة أيدٍ من أيدي السارقين لو قُطعت كل عام لنجت البلاد من سُبة اللصوص، ولما وقعت كل عام إلا بضع سرقات كالشيء النادر، ولخلت السجون من مئات الألوف التي تجعل السجون مدارس حقيقية للتفنن في الجرائم، لو عقلوا لفعلوا، ولكنهم يصرون على باطلهم ليرضى عنهم سادتهم ومعلموهم! وهيهات!! (7)

____________________________________
(١) ولد الشيخ رحمه الله عام ١٨٩٢م، وأبوه هو الشيخ محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهر، وقاضي قضاة السودان. حصل على الشهادة العالمية من الأزهر عام ١٩١٧ م، واشتغل بالتدريس فترة قصيرة، ثم عمل بالقضاء، حتى اختير نائباً لرئيس المحكمة الشرعية العليا، انتهت إليه إمامة الحديث في مصر. توفي عام ١٩٥٨ م تاركاً ما يزيد عن خمسين مصنفاً.
(٢) "عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير" مختصر تفسير القرآن العظيم، للشيخ أحمد شاكر (١/٦٩٦،٦٩٧) دار الوفاء، الطبعة الثانية.

(٣) هو دستور دولة "التتار" جمعه قائدهم "جنكيز خان" من شرائع شتى.
(٤) المصدر السابق (١/٥٣٤،٥٣٥).
(٥) المصدر السابق (١/٦٧٧،٦٧٨).
(٦) أخرجه البخاري (٣٤٧٥)، مسلم (١٦٨٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7) نقلاً عن كتاب: فتاوي كبار علماء الأزهر حول وجوب تحكيم الشريعة وتعظيمها، لمجموعة من العلماء، ط: دار اليسر، القاهرة.
‏٢٧‏/٠١‏/٢٠١٩ ٨:٣٧ م‏
فك الألغام..خطوة نحو تحقيق الوئام وليد الهويريني* [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] إن الدعوة للاجتماع والنهي عن الافتراق مطلب شرعي لا يختلف دعاة الإسلام ورجالاته على أهميته وضرورة السعي في تحقيقه؛ فقد استقر في روع العقلاء والنابهين أن التنازع والافتراق مؤذن بذهاب الريح، وآية ربانية تستلزم غياب الإمداد الإلهي في المنازلة القائمة بين أولياء الله وأعدائه، ومن الأهمية بمكان ألاّ يكتفي دعاة الإسلام بالدعوة الحالمة للوحدة والاجتماع دون النزول إلى كافة الميادين لإزالة ألغام عديدة طمرتها السنون، وتسارعت وتيرة الأحداث دون أن يعبرها السائرون في الطريق انتباهاً، وهو الأمر الذي أدى لتفجر هذه الألغام، وبالتالي تحول ذلك الجسد الواحد المقتفي أثر السلف الصالح إلى أشلاء متناثرة على قارعة الطريق، مما ولّد شكوكاً في صدور فئام من الناس حول سلامة الطريق؛ فتحوّلوا إلى غيره. فالحاجة ماسة اليوم لإزالة هذه الألغام للسير نحو تحقيق "وئام" بين رجالات الإسلام العاملين في كافة الميادين. ثمة عبارات رائعة خلدها التاريخ لأحد أئمتنا الكبار، ورموزنا العظام شاعت بين أوساط الشباب وطلبة العلم، وفي كثير من الأحيان كانت هذه العبارات تعبر عن رأي لهذا الإمام في مسألة ما.. أو تسجل موقفاً في ظرف تاريخي معين، أو ربما كانت معبرة عن اختياره العلمي في مسألة اختلف حولها أئمة السلف، ولكن بمضي الوقت ومع كثرة تردد هذه العبارات على الألسنة بالغ بعض الفضلاء في إيرادها والاحتجاج بها؛ فأصبحت هذه العبارات تُستخدم تارة في غير موضعها، وتارة تتحول لعقيدة سنية لا يجوز مخالفتها، وتارة ثالثة تصبح دبابة يهشم المحتج بها بفهمه الخاطئ أصولاً شرعية جاءت بها دلائل الكتاب والسنة. رأينا من يحتج بمقولة الإمام البربهاري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء، فحذّره وعرّفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى (فتُتّخذ هذه العبارة سيفاً مصلتاً على كل داعية أو مصلح جالس مبتدعاً، وربما وظف ذلك آخرون لتبديع جمهرة من أهل العلم والفضل، فتغدو هذه العبارة ومثيلاتها سبيلاً لشرذمة أهل السنة؛ فمن جالس المبتدع فهو صاحب هوى وبدعة، والحقيقة أن هؤلاء الفضلاء لو تتبعوا وسبروا منهج السلف الصالح لسلموا وسلم منهم إخوانهم من أهل العلم، فمن المتقرر أن حكم مجالسة المبتدع يُعدّ أمراً مصلحياً؛ فمتى ما كان الهجر محققاً للمقصد الشرعي شُرع وإلاّ فلا، وأما عبارة هذا الإمام وغيره من السلف فقد يكون قد أراد بها "ظرفاً زمانياً" كان الهجر فيه محققاً للمقصد الشرعي، وقد يكون أراد بها توجيه العامة ممن لا يملك علماً ولا فقهاً لعدم مجالسة المبتدع خشية التأثر به، وهذا هو الأقرب، ولو افترضنا جدلاً بأن هذه العبارة على ظاهرها، وبأن حكمها في نظر قائلها لا يتغير فتبقى المقولة معبرة عن رأي قائلها واجتهاده. وقريب من ذلك موقف بعض الشباب من مقولة أحد السلف: "إذا اختلفتم في مسألة فاسألوا أهل الثغور؛ فإن الحق معهم مستدلاً بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)". فإن هذه العبارة لو قيل بظاهرها كما يفعل بعض الشباب اليوم للزم من ذلك إسباغ العصمة والقداسة على كل من خاض ميدان الجهاد، وهذا تدحضه دلائل الكتاب والسنة، فقد قال ربنا تعالى مبيناً لأخطاء أعظم فرقة جهادية عرفها التاريخ بعد الهزيمة في غزوة أحد (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) ، قال الإمام الطبري : "قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك (هو من عند أنفسكم) يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم بخلافكم أمري وترككم طاعتي لا من عند غيركم ولا من قبل أحد سواكم. ومن معين السيرة النبوية نقرأ خبر سيف الله المسلول خالد بن الوليد في قصة بني جذيمة عندما قتل قوماً قالوا: صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) . ولهذا فعبارة هذا الإمام في رد الأمر إلى أهل الثغور لا يُراد بها عموم المسائل والوقائع، بل قد يُراد تفاصيل الواقع العسكري الذي يعيشه المجاهد، وقد يُراد به تقديم كلام "العلماء" من أهل الثغور أو علماء البلد الذي تقع فيه ساحة القتال على قول غيرهم من أهل البلدان الأخرى، والناظر في شواهد التاريخ يعلم جيداً أن الكثير من أئمة السلف لم يخوضوا ميدان القتال، ومع ذلك فلم يسجل التاريخ حالة تستحق الذكر همش فيها المسلمون أفهام غالبية علماء عصرهم بحجة أن الحق مع أهل الثغور...لاسيما تلك المعارك التي يتجاوز آثارها المحاربين في ساحات القتال إلى عموم الأمة الإسلامية. ولئن كان الفهم الخاطئ للعبارة السابقة أفضى إلى تقديس المجاهدين في ساحات القتال فعبارة ابن عساكر الشهيرة في توقير أهل العلم طالها نفس التحريف، ولكن نحو تقديس العلماء والفقهاء حيث يقول: (لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأعلم أن من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلب؛ بلاه الله قبل موته بموت القلب). وعبارة ابن عساكر واضحة جلية في تحريم غيبة أهل العلم؛ فهم ورثة الأنبياء ومصابيح الدجى ومنارات الهدى، ولاشك أن غيبة المسلم من كبائر الذنوب، فكيف بغيبة أفاضلهم وخيارهم، والحرص على توقير العلماء وزجر السفهاء عن التطاول عليهم يُعدّ صمام أمان للأمة من الاضطراب والفتن، وتصدر أهل الأهواء، ولكن الملاحظ من بعض الفضلاء المبالغة في تضخيم هذه العبارات إلى درجة تقديس بعض أهل العلم دون شعور منهم ورفض أي نقد لآرائهم أو اجتهاداتهم، بل وحتى القول بخلاف اختياراتهم العلمية والفقهية أو منهجهم الفكري والعملي تجاه المستجدات والأحداث، وربما جُعل هذا علامة على الانحراف والزيغ، ولئن كنا وما زلنا نفاخر بالمنهج السلفي الأصيل الذي ينبذ التعصب بكافة أشكاله، حتى إن أحدنا لا يجد غضاضة في أن يختار قولاً فقهياً يخالف فيه ما عليه جماهير الفقهاء وبعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن الدليل في نظره كان من نصيب القائلين بقوله، فلماذا نضيق في واقعنا المعاصر بأن يقول طالب علم بقول له سلف من الأئمة خلاف "السائد"، ونعتبر ذلك منافياً لتوقير العلماء واحترامهم أو قدحاً في منهجهم؟! إن خزائن تراثنا السلفي الوفير تنوء بعشرات المواقف التي شكل فيها "التنوع الفقهي والفكري" رافداً من روافد نهضتها ورقيها، دون أن يكون معول هدم واضطراب وتشرذم كما قد يتوهم بعض الغيورين والصالحين. لقد شكل الفهم الخاطئ لبعض مقولات السلف وسيلة فعّالة لزرع ألغام الافتراق والتشرذم في التربة الإسلامية، والسبيل الأمثل لإبطال هذه الألغام يكون بسبر منهج السلف الصالح في موضوع المقالة، وقراءة الظروف التاريخية التي قيلت فيها، مرتكزين في ذلك على دعائم المنهج السلفي والمتمثلة بالقرآن الكريم والسنة والنبوية بفهم السلف الصالح، ومستحضرين دائماً أن الحجة بإجماع السلف لا بقول آحادهم وأفرادهم، وحينها سنكون قد ذلّلنا الطريق لشباب الصحوة للسير قدماً نحو بلورة حالة من الوئام الفكري بين رجالات الإسلام. _______________________ *نشر هذا المقال في السبت 14 ذو القعدة 1428 الموافق 24 نوفمبر 2007، على موقع الإٍسلام اليوم.
فك الألغام..خطوة نحو تحقيق الوئام

وليد الهويريني*

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

إن الدعوة للاجتماع والنهي عن الافتراق مطلب شرعي لا يختلف دعاة الإسلام ورجالاته على أهميته وضرورة السعي في تحقيقه؛ فقد استقر في روع العقلاء والنابهين أن التنازع والافتراق مؤذن بذهاب الريح، وآية ربانية تستلزم غياب الإمداد الإلهي في المنازلة القائمة بين أولياء الله وأعدائه، ومن الأهمية بمكان ألاّ يكتفي دعاة الإسلام بالدعوة الحالمة للوحدة والاجتماع دون النزول إلى كافة الميادين لإزالة ألغام عديدة طمرتها السنون، وتسارعت وتيرة الأحداث دون أن يعبرها السائرون في الطريق انتباهاً، وهو الأمر الذي أدى لتفجر هذه الألغام، وبالتالي تحول ذلك الجسد الواحد المقتفي أثر السلف الصالح إلى أشلاء متناثرة على قارعة الطريق، مما ولّد شكوكاً في صدور فئام من الناس حول سلامة الطريق؛ فتحوّلوا إلى غيره. فالحاجة ماسة اليوم لإزالة هذه الألغام للسير نحو تحقيق "وئام" بين رجالات الإسلام العاملين في كافة الميادين.

ثمة عبارات رائعة خلدها التاريخ لأحد أئمتنا الكبار، ورموزنا العظام شاعت بين أوساط الشباب وطلبة العلم، وفي كثير من الأحيان كانت هذه العبارات تعبر عن رأي لهذا الإمام في مسألة ما.. أو تسجل موقفاً في ظرف تاريخي معين، أو ربما كانت معبرة عن اختياره العلمي في مسألة اختلف حولها أئمة السلف، ولكن بمضي الوقت ومع كثرة تردد هذه العبارات على الألسنة بالغ بعض الفضلاء في إيرادها والاحتجاج بها؛ فأصبحت هذه العبارات تُستخدم تارة في غير موضعها، وتارة تتحول لعقيدة سنية لا يجوز مخالفتها، وتارة ثالثة تصبح دبابة يهشم المحتج بها بفهمه الخاطئ أصولاً شرعية جاءت بها دلائل الكتاب والسنة.

رأينا من يحتج بمقولة الإمام البربهاري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء، فحذّره وعرّفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى (فتُتّخذ هذه العبارة سيفاً مصلتاً على كل داعية أو مصلح جالس مبتدعاً، وربما وظف ذلك آخرون لتبديع جمهرة من أهل العلم والفضل، فتغدو هذه العبارة ومثيلاتها سبيلاً لشرذمة أهل السنة؛ فمن جالس المبتدع فهو صاحب هوى وبدعة، والحقيقة أن هؤلاء الفضلاء لو تتبعوا وسبروا منهج السلف الصالح لسلموا وسلم منهم إخوانهم من أهل العلم، فمن المتقرر أن حكم مجالسة المبتدع يُعدّ أمراً مصلحياً؛ فمتى ما كان الهجر محققاً للمقصد الشرعي شُرع وإلاّ فلا، وأما عبارة هذا الإمام وغيره من السلف فقد يكون قد أراد بها "ظرفاً زمانياً" كان الهجر فيه محققاً للمقصد الشرعي، وقد يكون أراد بها توجيه العامة ممن لا يملك علماً ولا فقهاً لعدم مجالسة المبتدع خشية التأثر به، وهذا هو الأقرب، ولو افترضنا جدلاً بأن هذه العبارة على ظاهرها، وبأن حكمها في نظر قائلها لا يتغير فتبقى المقولة معبرة عن رأي قائلها واجتهاده.

وقريب من ذلك موقف بعض الشباب من مقولة أحد السلف: "إذا اختلفتم في مسألة فاسألوا أهل الثغور؛ فإن الحق معهم مستدلاً بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)".

فإن هذه العبارة لو قيل بظاهرها كما يفعل بعض الشباب اليوم للزم من ذلك إسباغ العصمة والقداسة على كل من خاض ميدان الجهاد، وهذا تدحضه دلائل الكتاب والسنة، فقد قال ربنا تعالى مبيناً لأخطاء أعظم فرقة جهادية عرفها التاريخ بعد الهزيمة في غزوة أحد (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) ، قال الإمام الطبري : "قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك (هو من عند أنفسكم) يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم بخلافكم أمري وترككم طاعتي لا من عند غيركم ولا من قبل أحد سواكم.

ومن معين السيرة النبوية نقرأ خبر سيف الله المسلول خالد بن الوليد في قصة بني جذيمة عندما قتل قوماً قالوا: صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) .

ولهذا فعبارة هذا الإمام في رد الأمر إلى أهل الثغور لا يُراد بها عموم المسائل والوقائع، بل قد يُراد تفاصيل الواقع العسكري الذي يعيشه المجاهد، وقد يُراد به تقديم كلام "العلماء" من أهل الثغور أو علماء البلد الذي تقع فيه ساحة القتال على قول غيرهم من أهل البلدان الأخرى، والناظر في شواهد التاريخ يعلم جيداً أن الكثير من أئمة السلف لم يخوضوا ميدان القتال، ومع ذلك فلم يسجل التاريخ حالة تستحق الذكر همش فيها المسلمون أفهام غالبية علماء عصرهم بحجة أن الحق مع أهل الثغور...لاسيما تلك المعارك التي يتجاوز آثارها المحاربين في ساحات القتال إلى عموم الأمة الإسلامية.

ولئن كان الفهم الخاطئ للعبارة السابقة أفضى إلى تقديس المجاهدين في ساحات القتال فعبارة ابن عساكر الشهيرة في توقير أهل العلم طالها نفس التحريف، ولكن نحو تقديس العلماء والفقهاء حيث يقول: (لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأعلم أن من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلب؛ بلاه الله قبل موته بموت القلب).

وعبارة ابن عساكر واضحة جلية في تحريم غيبة أهل العلم؛ فهم ورثة الأنبياء ومصابيح الدجى ومنارات الهدى، ولاشك أن غيبة المسلم من كبائر الذنوب، فكيف بغيبة أفاضلهم وخيارهم، والحرص على توقير العلماء وزجر السفهاء عن التطاول عليهم يُعدّ صمام أمان للأمة من الاضطراب والفتن، وتصدر أهل الأهواء، ولكن الملاحظ من بعض الفضلاء المبالغة في تضخيم هذه العبارات إلى درجة تقديس بعض أهل العلم دون شعور منهم ورفض أي نقد لآرائهم أو اجتهاداتهم، بل وحتى القول بخلاف اختياراتهم العلمية والفقهية أو منهجهم الفكري والعملي تجاه المستجدات والأحداث، وربما جُعل هذا علامة على الانحراف والزيغ، ولئن كنا وما زلنا نفاخر بالمنهج السلفي الأصيل الذي ينبذ التعصب بكافة أشكاله، حتى إن أحدنا لا يجد غضاضة في أن يختار قولاً فقهياً يخالف فيه ما عليه جماهير الفقهاء وبعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن الدليل في نظره كان من نصيب القائلين بقوله، فلماذا نضيق في واقعنا المعاصر بأن يقول طالب علم بقول له سلف من الأئمة خلاف "السائد"، ونعتبر ذلك منافياً لتوقير العلماء واحترامهم أو قدحاً في منهجهم؟!

إن خزائن تراثنا السلفي الوفير تنوء بعشرات المواقف التي شكل فيها "التنوع الفقهي والفكري" رافداً من روافد نهضتها ورقيها، دون أن يكون معول هدم واضطراب وتشرذم كما قد يتوهم بعض الغيورين والصالحين.

لقد شكل الفهم الخاطئ لبعض مقولات السلف وسيلة فعّالة لزرع ألغام الافتراق والتشرذم في التربة الإسلامية، والسبيل الأمثل لإبطال هذه الألغام يكون بسبر منهج السلف الصالح في موضوع المقالة، وقراءة الظروف التاريخية التي قيلت فيها، مرتكزين في ذلك على دعائم المنهج السلفي والمتمثلة بالقرآن الكريم والسنة والنبوية بفهم السلف الصالح، ومستحضرين دائماً أن الحجة بإجماع السلف لا بقول آحادهم وأفرادهم، وحينها سنكون قد ذلّلنا الطريق لشباب الصحوة للسير قدماً نحو بلورة حالة من الوئام الفكري بين رجالات الإسلام.
_______________________
*نشر هذا المقال في السبت 14 ذو القعدة 1428 الموافق 24 نوفمبر 2007، على موقع الإٍسلام اليوم.
‏٢٥‏/٠١‏/٢٠١٩ ٨:٢٨ م‏
دراويش الثورة المصرية د. مجدي شلش [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] تقف الثورة المصرية أمام تحديات كبيرة الآن، منها حالة الدروشة التي أصابت بعض أبنائها الذين اكتفوا لنصرتها بالدعاء فقط والوقوف محلك سر، إن لم يتراجعوا بها للوراء. الدعاء عبادة عظيمة لاشك تستمر مع الإنسان في كل أحواله من سعة وضيق وفرح وحزن وصحة ومرض؛ فأحوال المسلم مع الدعاء لا تنقطع إذ هو مظهر من مظاهر الذلة والخضوع والخشية من الله تبارك وتعالى. قد يقع الإنسان في حالة من الاضطرار التي تجعله في حالة من الدعاء الدائم والمتكرر حتى يفك الله الكرب عن صاحبه؛ فسبحانه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء والقادر أن يجعلنا خلفاء الأرض. الأمثلة الكثيرة في بركات الذكر والدعاء تشبه الكرامات التي فك الله بها الكرب ونفث الهم ورفع بها الغم ووسع في الرزق للصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، وهو أمر مشاهد ومعلوم ولا ينكره إلا عليل أو مخبول. قياس نجاح الأمم وانتصارها على عدوها بالاقتصار على الدعاء بتفريج الكرب عن الأشخاص والأفراد، وضع للشيء في غير محله وصورة من صور الدروشة. نجاح الثورات لاشك يحتاج إلى الدعاء بالليل والنهار لكن الاقتصار عليه وحده وترك التكاليف الشرعية المتعلقة بالأخذ بالأسباب من ثبات وجهاد وتضحية وحركة دائمة في حيز المُكنة والطاقة دروشة غير مقبولة. أين نحن من قوله تعالى : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…" وقوله تعالى: "... إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا …" وقوله : "...إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مشحونة بالكفاح والجهاد والذكر والاستغفار ومواجهة العدو بكل ما استطاع من قوة وأدوات. حالة دروشة ظهرت على بعض الثوار يكتب الآن ويقول للثورة رب يحميها كما قال عبدالمطلب عندما جاء أبرهة لهدم الكعبة للبيت رب يحميه، وكأننا لسنا متعبدين بشرع جاء بعد عبدالمطلب. الكلام في النصر والتمكين كسنة من سنن الله عز وجل بعد الظلم والفساد والاستبداد، دون الكلام في تفاصيل كيفية التمكين والدندنة المستمرة حول أسباب النصر ووضع التصورات والخطط التي تتجاوب مع سنة الله في الاستخلاف والظهور على الأعداء، مظهر من مظاهر الدروشة. الاستدلال ببعض صور النصر والتمكين في شرع من قبلنا وإهمال ما شرعه الله لنا؛ كالاستدلال بأصحاب الأخدود الذين ثبتوا على دينهم حتى الشهادة في سبيل الله، صورة من صور الدروشة. التكليف في شرعنا بإقامة الأمة والدولة، فما يصح في زمان من صور النصر والتمكين قد لا يصح في زمن آخر. لعل من أكثر صور الدروشة اعتماد بعض الثوار على المنامات والرؤى في النصر والتمكين، حيث فلان الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالنصر وقربه والتمكين وحلوله والاستخلاف وموعده، فيصبح الناس على أحلام . أدهشني أن أخاً عالماً ونحن في عز الحراك الثوري عام2015م ألف كتاباً من مجلدين في تفسير الأحلام، وكلما التقينا أكثر من الكلام على الرؤى والأحلام وكأنها من مصادر الأحكام الشرعية. الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد عام 3 هجرية رأى رؤيا عجيبة، فسرت بأن أحدا من أقاربه المقربين سيقتل ولم يعتمد عليها في شيء، ورؤى الأنبياء حق. المجهود الذي بذله الأخ الكريم في كتابة مجلدين في تفسير الأحلام، كان من الأولى به أن يضع رؤية للخروج من الأزمة وكسر الانقلاب وعودة الشرعية. الدروشة الآن على قدم وساق؛ إذ البعض ينتظر المهدي المنتظر لحل المشكلات ورافعاً للرايات ومنتصراً على الأعداء. لا أنكر فضل المنامات الطيبة، لكن لا أجعل منها السبيل الوحيد أو الأول للنصر، أعظم ما فيها الاستئناس للثوار، أما الصراع وإدارته فله قوانينه الشرعية والعقلية والإدارية والسياسية والإعلامية. أما المهدي المنتظر فوجوده معلوم لكن حتمية ظهوره الآن غير معلومة، والأصل أننا متعبدون بدين وشرع وقد كلفنا بقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون". الصورة الصحيحة هي التي تجمع بين الدعاء المتواصل والعمل الدؤوب والصبر والمصابرة والمرابطة، حتى يأتي النصر الموعود الذي يناسب زماننا في قوله تعالى: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"، وقوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا…" . نعم نستفيد من كل صور النصر الجزئية ونتعلم منها العبرة والعظة لكنها ليست الصورة الشاملة التي أرادها الله لنا. دليل ذلك صورة خباب بن الأرت رضي الله عنه إذ جاء للرسول صلى الله عليه وسلم طالباً الدعاء بالنصر والتمكين، وأن يرفع الله عنهم العذاب الأليم الواقع بهم، فأخبره الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بطبيعة الدعوة وأنها منصورة حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. لم يقتصر المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذكر صور العذاب فقط كمن يستشهد بقصة أصحاب الأخدود وحدها فقط، وإنما بين له أن النصر في أمتنا أكبر صورة وأعظم حالاً من نصر أصحاب الأخدود. ولعل في قصة الخندق وتجمع الأحزاب حول المدينة وتكسير الرسول صلى الله عليه وسلم للصخرة التي عرضت للمسلمين في حفر الخندق وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والشام واليمن، دلالة على أنها صورة النصر التي يجب أن نعمل لها بالتمكين لدين الله في الأرض ونُري فرعون وهامان وقارون منا البأس الشديد والعذاب الأليم. قد نخطئ حين نجعل صورة النصر واحدة وإنما هي متنوعة وقد نخطئ أيضاً بالاستدلال بصورة من قبلنا المحدودة و نعممها على كل عصر، لكن الصحيح أن لكل عصر صورة النصر والتمكين التي تناسبه وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين.
دراويش الثورة المصرية

د. مجدي شلش

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

تقف الثورة المصرية أمام تحديات كبيرة الآن، منها حالة الدروشة التي أصابت بعض أبنائها الذين اكتفوا لنصرتها بالدعاء فقط والوقوف محلك سر، إن لم يتراجعوا بها للوراء.

الدعاء عبادة عظيمة لاشك تستمر مع الإنسان في كل أحواله من سعة وضيق وفرح وحزن وصحة ومرض؛ فأحوال المسلم مع الدعاء لا تنقطع إذ هو مظهر من مظاهر الذلة والخضوع والخشية من الله تبارك وتعالى.

قد يقع الإنسان في حالة من الاضطرار التي تجعله في حالة من الدعاء الدائم والمتكرر حتى يفك الله الكرب عن صاحبه؛ فسبحانه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء والقادر أن يجعلنا خلفاء الأرض. الأمثلة الكثيرة في بركات الذكر والدعاء تشبه الكرامات التي فك الله بها الكرب ونفث الهم ورفع بها الغم ووسع في الرزق للصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، وهو أمر مشاهد ومعلوم ولا ينكره إلا عليل أو مخبول.

قياس نجاح الأمم وانتصارها على عدوها بالاقتصار على الدعاء بتفريج الكرب عن الأشخاص والأفراد، وضع للشيء في غير محله وصورة من صور الدروشة. نجاح الثورات لاشك يحتاج إلى الدعاء بالليل والنهار لكن الاقتصار عليه وحده وترك التكاليف الشرعية المتعلقة بالأخذ بالأسباب من ثبات وجهاد وتضحية وحركة دائمة في حيز المُكنة والطاقة دروشة غير مقبولة.

أين نحن من قوله تعالى : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…" وقوله تعالى: "... إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا …" وقوله : "...إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".

سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مشحونة بالكفاح والجهاد والذكر والاستغفار ومواجهة العدو بكل ما استطاع من قوة وأدوات.

حالة دروشة ظهرت على بعض الثوار يكتب الآن ويقول للثورة رب يحميها كما قال عبدالمطلب عندما جاء أبرهة لهدم الكعبة للبيت رب يحميه، وكأننا لسنا متعبدين بشرع جاء بعد عبدالمطلب.

الكلام في النصر والتمكين كسنة من سنن الله عز وجل بعد الظلم والفساد والاستبداد، دون الكلام في تفاصيل كيفية التمكين والدندنة المستمرة حول أسباب النصر ووضع التصورات والخطط التي تتجاوب مع سنة الله في الاستخلاف والظهور على الأعداء، مظهر من مظاهر الدروشة.

الاستدلال ببعض صور النصر والتمكين في شرع من قبلنا وإهمال ما شرعه الله لنا؛ كالاستدلال بأصحاب الأخدود الذين ثبتوا على دينهم حتى الشهادة في سبيل الله، صورة من صور الدروشة.

التكليف في شرعنا بإقامة الأمة والدولة، فما يصح في زمان من صور النصر والتمكين قد لا يصح في زمن آخر.

لعل من أكثر صور الدروشة اعتماد بعض الثوار على المنامات والرؤى في النصر والتمكين، حيث فلان الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالنصر وقربه والتمكين وحلوله والاستخلاف وموعده، فيصبح الناس على أحلام .

أدهشني أن أخاً عالماً ونحن في عز الحراك الثوري عام2015م ألف كتاباً من مجلدين في تفسير الأحلام، وكلما التقينا أكثر من الكلام على الرؤى والأحلام وكأنها من مصادر الأحكام الشرعية.

الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد عام 3 هجرية رأى رؤيا عجيبة، فسرت بأن أحدا من أقاربه المقربين سيقتل ولم يعتمد عليها في شيء، ورؤى الأنبياء حق.

المجهود الذي بذله الأخ الكريم في كتابة مجلدين في تفسير الأحلام، كان من الأولى به أن يضع رؤية للخروج من الأزمة وكسر الانقلاب وعودة الشرعية.

الدروشة الآن على قدم وساق؛ إذ البعض ينتظر المهدي المنتظر لحل المشكلات ورافعاً للرايات ومنتصراً على الأعداء.

لا أنكر فضل المنامات الطيبة، لكن لا أجعل منها السبيل الوحيد أو الأول للنصر، أعظم ما فيها الاستئناس للثوار، أما الصراع وإدارته فله قوانينه الشرعية والعقلية والإدارية والسياسية والإعلامية.

أما المهدي المنتظر فوجوده معلوم لكن حتمية ظهوره الآن غير معلومة، والأصل أننا متعبدون بدين وشرع وقد كلفنا بقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".

الصورة الصحيحة هي التي تجمع بين الدعاء المتواصل والعمل الدؤوب والصبر والمصابرة والمرابطة، حتى يأتي النصر الموعود الذي يناسب زماننا في قوله تعالى: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"، وقوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا…" .

نعم نستفيد من كل صور النصر الجزئية ونتعلم منها العبرة والعظة لكنها ليست الصورة الشاملة التي أرادها الله لنا.

دليل ذلك صورة خباب بن الأرت رضي الله عنه إذ جاء للرسول صلى الله عليه وسلم طالباً الدعاء بالنصر والتمكين، وأن يرفع الله عنهم العذاب الأليم الواقع بهم، فأخبره الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بطبيعة الدعوة وأنها منصورة حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.

لم يقتصر المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذكر صور العذاب فقط كمن يستشهد بقصة أصحاب الأخدود وحدها فقط، وإنما بين له أن النصر في أمتنا أكبر صورة وأعظم حالاً من نصر أصحاب الأخدود.

ولعل في قصة الخندق وتجمع الأحزاب حول المدينة وتكسير الرسول صلى الله عليه وسلم للصخرة التي عرضت للمسلمين في حفر الخندق وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والشام واليمن، دلالة على أنها صورة النصر التي يجب أن نعمل لها بالتمكين لدين الله في الأرض ونُري فرعون وهامان وقارون منا البأس الشديد والعذاب الأليم.

قد نخطئ حين نجعل صورة النصر واحدة وإنما هي متنوعة وقد نخطئ أيضاً بالاستدلال بصورة من قبلنا المحدودة و نعممها على كل عصر، لكن الصحيح أن لكل عصر صورة النصر والتمكين التي تناسبه وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين.
‏٢٣‏/٠١‏/٢٠١٩ ٧:٥٦ م‏
معضلة الجهاد وحفظ أرواح العباد (2) د. عطية عدلان [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. هل هي حقَّاً معضلة؟ أم إنَّ الإعضال كسب أيدينا وثمرة أقوالنا وأفعالنا ومواقفنا؟ لقد حار الخلق واضطربت تقديراتهم في الترجيح بين إبقاء الاستبداد وبين إفناء العباد، في الموازنة بين إمضاء الجهاد وبين الإبقاء على أرواح العباد، فشرقوا وغربوا وأسرفوا في الذهاب عبر أودية موحشة وقفار مهلكة، حتى كفَّرَ الغادي منهم الرائح، وسَفَّه الذاهب منهم الآيب، وغدا الكل متربصاً بالكل وقاعداً لهم بكل سبيل!! ولا أحسب الانسياق مع هذه التدافعات والانصياع لهذه التجاذبات إلا وقوعاً في فخ كبير خطير؛ فإنَّه لخطورته ووعورته ليشغل الواقعين في شَرَكِه عن الخلاص والفكاك بمزيد من التدافع والارتباك؛ لذا يتوجب علينا أن يكون سبيلنا معه كسبيل هؤلاء الذين (إذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً) الذين (إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين). إنَّنا يا قومنا نحسن لفّ العصائب على أعيننا والسلاسل حول أرجلنا؛ لنعجز عن الرؤية والحركة معاً، وكأننا بذلك ننشد الراحة ونلوذ بأحضان اليأس والقنوط، ونلتمس العزاء في اقتيات هذه المهاترات: الاستبداد أم الإرهاب؟ الجهاد أم حفظ أرواح العباد؟ الشريعة أم الحرية؟ الاستقرار أم الثورة والتغيير؟ مصلحة الدعوة أم مصلحة الدولة؟ وحول هذه الأكواخ الكلامية الكئيبة تنبت تساؤلات كفسائل الصبار في خصوبة مظهرها وعقم مخبرها، مِنْ مِثْل هذه: أين نحن من عهد ما قبل الربيع العربيّ؟ ألم نكن نعيش في أمن ولو بشيء من ضيق العيش؟ ونمارس الدعوة ولو بقدر من التضييق والتنغيص؟ أين نحن الآن مما كنا فيه، وأين منَّا أياماً لم نعد نحلم بمثل أنكدها وأظلمها؟ ما الذي جناه الناس من الثورات؟ وعلى شفير هذا الشَرَك الكبير يقف أناس يحملون في حجورهم حجارة يرشقون بها المتلبطين في الأوحال: "ما أفسد الثورة السورية إلا العسكرة والعنف" "ما جنت حماس من مقاومتها إلا الخراب على شعب غزة" "ها هي ليبيا صارت مرتعاً للقوى الأجنبية تتلاعب بفصائل الثورة" "أنظروا إلى اليمن السعيد وما حلً به" "قارنوا بين العراق في عهد صدام والعراق الآن" "يا ليت لنا يوماً واحداً من أيام مبارك" "كل الحركات الجهادية باءت بالفشل وجرت على الأمة الويلات" "جميع التجارب الإسلامية في ميدان السياسة لم يحالفها التوفيق" وغير ذلك من الجمل والعبارات التي تفوق في تدميرها القنابل والدبابات. وفي البدء يجب أن نقر - بموضوعية وحيادية - أنّ هذه التساؤلات يفرضها الواقع، وليست في ذاتها نائية عن المشروعية والعقلانية، وإنّما الأزمة تتمثل في كونها تثار في غيبة الثوابت التي بدونها تبقى هذه المقولات سائبة هائمة كحبال بلا أوتاد أو خيمة بلا عماد؛ لذلك يتوجب علينا أن نعمد إلى الثوابت فنحررها و(نبلورها) لتتولى هي بذاتها تفسير هذه المعضلات وحل (شفرتها). ويأتي على رأس الثوابت هذه الحقيقة التي يقررها الواقع ويشهد لها التاريخ، الحقيقة التي ننساها أو نغفل عنها مع اشتداد الأزمات وتلاحق المصائب، وهي أنَّ هذه الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، والتي لم تكن تمثل شعوبها إلا بقدر ما كان يمثلها مندوبو الاحتلال في دويلات الوطن العربيّ المقسم، والتي ظلت طوال حكمها تقوم بوظيفتها كوكيل عن الاحتلال الأجنبي؛ هذه الأنظمة المجرمة المخربة هي المسئولة عن كل ما جرى وما يجري؛ فلولا ظلمها وقمعها واستبدادها بالأمور واستعبادها للشعوب وممالأتها لكل عدو للأمة ولدينها وعقيدتها ما ثارت الشعوب ولا وقعت تلك المحن والخطوب، ولولا مواجهتها للشعوب الثائرة بالقوة الغاشمة ما خرجت الثورة عن طابعها السلميّ الذي بدأت به ولا انحرفت عنه قيد شعرة، ولولا إيغالها في القتل والتشريد والتعذيب والترهيب ما انحدرت البلاد إلى ما انحدرت إليه، فلا تلوموا - إن كنتم منصفين - إلا هذه الأنظمة العميلة ومن يقفون وراءها. لا ننكر أنَّ هنالك قدراً من اللوم كبيراً يوجه إلى فئات ممن ينتسبون للتيار الإسلاميّ؛ لكونهم تفرقوا وتنازعوا؛ مما أفضى إلى تأخر الظفر بالعدو، ومنح الفرصة لجيوب مدخولة من المتطرفين كالدواعش في سوريا والعراق والمداخلة في ليبيا؛ ليكون لها دور في صناعة الأحداث وإرباك المشهد برمته، وقدراً آخر غير قليل يوجه إلى الأحزاب السياسية والجماعات الدعوية لضعف فهمها وقلة وعيها وانخرام منهجيتها في التعامل مع الأنظمة القديمة الساقطة ومن يتحالف معها، وفي التعاطي مع التدافعات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي، إضافة إلى بروز حفنة من الشخصيات المتسلقة الطموحة التي رغبت في الوصول على متن الثورة؛ فامتطت ظهرها، ومدت حبالها مع متآمرين في بلاد لا ترقب فينا إلا ولا ذمة. لا ننكر شيئاً من ذلك كله ولا نهمله في سياق تقييم الأحداث والأشخاص، ولكننا لا نقلب المعادلة ولا نعكس السياق، فلولا تلك الأنظمة الموغلة في الإجرام ما كانت تلك الأحداث ولا كان ما ترتب عليها من آلام، فالنظام العربيّ كله - وهي جزء منه لا تتخلى عنه ولا يتخلى عنها - بكل مؤسساته الأمنية والاستخباراتية والسياسية، وبجميع علاقاته وتواصلاته مع النظام الدولي والكيان الصهيوني؛ كان هو الصانع لكل هذه المخالفات والانحرافات؛ لتكون مدخلاً للالتفاف على ثورة الشعوب، ولم تكن تلك الشخصيات وتلك الكيانات إلا آلات يحركها وسهاماً يرمي بها؛ فإذا كان عليها جزء من الوزر وقدر من الذنب؛ فعلى عاتق تلك الأنظمة يقع الوزر الأكبر والذنب الأعظم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّها هي التي غرست من قبل الفرقة بين المسملين وكرست الخصومة بين فصائلهم، وجَرَّفت الخبرات السياسية والأمنية، وعطلت العلماء عن القيام بدورهم في الإرشاد والتوجيه، وفتحت ديار الإسلام لكل عابث من أجهزة مخابرات الأمم المعادية، وسَلَّمت بلادنا بكل مقدراتها ومقررات شعوبها إلى العدو؛ لم يعد من المعقول ولا المقبول أن نترحم عليها، وننسى أنَّها كانت بكل شرورها وآثامها مرحلة أفضت لما نحن فيه. وَثَمَّ حقيقة ثانية، وهي أنّ عسكرة الثورة في سوريا وليبيا واليمن وغيرها لم تأت عبر قرار ابتدأته الثورة كلياً أو جزئياً، مجانِبَةً به أهلَ الحق أو حائِدَةً به عن الصواب، وإنَّما جاءت كرد فعل للعنف المستمر المتصاعد من قبل الأنظمة، التي بدت أنَّها لن تتراجع حتى تكسر الثورة أو تجعلها تستسلم، ولو أنّ سؤالاً طرحه الناس على أنفسهم، مؤداه: هب أنّ الثورة استمرت في سوريا أو ليبيا - مثلاً - سلمية فهل كان المنتظر أن يسقط النظام أو يتراجع؟ لكانت الإجابة بنسبة لا تقل عن تسعين بالمائة بالنفي البات، ولو أنّ النظام العسكري الحاكم في مصر لم يكن يخطط لاستيعاب الثورة وامتصاصها لكان ما جرى في سوريا وليبيا هو ذاته ما جرى في مصر، ولاجتاحت الدبابات ميدان التحرير في ساعات قليلة؛ ذلك لأنّ هذه الأنظمة هي الاحتلال ذاته، لكنه في طور مختلف عمّا سبق، فالثورة ضدها في واقع الأمر معركة تحرير، بدأت سلمية وانتهت بالدماء والكوارث، التي اختصت في مصر أهل الحق والدفع وحدهم وعمت في سوريا وليبيا وغيرها أهل الحق والدفع ومعهم كل من يكون ظهيرا لهم من الشعب. قد يقال: إنّ الأنظمة أطلقت سراح المأسورين من الإسلاميين لتحقق غايتها في عسكرة الثورة؛ لتتخذ من ذلك مبرراً لسحقها، وليس هذا - للإنصاف - ببعيد، ولكنه ليس هو السبب الفاعل لاستمرار النظام في مسلسل الإجرام، كما أنَّ انعدام هذا السبب لم يكن ليمنع النظام من مواصلة الإجرام، وغاية ما هنالك أنَّها محاولة لإيجاد مبرر يحفظ ماء الوجه ويسقط الاتهام على الآخرين، ولو لم يكن هذا المبرر موجودا لخلق من المبررات ما يكفي ويفي، وهذا بذاته لا يجعل الإسلاميين هؤلاء في موضع التهمة، وإن كان الإعلام العالميّ يريد أن يخرج الصورة على هذا النحو، ليصرفنا عن سبيل التحرير الوحيد وهو الجهاد الرشيد، وليصرفنا كذلك عن وضع المؤشر على الداء الذي تمثل في أمرين اثنين لم يكن الجهاد ذاته واحداً منهما، الأول هو تفرق كلمة المجاهدين، والثاني هو ممارستهم للجهاد عبر ردود أفعال مرتجلة وليس عبر مشروع واضح المعالم، يتولى الإشراف عليه كبار الأمة الذين ينسب إليهم جل الكوارث التي حلت بها. وإنَّها لكارثة إنسانية كبرى لم يشهد التاريخ مثلها حلت على الشعب السوريّ، حيث وقع بيد النظام ما وقع من قتل واغتصاب وتعذيب وتغريب، وهدم لوطن كان يؤوي مواطنيه ويظللهم بدفئه وحنانه، وإنَّها لجريمة كذلك في حق الشعب السوريّ أن يتوارى كثيرون ممن ينتسبون للجهاد خلف راياته وفصائله ليصلوا إلى مآربهم عابرين على الأشلاء أو سابحين في الدماء، لكن هذه الجريمة البشعة لا تنسب إلى الجهاد ولا إلى المجاهدين، وإنَّما تنسب إلى النظام العربيّ الذي هو في الحقيقة حذاء النظام الدولي، ذلك النظام اخترق بماله الذي سرقه من مقدرات الأمة وبترولها، وبأجهزة مخابراته التي ما فتئت تبث الفتن، اخترق جدار العمل الثوري الجهادي بشخصيات ومجموعات صعدت فوق تلال الموتى لتبني أمجاداً، كل هذا جرى في غيبة الكبار وانعدام الرؤية. وإذا كان هناك وطن تَهَدَّم وحياة في هذا الوطن انصرم أجلها وشعوب أحدق بها الموت وأقوات تبددت ومعايش تبعثرت ومدن وقرى أقفرت من ساكنيها، وغير ذلك مما تبدل حاله وساء مآله؛ فالمسئول عنه هو النظام وحده، فهو الذي عليه وزر هدمه وليس له أجر بنائه، لأنّه قد تبين أنه ما بناه إلا ليهدمه عندما لا يكون على هواه وحسبما يقتضيه مزاجه المتخلف المتعجرف، فنظام الأسد بنى سوريا - إن صح أنَّه بناها وما نقول ذلك إلا افتراضا وتنزلا - لتكون مملكة الأسد وليكون من فيها عبيدا له، فلما أرادوا أن يتحرروا هدمها فوق رؤوسهم ولا يبالي، وهكذا صنع القذافي وعلي صالح وصدام، كلٌّ يفعل الشيء ذاته ولكن بأسلوبه وطريقته، وهكذا سيفعل كل طاغية من طغاة العرب ببلده؛ فهل سيتوقف قطار التغيير؟ لن يتوقف حتى ولو شئنا نحن ذلك؛ لأنها سنة الحياة ونظام الكون. ووراء ما مضى حقيقة هي الثالثة، وهي أنّ مشروع التقسيم مشروع قديم، وخطة إعادة ترتيب المنطقة الإسلامية على أسس عرقية وإثنية موضوعة على مكتب النظام الدوليّ، ولو لم تكن الأحداث الحالية مدخلا لها وذريعة لابتداء التنفيذ لخلقوا هم بأنفسهم المداخل والذرائع، كما فعلوا بالعراق من قبل؛ حيث ورطوها فيما تورطت فيها ليجدوا المبرر للاحتلال المباشر والتقسيم الحتميّ، فأريحوا أنفسكم من جلد الذات والتفتوا لما يجب فعله لمواجهة المخاطر الجسام واللأهوال العظام، فهذا العالم لا يصبر علينا ولا يعطي نفسه هدنة، وإنّه لجاد وإنَّه لمتعجل؛ فهل نحن منتهون عن هذه الجدليات الفارغة؟! ومنتصبون للمواجهة وماضون في طريقنا؟! أم سنظل نعبث في هذه المتقابلات التي تشبه لعب (الكوتشينة)؟!
معضلة الجهاد وحفظ أرواح العباد (2)

د. عطية عدلان

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل هي حقَّاً معضلة؟ أم إنَّ الإعضال كسب أيدينا وثمرة أقوالنا وأفعالنا ومواقفنا؟ لقد حار الخلق واضطربت تقديراتهم في الترجيح بين إبقاء الاستبداد وبين إفناء العباد، في الموازنة بين إمضاء الجهاد وبين الإبقاء على أرواح العباد، فشرقوا وغربوا وأسرفوا في الذهاب عبر أودية موحشة وقفار مهلكة، حتى كفَّرَ الغادي منهم الرائح، وسَفَّه الذاهب منهم الآيب، وغدا الكل متربصاً بالكل وقاعداً لهم بكل سبيل!!

ولا أحسب الانسياق مع هذه التدافعات والانصياع لهذه التجاذبات إلا وقوعاً في فخ كبير خطير؛ فإنَّه لخطورته ووعورته ليشغل الواقعين في شَرَكِه عن الخلاص والفكاك بمزيد من التدافع والارتباك؛ لذا يتوجب علينا أن يكون سبيلنا معه كسبيل هؤلاء الذين (إذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً) الذين (إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).

إنَّنا يا قومنا نحسن لفّ العصائب على أعيننا والسلاسل حول أرجلنا؛ لنعجز عن الرؤية والحركة معاً، وكأننا بذلك ننشد الراحة ونلوذ بأحضان اليأس والقنوط، ونلتمس العزاء في اقتيات هذه المهاترات: الاستبداد أم الإرهاب؟ الجهاد أم حفظ أرواح العباد؟ الشريعة أم الحرية؟ الاستقرار أم الثورة والتغيير؟ مصلحة الدعوة أم مصلحة الدولة؟ وحول هذه الأكواخ الكلامية الكئيبة تنبت تساؤلات كفسائل الصبار في خصوبة مظهرها وعقم مخبرها، مِنْ مِثْل هذه: أين نحن من عهد ما قبل الربيع العربيّ؟ ألم نكن نعيش في أمن ولو بشيء من ضيق العيش؟ ونمارس الدعوة ولو بقدر من التضييق والتنغيص؟ أين نحن الآن مما كنا فيه، وأين منَّا أياماً لم نعد نحلم بمثل أنكدها وأظلمها؟ ما الذي جناه الناس من الثورات؟

وعلى شفير هذا الشَرَك الكبير يقف أناس يحملون في حجورهم حجارة يرشقون بها المتلبطين في الأوحال: "ما أفسد الثورة السورية إلا العسكرة والعنف" "ما جنت حماس من مقاومتها إلا الخراب على شعب غزة" "ها هي ليبيا صارت مرتعاً للقوى الأجنبية تتلاعب بفصائل الثورة" "أنظروا إلى اليمن السعيد وما حلً به" "قارنوا بين العراق في عهد صدام والعراق الآن" "يا ليت لنا يوماً واحداً من أيام مبارك" "كل الحركات الجهادية باءت بالفشل وجرت على الأمة الويلات" "جميع التجارب الإسلامية في ميدان السياسة لم يحالفها التوفيق" وغير ذلك من الجمل والعبارات التي تفوق في تدميرها القنابل والدبابات.

وفي البدء يجب أن نقر - بموضوعية وحيادية - أنّ هذه التساؤلات يفرضها الواقع، وليست في ذاتها نائية عن المشروعية والعقلانية، وإنّما الأزمة تتمثل في كونها تثار في غيبة الثوابت التي بدونها تبقى هذه المقولات سائبة هائمة كحبال بلا أوتاد أو خيمة بلا عماد؛ لذلك يتوجب علينا أن نعمد إلى الثوابت فنحررها و(نبلورها) لتتولى هي بذاتها تفسير هذه المعضلات وحل (شفرتها).

ويأتي على رأس الثوابت هذه الحقيقة التي يقررها الواقع ويشهد لها التاريخ، الحقيقة التي ننساها أو نغفل عنها مع اشتداد الأزمات وتلاحق المصائب، وهي أنَّ هذه الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، والتي لم تكن تمثل شعوبها إلا بقدر ما كان يمثلها مندوبو الاحتلال في دويلات الوطن العربيّ المقسم، والتي ظلت طوال حكمها تقوم بوظيفتها كوكيل عن الاحتلال الأجنبي؛ هذه الأنظمة المجرمة المخربة هي المسئولة عن كل ما جرى وما يجري؛ فلولا ظلمها وقمعها واستبدادها بالأمور واستعبادها للشعوب وممالأتها لكل عدو للأمة ولدينها وعقيدتها ما ثارت الشعوب ولا وقعت تلك المحن والخطوب، ولولا مواجهتها للشعوب الثائرة بالقوة الغاشمة ما خرجت الثورة عن طابعها السلميّ الذي بدأت به ولا انحرفت عنه قيد شعرة، ولولا إيغالها في القتل والتشريد والتعذيب والترهيب ما انحدرت البلاد إلى ما انحدرت إليه، فلا تلوموا - إن كنتم منصفين - إلا هذه الأنظمة العميلة ومن يقفون وراءها.

لا ننكر أنَّ هنالك قدراً من اللوم كبيراً يوجه إلى فئات ممن ينتسبون للتيار الإسلاميّ؛ لكونهم تفرقوا وتنازعوا؛ مما أفضى إلى تأخر الظفر بالعدو، ومنح الفرصة لجيوب مدخولة من المتطرفين كالدواعش في سوريا والعراق والمداخلة في ليبيا؛ ليكون لها دور في صناعة الأحداث وإرباك المشهد برمته، وقدراً آخر غير قليل يوجه إلى الأحزاب السياسية والجماعات الدعوية لضعف فهمها وقلة وعيها وانخرام منهجيتها في التعامل مع الأنظمة القديمة الساقطة ومن يتحالف معها، وفي التعاطي مع التدافعات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي، إضافة إلى بروز حفنة من الشخصيات المتسلقة الطموحة التي رغبت في الوصول على متن الثورة؛ فامتطت ظهرها، ومدت حبالها مع متآمرين في بلاد لا ترقب فينا إلا ولا ذمة.

لا ننكر شيئاً من ذلك كله ولا نهمله في سياق تقييم الأحداث والأشخاص، ولكننا لا نقلب المعادلة ولا نعكس السياق، فلولا تلك الأنظمة الموغلة في الإجرام ما كانت تلك الأحداث ولا كان ما ترتب عليها من آلام، فالنظام العربيّ كله - وهي جزء منه لا تتخلى عنه ولا يتخلى عنها - بكل مؤسساته الأمنية والاستخباراتية والسياسية، وبجميع علاقاته وتواصلاته مع النظام الدولي والكيان الصهيوني؛ كان هو الصانع لكل هذه المخالفات والانحرافات؛ لتكون مدخلاً للالتفاف على ثورة الشعوب، ولم تكن تلك الشخصيات وتلك الكيانات إلا آلات يحركها وسهاماً يرمي بها؛ فإذا كان عليها جزء من الوزر وقدر من الذنب؛ فعلى عاتق تلك الأنظمة يقع الوزر الأكبر والذنب الأعظم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّها هي التي غرست من قبل الفرقة بين المسملين وكرست الخصومة بين فصائلهم، وجَرَّفت الخبرات السياسية والأمنية، وعطلت العلماء عن القيام بدورهم في الإرشاد والتوجيه، وفتحت ديار الإسلام لكل عابث من أجهزة مخابرات الأمم المعادية، وسَلَّمت بلادنا بكل مقدراتها ومقررات شعوبها إلى العدو؛ لم يعد من المعقول ولا المقبول أن نترحم عليها، وننسى أنَّها كانت بكل شرورها وآثامها مرحلة أفضت لما نحن فيه.

وَثَمَّ حقيقة ثانية، وهي أنّ عسكرة الثورة في سوريا وليبيا واليمن وغيرها لم تأت عبر قرار ابتدأته الثورة كلياً أو جزئياً، مجانِبَةً به أهلَ الحق أو حائِدَةً به عن الصواب، وإنَّما جاءت كرد فعل للعنف المستمر المتصاعد من قبل الأنظمة، التي بدت أنَّها لن تتراجع حتى تكسر الثورة أو تجعلها تستسلم، ولو أنّ سؤالاً طرحه الناس على أنفسهم، مؤداه: هب أنّ الثورة استمرت في سوريا أو ليبيا - مثلاً - سلمية فهل كان المنتظر أن يسقط النظام أو يتراجع؟ لكانت الإجابة بنسبة لا تقل عن تسعين بالمائة بالنفي البات، ولو أنّ النظام العسكري الحاكم في مصر لم يكن يخطط لاستيعاب الثورة وامتصاصها لكان ما جرى في سوريا وليبيا هو ذاته ما جرى في مصر، ولاجتاحت الدبابات ميدان التحرير في ساعات قليلة؛ ذلك لأنّ هذه الأنظمة هي الاحتلال ذاته، لكنه في طور مختلف عمّا سبق، فالثورة ضدها في واقع الأمر معركة تحرير، بدأت سلمية وانتهت بالدماء والكوارث، التي اختصت في مصر أهل الحق والدفع وحدهم وعمت في سوريا وليبيا وغيرها أهل الحق والدفع ومعهم كل من يكون ظهيرا لهم من الشعب.

قد يقال: إنّ الأنظمة أطلقت سراح المأسورين من الإسلاميين لتحقق غايتها في عسكرة الثورة؛ لتتخذ من ذلك مبرراً لسحقها، وليس هذا - للإنصاف - ببعيد، ولكنه ليس هو السبب الفاعل لاستمرار النظام في مسلسل الإجرام، كما أنَّ انعدام هذا السبب لم يكن ليمنع النظام من مواصلة الإجرام، وغاية ما هنالك أنَّها محاولة لإيجاد مبرر يحفظ ماء الوجه ويسقط الاتهام على الآخرين، ولو لم يكن هذا المبرر موجودا لخلق من المبررات ما يكفي ويفي، وهذا بذاته لا يجعل الإسلاميين هؤلاء في موضع التهمة، وإن كان الإعلام العالميّ يريد أن يخرج الصورة على هذا النحو، ليصرفنا عن سبيل التحرير الوحيد وهو الجهاد الرشيد، وليصرفنا كذلك عن وضع المؤشر على الداء الذي تمثل في أمرين اثنين لم يكن الجهاد ذاته واحداً منهما، الأول هو تفرق كلمة المجاهدين، والثاني هو ممارستهم للجهاد عبر ردود أفعال مرتجلة وليس عبر مشروع واضح المعالم، يتولى الإشراف عليه كبار الأمة الذين ينسب إليهم جل الكوارث التي حلت بها.

وإنَّها لكارثة إنسانية كبرى لم يشهد التاريخ مثلها حلت على الشعب السوريّ، حيث وقع بيد النظام ما وقع من قتل واغتصاب وتعذيب وتغريب، وهدم لوطن كان يؤوي مواطنيه ويظللهم بدفئه وحنانه، وإنَّها لجريمة كذلك في حق الشعب السوريّ أن يتوارى كثيرون ممن ينتسبون للجهاد خلف راياته وفصائله ليصلوا إلى مآربهم عابرين على الأشلاء أو سابحين في الدماء، لكن هذه الجريمة البشعة لا تنسب إلى الجهاد ولا إلى المجاهدين، وإنَّما تنسب إلى النظام العربيّ الذي هو في الحقيقة حذاء النظام الدولي، ذلك النظام اخترق بماله الذي سرقه من مقدرات الأمة وبترولها، وبأجهزة مخابراته التي ما فتئت تبث الفتن، اخترق جدار العمل الثوري الجهادي بشخصيات ومجموعات صعدت فوق تلال الموتى لتبني أمجاداً، كل هذا جرى في غيبة الكبار وانعدام الرؤية.

وإذا كان هناك وطن تَهَدَّم وحياة في هذا الوطن انصرم أجلها وشعوب أحدق بها الموت وأقوات تبددت ومعايش تبعثرت ومدن وقرى أقفرت من ساكنيها، وغير ذلك مما تبدل حاله وساء مآله؛ فالمسئول عنه هو النظام وحده، فهو الذي عليه وزر هدمه وليس له أجر بنائه، لأنّه قد تبين أنه ما بناه إلا ليهدمه عندما لا يكون على هواه وحسبما يقتضيه مزاجه المتخلف المتعجرف، فنظام الأسد بنى سوريا - إن صح أنَّه بناها وما نقول ذلك إلا افتراضا وتنزلا - لتكون مملكة الأسد وليكون من فيها عبيدا له، فلما أرادوا أن يتحرروا هدمها فوق رؤوسهم ولا يبالي، وهكذا صنع القذافي وعلي صالح وصدام، كلٌّ يفعل الشيء ذاته ولكن بأسلوبه وطريقته، وهكذا سيفعل كل طاغية من طغاة العرب ببلده؛ فهل سيتوقف قطار التغيير؟ لن يتوقف حتى ولو شئنا نحن ذلك؛ لأنها سنة الحياة ونظام الكون.

ووراء ما مضى حقيقة هي الثالثة، وهي أنّ مشروع التقسيم مشروع قديم، وخطة إعادة ترتيب المنطقة الإسلامية على أسس عرقية وإثنية موضوعة على مكتب النظام الدوليّ، ولو لم تكن الأحداث الحالية مدخلا لها وذريعة لابتداء التنفيذ لخلقوا هم بأنفسهم المداخل والذرائع، كما فعلوا بالعراق من قبل؛ حيث ورطوها فيما تورطت فيها ليجدوا المبرر للاحتلال المباشر والتقسيم الحتميّ، فأريحوا أنفسكم من جلد الذات والتفتوا لما يجب فعله لمواجهة المخاطر الجسام واللأهوال العظام، فهذا العالم لا يصبر علينا ولا يعطي نفسه هدنة، وإنّه لجاد وإنَّه لمتعجل؛ فهل نحن منتهون عن هذه الجدليات الفارغة؟! ومنتصبون للمواجهة وماضون في طريقنا؟! أم سنظل نعبث في هذه المتقابلات التي تشبه لعب (الكوتشينة)؟!
‏٢١‏/٠١‏/٢٠١٩ ٦:٤٥ م‏
دليل للعمل (مترجم من من دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد) مركز حازم للترجمة [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] التقييم أثناء التخطيط: تحليل أداء المهمة - تعرف على السكان، والطبوغرافية، والاقتصاد، والتاريخ، والدين، والثقافة في منطقة العمليات. واعرف كل قرية، وطريق، وحقل، ومجموعة سكانية، وزعيم قبلي، ومجموعة سكانية، وعلى الشكاوى والمظالم القديمة. وكن خبيراً بتلك الأمور. فإذا كانت وجهتك الدقيقة غير معروفة، فادرس المنطقة بشكل عام. وركز على وجهتك المقصودة عندما يتم تحديدها. وتأكد من استخدام القادة وهيئة الأركان للشبكة السرية لبروتوكول الإنترنت (شبكة سرية تستخدمها وزارة الدفاع الأمريكية لنقل المعلومات السرية عبر النقل على شبكة مؤمنّة) كي يغمروا أنفسهم فعلياً في منطقة العمليات التي تنتشر فيها الوحدة. وتفهم العوامل الرئيسية في المناطق المجاورة لمسرح العمليات، وبيئة المعلومات التي يمكن أن تؤثر على مناطق العمليات. قد تبدو هذه الأمور كثيرة وثقيلة، خاصة عندما يعتمد المتمردون على مظالم عالمية. - اقرأ الخريطة كما تقرأ كتاباً. وادرسها كل ليلة قبل النوم، وأعد رسمها من الذاكرة كل صباح. افعل ذلك حتى تصبح عادة لديك. وطور نموذجاً ذهنياً لمنطقة العمليات. واستخدمه كإطار تضع فيه كل معلومة جديدة. - ادرس ملاحظات التسلم والتسليم من أسلافك. ومن الأفضل أن تتواصل مع أفراد الوحدة الموجودة في الميدان، وخذ منهم النصح والمعلومات. ففي العالم المثالي، يقدم ضباط الاستخبارات وخبراء المنطقة تقارير معلومات "موجزة". وربما لا يحدث ذلك. وحتى إن حدث، فلا يوجد بديل عن المهارة الشخصية. - الأمر يتطلب أن يقوم كل قائد مرؤوس بما في ذلك ضباط الصف، بالتخصص في بعض الجوانب بمنطقة العمليات، وإطلاع الآخرين على ما وصل له. تحليل المشكلة -معرفة منطقة العمليات توفر الأساس لتحليل المشكلة. من هم المتمردون؟ ما الذي يحثهم على التمرد؟ ما الذي يجعل القادة المحليين يتخذون هذا السلوك أو ذاك؟. فالتمرد هو في الأساس تنافس بين العديد من المجموعات. ويسعى كل منها إلى تعبئة السكان لدعم جدول أعماله. ولذلك، فإن عمليات مكافحة التمرد دائماً ما يكون لها أكثر من جانبين. - تفهم ما يحفز الناس وكيفية تعبئتهم. فمعرفة أسباب وكيفية حصول المتمردين على الأتباع أمر أساسي. وهذا يتطلب معرفة العدو الحقيقي، وليس العدو الوهمي. فالمتمردون قادرون على التكيف، وواسعو الحيلة، وهم على الأرجح من المنطقة، ويعرفهم السكان المحليون منذ كانوا صغار السن. بينما تُعتبر قوات الولايات المتحدة دخيلة وغريبة . كما أن أسوأ الخصوم ليسوا الإرهابيين المختلين نفسياً الذين يظهرون في الأفلام السينمائية، بل على الأرجح، هم مقاتلون كاريزميون سيتفوقون في العمل عند ضمهم الى أي قوات مسلحة. وليس بالضرورة أن يكون المتمردون مخدوعين أو سذج. فقد يعود الكثير من نجاحهم إلى السياسات الحكومية السيئة أو قوات الأمن التي ينفر منها السكان المحليون. - اعمل على حل المشكلة بشكل جماعي مع قادتك المرؤوسين. وناقش الأفكار واستكشف الحلول الممكنة. وبمجرد فهم القادة للموقف، حاول التوصل إلى إجماع بخصوص كيفية معالجته. وإذا كان هذا يبدو غير عسكري، فتجاوزه. وتساعد هذه المناقشات المرؤوسين على فهم غرض القائد. وبمجرد التواجد في مسرح العمليات، سوف تبرز المواقف والأوضاع التي تتطلب عملاً مباشراً لتنفيذ الأوامر بسرعة. وسيحتاج المرؤوسون إلى المبادرة، والتصرف على أساس غرض القائد عبر المعرفة التي طوروها. وسيتعين على العرفاء والجنود اتخاذ قرارات سريعة قد تنتج عنها أعمال ذات عواقب استراتيجية. وتتطلب تلك الظروف تفهما مشتركا للموقف. كما تتطلب أيضا مناخاً قيادياً يشجع المرؤوسين على تقييم الموقف، والتصرف على ضوئه، وتقبل المسئولية عن تصرفاتهم. الإعداد - الإعداد هو الأنشطة التي تقوم بها الوحدة قبل تنفيذ المهمة لتحسين قدرتها على إجراء العملية، وتتضمن على سبيل المثال لا الحصر العناصر التالية: تنقيح الخطة، وإجراء التمارين، والاستطلاع، والتنسيق، والتفتيش، والتحرك. وبالمقارنة مع العمليات التقليدية، نجد أن الاستعداد لعمليات مكافحة التمرد يتطلب مزيداً من التركيز على تنظيم الاستخبارات، والعمل مع الهيئات غير العسكرية. كما تتطلب هذه العمليات أيضاً المزيد من التشديد على إعداد قادة الوحدات الصغرى لتحمل المزيد من المسؤولية، والاحتفاظ بالمرونة. تنظيم عمل الاستخبارات -غالباً ما تكمل الاستخبارات والعمليات بعضهما البعض، وبالأخص في عمليات مكافحة التمرد. فعمليات مكافحة التمرد تُقاد بواسطة الاستخبارات، وغالباً ما تطور الوحدات الاستخبارات الخاصة. ويجب على القادة تنظيم مواردهم للقيام ذلك. - ربما تحتاج كل سرية إلى قسم للاستخبارات، يتألف من محللين وفرد يتم تعيينه كضابط ركن استخبارات. وقد يتعين على قادة الفصائل أيضاً تعيين أفراد لأداء وظائف الاستخبارات والعمليات. ومن الضروري أيضاً توفر عنصر الاستطلاع والمراقبة. وتوفير هذه المناصب وتشكيلها لا يكون متاحاً عادة، ولكن لا يزال من الضروري للسرايا أداء هذه المهام. ضع أذكى الجنود أو عناصر مشاة البحرية في قسم الاستخبارات وضمن عنصر الاستطلاع والمراقبة. فهذا التكليف لن يؤدي إلى خفض السرية المقاتلة بأكثر من فرد واحد، ولكن الفائدة التي تُجنى من قسم الاستخبارات والمتمثلة في حفظ الأرواح والمجهود تفوق النتائج المتوخاة . -لا يوجد عادة عدد كاف من المتخصصين اللغوين. ويدرس القادة بعناية أفضل الطرق لاستخدامهم. ويمثل أصحاب الكفاءات اللغوية أصولاً رابحة في المعركة، ولكنهم كأي مورد نادر آخر، يجب أن يستخدمهم القادة بعناية. وقد يتمثل أفضل استخدام قبل الانتشار لمن يتقنون اللغة الأجنبية في تعليمهم الجنود ومشاة البحرية المهارات اللغوية الأساسية.
دليل للعمل
(مترجم من من دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد)

مركز حازم للترجمة

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

التقييم أثناء التخطيط: تحليل أداء المهمة
- تعرف على السكان، والطبوغرافية، والاقتصاد، والتاريخ، والدين، والثقافة في منطقة العمليات. واعرف كل قرية، وطريق، وحقل، ومجموعة سكانية، وزعيم قبلي، ومجموعة سكانية، وعلى الشكاوى والمظالم القديمة. وكن خبيراً بتلك الأمور. فإذا كانت وجهتك الدقيقة غير معروفة، فادرس المنطقة بشكل عام. وركز على وجهتك المقصودة عندما يتم تحديدها.
وتأكد من استخدام القادة وهيئة الأركان للشبكة السرية لبروتوكول الإنترنت (شبكة سرية تستخدمها وزارة الدفاع الأمريكية لنقل المعلومات السرية عبر النقل على شبكة مؤمنّة) كي يغمروا أنفسهم فعلياً في منطقة العمليات التي تنتشر فيها الوحدة. وتفهم العوامل الرئيسية في المناطق المجاورة لمسرح العمليات، وبيئة المعلومات التي يمكن أن تؤثر على مناطق العمليات. قد تبدو هذه الأمور كثيرة وثقيلة، خاصة عندما يعتمد المتمردون على مظالم عالمية.
- اقرأ الخريطة كما تقرأ كتاباً. وادرسها كل ليلة قبل النوم، وأعد رسمها من الذاكرة كل صباح. افعل ذلك حتى تصبح عادة لديك. وطور نموذجاً ذهنياً لمنطقة العمليات. واستخدمه كإطار تضع فيه كل معلومة جديدة.
- ادرس ملاحظات التسلم والتسليم من أسلافك. ومن الأفضل أن تتواصل مع أفراد الوحدة الموجودة في الميدان، وخذ منهم النصح والمعلومات. ففي العالم المثالي، يقدم ضباط الاستخبارات وخبراء المنطقة تقارير معلومات "موجزة". وربما لا يحدث ذلك. وحتى إن حدث، فلا يوجد بديل عن المهارة الشخصية.
- الأمر يتطلب أن يقوم كل قائد مرؤوس بما في ذلك ضباط الصف، بالتخصص في بعض الجوانب بمنطقة العمليات، وإطلاع الآخرين على ما وصل له.

تحليل المشكلة
-معرفة منطقة العمليات توفر الأساس لتحليل المشكلة. من هم المتمردون؟ ما الذي يحثهم على التمرد؟ ما الذي يجعل القادة المحليين يتخذون هذا السلوك أو ذاك؟. فالتمرد هو في الأساس تنافس بين العديد من المجموعات. ويسعى كل منها إلى تعبئة السكان لدعم جدول أعماله. ولذلك، فإن عمليات مكافحة التمرد دائماً ما يكون لها أكثر من جانبين.
- تفهم ما يحفز الناس وكيفية تعبئتهم. فمعرفة أسباب وكيفية حصول المتمردين على الأتباع أمر أساسي. وهذا يتطلب معرفة العدو الحقيقي، وليس العدو الوهمي. فالمتمردون قادرون على التكيف، وواسعو الحيلة، وهم على الأرجح من المنطقة، ويعرفهم السكان المحليون منذ كانوا صغار السن. بينما تُعتبر قوات الولايات المتحدة دخيلة وغريبة . كما أن أسوأ الخصوم ليسوا الإرهابيين المختلين نفسياً الذين يظهرون في الأفلام السينمائية، بل على الأرجح، هم مقاتلون كاريزميون سيتفوقون في العمل عند ضمهم الى أي قوات مسلحة. وليس بالضرورة أن يكون المتمردون مخدوعين أو سذج. فقد يعود الكثير من نجاحهم إلى السياسات الحكومية السيئة أو قوات الأمن التي ينفر منها السكان المحليون.
- اعمل على حل المشكلة بشكل جماعي مع قادتك المرؤوسين. وناقش الأفكار واستكشف الحلول الممكنة. وبمجرد فهم القادة للموقف، حاول التوصل إلى إجماع بخصوص كيفية معالجته. وإذا كان هذا يبدو غير عسكري، فتجاوزه. وتساعد هذه المناقشات المرؤوسين على فهم غرض القائد.
وبمجرد التواجد في مسرح العمليات، سوف تبرز المواقف والأوضاع التي تتطلب عملاً مباشراً لتنفيذ الأوامر بسرعة. وسيحتاج المرؤوسون إلى المبادرة، والتصرف على أساس غرض القائد عبر المعرفة التي طوروها. وسيتعين على العرفاء والجنود اتخاذ قرارات سريعة قد تنتج عنها أعمال ذات عواقب استراتيجية. وتتطلب تلك الظروف تفهما مشتركا للموقف. كما تتطلب أيضا مناخاً قيادياً يشجع المرؤوسين على تقييم الموقف، والتصرف على ضوئه، وتقبل المسئولية عن تصرفاتهم.

الإعداد
- الإعداد هو الأنشطة التي تقوم بها الوحدة قبل تنفيذ المهمة لتحسين قدرتها على إجراء العملية، وتتضمن على سبيل المثال لا الحصر العناصر التالية: تنقيح الخطة، وإجراء التمارين، والاستطلاع، والتنسيق، والتفتيش، والتحرك. وبالمقارنة مع العمليات التقليدية، نجد أن الاستعداد لعمليات مكافحة التمرد يتطلب مزيداً من التركيز على تنظيم الاستخبارات، والعمل مع الهيئات غير العسكرية. كما تتطلب هذه العمليات أيضاً المزيد من التشديد على إعداد قادة الوحدات الصغرى لتحمل المزيد من المسؤولية، والاحتفاظ بالمرونة.

تنظيم عمل الاستخبارات
-غالباً ما تكمل الاستخبارات والعمليات بعضهما البعض، وبالأخص في عمليات مكافحة التمرد. فعمليات مكافحة التمرد تُقاد بواسطة الاستخبارات، وغالباً ما تطور الوحدات الاستخبارات الخاصة. ويجب على القادة تنظيم مواردهم للقيام ذلك.
- ربما تحتاج كل سرية إلى قسم للاستخبارات، يتألف من محللين وفرد يتم تعيينه كضابط ركن استخبارات. وقد يتعين على قادة الفصائل أيضاً تعيين أفراد لأداء وظائف الاستخبارات والعمليات. ومن الضروري أيضاً توفر عنصر الاستطلاع والمراقبة. وتوفير هذه المناصب وتشكيلها لا يكون متاحاً عادة، ولكن لا يزال من الضروري للسرايا أداء هذه المهام.
ضع أذكى الجنود أو عناصر مشاة البحرية في قسم الاستخبارات وضمن عنصر الاستطلاع والمراقبة. فهذا التكليف لن يؤدي إلى خفض السرية المقاتلة بأكثر من فرد واحد، ولكن الفائدة التي تُجنى من قسم الاستخبارات والمتمثلة في حفظ الأرواح والمجهود تفوق النتائج المتوخاة .
-لا يوجد عادة عدد كاف من المتخصصين اللغوين. ويدرس القادة بعناية أفضل الطرق لاستخدامهم. ويمثل أصحاب الكفاءات اللغوية أصولاً رابحة في المعركة، ولكنهم كأي مورد نادر آخر، يجب أن يستخدمهم القادة بعناية. وقد يتمثل أفضل استخدام قبل الانتشار لمن يتقنون اللغة الأجنبية في تعليمهم الجنود ومشاة البحرية المهارات اللغوية الأساسية.
‏١٩‏/٠١‏/٢٠١٩ ٨:١٥ م‏
مفهوم الجهاد العالمي بين المناصرة والمهاجرة عزام وبن لادن كرم الحفيان [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] مقدمة نواصل معاً استعراض الفوارق المنهجية بين طريقة عزام وطريقة بن لادن في الجهاد، ونخصص هذه المقالة لاستعراض تفاصيل القضية المشتركة الأشهر بينهما، التي جعلت الكثيرين يعتقدون تطابق النموذجين أو على الأقل تقاربهما، وهي قضية "الجهاد العالمي". ونلفت عناية القراء الأعزاء إلى أن هذه الورقة سيغلب عليها طابع الدراسة الوصفية التوثيقية دون الدخول في تحليلات لا يتسع المقام للاستطراد فيها. ملامح الجهاد العالمي عند عزام بادئ ذي بدء يتمحور البرنامج الجهادي المعولم عند عزام حول كيفية مؤازرة مشاريع المقاومات الإسلامية في المناطق الملتهبة، وذلك من خلال حشد الدعم الإنساني والإعلامي والخبراتي والعسكري (المجاهدين المتطوعين)، وصهره ضمن جميع الجماعات المجاهدة، مع السعي لتوحيد صفوفهم، والتحذير من المشاركة في صراعاتهم، فضلاً عن الاستقلال بمشروع سياسي جهادي يتجاوز الخطوط العريضة لخططهم وأهدافهم، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "جهاد المناصرة". "نحن ما أنشأنا منظمة جديدة، نحن أنشأنا مكتباً لخدمات الجهاد.. مكتب الخدمات وظيفته خدمة جميع الأحزاب الجهادية في داخل أفغانستان" . ثم تحدث بإسهاب عن أهداف المكتب الرئيسية فعدد منها: إيصال المساعدات الإنسانية، وطبع المصاحف والكتب العلمية والتعليمية ونشرها داخل أفغانستان، واستقطاب الشباب من كافة التيارات والجماعات الإسلامية العربية وتوزيعهم بين سائر الأحزاب الأفغانية المجاهدة، كي يقوموا بعدة أدوار هامة (إضافةً إلى قتال الشيوعيين والمحتلين الروس)، في مقدمتها: الإصلاح ومنع الاقتتال، وتقديم القدوة لإيقاف هجرة الأفغان للخارج، ناهيك عن بعض الأنشطة التعليمية . وعندما سُئل عن الوجهة القادمة بعد تحرير أفغانستان، أجاب قائلاً: "إن شاء الله ربنا يفتح لنا باباً في الفلبين، في اليمن الجنوبي لتحريرها من الشيوعيين، في أي مكان.. لكن إن شاء الله فلسطين هي المرشحة الأولى لتكون معترك جهادنا ومحط أنظارنا" . وكان هذا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وظهور حركة حماس قوةً صاعدة مؤثرة في الشارع الفلسطيني. ورغم أنه كان لا يخفي أمنيته في أن تتحول أفغانستان إلى منطلق لتحرير العالم الإسلامي بأسْره، وذلك بعد تحررها أولاً، ثم قيام دولة إسلامية تُحكم بالشريعة، الأمر الذي يحتاج لسنوات طويلة من تربية وتعليم وثقيف الشعب إسلامياً وفق رؤيته . رغم جهره بأمنيته هذه، غير أنّه عند الحديث عن الخطوات الواقعية الإجرائية السياسية، دائماً ما كان يحيل إلى تصريحات واجتماعات وقرارات قادة الأحزاب الأفغانية المجاهدة أو من عرفوا بالقادة السبع: يونس خالص ورباني وسياف وحكمتيار (من قادة الحركة الإسلامية)، ومجددي وجيلاني ومحمدي (علماء من التيار المشيخي المتصوف او "الملالي") ، وهم رؤوس الأحزاب الجهادية السبعة الأساسية في أفغانستان . نقل عبد الله أنس صهر عزام عنه: "لا يهمنا من يحكم أفغانستان من بين القادة السبعة (حكمتيار، رباني، مجددي، محمد نبي، سياف...)، نحن لا يحق لنا أن نتدخل في شؤونهم، أي واحد منهم يُتفق عليه أو تحصل له البيعة فذلك الذي نعترف به... فإذا دخلوا كابول واقتتل المجاهدون فيما بينهم فلا يجوز أن نقف مع واحد منهم ضد الآخر" . ومع ميله الفكري والعملي إلى أربعةٍ منهم (الحركيين) وهم الأكبر حجماً و تأثيراً (85% من الجبهات) وعدم موافقته على بعض المواقف السياسية المفصلية للثلاثة الأخرين بيد أنه لم ينحز ويجيّش لطرف في مقابل الآخر، وبقي منهجه الإصلاح عند الخلاف، والفرح والتأييد عند الوفاق. ونسوق هنا موقفين آخرين لعزام يؤكدان ما سبق: الأول: مع هزيمة السوفييت وقرب رحيلهم بداية عام 1988م، والبدء بالكلام عن البديل السياسي للحكومة الشيوعية الموالية للمحتلين السوفييت، طُرح الحل الأمريكي المتمثل بعودة ملك أفغانستان السابق ظاهر شاه على رأس الحكم كمرحلة انتقالية في طريق الخلاص من الشيوعية. رفضت الأحزاب الأربعة الحركية، ووافقت الثلاثة المشيخية. أيد عزام وجهة نظر الرافضين دون معاداة الموافقين . الثاني: بعد رفض الخيار الأول بسنة تقريباً، عُقدت اجتماعات ماراثونية داخلياً وخارجياً، أسفرت في النهاية عن تشكيلة حكومية جامعة بين الأحزاب السبعة. فرح عزام بهذه التوليفة، واعتبرها من التدبير الإلهي كونها توزّعت بين القادة المقبولين خارجياً والموثوقين عنده، ولأنها شهدت تنوعاً عرقياً (بشتون وطاجيك) وفكرياً (حركيين وعلماء) ومناطقياً (شمال وجنوب). ففي الرئاسة: صبغة الله مجددي (تصنيفه معتدل غربياً) وهو طاجيكي من علماء الشمال وقائد أحد الأحزاب المشيخية، وفي رئاسة الوزراء: سياف وهو بشتوني من الحركة الإسلامية في الجنوب، وهو قائد أحد الأحزاب الحركية... وهكذا دواليك . وقد سار على نفس الخط إلى حدٍ كبير، قادة المجاهدين العرب في حرب البوسنة مطلع تسعينيات القرن الماضي تحت قيادة الرئيس بيجوفيتش، إضافةً إلى تجربة خطاب ومن معه في الشيشان تحت قيادة الرؤساء المجاهدين الثلاثة: دوداييف ومسخادوف وياندرباييف نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية أول عشرية في القرن الحالي. ملامح الجهاد العالمي عند بن لادن على الطرف المقابل، أسس بن لادن طريقته الخاصة للجهاد العالمي تحت راية القاعدة، والتي يمكن أن نطلق عليها: "جهاد المهاجرة"، وتفترق هذه الطبعة عن "جهاد المناصرة" بمسألتين مهمتين: الأولى: الاستقلال عن مجاهدي البلد المضيف بمشروع سياسي جهادي، ونأخذ على هذا مثالين، أحدهما في أفغانستان، والآخر في العراق. فبعد تبلور فكر وإستراتيجية القاعدة عام 1998م، وإعلانها حرباً مفتوحة على أمريكا في كل مكان، أجمع المجاهدون الأفغان على رفض هذه الخطوة، وفي مقدمتهم حركة طالبان وقائدها الملا محمد عمر، الذي بايعه بن لادن بيعة كبرى أميراً للمؤمنين في أفغانستان، وقد أمره مراراً بعدم تنفيذ عمليات عسكرية ضد الأمريكان، إلا أن بن لادن لم يمتثل، واستهدف بعدها سفارتين أمريكيتين في أفريقيا عام 1998م، ومدمرة بحرية في اليمن عام 2000م، ثم جاءت عمليات الحادي عشر من سبتمبر داخل أمريكا. وقد ذكر أبو حفص الموريتاني (مفتي القاعدة وقتها) من ضمن أسباب خلافه مع بن لادن: "مخالفته المستمرة لأوامر الملا عمر زعيم حركة طالبان فيما يتعلق بالعمليات ضد الأمريكان" ، وعلل إنكاره عليه بقوله: "إننا في ضيافة إمارة طالبان وقد أكدوا علينا مراراً في هذه المسألة وقالوا لنا لا تقدموا على أي عمل من هذا القبيل، وضعنا لا يتحمل ردة فعل على عمل كهذا، وللأسف القاعدة تجاهلت كل هذه الأمور وضربت بها عرض الحائط" . والمثال الآخر من العراق، عندما أقدم فرع القاعدة هناك على إعلان سلطة سياسية عليا "دولة العراق الإسلامية" دون اتفاق مع مجاهدي وعلماء العراق، بل دون إنباء بن لادن نفسه بالقرار !. رغم ذلك، أقرهم بن لادن ودافع عن المشروع بقوة، ودعا الفصائل العراقية لبيعة أبي عمر البغدادي أميراً للمؤمنين في العراق، وعدم تعطيل الوحدة بحجة أنهم لا يعرفونه ، فالرجل مزكّى من قادة القاعدة بالعراق: الزرقاوي (الأردني) وأبي حمزة المهاجر (المصري)، وهما من الثقات العدول عند بن لادن: "فالامتناع عن مبايعة أمير من أمراء المجاهدين في العراق بعد تزكيته من الثقات العدول بعذرالجهل بسيرته يؤدي إلى مفاسد عظام، من أهمها تعطيل قيام جماعة المسلمين الكبرى تحت إمام واحد وهذا باطل" . نستطيع هنا أن نستشعر دون كثير عناء نظرة بن لادن للدور السياسي المنوط به تجاه الساحات الجهادية، وهو ما تجسده كلمات عطية الله الليبي مفتي القاعدة للزرقاوي: "لابد أن تضع نصب عينيك أنك قائد ميداني في ناحية تحت قيادة كبيرة، هي أقوى وأكثر قدرة على القيادة العامة للأمة" . ورغم تراجع بن لادن بعد ذلك عن مسألة إعلان الدول أو مباركتها، واقتناعه بالعجز عن الحفاظ على أي دولة إسلامية يُعلن عنها في الوقت الحالي في ظل موازين القوى العالمية ، فإنه لم يظهر أي تراجع عن فكرة الاستقلال بالمشروع السياسي الجهادي عن مجاهدي البلد المضيف، وبقي للقاعدة مشروعها الخاص. الثانية: المشاركة في الاقتتالات الداخلية بين الفصائل المقاتلة. وقع هذا في أفغانستان عندما كانت الحرب مشتعلة بين حركة طالبان وتحالف الشمال نهاية التسعينيات، ونستطيع أن نلخص المشهد وقتها على النحو التالي: 1- رأي طالبان في تحالف الشمال "لم تكفرهم بل كانت تعتبرهم بغاة". 2- رأي الملا عمر في أحمد شاه مسعود القائد العسكري لتحالف الشمال: "نحترم مسعود، وقد كنا مجاهدين معاً". 3- رأي الملا ضعيف : "صحيح أن أطرافاً خارجية كانت تدعم الطرفين وتمولهما، وتغذّي الصراع الداخلي، لكن استمرار الحرب كان فعلياً بسبب الأفراد الذين انخرطوا فيها". 4- قرار طالبان بخصوص اشتراك القاعدة في القتال: "أنتم ضيوف خليكم بعيدين عن القتال، وتحت إصرار بعض الأخوة المجاهدين سمحت لهم طالبان بالقتال إلى صفوفها ضد الشمال". 5- موقف الموريتاني مفتي القاعدة من تحالف الشمال: "ضد قتالهم وضد تكفيرهم". 6- موقف بن لادن من تحالف الشمال: "كان يكفر هؤلاء" . بالانتقال إلى العراق، رفضت غالب الفصائل العسكرية العراقية والهيئات العلمية الداخلية بيعة "دولة العراق الإسلامية" لعدم توفر مقومات الدولة وأسباب أخرى، ونشب بعدها صراعٌ عنيفٌ بين جل الفصائل و"الدولة" ، وقف بن لادن بقوة مع "الدولة"، ووجه نداءً إلى الظواهري طلب منه فيه: "العمل على حشد الناس وفضح مؤامرات الخصوم عليها بشكل صريح وواضح، أي أن يكون دعمكم للدولة بشكل ظاهر للعيان لا يخفى على أحد" ، وطلب منه أيضاً إخراج بيان يغلب عليه: "صورة الصراع بين القاعدة والكفر العالمي المحلي.. مع الإشارة إلى أن التدافع بيننا وبين الجماعات هو فرع لتقاطع مصالحهم مع مصالح الحكام في مجابهة وإفشال دولة العراق الإسلامية" . خاتمة إذن فالجهاد العالمي المعاصر ليس طبعة واحدة، ولم يقم على ثوابت وأسس مشتركة، إنما انقسم إلى نموذجين مختلفين، ولكل منهما خصائصه التي تميزه كما مر معنا. فدور"جهاد المناصرة" الذي دعا له وطبقه عزام وغيره هو: إمداد الجبهات المشتعلة بالرجال والمساعدات والخبرات، وتسخير هذه العناصر وفق الخطوط العامة لمجاهدي البلاد المضيفة، مع التأكيد على عدم التدخل في الخلافات البينية والسعي في الإصلاح، ومن باب أولى عدم الاستقلال بمشروع سياسي جهادي يتجاوز مجاهدي وقادة الداخل. أما "جهاد المهاجرة" فينطلق من فرضية أن هناك تنظيماً يقود الجهاد في العالم (القاعدة في أفغانستان) ولهذا التنظيم إستراتيجية شاملة يطبقها حيثما وجد، بغض النظر عن خطط واختيارات مجاهدي كل ساحة، إضافةً إلى انخراطه بشكل كبير في الاقتتالات الداخلية ومزجها بفتاوى منفردة تحكم على الكثير من الفصائل المخالفة بالخروج من الملة.
مفهوم الجهاد العالمي بين المناصرة والمهاجرة
عزام وبن لادن

كرم الحفيان

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

مقدمة

نواصل معاً استعراض الفوارق المنهجية بين طريقة عزام وطريقة بن لادن في الجهاد، ونخصص هذه المقالة لاستعراض تفاصيل القضية المشتركة الأشهر بينهما، التي جعلت الكثيرين يعتقدون تطابق النموذجين أو على الأقل تقاربهما، وهي قضية "الجهاد العالمي".

ونلفت عناية القراء الأعزاء إلى أن هذه الورقة سيغلب عليها طابع الدراسة الوصفية التوثيقية دون الدخول في تحليلات لا يتسع المقام للاستطراد فيها.
ملامح الجهاد العالمي عند عزام

بادئ ذي بدء يتمحور البرنامج الجهادي المعولم عند عزام حول كيفية مؤازرة مشاريع المقاومات الإسلامية في المناطق الملتهبة، وذلك من خلال حشد الدعم الإنساني والإعلامي والخبراتي والعسكري (المجاهدين المتطوعين)، وصهره ضمن جميع الجماعات المجاهدة، مع السعي لتوحيد صفوفهم، والتحذير من المشاركة في صراعاتهم، فضلاً عن الاستقلال بمشروع سياسي جهادي يتجاوز الخطوط العريضة لخططهم وأهدافهم، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "جهاد المناصرة".

"نحن ما أنشأنا منظمة جديدة، نحن أنشأنا مكتباً لخدمات الجهاد.. مكتب الخدمات وظيفته خدمة جميع الأحزاب الجهادية في داخل أفغانستان" .

ثم تحدث بإسهاب عن أهداف المكتب الرئيسية فعدد منها:

إيصال المساعدات الإنسانية، وطبع المصاحف والكتب العلمية والتعليمية ونشرها داخل أفغانستان، واستقطاب الشباب من كافة التيارات والجماعات الإسلامية العربية وتوزيعهم بين سائر الأحزاب الأفغانية المجاهدة، كي يقوموا بعدة أدوار هامة (إضافةً

إلى قتال الشيوعيين والمحتلين الروس)، في مقدمتها: الإصلاح ومنع الاقتتال، وتقديم القدوة لإيقاف هجرة الأفغان للخارج، ناهيك عن بعض الأنشطة التعليمية .

وعندما سُئل عن الوجهة القادمة بعد تحرير أفغانستان، أجاب قائلاً: "إن شاء الله ربنا يفتح لنا باباً في الفلبين، في اليمن الجنوبي لتحريرها من الشيوعيين، في أي مكان.. لكن إن شاء الله فلسطين هي المرشحة الأولى لتكون معترك جهادنا ومحط أنظارنا" . وكان هذا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وظهور حركة حماس قوةً صاعدة مؤثرة في الشارع الفلسطيني.

ورغم أنه كان لا يخفي أمنيته في أن تتحول أفغانستان إلى منطلق لتحرير العالم الإسلامي بأسْره، وذلك بعد تحررها أولاً، ثم قيام دولة إسلامية تُحكم بالشريعة، الأمر الذي يحتاج لسنوات طويلة من تربية وتعليم وثقيف الشعب إسلامياً وفق رؤيته .

رغم جهره بأمنيته هذه، غير أنّه عند الحديث عن الخطوات الواقعية الإجرائية السياسية، دائماً ما كان يحيل إلى تصريحات واجتماعات وقرارات قادة الأحزاب الأفغانية المجاهدة أو من عرفوا بالقادة السبع: يونس خالص ورباني وسياف وحكمتيار (من قادة الحركة الإسلامية)، ومجددي وجيلاني ومحمدي (علماء من التيار المشيخي المتصوف او "الملالي") ، وهم رؤوس الأحزاب الجهادية السبعة الأساسية في أفغانستان .

نقل عبد الله أنس صهر عزام عنه: "لا يهمنا من يحكم أفغانستان من بين القادة السبعة (حكمتيار، رباني، مجددي، محمد نبي، سياف...)، نحن لا يحق لنا أن نتدخل في شؤونهم، أي واحد منهم يُتفق عليه أو تحصل له البيعة فذلك الذي نعترف به... فإذا

دخلوا كابول واقتتل المجاهدون فيما بينهم فلا يجوز أن نقف مع واحد منهم ضد الآخر" .

ومع ميله الفكري والعملي إلى أربعةٍ منهم (الحركيين) وهم الأكبر حجماً و تأثيراً (85% من الجبهات) وعدم موافقته على بعض المواقف السياسية المفصلية للثلاثة الأخرين بيد أنه لم ينحز ويجيّش لطرف في مقابل الآخر، وبقي منهجه الإصلاح عند الخلاف، والفرح والتأييد عند الوفاق.

ونسوق هنا موقفين آخرين لعزام يؤكدان ما سبق:

الأول: مع هزيمة السوفييت وقرب رحيلهم بداية عام 1988م، والبدء بالكلام عن البديل السياسي للحكومة الشيوعية الموالية للمحتلين السوفييت، طُرح الحل الأمريكي المتمثل بعودة ملك أفغانستان السابق ظاهر شاه على رأس الحكم كمرحلة انتقالية في طريق الخلاص من الشيوعية. رفضت الأحزاب الأربعة الحركية، ووافقت الثلاثة المشيخية. أيد عزام وجهة نظر الرافضين دون معاداة الموافقين .

الثاني: بعد رفض الخيار الأول بسنة تقريباً، عُقدت اجتماعات ماراثونية داخلياً وخارجياً، أسفرت في النهاية عن تشكيلة حكومية جامعة بين الأحزاب السبعة. فرح عزام بهذه التوليفة، واعتبرها من التدبير الإلهي كونها توزّعت بين القادة المقبولين خارجياً والموثوقين عنده، ولأنها شهدت تنوعاً عرقياً (بشتون وطاجيك) وفكرياً (حركيين وعلماء) ومناطقياً (شمال وجنوب).

ففي الرئاسة: صبغة الله مجددي (تصنيفه معتدل غربياً) وهو طاجيكي من علماء الشمال وقائد أحد الأحزاب المشيخية، وفي رئاسة الوزراء: سياف وهو بشتوني من الحركة الإسلامية في الجنوب، وهو قائد أحد الأحزاب الحركية... وهكذا دواليك .

وقد سار على نفس الخط إلى حدٍ كبير، قادة المجاهدين العرب في حرب البوسنة مطلع تسعينيات القرن الماضي تحت قيادة الرئيس بيجوفيتش، إضافةً إلى تجربة خطاب ومن معه في الشيشان تحت قيادة الرؤساء المجاهدين الثلاثة: دوداييف ومسخادوف وياندرباييف نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية أول عشرية في القرن الحالي.

ملامح الجهاد العالمي عند بن لادن

على الطرف المقابل، أسس بن لادن طريقته الخاصة للجهاد العالمي تحت راية القاعدة، والتي يمكن أن نطلق عليها: "جهاد المهاجرة"، وتفترق هذه الطبعة عن "جهاد المناصرة" بمسألتين مهمتين:

الأولى: الاستقلال عن مجاهدي البلد المضيف بمشروع سياسي جهادي، ونأخذ على هذا مثالين، أحدهما في أفغانستان، والآخر في العراق. فبعد تبلور فكر وإستراتيجية القاعدة عام 1998م، وإعلانها حرباً مفتوحة على أمريكا في كل مكان، أجمع المجاهدون الأفغان على رفض هذه الخطوة، وفي مقدمتهم حركة طالبان وقائدها الملا محمد عمر، الذي بايعه بن لادن بيعة كبرى أميراً للمؤمنين في أفغانستان، وقد أمره مراراً بعدم تنفيذ عمليات عسكرية ضد الأمريكان، إلا أن بن لادن لم يمتثل، واستهدف بعدها سفارتين أمريكيتين في أفريقيا عام 1998م، ومدمرة بحرية في اليمن عام 2000م، ثم جاءت عمليات الحادي عشر من سبتمبر داخل أمريكا.

وقد ذكر أبو حفص الموريتاني (مفتي القاعدة وقتها) من ضمن أسباب خلافه مع بن لادن: "مخالفته المستمرة لأوامر الملا عمر زعيم حركة طالبان فيما يتعلق بالعمليات ضد الأمريكان" ، وعلل إنكاره عليه بقوله: "إننا في ضيافة إمارة طالبان وقد أكدوا علينا مراراً في هذه المسألة وقالوا لنا لا تقدموا على أي عمل من هذا القبيل، وضعنا لا يتحمل ردة فعل على عمل كهذا، وللأسف القاعدة تجاهلت كل هذه الأمور وضربت بها عرض الحائط" .

والمثال الآخر من العراق، عندما أقدم فرع القاعدة هناك على إعلان سلطة سياسية عليا "دولة العراق الإسلامية" دون اتفاق مع مجاهدي وعلماء العراق، بل دون إنباء بن لادن نفسه بالقرار !.

رغم ذلك، أقرهم بن لادن ودافع عن المشروع بقوة، ودعا الفصائل العراقية لبيعة أبي عمر البغدادي أميراً للمؤمنين في العراق، وعدم تعطيل الوحدة بحجة أنهم لا يعرفونه ، فالرجل مزكّى من قادة القاعدة بالعراق: الزرقاوي (الأردني) وأبي حمزة المهاجر (المصري)، وهما من الثقات العدول عند بن لادن:

"فالامتناع عن مبايعة أمير من أمراء المجاهدين في العراق بعد تزكيته من الثقات العدول بعذرالجهل بسيرته يؤدي إلى مفاسد عظام، من أهمها تعطيل قيام جماعة المسلمين الكبرى تحت إمام واحد وهذا باطل" .

نستطيع هنا أن نستشعر دون كثير عناء نظرة بن لادن للدور السياسي المنوط به تجاه الساحات الجهادية، وهو ما تجسده كلمات عطية الله الليبي مفتي القاعدة للزرقاوي: "لابد أن تضع نصب عينيك أنك قائد ميداني في ناحية تحت قيادة كبيرة، هي أقوى وأكثر قدرة على القيادة العامة للأمة" .

ورغم تراجع بن لادن بعد ذلك عن مسألة إعلان الدول أو مباركتها، واقتناعه بالعجز عن الحفاظ على أي دولة إسلامية يُعلن عنها في الوقت الحالي في ظل موازين القوى العالمية ، فإنه لم يظهر أي تراجع عن فكرة الاستقلال بالمشروع السياسي الجهادي عن مجاهدي البلد المضيف، وبقي للقاعدة مشروعها الخاص.

الثانية: المشاركة في الاقتتالات الداخلية بين الفصائل المقاتلة. وقع هذا في أفغانستان عندما كانت الحرب مشتعلة بين حركة طالبان وتحالف الشمال نهاية التسعينيات، ونستطيع أن نلخص المشهد وقتها على النحو التالي:

1- رأي طالبان في تحالف الشمال "لم تكفرهم بل كانت تعتبرهم بغاة".
2- رأي الملا عمر في أحمد شاه مسعود القائد العسكري لتحالف الشمال: "نحترم مسعود، وقد كنا مجاهدين معاً".
3- رأي الملا ضعيف : "صحيح أن أطرافاً خارجية كانت تدعم الطرفين وتمولهما، وتغذّي الصراع الداخلي، لكن استمرار الحرب كان فعلياً بسبب الأفراد الذين انخرطوا فيها".
4- قرار طالبان بخصوص اشتراك القاعدة في القتال: "أنتم ضيوف خليكم بعيدين عن القتال، وتحت إصرار بعض الأخوة المجاهدين سمحت لهم طالبان بالقتال إلى صفوفها ضد الشمال".
5- موقف الموريتاني مفتي القاعدة من تحالف الشمال: "ضد قتالهم وضد تكفيرهم".
6- موقف بن لادن من تحالف الشمال: "كان يكفر هؤلاء" .

بالانتقال إلى العراق، رفضت غالب الفصائل العسكرية العراقية والهيئات العلمية الداخلية بيعة "دولة العراق الإسلامية" لعدم توفر مقومات الدولة وأسباب أخرى، ونشب بعدها صراعٌ عنيفٌ بين جل الفصائل و"الدولة" ، وقف بن لادن بقوة مع "الدولة"، ووجه نداءً إلى الظواهري طلب منه فيه: "العمل على حشد الناس وفضح مؤامرات الخصوم عليها بشكل صريح وواضح، أي أن يكون دعمكم للدولة بشكل ظاهر للعيان لا يخفى على أحد" ، وطلب منه أيضاً إخراج بيان يغلب عليه: "صورة الصراع بين القاعدة والكفر العالمي المحلي.. مع الإشارة إلى أن التدافع بيننا وبين الجماعات هو فرع لتقاطع مصالحهم مع مصالح الحكام في مجابهة وإفشال دولة العراق الإسلامية" .

خاتمة

إذن فالجهاد العالمي المعاصر ليس طبعة واحدة، ولم يقم على ثوابت وأسس مشتركة، إنما انقسم إلى نموذجين مختلفين، ولكل منهما خصائصه التي تميزه كما مر معنا.

فدور"جهاد المناصرة" الذي دعا له وطبقه عزام وغيره هو: إمداد الجبهات المشتعلة بالرجال والمساعدات والخبرات، وتسخير هذه العناصر وفق الخطوط العامة لمجاهدي البلاد المضيفة، مع التأكيد على عدم التدخل في الخلافات البينية والسعي في الإصلاح، ومن باب أولى عدم الاستقلال بمشروع سياسي جهادي يتجاوز مجاهدي وقادة الداخل.

أما "جهاد المهاجرة" فينطلق من فرضية أن هناك تنظيماً يقود الجهاد في العالم (القاعدة في أفغانستان) ولهذا التنظيم إستراتيجية شاملة يطبقها حيثما وجد، بغض النظر عن خطط واختيارات مجاهدي كل ساحة، إضافةً إلى انخراطه بشكل كبير في الاقتتالات الداخلية ومزجها بفتاوى منفردة تحكم على الكثير من الفصائل المخالفة بالخروج من الملة.
‏١٧‏/٠١‏/٢٠١٩ ٩:٥٨ م‏
العسكر والإخوان المسلمون محمود جمال [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] مقدمة يسيطر العسكر بشكل فعلي على الحكم في مصر منذ عام 1952م، بعد قيام مجموعة من الضباط داخل الجيش المصري أطلقوا على أنفسهم اسم الضباط الأحرار بانقلاب على النظام الملكي الذي كان يحكم مصر في تلك الفترة، ونجحت تلك المجموعة فيما كانوا يريدون تحقيقه وسيطروا على الحكم وغادر الملك فارق وحاشيته البلاد. وأيد الشعب والغالبية منه ذلك التحرك العسكري وأطلق عليه "ثورة 1952". ومنذ هذا العام أصبحت مصر جمهورية يحكمها الجيش ويسيطر على مناصبها العليا والإدارية بوصفه الوصي على الإرادة والإدارة المصرية، وذلك طبقاً لنظرة مجلس قيادة ثورة يوليو 1952 بأن الجيش هو الأكثر قدرة على قيادة الدولة، وأن المدنيين ومن ضمنهم الحركات الإسلامية لا يصلحون لقيادة الدولة المصرية. وتعامل العسكر بعد تحرك الجيش ضد النظام الملكي في مصر عام 1952م مع الحركات الإسلامية والمؤسسات الدينية والمتدينين والمعارضين للحكم العسكري بشكل عام بخطة محكمة مدروسة، حتى لا تكون لتلك الجماعات أو الأشخاص تأثير وتهديد للنظام العسكري، الذي رُسخت أركانه بعد 1952م، وحتى وإن تعامل العسكر بشكل إيجابي في بعض الفترات مع الحركات والمؤسسات الدينية فهذا التعامل كان من باب المناورة السياسية لمواجهة حركات أخرى، شيوعية كانت أو اشتراكية، ولكن سرعان ما كان يقوم العسكر بعد تحقيق الهدف المرجو من هذا التعاون بالتنكيل بهم مرة أخرى. أولاً: حول العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر بدأت العلاقة بين مجموعة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين في أربعينيات القرن الماضي، إذ كان ثمة تعاون بين الضابط جمال عبد الناصر مع تنظيم “الإخوان المسلمين”، من خلال أحد زملائه في تنظيم الضباط الأحرار في ذلك الوقت وهو الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف. ومما يقوله الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل حول هذه المسألة "أثناء حرب فلسطين حدثت اللقاءات الأولى. ولقد أعجب عدد من الضباط الأحرار ومن بينهم جمال الناصر بفكر الإخوان. واقتربوا منه وربما راودتهم فكرة الانضمام إليه، فلا غرابة في ظل هذه الظروف أن تقع معاملتهم معاملة خاصة من قبل ثورة 1952" . جدير بالذكر أنه في الأيام الأولى لحركة الضباط الأحرار ، أصدر مجلس قيادتها قراراً بحل جميع الأحزاب مستثنياً جماعة “الإخوان المسلمين” لاعتبارها “جمعية دينية دعوية”، كما أعاد المجلس فتح التحقيق في مقتل مؤسس الحركة حسن البنا، فقبض على المتهمين باغتياله وأصدر أحكاماً قاسية بحقهم، وعفا عن معتقلين من الإخوان. لجمال عبد الناصر خطابان يوضحان طبيعة العلاقة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، الخطاب الأول كان عام 1953، وذلك بعد نجاح تحرك الجيش بفترة قليلة، وكان يحاول عبدالناصر في تلك الفترة أن يكسب ود أغلب التيارات السياسية والدينية، الخطاب الثاني كان عام 1965م، بعد الهجمة الشديدة التي مارسها نظام عبد الناصر على جماعة الإخوان المسلمين. ألقى جمال عبد الناصر وقت أن كان البكباشى عبد الناصر خطاباً في عمال مصنع شركة التقطير بـ"الواسطى" نيابة عن اللواء محمد نجيب يوم 23 يوليو سنة 1953م، وسط حشد من جماعة الإخوان المسلمين، وجاء في التسجيل الصوتي “أيها الإخوان، أنا معكم، إن الجهاد سبيلنا، وحتى نستطيع أن نجاهد يجب أن نجاهد أنفسنا أولاً، يجب أن نقوم أنفسنا أولاً، فإذا ما قومنا أنفسنا استطعنا أن نقاوم عدونا.” وأكمل عبد الناصر خطابه قائلاً : “أيها المواطنون إنني أقول لكم يجب أن نتفهم ما نقول ولا نكون كالبغبغاء لا نقول مالا نفهم، الله أكبر ولا حكم إلا بالقرآن، إنني معكم أيها الإخوان فانظروا إلى حركتنا وماذا حققت، لقد قامت حركة الجيش فقضت على الفساد، فهل هذا يتنافى مع تعاليم القرآن؟ لقد قامت حركة الجيش للقضاء على الظلم الاجتماعي فهل هذا يتنافى مع حكم القرآن، أيها الإخوان إننا نحقق ما ينادي به القرآن ونحقق ما ينادي به الله”. ظلت العلاقة بين جمال عبد الناصر وجماعة الإخوان مستقرة، حتى دخول مجلس قيادة الثورة في خلافات بينية حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، مما أدى إلى تقديم الرئيس محمد نجيب استقالته، وبناء على ذلك تمرد بعض ضباط سلاح الفرسان على جمال عبد الناصر، ولكن سيطر جمال عبد الناصر على تلك المحاولة التي كانت من الممكن أن تطيح به. أزمة مجلس قيادة الثورة انعكست بالطبع على علاقة عبد الناصر بجماعة الإخوان، وتحديداً بعد تعرض عبد الناصر لمحاولة اغتيال عام 1954م، أثناء إلقائه خطبة جماهيرية في مدينة الإسكندرية الساحلية، فأطلقت عليه ثماني رصاصات لم تصبه أي منها، لكنها أصابت الوزير السوداني “ميرغني حمزة” وسكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية “أحمد بدر”، وألقي القبض على مطلق الرصاص وصدر حكم قضائي بحل جماعة الاخوان وحظر نشاطها. وبدأت ملاحقة التنظيم قضائياً وفتح عبد الناصر السجون أمام قياداته وأعضائه، فسجن عدداً كبيراً منهم، وصدرت ضد بعضهم أحكام بالإعدام وضد آخرين بالسجن عشر سنوات أو الأشغال الشاقة. وامتدت المواجهات إلى النقابات المختلفة، فحُلّ مجلس نقابة المحامين المصرية ثم نقابة الصحافيين، كما ألغيت الحياة النيابية والحزبية ووحدت التيارات في الاتحاد القومي عام 1959، ثم الاتحاد الاشتراكي عام 1962. وفي عام 1965م، قام عبد الناصر بإلقاء خطاب أمام جمهور عريض من مؤيديه ليشرح لهم طبيعة الإخوان المسلمين وقال نصاً كما جاء على لسانه: "كان الإخوان بعد ثورة 1952م، يريدوا أن يعملوا نفسهم أوصياء علينا وأعلنوا الحرب علينا وأطلقوا الرصاص علينا، وفي عام 1954م حاولوا اغتيالي في المنشيّة بالإسكندرية، وبدأ الصراع واعتقل أعضاء الإرهاب في حزب الإخوان المسلمين، في عام 1954م، كنا بنتفاوض مع الإنجليز علشان الجلاء وفي نفس الوقت كان الإخوان يعقدوا اجتماعات سرية مع السفارة البريطانية وقالو لهم إننا نستطيع أن نستولي على السلطة، وكان الإخوان كحزب لا يمثل الشعور الذي كنا نشعر به في مصر. المرشد أتسأل عندما كنا نحارب في القنال ما موقفكم من حرب القنال قال أنتم مصلحتكم أن تحاربوا في القنال ونحن مصلحتنا أن نحارب في بلد آخر، وقال هذه دعوة الإخوان المسلمين، كلام كله تضليل وكلام كله تجارة بالدين". وأكمل عبد الناصر خطابة وقال " في عام 1953م، كنا نريد أن نتعاون معهم على أن يسيروا في الطريق السليم، فقابلت المرشد العام للإخوان المسلمين" وطلب ثلاثة مطالب وهي: 1- "إقامة الحجاب في مصر، وكل واحدة تسير في الشارع ترتدي طرحة، وبكده نرجع لأيام الحاكم بأمر الله يخلي الناس متمشيش بالنهار وتمشي بالليل". 2- عن المطلب الثاني قال عبد الناصر: “قالولي المرأة متشتغلش". 3- وعن المطلب الثالث قال عبد الناصر : قالو لي اقفل السينما والمسارح وأخليها ضلمة. مكنتش ممكن طبعاً ان أعمل كده". أكمل عبد الناصر حديثه والذي كان مدته 14 دقيقة وقال: "بدأوا الصراع معانا عام 1954م، بالتضليل وبدأوا محاولة الاغتيال وبنفس الوقت حوكموا بمحكمة الثورة، السنة اللي فاتت عام 1964م، قلت عفا الله عما سلف وطلعتهم كلهم من السجن وعملنا قانون يرجع كل واحد منهم إلى عمله ويأخذ مهيته ويأخذ دوره في الترقي وكل شيء، في سنة 1965م، مسكنا مؤامرة الإخوان والجهاز السري وخطط الاغتيالات والتدمير وكلام الواحد لما يشوفه يستغرب، بيقولوا إن كل اللي في المجتمع كافر ومحدش مسلم غيرهم، هما بيعملوا أنهم يستولوا على السلطة وربنا اللي يحكم مش الإنسان اللي يحكم، بيقولوا إننا نرفض التمثيل الشعبي والبرلمان ولكن حكم الله وحكم الله هو المرشد أكبر واحد فيهم وهو بالنسبالهم خليفة الله وهو رسول الله، واحنا كلنا كفرة مش إحنا بس كل العالم كل الدول العربية اللي هما قاعدين فيها دول كفرة بملوكها ورؤسائها ومحدش مسلم غير الإخوان المسلمين". "اعتقلوا واعتقلنا أيضاً جميع تنظيمات الإخوان القديمة وقلنا إن العملية مش عملية بسيطة والقصة مش قصة عملية اغتيال جمال عبد الناصر، اغتيال عبد الناصر حيطلع 1000 زي جمال عبد الناصر، أما العملية عملية اغتيال الشعب وهو اللي مش حنقبله، والتدمير وأنهم لينادوا باسم الله وهم مش بينفذوا حكم الله، هم عايزين يحكمون حكم فشستي". وأكمل: "وبدأنا نستعرض حالتهم كلهم، الناس اللي اشتركوا في التنظيمات السرية كلهم حيتقدموا للمحاكمة، الناس الخطرين اللي أفرجنا عنهم عام 1964م، وكانوا أساساً يمثلون رؤوس الجهاز السري لجماعة الإخوان دول حنعتقلهم بعد كدة الباقيين يطلعوا نفرج عنهم ونديهم فرصة تانية". واستكمل عبد الناصر حديثه وقال: "بعد كده أي واحد فيهم حيلعب بديله حنعتقله ومش حنخرجه أبداً من المعتقل، كفاية نحن لا نستطيع أن نغامر بمكاسبنا اللي حققناها في ال13 سنة اللي فاتت، ولا نستطيع أن نتهاون أبداً في مصيرنا أن نسلم أنفسنا لأعوان الاستعمار والرجعية، حتى لو كان اسمهم إخوان مسلمين، إحنا كلنا نعرف أن الإسلام في هذا ليس إلا خديعة علشان يضحكوا بيها على عقول الناس "العسكريين والمدنيين"، علشان ينضموا ليهم، أما هما لا هم مسلمين ولا هم إخوان، هما ناس حاقدين الحقد يملأ قلوبهم ونفوسهم، قيادتهم الموجودة في الخارج تعاونوا مع حلف بغداد، تعاونوا مع الدول الاستعمارية، تعاونوا مع أعدائنا، تعاونوا مع الرجعية العربية، وأثبتوا بالدليل الواضح أن حزب الإخوان المسلمين أو حركة الإخوان المسلمين تعمل لحساب الاستعمار وحساب الرجعية يمولها الاستعمار ويمولها الرجعيين، نحن حسب مبادئنا لن نسمح لأعوان الاستعمار ولا لأعوان الرجعية أن يكون لهم أي مجال ولا أي نشاط بيننا، لأننا بهذا نؤمّن مستقبلنا ونؤمن النجاح الذي حصلنا عليه". وأضاف عبد الناصر: "الإخوان قاومونا سنة 1954م، وحاولوا أنهم يضربوا الثورة وكانوا بهذا يخدموا مصالح الاستعمار لأن الإنجليز كانوا موجودين، وإحنا كنا اتفقنا على الجلاء وأن يتم خلال 20 شهر، فقاموا هم وحاولوا أن يعملوا الاغتيالات وابتدأوا بمحاولتهم لاغتيالي أنا، واستطعنا إن إحنا نضربهم ونقضي عليهم". وأنهى حديثه قائلاً، "الشعب ذلك الأيام كشفهم وعرفهم ونبذهم، وحبينا نديهم فرصة تانية ولكنهم لم يقبلوا بها". ركز عبد الناصر في ذلك الخطاب علي القضايا القومية واليومية التي تمس المواطن المصري وحرص على إظهار جماعة الإخوان المسلمين على أنها تحاول أن تقوم بالتضييق على الناس بشكل عام، وتتآمر على الدولة المصرية وقضايا الأمة؛ لذلك اتهمهم مرات عديدة في الخطاب بالخيانة والعمالة حتى يؤصل تلك الفكرة في العقول والأذهان، حتى يحدث شرخ في العلاقة بين الشارع المصري وجماعة الإخوان المسلمين. وجدير بالذكر أن ذلك الخطاب استخدمة المعارضون لجماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة يناير وأثناء فترة الرئيس محمد مرسي عند مهاجمتهم لجماعة الإخوان. ذلك الخطاب وضح طبيعة التعامل الذي مارسة عبد الناصر مع جماعة الإخوان المسلمين، ويرى البعض أن عبدالناصر وضح في ذلك الخطاب قواعد تعامل العسكر مع جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية بشكل عام ، لعلمه المسبق عندما كان قريباً من جماعة الإخوان في الفترة ما قبل عام 1952م، مدى قدرة جماعة الإخوان المسلمين على التأثير في الشارع المصري؛ مما يتيح لها التأثير على الحكم العسكري في أي فترة من الفترات. ثانياً: حول علاقة السادات بجماعة الإخوان مع بداية السبعينيات من القرن الماضي رحل حكم عبد الناصر بوفاته، وحل بدلاً منه السادات بفترة حكم عسكري جديدة لم تبتعد كثيراً عن التحالف مع الإخوان والانقلاب عليهم ومصالحتهم ثم سجنهم، وهكذا كانت وتيرة الحياة بين تحالفات الإخوان والسادات. فعمل نظام السادات على تشجيع التيارات الإسلامية على اكتساح الجامعات، ومن رجال السادات الذين ساعدوا وموّلوا التيارات الإسلامية رجل الأعمال الذي كان يملك ثروة ضخمة "عثمان أحمد عثمان". وكذلك "عثمان إسماعيل" محافظ أسيوط. ثمّ إنّ رجال السادات عملوا كل ما في وسعهم على تشجيع الجماعات الإسلامية للتصدي للناصريين والشيوعيين. وكان من نتائج هذه السياسة سيطرة الإخوان المسلمين وأنصارهم على الجامعات، فمثلاً سنة 1978 فازوا بأغلب مقاعد جامعة الإسكندرية ومن بينها كلية الطب التي فازوا فيها بكل المقاعد وكلية الحقوق ب47 مقعدًا من جملة 48 مقعدًا. ولكن بالرغم من تعاون السادات مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في فترات عديدة في وقت حكمه، إلا أنه في أواخر حكمه انقلب عليهم. ومما يشير الي علاقة السادات بجماعة الإخوان والجماعات الإسلامية، ما جاء علي لسان أنور السادات في خطابه الأخير عام 1981م، قبل اغتياله وذلك بعد حملة الاعتقالات الشهيرة وقتها لقيادات جماعة الإخوان المسلمين وأغلب رموز المعارضة وقتها، وكان هذا الخطاب مشابه تماماً لخطاب عبد الناصر الذي أشرنا إليه سابقاً عام 1965م، وأكد السادات في ذلك الخطاب أن الإخوان هم أعداء ثورة 1952م، وأنهم يتخذون من الدين شعاراً فقط ولا يعملون علي تطبيقه، وأنهم لديهم مشروعهم الخاص، وقال السادات في ذلك الخطاب إنه لا يوجد شيء اسمه جماعات إسلامية؛ بل كل تلك الجماعات تتبع جماعة الإخوان المسلمين. ووصفهم بالشر والعمالة، وأنه أخرجهم من السجون وقام بإرجاعهم إلى وظائفهم ومكنهم من أخذ مستحقاتهم المالية، ولكنهم أصروا على تدمير الدولة وتكفير المجتمع. جدير بالذكر أن الخطاب كان بعد اتفاقية كامب ديفيد وسط معارضة كبيرة من جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية لتلك الاتفاقية، وكانت جماعة الإخوان تهاجم السادات بشكل كبير في مجلتها الشهرية "مجلة الدعوة". ثالثاً: مبارك والإخوان وصل حسني مبارك إلى السلطة بعد اغتيال محمد أنور السادات عام 1981. واتسمت علاقته مع جماعة الإخوان بعدة خصوصيات، من بينها المصالحة معهم ومع بقية القوى السياسية على غرار ما وقع مع بداية أي حكم جديد. لكن إستراتيجية حسني مبارك تجاه جماعة الإخوان المسلمين لم تبعد عن إستراتيجية جمال عبد الناصر التي أسسها منذ عام 1954م، وسار عليها من بعده أنور السادات والتي تستهدف بالأساس تقويض جماعة الإخوان التي لديها رصيد كبير في الشار ع المصري، حتى لا تمثل تهديداً للحكم العسكري. ويوجد فيديو لحسني مبارك في أوائل فترة التسعينات مشابه لخطابات عبد الناصر والسادات، يوضح فيه سياسته تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وجاء على لسان حسني مبارك في الفيديو "إن جماعة الإخوان المسلمين لا علاقة لها بالديمقراطية، وإن وصلت للحكم، ستقصي الجميع". وأضاف مبارك: "اوعوا تصدقوا أنهم عايزين ديمقراطية، بيستغلوها للوصول إلى الحكم، وإن نجحوا في ذلك ستكون الديكتاتورية بشعة، وسيكفرون كل شيء على وجه الأرض". وتابع: "جماعة الإخوان لا تعرف الحوار إلا عن طريق القنابل والرصاص"، وقال: "وكالات الأنباء العالمية، كانت تتجاهل شهداء الشرطة الذي استشهدوا إثر مواجهات مع هذه الجماعات الإرهابية، وتذهب إلى الإرهابيين لتنقل عنهم استهداف الأمن لهم، وكأنهم لا يرون في هذه المواجهة إلا هؤلاء وحقوقهم فقط". وأضاف “تلك الجماعات قتلت 104 شرطي في الثمانينات". ومما يراه بعض المحللون أن مبارك ترك نشاط الإخوان لينمو في الشارع المصري، ولكنه كان يراقبه حتى لا يخرج من الإطار الذي رسمه له، وجعل مبارك الإخوان ليس فقط فزاعة للأحزاب السياسية المعارضة بل جعلهم فزاعة لأمريكا ودول الغرب، إذ كان مبارك دائماً يحذر الإدارة الأمريكية من التنظيمات الإسلامية في مصر ومدى خطورتها على الأمن القومي الإسرائيلي كمبرر للعنف غير المبرر الذي يستخدمه وزير داخليته في كبح المعارضة. ختاماً السيسي قام بإنقلاب عسكري على رئيس منتمٍ لجماعة الإخوان، فكان نموذجاً غير سابقيه، لذلك نكّل مباشرة بهم وقتلهم وزج بهم في السجون، وهي بالأساس إستراتيجية الجيش المصري تجاه أي تيار إسلامي حتى لو كان سلمياً وسطياً معتدلاً لا يؤمن بأن العنف وسيلة من وسائل الإصلاح والتغيير . فمنذ عام 1954م، ينتهج الحكم العسكري إستراتيجية واحدة في التعامل مع التيارات الإسلامية، وهي إستراتيجة تعتمد على التنكيل والإقصاء، ولكن لتحقيق أهداف تكتيكية محددة تخدم الحكم العسكري بالأساس يستعين بالإسلامين وسريعاً ما ينقلب عليهم، وهذا الذي يجب فهمه عند التعامل مستقبلاً مع العسكر. جدير بالذكر أن ممارسات العسكر تجاه جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1954م، وإلى عام 2013م، لم تنعكس على ردود أفعال جماعة الإخوان، وكانت في كل مرة تقع الجماعة في نفس الخطأ في تعاملها مع النظام العسكري؛ فكانت تتحالف معه ثم ينكل بها في نهاية المطاف، وتخرج من التجربة بخسائر كبيرة، وبرغم هذا لم تعد العدة المناسبة لمواجهة الحكم العسكري مستقبلاً. ولكن مرت القوى الإسلامية بعدد من التطورات والتحولات منذ انقلاب 3 يوليو 2013، تحولت فيها طرق مواجهتها للحكم العسكري ،وذلك بعد تنامي الإدراك بوجود تناقض بين أهداف واستراتيجيات وبرامج القوى الشبابية تحديداً الموجودة داخل التيارات الإسلامية من جهة، وبين النخب القائمة على تلك الجماعات والحركات من جهة أخرى، فتغيرت المواقف وتبدلت التوجهات، وظهرت كيانات شبابية وثورية جديدة، في حين تدهورت مكانة وقوة كيانات أخرى. ولذلك لجأت بعض المجموعات الثورية والشبابية لأساليب أخرى لتحقيق أهدافها في مواجه الحكم العسكري، والذي ربما قد ينعكس على مواجهة الجماعة للانقلاب العسكري في مصر خلال السنوات القادمة.
العسكر والإخوان المسلمون
محمود جمال

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

مقدمة

يسيطر العسكر بشكل فعلي على الحكم في مصر منذ عام 1952م، بعد قيام مجموعة من الضباط داخل الجيش المصري أطلقوا على أنفسهم اسم الضباط الأحرار بانقلاب على النظام الملكي الذي كان يحكم مصر في تلك الفترة، ونجحت تلك المجموعة فيما كانوا يريدون تحقيقه وسيطروا على الحكم وغادر الملك فارق وحاشيته البلاد.

وأيد الشعب والغالبية منه ذلك التحرك العسكري وأطلق عليه "ثورة 1952". ومنذ هذا العام أصبحت مصر جمهورية يحكمها الجيش ويسيطر على مناصبها العليا والإدارية بوصفه الوصي على الإرادة والإدارة المصرية، وذلك طبقاً لنظرة مجلس قيادة ثورة يوليو 1952 بأن الجيش هو الأكثر قدرة على قيادة الدولة، وأن المدنيين ومن ضمنهم الحركات الإسلامية لا يصلحون لقيادة الدولة المصرية.

وتعامل العسكر بعد تحرك الجيش ضد النظام الملكي في مصر عام 1952م مع الحركات الإسلامية والمؤسسات الدينية والمتدينين والمعارضين للحكم العسكري بشكل عام بخطة محكمة مدروسة، حتى لا تكون لتلك الجماعات أو الأشخاص تأثير وتهديد للنظام العسكري، الذي رُسخت أركانه بعد 1952م، وحتى وإن تعامل العسكر بشكل إيجابي في بعض الفترات مع الحركات والمؤسسات الدينية فهذا التعامل كان من باب المناورة السياسية لمواجهة حركات أخرى، شيوعية كانت أو اشتراكية، ولكن سرعان ما كان يقوم العسكر بعد تحقيق الهدف المرجو من هذا التعاون بالتنكيل بهم مرة أخرى.

أولاً: حول العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر


بدأت العلاقة بين مجموعة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين في أربعينيات القرن الماضي، إذ كان ثمة تعاون بين الضابط جمال عبد الناصر مع تنظيم “الإخوان المسلمين”، من خلال أحد زملائه في تنظيم الضباط الأحرار في ذلك الوقت وهو الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف. ومما يقوله الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل حول هذه المسألة "أثناء حرب فلسطين حدثت اللقاءات الأولى. ولقد أعجب عدد من الضباط الأحرار ومن بينهم جمال الناصر بفكر الإخوان. واقتربوا منه وربما راودتهم فكرة الانضمام إليه، فلا غرابة في ظل هذه الظروف أن تقع معاملتهم معاملة خاصة من قبل ثورة 1952" .

جدير بالذكر أنه في الأيام الأولى لحركة الضباط الأحرار ، أصدر مجلس قيادتها قراراً بحل جميع الأحزاب مستثنياً جماعة “الإخوان المسلمين” لاعتبارها “جمعية دينية دعوية”، كما أعاد المجلس فتح التحقيق في مقتل مؤسس الحركة حسن البنا، فقبض على المتهمين باغتياله وأصدر أحكاماً قاسية بحقهم، وعفا عن معتقلين من الإخوان.

لجمال عبد الناصر خطابان يوضحان طبيعة العلاقة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، الخطاب الأول كان عام 1953، وذلك بعد نجاح تحرك الجيش بفترة قليلة، وكان يحاول عبدالناصر في تلك الفترة أن يكسب ود أغلب التيارات السياسية والدينية، الخطاب الثاني كان عام 1965م، بعد الهجمة الشديدة التي مارسها نظام عبد الناصر على جماعة الإخوان المسلمين.

ألقى جمال عبد الناصر وقت أن كان البكباشى عبد الناصر خطاباً في عمال مصنع شركة التقطير بـ"الواسطى" نيابة عن اللواء محمد نجيب يوم 23 يوليو سنة 1953م، وسط حشد من جماعة الإخوان المسلمين، وجاء في التسجيل الصوتي “أيها الإخوان، أنا معكم، إن الجهاد سبيلنا، وحتى نستطيع أن نجاهد يجب أن نجاهد أنفسنا أولاً، يجب أن نقوم أنفسنا أولاً، فإذا ما قومنا أنفسنا استطعنا أن نقاوم عدونا.”

وأكمل عبد الناصر خطابه قائلاً : “أيها المواطنون إنني أقول لكم يجب أن نتفهم ما نقول ولا نكون كالبغبغاء لا نقول مالا نفهم، الله أكبر ولا حكم إلا بالقرآن، إنني معكم أيها الإخوان فانظروا إلى حركتنا وماذا حققت، لقد قامت حركة الجيش فقضت على الفساد، فهل هذا يتنافى مع تعاليم القرآن؟ لقد قامت حركة الجيش للقضاء على الظلم الاجتماعي فهل هذا يتنافى مع حكم القرآن، أيها الإخوان إننا نحقق ما ينادي به القرآن ونحقق ما ينادي به الله”.

ظلت العلاقة بين جمال عبد الناصر وجماعة الإخوان مستقرة، حتى دخول مجلس قيادة الثورة في خلافات بينية حول كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، مما أدى إلى تقديم الرئيس محمد نجيب استقالته، وبناء على ذلك تمرد بعض ضباط سلاح الفرسان على جمال عبد الناصر، ولكن سيطر جمال عبد الناصر على تلك المحاولة التي كانت من الممكن أن تطيح به.

أزمة مجلس قيادة الثورة انعكست بالطبع على علاقة عبد الناصر بجماعة الإخوان، وتحديداً بعد تعرض عبد الناصر لمحاولة اغتيال عام 1954م، أثناء إلقائه خطبة جماهيرية في مدينة الإسكندرية الساحلية، فأطلقت عليه ثماني رصاصات لم تصبه أي منها، لكنها أصابت الوزير السوداني “ميرغني حمزة” وسكرتير هيئة التحرير بالإسكندرية “أحمد بدر”، وألقي القبض على مطلق الرصاص وصدر حكم قضائي بحل جماعة الاخوان وحظر نشاطها. وبدأت ملاحقة التنظيم قضائياً وفتح عبد الناصر السجون أمام قياداته وأعضائه، فسجن عدداً كبيراً منهم، وصدرت ضد بعضهم أحكام بالإعدام وضد آخرين بالسجن عشر سنوات أو الأشغال الشاقة.

وامتدت المواجهات إلى النقابات المختلفة، فحُلّ مجلس نقابة المحامين المصرية ثم نقابة الصحافيين، كما ألغيت الحياة النيابية والحزبية ووحدت التيارات في الاتحاد القومي عام 1959، ثم الاتحاد الاشتراكي عام 1962.

وفي عام 1965م، قام عبد الناصر بإلقاء خطاب أمام جمهور عريض من مؤيديه ليشرح لهم طبيعة الإخوان المسلمين وقال نصاً كما جاء على لسانه:
"كان الإخوان بعد ثورة 1952م، يريدوا أن يعملوا نفسهم أوصياء علينا وأعلنوا الحرب علينا وأطلقوا الرصاص علينا، وفي عام 1954م حاولوا اغتيالي في المنشيّة بالإسكندرية، وبدأ الصراع واعتقل أعضاء الإرهاب في حزب الإخوان المسلمين، في عام 1954م، كنا بنتفاوض مع الإنجليز علشان الجلاء وفي نفس الوقت كان الإخوان يعقدوا اجتماعات سرية مع السفارة البريطانية وقالو لهم إننا نستطيع أن نستولي على السلطة، وكان الإخوان كحزب لا يمثل الشعور الذي كنا نشعر به في مصر. المرشد أتسأل عندما كنا نحارب في القنال ما موقفكم من حرب القنال قال أنتم مصلحتكم أن تحاربوا في القنال ونحن مصلحتنا أن نحارب في بلد آخر، وقال هذه دعوة الإخوان المسلمين، كلام كله تضليل وكلام كله تجارة بالدين".

وأكمل عبد الناصر خطابة وقال " في عام 1953م، كنا نريد أن نتعاون معهم على أن يسيروا في الطريق السليم، فقابلت المرشد العام للإخوان المسلمين" وطلب ثلاثة مطالب وهي:

1- "إقامة الحجاب في مصر، وكل واحدة تسير في الشارع ترتدي طرحة، وبكده نرجع لأيام الحاكم بأمر الله يخلي الناس متمشيش بالنهار وتمشي بالليل".
2- عن المطلب الثاني قال عبد الناصر: “قالولي المرأة متشتغلش".
3- وعن المطلب الثالث قال عبد الناصر : قالو لي اقفل السينما والمسارح وأخليها ضلمة. مكنتش ممكن طبعاً ان أعمل كده".

أكمل عبد الناصر حديثه والذي كان مدته 14 دقيقة وقال: "بدأوا الصراع معانا عام 1954م، بالتضليل وبدأوا محاولة الاغتيال وبنفس الوقت حوكموا بمحكمة الثورة، السنة اللي فاتت عام 1964م، قلت عفا الله عما سلف وطلعتهم كلهم من السجن وعملنا قانون يرجع كل واحد منهم إلى عمله ويأخذ مهيته ويأخذ دوره في الترقي وكل شيء، في سنة 1965م، مسكنا مؤامرة الإخوان والجهاز السري وخطط الاغتيالات والتدمير وكلام الواحد لما يشوفه يستغرب، بيقولوا إن كل اللي في المجتمع كافر ومحدش مسلم غيرهم، هما بيعملوا أنهم يستولوا على السلطة وربنا اللي يحكم مش الإنسان اللي يحكم، بيقولوا إننا نرفض التمثيل الشعبي والبرلمان ولكن حكم الله وحكم الله هو المرشد أكبر واحد فيهم وهو بالنسبالهم خليفة الله وهو رسول الله، واحنا كلنا كفرة مش إحنا بس كل العالم كل الدول العربية اللي هما قاعدين فيها دول كفرة بملوكها ورؤسائها ومحدش مسلم غير الإخوان المسلمين".

"اعتقلوا واعتقلنا أيضاً جميع تنظيمات الإخوان القديمة وقلنا إن العملية مش عملية بسيطة والقصة مش قصة عملية اغتيال جمال عبد الناصر، اغتيال عبد الناصر حيطلع 1000 زي جمال عبد الناصر، أما العملية عملية اغتيال الشعب وهو اللي مش حنقبله، والتدمير وأنهم لينادوا باسم الله وهم مش بينفذوا حكم الله، هم عايزين يحكمون حكم فشستي".

وأكمل: "وبدأنا نستعرض حالتهم كلهم، الناس اللي اشتركوا في التنظيمات السرية كلهم حيتقدموا للمحاكمة، الناس الخطرين اللي أفرجنا عنهم عام 1964م، وكانوا أساساً يمثلون رؤوس الجهاز السري لجماعة الإخوان دول حنعتقلهم بعد كدة الباقيين يطلعوا نفرج عنهم ونديهم فرصة تانية".

واستكمل عبد الناصر حديثه وقال: "بعد كده أي واحد فيهم حيلعب بديله حنعتقله ومش حنخرجه أبداً من المعتقل، كفاية نحن لا نستطيع أن نغامر بمكاسبنا اللي حققناها في ال13 سنة اللي فاتت، ولا نستطيع أن نتهاون أبداً في مصيرنا أن نسلم أنفسنا لأعوان الاستعمار والرجعية، حتى لو كان اسمهم إخوان مسلمين، إحنا كلنا نعرف أن الإسلام في هذا ليس إلا خديعة علشان يضحكوا بيها على عقول الناس "العسكريين والمدنيين"، علشان ينضموا ليهم، أما هما لا هم مسلمين ولا هم إخوان، هما ناس حاقدين الحقد يملأ قلوبهم ونفوسهم، قيادتهم الموجودة في الخارج تعاونوا مع حلف بغداد، تعاونوا مع الدول الاستعمارية، تعاونوا مع أعدائنا، تعاونوا مع الرجعية العربية، وأثبتوا بالدليل الواضح أن حزب الإخوان المسلمين أو حركة الإخوان المسلمين تعمل لحساب الاستعمار وحساب الرجعية يمولها الاستعمار ويمولها الرجعيين، نحن حسب مبادئنا لن نسمح لأعوان الاستعمار ولا لأعوان الرجعية أن يكون لهم أي مجال ولا أي نشاط بيننا، لأننا بهذا نؤمّن مستقبلنا ونؤمن النجاح الذي حصلنا عليه".

وأضاف عبد الناصر: "الإخوان قاومونا سنة 1954م، وحاولوا أنهم يضربوا الثورة وكانوا بهذا يخدموا مصالح الاستعمار لأن الإنجليز كانوا موجودين، وإحنا كنا اتفقنا على الجلاء وأن يتم خلال 20 شهر، فقاموا هم وحاولوا أن يعملوا الاغتيالات وابتدأوا بمحاولتهم لاغتيالي أنا، واستطعنا إن إحنا نضربهم ونقضي عليهم".

وأنهى حديثه قائلاً، "الشعب ذلك الأيام كشفهم وعرفهم ونبذهم، وحبينا نديهم فرصة تانية ولكنهم لم يقبلوا بها".

ركز عبد الناصر في ذلك الخطاب علي القضايا القومية واليومية التي تمس المواطن المصري وحرص على إظهار جماعة الإخوان المسلمين على أنها تحاول أن تقوم بالتضييق على الناس بشكل عام، وتتآمر على الدولة المصرية وقضايا الأمة؛ لذلك اتهمهم مرات عديدة في الخطاب بالخيانة والعمالة حتى يؤصل تلك الفكرة في العقول والأذهان، حتى يحدث شرخ في العلاقة بين الشارع المصري وجماعة الإخوان المسلمين. وجدير بالذكر أن ذلك الخطاب استخدمة المعارضون لجماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة يناير وأثناء فترة الرئيس محمد مرسي عند مهاجمتهم لجماعة الإخوان.

ذلك الخطاب وضح طبيعة التعامل الذي مارسة عبد الناصر مع جماعة الإخوان المسلمين، ويرى البعض أن عبدالناصر وضح في ذلك الخطاب قواعد تعامل العسكر مع جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية بشكل عام ، لعلمه المسبق عندما كان قريباً من جماعة الإخوان في الفترة ما قبل عام 1952م، مدى قدرة جماعة الإخوان المسلمين على التأثير في الشارع المصري؛ مما يتيح لها التأثير على الحكم العسكري في أي فترة من الفترات.

ثانياً: حول علاقة السادات بجماعة الإخوان

مع بداية السبعينيات من القرن الماضي رحل حكم عبد الناصر بوفاته، وحل بدلاً منه السادات بفترة حكم عسكري جديدة لم تبتعد كثيراً عن التحالف مع الإخوان والانقلاب عليهم ومصالحتهم ثم سجنهم، وهكذا كانت وتيرة الحياة بين تحالفات الإخوان والسادات.

فعمل نظام السادات على تشجيع التيارات الإسلامية على اكتساح الجامعات، ومن رجال السادات الذين ساعدوا وموّلوا التيارات الإسلامية رجل الأعمال الذي كان يملك ثروة ضخمة "عثمان أحمد عثمان". وكذلك "عثمان إسماعيل" محافظ أسيوط. ثمّ إنّ رجال السادات عملوا كل ما في وسعهم على تشجيع الجماعات الإسلامية للتصدي للناصريين والشيوعيين. وكان من نتائج هذه السياسة سيطرة الإخوان المسلمين وأنصارهم على الجامعات، فمثلاً سنة 1978 فازوا بأغلب مقاعد جامعة الإسكندرية ومن بينها كلية الطب التي فازوا فيها بكل المقاعد وكلية الحقوق ب47 مقعدًا من جملة 48 مقعدًا.

ولكن بالرغم من تعاون السادات مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في فترات عديدة في وقت حكمه، إلا أنه في أواخر حكمه انقلب عليهم.

ومما يشير الي علاقة السادات بجماعة الإخوان والجماعات الإسلامية، ما جاء علي لسان أنور السادات في خطابه الأخير عام 1981م، قبل اغتياله وذلك بعد حملة الاعتقالات الشهيرة وقتها لقيادات جماعة الإخوان المسلمين وأغلب رموز المعارضة وقتها، وكان هذا الخطاب مشابه تماماً لخطاب عبد الناصر الذي أشرنا إليه سابقاً عام 1965م، وأكد السادات في ذلك الخطاب أن الإخوان هم أعداء ثورة 1952م، وأنهم يتخذون من الدين شعاراً فقط ولا يعملون علي تطبيقه، وأنهم لديهم مشروعهم الخاص، وقال السادات في ذلك الخطاب إنه لا يوجد شيء اسمه جماعات إسلامية؛ بل كل تلك الجماعات تتبع جماعة الإخوان المسلمين. ووصفهم بالشر والعمالة، وأنه أخرجهم من السجون وقام بإرجاعهم إلى وظائفهم ومكنهم من أخذ مستحقاتهم المالية، ولكنهم أصروا على تدمير الدولة وتكفير المجتمع. جدير بالذكر أن الخطاب كان بعد اتفاقية كامب ديفيد وسط معارضة كبيرة من جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية لتلك الاتفاقية، وكانت جماعة الإخوان تهاجم السادات بشكل كبير في مجلتها الشهرية "مجلة الدعوة".

ثالثاً: مبارك والإخوان

وصل حسني مبارك إلى السلطة بعد اغتيال محمد أنور السادات عام 1981. واتسمت علاقته مع جماعة الإخوان بعدة خصوصيات، من بينها المصالحة معهم ومع بقية القوى السياسية على غرار ما وقع مع بداية أي حكم جديد.

لكن إستراتيجية حسني مبارك تجاه جماعة الإخوان المسلمين لم تبعد عن إستراتيجية جمال عبد الناصر التي أسسها منذ عام 1954م، وسار عليها من بعده أنور السادات والتي تستهدف بالأساس تقويض جماعة الإخوان التي لديها رصيد كبير في الشار ع المصري، حتى لا تمثل تهديداً للحكم العسكري.

ويوجد فيديو لحسني مبارك في أوائل فترة التسعينات مشابه لخطابات عبد الناصر والسادات، يوضح فيه سياسته تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وجاء على لسان حسني مبارك في الفيديو "إن جماعة الإخوان المسلمين لا علاقة لها بالديمقراطية، وإن وصلت للحكم، ستقصي الجميع". وأضاف مبارك: "اوعوا تصدقوا أنهم عايزين ديمقراطية، بيستغلوها للوصول إلى الحكم، وإن نجحوا في ذلك ستكون الديكتاتورية بشعة، وسيكفرون كل شيء على وجه الأرض". وتابع: "جماعة الإخوان لا تعرف الحوار إلا عن طريق القنابل والرصاص"، وقال: "وكالات الأنباء العالمية، كانت تتجاهل شهداء الشرطة الذي استشهدوا إثر مواجهات مع هذه الجماعات الإرهابية، وتذهب إلى الإرهابيين لتنقل عنهم استهداف الأمن لهم، وكأنهم لا يرون في هذه المواجهة إلا هؤلاء وحقوقهم فقط". وأضاف “تلك الجماعات قتلت 104 شرطي في الثمانينات".

ومما يراه بعض المحللون أن مبارك ترك نشاط الإخوان لينمو في الشارع المصري، ولكنه كان يراقبه حتى لا يخرج من الإطار الذي رسمه له، وجعل مبارك الإخوان ليس فقط فزاعة للأحزاب السياسية المعارضة بل جعلهم فزاعة لأمريكا ودول الغرب، إذ كان مبارك دائماً يحذر الإدارة الأمريكية من التنظيمات الإسلامية في مصر ومدى خطورتها على الأمن القومي الإسرائيلي كمبرر للعنف غير المبرر الذي يستخدمه وزير داخليته في كبح المعارضة.

ختاماً

السيسي قام بإنقلاب عسكري على رئيس منتمٍ لجماعة الإخوان، فكان نموذجاً غير سابقيه، لذلك نكّل مباشرة بهم وقتلهم وزج بهم في السجون، وهي بالأساس إستراتيجية الجيش المصري تجاه أي تيار إسلامي حتى لو كان سلمياً وسطياً معتدلاً لا يؤمن بأن العنف وسيلة من وسائل الإصلاح والتغيير .

فمنذ عام 1954م، ينتهج الحكم العسكري إستراتيجية واحدة في التعامل مع التيارات الإسلامية، وهي إستراتيجة تعتمد على التنكيل والإقصاء، ولكن لتحقيق أهداف تكتيكية محددة تخدم الحكم العسكري بالأساس يستعين بالإسلامين وسريعاً ما ينقلب عليهم، وهذا الذي يجب فهمه عند التعامل مستقبلاً مع العسكر.

جدير بالذكر أن ممارسات العسكر تجاه جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1954م، وإلى عام 2013م، لم تنعكس على ردود أفعال جماعة الإخوان، وكانت في كل مرة تقع الجماعة في نفس الخطأ في تعاملها مع النظام العسكري؛ فكانت تتحالف معه ثم ينكل بها في نهاية المطاف، وتخرج من التجربة بخسائر كبيرة، وبرغم هذا لم تعد العدة المناسبة لمواجهة الحكم العسكري مستقبلاً.

ولكن مرت القوى الإسلامية بعدد من التطورات والتحولات منذ انقلاب 3 يوليو 2013، تحولت فيها طرق مواجهتها للحكم العسكري ،وذلك بعد تنامي الإدراك بوجود تناقض بين أهداف واستراتيجيات وبرامج القوى الشبابية تحديداً الموجودة داخل التيارات الإسلامية من جهة، وبين النخب القائمة على تلك الجماعات والحركات من جهة أخرى، فتغيرت المواقف وتبدلت التوجهات، وظهرت كيانات شبابية وثورية جديدة، في حين تدهورت مكانة وقوة كيانات أخرى. ولذلك لجأت بعض المجموعات الثورية والشبابية لأساليب أخرى لتحقيق أهدافها في مواجه الحكم العسكري، والذي ربما قد ينعكس على مواجهة الجماعة للانقلاب العسكري في مصر خلال السنوات القادمة.
‏١٥‏/٠١‏/٢٠١٩ ٨:٣١ م‏
التغيير السلمي أم التغييرالعنيف؟ م. أحمد مولانا [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] في ظل معطيات الواقع الصعب، قد يحاول المرء استقراء دروس التاريخ بعدسة اللحظة الراهنة، فيخرج بنتائج مزيفة، واستنتاجات خادعة. فعقب موجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن راجت أطروحة نجاعة التغيير السلمي الذي حقق نتائج ملموسة بأقل قدر من الخسائر مما جنب البلاد الدمار. وأُعلن عن وفاة أنماط التغيير العنيفة التي لم تنجح سابقاً في تغيير أي نظام عربي من الأنظمة المستبدة. ثم مع هبوب رياح موجات الثورات المضادة، ونجاحها في استعادة زمام الحكم الاستبدادي في بلدان الربيع العربي بالتوازي مع تمكن تنظيم (الدولة الإسلامية) من بسط سيطرته على مناطق شاسعة في العراق والشام، راج خطاب (السلمية دين من؟) وعلا سهم أطروحة التغيير بالقوة. ثم مع فقدان التنظيم للأراضي التي سيطر عليها، وانهيار النموذج الذي قدمه، عادت أصوات دعاة التغيير السلمي للتغريد من جديد بأن خيارهم هو الأصوب، والدليل أن التغيير بالقوة لم ينجح قط في إقامة دولة إسلامية في العصر الحالي. ويردد هذا الكلام مفكرون، وشعراء، وشيوخ، وقيادات جماعات وأحزاب، وشباب أثخنتهم الجراح. ويحتاج ذلك الطرح لتحليل عقلاني يسترشد بحالات التغيير والأنظمة الراسخة التي نشاهدها حولنا في أنحاء العالم. فالدول الكبرى الموجودة في عالمنا المعاصر لم تتأسس أنظمتها سوى عبر حروب أهلية دموية أو ثورات طاحنة أوجدت عقوداً اجتماعية جديدة بين الحكام والمواطنين. فأميركا بصورتها الحالية لم تتأسس سوى بحروب طاحنة ضد السكان الأصليين من أجل السيطرة على الأرض والموارد، ثم حرب ضروس في القرن الثامن عشر ضد بريطانيا العظمى من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العجوز وامتلاك القرار الذاتي، ثم بحرب أهلية طاحنة استمرت من عام 1861 إلى عام 1865 أسفرت عن مقتل قرابة المليون قتيل، لتنتهي الحرب برسوخ منظومة الحكم الأميركي الحالي. أما بريطانيا التي دشنت إمبراطورية هائلة خلال القرنين السابقين على الحرب العالمية الثانية، فلم يتأسس نظامها الحالي الذي صارت فيه الملكية رمزية سوى بعد حروب داخلية رهيبة بين الملكيين والبرلمانيين، بلغت أوجها بسيطرة كرمويل على الحكم وتأسيسه لنظام جمهوري في القرن السابع عشر، قبل أن يستعيد الملكيون الحكم مجدداً، ولكن مع فقدانهم لاحقاً لسلطاتهم المطلقة. وكذلك فرنسا التي يتغنى البعض حالياً بعدم سحق شرطتها لمتظاهري الستر الصفراء مثلما تفعل الأنظمة العربية مع شعوبها، فلم يتأسس نظامها الجمهوري إلا بعد ثورة حمراء على الأسرة الحاكمة الفرنسية عام 1789، ثم واجهت الثورة بعد ذلك التحالفات الأوربية التي نجحت في إعادة الملكية مؤقتاً إلى فرنسا، قبل أن ينجح الفرنسيون مجدداً في إعادة الحكم الجمهوري النيابي عام 1848، فيما يُعرف بالجمهورية الفرنسية الثانية بعد حروب ومواجهات داخلية وإقليمية. وحتى إيران، الوحش الإقليمي الذي يبتلع حالياً الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، فلم يتأسس نظامها الخميني سوى عبر ثورة شعبية دموية أطاحت بحكم الشاه في نهاية سبعينات القرن المنصرم، وأعدمت قرابة ألفين من أعوان الشاه عبر محاكم ثورية قادها صادق خلخالي. بل، وحتى النظام العسكري الحاكم في مصر فلم يصل للسلطة سوى بانقلابين عسكريين، الأول في يوليو 1952، والثاني في يوليو 2013. وكذلك الحال في النظام البعثي السوري الذي وصل للحكم عبر انقلاب عسكري قاده حافظ الأسد عام 1970. وكذلك الوضع في المملكة العربية السعودية التي نجح في تكوينها الملك عبدالعزيز آل سعود بعد حروب متنوعة مع الأشراف في الحجاز، وآل رشيد في حائل، والإخوان في السبيلة وغيرها. وهنا لا أتناول دور الدول الكبرى في تأسيس الأنظمة العربية، إنما أتناول كيفية تمكن قادة هذه الأنظمة من تأسيس حكمهم، والتغلب على خصومهم. وإذا كانت هذه هي دروس الواقع المعاصر، فدروس التاريخ أكثر دلالة، إذ لم تنشأ الدولة النبوية سوى بعد قتال الأعداء المتربصين بها في مكة وغيرها. وكذلك لم تنشأ الدول الأموية والعباسية والعثمانية سوى بعد حروب طاحنة. إذاً فتأسيس الدول والأنظمة الراسخة لم يتحقق إلا عبر أدوات التغيير غير السلمي، فهذه هي حقائق الواقع ودروس التاريخ. أما العمل السلمي فتكون له جدوى في التمهيد للتغيير العنيف، أو في إحداث تغيير في ظل منظومة حكم تحترم خيارات الشعوب. أما في غير ذلك فما هو إلا وهم وسراب يحسبه العطشى ماء. ويتفرع على أطروحة عدم جدوى أي تغيير سوى التغيير السلمي، أطروحة أخرى تزعم أن الثورات والتمردات تفشل في النهاية غالباً. ورغم أن هذا الزعم لا يستند إلى دراسة وافية إنما إلى نماذج منتقاة تدعمه، فإنه لقي رواجاً وانتشاراً. ولا أجد شيئاً يفنده أفضل من دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد الصادر عام 2012؛ إذ ورد فيه حسب إحصائية هامة أن عدد انتصارات التمردات يماثل عدد انتصارات الحكومات؛ إذ حيث جاء فيه ما يلي: "وقع ما لا يقل عن 130 تمرداً مسلحاً منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هناك ما لا يقل عن أربع وعشرين تمرداً مستمراً حتى أواخر عام 2011. ويبلغ متوسط استمرار هذه التمردات أكثر من 21 عاماً. ومن بين حالات التمرد المنتهية: - انتهت حوالى 36 في المائة بانتصار المتمردين بعد استغراق فترة صراع بلغ متوسطها قرابة 10 سنوات. - كان لدى 28 في المائة تقريباً نتائج متباينة، لأن المتحاربين توصلوا إلى تسويات تطلبت من الجميع تنازلات مهمة. وبلغ متوسط استمرار التمردات في هذه الصورة قرابة 8 سنوات. - أسفرت 36 في المائة من الحالات تقريباً عن انتصار الحكومة، بعد انقضاء فترة صراع بلغ متوسطها 12عاماً". ولا يعني ما سبق بطبيعة الحال أن أي محاولة تغيير بالقوة ستنجح، فهناك مقومات للتغيير متى افتقدت لن تنجح محاولات التغيير، دون أن يعني ذلك أن التغيير بالقوة غير مُجدٍ.
التغيير السلمي أم التغييرالعنيف؟
م. أحمد مولانا

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

في ظل معطيات الواقع الصعب، قد يحاول المرء استقراء دروس التاريخ بعدسة اللحظة الراهنة، فيخرج بنتائج مزيفة، واستنتاجات خادعة. فعقب موجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن راجت أطروحة نجاعة التغيير السلمي الذي حقق نتائج ملموسة بأقل قدر من الخسائر مما جنب البلاد الدمار.

وأُعلن عن وفاة أنماط التغيير العنيفة التي لم تنجح سابقاً في تغيير أي نظام عربي من الأنظمة المستبدة.

ثم مع هبوب رياح موجات الثورات المضادة، ونجاحها في استعادة زمام الحكم الاستبدادي في بلدان الربيع العربي بالتوازي مع تمكن تنظيم (الدولة الإسلامية) من بسط سيطرته على مناطق شاسعة في العراق والشام، راج خطاب (السلمية دين من؟) وعلا سهم أطروحة التغيير بالقوة.

ثم مع فقدان التنظيم للأراضي التي سيطر عليها، وانهيار النموذج الذي قدمه، عادت أصوات دعاة التغيير السلمي للتغريد من جديد بأن خيارهم هو الأصوب، والدليل أن التغيير بالقوة لم ينجح قط في إقامة دولة إسلامية في العصر الحالي. ويردد هذا الكلام مفكرون، وشعراء، وشيوخ، وقيادات جماعات وأحزاب، وشباب أثخنتهم الجراح. ويحتاج ذلك الطرح لتحليل عقلاني يسترشد بحالات التغيير والأنظمة الراسخة التي نشاهدها حولنا في أنحاء العالم.

فالدول الكبرى الموجودة في عالمنا المعاصر لم تتأسس أنظمتها سوى عبر حروب أهلية دموية أو ثورات طاحنة أوجدت عقوداً اجتماعية جديدة بين الحكام والمواطنين. فأميركا بصورتها الحالية لم تتأسس سوى بحروب طاحنة ضد السكان الأصليين من أجل السيطرة على الأرض والموارد، ثم حرب ضروس في القرن الثامن عشر ضد بريطانيا العظمى من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العجوز وامتلاك القرار الذاتي، ثم بحرب أهلية طاحنة استمرت من عام 1861 إلى عام 1865 أسفرت عن مقتل قرابة المليون قتيل، لتنتهي الحرب برسوخ منظومة الحكم الأميركي الحالي.

أما بريطانيا التي دشنت إمبراطورية هائلة خلال القرنين السابقين على الحرب العالمية الثانية، فلم يتأسس نظامها الحالي الذي صارت فيه الملكية رمزية سوى بعد حروب داخلية رهيبة بين الملكيين والبرلمانيين، بلغت أوجها بسيطرة كرمويل على الحكم وتأسيسه لنظام جمهوري في القرن السابع عشر، قبل أن يستعيد الملكيون الحكم مجدداً، ولكن مع فقدانهم لاحقاً لسلطاتهم المطلقة.

وكذلك فرنسا التي يتغنى البعض حالياً بعدم سحق شرطتها لمتظاهري الستر الصفراء مثلما تفعل الأنظمة العربية مع شعوبها، فلم يتأسس نظامها الجمهوري إلا بعد ثورة حمراء على الأسرة الحاكمة الفرنسية عام 1789، ثم واجهت الثورة بعد ذلك التحالفات الأوربية التي نجحت في إعادة الملكية مؤقتاً إلى فرنسا، قبل أن ينجح الفرنسيون مجدداً في إعادة الحكم الجمهوري النيابي عام 1848، فيما يُعرف بالجمهورية الفرنسية الثانية بعد حروب ومواجهات داخلية وإقليمية.

وحتى إيران، الوحش الإقليمي الذي يبتلع حالياً الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، فلم يتأسس نظامها الخميني سوى عبر ثورة شعبية دموية أطاحت بحكم الشاه في نهاية سبعينات القرن المنصرم، وأعدمت قرابة ألفين من أعوان الشاه عبر محاكم ثورية قادها صادق خلخالي.

بل، وحتى النظام العسكري الحاكم في مصر فلم يصل للسلطة سوى بانقلابين عسكريين، الأول في يوليو 1952، والثاني في يوليو 2013. وكذلك الحال في النظام البعثي السوري الذي وصل للحكم عبر انقلاب عسكري قاده حافظ الأسد عام 1970.

وكذلك الوضع في المملكة العربية السعودية التي نجح في تكوينها الملك عبدالعزيز آل سعود بعد حروب متنوعة مع الأشراف في الحجاز، وآل رشيد في حائل، والإخوان في السبيلة وغيرها. وهنا لا أتناول دور الدول الكبرى في تأسيس الأنظمة العربية، إنما أتناول كيفية تمكن قادة هذه الأنظمة من تأسيس حكمهم، والتغلب على خصومهم.

وإذا كانت هذه هي دروس الواقع المعاصر، فدروس التاريخ أكثر دلالة، إذ لم تنشأ الدولة النبوية سوى بعد قتال الأعداء المتربصين بها في مكة وغيرها. وكذلك لم تنشأ الدول الأموية والعباسية والعثمانية سوى بعد حروب طاحنة.

إذاً فتأسيس الدول والأنظمة الراسخة لم يتحقق إلا عبر أدوات التغيير غير السلمي، فهذه هي حقائق الواقع ودروس التاريخ. أما العمل السلمي فتكون له جدوى في التمهيد للتغيير العنيف، أو في إحداث تغيير في ظل منظومة حكم تحترم خيارات الشعوب. أما في غير ذلك فما هو إلا وهم وسراب يحسبه العطشى ماء.

ويتفرع على أطروحة عدم جدوى أي تغيير سوى التغيير السلمي، أطروحة أخرى تزعم أن الثورات والتمردات تفشل في النهاية غالباً. ورغم أن هذا الزعم لا يستند إلى دراسة وافية إنما إلى نماذج منتقاة تدعمه، فإنه لقي رواجاً وانتشاراً. ولا أجد شيئاً يفنده أفضل من دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد الصادر عام 2012؛ إذ ورد فيه حسب إحصائية هامة أن عدد انتصارات التمردات يماثل عدد انتصارات الحكومات؛ إذ حيث جاء فيه ما يلي: "وقع ما لا يقل عن 130 تمرداً مسلحاً منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هناك ما لا يقل عن أربع وعشرين تمرداً مستمراً حتى أواخر عام 2011. ويبلغ متوسط استمرار هذه التمردات أكثر من 21 عاماً. ومن بين حالات التمرد المنتهية:

- انتهت حوالى 36 في المائة بانتصار المتمردين بعد استغراق فترة صراع بلغ متوسطها قرابة 10 سنوات.
- كان لدى 28 في المائة تقريباً نتائج متباينة، لأن المتحاربين توصلوا إلى تسويات تطلبت من الجميع تنازلات مهمة. وبلغ متوسط استمرار التمردات في هذه الصورة قرابة 8 سنوات.
- أسفرت 36 في المائة من الحالات تقريباً عن انتصار الحكومة، بعد انقضاء فترة صراع بلغ متوسطها 12عاماً".
ولا يعني ما سبق بطبيعة الحال أن أي محاولة تغيير بالقوة ستنجح، فهناك مقومات للتغيير متى افتقدت لن تنجح محاولات التغيير، دون أن يعني ذلك أن التغيير بالقوة غير مُجدٍ.
‏١٣‏/٠١‏/٢٠١٩ ٩:١٢ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (10) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية [حمل العدد الجديد: http://bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: http://bit.ly/2SxEkLM ] أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبة • أول أيامي في الجامعة كان هو يوم 6 أكتوبر 1973م. • لم نصدق أننا عبرنا القناة إلا حين أذاعت الخبر الإذاعات الأجنبية • انتبه اليسار مبكراً إلى أن حرب أكتوبر كانت حرب تحريك لا تحرير سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] وقعت حرب أكتوبر في أول أيامي بالجامعة.. ولكن قبل أن أنتقل إلى هذا اليوم، ينبغي أن أذكر مصير المجموعة التي كوَّنْتُها في المدرسة والتي سمَّيْناها "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تلك المجموعة التي رويت سابقاً كيف أننا بنيناها على حلم بسيط واضح: أن ندخل إلى الكلية الحربية، لننفذ فيما بعد انقلاباً عسكرياً ونقيم الدولة الإسلامية، مثلما فعل عبدالناصر لما أسس دولته بانقلاب على الملكية ولم يكن إلا مجرد ضابط! بلغت هذه المجموعة خمسة عشر طالباً، وبمجرد ظهور نتيجة الثانوية العامة نفذنا جميعاً بلا استثناء الخطوة الأولى: التقدم بطلبات الانتساب للكلية العسكرية: الكلية الحربية والكلية الفنية العسكرية وكلية الشرطة، كنتُ أنَسِّق وأتابع، لكن اختيار هذه الكليات كان متروكاً لكل شخص بحسب ما يرى من مواهبه وميوله. لكن لم يفلح إلا واحد فقط في الانتساب للكلية الحربية!! وتفرق البقية، اثنان دخلا كلية الطب، أحدهما هو د. منصور عبدالحميد الذي يشغل الآن رئيس جامعة أسوان، وقد استمر الرجل متديناً وإن لم يكن "إسلامياً" بالمعنى الحركي. والآخر هو عبدالحميد لا يحضرني اسمه كاملاً وهو الآن عميد لكلية الطب جامعة أسيوط، والتحق أحمد سالم –رحمه الله- بكلية العلوم وصار فيما بعد رئيساً لقسم الجيولوجيا بالكلية، وكان قد أَمَّل أن يدخل قسم الرياضيات ولكن لما قضى الله بافتراقنا الدراسي دخل الجيولوجيا، وثمة أخ أيضاً اسمه سمير التحق بكلية الهندسة وانقطعت عني أخباره، والبقية لا أذكرهم الآن. كان خروج الجميع لاعتبارات تتعلق بالطول أو بقوة النظر أو باختبارات في كشف الهيئة، والأهم من ذلك أن دخول مثل هذه الكليات كان يتوقف على قوانين أخرى غير مكتوبة، وهي الأقوى والأولى: تلك هي قوانين الوساطة والمحسوبية، ولم يكن لنا من وسائط بطبيعة الحال. وهكذا تعطلت خطتنا الطموحة في إقامة الدولة الإسلامية عند المطب الأول، ومن هنا تفرقت السبل بالمجموعة بين الكُلِّيَّات، ومرَّت السنة الأولى علينا وقد أخذتنا رهبة الكلية ودَوَّامتها، وكان أولئك الذين دخلوا إلى الطب والهندسة هم الأكثر انشغالاً، وقد انشغلت أنا في مسألة إعادة الثانوية العامة بالإضافة لأمور الكلية التي التحقت بها. لقد كان أولئك الشباب متفوقين، والجامعة في سنواتها الأولى تطرح تحدياً على المتفوق، الذي يختبر تفوقه حقاً بين أقرانه ونظرائه المتفوقين الذين دخلوا معه إلى نفس الكلية، وعادة ما تكون الاستجابة لدى المتفوق أن ينغمر في هذا التحدي الجامعي! لم يكن لأيٍّ منا في هذه السنة نشاط جامعي يُذكَر، ولا خطر ببالنا أن نكون عناصر قيادية، وإنما كنا نشارك فيما هو موجود، ولم يزل اليسار في تلك الفترة هو صاحب اليد العليا في الساحة الطلابية. ظل التفكير في قلب نظام الحكم حاضراً في عقولنا وقلوبنا لكن السنة الأولى بأحداثها –التي سأذكرها لاحقاً- شغلتنا. وأما الذي التحق بالكلية الحربية فقد انفصل عنا فيما بعد، وآخر اتصال بيني وبينه كان وهو في رتبة الملازم أول، وكنت متابعاً لأخباره، وغالب ظني أنه لم يخرج إلى المعاش بعد، إلا أنه على أبواب الستين الآن وليس ثمة داع لذكر اسمه، إلا أن انشغاله عنا كان مُضاعَفًا: غمرة الكلية وسطوة الاتجاه الجديد الذي تفرضه مناهج التربية والتأطير والتشكيل العسكرية السلطوية الدولتية، والتي لا يكاد ينجو أحد من تحولاتها الجذرية. لم نستفق من غمرة السنة الأولى إلا في إجازة منتصف السنة، عقدنا أول اجتماع فيما بيننا، بمن فيها هذا العضو الوحيد الذي استطاع الالتحاق بالكلية الحربية، وشهد هذا الاجتماع تحولاً في مسار الحلم الطموح، فقد طرح أحمد سالم فكرة تقول: لئن كنا أخفقنا في الدخول للكليات العسكرية فيجب أن تكون مهمتنا القادمة التفوق في الكلية حتى الوصول إلى رتبة الأستاذ الجامعي، فيجب علينا جميعاً أن نكون أساتذة جامعيين، لكل منا دوره المؤثر في التغيير من خلال موقعه المرموق، ومهما يكن فإن الأستاذ الجامعي لا يقل أهمية عن ضابط الجيش أو ضابط الشرطة. تداولنا النقاش حول هذه الفكرة، وكان ثمة ميل عام إليها، أو نستطيع أن نصوغ الأمر بعبارة أخرى: كان هذا الاجتماع هو الذي تحولنا به من المنهج الثوري التغييري إلى المنهج الإصلاحي المهادن، ثم سارت بنا أودية الزمان فانتهى معها المشروع الإصلاحي أيضاً. أستطيع القول الآن إن هذه كانت المحاولة الأولى غير الناجحة في تجربتي الحركية. وأعود من ذلك الاجتماع في منتصف العام الدراسي الأول إلى بداية العام الدراسي، ومن المجال الخاص إلى المجال العام.. لقد كان أول أيامي الجامعية هو اليوم المشهود في التاريخ المعاصر: 6 أكتوبر 1973م. ذهبت إلى الجامعة يوم 3 أكتوبر، حصلت على سكن خارج المدينة الجامعية، ضمن "رابطة أبناء قنا" في محافظة المنيا، وذلك لأن سني أكبر من من الصف الدراسي، وقد ذكرتُ سابقاً أنني دخلت الصف الثاني الابتدائي وكان من المفترض أن أدخل إلى الصف الثالث الابتدائي، فبَقِيَتْ فترة الأشهر الستة الزائدة حتى منعتني من التسجيل في المدينة الجامعية كما كان النظام المتبع في ذلك الوقت. أنهيت إجراءات الالتحاق بالجامعة، ثم حضرنا حفل الافتتاح في يوم السادس من أكتوبر 1973م، وكان هذا الحفل تقليداً تتبعه جامعة أسيوط، يتجمع الطلاب الجدد في صالة الألعاب الرياضية ويخطب فيهم رئيس الجامعة وبعض الأساتذة، وكان رئيس الجامعة في ذلك الوقت محمد حمدي النشار وكان خريج كلية التجارة، وانتهى الاحتفال، وأثناء رجوعنا إلى البيوت كنا نرى حالة غليان في الشارع عند الساعة الثانية وعشر دقائق، يصيح بعض الناس: قامت الحرب! ونسأل: أي حرب قامت؟! وكنت حينها في أتوبيس خاص بالجامعة ينقل الطلبة بين مباني الجامعة القديمة ومبانيها الجديدة، حتى إذا مررنا على كُشْكٍ صغير كنا نشتري منه الجرائد والمشروبات الغازية نزلتُ من الأتوبيس وتوجهت إليه حيث اجتمع الناس عنده، وكان صوت المذياع بدأ يصدح بالبيان الأول بعد حرب أكتوبر. كبَّر الناس جميعًا، وكبَّرْنا، وكان أغلب هذا الجمع من الطلاب، وفوراً وبتلقائية كنا نقول: يجب ألا تنتهي هذه الحرب إلا بتحرير فلسطين، وسرعان ما تطور هتافنا وهتاف الناس معنا: إلى فلسطين إلى فلسطين. وفي اليوم التالي كانت الخطابات الإعلامية الرسمية تتجاوب مع هذه المشاعر وتتحدث عن فلسطين وتحريرها، وكانت من أروع لحظات ارتفاع الروح المعنوية لدى الشعب المصري، بل ربما لا تشبهها لحظة أخرى، وبلغت الثقة بالجميع أن هذه المعركة هي معركة تحرير فلسطين. كان كبار السنّ أكثر تردداً وإحجاماً عن مشاركتنا هذه الفرحة، لم تزل ذكرى نكبة يونيو 1967 راسية في صدورهم، يتذكرون حين سمعوا أنباء إسقاط الطائرات المتكررة ثم استيقظوا من الوهم اللذيذ على الواقع المر، كان لسان حالهم ومقالهم: وما يدريكم لعل إسرائيل هي التي هاجمت ونحن الذين نندحر. لكن هؤلاء انضموا إلينا حين بدأت الإذاعات العالمية –مثل: بي بي سي ومونت كارلو وصوت أمريكا، وهي الإذاعات الثلاث التي كانت مشهورة في ذلك الوقت- تنقل خبر المعركة وتؤكد أن القوات المصرية صارت في الضفة الشرقية من قناة السويس، وهكذا كان اليوم التالي يوماً اجتمعت فيه مشاعر الناس صغيرهم وكبيرهم على الفرحة العارمة والأمل الكبير. ما لبثت أن جاءت الأخبار بما لا تشتهي السفن، ليست إلا أياماً حتى صدر قرار وقف إطلاق النار واستجابت له الحكومة المصرية، كان وقف إطلاق النار طامّة نزلت على الناس في مصر، لم يكن منهم من يؤيده، ولم يكن منهم من يتوقعه. ومما يُحسَب لليسار هنا، والذي كان غالباً على الساحة الطلابية وعلى مجمل الحالة الثقافية والإعلامية في مصر، أنه أعلن أن حرب أكتوبر بهذا الشكل إنما هي حرب تحريك لا تحرير، وقد كان السادات بعد عشرة أيام من بداية الحرب قد أعلن في خطابه الشهير (16 أكتوبر 1973م) عن استعداده للسلام ولحضور مؤتمر دولي للسلام سيُقنع القادة العرب والفلسطينيين بحضوره، وقد حاول السادات أن يبدو في هذا الخطاب كالمتحدث من موقع القوة وبدا أنه مصدوم من الموقف الأمريكي وألمح إلى خطورة الوضع بعد الجسر الجوي والبحري الأمريكي المتدفق لدعم إسرائيل. وقد شكَّل هذا الخطاب صدمة للجماهير في مصر التي لم يكن منها أحد مستعدًا لسماع قبول وقف إطلاق النار فضلاً عن الحديث عن سلام بين العرب وإسرائيل. لكن أحلام الشعوب كانت في واد وحركة السياسة كانت في واد آخر، فقد عملت سائر القوى الدولية بما فيها الاتحاد السوفيتي على وقف إطلاق النار، وفيما بعد حدثت الثغرة وبدأ انقلاب الموقف العسكري لصالح إسرائيل، التي بدا أنها قد استوعبت المفاجأة وامتصت الصدمة وبدأت في التقدم من جديد.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (10)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2SxEkLM ]

أخفقت خطة إقامة الدولة الإسلامية عند أول عقبة

• أول أيامي في الجامعة كان هو يوم 6 أكتوبر 1973م.
• لم نصدق أننا عبرنا القناة إلا حين أذاعت الخبر الإذاعات الأجنبية
• انتبه اليسار مبكراً إلى أن حرب أكتوبر كانت حرب تحريك لا تحرير

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

وقعت حرب أكتوبر في أول أيامي بالجامعة..

ولكن قبل أن أنتقل إلى هذا اليوم، ينبغي أن أذكر مصير المجموعة التي كوَّنْتُها في المدرسة والتي سمَّيْناها "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، تلك المجموعة التي رويت سابقاً كيف أننا بنيناها على حلم بسيط واضح: أن ندخل إلى الكلية الحربية، لننفذ فيما بعد انقلاباً عسكرياً ونقيم الدولة الإسلامية، مثلما فعل عبدالناصر لما أسس دولته بانقلاب على الملكية ولم يكن إلا مجرد ضابط!
بلغت هذه المجموعة خمسة عشر طالباً، وبمجرد ظهور نتيجة الثانوية العامة نفذنا جميعاً بلا استثناء الخطوة الأولى: التقدم بطلبات الانتساب للكلية العسكرية: الكلية الحربية والكلية الفنية العسكرية وكلية الشرطة، كنتُ أنَسِّق وأتابع، لكن اختيار هذه الكليات كان متروكاً لكل شخص بحسب ما يرى من مواهبه وميوله.

لكن لم يفلح إلا واحد فقط في الانتساب للكلية الحربية!! وتفرق البقية، اثنان دخلا كلية الطب، أحدهما هو د. منصور عبدالحميد الذي يشغل الآن رئيس جامعة أسوان، وقد استمر الرجل متديناً وإن لم يكن "إسلامياً" بالمعنى الحركي. والآخر هو عبدالحميد لا يحضرني اسمه كاملاً وهو الآن عميد لكلية الطب جامعة أسيوط، والتحق أحمد سالم –رحمه الله- بكلية العلوم وصار فيما بعد رئيساً لقسم الجيولوجيا بالكلية، وكان قد أَمَّل أن يدخل قسم الرياضيات ولكن لما قضى الله بافتراقنا الدراسي دخل الجيولوجيا، وثمة أخ أيضاً اسمه سمير التحق بكلية الهندسة وانقطعت عني أخباره، والبقية لا أذكرهم الآن.

كان خروج الجميع لاعتبارات تتعلق بالطول أو بقوة النظر أو باختبارات في كشف الهيئة، والأهم من ذلك أن دخول مثل هذه الكليات كان يتوقف على قوانين أخرى غير مكتوبة، وهي الأقوى والأولى: تلك هي قوانين الوساطة والمحسوبية، ولم يكن لنا من وسائط بطبيعة الحال.

وهكذا تعطلت خطتنا الطموحة في إقامة الدولة الإسلامية عند المطب الأول، ومن هنا تفرقت السبل بالمجموعة بين الكُلِّيَّات، ومرَّت السنة الأولى علينا وقد أخذتنا رهبة الكلية ودَوَّامتها، وكان أولئك الذين دخلوا إلى الطب والهندسة هم الأكثر انشغالاً، وقد انشغلت أنا في مسألة إعادة الثانوية العامة بالإضافة لأمور الكلية التي التحقت بها. لقد كان أولئك الشباب متفوقين، والجامعة في سنواتها الأولى تطرح تحدياً على المتفوق، الذي يختبر تفوقه حقاً بين أقرانه ونظرائه المتفوقين الذين دخلوا معه إلى نفس الكلية، وعادة ما تكون الاستجابة لدى المتفوق أن ينغمر في هذا التحدي الجامعي!

لم يكن لأيٍّ منا في هذه السنة نشاط جامعي يُذكَر، ولا خطر ببالنا أن نكون عناصر قيادية، وإنما كنا نشارك فيما هو موجود، ولم يزل اليسار في تلك الفترة هو صاحب اليد العليا في الساحة الطلابية. ظل التفكير في قلب نظام الحكم حاضراً في عقولنا وقلوبنا لكن السنة الأولى بأحداثها –التي سأذكرها لاحقاً- شغلتنا.

وأما الذي التحق بالكلية الحربية فقد انفصل عنا فيما بعد، وآخر اتصال بيني وبينه كان وهو في رتبة الملازم أول، وكنت متابعاً لأخباره، وغالب ظني أنه لم يخرج إلى المعاش بعد، إلا أنه على أبواب الستين الآن وليس ثمة داع لذكر اسمه، إلا أن انشغاله عنا كان مُضاعَفًا: غمرة الكلية وسطوة الاتجاه الجديد الذي تفرضه مناهج التربية والتأطير والتشكيل العسكرية السلطوية الدولتية، والتي لا يكاد ينجو أحد من تحولاتها الجذرية.

لم نستفق من غمرة السنة الأولى إلا في إجازة منتصف السنة، عقدنا أول اجتماع فيما بيننا، بمن فيها هذا العضو الوحيد الذي استطاع الالتحاق بالكلية الحربية، وشهد هذا الاجتماع تحولاً في مسار الحلم الطموح، فقد طرح أحمد سالم فكرة تقول: لئن كنا أخفقنا في الدخول للكليات العسكرية فيجب أن تكون مهمتنا القادمة التفوق في الكلية حتى الوصول إلى رتبة الأستاذ الجامعي، فيجب علينا جميعاً أن نكون أساتذة جامعيين، لكل منا دوره المؤثر في التغيير من خلال موقعه المرموق، ومهما يكن فإن الأستاذ الجامعي لا يقل أهمية عن ضابط الجيش أو ضابط الشرطة.

تداولنا النقاش حول هذه الفكرة، وكان ثمة ميل عام إليها، أو نستطيع أن نصوغ الأمر بعبارة أخرى: كان هذا الاجتماع هو الذي تحولنا به من المنهج الثوري التغييري إلى المنهج الإصلاحي المهادن، ثم سارت بنا أودية الزمان فانتهى معها المشروع الإصلاحي أيضاً.

أستطيع القول الآن إن هذه كانت المحاولة الأولى غير الناجحة في تجربتي الحركية.

وأعود من ذلك الاجتماع في منتصف العام الدراسي الأول إلى بداية العام الدراسي، ومن المجال الخاص إلى المجال العام.. لقد كان أول أيامي الجامعية هو اليوم المشهود في التاريخ المعاصر: 6 أكتوبر 1973م.

ذهبت إلى الجامعة يوم 3 أكتوبر، حصلت على سكن خارج المدينة الجامعية، ضمن "رابطة أبناء قنا" في محافظة المنيا، وذلك لأن سني أكبر من من الصف الدراسي، وقد ذكرتُ سابقاً أنني دخلت الصف الثاني الابتدائي وكان من المفترض أن أدخل إلى الصف الثالث الابتدائي، فبَقِيَتْ فترة الأشهر الستة الزائدة حتى منعتني من التسجيل في المدينة الجامعية كما كان النظام المتبع في ذلك الوقت.

أنهيت إجراءات الالتحاق بالجامعة، ثم حضرنا حفل الافتتاح في يوم السادس من أكتوبر 1973م، وكان هذا الحفل تقليداً تتبعه جامعة أسيوط، يتجمع الطلاب الجدد في صالة الألعاب الرياضية ويخطب فيهم رئيس الجامعة وبعض الأساتذة، وكان رئيس الجامعة في ذلك الوقت محمد حمدي النشار وكان خريج كلية التجارة، وانتهى الاحتفال، وأثناء رجوعنا إلى البيوت كنا نرى حالة غليان في الشارع عند الساعة الثانية وعشر دقائق، يصيح بعض الناس: قامت الحرب! ونسأل: أي حرب قامت؟! وكنت حينها في أتوبيس خاص بالجامعة ينقل الطلبة بين مباني الجامعة القديمة ومبانيها الجديدة، حتى إذا مررنا على كُشْكٍ صغير كنا نشتري منه الجرائد والمشروبات الغازية نزلتُ من الأتوبيس وتوجهت إليه حيث اجتمع الناس عنده، وكان صوت المذياع بدأ يصدح بالبيان الأول بعد حرب أكتوبر.

كبَّر الناس جميعًا، وكبَّرْنا، وكان أغلب هذا الجمع من الطلاب، وفوراً وبتلقائية كنا نقول: يجب ألا تنتهي هذه الحرب إلا بتحرير فلسطين، وسرعان ما تطور هتافنا وهتاف الناس معنا: إلى فلسطين إلى فلسطين. وفي اليوم التالي كانت الخطابات الإعلامية الرسمية تتجاوب مع هذه المشاعر وتتحدث عن فلسطين وتحريرها، وكانت من أروع لحظات ارتفاع الروح المعنوية لدى الشعب المصري، بل ربما لا تشبهها لحظة أخرى، وبلغت الثقة بالجميع أن هذه المعركة هي معركة تحرير فلسطين.

كان كبار السنّ أكثر تردداً وإحجاماً عن مشاركتنا هذه الفرحة، لم تزل ذكرى نكبة يونيو 1967 راسية في صدورهم، يتذكرون حين سمعوا أنباء إسقاط الطائرات المتكررة ثم استيقظوا من الوهم اللذيذ على الواقع المر، كان لسان حالهم ومقالهم: وما يدريكم لعل إسرائيل هي التي هاجمت ونحن الذين نندحر. لكن هؤلاء انضموا إلينا حين بدأت الإذاعات العالمية –مثل: بي بي سي ومونت كارلو وصوت أمريكا، وهي الإذاعات الثلاث التي كانت مشهورة في ذلك الوقت- تنقل خبر المعركة وتؤكد أن القوات المصرية صارت في الضفة الشرقية من قناة السويس، وهكذا كان اليوم التالي يوماً اجتمعت فيه مشاعر الناس صغيرهم وكبيرهم على الفرحة العارمة والأمل الكبير.

ما لبثت أن جاءت الأخبار بما لا تشتهي السفن، ليست إلا أياماً حتى صدر قرار وقف إطلاق النار واستجابت له الحكومة المصرية، كان وقف إطلاق النار طامّة نزلت على الناس في مصر، لم يكن منهم من يؤيده، ولم يكن منهم من يتوقعه.

ومما يُحسَب لليسار هنا، والذي كان غالباً على الساحة الطلابية وعلى مجمل الحالة الثقافية والإعلامية في مصر، أنه أعلن أن حرب أكتوبر بهذا الشكل إنما هي حرب تحريك لا تحرير، وقد كان السادات بعد عشرة أيام من بداية الحرب قد أعلن في خطابه الشهير (16 أكتوبر 1973م) عن استعداده للسلام ولحضور مؤتمر دولي للسلام سيُقنع القادة العرب والفلسطينيين بحضوره، وقد حاول السادات أن يبدو في هذا الخطاب كالمتحدث من موقع القوة وبدا أنه مصدوم من الموقف الأمريكي وألمح إلى خطورة الوضع بعد الجسر الجوي والبحري الأمريكي المتدفق لدعم إسرائيل.

وقد شكَّل هذا الخطاب صدمة للجماهير في مصر التي لم يكن منها أحد مستعدًا لسماع قبول وقف إطلاق النار فضلاً عن الحديث عن سلام بين العرب وإسرائيل. لكن أحلام الشعوب كانت في واد وحركة السياسة كانت في واد آخر، فقد عملت سائر القوى الدولية بما فيها الاتحاد السوفيتي على وقف إطلاق النار، وفيما بعد حدثت الثغرة وبدأ انقلاب الموقف العسكري لصالح إسرائيل، التي بدا أنها قد استوعبت المفاجأة وامتصت الصدمة وبدأت في التقدم من جديد.
‏١١‏/٠١‏/٢٠١٩ ٧:١٦ م‏
الجزائر ...إلى أين ؟ (01) الصغير @[100001613664823:2048:منير] [حمل العدد الجديد: bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: bit.ly/2SxEkLM] الجزائر في أزمة، بل هي في طريق مسدود؛ فلا أحد يمتلك حلّاً أو تصوّراً أو رؤية لما يمكن أن يحدث في أيّ لحظة. وكلّ ما تقدّمه الأحزاب السياسيّة إنّما هو وصفات مهدّئة أو أحلام يقظة أو مبادرات يعلم من يطرحها قبل غيره أنّها مجرّد عبث وتلبيس وتدليس على الشعب الجزائري، أو أنّها في أحسن أحوالها تبرئة للذمّة وموقف يُسجّل للتاريخ، أما النظام الجزائريّ فهو كعادته يتعامل مع هذه المبادرات باستهتار ولا مبالاة تامّة، ويكرّر أسلوبه الذي يتقنه جيّداً، ألا وهو الاحتواء والاستيعاب، أو الاختراق والتوظيف، أو الإقصاء والتهميش. أمّا على المستوى الشعبيّ فهناك عزوف شبه كامل عن المشاركة في الشأن العام، وسلبيّة كبرى تجاه كل ما يطرحه السياسيّون بحيث لا تكاد تجد لما يطرحونه أيّ صدى في الشارع، وهناك حالة من اليأس والإحباط وانعدام الثقة في أيّ مبادرة سياسيّة. وأصبحتَ لا تجد شخصيّة سياسيّة تستطيع التأثير في الكتلة الحرجة للرأي العام وحشدَه وإلهامه بحُلم جديد كبير يؤمن به الشعب ويلتفّ حوله ويضحّي في سبيله. لقد كانت أحداث التسعينيات ذات أثر نفسي واجتماعي وسياسيّ خطير، وأحدثت خللاً كبيراً في تماسك المجتمع الجزائري وأخلاقه وتصوراته وبنيته النفسية والفكرية والمفاهيميّة. وكان ذلك أمراً مقصوداً جسّده العنف المادّي والمعنوي الذي عرفه الجزائريون إبّان العشرية كصدمة مروّعة، عقاباً لهم على الاصطفاف مع مشروع سياسيّ مثّلته الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، والذين كان في حقيقته تعبيراً صارخاً قويّاً عن رغبة الجزائريين في استكمال عملية التحرير وتحقيق الدولة المستقلّة ذات السيادة في إطار مبادئ الإسلام، بصرف عن النّظر عن أخطاء الجبهة الإسلامية وطريقتها في إدارة الصراع وقد كتبتُ فيه بشكل مختصر خمس مقالات في مجلّة (كلمة حقّ) يمكن الرجوع إليها لمزيد من الفهم. لقد رافق البطشَ والقهرَ والتنكيلَ والتهجير القسري لمئات الآلاف من قراهم ومزارعهم وأريافهم، بطشٌ إعلاميّ تمثّل في الجرأة على المقدّسات وتكسير الطابوهات وتشويه وإسقاط الرموز والمرجعيات، وإثارة وإحياء نزعات القبيلة والعِرق والجهة واللهجات والانتماءات الجاهليّة التي سبقت الإسلام، وإشاعة الفحشاء والمنكر والخنا، وامتلأت الصحف والجرائد بأخبار القتل والجرائم والانتحار والاختلاسات والفساد والفضائح، وصاحب ذلك هجوم عنيف على المسجد وإفراغه من أي معنى وتحييده ليصبح أشبه بالكنيسة، لا يربّي ولا يغرس قيماً ولا يسمو بروح، ولا يُصدع فوق منابره بكلمة حق ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر. ومع المسجد كانت المدرسة تعاني من حرب ضروس بين تيّار محافظ إصلاحي، وتيّار تغريبي عَلماني يستقوي بأدوات الدولة ومواردها، ويستخدم القانون ومؤسسات الدولة لتكون كلمته هي العليا. ورُكّز بشدّة على صياغة منظومة قانونيّة تخدم الطرف الأقوى المتنفّذ والمرتبط بأجندات هيمنة عالمية وشبكات فساد ودول أجنبيّة، على رأسها فرنسا، ومصالح ومكاسب حقّقها التيّار الاستئصالي بعد إعلان حربه على الشعب الجزائري في انقلاب عام 1992، والذي كان في حقيقته - حين نراجع أسماء المدبّرين له واستراتيجياتهم في إدارة الصراع وعلاقاتهم وارتباطاتهم وشبكة ولاءاتهم – حرباً فرنسيّة استعماريّة جديدة على الشعب الجزائريّ، بأيدٍ جزائرية وأدوات جديدة وخطط أشدّ مكراً ودهاء، وقد خرج للعلن من الكتابات والشهادات والمقالات والوثائق ما يؤكّد ذلك، ولكنّ الباحثين والإعلاميين الجادّين على قلّتهم يتجنّبون الخوض في ذلك والكتابة فيه خشية الانتقام، أو تفعيل بعض موادّ (قانون المصالحة) التي تجرّم كلّ من ينبش في جرائم التسعينيات. هذا التحطيم الممنهج للمجتمع بدأ في أواسط التسعينيات، ولكنّه اشتدّ ضراوة وقسوة وتغوّلاً بعد تعيين بوتفليقة رئيساً عام 1999، إذ بلغ الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والمجتمعي ذروته في العقديْن الأخيريْن، وأصبحت خططه أكثر اتّساقاً وفعالية من ذي قبل، وأصبحت الحجة الجاهزة أن الرئيس جلب معه الأمن والسلام والمصالحة، وأنهى عقداً من الاحتراب الداخلي والفتنة؛ فوجب على الشعب الجزائريّ أن يقبل بكلّ شيء اعترافاً منه بنعمة الأمن والسلام، وحرصاً على عدم تكرارها مجدداً. نعم.. هناك ابتزاز نفسي واجتماعي وسياسي رهيب للجزائريين بما حدث لهم في التسعينيات، وتخويف لهم وتذكير به في كلّ مناسبة، وانتقل النظام كلّه من (الشرعية الثوريّة) التي أفرزتها ثورة التحرير، إلى شرعية جديدة هي (شرعية الحرب على الإرهاب)، التي انتصر فيها بزعمه على الإرهابيين، وأصبح يقدّم نفسه على المستوى الدولي خبيراً ومستشاراً فيها. ثمّ جاءت أحداث الربيع العربيّ لترسّخ هذا المعنى وتضاعف من حجم الابتزاز الإعلامي للشعب الجزائري بما حدث ويحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا. كلّ الأرقام والمختصّين والخبراء في الجزائر اليوم مجمعون على الفشل الذريع والانسداد الكامل والانهيار المريع على جميع المستويات. ولا تكاد تجد متحدثاً عاقلاً ذا قيمة علمية ووجاهة في تخصصه بعيداً عن التزلّف والتملّق يقول غير ذلك. ومع ذلك فإنّ كلّ الحلول التي تُطرح تُقدّم كالتماس لهذا النظام نفسه وتجعله طرفاً أو شريكاً في الحلّ، وتُرفع العرائض والاقتراحات والمبادرات إلى الرئيس وحاشية الرئيس وإلى العسكر وإلى المخابرات وإلى البرلمان بغرفتيه، بينما يعرف الجميع يقيناً ألا أحد من عُصب النظام وأجنحته يلقي بالاً لما يطرحون ويقترحون. لقد كانت واحدة من المعضلات السياسيّة التي كان النظام السياسيّ الجزائريّ يعاني منها ويحاول تجاوزها هي: الشرعيّة.. وكان النظام قائماً على دعوى الشرعيّة الثوريّة، وكانت الانقلابات هي الأساس الذي قام عليه النظام في مختلف تشكّلاته، بداية من انقلاب مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956 على مضمون بيان أوّل نوفمبر، وقد كان انقلاباً ناعماً قاده عبّان رمضان وعمّار أوزغان أمين عام الحزب الشيوعيّ، واستدرج إليه عدد من قادة الثورة الكبار الذين فجّروها، ثم جاء الانقلاب على الحكومة المؤقّتة من طرف جيش الحدود بعد الاستقلال مباشرة، ثم انقلاب العقيد هواري بومدين على صديقه أحمد بن بلّة في 19 يونيو 1965، ثم محاولات انقلاب أخرى فاشلة، ثم جاء الانقلاب الأكثر دمويّة وعنفاً بعد فوز الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في يناير من عام 1992 والذي قاده وخطّط له من يسمّيهم الجزائريّون: ضبّاط فرنسا.. وبعد انتهاء العشريّة الدمويّة على مشارف الألفية الثالثة وخروج النظام منها منتصراً بعد طوفان من الدماء والدموع والمآسي، ومئات الآلاف من المساجين والمفقودين والمعطوبين جسدياً ونفسياً والمهجّرين قسراً، اهتدى النّظام السياسيّ في الجزائر إلى التأسيس لشرعيّة جديدة يُنسي فيها الجزائريّين قصّة الشرعيّة الثوريّة ليبني شرعيّة جديدة هي شرعية: الحرب والانتصار على الإرهاب. وأصبح يقدّم نفسه أمام الشعب في الإعلام والتعليم والخطاب السياسيّ الرسميّ وأمام مؤسسات النظام الدوليّ وحكوماته بهذا التعريف، خاصّة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وتبنّي القوى الكبرى ومؤسسات النظام الدولي للحرب على الإرهاب، الذي لم تكن حقيقته وجوهره سوى الحرب على الإسلام والمسلمين. كانت القوى السياسيّة كلها منهكة مستنزفة فاقدة لأي قدرة على التأثير في الرأي العام وتوجيهه. وكان أكبر همّها أن تكون مشاركة في السلطة ككتل نيابيّة في البرلمان ومجلس الأمة، أو من خلال حصولها على حقائب وزاريّة في الحكومات المتتالية الكثيرة في عهد بوتفليقة منذ أفريل 1999، أو من خلال مناصب تنفيذية في الوزارات والمؤسسات الرسميّة للدولة، أو الفوز المخطط له من طرف أجهزة الاستخبارات في المجالس البلدية والولائيّة. و كان الحزبان الإسلاميّان – قبل الانشقاقات والانشطارات اللاحقة - يتنافسان في ذلك مع أحزاب السلطة، مثل جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطنيّ الديموقراطيّ، وأصبح من العسير جدّ التفريق بين موالاة ومعارضة إذ ارتمى الجميع في أحضان ما كان يُسمّى (برنامج فخامة الرئيس)، وذابت وتلاشت كلّ المصطلحات التي كانت تميّز الإسلاميّ عن الوطنيّ أو الليبراليّ، وفقد الجميع شرعيتهم السياسيّة وتلطخوا بما أغدق عليهم النظام من امتيازات ومكاسب ومناصب، لم يكن من السهل أبداً التفريط فيها والتنازل عنها ولكلّ حجته وتأصيله وتبريره، بل إنّ بعضهم تصرّف معها ببراغماتيّة معلنة بحجّة أن الجميع ينهب ويكسب ويستفيد فلماذا أكون أنا استثناء من القاعدة؟ كانت الأحزاب الإسلامية الخاسرَ الأكبر؛ ففقدت مصداقيتها وحاضنتها الشعبيّة وأصبحت تتدحرج في كلّ مناسبة ومحطّة انتخابيّة نحو المزيد من التفكّك والانشقاق، حتى انقسمت حركة حمس إلى أربعة أحزاب هي: حمس، حركة التغيير، وتجمّع أمل الجزائر، وحركة البناء، وانشطرت حركة النهضة إلى الإصلاح والنهضة والعدالة والتنميّة. ولم تكن هذه الانشقاقات لأسباب فكرية منهجيّة وإنما بسبب خلافات بشأن التموقع السياسيّ من المشاركة في السلطة ودعم الرئيس بوتفليقة ومشروعه من عدمه، وأكثرها كان بإيعاز من استخبارات النظام وتدبيره؛ فقد كانت تعلم حجم الضعف والتفكّك الذي بلغته هذه الأحزاب. وبعد إضعاف الأحزاب وتلويث سمعتها وتوريطها في مواقف وعلاقات وامتيازات وملفّات مشبوهة، تفرّغ النظام ممثلاً في الرئيس بوتفليقة لترتيب بيته الداخليّ وتسوية العلاقة والتوازنات بين أجنحته الثلاثة الأكثر تأثيرا وقوّة: العسكر والمخابرات والرئاسة، واستغرق ذلك وقتاً طويلاً وتضحيات وصبراً من الرئيس بوتفليقة وإرضاء وتسويات مع جهات داخلية وخارجيّة، ومغامرات لم تكن عواقبها مضمونة دائماً ولكنّها كانت تصبّ دائماً في وعاء ومصلحة جناح الرئاسة لأنها كانت الطرف الأكثر ظهوراً واحتكاكاً مباشراً بالشعب وقدرة على مخاطبته مباشرة والتأثير في عواطفه وتوجّهاته، بينما كانت المخابرات والعسكر منهكتيْن بعد صراع التسعينيات، وكانت صورتهما ملطّخة مشوّهة، والتهم بالمجازر والانقلاب والتنكيل بالجزائريّين حاضرة بقوّة في المخيال الشعبيّ، ولم يكن سهلاً عليهما نفي ذلك وتكذيبه وتبرئة نفسيهما منه. وقد واتت الأقدار جناح الرئيس بطفرة أسعار النفط؛ فاستثمر فيها بطريقة لا تمتّ بأيّ صلة لقواعد الاقتصاد وأسس التنمية وتوزيع الثروة، بل كان يتصرّف فيها بطريقة ملوك وأمراء ألف ليلة وليلة؛ إذ فُتحت البنوك على مصراعيها ليغرف منها أثرياء الحرب الجدد والموالون للرئيس، ولتُشترى ذمم الإعلاميّين والكتاب والفنّانين والسياسيّين والأعيان و شيوخ الطرق الصوفيّة ودعاة السلفيّة، ورشوة كلّ من يُخشى منه الوقوف حجر عثرة أمام مشروع الرئيس، وشراء السّلم الاجتماعي بقروض الدعم الفلاحي وتشغيل الشباب ودعم المؤسسات الصغيرة والبناء الريفي ومشاريع الإسكان. لم يكن أحد في الحقيقة يعلم ما هو مشروع فخامة رئيس الجمهورية، الذي صار لافتة يرفعها الوزراء والولاة ومديرو الشركات الوطنية الكبرى ورؤساء البلديات بل حتى مديرو المدارس في المناطق النائيّة. ولو أردنا أن نلخّص هذا المشروع كما جُسد في الواقع طيلة عقدين من الزمن لكان ذلك في نقطتين رئيسيتين: ● المصالحة الوطنية. ● تبديد المال العامّ بمئات ملايير الدولارات بلا رؤية ولا خطة ولا رقابة ولا مساءلة. أمّا المصالحة الوطنية فقد كانت مشروعاً طبخته المخابرات، ثم وضعته بين يدي الرئيس لتسدي إليه بذلك خدمة تاريخيّة، وتجعله منقذ الجزائر من الفتنة والحرب الأهلية ومستعيد السلم والوئام الوطني، واستثمرت فيه: - هزيمة الجماعات المسلّحة. - وتفكّك الحاضنة الشعبيّة للجبهة الإسلامية للإنقاذ. - وحالة اليأس والإحباط والخوف من المصير الغامض لدى الشعب الجزائريّ. - والبحث عن السّلم والأمن بأيّ ثمن بعد عشريّة أتت على الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنّسل. وقد استطاع النظام أن يمرّر ميثاق المصالحة الوطنيّة، ويحشد له الإعلاميّين وعلماء الدّين والسياسيّين وأحزاب المعارضة والموالاة، في واحدة من أكبر عمليّات التدليس والتلبيس على الشعب الجزائريّ، ونجح في أن يُعفيَ جنرالات الانقلاب من أيّ متابعة أو محاكمة، ولم يكن من بين بنودها ما يسمح بالبحث عن حقيقة ما حدث طيلة عقد كامل من الزّمن أو بمحاكمة المجرمين والقتلة، أو بمعرفة ملابسات الأحداث الجسام التي عرفتها الجزائر وبقيت غامضة إلى حين كتابة هذا المقال، بل وجرّم ميثاق المصالحة كلّ من يفعل ذلك، وسوّى بين القتيل والقاتل والضحيّة والجلّاد، وبين حزب فاز بانتخاب شعبي حرّ ونزيه وشفّاف، وعصابة من الضبّاط الانقلابيّين أدخلوا الجزائر وشعبها في نفَق مظلم ما زالت آثاره وتبعاته ظاهرة حتى اليوم. ومع ذلك فإنّ الجماهير لم تكن مستعدّة لأن ترفض ميثاق السلم والمصالحة، ولا أن تعرف سياقاته ونتائجه قريبة ومتوسّطة وبعيدة المدى، ولا أن تقدّم مزيداً من التضحيات في وجه نظام رأت منه كلّ أشكال القهر والبطش والتنكيل، وما كان أسهل خداعها أو إغراءها بقبول الميثاق، خاصّة وقد كانت وعود التعويضات للقتلى والمفقودين والمتضرّرين مغرية حقاً، وأكثرهم فقراء بائسون يسكنون الأرياف والبوادي والقرى النائية المعزولة. وقد كانت طفرة أسعار النّفط فرصة ساقها القدر لحكمة يعلمها اللّه تعالى، وظّفها النّظام ومؤسساته وأجهزته للإغراء والرشوة المجتمعيّة وشراء السّلم الاجتماعيّ، فتدفّقت الأموال على الصالحين والطالحين وغرف الجميع منها بلا وعي ولا خطّة ولا رؤية اقتصاديّة ولا نموذج تنمويّ يحقّق على الأقلّ قدراً من الرّفاه الاجتماعيّ، ويسهم في توزيع الثروات بشكل عادل ومنتج. لقد كان في مقابل كلّ دولار يأخذه المواطن البسيط ليستردّ منه بعد ذلك في شكل ضرائب وغرامات وتعويضات ألفٌ أو عشرة آلاف دولار، يأخذها أثرياء الحرب الجدد وطبقة الأوليغارشيا، التي شرع الرئيس وحاشيته في صناعتها ونفخها وتصديرها لإحداث قدر من التوازن المطلوب في توازنات القوى والأجنحة، فقد كان أثرياء الحرب من صناعة المخابرات وهي من دعمتهم وسهّلت لهم سبل النّهب والإثراء غير المشروع، وكان هؤلاء يدينون بالولاء لها ويحتمون بها ويلجأون إليها، بينما كان الرئيس يبحث عن طبقة من رجال المال والأعمال تدين له هو بالولاء ويصنعها على عينه ويكون (لحم كتافها من خيره) كما يقول إخواننا المصريّون، وقد نجح في ذلك واستخدمه إلى أبعد الحدود، و كانت ثمرة ذلك تأسيس منتدى رؤساء المؤسسات FCE، برئاسة علي حدّاد والذي بلغت ثروته أزيد من 40 مليار دولار عام 2018، بحسب تصريح رئيسه على صفحته في الفيسبوك منذ شهر فقط. كلّ هذا الذي حدث ما كان له أن يحدث لولا عزوف كامل من الشعب الجزائريّ عن الاهتمام بالشأن العامّ وممارسة حقه السياسيّ، كنتيجة للقهر والبطش والنكال الذي تعرّض له في عقد التسعينيات، ولولا الفشل الذريع والعجز المطلق الذي أصبحت عليه النخب والطبقة السياسيّة كلها بحيث صارت ملحقات للمخابرات أو الرئاسة وكرات يتقاذفانها بينهما، ولم تعُد هذه النخب والأحزاب قادرة على تأطير الشعب وقيادته وصناعة رأي عامّ والتأثير فيه، ولم تعد بالتالي قادرة على حشده وإخراجه للشارع للاحتجاج والرفض أو للضغط على السلطة. بل إنها جميعاً تماهت مع مواقف النظام وشاركت في دعمه وفي التلبيس على الشعب وتغييب الحقيقة عنه، تستوي في ذلك الأحزاب الإسلاميّة والوطنيّة والليبراليّة. ما كان لرئيس مُقعد مشلول أن يحكم دولة مهمّة وثريّة وذات موقع استراتيجيّ خطير ومترامية الأطراف مثل الجزائر لو كانت هناك أحزاب ونخب وكيانات، تستطيع التأثير في الأحداث وصناعة المواقف وحشد الجماهير والضغط على صانع القرار. إن اتّهام الشعب بالضعف والتخاذل ما هو إلا شمّاعة يعلّق عليها الفاشلون من الإسلاميّين خاصّة فشلهم وعجزهم وخيباتهم، وإلّا فقد كان الشعب الجزائريّ يبذل ويضحّي ولم يبخل على الحركة الإسلاميّة في أيّ طور من أطوارها، وقد أمدّها بخيرة أبنائه في فترة العمل الدعويّ السّريّ وأمدها بملايين الشباب بين أعوام 1988 – 1992 في فترة الانفتاح السياسيّ، وأمدّها بخيرة شبابه بعشرات الآلاف في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من العمل المسلّح بعد انقلاب 1992، وكان الشعب الجزائريّ يُؤوي ويموّن ويموّل وفتح بيوته وقراه ومزارعه للشباب الثائر ضدّ الانقلاب، وما زال الشعب الجزائريّ مستعدّاً للبذل والعطاء والتضحية، وما زال رافضاً للظلم والاستبداد وما زالت جينات الثورة والتمرّد حاضرة في بنيته النفسيّة والاجتماعيّة، وما زال يعُد التخندق مع السلطة بكلّ مؤسساتها خيانة وعمالة وانحطاطاً أخلاقيّاً، وما زال قادراً أن يفاجئ الجميع بما لا يتوقّعون ولا يحتسبون. ولكنّه لن يفعل ذلك بلا قيادة ولا رؤية ولا خطّة، ولن يُستدرَج مرّة ثانية لمحرقة يقودها شباب ورجال مخلصون صادقون، ولكنّهم لا يمتلكون أدوات الصراع ولا يفهمون طبيعته ولا حقيقته. وذلك حديث آخر..
الجزائر ...إلى أين ؟ (01)

الصغير منير

[حمل العدد الجديد:
bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
bit.ly/2SxEkLM]

الجزائر في أزمة، بل هي في طريق مسدود؛ فلا أحد يمتلك حلّاً أو تصوّراً أو رؤية لما يمكن أن يحدث في أيّ لحظة. وكلّ ما تقدّمه الأحزاب السياسيّة إنّما هو وصفات مهدّئة أو أحلام يقظة أو مبادرات يعلم من يطرحها قبل غيره أنّها مجرّد عبث وتلبيس وتدليس على الشعب الجزائري، أو أنّها في أحسن أحوالها تبرئة للذمّة وموقف يُسجّل للتاريخ، أما النظام الجزائريّ فهو كعادته يتعامل مع هذه المبادرات باستهتار ولا مبالاة تامّة، ويكرّر أسلوبه الذي يتقنه جيّداً، ألا وهو الاحتواء والاستيعاب، أو الاختراق والتوظيف، أو الإقصاء والتهميش.

أمّا على المستوى الشعبيّ فهناك عزوف شبه كامل عن المشاركة في الشأن العام، وسلبيّة كبرى تجاه كل ما يطرحه السياسيّون بحيث لا تكاد تجد لما يطرحونه أيّ صدى في الشارع، وهناك حالة من اليأس والإحباط وانعدام الثقة في أيّ مبادرة سياسيّة. وأصبحتَ لا تجد شخصيّة سياسيّة تستطيع التأثير في الكتلة الحرجة للرأي العام وحشدَه وإلهامه بحُلم جديد كبير يؤمن به الشعب ويلتفّ حوله ويضحّي في سبيله.

لقد كانت أحداث التسعينيات ذات أثر نفسي واجتماعي وسياسيّ خطير، وأحدثت خللاً كبيراً في تماسك المجتمع الجزائري وأخلاقه وتصوراته وبنيته النفسية والفكرية والمفاهيميّة. وكان ذلك أمراً مقصوداً جسّده العنف المادّي والمعنوي الذي عرفه الجزائريون إبّان العشرية كصدمة مروّعة، عقاباً لهم على الاصطفاف مع مشروع سياسيّ مثّلته الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، والذين كان في حقيقته تعبيراً صارخاً قويّاً عن رغبة الجزائريين في استكمال عملية التحرير وتحقيق الدولة المستقلّة ذات السيادة في إطار مبادئ الإسلام، بصرف عن النّظر عن أخطاء الجبهة الإسلامية وطريقتها في إدارة الصراع وقد كتبتُ فيه بشكل مختصر خمس مقالات في مجلّة (كلمة حقّ) يمكن الرجوع إليها لمزيد من الفهم.

لقد رافق البطشَ والقهرَ والتنكيلَ والتهجير القسري لمئات الآلاف من قراهم ومزارعهم وأريافهم، بطشٌ إعلاميّ تمثّل في الجرأة على المقدّسات وتكسير الطابوهات وتشويه وإسقاط الرموز والمرجعيات، وإثارة وإحياء نزعات القبيلة والعِرق والجهة واللهجات والانتماءات الجاهليّة التي سبقت الإسلام، وإشاعة الفحشاء والمنكر والخنا، وامتلأت الصحف والجرائد بأخبار القتل والجرائم والانتحار والاختلاسات والفساد والفضائح، وصاحب ذلك هجوم عنيف على المسجد وإفراغه من أي معنى وتحييده ليصبح أشبه بالكنيسة، لا يربّي ولا يغرس قيماً ولا يسمو بروح، ولا يُصدع فوق منابره بكلمة حق ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر.

ومع المسجد كانت المدرسة تعاني من حرب ضروس بين تيّار محافظ إصلاحي، وتيّار تغريبي عَلماني يستقوي بأدوات الدولة ومواردها، ويستخدم القانون ومؤسسات الدولة لتكون كلمته هي العليا.

ورُكّز بشدّة على صياغة منظومة قانونيّة تخدم الطرف الأقوى المتنفّذ والمرتبط بأجندات هيمنة عالمية وشبكات فساد ودول أجنبيّة، على رأسها فرنسا، ومصالح ومكاسب حقّقها التيّار الاستئصالي بعد إعلان حربه على الشعب الجزائري في انقلاب عام 1992، والذي كان في حقيقته - حين نراجع أسماء المدبّرين له واستراتيجياتهم في إدارة الصراع وعلاقاتهم وارتباطاتهم وشبكة ولاءاتهم – حرباً فرنسيّة استعماريّة جديدة على الشعب الجزائريّ، بأيدٍ جزائرية وأدوات جديدة وخطط أشدّ مكراً ودهاء، وقد خرج للعلن من الكتابات والشهادات والمقالات والوثائق ما يؤكّد ذلك، ولكنّ الباحثين والإعلاميين الجادّين على قلّتهم يتجنّبون الخوض في ذلك والكتابة فيه خشية الانتقام، أو تفعيل بعض موادّ (قانون المصالحة) التي تجرّم كلّ من ينبش في جرائم التسعينيات.

هذا التحطيم الممنهج للمجتمع بدأ في أواسط التسعينيات، ولكنّه اشتدّ ضراوة وقسوة وتغوّلاً بعد تعيين بوتفليقة رئيساً عام 1999، إذ بلغ الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والمجتمعي ذروته في العقديْن الأخيريْن، وأصبحت خططه أكثر اتّساقاً وفعالية من ذي قبل، وأصبحت الحجة الجاهزة أن الرئيس جلب معه الأمن والسلام والمصالحة، وأنهى عقداً من الاحتراب الداخلي والفتنة؛ فوجب على الشعب الجزائريّ أن يقبل بكلّ شيء اعترافاً منه بنعمة الأمن والسلام، وحرصاً على عدم تكرارها مجدداً.

نعم.. هناك ابتزاز نفسي واجتماعي وسياسي رهيب للجزائريين بما حدث لهم في التسعينيات، وتخويف لهم وتذكير به في كلّ مناسبة، وانتقل النظام كلّه من (الشرعية الثوريّة) التي أفرزتها ثورة التحرير، إلى شرعية جديدة هي (شرعية الحرب على الإرهاب)، التي انتصر فيها بزعمه على الإرهابيين، وأصبح يقدّم نفسه على المستوى الدولي خبيراً ومستشاراً فيها. ثمّ جاءت أحداث الربيع العربيّ لترسّخ هذا المعنى وتضاعف من حجم الابتزاز الإعلامي للشعب الجزائري بما حدث ويحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

كلّ الأرقام والمختصّين والخبراء في الجزائر اليوم مجمعون على الفشل الذريع والانسداد الكامل والانهيار المريع على جميع المستويات. ولا تكاد تجد متحدثاً عاقلاً ذا قيمة علمية ووجاهة في تخصصه بعيداً عن التزلّف والتملّق يقول غير ذلك. ومع ذلك فإنّ كلّ الحلول التي تُطرح تُقدّم كالتماس لهذا النظام نفسه وتجعله طرفاً أو شريكاً في الحلّ، وتُرفع العرائض والاقتراحات والمبادرات إلى الرئيس وحاشية الرئيس وإلى العسكر وإلى المخابرات وإلى البرلمان بغرفتيه، بينما يعرف الجميع يقيناً ألا أحد من عُصب النظام وأجنحته يلقي بالاً لما يطرحون ويقترحون.

لقد كانت واحدة من المعضلات السياسيّة التي كان النظام السياسيّ الجزائريّ يعاني منها ويحاول تجاوزها هي: الشرعيّة.. وكان النظام قائماً على دعوى الشرعيّة الثوريّة، وكانت الانقلابات هي الأساس الذي قام عليه النظام في مختلف تشكّلاته، بداية من انقلاب مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956 على مضمون بيان أوّل نوفمبر، وقد كان انقلاباً ناعماً قاده عبّان رمضان وعمّار أوزغان أمين عام الحزب الشيوعيّ، واستدرج إليه عدد من قادة الثورة الكبار الذين فجّروها، ثم جاء الانقلاب على الحكومة المؤقّتة من طرف جيش الحدود بعد الاستقلال مباشرة، ثم انقلاب العقيد هواري بومدين على صديقه أحمد بن بلّة في 19 يونيو 1965، ثم محاولات انقلاب أخرى فاشلة، ثم جاء الانقلاب الأكثر دمويّة وعنفاً بعد فوز الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في يناير من عام 1992 والذي قاده وخطّط له من يسمّيهم الجزائريّون: ضبّاط فرنسا..

وبعد انتهاء العشريّة الدمويّة على مشارف الألفية الثالثة وخروج النظام منها منتصراً بعد طوفان من الدماء والدموع والمآسي، ومئات الآلاف من المساجين والمفقودين والمعطوبين جسدياً ونفسياً والمهجّرين قسراً، اهتدى النّظام السياسيّ في الجزائر إلى التأسيس لشرعيّة جديدة يُنسي فيها الجزائريّين قصّة الشرعيّة الثوريّة ليبني شرعيّة جديدة هي شرعية: الحرب والانتصار على الإرهاب. وأصبح يقدّم نفسه أمام الشعب في الإعلام والتعليم والخطاب السياسيّ الرسميّ وأمام مؤسسات النظام الدوليّ وحكوماته بهذا التعريف، خاصّة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وتبنّي القوى الكبرى ومؤسسات النظام الدولي للحرب على الإرهاب، الذي لم تكن حقيقته وجوهره سوى الحرب على الإسلام والمسلمين.

كانت القوى السياسيّة كلها منهكة مستنزفة فاقدة لأي قدرة على التأثير في الرأي العام وتوجيهه. وكان أكبر همّها أن تكون مشاركة في السلطة ككتل نيابيّة في البرلمان ومجلس الأمة، أو من خلال حصولها على حقائب وزاريّة في الحكومات المتتالية الكثيرة في عهد بوتفليقة منذ أفريل 1999، أو من خلال مناصب تنفيذية في الوزارات والمؤسسات الرسميّة للدولة، أو الفوز المخطط له من طرف أجهزة الاستخبارات في المجالس البلدية والولائيّة.

و كان الحزبان الإسلاميّان – قبل الانشقاقات والانشطارات اللاحقة - يتنافسان في ذلك مع أحزاب السلطة، مثل جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطنيّ الديموقراطيّ، وأصبح من العسير جدّ التفريق بين موالاة ومعارضة إذ ارتمى الجميع في أحضان ما كان يُسمّى (برنامج فخامة الرئيس)، وذابت وتلاشت كلّ المصطلحات التي كانت تميّز الإسلاميّ عن الوطنيّ أو الليبراليّ، وفقد الجميع شرعيتهم السياسيّة وتلطخوا بما أغدق عليهم النظام من امتيازات ومكاسب ومناصب، لم يكن من السهل أبداً التفريط فيها والتنازل عنها ولكلّ حجته وتأصيله وتبريره، بل إنّ بعضهم تصرّف معها ببراغماتيّة معلنة بحجّة أن الجميع ينهب ويكسب ويستفيد فلماذا أكون أنا استثناء من القاعدة؟

كانت الأحزاب الإسلامية الخاسرَ الأكبر؛ ففقدت مصداقيتها وحاضنتها الشعبيّة وأصبحت تتدحرج في كلّ مناسبة ومحطّة انتخابيّة نحو المزيد من التفكّك والانشقاق، حتى انقسمت حركة حمس إلى أربعة أحزاب هي: حمس، حركة التغيير، وتجمّع أمل الجزائر، وحركة البناء، وانشطرت حركة النهضة إلى الإصلاح والنهضة والعدالة والتنميّة.

ولم تكن هذه الانشقاقات لأسباب فكرية منهجيّة وإنما بسبب خلافات بشأن التموقع السياسيّ من المشاركة في السلطة ودعم الرئيس بوتفليقة ومشروعه من عدمه، وأكثرها كان بإيعاز من استخبارات النظام وتدبيره؛ فقد كانت تعلم حجم الضعف والتفكّك الذي بلغته هذه الأحزاب.

وبعد إضعاف الأحزاب وتلويث سمعتها وتوريطها في مواقف وعلاقات وامتيازات وملفّات مشبوهة، تفرّغ النظام ممثلاً في الرئيس بوتفليقة لترتيب بيته الداخليّ وتسوية العلاقة والتوازنات بين أجنحته الثلاثة الأكثر تأثيرا وقوّة: العسكر والمخابرات والرئاسة، واستغرق ذلك وقتاً طويلاً وتضحيات وصبراً من الرئيس بوتفليقة وإرضاء وتسويات مع جهات داخلية وخارجيّة، ومغامرات لم تكن عواقبها مضمونة دائماً ولكنّها كانت تصبّ دائماً في وعاء ومصلحة جناح الرئاسة لأنها كانت الطرف الأكثر ظهوراً واحتكاكاً مباشراً بالشعب وقدرة على مخاطبته مباشرة والتأثير في عواطفه وتوجّهاته، بينما كانت المخابرات والعسكر منهكتيْن بعد صراع التسعينيات، وكانت صورتهما ملطّخة مشوّهة، والتهم بالمجازر والانقلاب والتنكيل بالجزائريّين حاضرة بقوّة في المخيال الشعبيّ، ولم يكن سهلاً عليهما نفي ذلك وتكذيبه وتبرئة نفسيهما منه.

وقد واتت الأقدار جناح الرئيس بطفرة أسعار النفط؛ فاستثمر فيها بطريقة لا تمتّ بأيّ صلة لقواعد الاقتصاد وأسس التنمية وتوزيع الثروة، بل كان يتصرّف فيها بطريقة ملوك وأمراء ألف ليلة وليلة؛ إذ فُتحت البنوك على مصراعيها ليغرف منها أثرياء الحرب الجدد والموالون للرئيس، ولتُشترى ذمم الإعلاميّين والكتاب والفنّانين والسياسيّين والأعيان و شيوخ الطرق الصوفيّة ودعاة السلفيّة، ورشوة كلّ من يُخشى منه الوقوف حجر عثرة أمام مشروع الرئيس، وشراء السّلم الاجتماعي بقروض الدعم الفلاحي وتشغيل الشباب ودعم المؤسسات الصغيرة والبناء الريفي ومشاريع الإسكان.

لم يكن أحد في الحقيقة يعلم ما هو مشروع فخامة رئيس الجمهورية، الذي صار لافتة يرفعها الوزراء والولاة ومديرو الشركات الوطنية الكبرى ورؤساء البلديات بل حتى مديرو المدارس في المناطق النائيّة. ولو أردنا أن نلخّص هذا المشروع كما جُسد في الواقع طيلة عقدين من الزمن لكان ذلك في نقطتين رئيسيتين:

● المصالحة الوطنية.

● تبديد المال العامّ بمئات ملايير الدولارات بلا رؤية ولا خطة ولا رقابة ولا مساءلة.

أمّا المصالحة الوطنية فقد كانت مشروعاً طبخته المخابرات، ثم وضعته بين يدي الرئيس لتسدي إليه بذلك خدمة تاريخيّة، وتجعله منقذ الجزائر من الفتنة والحرب الأهلية ومستعيد السلم والوئام الوطني، واستثمرت فيه:

- هزيمة الجماعات المسلّحة.
- وتفكّك الحاضنة الشعبيّة للجبهة الإسلامية للإنقاذ.
- وحالة اليأس والإحباط والخوف من المصير الغامض لدى الشعب الجزائريّ.
- والبحث عن السّلم والأمن بأيّ ثمن بعد عشريّة أتت على الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنّسل.

وقد استطاع النظام أن يمرّر ميثاق المصالحة الوطنيّة، ويحشد له الإعلاميّين وعلماء الدّين والسياسيّين وأحزاب المعارضة والموالاة، في واحدة من أكبر عمليّات التدليس والتلبيس على الشعب الجزائريّ، ونجح في أن يُعفيَ جنرالات الانقلاب من أيّ متابعة أو محاكمة، ولم يكن من بين بنودها ما يسمح بالبحث عن حقيقة ما حدث طيلة عقد كامل من الزّمن أو بمحاكمة المجرمين والقتلة، أو بمعرفة ملابسات الأحداث الجسام التي عرفتها الجزائر وبقيت غامضة إلى حين كتابة هذا المقال، بل وجرّم ميثاق المصالحة كلّ من يفعل ذلك، وسوّى بين القتيل والقاتل والضحيّة والجلّاد، وبين حزب فاز بانتخاب شعبي حرّ ونزيه وشفّاف، وعصابة من الضبّاط الانقلابيّين أدخلوا الجزائر وشعبها في نفَق مظلم ما زالت آثاره وتبعاته ظاهرة حتى اليوم.

ومع ذلك فإنّ الجماهير لم تكن مستعدّة لأن ترفض ميثاق السلم والمصالحة، ولا أن تعرف سياقاته ونتائجه قريبة ومتوسّطة وبعيدة المدى، ولا أن تقدّم مزيداً من التضحيات في وجه نظام رأت منه كلّ أشكال القهر والبطش والتنكيل، وما كان أسهل خداعها أو إغراءها بقبول الميثاق، خاصّة وقد كانت وعود التعويضات للقتلى والمفقودين والمتضرّرين مغرية حقاً، وأكثرهم فقراء بائسون يسكنون الأرياف والبوادي والقرى النائية المعزولة.

وقد كانت طفرة أسعار النّفط فرصة ساقها القدر لحكمة يعلمها اللّه تعالى، وظّفها النّظام ومؤسساته وأجهزته للإغراء والرشوة المجتمعيّة وشراء السّلم الاجتماعيّ، فتدفّقت الأموال على الصالحين والطالحين وغرف الجميع منها بلا وعي ولا خطّة ولا رؤية اقتصاديّة ولا نموذج تنمويّ يحقّق على الأقلّ قدراً من الرّفاه الاجتماعيّ، ويسهم في توزيع الثروات بشكل عادل ومنتج.

لقد كان في مقابل كلّ دولار يأخذه المواطن البسيط ليستردّ منه بعد ذلك في شكل ضرائب وغرامات وتعويضات ألفٌ أو عشرة آلاف دولار، يأخذها أثرياء الحرب الجدد وطبقة الأوليغارشيا، التي شرع الرئيس وحاشيته في صناعتها ونفخها وتصديرها لإحداث قدر من التوازن المطلوب في توازنات القوى والأجنحة، فقد كان أثرياء الحرب من صناعة المخابرات وهي من دعمتهم وسهّلت لهم سبل النّهب والإثراء غير المشروع، وكان هؤلاء يدينون بالولاء لها ويحتمون بها ويلجأون إليها، بينما كان الرئيس يبحث عن طبقة من رجال المال والأعمال تدين له هو بالولاء ويصنعها على عينه ويكون (لحم كتافها من خيره) كما يقول إخواننا المصريّون، وقد نجح في ذلك واستخدمه إلى أبعد الحدود، و كانت ثمرة ذلك تأسيس منتدى رؤساء المؤسسات FCE، برئاسة علي حدّاد والذي بلغت ثروته أزيد من 40 مليار دولار عام 2018، بحسب تصريح رئيسه على صفحته في الفيسبوك منذ شهر فقط.

كلّ هذا الذي حدث ما كان له أن يحدث لولا عزوف كامل من الشعب الجزائريّ عن الاهتمام بالشأن العامّ وممارسة حقه السياسيّ، كنتيجة للقهر والبطش والنكال الذي تعرّض له في عقد التسعينيات، ولولا الفشل الذريع والعجز المطلق الذي أصبحت عليه النخب والطبقة السياسيّة كلها بحيث صارت ملحقات للمخابرات أو الرئاسة وكرات يتقاذفانها بينهما، ولم تعُد هذه النخب والأحزاب قادرة على تأطير الشعب وقيادته وصناعة رأي عامّ والتأثير فيه، ولم تعد بالتالي قادرة على حشده وإخراجه للشارع للاحتجاج والرفض أو للضغط على السلطة. بل إنها جميعاً تماهت مع مواقف النظام وشاركت في دعمه وفي التلبيس على الشعب وتغييب الحقيقة عنه، تستوي في ذلك الأحزاب الإسلاميّة والوطنيّة والليبراليّة.

ما كان لرئيس مُقعد مشلول أن يحكم دولة مهمّة وثريّة وذات موقع استراتيجيّ خطير ومترامية الأطراف مثل الجزائر لو كانت هناك أحزاب ونخب وكيانات، تستطيع التأثير في الأحداث وصناعة المواقف وحشد الجماهير والضغط على صانع القرار. إن اتّهام الشعب بالضعف والتخاذل ما هو إلا شمّاعة يعلّق عليها الفاشلون من الإسلاميّين خاصّة فشلهم وعجزهم وخيباتهم، وإلّا فقد كان الشعب الجزائريّ يبذل ويضحّي ولم يبخل على الحركة الإسلاميّة في أيّ طور من أطوارها، وقد أمدّها بخيرة أبنائه في فترة العمل الدعويّ السّريّ وأمدها بملايين الشباب بين أعوام 1988 – 1992 في فترة الانفتاح السياسيّ، وأمدّها بخيرة شبابه بعشرات الآلاف في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من العمل المسلّح بعد انقلاب 1992، وكان الشعب الجزائريّ يُؤوي ويموّن ويموّل وفتح بيوته وقراه ومزارعه للشباب الثائر ضدّ الانقلاب، وما زال الشعب الجزائريّ مستعدّاً للبذل والعطاء والتضحية، وما زال رافضاً للظلم والاستبداد وما زالت جينات الثورة والتمرّد حاضرة في بنيته النفسيّة والاجتماعيّة، وما زال يعُد التخندق مع السلطة بكلّ مؤسساتها خيانة وعمالة وانحطاطاً أخلاقيّاً، وما زال قادراً أن يفاجئ الجميع بما لا يتوقّعون ولا يحتسبون.

ولكنّه لن يفعل ذلك بلا قيادة ولا رؤية ولا خطّة، ولن يُستدرَج مرّة ثانية لمحرقة يقودها شباب ورجال مخلصون صادقون، ولكنّهم لا يمتلكون أدوات الصراع ولا يفهمون طبيعته ولا حقيقته.

وذلك حديث آخر..
‏٠٧‏/٠١‏/٢٠١٩ ٨:٤٩ م‏
افتتاحية العدد الجديد.. لن ينفعكم الفرار @[520036614:2048:محمد إلهامي] [حمل العدد الجديد: bit.ly/2VnOlgr حمل هدية العدد: bit.ly/2SxEkLM] لا أستطيع أن أحصي الحوارات التي دارت منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، بل من قبلها، حول الثورة والإصلاح والتغيير والحل المتاح والقوى الدولية ومخاوف النجاح والفشل... إلخ! لكن الخيط الذي أستطيع تَبَيُّنَه بوضوح هو وجود جمهرة من النخبة الإسلامية التي تمارس دائما نوعا من الفرار من الأسئلة الخطيرة المطروحة بقوة. (1) قبل الثورة في مصر كانت فكرة حصول ثورة أو تغيير أشبه بالمستحيل لدى جموع النخبة الإسلامية من المشايخ والعلماء والمنتسبين إلى الحركة الإسلامية، ومع هذه الاستحالة عندهم فإن مجالسهم تفر دائما من سؤال: ما الحل؟ ما الحل بعد الانغلاق التام للمسار السياسي الإصلاحي، وقدرة السلطة على عرقلة وتشويه وتوظيف واختراق المسار الدعوي؟ عند هذا السؤال تسمع مصمصة الشفاه، التأسف، الحوقلة، الرجاء في الله (بمعنى أن ينزل نصر من السماء، لا بمعنى أن نعمل ونحن نرجو الله). (2) فيما بعد الثورة كانت نفس هذه المجالس تناقش كل الأمور تقريبا، إلا أن يُطْرَح فيها الأسئلة المهمة الجادة التي يترتب عليها العمل، فلم يحدث على حد ما أعلم أن انعقد مجلس طُرِح فيه الحديث عن الخطر القادم الذي هو خطر انقلاب عسكري على الرئيس مرسي –فك الله أسره- وإذا حاول أحدٌ من الشباب وضع هذا الموضوع للنقاش، تبدأ المراوغات وحديث التفاؤل والتشاؤم، والحيود عن الموضوع، مع ميل شديد نحو حديث الطمأنينة ورصد مؤشرات الاستقرار. أتذكر أنني بعد عدد من النقاشات، كتبتُ هذا المقال (بتاريخ 13 مارس 2013م. أي: قبل الانقلاب بنحو أربعة أشهر)، وفيه: "خلاصة هذا المقال طلب الفتوى في هذه النازلة: 1. ما حكم الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب شعبيا؟ 2. وما طرق مواجهته شرعا إذا كان متترسا بالجنود -البسطاء- وبالسلاح؟ 3. وماذا إذا غلب على الظن أن هذا الانقلاب بدعم من طوائف علمانية (تعادي الشريعة وترفض الحكم الإسلامي عن عقيدة) وبإذن من أعداء الأمة: اليهود والنصارى؟ 4. وماذا لو أضفنا إلى هذا خبرتنا الحديثة مع الأنظمة العسكرية عبر ستين سنة والتي رأينا آثارها في طول وعرض بلاد العرب والمسلمين؟ الإجابة على هذه الأسئلة فقهيا ستمثل: 1. الحد الأدنى والإطار العام والخطوط الحمر التي يضعها المسلمون لأنفسهم في بناء النظام السياسي، وهل يقبلون مرة أخرى بإمارات التغلب في زمن تيسر فيه اختيار الحاكم ولم تعد ثنائية (التغلب أو الفتنة) قائمة. 2. والأهم من ذلك أنه سيمثل لحظة اليقظة الأخيرة بدل أن تُعاد طرح هذه الأسئلة وقت وقوع الكارثة حيث سيختلفون ويتنازعون وتعميهم حسابات اللحظة القريبة ورسائل الغرف المغلقة العاجلة عن المصلحة الكبرى. أي أن الإجابة على هذه الأسئلة ستوضح الموقف العملي قبل أن يأتي تخبط آخر كتخبطهم في لحظة الثورة.. وهو التخبط الذي أنتج تلك الفوضى المريعة في المشهد السياسي الإسلامي. وأما تجنب هذه الأسئلة وعدم مناقشتها قبل وقوعها يعني: 1. غفلة كارثية 2. هدر فقهي ونسيان الأولويات 3. أو خوف من مجرد التفكير.. وهو ما إن تحقق فلا يليق بمن هذا حاله أن يوضع في جملة قادة الأمة ونخبتها. فإذا وقعت الواقعة، فاعلموا أن "المؤمن" هو من "لا يلدغ من جحر واحد مرتين"! (انتهى) وها قد وقعت الواقعة، وعلى حد ما أعلم فإنه لم يُثمر شيئا، وفوجئت الحالة الإسلامية بالانقلاب بعد حصوله، واضطربوا في تكييفه والتعامل معه أيضا. (3) يحدث هذه الأيام حوار شبيه بذات هذه الحوارات، وقد بدأت مع انتفاضة المدن السودانية، وقد شهدتُ حوارا في مجموعة بين عدد من المشايخ وطلبة العلم ونحوهم في هذه المسألة، وقد جرى الاختلاف المعهود بين من لا يجيز مثل هذه الانتفاضة لأنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب عليها من المصالح، وبعضهم لا يجيزها لخصوصية حال السودان وحال عمر البشير ويرى أنه ليس كغيره من الطغاة وأن له من الدين حظا وأنه لا بديل له إلا من هو أسوأ منه، وبعضهم، وبعضهم لا يحري رأيا. وفي محاولة من أحدهم لدفع الحديث نحو المستقبل وتكوين رؤية عامة بدلا من أن تتكرر نفس المفاجأة والأسئلة عند كل نازلة، طُرِحَت هذه الأسئلة، لكن حصل عندها نفس السلوك من المراوغة والتهرب والسكوت، قال السائل: 1. هل رحل حاكم مستبد دموي بالسلمية؟ أم أن دمار الأوطان أهون عليه من ترك عرشه؟ 2. هل رحل محتل مهيمن على بلد صنع نظامها واحتجن ثرواتها بأي وسيلة غير المقاومة المسلحة العنيفة والمريرة والطويلة؟ 3. لئن فرضنا (جدلا) أن ثمة حاكم مستبد رحل بمجرد السلمية، أو أن ثمة محتل رحل بمجرد السلمية.. فكم نسبة هذه الحالات من التاريخ؟ هل هي الشذوذ النادر الذي لا حكم له أم هو الأصل المضطرد الذي ينبغي أن نعتمد عليه؟ 4. ثم.. هل حالة بلادنا العربية وأنظمتها المعروفة التي هي صنيعة الاحتلال الأجنبي والتي ينزل الاحتلال ليدافع عنها إن أخفقت بنفسها، هل هذه الحالة ينطبق عليها الرحيل بالسلمية (إن فرضنا أن هذا حدث في مكان ما وزمان ما) أم الحالة الأخرى؟ 5. ما هو السبيل الذي ينبغي أن نفكر له ونخطط له كي نتأهل له، ونؤهل له الناس ونقودهم إليه. 6. ثم ما هو السبيل إن لم يسمحوا لنا بالوصول السلمي؟! هل نجلس بانتظار سماحهم لنا أم أن هناك طريقا أخرى؟ 7. إذا قيل نجحت تركيا وماليزيا بالتغيير السلمي من داخل النظام.. أليس في هذا بنفسه دليل الندرة على من استطاعوا تحقيق تغيير سلمي؟.. ثم هل نستطيع بعدما حدث في الانقلاب التركي أن نجعل نموذج تركيا مندرجا ضمن التغيير السلمي أم أن محاولة الانقلاب والتصدي لها (بالعنف المسلح) دليل على أن السلمية لم تكف وحدها حتى في النموذج التركي؟ 8. أليس العدو يقرأ التجارب كما نقرؤها نحن، هل العدو الذي انخدع بطريقة أردوغان فسمح له بالوصول مستعد لينخدع مرة أخرى إذا قلنا له: سنفعل مثلما فعل أردوغان؟! أليس قد حاول مثل هذا الغنوشي ومرسي ثم لم يُسمح لهما بالاستمرار؟ 9. هل الحساب الصحيح للمصالح والمفاسد هو ما يقتصر على هذه اللحظة وهذا المكان؟ أم الأصل أنه يمتد للنظر في العواقب المتعلقة باستمرار وبقاء هذه النظم التابعة للغرب وتحكمها في بلادنا والذي يعود على الأمة بحرب الدين ونكبة الدنيا؟ ماذا لو فضَّل أردوغان حقن دماء شعبه ليلة الانقلاب.. ماذا كان سيحدث في العالم الإسلامي كله؟.. الرجل ضحى ببضعة مئات وبقي الملايين محفوظين من ضياع الدين والدنيا. ثم ماذا لو فضَّل الإخوان حسم المواجهة مع عبد الناصر وهو ضعيف.. ما الثمن الذي كان سيُدفع وقتها؟ وهل يقارب الثمن المدفوع عبر ستين سنة من استمرار حكم العسكر في مصر وفي العالم الإسلامي كله؟ 10. هل تحررت أمة في الدنيا وامتلكت قرارها بغير ثمن فادح رهيب خسرت فيه ملايين الضحايا قبل أن تصل إلى ما هي فيه من التمكين؟ 11. حيث لن يكون ممكنا توقع حركة الشعوب ومتى تنتفض (لحظة اندلاع الثورة ما زالت حتى الآن تحير علماء الاجتماع) ولن يكون ممكنا السيطرة عليهم إذا انتفضوا وإرجاعهم بمجرد النداءات إلى البيوت (فهذه حالة فوق التحكم بطبيعتها) فلا مناص من امتطاء صهوة الثورة وإعادة توجيهها في المسار الصحيح.. وهنا يتصارع الفاعلون الأقوياء على امتطاء هذه الصهوة وتوجيهها، وأذكاهم وأقواهم هو من يغلب.. فماذا ينبغي أن تكون سياسة الإسلاميين في الإعداد للحظة الثورة؟ 12. هل الحسبة التي نقيسها بالمصالح والمفاسد هي حسبة سفك الدماء مقابل حقنها؟ أم هي على الحقيقة بين سفك الدماء على طريقة الأندلس وبورما وإفريقيا الوسطى والبلقان وبين سفكها في جهاد موصل إلى التحرر؟ مثل هذه الأسئلة لا تجد حتى الآن حوارا حقيقا ونقاشا جادا ومعمقا من أهل الحل والعقد في هذه الأمة، ولو أنهم اتفقوا على نقاشها لأثمروا ثمارا عظيمة، حتى لو وقع بينهم خلاف في فروع وجزئيات، لكن اتفاقهم في الأصول والكليات سيعصم كثيرا من الناس وسيعدل كثيرا من المسارات. وإن تَخَلِّي العلماء عن هذه الأمور سيتركها لا محالة للجُهَّال والمتحمسين وهؤلاء هم من ينشأ عنهم الغلو، ولا يُلام الذي نزع إلى الغلو ما دامت الساحة فارغة من علماء يؤصلون القضايا التي تحتاجها الأمة ويتحمس إليها المخلصون من أبنائها. (4) قبل كتابة هذه الأسطر بساعات شهدت مجلسا فيه بعض من هذه النخبة الإسلامية، وكان صاحب المحاضرة رجل خبير بالوضع الأوروبي لطول مقامه هناك، وأحسبه رجلا فاضلا. وجرى حديث طويل ومفصل عن التغيرات التي تحدث في أوروبا، والمشكلات التي تظهر وارتفاع شأن التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة، وانهيار التماسك المجتمعي الأوروبي وتوتر العلاقات مع الأمريكان ونمو الشبح الروسي وأمور أخرى.. وأمور أخرى! وعلى كثرة وأهمية ما طُرِح من قضايا، إلا أن السؤال الخفي في حديث المتكلم كان كيف ننقذ أوروبا من هذا الخطر، وهو سؤال نطق عنه لسان الحال لا المقال. وقد أحببت أن نزداد في المصارحة فسألته: أرى أنك تتحدث كمواطن أوروبي، ويمكنني أن أفهم هذا، لكن إذا وسَّعنا الصورة: أليس كل ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا كأمة؟ على الأقل من جهة تخفيف الضغط عنا. أجابني بما يخالفني، وكانت مختصر إجابته كالآتي: من قال بأن أي ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا بالضرورة؟ قد يكون العكس.. حتى إني أسأل أحيانا: هل سقوط نظام السيسي في مصر في مصلحة مصر؟ لقد دعا بعض إخواننا بسقوطه فترددت في أن أقول: آمين. إن أوروبا فيها ما يتغير نحو الإسلام، وهناك بعض من المسلمين يصلون تدريجيا إلى مفاصل صناعة القرار. كانت خلاصة إجابته، التي فهمتها من مجمل كلامه: لا تتمنوا شرا لأوروبا فإنها قد تحمل المشروع الإسلامي يوما ما. ومع أني تعودت على كثير من الصدمات، إلا أني صدمت أيضا، كنتُ أحسب النموذج الأوروبي آخذ في الذبول من بعد ما حدث في موجة الثورات العربية، وأن الدعاة الذين حلموا يوما بأن يكون فتح روما بالبيان واللسان قد عادوا أدراجهم مع ضربات الواقع، ولعلي أتفهمه أكثر مما ألومه، ذلك أن الرجل الذي كان مشروعه نشر الإسلام في أوروبا لعقود والدفاع عن حقوق المسلمين فيها ليتعذر عليه أن يرى خلاف ما قضى فيه عمره. وإني أكرر في هذا أني لا أتهم الرجل بشيء وأحسبه فاضلا عاملا للدين.. لكن الخيط الناظم في سائر هذه الحوارات والنقاشات، أن الفرار من الأسئلة الجوهرية في أي نقاش يُفضي إلى الفوضى والتخبط حين تقع الواقعة، ثم تقع الواقعة فيُفضي الفرار من نقاش أسئلتها إلى واقعة أخرى.. وهكذا نظل نتدرج في الحال، حتى نفقد قدرتنا على الأسئلة والإجابة لنبقى مجرد رد فعل، ثم ننتقل من رد الفعل إلى تبرير الواقع، ثم من تبريره إلى تحسينه وترويجه باعتباره أحسن المتاح إن لم يكن باعتباره الغاية المنشودة! الخيط الناظم هو الرغبة في تغيير ينقل الأمة من الاستضعاف إلى التمكين بغير تكاليف، بالدعوة، بالسلمية، بالدبلوماسية، بالإقناع، بإسلام صناع القرار.. مهما كانت سنة التغيير تخالف وتناقض هذه الأماني! لذلك يحدث الفرار من هذه الأسئلة لأنها أسئلة ينبني عليها تكاليف! وصدق الله تعالى إذ يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمَتَّعون إلا قليلا).
افتتاحية العدد الجديد.. لن ينفعكم الفرار
محمد إلهامي

[حمل العدد الجديد:
bit.ly/2VnOlgr
حمل هدية العدد:
bit.ly/2SxEkLM]

لا أستطيع أن أحصي الحوارات التي دارت منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، بل من قبلها، حول الثورة والإصلاح والتغيير والحل المتاح والقوى الدولية ومخاوف النجاح والفشل... إلخ! لكن الخيط الذي أستطيع تَبَيُّنَه بوضوح هو وجود جمهرة من النخبة الإسلامية التي تمارس دائما نوعا من الفرار من الأسئلة الخطيرة المطروحة بقوة.

(1)

قبل الثورة في مصر كانت فكرة حصول ثورة أو تغيير أشبه بالمستحيل لدى جموع النخبة الإسلامية من المشايخ والعلماء والمنتسبين إلى الحركة الإسلامية، ومع هذه الاستحالة عندهم فإن مجالسهم تفر دائما من سؤال: ما الحل؟ ما الحل بعد الانغلاق التام للمسار السياسي الإصلاحي، وقدرة السلطة على عرقلة وتشويه وتوظيف واختراق المسار الدعوي؟

عند هذا السؤال تسمع مصمصة الشفاه، التأسف، الحوقلة، الرجاء في الله (بمعنى أن ينزل نصر من السماء، لا بمعنى أن نعمل ونحن نرجو الله).

(2)

فيما بعد الثورة كانت نفس هذه المجالس تناقش كل الأمور تقريبا، إلا أن يُطْرَح فيها الأسئلة المهمة الجادة التي يترتب عليها العمل، فلم يحدث على حد ما أعلم أن انعقد مجلس طُرِح فيه الحديث عن الخطر القادم الذي هو خطر انقلاب عسكري على الرئيس مرسي –فك الله أسره- وإذا حاول أحدٌ من الشباب وضع هذا الموضوع للنقاش، تبدأ المراوغات وحديث التفاؤل والتشاؤم، والحيود عن الموضوع، مع ميل شديد نحو حديث الطمأنينة ورصد مؤشرات الاستقرار.

أتذكر أنني بعد عدد من النقاشات، كتبتُ هذا المقال (بتاريخ 13 مارس 2013م. أي: قبل الانقلاب بنحو أربعة أشهر)، وفيه:

"خلاصة هذا المقال طلب الفتوى في هذه النازلة:

1. ما حكم الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب شعبيا؟

2. وما طرق مواجهته شرعا إذا كان متترسا بالجنود -البسطاء- وبالسلاح؟

3. وماذا إذا غلب على الظن أن هذا الانقلاب بدعم من طوائف علمانية (تعادي الشريعة وترفض الحكم الإسلامي عن عقيدة) وبإذن من أعداء الأمة: اليهود والنصارى؟

4. وماذا لو أضفنا إلى هذا خبرتنا الحديثة مع الأنظمة العسكرية عبر ستين سنة والتي رأينا آثارها في طول وعرض بلاد العرب والمسلمين؟

الإجابة على هذه الأسئلة فقهيا ستمثل:

1. الحد الأدنى والإطار العام والخطوط الحمر التي يضعها المسلمون لأنفسهم في بناء النظام السياسي، وهل يقبلون مرة أخرى بإمارات التغلب في زمن تيسر فيه اختيار الحاكم ولم تعد ثنائية (التغلب أو الفتنة) قائمة.

2. والأهم من ذلك أنه سيمثل لحظة اليقظة الأخيرة بدل أن تُعاد طرح هذه الأسئلة وقت وقوع الكارثة حيث سيختلفون ويتنازعون وتعميهم حسابات اللحظة القريبة ورسائل الغرف المغلقة العاجلة عن المصلحة الكبرى. أي أن الإجابة على هذه الأسئلة ستوضح الموقف العملي قبل أن يأتي تخبط آخر كتخبطهم في لحظة الثورة.. وهو التخبط الذي أنتج تلك الفوضى المريعة في المشهد السياسي الإسلامي.

وأما تجنب هذه الأسئلة وعدم مناقشتها قبل وقوعها يعني:

1. غفلة كارثية

2. هدر فقهي ونسيان الأولويات

3. أو خوف من مجرد التفكير.. وهو ما إن تحقق فلا يليق بمن هذا حاله أن يوضع في جملة قادة الأمة ونخبتها.

فإذا وقعت الواقعة، فاعلموا أن "المؤمن" هو من "لا يلدغ من جحر واحد مرتين"! (انتهى)

وها قد وقعت الواقعة، وعلى حد ما أعلم فإنه لم يُثمر شيئا، وفوجئت الحالة الإسلامية بالانقلاب بعد حصوله، واضطربوا في تكييفه والتعامل معه أيضا.

(3)

يحدث هذه الأيام حوار شبيه بذات هذه الحوارات، وقد بدأت مع انتفاضة المدن السودانية، وقد شهدتُ حوارا في مجموعة بين عدد من المشايخ وطلبة العلم ونحوهم في هذه المسألة، وقد جرى الاختلاف المعهود بين من لا يجيز مثل هذه الانتفاضة لأنه يترتب عليها من المفاسد أضعاف ما يترتب عليها من المصالح، وبعضهم لا يجيزها لخصوصية حال السودان وحال عمر البشير ويرى أنه ليس كغيره من الطغاة وأن له من الدين حظا وأنه لا بديل له إلا من هو أسوأ منه، وبعضهم، وبعضهم لا يحري رأيا.

وفي محاولة من أحدهم لدفع الحديث نحو المستقبل وتكوين رؤية عامة بدلا من أن تتكرر نفس المفاجأة والأسئلة عند كل نازلة، طُرِحَت هذه الأسئلة، لكن حصل عندها نفس السلوك من المراوغة والتهرب والسكوت، قال السائل:

1. هل رحل حاكم مستبد دموي بالسلمية؟ أم أن دمار الأوطان أهون عليه من ترك عرشه؟

2. هل رحل محتل مهيمن على بلد صنع نظامها واحتجن ثرواتها بأي وسيلة غير المقاومة المسلحة العنيفة والمريرة والطويلة؟

3. لئن فرضنا (جدلا) أن ثمة حاكم مستبد رحل بمجرد السلمية، أو أن ثمة محتل رحل بمجرد السلمية.. فكم نسبة هذه الحالات من التاريخ؟ هل هي الشذوذ النادر الذي لا حكم له أم هو الأصل المضطرد الذي ينبغي أن نعتمد عليه؟

4. ثم.. هل حالة بلادنا العربية وأنظمتها المعروفة التي هي صنيعة الاحتلال الأجنبي والتي ينزل الاحتلال ليدافع عنها إن أخفقت بنفسها، هل هذه الحالة ينطبق عليها الرحيل بالسلمية (إن فرضنا أن هذا حدث في مكان ما وزمان ما) أم الحالة الأخرى؟

5. ما هو السبيل الذي ينبغي أن نفكر له ونخطط له كي نتأهل له، ونؤهل له الناس ونقودهم إليه.

6. ثم ما هو السبيل إن لم يسمحوا لنا بالوصول السلمي؟! هل نجلس بانتظار سماحهم لنا أم أن هناك طريقا أخرى؟

7. إذا قيل نجحت تركيا وماليزيا بالتغيير السلمي من داخل النظام.. أليس في هذا بنفسه دليل الندرة على من استطاعوا تحقيق تغيير سلمي؟.. ثم هل نستطيع بعدما حدث في الانقلاب التركي أن نجعل نموذج تركيا مندرجا ضمن التغيير السلمي أم أن محاولة الانقلاب والتصدي لها (بالعنف المسلح) دليل على أن السلمية لم تكف وحدها حتى في النموذج التركي؟

8. أليس العدو يقرأ التجارب كما نقرؤها نحن، هل العدو الذي انخدع بطريقة أردوغان فسمح له بالوصول مستعد لينخدع مرة أخرى إذا قلنا له: سنفعل مثلما فعل أردوغان؟! أليس قد حاول مثل هذا الغنوشي ومرسي ثم لم يُسمح لهما بالاستمرار؟

9. هل الحساب الصحيح للمصالح والمفاسد هو ما يقتصر على هذه اللحظة وهذا المكان؟ أم الأصل أنه يمتد للنظر في العواقب المتعلقة باستمرار وبقاء هذه النظم التابعة للغرب وتحكمها في بلادنا والذي يعود على الأمة بحرب الدين ونكبة الدنيا؟ ماذا لو فضَّل أردوغان حقن دماء شعبه ليلة الانقلاب.. ماذا كان سيحدث في العالم الإسلامي كله؟.. الرجل ضحى ببضعة مئات وبقي الملايين محفوظين من ضياع الدين والدنيا. ثم ماذا لو فضَّل الإخوان حسم المواجهة مع عبد الناصر وهو ضعيف.. ما الثمن الذي كان سيُدفع وقتها؟ وهل يقارب الثمن المدفوع عبر ستين سنة من استمرار حكم العسكر في مصر وفي العالم الإسلامي كله؟

10. هل تحررت أمة في الدنيا وامتلكت قرارها بغير ثمن فادح رهيب خسرت فيه ملايين الضحايا قبل أن تصل إلى ما هي فيه من التمكين؟

11. حيث لن يكون ممكنا توقع حركة الشعوب ومتى تنتفض (لحظة اندلاع الثورة ما زالت حتى الآن تحير علماء الاجتماع) ولن يكون ممكنا السيطرة عليهم إذا انتفضوا وإرجاعهم بمجرد النداءات إلى البيوت (فهذه حالة فوق التحكم بطبيعتها) فلا مناص من امتطاء صهوة الثورة وإعادة توجيهها في المسار الصحيح.. وهنا يتصارع الفاعلون الأقوياء على امتطاء هذه الصهوة وتوجيهها، وأذكاهم وأقواهم هو من يغلب.. فماذا ينبغي أن تكون سياسة الإسلاميين في الإعداد للحظة الثورة؟

12. هل الحسبة التي نقيسها بالمصالح والمفاسد هي حسبة سفك الدماء مقابل حقنها؟ أم هي على الحقيقة بين سفك الدماء على طريقة الأندلس وبورما وإفريقيا الوسطى والبلقان وبين سفكها في جهاد موصل إلى التحرر؟
مثل هذه الأسئلة لا تجد حتى الآن حوارا حقيقا ونقاشا جادا ومعمقا من أهل الحل والعقد في هذه الأمة، ولو أنهم اتفقوا على نقاشها لأثمروا ثمارا عظيمة، حتى لو وقع بينهم خلاف في فروع وجزئيات، لكن اتفاقهم في الأصول والكليات سيعصم كثيرا من الناس وسيعدل كثيرا من المسارات. وإن تَخَلِّي العلماء عن هذه الأمور سيتركها لا محالة للجُهَّال والمتحمسين وهؤلاء هم من ينشأ عنهم الغلو، ولا يُلام الذي نزع إلى الغلو ما دامت الساحة فارغة من علماء يؤصلون القضايا التي تحتاجها الأمة ويتحمس إليها المخلصون من أبنائها.

(4)

قبل كتابة هذه الأسطر بساعات شهدت مجلسا فيه بعض من هذه النخبة الإسلامية، وكان صاحب المحاضرة رجل خبير بالوضع الأوروبي لطول مقامه هناك، وأحسبه رجلا فاضلا. وجرى حديث طويل ومفصل عن التغيرات التي تحدث في أوروبا، والمشكلات التي تظهر وارتفاع شأن التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة، وانهيار التماسك المجتمعي الأوروبي وتوتر العلاقات مع الأمريكان ونمو الشبح الروسي وأمور أخرى.. وأمور أخرى!

وعلى كثرة وأهمية ما طُرِح من قضايا، إلا أن السؤال الخفي في حديث المتكلم كان كيف ننقذ أوروبا من هذا الخطر، وهو سؤال نطق عنه لسان الحال لا المقال. وقد أحببت أن نزداد في المصارحة فسألته: أرى أنك تتحدث كمواطن أوروبي، ويمكنني أن أفهم هذا، لكن إذا وسَّعنا الصورة: أليس كل ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا كأمة؟ على الأقل من جهة تخفيف الضغط عنا.

أجابني بما يخالفني، وكانت مختصر إجابته كالآتي: من قال بأن أي ضعف ينزل بأوروبا سيكون في صالحنا بالضرورة؟ قد يكون العكس.. حتى إني أسأل أحيانا: هل سقوط نظام السيسي في مصر في مصلحة مصر؟ لقد دعا بعض إخواننا بسقوطه فترددت في أن أقول: آمين. إن أوروبا فيها ما يتغير نحو الإسلام، وهناك بعض من المسلمين يصلون تدريجيا إلى مفاصل صناعة القرار.

كانت خلاصة إجابته، التي فهمتها من مجمل كلامه: لا تتمنوا شرا لأوروبا فإنها قد تحمل المشروع الإسلامي يوما ما.

ومع أني تعودت على كثير من الصدمات، إلا أني صدمت أيضا، كنتُ أحسب النموذج الأوروبي آخذ في الذبول من بعد ما حدث في موجة الثورات العربية، وأن الدعاة الذين حلموا يوما بأن يكون فتح روما بالبيان واللسان قد عادوا أدراجهم مع ضربات الواقع، ولعلي أتفهمه أكثر مما ألومه، ذلك أن الرجل الذي كان مشروعه نشر الإسلام في أوروبا لعقود والدفاع عن حقوق المسلمين فيها ليتعذر عليه أن يرى خلاف ما قضى فيه عمره. وإني أكرر في هذا أني لا أتهم الرجل بشيء وأحسبه فاضلا عاملا للدين..

لكن الخيط الناظم في سائر هذه الحوارات والنقاشات، أن الفرار من الأسئلة الجوهرية في أي نقاش يُفضي إلى الفوضى والتخبط حين تقع الواقعة، ثم تقع الواقعة فيُفضي الفرار من نقاش أسئلتها إلى واقعة أخرى.. وهكذا نظل نتدرج في الحال، حتى نفقد قدرتنا على الأسئلة والإجابة لنبقى مجرد رد فعل، ثم ننتقل من رد الفعل إلى تبرير الواقع، ثم من تبريره إلى تحسينه وترويجه باعتباره أحسن المتاح إن لم يكن باعتباره الغاية المنشودة!

الخيط الناظم هو الرغبة في تغيير ينقل الأمة من الاستضعاف إلى التمكين بغير تكاليف، بالدعوة، بالسلمية، بالدبلوماسية، بالإقناع، بإسلام صناع القرار.. مهما كانت سنة التغيير تخالف وتناقض هذه الأماني! لذلك يحدث الفرار من هذه الأسئلة لأنها أسئلة ينبني عليها تكاليف!

وصدق الله تعالى إذ يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمَتَّعون إلا قليلا).
‏٠٥‏/٠١‏/٢٠١٩ ٧:٠٩ م‏
هنا جميع أعداد وهدايا مجلة كلمة حق من حين إصدارها إلى الآن (18 عدداً و7 كتب): bit.ly/2Rv0LDS ====== لتحميل العدد الجديد فقط: http://bit.ly/2VnOlgr لتحميل هدية العدد الجديد فقط: http://bit.ly/2SxEkLM -------- انضم لنا على تيليجرام t.me/klmtuhaq تابعنا على تويتر twitter.com/klmtuhaq
هنا جميع أعداد وهدايا مجلة كلمة حق

من حين إصدارها إلى الآن (18 عدداً و7 كتب):

bit.ly/2Rv0LDS

======
لتحميل العدد الجديد فقط:
http://bit.ly/2VnOlgr

لتحميل هدية العدد الجديد فقط:
http://bit.ly/2SxEkLM

--------

انضم لنا على تيليجرام
t.me/klmtuhaq

تابعنا على تويتر
twitter.com/klmtuhaq
‏٠٢‏/٠١‏/٢٠١٩ ١١:١٦ ص‏
العمل الثوري الشامل.. نبذة مختصرة حامد عبد العظيم [لتحميل جميع إصدارات المجلة https://archive.org/details/klmhaq17] تتميز الثورة الإسلامية التي نسعى إليه كأمة إسلامية بالشمول في مراحلها المختلفة، من البداية إلى النهاية، وتُعد الانتقائية هي العدو الأول للثورة الإسلامية قبل أعدائها أنفسهم، وهذا أمر مهم للغاية لا ينتبه إليه البعض في فورة الحماس والحرص على تحصيل نصر للأمة عاجل، وهو وإن كان شعوراً محموداً بلا شك، فإنه قد يؤدي إلى الانتقائية والقفز على واجبات الوقت. شمول الثورة في مراحلها المختلفة 1. مرحلة الإعداد الثورة الإسلامية شاملة من ناحية الإعداد، فلا يُمكن أن تستمر التصورات الساذجة لنصرة الأمة، فمن الانتقائية في مرحلة الإعداد أن تحتكر جماعة عاملاً واحداً من عوامل النصر، وتجعله هو العامل الوحيد ولا عوامل غيره، وكل عامل غيره لن يؤدي إلى تمكين الأمة الإسلامية واستعادة مجدها. فهذا يرفع شعار الدعوة كعامل وحيد لتحقيق النصر، مع تفكير طوباوي تراجيدي بأن الدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ستحول الشعوب تدريجياً إلى الإيمان بالله واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم تتنزل رحمة الله تعالى ويقيم المسلمون الخلافة الإسلامية ويستعيدوا حضارتهم. وهكذا يظن بطريقة مشابهة أيضاً مَن يرفعون العلم، أو شعار القتال، أو شعار التفوق التكنولوجي... إلخ وبالطبع هذه تصورات انتقائية تتعارض مع الشمول الذي أشرنا إليه، فمرحلة الإعداد يجب أن تشمل جميع عناصر القوة، على جميع المستويات الفردية والجماعية، فكل فرد يسعى لتحصيل عناصر القوة في نفسه، من قوة إيمانية وقوة بدنية وقوة معرفية، وكل جماعة تسعى إلى تحصيل عوامل القوة لأفرادها في الجانب الإيماني والجانب العسكري والجانب التكنولوجي والجانب المعرفي، وهكذا. فالدعوة إلى الله بدون إعداد عسكري على مستوى التثقيف العسكري ومستوى الإعداد القتالي، ستؤدي إلى تكوين مجتمع من الدجاج الذي يُجهز ليأكله الطاغية في أقرب وقت متاح. والإعداد العسكري بدون علم شرعي ووعي سياسي، سيؤدي إلى تكوين أفراد من البلطجية عديمي الوعي الاستراتيجي، لكن في ثوب إسلامي، ويصبحون أشد ضرراً على الإسلام من الكفار أنفسهم. والعِلم دون إصلاح القلوب والتربية الإيمانية، ودون الوعي السياسي بأبعاد وأركان الحرب الصليبية على الإسلام اليوم والتي تقودها أمريكا وأوروبا مستخدمة المنافقين من رؤساء الأنظمة العربية، سيؤدي إلى إفراز علماء سلطان ومنافقين يحللون ما حرم الله ويبررون للطواغيت قمعهم ويؤسلمون أنظمتهم ويخلعون عليهم ألقاباً من قبيل ولي الأمر وأمير المؤمنين. 2. مرحلة الثورة وهي المرحلة التي يسود فيها الحراك الشعبي ضد الطواغيت لإسقاطهم، بغض النظر عن شكل هذا الحراك، ولكن صفته الأساسية أن يكون حراكاً واسعاً تشارك فيه فئة كبيرة من الشعب. وهذه الصفة مهمة لأنه لن تنجح ثورة بتحركات فردية وعمليات مسلحة متناثرة، فقتل جندي يحرس سفارة، أو قتل ضابط يضبط المرور، أو تفجير قسم شرطة، لن يؤدي إلى أي نجاح أو تمكين، بل على العكس سيكون مادة للأنظمة الطاغوتية لمزيد من القمع، إلا إذا كان في سياق القصاص من أحد المجرمين القتلة بعينه؛ فهذا شيء آخر. فشمول الثورة أثناء الحراك الواسع يكون برفع سقف المطالب إلى أعلى مستوى ممكن، والثورة الشاملة ضد كل أركان النظام الوظيفي، وعدم الرضا بالفتات أو التوقف دون تنفيذ المطالب الثورية، والمقاومة حتى لا تخمد نيران الثورة وتبقى دوماً جذوتها مشتعلة. وذلك لأن الأنظمة القمعية تسعى من اليوم الأول إلى الالتفاف على الثورة تمهيداً لكسر عنقها، وقد قيل أنصاف الثورات مقابر الثوار. ومن الشمول أيضاً في هذا المرحلة من الحراك، عدم الانفراد والشذوذ عن الأمة، وعدم الانعزال عن الناس بل لابد من إشراك أعيانهم في القرار، والاستعانة بقوتهم والاحتماء فيهم وبهم، وفتح العلاقات مع عوامهم وتمكينهم وتحميلهم المسؤولية الثورية، لا تكوين جماعة فئوية نقائية تضع لنفسها أسماءً غريبة على مسامع الناس، وتتبنى مطالب غير مفهومة أو فضفاضة، وتلفظ الشعب وتقصيه فيتحول إلى معاداتهم. وتأتي هنا أهمية الخطاب الثوري في احتواء الناس وتحويلهم إلى وقود للثورة الإسلامية، ولكن دون تنازل عن الشريعة الإسلامية، ودون تبني لما تردده الببغاوات من المطالب الهجينة مثل الدولة المدنية بمرجعية إسلامية أو بالليبرالية الإسلامية أو حرية المرأة بالمفهوم الغربي أو بحرية العقيدة والمساواة المطلقة، إلى آخر هذه المطالب التي لها مفاهيم معاكسة تماماً للمفاهيم الإسلامية التي على الخطاب الثوري الإسلامي أن يوصلها للناس بطريقة ذكية وهادئة وتنطلق من العزة لا من الذل والاستحياء منها كما يفعل المنهزمون. 3. مرحلة الحُكم وفي مرحلة الحكم لابد من النظرة الشاملة للأوضاع السياسية المحيطة، فالبعض ينظر إلى مرحلة الحُكم على أنها مرحلة الوصول إلى المستراح وبلوغ المنتهى، ولكنها على العكس من ذلك، إنها مرحلة البلاء الأكبر، والهم الأعظم، والمسؤولية الخطيرة. ومن أجل تلك النظرة المتساهلة للحُكم، يسارع البعض إلى القفز إليه في أول فرصة متاحة، حتى لو لم يكن متأهلاً لذلك، وهنا نستحضر الدرس القوي الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، حين قال له بكل صراحة ودون مجاملات: "إنك ضعيف" وقال له عن الحُكم: "وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة". وليس ذلك تهويناً من أهمية الحُكم في إقامة العدل والحق، بقدر ما هو تنبيه على خطورة المسارعة إلى الحكم دون استعداد كافٍ، إضافة إلى أنه ربما يكون الحُكم بداية نهاية الجماعة الثورية، ومصيدة للانقضاض عليها وقتلها. ففي حالة الثورات المسلحة تغتر الجماعة الثورية (غير المستعدة) ببريق كرسي الحكم فتسيطر عليه وتتحكم بقطعة من الأرض فتنكشف للعدو فيقضي عليها. وفي حالة الثورات السلمية تغتر الجماعة الثورية (غير المستعدة) ببريق الكرسي أيضاً فتحكم مدة من الزمان فتنقض عليها الثورة المضادة وأركان الدولة العميقة بالضربة القاضية. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر بعد أن أخبره أنه لا يقدر على الحكم: "إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". فإذا نظرت الجماعة الثورية نظرة شاملة فوجدت نفسها قوية وقادرة على الحكم والمحافظة عليه والدفاع عنه، فهنا الاستثناء وهنا تكون مؤهلة للحكم. أما غير ذلك، فلا تتحمل مسؤولية خارجة عن استطاعتها ومفضية إلى تدميرها، وتحافظ بدلاً من ذلك على نفسها ووجودها كحركة قوية ثورية وجماعة ضغط يعمل لها ألف حساب، وهذا لن يتوافر لها إلا بامتلاكها لعناصر القوة التي أشرنا إليها. الشمول في مرحلة الحكم أيضاً تقضي بإشراك الأمة في أمرها في الدوائر المختلفة، فالجماعة الثورية تنظر إلى نفسها دوماً على أنها جزء من الأمة، لا متعالية عليها أو في منزلة أعلى وأعلم منها، أو أنها الأولى بالمناصب، بل تولي كل منصب لأهله، وهذا لا يعني الانفتاح على أعداء الأمة من المنافقين والعملاء، بل هؤلاء لابد من إقصائهم بكل حزم مع إظهار خيانتهم وسعيهم لتنفيذ أجندات الغرب، لذلك من المهم سلفاً تحديد دوائر الاختلاف ومساحات الخلاف السائغ وسقف التوافق لتحقيق الموازنة. كانت هذه إشارة عابرة إلى أهمية الشمول في الفكر والتطبيق في المراحل المختلفة، وبالطبع تحتاج النظرة الشاملة إلى مزيد من التأصيل والتدارس والتباحث، حتى لا تتكرر الأخطاء ولا تُعاد ثورة بعد ثورة.
العمل الثوري الشامل.. نبذة مختصرة
حامد عبد العظيم

[لتحميل جميع إصدارات المجلة https://archive.org/details/klmhaq17]

تتميز الثورة الإسلامية التي نسعى إليه كأمة إسلامية بالشمول في مراحلها المختلفة، من البداية إلى النهاية، وتُعد الانتقائية هي العدو الأول للثورة الإسلامية قبل أعدائها أنفسهم، وهذا أمر مهم للغاية لا ينتبه إليه البعض في فورة الحماس والحرص على تحصيل نصر للأمة عاجل، وهو وإن كان شعوراً محموداً بلا شك، فإنه قد يؤدي إلى الانتقائية والقفز على واجبات الوقت.

شمول الثورة في مراحلها المختلفة

1. مرحلة الإعداد

الثورة الإسلامية شاملة من ناحية الإعداد، فلا يُمكن أن تستمر التصورات الساذجة لنصرة الأمة، فمن الانتقائية في مرحلة الإعداد أن تحتكر جماعة عاملاً واحداً من عوامل النصر، وتجعله هو العامل الوحيد ولا عوامل غيره، وكل عامل غيره لن يؤدي إلى تمكين الأمة الإسلامية واستعادة مجدها.
فهذا يرفع شعار الدعوة كعامل وحيد لتحقيق النصر، مع تفكير طوباوي تراجيدي بأن الدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ستحول الشعوب تدريجياً إلى الإيمان بالله واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم تتنزل رحمة الله تعالى ويقيم المسلمون الخلافة الإسلامية ويستعيدوا حضارتهم. وهكذا يظن بطريقة مشابهة أيضاً مَن يرفعون العلم، أو شعار القتال، أو شعار التفوق التكنولوجي... إلخ

وبالطبع هذه تصورات انتقائية تتعارض مع الشمول الذي أشرنا إليه، فمرحلة الإعداد يجب أن تشمل جميع عناصر القوة، على جميع المستويات الفردية والجماعية، فكل فرد يسعى لتحصيل عناصر القوة في نفسه، من قوة إيمانية وقوة بدنية وقوة معرفية، وكل جماعة تسعى إلى تحصيل عوامل القوة لأفرادها في الجانب الإيماني والجانب العسكري والجانب التكنولوجي والجانب المعرفي، وهكذا.

فالدعوة إلى الله بدون إعداد عسكري على مستوى التثقيف العسكري ومستوى الإعداد القتالي، ستؤدي إلى تكوين مجتمع من الدجاج الذي يُجهز ليأكله الطاغية في أقرب وقت متاح.

والإعداد العسكري بدون علم شرعي ووعي سياسي، سيؤدي إلى تكوين أفراد من البلطجية عديمي الوعي الاستراتيجي، لكن في ثوب إسلامي، ويصبحون أشد ضرراً على الإسلام من الكفار أنفسهم.

والعِلم دون إصلاح القلوب والتربية الإيمانية، ودون الوعي السياسي بأبعاد وأركان الحرب الصليبية على الإسلام اليوم والتي تقودها أمريكا وأوروبا مستخدمة المنافقين من رؤساء الأنظمة العربية، سيؤدي إلى إفراز علماء سلطان ومنافقين يحللون ما حرم الله ويبررون للطواغيت قمعهم ويؤسلمون أنظمتهم ويخلعون عليهم ألقاباً من قبيل ولي الأمر وأمير المؤمنين.

2. مرحلة الثورة

وهي المرحلة التي يسود فيها الحراك الشعبي ضد الطواغيت لإسقاطهم، بغض النظر عن شكل هذا الحراك، ولكن صفته الأساسية أن يكون حراكاً واسعاً تشارك فيه فئة كبيرة من الشعب.

وهذه الصفة مهمة لأنه لن تنجح ثورة بتحركات فردية وعمليات مسلحة متناثرة، فقتل جندي يحرس سفارة، أو قتل ضابط يضبط المرور، أو تفجير قسم شرطة، لن يؤدي إلى أي نجاح أو تمكين، بل على العكس سيكون مادة للأنظمة الطاغوتية لمزيد من القمع، إلا إذا كان في سياق القصاص من أحد المجرمين القتلة بعينه؛ فهذا شيء آخر.

فشمول الثورة أثناء الحراك الواسع يكون برفع سقف المطالب إلى أعلى مستوى ممكن، والثورة الشاملة ضد كل أركان النظام الوظيفي، وعدم الرضا بالفتات أو التوقف دون تنفيذ المطالب الثورية، والمقاومة حتى لا تخمد نيران الثورة وتبقى دوماً جذوتها مشتعلة. وذلك لأن الأنظمة القمعية تسعى من اليوم الأول إلى الالتفاف على الثورة تمهيداً لكسر عنقها، وقد قيل أنصاف الثورات مقابر الثوار.

ومن الشمول أيضاً في هذا المرحلة من الحراك، عدم الانفراد والشذوذ عن الأمة، وعدم الانعزال عن الناس بل لابد من إشراك أعيانهم في القرار، والاستعانة بقوتهم والاحتماء فيهم وبهم، وفتح العلاقات مع عوامهم وتمكينهم وتحميلهم المسؤولية الثورية، لا تكوين جماعة فئوية نقائية تضع لنفسها أسماءً غريبة على مسامع الناس، وتتبنى مطالب غير مفهومة أو فضفاضة، وتلفظ الشعب وتقصيه فيتحول إلى معاداتهم.

وتأتي هنا أهمية الخطاب الثوري في احتواء الناس وتحويلهم إلى وقود للثورة الإسلامية، ولكن دون تنازل عن الشريعة الإسلامية، ودون تبني لما تردده الببغاوات من المطالب الهجينة مثل الدولة المدنية بمرجعية إسلامية أو بالليبرالية الإسلامية أو حرية المرأة بالمفهوم الغربي أو بحرية العقيدة والمساواة المطلقة، إلى آخر هذه المطالب التي لها مفاهيم معاكسة تماماً للمفاهيم الإسلامية التي على الخطاب الثوري الإسلامي أن يوصلها للناس بطريقة ذكية وهادئة وتنطلق من العزة لا من الذل والاستحياء منها كما يفعل المنهزمون.

3. مرحلة الحُكم

وفي مرحلة الحكم لابد من النظرة الشاملة للأوضاع السياسية المحيطة، فالبعض ينظر إلى مرحلة الحُكم على أنها مرحلة الوصول إلى المستراح وبلوغ المنتهى، ولكنها على العكس من ذلك، إنها مرحلة البلاء الأكبر، والهم الأعظم، والمسؤولية الخطيرة.

ومن أجل تلك النظرة المتساهلة للحُكم، يسارع البعض إلى القفز إليه في أول فرصة متاحة، حتى لو لم يكن متأهلاً لذلك، وهنا نستحضر الدرس القوي الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، حين قال له بكل صراحة ودون مجاملات: "إنك ضعيف" وقال له عن الحُكم: "وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة".

وليس ذلك تهويناً من أهمية الحُكم في إقامة العدل والحق، بقدر ما هو تنبيه على خطورة المسارعة إلى الحكم دون استعداد كافٍ، إضافة إلى أنه ربما يكون الحُكم بداية نهاية الجماعة الثورية، ومصيدة للانقضاض عليها وقتلها. ففي حالة الثورات المسلحة تغتر الجماعة الثورية (غير المستعدة) ببريق كرسي الحكم فتسيطر عليه وتتحكم بقطعة من الأرض فتنكشف للعدو فيقضي عليها. وفي حالة الثورات السلمية تغتر الجماعة الثورية (غير المستعدة) ببريق الكرسي أيضاً فتحكم مدة من الزمان فتنقض عليها الثورة المضادة وأركان الدولة العميقة بالضربة القاضية.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر بعد أن أخبره أنه لا يقدر على الحكم: "إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". فإذا نظرت الجماعة الثورية نظرة شاملة فوجدت نفسها قوية وقادرة على الحكم والمحافظة عليه والدفاع عنه، فهنا الاستثناء وهنا تكون مؤهلة للحكم.

أما غير ذلك، فلا تتحمل مسؤولية خارجة عن استطاعتها ومفضية إلى تدميرها، وتحافظ بدلاً من ذلك على نفسها ووجودها كحركة قوية ثورية وجماعة ضغط يعمل لها ألف حساب، وهذا لن يتوافر لها إلا بامتلاكها لعناصر القوة التي أشرنا إليها.

الشمول في مرحلة الحكم أيضاً تقضي بإشراك الأمة في أمرها في الدوائر المختلفة، فالجماعة الثورية تنظر إلى نفسها دوماً على أنها جزء من الأمة، لا متعالية عليها أو في منزلة أعلى وأعلم منها، أو أنها الأولى بالمناصب، بل تولي كل منصب لأهله، وهذا لا يعني الانفتاح على أعداء الأمة من المنافقين والعملاء، بل هؤلاء لابد من إقصائهم بكل حزم مع إظهار خيانتهم وسعيهم لتنفيذ أجندات الغرب، لذلك من المهم سلفاً تحديد دوائر الاختلاف ومساحات الخلاف السائغ وسقف التوافق لتحقيق الموازنة.

كانت هذه إشارة عابرة إلى أهمية الشمول في الفكر والتطبيق في المراحل المختلفة، وبالطبع تحتاج النظرة الشاملة إلى مزيد من التأصيل والتدارس والتباحث، حتى لا تتكرر الأخطاء ولا تُعاد ثورة بعد ثورة.
‏٣١‏/١٢‏/٢٠١٨ ٧:٠٢ م‏
كلمة مهمة للمشرف العام على مجلة كلمة حق الأستاذ @[520036614:2048:محمد إلهامي] صبَّحنا هذا الصباح بخبر، حسنٍ من وجهٍ، وسييء من وجهٍ آخر.. ذلك أن (وورد برِس) شركة استضافة المواقع الأشهر؛ والمستضيفة لموقع مجلة (كلمة حق) klmtuhaq.blog الذي كانت عليه جميع أعداد المجلة، قد أغلقت الموقع بزعم أنه يخالف المعايير واستجابة للبلاغات التي وصلتهم. لقد اتخذنا عنوان "كلمة حق" لهذه المجلة لكي تحقق هذا الشعار الذي ورثناه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". ولئن كان يسوؤنا انسداد باب كان مفتوحاً، إلا أنه يسرنا أن كلمة الحق تقع منهم الموقع الذي يزعجهم ولا يتحملونه، إذ ليس من فائدة في كلمة لا تزعج المجرمين، بل هي إن لم تزعجهم لم تكن لتكون "كلمة حق". ولقد رأينا، والحمد لله، بعض أثر هذه المجلة على ضعف إمكانياتها في تلقي أهل الباطل لها، فلقد بدأ الكذب عليها بعد ساعات من صدور العدد الأول، وذلك في وسيلة إعلام تابعة للمخابرات المصرية.. ثم مع توالي الأعداد خُصِّصَتْ لها أخبار وتعليقات وفقرات تليفزيونية على الشاشات المصرية الناطقة بلسان العسكر. ولئن كان يثير الحزن أن المجرمين انتهبوا لما يُكتب وحرصوا على متابعته أكثر بكثير مما نراه من أهلنا وإخواننا وأحبابنا، فلقد سرَّنا أن نسمع بأنباء انتشار المجلة بين الشباب وأن بعضهم يطبعها ويوزعها في مناطقه وأن بعضهم يجلس يتدارس ما فيها عند كل عدد.. ولا يزال الله يرسل إلينا من الأنباء ما نرى معه أن التعب فيها لا يذهب عبثاً. على كل حال، أجدها فرصة للحديث عن خط المجلة وهدفها باختصار شديد: انبثقت فكرة المجلة من واقع الندرة الشديدة في عالم الكُتَّاب والباحثين والمفكرين الذين إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ قالوا كلاما مفيداً. فالواقع أن عالم التنظير يكاد ينفصل عن عالم التطبيق، فأهل الكتابة والتفكير هائمون في عالم الأفكار والنادر منهم من يتعرف على مشكلات الواقع، ثم النادر من هؤلاء من يستطيع أن يفيد بشيء في حل هذه المشكلات، وإنما يقضي هؤلاء حياتهم بين كلام وكتابة وندوة ومؤتمر ولقاء تلفازي، وقد يقول كلاماً يبدو جميلاً ويبدو مفيداً ويبدو مهما، لكن بغير أثر. وأما عالم التطبيق فقد تولاه المتحمسون المتحركون المنفعلون بقضايا أمتهم، ولهم في هذا بذل وجهد وأثر يُشكر ولا يُنكر، لكن النادر منهم من له من الفكر والبحث والنظر والخبرة والنضج ما يستطيع به تصحيح المسارات وكبح الاندفاع واختيار الأمثل عند النوازل! وهكذا، لو شبهنا الحالة الحاضرة بقطار، لوجدنا قطاراً يندفع بلا توجيه سديد، بينما أجهزة التوجيه تخاطب الفراغ ولا تتصل بالقطار.. والنتيجة في الحالتين أن المحتل والأنظمة الحاكمة بما لديها من قدرات وإمكانيات تتولى تضليل الطرفين.. فعالم التنظير والتفكير مشغول بالقضايا التي تطرحها الثقافة الغالبة وأغلب استجاباته تكون تطويعاً للدين وفقاً لها، وعالم التطبيق تتحكم فيه التمويلات وألاعيب الاستخبارات وعلوم إدارة الأزمة والنزاعات بما يجعلها تصب في النهاية لصالحهم. تحاول المجلة على ضعفها الشديد أن تغرس بذرة في عالم الوصل بين التفكير والتطبيق، بين العلم والعمل.. وكما قلنا ونكرر: الثغور كلها فارغة، والأمة بحاجة إلى كل مجهود.. وكل صاحب خبرة في مجال يمكنه أن يوظف خبرته في صالح هذه الأمة: فالإعلامي يعلمنا كيف يكون الخطاب وكيف يكون التوجيه وكيف هو علم نفس الجماهير وكيف هي الوسائل التي يمكن للمستضعفين استثمارها وكيف يكون إعلام المقاومة وكيف ينبغي أن يكون الإعلامي المقاوم... إلخ! والقانوني يعلمنا كيف يكون تنظيم شأن الناس وإدارة الخلافات في لحظات الفوضى وصناعة القضاة وتأهليهم وضمان استقلالهم عن الأمراء والأجناد؛ بل ضمان خضوع أولئك لحكم الشريعة فيهم وفض النزاعات بينهم.. ثم كيف تسوق قضايانا في المحاكم المحلية والدولية.. إلخ! وقل مثل هذا عن كل شخص، عن علماء الشرع والمختصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ والأمن والإدارة والعسكرية... إلخ! وعلى كل حال.. فاجتناباً لما قد يكون من إغلاق صفحات أخرى فيما بعد، فهذا هو رابط تحميل لكل الأعداد التي سبق نشرها من المجلة مع الهدايا التي مع الأعداد الأخيرة: archive.org/details/klmhaq17 ومَن يواجه صعوبة في تحميل عدد معين فليراسل الإدارة لتساعده إن شاء الله. وترقبوا العدد الجديد بعد غد بإذن الله تعالى. ـــــــــــــــ للمتابعة: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
كلمة مهمة للمشرف العام على مجلة كلمة حق

الأستاذ محمد إلهامي

صبَّحنا هذا الصباح بخبر، حسنٍ من وجهٍ، وسييء من وجهٍ آخر.. ذلك أن (وورد برِس) شركة استضافة المواقع الأشهر؛ والمستضيفة لموقع مجلة (كلمة حق) klmtuhaq.blog الذي كانت عليه جميع أعداد المجلة، قد أغلقت الموقع بزعم أنه يخالف المعايير واستجابة للبلاغات التي وصلتهم.

لقد اتخذنا عنوان "كلمة حق" لهذه المجلة لكي تحقق هذا الشعار الذي ورثناه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

ولئن كان يسوؤنا انسداد باب كان مفتوحاً، إلا أنه يسرنا أن كلمة الحق تقع منهم الموقع الذي يزعجهم ولا يتحملونه، إذ ليس من فائدة في كلمة لا تزعج المجرمين، بل هي إن لم تزعجهم لم تكن لتكون "كلمة حق".

ولقد رأينا، والحمد لله، بعض أثر هذه المجلة على ضعف إمكانياتها في تلقي أهل الباطل لها، فلقد بدأ الكذب عليها بعد ساعات من صدور العدد الأول، وذلك في وسيلة إعلام تابعة للمخابرات المصرية.. ثم مع توالي الأعداد خُصِّصَتْ لها أخبار وتعليقات وفقرات تليفزيونية على الشاشات المصرية الناطقة بلسان العسكر.

ولئن كان يثير الحزن أن المجرمين انتهبوا لما يُكتب وحرصوا على متابعته أكثر بكثير مما نراه من أهلنا وإخواننا وأحبابنا، فلقد سرَّنا أن نسمع بأنباء انتشار المجلة بين الشباب وأن بعضهم يطبعها ويوزعها في مناطقه وأن بعضهم يجلس يتدارس ما فيها عند كل عدد.. ولا يزال الله يرسل إلينا من الأنباء ما نرى معه أن التعب فيها لا يذهب عبثاً.

على كل حال، أجدها فرصة للحديث عن خط المجلة وهدفها باختصار شديد:

انبثقت فكرة المجلة من واقع الندرة الشديدة في عالم الكُتَّاب والباحثين والمفكرين الذين إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ قالوا كلاما مفيداً.

فالواقع أن عالم التنظير يكاد ينفصل عن عالم التطبيق، فأهل الكتابة والتفكير هائمون في عالم الأفكار والنادر منهم من يتعرف على مشكلات الواقع، ثم النادر من هؤلاء من يستطيع أن يفيد بشيء في حل هذه المشكلات، وإنما يقضي هؤلاء حياتهم بين كلام وكتابة وندوة ومؤتمر ولقاء تلفازي، وقد يقول كلاماً يبدو جميلاً ويبدو مفيداً ويبدو مهما، لكن بغير أثر.

وأما عالم التطبيق فقد تولاه المتحمسون المتحركون المنفعلون بقضايا أمتهم، ولهم في هذا بذل وجهد وأثر يُشكر ولا يُنكر، لكن النادر منهم من له من الفكر والبحث والنظر والخبرة والنضج ما يستطيع به تصحيح المسارات وكبح الاندفاع واختيار الأمثل عند النوازل!

وهكذا، لو شبهنا الحالة الحاضرة بقطار، لوجدنا قطاراً يندفع بلا توجيه سديد، بينما أجهزة التوجيه تخاطب الفراغ ولا تتصل بالقطار.. والنتيجة في الحالتين أن المحتل والأنظمة الحاكمة بما لديها من قدرات وإمكانيات تتولى تضليل الطرفين.. فعالم التنظير والتفكير مشغول بالقضايا التي تطرحها الثقافة الغالبة وأغلب استجاباته تكون تطويعاً للدين وفقاً لها، وعالم التطبيق تتحكم فيه التمويلات وألاعيب الاستخبارات وعلوم إدارة الأزمة والنزاعات بما يجعلها تصب في النهاية لصالحهم.

تحاول المجلة على ضعفها الشديد أن تغرس بذرة في عالم الوصل بين التفكير والتطبيق، بين العلم والعمل..

وكما قلنا ونكرر: الثغور كلها فارغة، والأمة بحاجة إلى كل مجهود.. وكل صاحب خبرة في مجال يمكنه أن يوظف خبرته في صالح هذه الأمة:

فالإعلامي يعلمنا كيف يكون الخطاب وكيف يكون التوجيه وكيف هو علم نفس الجماهير وكيف هي الوسائل التي يمكن للمستضعفين استثمارها وكيف يكون إعلام المقاومة وكيف ينبغي أن يكون الإعلامي المقاوم... إلخ!

والقانوني يعلمنا كيف يكون تنظيم شأن الناس وإدارة الخلافات في لحظات الفوضى وصناعة القضاة وتأهليهم وضمان استقلالهم عن الأمراء والأجناد؛ بل ضمان خضوع أولئك لحكم الشريعة فيهم وفض النزاعات بينهم.. ثم كيف تسوق قضايانا في المحاكم المحلية والدولية.. إلخ!

وقل مثل هذا عن كل شخص، عن علماء الشرع والمختصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ والأمن والإدارة والعسكرية... إلخ!

وعلى كل حال.. فاجتناباً لما قد يكون من إغلاق صفحات أخرى فيما بعد، فهذا هو رابط تحميل لكل الأعداد التي سبق نشرها من المجلة مع الهدايا التي مع الأعداد الأخيرة:

archive.org/details/klmhaq17

ومَن يواجه صعوبة في تحميل عدد معين فليراسل الإدارة لتساعده إن شاء الله.

وترقبوا العدد الجديد بعد غد بإذن الله تعالى.

ـــــــــــــــ
للمتابعة:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq

تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٣٠‏/١٢‏/٢٠١٨ ٧:٢١ م‏
فارس الميدان د. مجدي شلش [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] غالب كوكب الأرض اليوم يعيش صراعاً بعضه ظاهر، وغالبه مستتر، يلبس ثوب المكر والخداع، وينتعل الديمقراطية والعدل والمساواة والإخاء. العالم الآن ميدان الذئاب والثعالب والضباع، تمرح وتلعب، تمص الدماء، وتأكل اللحوم، وتنهش الأجساد، باسم المؤسسات العالمية، والتكتلات الأممية، والأحلاف المدنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. الميدان الآن يحتاج إلى فارس شجاع، وبطل مغوار، يعرف للإنسان حقه وكرامته، وللدين عزته وسيادته، وللأخلاق سموها ورفعتها، وللسجود بين يدي الله نشوته وحبه وعلوه. السجون والمعتقلات فيها من الأبطال ما تتحطم بهم الأصنام، وتتكسر بهم الأوثان، وتتبدد بهم الأوهام، سجنهم الشيطان الرجيم، والبهلوان الكبير، خوفاً من عقلهم وفهمهم وإدراكهم لطبيعة المعركة معه. حفظهم الله من شر الكيد والمكر، وفك أسرهم للزأر والصدع، فهم للأمة عنوان وفخر، والله سبحانه وتعالى بمشيئته قد ادخرهم لدينه ونصرته في موعد قريب غير بعيد. الساحة الإسلامية فيها من الأبطال والكرام ما لا يحصى ولا يعد، الكثير منهم مدرك لحقيقة صفقة القرن، وأن الأرض تمهد لها بمكر الليل والنهار، سراً وخفية تارة، وجهاراً نهاراً تارة أخرى، لكنه يقف موقف العاجز قليل الحيلة . بعض أبطالنا يري التحدي كبيراً، والمصيبة عظيمة، ما لها في نظره من مخرج، اليأس حام حوله وقرب، والتراجع كاد منه واقترب، لا حل في نظر بعض أبطال الأمس إلا بالرضي بالواقع الذليل، حتي يحين وقت الذبح المهين للجميع. الأمة الإسلامية كثير علماؤها وفقهاؤها في كل الميادين الشرعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، لكنها بحاجة إلى معصم يجمعها، وفارس يتحدي بها، ومغوار يجاهر الأعداء بقوته وصلابته. فارس قلبه حديد، وعقله رشيد، وحلمه قريب، وفكره سديد، جامع للجميع، يعرف الطريق للنصر من أقرب طريق، لا مهادنة للظالم من قريب أو بعيد. ما زالت الرمزية الفردية تجري في عروقنا، وتسري بين حنايانا وصدورنا، نعم لها من الفوائد في ظهورها والتعبير عن أمتها الكثير والكثير. فارس مهتد بالقرآن، ومستن بالنبي العدنان، ومغرم بسير الأشاوس والمغاوير الأبطال، لا يعرف الكسل أو الخوف لقلبه أو بدنه طريقاً، ميدانه الأول أن يجاهد حظ نفسه من نفسه، ثم صيحة النذير في أهله وأحبابه من أبناء أمته ووطنه، لا يقف عند حد حزب، ولا يتمحور نحو كيان واحد، الأمة كلها فوق نظره وقراءته. قرأنا سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فتعلمنا منها القوة والشجاعة، والنجدة والنصرة، والرحمة والشدة، لا يسامح في حق من حقوق الله تعالى، ولا يجامل منافقاً أو كافراً أو مشركاً وقت الحرب والنزال، سهل لأصحابه، صعب على أعدائه .من سير الفرسان ننطلق، ومن مفاخر التاريخ في الفتوحات نقتدي، من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وخالد وعمرو والمقداد، إلى الفاتحين من ألب أرسلان وعثمان وصلاح الدين وغيرهم نتأسي .سيرتهم باقية، وروح جهادهم في فوارسنا قوية وعاتية، فلعل الله برحمته بالدنيا كلها يظهره ويهيأه، والتكليف حاضر منه أن يقوم فارس بالمهمة وعظمها، لا أقصد انتظار مهدي أو مسيح، وإنما استفزاز واستنفار لساحة الفوارس وهي بحمد الله فيها من الأبطال الكثير . كثير من الشباب يطالب برؤية نظرية تكون جامعة مانعة، حتى وإن وجدت فهي بدون الفوارس كليلة وباطلة. نعم لابد للأهداف أن تكون واضحة، والوسائل تكون مبدعة، لكن هل نحن جاهزون حقاً للكفاح والجهاد الحق في ميدانه الرشيد، أم الدنيا لعبت بنا نحو الجدل والتنظير؟
فارس الميدان
د. مجدي شلش

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

غالب كوكب الأرض اليوم يعيش صراعاً بعضه ظاهر، وغالبه مستتر، يلبس ثوب المكر والخداع، وينتعل الديمقراطية والعدل والمساواة والإخاء. العالم الآن ميدان الذئاب والثعالب والضباع، تمرح وتلعب، تمص الدماء، وتأكل اللحوم، وتنهش الأجساد، باسم المؤسسات العالمية، والتكتلات الأممية، والأحلاف المدنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية.

الميدان الآن يحتاج إلى فارس شجاع، وبطل مغوار، يعرف للإنسان حقه وكرامته، وللدين عزته وسيادته، وللأخلاق سموها ورفعتها، وللسجود بين يدي الله نشوته وحبه وعلوه. السجون والمعتقلات فيها من الأبطال ما تتحطم بهم الأصنام، وتتكسر بهم الأوثان، وتتبدد بهم الأوهام، سجنهم الشيطان الرجيم، والبهلوان الكبير، خوفاً من عقلهم وفهمهم وإدراكهم لطبيعة المعركة معه. حفظهم الله من شر الكيد والمكر، وفك أسرهم للزأر والصدع، فهم للأمة عنوان وفخر، والله سبحانه وتعالى بمشيئته قد ادخرهم لدينه ونصرته في موعد قريب غير بعيد.

الساحة الإسلامية فيها من الأبطال والكرام ما لا يحصى ولا يعد، الكثير منهم مدرك لحقيقة صفقة القرن، وأن الأرض تمهد لها بمكر الليل والنهار، سراً وخفية تارة، وجهاراً نهاراً تارة أخرى، لكنه يقف موقف العاجز قليل الحيلة . بعض أبطالنا يري التحدي كبيراً، والمصيبة عظيمة، ما لها في نظره من مخرج، اليأس حام حوله وقرب، والتراجع كاد منه واقترب، لا حل في نظر بعض أبطال الأمس إلا بالرضي بالواقع الذليل، حتي يحين وقت الذبح المهين للجميع.

الأمة الإسلامية كثير علماؤها وفقهاؤها في كل الميادين الشرعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، لكنها بحاجة إلى معصم يجمعها، وفارس يتحدي بها، ومغوار يجاهر الأعداء بقوته وصلابته. فارس قلبه حديد، وعقله رشيد، وحلمه قريب، وفكره سديد، جامع للجميع، يعرف الطريق للنصر من أقرب طريق، لا مهادنة للظالم من قريب أو بعيد. ما زالت الرمزية الفردية تجري في عروقنا، وتسري بين حنايانا وصدورنا، نعم لها من الفوائد في ظهورها والتعبير عن أمتها الكثير والكثير.

فارس مهتد بالقرآن، ومستن بالنبي العدنان، ومغرم بسير الأشاوس والمغاوير الأبطال، لا يعرف الكسل أو الخوف لقلبه أو بدنه طريقاً، ميدانه الأول أن يجاهد حظ نفسه من نفسه، ثم صيحة النذير في أهله وأحبابه من أبناء أمته ووطنه، لا يقف عند حد حزب، ولا يتمحور نحو كيان واحد، الأمة كلها فوق نظره وقراءته.

قرأنا سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فتعلمنا منها القوة والشجاعة، والنجدة والنصرة، والرحمة والشدة، لا يسامح في حق من حقوق الله تعالى، ولا يجامل منافقاً أو كافراً أو مشركاً وقت الحرب والنزال، سهل لأصحابه، صعب على أعدائه .من سير الفرسان ننطلق، ومن مفاخر التاريخ في الفتوحات نقتدي، من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وخالد وعمرو والمقداد، إلى الفاتحين من ألب أرسلان وعثمان وصلاح الدين وغيرهم نتأسي .سيرتهم باقية، وروح جهادهم في فوارسنا قوية وعاتية، فلعل الله برحمته بالدنيا كلها يظهره ويهيأه، والتكليف حاضر منه أن يقوم فارس بالمهمة وعظمها، لا أقصد انتظار مهدي أو مسيح، وإنما استفزاز واستنفار لساحة الفوارس وهي بحمد الله فيها من الأبطال الكثير .

كثير من الشباب يطالب برؤية نظرية تكون جامعة مانعة، حتى وإن وجدت فهي بدون الفوارس كليلة وباطلة. نعم لابد للأهداف أن تكون واضحة، والوسائل تكون مبدعة، لكن هل نحن جاهزون حقاً للكفاح والجهاد الحق في ميدانه الرشيد، أم الدنيا لعبت بنا نحو الجدل والتنظير؟
‏٢٧‏/١٢‏/٢٠١٨ ٩:٣٥ م‏
إرهاب مصطلح الإرهاب د. ناصر العمر (فك الله أسره)* [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] في غمرة دخان هذه الحرب العالمية التي تشن على الأمة في أماكن كثيرة، كثيرًا ما يضرب بسلاح فتاك يؤثر في أبنائنا، وهو أكثر خطورة من السلاح المعروف خطره كالرصاص والقنابل وآلياتها من دبابات وطائرات. ذلك السلاح هو سلاح الكلمة، وهو سلاح قديم، وقديمًا عرفت العرب خطره، وكثيرًا ما كان شعراؤهم يقرنونه بالسلاح، كقول حسان: لِساني صارِمٌ لا عَيبَ فيهِ *** وَبَحري لا تُكَدِّرُهُ الدلاءُ ومما يروى عن ابن عباس قوله: قلبي ذكي وعقلي غير ذي دَخَلٍ *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور وهذا الصارم يطعن ويجرح ويقتل! وقد علم من الواقع أنَّ من الناس من يجرح بلسانه جروحًا لا تندمل مع الزمن، ومن الناس من يقتل بلسانه قبائل، ومن الناس من يرهب به أممًا! ولعظم آثار الكلمات جاءت الشريعة ببيان خطرها: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالًا يهوى بها في جهنم»، كما ثبت في الصحيح[1]. وقد أدرك المجرمون أعداء الدين خطر الكلمة، وعظيم أثرها منذ العصور الأولى، لكنهم اليوم طوَّروا سلاحها على دأبهم في تطوير أسلحة الدمار الأخرى، فغدا إعلامهم الموجَّه المدروس قاتلًا للقيم محترفًا، فتّاكًا بالعقول، مدمرًا للأخلاق. ومن جملة حرب أعداء الدين اللسانية المدروسة على القيم الشرعية حرب المصطلحات، وهي ألقاب وألفاظ يطلقونها على طريقين: الطريق الأول: يطلقون ألفاظًا تتضمن مدلولات قبيحة، لكنهم يلبسون فلا يجردونها للحق فيفتضحوا ويُعرفوا بعدائهم للحق وأهله، وأنهم شرذمة لا تريد إلا نبذه، فيضعون تلك الألفاظ في موضعها تمويهًا أو لمصلحتهم، وفي غير مواضعها فيجعلونها ألقابًا على غير أهلها. والطريق الثاني: يطلقون ألفاظًا تتضمن مدلولات متفاوتة فيها الحسن وفيها القبيح، فيعممون حكمها على من يصدق عليهم المفهوم المحظور، ومن يصدق عليهم المفهوم المشروع. وقد مرّ زمان تجلت فيه الطريقة الأولى في بلدان إسلامية، فجاء وقت أصبح فيه الملتزم بالسنة يوسم بالمتطرف وينعت بالتشدد.. نعم كان هناك غلاة ومتطرفون حقيقة لكن غدا بفعل المغرضين الغلو والتطرف كالعَلَم على الجمهور الأعظم من أهل الاستقامة (المعتدلون الملتزمون بالسنن)، فلو أن أحدًا من الناس رفع ثوبه فوق الكعبين قالوا متشدد، ولو أنَّ إنسانًا أطلق لحيته عدوه متشددًا، ويخطب الفاضل في بعض بلاد الله عز وجل ابنة رجل، فيقال: «تراه متشددًا؛ يقصر ثوبه ويطلق لحيته»! كل ذلك بفعل آلة إعلامية تغريبية رسَّخَت في العقول إسقاطات خاطئة لهذا اللقب المذموم. وفي الآونة الأخيرة تجلت الطريقة الثانية، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي كان يومًا عالميًّا لإطلاق مصطلح الإرهاب؛ يريدون به ما هو أشبه في لغتنا بالقتل والتفجير ظلمًا وعدوانًا، ثم تطورت الدلالة عند بعضهم ليصبح كل إسلامي إرهابيًّا، لا أقول في نظر هؤلاء إذ هم يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون! لكن في نظر مسلمين! حتى جاء وقت غدا الإرهاب فيه هاجسًا عند العامة، يرمون به من هو أهل للذم، وكذلك الأبرياء لا يميزون بفعل الضغط الإعلامي! وأذكر قبل سنوات أني حضرت لشفاعة في قضية فوجدت أمامي قضية لرجل يلبس لباسًا رياضيًّا ومعه زوجته وعليه آثار دماء وشجار، يحرر محضرًا جنائيًّا بحادثته وبلاغًا ضد معتد عليه، وفهمت أنه كان يتمشى أو يمارس الرياضة فرآه بعض من طبعت وسائل الإعلام التغريبية في مخيلتهم صورة مزورة للإرهابي! وغرست في نفوسهم فوبيا ضد مظاهر إسلامية، فلما رأى هذا يتمشى سارع بالاتصال والتبليغ عن إرهابي! ولم يكتف بذلك بل دخل في عراك معه وهو يصيح: «إرهابي إرهابي»! وهذه نتيجة لما تؤثره الآلات الغربية الراعية لهذا المصطلح، فقد أطلقوه كما ذكرت آنفًا على أنواع من العدوان، واستخدموا ما يملكونه من قوة سياسية وعسكرية وإعلامية ومادية لتمرير هذا المصطلح على من يشاؤون! وأرهبت الدول لتصدقه، حتى غدت تنتفض لتثبت أنها ليست إرهابية، وأنها تدين الإرهاب بكافة أشكاله وصوره! بل غدا الإرهاب تهمة للابتزاز فإذا أرادوا الضغط على دولة قالوا: تمارس الإرهاب، وإذا أرادوا الضغط على شخص وصموه بالإرهاب! مع أننا لا نخالف في وجود شرذمة قليلة من منتسبي الإسلام قد وقعوا في الإرهاب المذموم المتضمن للعدوان والبغي الذي أمرت الشريعة بضده ونهت عنه كما في قول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم»[2]، إلى غير ذلك من الأدلة المتظاهرة على تحريم البغي والعدوان. لكن هؤلاء يريدون أن يدخلوا في المعنى نبلاء شرفاء، بل أدخلوا بموازينهم المنكوسة في مسمى الإرهاب من لا يشملهم المفهوم المذموم للإرهاب في الشريعة، فأدخلوا فيه أبرياء مظلومين يحاولون رفع الظلم النازل بهم! فكل مجاهد رافض للبغي والعدوان في سوريا مثلًا «إرهابي» على ما يسول النظام النصيري وحلفاؤه في روسيا وإيران! وفي مقابل التوسع في إدخال المسلمين تحت مسمى الإرهاب يخرجون أنفسهم دولًا وجماعات إرهابية، يهودية أو نصرانية أو علمانية لا دينية! وربما أدخلوا جماعات وتنظيمات غربية أو شرقية في مسمى الإرهاب هي أهل للإدخال، لكن ما يتركونه من جماعة البغي والعدوان يُشْرِعون له الأبواب أكثر، وما المنظمات الداعمة للصهيونية العاملة على حرب الإسلام، والتخويف منه إلا أنموذج صغير للإرهاب المدعوم أو المسكوت عنه غربيًّا! بينما يحاربون في بلدان المسلمين المؤسسات الإغاثية، والتعليمية أو يضيقون عليها بدعوى الإرهاب! مع أنها أبعد ما تكون عن الإرهاب، بل هي تحارب الغلو والتطرف، وتربي الناس على منهج الوسطية! وأمر هؤلاء أشد من حال من أنكر عليه الأول بقوله: يا واعظ الناس قد أصبحت متهمًا *** إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها كمن كسا الناس من عري، وعورتُه *** للناس بادية، مـــــــا إِنْ يـــواريــــــها! إن من العجائب أن يعظ شيطانٌ عبدًا صالحًا! وأعجب من ذلك أن يعظ الغرب المسلمين في الإرهاب بينما قامت دولهم على الإرهاب ومارست أبشع أنواعه! وهل قامت الديمقراطيات الغربية إلا على أنقاض ما خلفه إرهاب الثورات كالثورة الفرنسية، وعلى ماذا قام الاتحاد السوفيتي؟! من الذي أشعل حربين عالميتين أُزهقت فيها من أرواح المدنيين ملايين؟! من الذين ابتكروا للناس الأسلحة العمياء: نووية وبيولوجية وكيميائية؟! من الذين أخرجوا للناس أسلحة الدمار الشامل والقنابل العنقودية؟! من دمر بها أفغانستان والعراق والشام؟! من الذي جاء باليهود إلى فلسطين، ثم حماهم، وأمدهم بأسلحة فتاكة، لا يزالون منذ أكثر من ستين عامًا يقتلون بها ويعذبون؟! من الذي دمَّر غزة؟! من الذي أطلق حق الفيتو لخمس دول تحمي الظلم والعدوان؟! كم ذهب ضحيةً لذلك - وغيره - من المسلمين! أعداد مهولة لا نعرف تنظيمًا إرهابيًّا منتسبًا للإسلام يضاهي في إفساده ما أفسده الإرهاب الغربي والشرقي الجائر بكل معايير الفضيلة! وفي كل أرجاء البسيطة! والواجب على المسلم أنى كان موقعه سياسيًّا أو إعلاميًّا أو دعويًّا، أن يعي ذلك، وأن لا تستخفه الدعاية المضللة، وألا يسبب له الإرهاب الغربي أو ضغطه متعدد الجهات اختلالًا في الوعي، وغبشًا في المفاهيم، فيفرق بين الباغي المعتدي من المسلمين وغيرهم، وبين المطالب بحق مشروع، فيكون عونًا للثاني، حربًا للأول، لينصلح الحال وتستقيم الأمور. والله المستعان. ___________________________ * نشر هذا المقال في موقع المسلم بتاريخ 27 شوال 1437. [1] صحيح البخاري (6478). [2] رواه أحمد في المسند 5/38، والترمذي في سننه (2511)، وابن ماجه (4211)، وأبوداود (4904)، وغيرهم، قال الترمذي: حسن صحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/492 (918).
إرهاب مصطلح الإرهاب

د. ناصر العمر (فك الله أسره)*

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

في غمرة دخان هذه الحرب العالمية التي تشن على الأمة في أماكن كثيرة، كثيرًا ما يضرب بسلاح فتاك يؤثر في أبنائنا، وهو أكثر خطورة من السلاح المعروف خطره كالرصاص والقنابل وآلياتها من دبابات وطائرات.

ذلك السلاح هو سلاح الكلمة، وهو سلاح قديم، وقديمًا عرفت العرب خطره، وكثيرًا ما كان شعراؤهم يقرنونه بالسلاح، كقول حسان:
لِساني صارِمٌ لا عَيبَ فيهِ *** وَبَحري لا تُكَدِّرُهُ الدلاءُ

ومما يروى عن ابن عباس قوله:
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دَخَلٍ *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وهذا الصارم يطعن ويجرح ويقتل! وقد علم من الواقع أنَّ من الناس من يجرح بلسانه جروحًا لا تندمل مع الزمن، ومن الناس من يقتل بلسانه قبائل، ومن الناس من يرهب به أممًا!

ولعظم آثار الكلمات جاءت الشريعة ببيان خطرها: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالًا يهوى بها في جهنم»، كما ثبت في الصحيح[1].

وقد أدرك المجرمون أعداء الدين خطر الكلمة، وعظيم أثرها منذ العصور الأولى، لكنهم اليوم طوَّروا سلاحها على دأبهم في تطوير أسلحة الدمار الأخرى، فغدا إعلامهم الموجَّه المدروس قاتلًا للقيم محترفًا، فتّاكًا بالعقول، مدمرًا للأخلاق.

ومن جملة حرب أعداء الدين اللسانية المدروسة على القيم الشرعية حرب المصطلحات، وهي ألقاب وألفاظ يطلقونها على طريقين:
الطريق الأول: يطلقون ألفاظًا تتضمن مدلولات قبيحة، لكنهم يلبسون فلا يجردونها للحق فيفتضحوا ويُعرفوا بعدائهم للحق وأهله، وأنهم شرذمة لا تريد إلا نبذه، فيضعون تلك الألفاظ في موضعها تمويهًا أو لمصلحتهم، وفي غير مواضعها فيجعلونها ألقابًا على غير أهلها.

والطريق الثاني: يطلقون ألفاظًا تتضمن مدلولات متفاوتة فيها الحسن وفيها القبيح، فيعممون حكمها على من يصدق عليهم المفهوم المحظور، ومن يصدق عليهم المفهوم المشروع.

وقد مرّ زمان تجلت فيه الطريقة الأولى في بلدان إسلامية، فجاء وقت أصبح فيه الملتزم بالسنة يوسم بالمتطرف وينعت بالتشدد.. نعم كان هناك غلاة ومتطرفون حقيقة لكن غدا بفعل المغرضين الغلو والتطرف كالعَلَم على الجمهور الأعظم من أهل الاستقامة (المعتدلون الملتزمون بالسنن)، فلو أن أحدًا من الناس رفع ثوبه فوق الكعبين قالوا متشدد، ولو أنَّ إنسانًا أطلق لحيته عدوه متشددًا، ويخطب الفاضل في بعض بلاد الله عز وجل ابنة رجل، فيقال: «تراه متشددًا؛ يقصر ثوبه ويطلق لحيته»! كل ذلك بفعل آلة إعلامية تغريبية رسَّخَت في العقول إسقاطات خاطئة لهذا اللقب المذموم.

وفي الآونة الأخيرة تجلت الطريقة الثانية، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي كان يومًا عالميًّا لإطلاق مصطلح الإرهاب؛ يريدون به ما هو أشبه في لغتنا بالقتل والتفجير ظلمًا وعدوانًا، ثم تطورت الدلالة عند بعضهم ليصبح كل إسلامي إرهابيًّا، لا أقول في نظر هؤلاء إذ هم يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون! لكن في نظر مسلمين!

حتى جاء وقت غدا الإرهاب فيه هاجسًا عند العامة، يرمون به من هو أهل للذم، وكذلك الأبرياء لا يميزون بفعل الضغط الإعلامي! وأذكر قبل سنوات أني حضرت لشفاعة في قضية فوجدت أمامي قضية لرجل يلبس لباسًا رياضيًّا ومعه زوجته وعليه آثار دماء وشجار، يحرر محضرًا جنائيًّا بحادثته وبلاغًا ضد معتد عليه، وفهمت أنه كان يتمشى أو يمارس الرياضة فرآه بعض من طبعت وسائل الإعلام التغريبية في مخيلتهم صورة مزورة للإرهابي! وغرست في نفوسهم فوبيا ضد مظاهر إسلامية، فلما رأى هذا يتمشى سارع بالاتصال والتبليغ عن إرهابي! ولم يكتف بذلك بل دخل في عراك معه وهو يصيح: «إرهابي إرهابي»!

وهذه نتيجة لما تؤثره الآلات الغربية الراعية لهذا المصطلح، فقد أطلقوه كما ذكرت آنفًا على أنواع من العدوان، واستخدموا ما يملكونه من قوة سياسية وعسكرية وإعلامية ومادية لتمرير هذا المصطلح على من يشاؤون! وأرهبت الدول لتصدقه، حتى غدت تنتفض لتثبت أنها ليست إرهابية، وأنها تدين الإرهاب بكافة أشكاله وصوره!

بل غدا الإرهاب تهمة للابتزاز فإذا أرادوا الضغط على دولة قالوا: تمارس الإرهاب، وإذا أرادوا الضغط على شخص وصموه بالإرهاب!

مع أننا لا نخالف في وجود شرذمة قليلة من منتسبي الإسلام قد وقعوا في الإرهاب المذموم المتضمن للعدوان والبغي الذي أمرت الشريعة بضده ونهت عنه كما في قول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم»[2]، إلى غير ذلك من الأدلة المتظاهرة على تحريم البغي والعدوان.

لكن هؤلاء يريدون أن يدخلوا في المعنى نبلاء شرفاء، بل أدخلوا بموازينهم المنكوسة في مسمى الإرهاب من لا يشملهم المفهوم المذموم للإرهاب في الشريعة، فأدخلوا فيه أبرياء مظلومين يحاولون رفع الظلم النازل بهم! فكل مجاهد رافض للبغي والعدوان في سوريا مثلًا «إرهابي» على ما يسول النظام النصيري وحلفاؤه في روسيا وإيران!

وفي مقابل التوسع في إدخال المسلمين تحت مسمى الإرهاب يخرجون أنفسهم دولًا وجماعات إرهابية، يهودية أو نصرانية أو علمانية لا دينية! وربما أدخلوا جماعات وتنظيمات غربية أو شرقية في مسمى الإرهاب هي أهل للإدخال، لكن ما يتركونه من جماعة البغي والعدوان يُشْرِعون له الأبواب أكثر، وما المنظمات الداعمة للصهيونية العاملة على حرب الإسلام، والتخويف منه إلا أنموذج صغير للإرهاب المدعوم أو المسكوت عنه غربيًّا! بينما يحاربون في بلدان المسلمين المؤسسات الإغاثية، والتعليمية أو يضيقون عليها بدعوى الإرهاب! مع أنها أبعد ما تكون عن الإرهاب، بل هي تحارب الغلو والتطرف، وتربي الناس على منهج الوسطية!

وأمر هؤلاء أشد من حال من أنكر عليه الأول بقوله:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهمًا *** إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها
كمن كسا الناس من عري، وعورتُه *** للناس بادية، مـــــــا إِنْ يـــواريــــــها!

إن من العجائب أن يعظ شيطانٌ عبدًا صالحًا! وأعجب من ذلك أن يعظ الغرب المسلمين في الإرهاب بينما قامت دولهم على الإرهاب ومارست أبشع أنواعه! وهل قامت الديمقراطيات الغربية إلا على أنقاض ما خلفه إرهاب الثورات كالثورة الفرنسية، وعلى ماذا قام الاتحاد السوفيتي؟! من الذي أشعل حربين عالميتين أُزهقت فيها من أرواح المدنيين ملايين؟! من الذين ابتكروا للناس الأسلحة العمياء: نووية وبيولوجية وكيميائية؟! من الذين أخرجوا للناس أسلحة الدمار الشامل والقنابل العنقودية؟! من دمر بها أفغانستان والعراق والشام؟! من الذي جاء باليهود إلى فلسطين، ثم حماهم، وأمدهم بأسلحة فتاكة، لا يزالون منذ أكثر من ستين عامًا يقتلون بها ويعذبون؟! من الذي دمَّر غزة؟! من الذي أطلق حق الفيتو لخمس دول تحمي الظلم والعدوان؟!

كم ذهب ضحيةً لذلك - وغيره - من المسلمين! أعداد مهولة لا نعرف تنظيمًا إرهابيًّا منتسبًا للإسلام يضاهي في إفساده ما أفسده الإرهاب الغربي والشرقي الجائر بكل معايير الفضيلة! وفي كل أرجاء البسيطة!

والواجب على المسلم أنى كان موقعه سياسيًّا أو إعلاميًّا أو دعويًّا، أن يعي ذلك، وأن لا تستخفه الدعاية المضللة، وألا يسبب له الإرهاب الغربي أو ضغطه متعدد الجهات اختلالًا في الوعي، وغبشًا في المفاهيم، فيفرق بين الباغي المعتدي من المسلمين وغيرهم، وبين المطالب بحق مشروع، فيكون عونًا للثاني، حربًا للأول، لينصلح الحال وتستقيم الأمور. والله المستعان.

___________________________
* نشر هذا المقال في موقع المسلم بتاريخ 27 شوال 1437.
[1] صحيح البخاري (6478).
[2] رواه أحمد في المسند 5/38، والترمذي في سننه (2511)، وابن ماجه (4211)، وأبوداود (4904)، وغيرهم، قال الترمذي: حسن صحيح، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/492 (918).
‏٢٤‏/١٢‏/٢٠١٨ ٨:٣٤ م‏
معضلة الجهاد وحفظ أرواح العباد د. عطية عدلان [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لم أتَلَقَّ كلمات ذلك المأفون المفتون إلا ببالغ الاشمئزاز، ولم تورثني تُرَّهاته سوى مزيداً من الازدراء له ولأمثاله ممن لا نشك في عمالتهم ونذالتهم، غير أنّ الشبهة التي أثارها لفتت انتباهي لكونها ترددت على ألسنة أطراف عديدة تنتمي إلى مجالات شتى، وهي شبهة ضعيفة ومنقوضة من أعلاها إلى أسفلها، ولا تستحق الرد ولا حتى مجرد الالتفات، غير أنَّها أثيرت في زمان ضعف فيه الفهم وقل فيه العلم وتهافت فيه الخلق على الأقوال الداعية إلى التخاذل والتكاسل؛ لذلك وجب التناول وتحتم الردّ، ولسنا بهذا نعطي أي وزن لأمثال ذلك المدعو سعيد رسلان أو غيره، فقد نزل قرآن يتلى في الرد على شبهات أثارها أمثال أبي جهل وابن خلف، ومع ذلك لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها واحدا منهما شربة ماء. لماذا تُصِرُّ حماس في اندفاع غير مبرر على مغايظة الأسد والعبث عند أنفه؟! ألم تعلم أنَّها إنَّما تواجه دولة منظمة ذات مؤسسات شامخة وقواعد راسخة؟! ماذا تصنع المقاومة بألعاب الأطفال هذه التي لا تقوى بها على مواجه جيش إسرائيل إلا إذا قوي على مواجهة الأسد نعامةٌ لا تملك من المميزات إلا طول ساقيها وامتداد عنقها؟! وهل يجوز لها هذا العبث باسم الجهاد إذا كان يتسبب في قتل الآلاف من الأبرياء المدنيين؟! أين حرمة الدماء؟! وأين من هذا الحمق والطيش صوت العلماء؟! هذا ما يتقيأونه تصريحاً وتلويحا، وهذا ما تنطبق به وجوههم وجباههم قبل أن تلفظه ألسنتهم وشفاههم. فلنبدأ معهم من الأكمة التي يقفون عليها؛ لأننا وهم نعلم جميعاً ما وراء الأكمة: فلنفترض أنَّ مواجهة حماس لدولة منظمة مدججة بالسلاح عبث ولهو؛ فما الذي فعلته الدول العربية بأسرها، ولديها من الجيوش النظامية التي تنفق على تسليحها من أقوات الشعوب ما لا تستطيع الحواسب عدَّه؟! ماذا فعلت لشعب فلسطين أو لأي شعب من شعوب المسلمين في أي أرض تذوق فيها الويلات؟! أروني جيشاً عربياً واحداً تحرك، فشرق في سبيل الله أو غرب، فإن عجزتم - وإنكم لعاجزون إلا عن الثرثرة - فرددوا واهتفوا: إنها جيوش لحماية العروش، وملء البطون والكروش. كان يمكن أن يكون لكلامكم وجاهه لو كانت الأنظمة التي تستعبدكم في تمجيدها وتستخدمكم في تخليدها وتأبيدها تُمضي الجهاد وتقاوم المعتدين وهذه الجماعة (حماس) تَفْتَئِت على الجهاد وتَبْرُز برأسها أمام الصف، أمَّا والحقيقة أنَّ حماس وحدها هي التي تتصدى للعدو الصهيونيّ فهي الدولة، وما عداها أهرام من ورق وأصنام من روث وعلق، ولن تكون مخادناً للأحلام ولا مسافراً مع الأوهام إذا قلت: إنَّ كل هذه الأنظمة تعيش وتقتات مما تلقيه حماس من الفتات، وحاول لكي يطمئن قلبك لما تقول أن تتخيل إسرائيل بدون حائط الصد العتيد العنيد هذا؛ إنَّ كل هذه العروش وما عليها من الجحوش وجودها وبقاؤها مرهون باستمرار المقاومة الفلسطينية، فليتهم يفهمون أو يتعدى نظرهم أطراف أنوفهم!! ثم ما هذا القلب للحقائق والأوضاع؟! ولماذا يخفضون القمة ويرفعون القاع؟! أتحاسب المقاومة على دماء أراقتها يد المحتل؟! ويُخْلَع على الغاصب الغشوم صفات الرزانة والحزم ونعوت الرسوخ والشموخ؟! ألهذه الدرجة فارقنا ثوبتنا وهجرنا قيمنا؟! إنَّ الذي يجب أن يحاسب ويؤخذ على يديه هو المحتل الغاصب، الذي تسبب في كل هذه الكوارث أولاً وآخراً؛ أولاً بعدوانه، وآخراً برده على مقاومة المقاومين لعدوانه بقتل أهليهم وذويهم، هذه مسلمة بديهية تقرها جميع الأديان والأعراف وتسلم لها كافة القوانين والمواثيق، وما قال أحد ممن يعتد بقوله في أي ملة من الملل أو أي نِحْلة من النِّحَل بأنَّ الغاصب برئ وأنَّ المقاوم متهم. ثم أين أنتم وجميع من يقف معكم في خندق الإرجاف والتخذيل الذي لا تفارقونه حتى تفارق العاهرة مضاجع المخادنة؛ أين أنتم وهم من واجب الدفع الذي لا خلاف فيه عند أهل الإسلام قاطبة، أم إنَّ إسرائيل لم تعد عدواً محتلاً يغتصب المقدسات وينتهك الحرمات؟! قولوها بصراحة فقد قالتها مواقفكم، قولوا إنهم إخوانكم وأريحوا واستريحوا؛ فقد تعب الناس من نفاقكم والتفافكم حول رقاب الخلق بهذه الحيل اللولبية. فإن قلتم - وما هو عليكم ببعيد - إنَّ بيننا وبين إسرائيل معاهدات سلام، فما عليكم إلا أن تراجعوا كتب الفقه في جميع مذاهب المسلمين سنيهم وشيعيهم وزيديهم وظاهريهم وإباضيهم؛ فإن وجدتم فيها - وقد وفرتها لكم في هامش المقال اختصاراً - ما يدل من قريب أو بعيد على صحة هذا الوضع الذي تسمونه معاهدة سلام فأنتم على حق ورقصكم لليهود صلاة وصمتكم عن طغاينهم صيام. إنَّ معاهدة السلام التي تسمى في الفقه الإسلاميّ بالهدنة قد وضع العلماء لجوازها وصحتها شروطاً، لم تسعد معاهدة واحدة من المعاهدات العربية الإسرائيلية بتحقيق شرط واحد منها، أول هذه الشروط: أن تكون الهدنة خيراً ومصلحة للمسلمين؛ وبعضهم حصرها في المصلحة الضرورية، وهذا شرط اشترطته كافة المذاهب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية(1)، فهل يمكن مع هذا السيل من المفاسد والمضار أن يقال إنّ في معاهدات السلام مع الكيان الصهيوني مصلحة؟! ثاني هذه الشروط: ألا تشتمل المعاهدة على شرط فاسد، وهذا أيضا في كافة المذاهب الفقهية(2)، وقد اشتملت جميع هذه المعاهدات على شروط فاسدة تبطل المعاهدة وتنقضها من أصولها، أقلها أعظم فساداً من جميع الأمثلة التي ذكرها العلماء في المصادر التي أشرنا إليها في الهامش. ثالث هذه الشروط أن لا تكون الهدنة مؤبدة؛ لأنها تلغي فريضة الجهاد، وهذا شرط لم يخالف فيه أحد، إنما الخلاف وقع في مسألتين: الأولى هل يشترط توقيته بمدة محددة أم يجوز أن يكون مطلقا على ألا يكون مؤبداً؟ الثانية عند من قال باشتراط التوقيت اختلفوا في أقصى مدة للتوقيت، لكن ما قال أحد بجواز أن تكون مؤبدة قط، وعلى من ادعى ذلك أن يأتي بالدليل من أقوال الأئمة. وأخيراً نقول لكم: وفروا حناجركم فوالله الذي لا إله إلا هو لن يتوقف الجهاد في سبيل الله ولو بلغ طنينكم في النهار ونقيقكم في الليل عنان السماء، فقد حكم الله بأنّ الجهاد ماض إلى قيام الساعة، وبأن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وبألا يخلوا زمان من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من نبح عليها إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك في جهادهم وأنتم كذلك في خذلانكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع المبسوط للسرخسي 10/86 - درر الحكام شرح غرر الأحكام محمد بن فرموزا منلا خسرو 1/284 - شرح مختصر خليل للخرشي (150) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/2 - كشاف القناع (3/112) - التاج المذهب (4/449) –جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي (ص603) - بدائع الصناع للكساني (108)، وأشرف المسالك (1/113) التلقين (1/238) - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (ص303-304). (2) راجع شرح السير الكبير (5/ 1750) - شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151) -التاج الإكليل (4/605) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) - التاج المذهب (4/449) - شرائع الإسلام (1/304).
معضلة الجهاد وحفظ أرواح العباد
د. عطية عدلان

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم أتَلَقَّ كلمات ذلك المأفون المفتون إلا ببالغ الاشمئزاز، ولم تورثني تُرَّهاته سوى مزيداً من الازدراء له ولأمثاله ممن لا نشك في عمالتهم ونذالتهم، غير أنّ الشبهة التي أثارها لفتت انتباهي لكونها ترددت على ألسنة أطراف عديدة تنتمي إلى مجالات شتى، وهي شبهة ضعيفة ومنقوضة من أعلاها إلى أسفلها، ولا تستحق الرد ولا حتى مجرد الالتفات، غير أنَّها أثيرت في زمان ضعف فيه الفهم وقل فيه العلم وتهافت فيه الخلق على الأقوال الداعية إلى التخاذل والتكاسل؛ لذلك وجب التناول وتحتم الردّ، ولسنا بهذا نعطي أي وزن لأمثال ذلك المدعو سعيد رسلان أو غيره، فقد نزل قرآن يتلى في الرد على شبهات أثارها أمثال أبي جهل وابن خلف، ومع ذلك لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها واحدا منهما شربة ماء.

لماذا تُصِرُّ حماس في اندفاع غير مبرر على مغايظة الأسد والعبث عند أنفه؟! ألم تعلم أنَّها إنَّما تواجه دولة منظمة ذات مؤسسات شامخة وقواعد راسخة؟! ماذا تصنع المقاومة بألعاب الأطفال هذه التي لا تقوى بها على مواجه جيش إسرائيل إلا إذا قوي على مواجهة الأسد نعامةٌ لا تملك من المميزات إلا طول ساقيها وامتداد عنقها؟! وهل يجوز لها هذا العبث باسم الجهاد إذا كان يتسبب في قتل الآلاف من الأبرياء المدنيين؟! أين حرمة الدماء؟! وأين من هذا الحمق والطيش صوت العلماء؟! هذا ما يتقيأونه تصريحاً وتلويحا، وهذا ما تنطبق به وجوههم وجباههم قبل أن تلفظه ألسنتهم وشفاههم.

فلنبدأ معهم من الأكمة التي يقفون عليها؛ لأننا وهم نعلم جميعاً ما وراء الأكمة: فلنفترض أنَّ مواجهة حماس لدولة منظمة مدججة بالسلاح عبث ولهو؛ فما الذي فعلته الدول العربية بأسرها، ولديها من الجيوش النظامية التي تنفق على تسليحها من أقوات الشعوب ما لا تستطيع الحواسب عدَّه؟! ماذا فعلت لشعب فلسطين أو لأي شعب من شعوب المسلمين في أي أرض تذوق فيها الويلات؟! أروني جيشاً عربياً واحداً تحرك، فشرق في سبيل الله أو غرب، فإن عجزتم - وإنكم لعاجزون إلا عن الثرثرة - فرددوا واهتفوا: إنها جيوش لحماية العروش، وملء البطون والكروش.

كان يمكن أن يكون لكلامكم وجاهه لو كانت الأنظمة التي تستعبدكم في تمجيدها وتستخدمكم في تخليدها وتأبيدها تُمضي الجهاد وتقاوم المعتدين وهذه الجماعة (حماس) تَفْتَئِت على الجهاد وتَبْرُز برأسها أمام الصف، أمَّا والحقيقة أنَّ حماس وحدها هي التي تتصدى للعدو الصهيونيّ فهي الدولة، وما عداها أهرام من ورق وأصنام من روث وعلق، ولن تكون مخادناً للأحلام ولا مسافراً مع الأوهام إذا قلت: إنَّ كل هذه الأنظمة تعيش وتقتات مما تلقيه حماس من الفتات، وحاول لكي يطمئن قلبك لما تقول أن تتخيل إسرائيل بدون حائط الصد العتيد العنيد هذا؛ إنَّ كل هذه العروش وما عليها من الجحوش وجودها وبقاؤها مرهون باستمرار المقاومة الفلسطينية، فليتهم يفهمون أو يتعدى نظرهم أطراف أنوفهم!!

ثم ما هذا القلب للحقائق والأوضاع؟! ولماذا يخفضون القمة ويرفعون القاع؟! أتحاسب المقاومة على دماء أراقتها يد المحتل؟! ويُخْلَع على الغاصب الغشوم صفات الرزانة والحزم ونعوت الرسوخ والشموخ؟! ألهذه الدرجة فارقنا ثوبتنا وهجرنا قيمنا؟! إنَّ الذي يجب أن يحاسب ويؤخذ على يديه هو المحتل الغاصب، الذي تسبب في كل هذه الكوارث أولاً وآخراً؛ أولاً بعدوانه، وآخراً برده على مقاومة المقاومين لعدوانه بقتل أهليهم وذويهم، هذه مسلمة بديهية تقرها جميع الأديان والأعراف وتسلم لها كافة القوانين والمواثيق، وما قال أحد ممن يعتد بقوله في أي ملة من الملل أو أي نِحْلة من النِّحَل بأنَّ الغاصب برئ وأنَّ المقاوم متهم.

ثم أين أنتم وجميع من يقف معكم في خندق الإرجاف والتخذيل الذي لا تفارقونه حتى تفارق العاهرة مضاجع المخادنة؛ أين أنتم وهم من واجب الدفع الذي لا خلاف فيه عند أهل الإسلام قاطبة، أم إنَّ إسرائيل لم تعد عدواً محتلاً يغتصب المقدسات وينتهك الحرمات؟! قولوها بصراحة فقد قالتها مواقفكم، قولوا إنهم إخوانكم وأريحوا واستريحوا؛ فقد تعب الناس من نفاقكم والتفافكم حول رقاب الخلق بهذه الحيل اللولبية.

فإن قلتم - وما هو عليكم ببعيد - إنَّ بيننا وبين إسرائيل معاهدات سلام، فما عليكم إلا أن تراجعوا كتب الفقه في جميع مذاهب المسلمين سنيهم وشيعيهم وزيديهم وظاهريهم وإباضيهم؛ فإن وجدتم فيها - وقد وفرتها لكم في هامش المقال اختصاراً - ما يدل من قريب أو بعيد على صحة هذا الوضع الذي تسمونه معاهدة سلام فأنتم على حق ورقصكم لليهود صلاة وصمتكم عن طغاينهم صيام.

إنَّ معاهدة السلام التي تسمى في الفقه الإسلاميّ بالهدنة قد وضع العلماء لجوازها وصحتها شروطاً، لم تسعد معاهدة واحدة من المعاهدات العربية الإسرائيلية بتحقيق شرط واحد منها، أول هذه الشروط: أن تكون الهدنة خيراً ومصلحة للمسلمين؛ وبعضهم حصرها في المصلحة الضرورية، وهذا شرط اشترطته كافة المذاهب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية(1)، فهل يمكن مع هذا السيل من المفاسد والمضار أن يقال إنّ في معاهدات السلام مع الكيان الصهيوني مصلحة؟!

ثاني هذه الشروط: ألا تشتمل المعاهدة على شرط فاسد، وهذا أيضا في كافة المذاهب الفقهية(2)، وقد اشتملت جميع هذه المعاهدات على شروط فاسدة تبطل المعاهدة وتنقضها من أصولها، أقلها أعظم فساداً من جميع الأمثلة التي ذكرها العلماء في المصادر التي أشرنا إليها في الهامش.

ثالث هذه الشروط أن لا تكون الهدنة مؤبدة؛ لأنها تلغي فريضة الجهاد، وهذا شرط لم يخالف فيه أحد، إنما الخلاف وقع في مسألتين: الأولى هل يشترط توقيته بمدة محددة أم يجوز أن يكون مطلقا على ألا يكون مؤبداً؟ الثانية عند من قال باشتراط التوقيت اختلفوا في أقصى مدة للتوقيت، لكن ما قال أحد بجواز أن تكون مؤبدة قط، وعلى من ادعى ذلك أن يأتي بالدليل من أقوال الأئمة.

وأخيراً نقول لكم: وفروا حناجركم فوالله الذي لا إله إلا هو لن يتوقف الجهاد في سبيل الله ولو بلغ طنينكم في النهار ونقيقكم في الليل عنان السماء، فقد حكم الله بأنّ الجهاد ماض إلى قيام الساعة، وبأن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وبألا يخلوا زمان من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من نبح عليها إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك في جهادهم وأنتم كذلك في خذلانكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع المبسوط للسرخسي 10/86 - درر الحكام شرح غرر الأحكام محمد بن فرموزا منلا خسرو 1/284 - شرح مختصر خليل للخرشي (150) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/2 - كشاف القناع (3/112) - التاج المذهب (4/449) –جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي (ص603) - بدائع الصناع للكساني (108)، وأشرف المسالك (1/113) التلقين (1/238) - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (ص303-304).
(2) راجع شرح السير الكبير (5/ 1750) - شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151) -التاج الإكليل (4/605) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) - التاج المذهب (4/449) - شرائع الإسلام (1/304).
‏٢٢‏/١٢‏/٢٠١٨ ٧:٠٨ م‏
مصير الضباط في عهد السيسي إما منسي أو عشماوي محمود جمال [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] أصبح ضابط الصاعقة "رائد بالمعاش" هشام علي عشماوي مسعد، حديث الساعة في الفضائيات والصحف بعد إلقاء القبض علية يوم الإثنين الموافق 08 أكتوبر 2018م، من قِبل القوات التابعة لخليفة حفتر في مدينة (درنه) الليبية ومعه مرعي زغيبة "مطلوب ليبي" وبهاء على "مصري الجنسية " . البعض يري أن عشماوي سلك الطريق الخاطئ الذي يحتم على ضابط جيش متميز مثله عدم الخوض فيه، حتى لو كان يختلف مع سياسات قيادات المؤسسة العسكرية. بينما يرى البعض الأخر أن هشام عشماوي نموذج فريد من نوعه، ضحي بكل الامتيازات التي يتحصل عليها ضباط الجيش المصري، واختار أن يكون في صفوف فئة أخري، لن تعطيه هذه الامتيازات التي كان يتحصل عليها عندما كان ينتمي للجيش المصري، تلك الفئة التي كانت وما زالت ترغب في التغيير الذي كان قريب المنال بعد ثورة 2011م، والذي انقلبت عليه القيادة العسكرية ورئيسها السيسي في يوليو 2013م. وكعادته منذ أن كان وزيراً للدفاع يحرص السيسي على حضور الندوات التثقيفية التي تنظمها الشئون المعنوية لأفراد وضباط الجيش، وعادة ما يرافقه القادة العسكريون قادة العسكر وعدد من الوزراء والإعلامين ورجال الدين. وكانت الندوة 29 والتي انعقدت يوم الخميس الموافق 11 أكتوبر 2018م بمشاركة وزير الدفاع الحالي الفريق أول محمد ذكي ورئيس الأركان الحالي الفريق محمد فريد حجازي وجميع قادة الأفرع الرئيسية بالقوات المسلحة المصرية، وكان من أبرز الحضور المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع الأسبق ، وسط غياب لوزير الدفاع السابق الفريق أول صدقي صبحي ورئيس الأركان السابق الفريق محمود حجازي. ألقى السيسي خلال الندوة كلمة ركز فيها علي حرب أكتوبر 1973م، وربط بين الأجواء التي شهدتها مصر في وقت حرب أكتوبر والأيام الحالية التي تشهدها مصر، حتي يوصل الرسالة الهامة التي أراد أن يرسلها خلال كلمته، وهي أن معركة الجيش المصري لم تنتهِ وما زالت مستمرة ولكن بمفردات مختلفة، وحاول أن يظهر الاختلاف بين حرب 1973 و "معركة اليوم" علي حد وصفه. وبناء على ما جاء على لسان السيسي فإن العدو في حرب أكتوبر كان واضحاً، بينما عدو "الدولة المصرية" الآن غير واضح، متابعاً: "بقي معانا وجوانا واستطاعوا بالفكر إنشاء عدو جوانا بيعيش بأكلنا ويتبنى بهدمنا". وهو يشير هنا للإسلام السياسي والذي يصفه السيسي بأنه فكر متطرف، ويحاول السيسي منذ الانقلاب غرس هذا في عقيدة الجيش المصري بأن الإسلام السياسي هو عدو الدولة المصرية. لم يغفل السيسي عن إرسال رسالة لقادة المؤسسة العسكرية كعادته في الندوات التثقيفية، ولأن هذه الندوة جاءت بعد اعتقال رئيس أركان القوات المسلحة الأسبق الفريق سامي عنان. حرص السيسي على التأكيد أن المؤسسة العسكرية يجب أن تكون متحدة حتى لا تدخل البلاد في نفق مظلم، وأضاف السيسي كما جاء على لسانه "الكتلة الصلبة داخل الجيش يجب أن تكون متماسكة ومتفهمه جيداً للتحديات التي تواجه مصر". السيسي وهشام عشماوي قبل انتهاء كلمته أشار السيسي إلى الحدث المهم الذي وقع قبل 72 ساعة من بدء وقائع الندوة، وهو القبض على ضابط الصاعقة هشام عشماوي؛ إذ أكد السيسي كما جاء على لسانه: "هناك فارق كبير بين هشام عشماوي والبطل أحمد المنسي"، وأضاف: "ده إنسان وده إنسان، وده ضابط وده ضابط، والاثنين كانوا في وحدة واحدة، الفرق بينهم إن حد منهم اتلخبط وممكن يكون خان، والتاني استمر على العهد والفهم الحقيقي لمقتضيات الحفاظ على الدولة المصرية وأهل مصر بنصقفلوا، والتاني عاوزينه علشان نحاسبه". وهنا يجب أن نشير الي عدة نقاط: 1-هشام على عشماوي مسعد مواليد عام 1979، تخرج في الكلية الحربية عام 1994م، وهو من سكان الحي العاشر بمدينة نصر، تدرج "عشماوي" في الخدمة العسكرية إلى أن وصل إلى رتبة رائد بسلاح الصاعقة، وكان "عشماوي" ضابطا مميزاً وخصل علي فرقة السيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وخدم في سيناء لعدة سنوات وكان خبير بالدروب والمسالك الصحراوية، وقيل إنه عام 2006م، ظهر عليه بعض الأفكار والميول الدينية، وتم التحقيق معه من قِبل جهاز المخابرات الحربية أكثر من مرة، وخرج "عشماي" على المعاش عام ٢٠١٢ برتبة رائد على خلفية أسباب طبية أشيع وقتها داخل الجيش المصري أنها أسباب نفسية طرأت على "عشماي" بعد وفاة والده، لا كما تتداول الكثير من الصحف أنه خرج مفصولاً من الخدمة. ولهذا السبب أصبح "عشماوي" يمتلك كارنيه القوات المسلحة، وللعلم لو كان فُصل "عشماوي" من الخدمة لسُلب كل حقوقه وامتيازاته العسكرية والتي منها حق حملة الكارنيه العسكري. 2- بعد خروج هشام من الخدمة بدأ مباشرة رحلته في عالم الجماعات الجهادية ضمن صفوف جماعة أنصار بيت المقدس، وكان قد سبقه زميلاه: النقيب بسلاح الصاعقة عماد عبدالحميد والذي أحيل للعمل المدني بقرار جمهوري لدواعي أمنية إثر اعتناقه للفكر الجهادي، والرائد بهيئة التنظيم والإدارة وليد بدر وهو من مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، وفصل من الخدمة العسكرية عام ٢٠٠٥ لميوله الدينية، وشارك بالقتال في أفغانستان والشام. وبتاريخ ٢١/٧/٢٠١٥ أعلن “عشماوي” عن نفسه كأمير لجماعة “المرابطين”، تتبع فكر القاعدة. 3- يعلم السيسي أن عشماوي كان ضابطاً متميزاً وكان "قدوة" داخل سلاح الصاعقة وكان زميلاً لأحمد منسي ضابط الصاعقة الذي قُتِلَ علي يد تنظيم ولاية سيناء؛ لذلك لم يتحدث عنه بأي كلام ذميم، بل وصفة بالضابط، ولكنه أراد أن يقول للضباط بأنه نموذج غير حميد وأن من سيسير على نهجه ستكون تلك نهايته؛ لذلك حرص على تشبيهه "بالخائن" وأنه سيحاكم وسيعاقب، أما منسي فهو نموذج الضابط البطل الذي يجب على الضباط أن يسيروا على نهجه، ويضحوا بأنفسهم مثل ما فعل للحفاظ علي الدولة المصرية. 4- لكن الرسالة الحقيقية التي لم ينتبه السيسي إلى وصولها، هي أن سياساته قد أدت لما تشهده الساحة المصرية الآن، من مواجهات واشتباكات خاصة في محافظة شمال سيناء، ويقع على أثر تلك الاشتباكات العديد من القتلى من المسلحين ومن ضباط الجيش أيضاً. وهذه السياسات هي السبب في لجوء العديد من العسكريين والمدنيين إلي مواجهة النظام عن طريق حمل السلاح. وذلك بسبب غلق كل الطرق الدستورية والقانونية، أمام من يطالبون بالتغيير من داخل وخارج القوات المسلحة، ومثال على ذلك ما فعل برئيس الأركان الأسبق الفريق سامي عنان، وقائد قوات الدفاع الجوي الأسبق الفريق أحمد شفيق، والعقيد أحمد قنصوه. ونتيجة لذلك أصبح هناك ضباط لا يرون إلا مسار حمل السلاح، لتصحيح مسار المؤسسة العسكرية. فالمحصلة النهائية لتلك السياسات الخاطئة التي يتبعها السيسي، بأن مَن سيكون بين صفوف قواته سيُقْتَل كما قُتِل الضابط أحمد منسي، والضابط خالد مغربي، والضابط رامي حسنين، والضابط عادل رجائي، والمئات غيرهم علي يد الجماعات المسلحة التي ازدادت من نشاطاتها بسبب قمع السيسي للحريات وقتل الأبرياء. وأن من سيخرج على السيسي سيكون نهايته القتل أيضاً أو الاعتقال كالضابط عماد عبد الحميد، والضابط هشام عشماوي، علي يد قوات النظام التي هي بالطبع في حالة عسكرية أفضل من الجماعات المسلحة التي تمارس العمل المسلح داخل مصر، ولكن في نهاية الأمر فإن استمرار نظام عبدالفتاح السيسي هو بوابة النزيف الدائم والخسائر المستمرة في صفوف الضباط المتميزة داخل الجيش المصري، سواء المؤيدين لسياسات السيسي والذي قتل منهم المئات منذ يوليو 2013، أو المعارضين الذي قتل منهم بعض الأفراد واعتقل البعض الآخر. 5- إن المؤسسة العسكرية مثلها مثل كل المؤسسات والهيئات، يوجد بداخلها أشخاص تختلف طبائعهم ونفوسهم ومبادؤهم وأيدولوجياتهم، وخلال العقود السبع الماضية كانت توجد أصوات داخل المؤسسة العسكرية تحاول أن تصحح المسار الذي تحيد عنه المؤسسة العسكرية في بعض الفترات بسبب سياسة مَن يتولى قيادة الدولة وقتها. ولعل الفريق سعد الدين الشاذلي والفريق الجمسي واللواء أبو غزالة والمشير أحمد بدوي، كانوا مثالاً على ذلك. وأثناء اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2001م، شارك بعض الضباط في الثورة كوسيلة من وسائل التغيير السلمي، والذي أصبح متاحاً وقت الثورة، ذلك التغيير الذي يريدونه داخل الجيش المصري وعلى مستوى الدولة المصرية ككل. ولكن بعد قيام السيسي بالانقلاب على الثورة المصرية ومبادئها في 03 يوليو 2013م، وقيامه بالتنكيل بكل من ينتهج سياسة معارضة له ولنظامه من داخل المؤسسة العسكرية ومن المعارضين السياسيين، وأغلق كل السبل والطرق لإحداث تغيير بشكل سلمي "دستوري وقانوني"، فإن ذلك سيرغم المطالبين والمحاولين للتغير داخل المؤسسة العسكرية إلى اللجوء الي أساليب أكثر خشونة لتحقيق التغيير المطلوب الذي يريدونه. لذلك لم ولن يكون هشام عشماوي الأخير، خاصة بعد أن أعلن رأس هذا النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً.
مصير الضباط في عهد السيسي
إما منسي أو عشماوي

محمود جمال

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

أصبح ضابط الصاعقة "رائد بالمعاش" هشام علي عشماوي مسعد، حديث الساعة في الفضائيات والصحف بعد إلقاء القبض علية يوم الإثنين الموافق 08 أكتوبر 2018م، من قِبل القوات التابعة لخليفة حفتر في مدينة (درنه) الليبية ومعه مرعي زغيبة "مطلوب ليبي" وبهاء على "مصري الجنسية " .

البعض يري أن عشماوي سلك الطريق الخاطئ الذي يحتم على ضابط جيش متميز مثله عدم الخوض فيه، حتى لو كان يختلف مع سياسات قيادات المؤسسة العسكرية. بينما يرى البعض الأخر أن هشام عشماوي نموذج فريد من نوعه، ضحي بكل الامتيازات التي يتحصل عليها ضباط الجيش المصري، واختار أن يكون في صفوف فئة أخري، لن تعطيه هذه الامتيازات التي كان يتحصل عليها عندما كان ينتمي للجيش المصري، تلك الفئة التي كانت وما زالت ترغب في التغيير الذي كان قريب المنال بعد ثورة 2011م، والذي انقلبت عليه القيادة العسكرية ورئيسها السيسي في يوليو 2013م.

وكعادته منذ أن كان وزيراً للدفاع يحرص السيسي على حضور الندوات التثقيفية التي تنظمها الشئون المعنوية لأفراد وضباط الجيش، وعادة ما يرافقه القادة العسكريون قادة العسكر وعدد من الوزراء والإعلامين ورجال الدين.

وكانت الندوة 29 والتي انعقدت يوم الخميس الموافق 11 أكتوبر 2018م بمشاركة وزير الدفاع الحالي الفريق أول محمد ذكي ورئيس الأركان الحالي الفريق محمد فريد حجازي وجميع قادة الأفرع الرئيسية بالقوات المسلحة المصرية، وكان من أبرز الحضور المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع الأسبق ، وسط غياب لوزير الدفاع السابق الفريق أول صدقي صبحي ورئيس الأركان السابق الفريق محمود حجازي.

ألقى السيسي خلال الندوة كلمة ركز فيها علي حرب أكتوبر 1973م، وربط بين الأجواء التي شهدتها مصر في وقت حرب أكتوبر والأيام الحالية التي تشهدها مصر، حتي يوصل الرسالة الهامة التي أراد أن يرسلها خلال كلمته، وهي أن معركة الجيش المصري لم تنتهِ وما زالت مستمرة ولكن بمفردات مختلفة، وحاول أن يظهر الاختلاف بين حرب 1973 و "معركة اليوم" علي حد وصفه.

وبناء على ما جاء على لسان السيسي فإن العدو في حرب أكتوبر كان واضحاً، بينما عدو "الدولة المصرية" الآن غير واضح، متابعاً: "بقي معانا وجوانا واستطاعوا بالفكر إنشاء عدو جوانا بيعيش بأكلنا ويتبنى بهدمنا". وهو يشير هنا للإسلام السياسي والذي يصفه السيسي بأنه فكر متطرف، ويحاول السيسي منذ الانقلاب غرس هذا في عقيدة الجيش المصري بأن الإسلام السياسي هو عدو الدولة المصرية.

لم يغفل السيسي عن إرسال رسالة لقادة المؤسسة العسكرية كعادته في الندوات التثقيفية، ولأن هذه الندوة جاءت بعد اعتقال رئيس أركان القوات المسلحة الأسبق الفريق سامي عنان. حرص السيسي على التأكيد أن المؤسسة العسكرية يجب أن تكون متحدة حتى لا تدخل البلاد في نفق مظلم، وأضاف السيسي كما جاء على لسانه "الكتلة الصلبة داخل الجيش يجب أن تكون متماسكة ومتفهمه جيداً للتحديات التي تواجه مصر".

السيسي وهشام عشماوي

قبل انتهاء كلمته أشار السيسي إلى الحدث المهم الذي وقع قبل 72 ساعة من بدء وقائع الندوة، وهو القبض على ضابط الصاعقة هشام عشماوي؛ إذ أكد السيسي كما جاء على لسانه: "هناك فارق كبير بين هشام عشماوي والبطل أحمد المنسي"، وأضاف: "ده إنسان وده إنسان، وده ضابط وده ضابط، والاثنين كانوا في وحدة واحدة، الفرق بينهم إن حد منهم اتلخبط وممكن يكون خان، والتاني استمر على العهد والفهم الحقيقي لمقتضيات الحفاظ على الدولة المصرية وأهل مصر بنصقفلوا، والتاني عاوزينه علشان نحاسبه".

وهنا يجب أن نشير الي عدة نقاط:

1-هشام على عشماوي مسعد مواليد عام 1979، تخرج في الكلية الحربية عام 1994م، وهو من سكان الحي العاشر بمدينة نصر، تدرج "عشماوي" في الخدمة العسكرية إلى أن وصل إلى رتبة رائد بسلاح الصاعقة، وكان "عشماوي" ضابطا مميزاً وخصل علي فرقة السيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وخدم في سيناء لعدة سنوات وكان خبير بالدروب والمسالك الصحراوية، وقيل إنه عام 2006م، ظهر عليه بعض الأفكار والميول الدينية، وتم التحقيق معه من قِبل جهاز المخابرات الحربية أكثر من مرة، وخرج "عشماي" على المعاش عام ٢٠١٢ برتبة رائد على خلفية أسباب طبية أشيع وقتها داخل الجيش المصري أنها أسباب نفسية طرأت على "عشماي" بعد وفاة والده، لا كما تتداول الكثير من الصحف أنه خرج مفصولاً من الخدمة. ولهذا السبب أصبح "عشماوي" يمتلك كارنيه القوات المسلحة، وللعلم لو كان فُصل "عشماوي" من الخدمة لسُلب كل حقوقه وامتيازاته العسكرية والتي منها حق حملة الكارنيه العسكري.

2- بعد خروج هشام من الخدمة بدأ مباشرة رحلته في عالم الجماعات الجهادية ضمن صفوف جماعة أنصار بيت المقدس، وكان قد سبقه زميلاه:

النقيب بسلاح الصاعقة عماد عبدالحميد والذي أحيل للعمل المدني بقرار جمهوري لدواعي أمنية إثر اعتناقه للفكر الجهادي، والرائد بهيئة التنظيم والإدارة وليد بدر وهو من مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، وفصل من الخدمة العسكرية عام ٢٠٠٥ لميوله الدينية، وشارك بالقتال في أفغانستان والشام. وبتاريخ ٢١/٧/٢٠١٥ أعلن “عشماوي” عن نفسه كأمير لجماعة “المرابطين”، تتبع فكر القاعدة.

3- يعلم السيسي أن عشماوي كان ضابطاً متميزاً وكان "قدوة" داخل سلاح الصاعقة وكان زميلاً لأحمد منسي ضابط الصاعقة الذي قُتِلَ علي يد تنظيم ولاية سيناء؛ لذلك لم يتحدث عنه بأي كلام ذميم، بل وصفة بالضابط، ولكنه أراد أن يقول للضباط بأنه نموذج غير حميد وأن من سيسير على نهجه ستكون تلك نهايته؛ لذلك حرص على تشبيهه "بالخائن" وأنه سيحاكم وسيعاقب، أما منسي فهو نموذج الضابط البطل الذي يجب على الضباط أن يسيروا على نهجه، ويضحوا بأنفسهم مثل ما فعل للحفاظ علي الدولة المصرية.

4- لكن الرسالة الحقيقية التي لم ينتبه السيسي إلى وصولها، هي أن سياساته قد أدت لما تشهده الساحة المصرية الآن، من مواجهات واشتباكات خاصة في محافظة شمال سيناء، ويقع على أثر تلك الاشتباكات العديد من القتلى من المسلحين ومن ضباط الجيش أيضاً. وهذه السياسات هي السبب في لجوء العديد من العسكريين والمدنيين إلي مواجهة النظام عن طريق حمل السلاح.

وذلك بسبب غلق كل الطرق الدستورية والقانونية، أمام من يطالبون بالتغيير من داخل وخارج القوات المسلحة، ومثال على ذلك ما فعل برئيس الأركان الأسبق الفريق سامي عنان، وقائد قوات الدفاع الجوي الأسبق الفريق أحمد شفيق، والعقيد أحمد قنصوه. ونتيجة لذلك أصبح هناك ضباط لا يرون إلا مسار حمل السلاح، لتصحيح مسار المؤسسة العسكرية.

فالمحصلة النهائية لتلك السياسات الخاطئة التي يتبعها السيسي، بأن مَن سيكون بين صفوف قواته سيُقْتَل كما قُتِل الضابط أحمد منسي، والضابط خالد مغربي، والضابط رامي حسنين، والضابط عادل رجائي، والمئات غيرهم علي يد الجماعات المسلحة التي ازدادت من نشاطاتها بسبب قمع السيسي للحريات وقتل الأبرياء.

وأن من سيخرج على السيسي سيكون نهايته القتل أيضاً أو الاعتقال كالضابط عماد عبد الحميد، والضابط هشام عشماوي، علي يد قوات النظام التي هي بالطبع في حالة عسكرية أفضل من الجماعات المسلحة التي تمارس العمل المسلح داخل مصر، ولكن في نهاية الأمر فإن استمرار نظام عبدالفتاح السيسي هو بوابة النزيف الدائم والخسائر المستمرة في صفوف الضباط المتميزة داخل الجيش المصري، سواء المؤيدين لسياسات السيسي والذي قتل منهم المئات منذ يوليو 2013، أو المعارضين الذي قتل منهم بعض الأفراد واعتقل البعض الآخر.

5- إن المؤسسة العسكرية مثلها مثل كل المؤسسات والهيئات، يوجد بداخلها أشخاص تختلف طبائعهم ونفوسهم ومبادؤهم وأيدولوجياتهم، وخلال العقود السبع الماضية كانت توجد أصوات داخل المؤسسة العسكرية تحاول أن تصحح المسار الذي تحيد عنه المؤسسة العسكرية في بعض الفترات بسبب سياسة مَن يتولى قيادة الدولة وقتها.

ولعل الفريق سعد الدين الشاذلي والفريق الجمسي واللواء أبو غزالة والمشير أحمد بدوي، كانوا مثالاً على ذلك. وأثناء اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2001م، شارك بعض الضباط في الثورة كوسيلة من وسائل التغيير السلمي، والذي أصبح متاحاً وقت الثورة، ذلك التغيير الذي يريدونه داخل الجيش المصري وعلى مستوى الدولة المصرية ككل.

ولكن بعد قيام السيسي بالانقلاب على الثورة المصرية ومبادئها في 03 يوليو 2013م، وقيامه بالتنكيل بكل من ينتهج سياسة معارضة له ولنظامه من داخل المؤسسة العسكرية ومن المعارضين السياسيين، وأغلق كل السبل والطرق لإحداث تغيير بشكل سلمي "دستوري وقانوني"، فإن ذلك سيرغم المطالبين والمحاولين للتغير داخل المؤسسة العسكرية إلى اللجوء الي أساليب أكثر خشونة لتحقيق التغيير المطلوب الذي يريدونه.

لذلك لم ولن يكون هشام عشماوي الأخير، خاصة بعد أن أعلن رأس هذا النظام أنه على من يرغب في التغيير فعليه أن يتخلص منه أولاً.
‏٢٠‏/١٢‏/٢٠١٨ ٩:١٦ م‏
مُترجم: المتمردون ودوافعهم (من دليل الجيش الأمريكي لمكافحة التمرد) ترجمة مركز حازم [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] 1-.24. إن كل تمرد فريد من نوعه وله سماته الخاصة، ورغم ذلك فإن هناك أوجه تشابه غالباً بين التمردات، ففي جميع الحالات يسعى المتمردون إلى فرض تغيير سياسي على الساحة، مع العلم بأن أي عمل عسكري من قبل المتمردين يأتي في المرتبة الثانية كوسيلة تؤدي إلى تحقيق غاياتهم. ومن ثم يمكننا القول بأن عدد قليل من التمردات يمكن إدراجه بدقة في تصنيف صارم للتمردات. ففي الواقع، قد يواجه قادة مكافحة التمرد تحالفاً مثيراً للحيرة بين أنواع مختلفة من الخصوم، بعضها قد يكون على خلاف مع البعض الآخر. وبدراسة نوع التمرد الذي يواجهونه، يتمكن القادة وهيئات أركانهم من بناء صورة أكثر دقة عن المتمردين والفكر السائد بينهم، ومن ثم فإن هذا الفحص يعمل على تحديد ما يلي: • السبب الرئيسي أو الجذور الرئيسية للتمرد. • المدى الذي يتمتع عبره التمرد بدعم داخلي أو خارجي. • الأساس الذي يستند عليه المتمردون في جذب السكان (يشمل الأيديولوجيا والسردية القصصية). • دوافع المتمردين وعمق الالتزام لديهم. • الأسلحة والتكتيكات المحتمل أن يستخدمها المتمردون. • بيئة العمليات التي يسعى عبرها المتمردون إلى استهلال وتطوير حملتهم واستراتيجيتهم. مقاربات المتمردين 1-25. يتعين على قوات مكافحة التمرد تحديد كل من دوافع أعدائها، ومقاربتهم المستخدمة لتطوير تمردهم. فهذه المعلومات ضرورية للغاية من أجل تطوير برامج فعالة تقضي على الأسباب الرئيسية للتمرد. وبتحليل مقاربات المتمردين يمكن تحديد الخيارات العسكرية المتاحة لمكافحة التمرد. وتشمل مقاربات المتمردين التالي دون أن تقتصر عليه: • التآمر. • التركيز على الشق العسكري. • التركيز على المناطق الحضرية. • الحرب الشعبية الممتدة. • التركيز على الهوية. • مقاربات مركبة وتحالفات. التآمر 1-26. إن النهج التأمري يضم عدداً قليلاً من القادة، وكادراً عسكرياً أو حزباً ناشطاً يهدف للاستيلاء على الهياكل الحكومية أو استغلال الموقف الثوري. ففي عام 1917 استخدم لينين هذا النهج لتنفيذ الثورة البلشفية. وفي هذا النهج يعمل المتمردون في جو من السرية لأطول فترة ممكنة، ويظهرون فقط عندما يمكنهم تحقيق النجاح بشكل سريع. وعادة ما يشمل هذا النهج بناء حزب أو قوة "طليعية" صغيرة وسرية. والمتمردون الذين يستخدمون هذا النهج بنجاح قد يضطرون إلى بناء قوى أمنية والتماس الدعم الجماهيري للحفاظ على قوتهم مثلما فعل البلاشفة. التركيز على الشق العسكري 1-27. يهدف من يتبنون هذا النهج إلى بناء قدرات ثورية أو الاستيلاء على السلطة عبر استخدام القوة العسكرية. فعلى سبيل المثال (مقاربة البؤر الثورية) والتي اشتهر بها قادة أمثال جيفارا، تؤكد على أن التمرد في حد ذاته يمكنه أن يخلق الظروف المطلوبة للإطاحة بأي حكومة. ويؤمن أنصار هذا التوجه بأن أي جماعة صغيرة تشن حرب عصابات، وتعمل في ظل بيئة ريفية، مع وجود استياء عام، يمكنها في نهاية الأمر حشد الدعم الكافي لتحقيق غاياتها. وعلى النقيض تماماً، فإن بعض حركات التمرد الانفصالية قد اعتمدت على قوات تقليدية ضخمة لمحاولة تأمين استقلالها. كما أن حركات التمرد التي ركزت على الشق العسكري مثل بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة أو المتمردين في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، افتقرت إلى هيكل سياسي أو لم يكن لديها سوى هيكل سياسي ضعيف، ومع ذلك بسطوا نفوذهم عبر استخدام القوات المقاتلة بدلاً من التآمر السياسي. التركيز على المناطق الحضرية 1-28. إن تنظيمات مثل الجيش الجمهوري الايرلندي، وبعض الجماعات بأمريكا اللاتينية، وبعض الجماعات الإسلامية المتطرفة في العراق، ركزت على العمل بالمناطق الحضرية. ويستخدم هذا النهج التكتيكات الإرهابية في المناطق الحضرية من أجل تحقيق ما يلي: • نشر الفوضى. • إشعال العنف الطائفي. • إضعاف الحكومة. • تخويف السكان. • قتل قادة الحكومة والمعارضة. • الانتقام من وتخويف عناصر الشرطة والقوات العسكرية، والحد من قدرتهم على الاستجابة للهجمات. • إيجاد قمع حكومي. 1-29. يتطلب تدشين إرهاب حضري واسع النطاق عبر خلايا صغيرة ومستقلة القليل من الدعم أو قد يستغنى عن الدعم الشعبي تماماً. لذا فمن الصعب مواجهة مثل هذا النوع من الإرهاب. والتاريخ يثبت أن الأنشطة من هذا النوع لم تحظَ بنجاح كبير دون دعم ريفي واسع النطاق. ومع ذلك فمع تحضر المجتمعات، وتعقد شبكات التمرد، أصبحت هذه المقاربة أكثر فاعلية. ففي مواجهة قوات أمن داخلية موزعة بصورة مناسبة. تبدأ حركات التمرد الحضري في الانتشار على شكل هيكل خلوي تآمري، يعمل على أن يستقطب بين صفوفه أفراداً من نفس العائلة أو ممن يجمعهم انتماء ديني أو حزب سياسي أو مجموعة اجتماعية واحدة.
مُترجم: المتمردون ودوافعهم
(من دليل الجيش الأمريكي لمكافحة التمرد)

ترجمة مركز حازم

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

1-.24. إن كل تمرد فريد من نوعه وله سماته الخاصة، ورغم ذلك فإن هناك أوجه تشابه غالباً بين التمردات، ففي جميع الحالات يسعى المتمردون إلى فرض تغيير سياسي على الساحة، مع العلم بأن أي عمل عسكري من قبل المتمردين يأتي في المرتبة الثانية كوسيلة تؤدي إلى تحقيق غاياتهم. ومن ثم يمكننا القول بأن عدد قليل من التمردات يمكن إدراجه بدقة في تصنيف صارم للتمردات. ففي الواقع، قد يواجه قادة مكافحة التمرد تحالفاً مثيراً للحيرة بين أنواع مختلفة من الخصوم، بعضها قد يكون على خلاف مع البعض الآخر.
وبدراسة نوع التمرد الذي يواجهونه، يتمكن القادة وهيئات أركانهم من بناء صورة أكثر دقة عن المتمردين والفكر السائد بينهم، ومن ثم فإن هذا الفحص يعمل على تحديد ما يلي:

• السبب الرئيسي أو الجذور الرئيسية للتمرد.
• المدى الذي يتمتع عبره التمرد بدعم داخلي أو خارجي.
• الأساس الذي يستند عليه المتمردون في جذب السكان (يشمل الأيديولوجيا والسردية القصصية).
• دوافع المتمردين وعمق الالتزام لديهم.
• الأسلحة والتكتيكات المحتمل أن يستخدمها المتمردون.
• بيئة العمليات التي يسعى عبرها المتمردون إلى استهلال وتطوير حملتهم واستراتيجيتهم.

مقاربات المتمردين

1-25. يتعين على قوات مكافحة التمرد تحديد كل من دوافع أعدائها، ومقاربتهم المستخدمة لتطوير تمردهم. فهذه المعلومات ضرورية للغاية من أجل تطوير برامج فعالة تقضي على الأسباب الرئيسية للتمرد. وبتحليل مقاربات المتمردين يمكن تحديد الخيارات العسكرية المتاحة لمكافحة التمرد. وتشمل مقاربات المتمردين التالي دون أن تقتصر عليه:

• التآمر.
• التركيز على الشق العسكري.
• التركيز على المناطق الحضرية.
• الحرب الشعبية الممتدة.
• التركيز على الهوية.
• مقاربات مركبة وتحالفات.

التآمر

1-26. إن النهج التأمري يضم عدداً قليلاً من القادة، وكادراً عسكرياً أو حزباً ناشطاً يهدف للاستيلاء على الهياكل الحكومية أو استغلال الموقف الثوري.

ففي عام 1917 استخدم لينين هذا النهج لتنفيذ الثورة البلشفية. وفي هذا النهج يعمل المتمردون في جو من السرية لأطول فترة ممكنة، ويظهرون فقط عندما يمكنهم تحقيق النجاح بشكل سريع. وعادة ما يشمل هذا النهج بناء حزب أو قوة "طليعية" صغيرة وسرية. والمتمردون الذين يستخدمون هذا النهج بنجاح قد يضطرون إلى بناء قوى أمنية والتماس الدعم الجماهيري للحفاظ على قوتهم مثلما فعل البلاشفة.

التركيز على الشق العسكري

1-27. يهدف من يتبنون هذا النهج إلى بناء قدرات ثورية أو الاستيلاء على السلطة عبر استخدام القوة العسكرية. فعلى سبيل المثال (مقاربة البؤر الثورية) والتي اشتهر بها قادة أمثال جيفارا، تؤكد على أن التمرد في حد ذاته يمكنه أن يخلق الظروف المطلوبة للإطاحة بأي حكومة.

ويؤمن أنصار هذا التوجه بأن أي جماعة صغيرة تشن حرب عصابات، وتعمل في ظل بيئة ريفية، مع وجود استياء عام، يمكنها في نهاية الأمر حشد الدعم الكافي لتحقيق غاياتها. وعلى النقيض تماماً، فإن بعض حركات التمرد الانفصالية قد اعتمدت على قوات تقليدية ضخمة لمحاولة تأمين استقلالها.

كما أن حركات التمرد التي ركزت على الشق العسكري مثل بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة أو المتمردين في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، افتقرت إلى هيكل سياسي أو لم يكن لديها سوى هيكل سياسي ضعيف، ومع ذلك بسطوا نفوذهم عبر استخدام القوات المقاتلة بدلاً من التآمر السياسي.

التركيز على المناطق الحضرية

1-28. إن تنظيمات مثل الجيش الجمهوري الايرلندي، وبعض الجماعات بأمريكا اللاتينية، وبعض الجماعات الإسلامية المتطرفة في العراق، ركزت على العمل بالمناطق الحضرية. ويستخدم هذا النهج التكتيكات الإرهابية في المناطق الحضرية من أجل تحقيق ما يلي:

• نشر الفوضى.
• إشعال العنف الطائفي.
• إضعاف الحكومة.
• تخويف السكان.
• قتل قادة الحكومة والمعارضة.
• الانتقام من وتخويف عناصر الشرطة والقوات العسكرية، والحد من قدرتهم على الاستجابة للهجمات.
• إيجاد قمع حكومي.

1-29. يتطلب تدشين إرهاب حضري واسع النطاق عبر خلايا صغيرة ومستقلة القليل من الدعم أو قد يستغنى عن الدعم الشعبي تماماً. لذا فمن الصعب مواجهة مثل هذا النوع من الإرهاب. والتاريخ يثبت أن الأنشطة من هذا النوع لم تحظَ بنجاح كبير دون دعم ريفي واسع النطاق. ومع ذلك فمع تحضر المجتمعات، وتعقد شبكات التمرد، أصبحت هذه المقاربة أكثر فاعلية.

ففي مواجهة قوات أمن داخلية موزعة بصورة مناسبة. تبدأ حركات التمرد الحضري في الانتشار على شكل هيكل خلوي تآمري، يعمل على أن يستقطب بين صفوفه أفراداً من نفس العائلة أو ممن يجمعهم انتماء ديني أو حزب سياسي أو مجموعة اجتماعية واحدة.
‏١٨‏/١٢‏/٢٠١٨ ٨:٥٤ م‏
حركات التحرر الإسلامية والاستراتيجيات الأمنية إسلام زعبل [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] الحقيقة أننا نحيا في ظل عالم تحكمه وتسيطر عليه خُطط واستراتيجيات أمنية، موضوعة له بدقة من قِبل أجهزة أمنية عالمية وإقليمية ومحلية، يتمتع أفرادها بحس أمني عالي موضوع لهم بمنهجية علمية دقيقة؛ فالأجهزة الأمنية للمؤسسات والدول والأفراد يمكننا أن نشبهها بالجهاز المناعي للجسد؛ فهو الذي يحميه من الأمراض ليكون قوياً متأهباً باستمرار للدفاع وصد أي هجوم خارجي يتعرض له وعلاج أي خلل داخلي. فإذا طبقنا هذا على الجماعات وعددنا أن الجماعة هي الجسد، وقلبها أيديولوجيتها، وعقلها تنظيمها، فيمكننا القول بأن مناعتها متمثل في جهازها الأمني. فالعمل الأمني أحد الموضوعات المهمة التي ينبغي على حركات التحرر الإسلامية أن توليها اهتماماً عظيماً، خاصة مع تطور أساليب المواجهة بينها وبين خصومها، وتبدو أهمية الأمن واضحة وجلية في أثرها على بعض الجماعات والحركات التحررية في منطقتنا العربية؛ فقد أدت الضربات المتتالية من الأجهزة الأمنية وأجهزة الاستخبارات إلى تغيير واضح في خطط هذه الجماعات؛ مما آل بها في أحيان كثيرة إلى الركون والمداهنة، وذلك بسبب عدم امتلاكها الأجهزة الأمنية المناسبة لصد هذه الهجمات والوقاية منها. فعند النظر لمعظم التنظيمات الناجحة التي حققت أهدافها وخططها، نجد أنها تمتلك أجهزة أمنية تعمل في صمت؛ فالعمل الأمني ليس حكراً على الدول والحكومات؛ بل تتبناه معظم التنظيمات السياسية المعارضة في العالم من جماعات وأحزاب وقوى ضغط، ووصل الأمر إلى وجود أجهزة أمنية لشخصيات ورموز؛ كبعض رجال المال والأعمال، وكان سبباً لنجاح العديد من الثورات التحررية في العالم، مثل ثورة التحرير الجزائرية، والثورة الكوبية، والثورة الإيرانية. لذلك سأتطرق في هذه السلسلة إلى العلوم والاستراتيجية الأمنية، والوعي والثقافة الأمنية، وفي هذا المقال أتناول مفهومه ومرجعيته ومحاوره وأبعاده وأهميته، وسيتبعه مقالات أخرى بإذن الله. مفهوم وفلسفة الأمن إن مفهوم الأمن من أصعب المفاهيم التي يتناولها التحليل العلمي، لأنه مفهوم نسبي متغير، وذو أبعاد ومستويات متنوعة، ويتعرض لتحديات وتهديدات مباشرة وغير مباشرة، من مصادر مختلفة تختلف درجاتها وأنواعها وأبعادها. لغوياً: جاءت معانيه في القرآن الكريم فهو ضد "الخوف" أي الطمأنينة، وبالرجوع للمعاجم يعني السلامة من الخطر، أ م ن : الأمَانُ والأمَنةُ بمعنى فهم وسلم. (مختار الصحاح). اصطلاحاً: ارتبط بكيفية استعمال القوة، لإدارة الأخطار التي تهدد الأفراد والتنظيمات، للحفاظ على استقرارهم واستقلاليتهم. وهناك تعريفات أخرى مختلفة منها: - يعرف باري بوذان الأمن بأنه (العمل علي التحرر من التهديد). - أما أرنولد ولفرز ( Arnold Wolfers ) فيُعرف الأمن بغياب التهديدات للقيم والأفكار المكتسبة، وغياب الخوف من الهجوم عليها. - ويتضح من تعريف والتر ليبمان ( walter lippman ) أن أي جماعة أو تنظيم تبقى في وضع آمن إذا لم تُضحِ بقيمها ومبادئها، وتحفظ أمنها إذا خرجت من معركتها حافظة لقيمها ومبادئها التي تدافع عنها. ويتضح من التعريفات السابقة رؤي مختلفة حول موضوع الأمن، منها استعمال القوة لإدارة المخاطر التي تواجه التنظيمات، أما في تعريف باري بوذان فيصفه كلٌ من بوث (booth ) و ويلر (wheeler) بأن عملية التحرر التي يقصدها لا يمكن للأفراد والجماعات تحقيق استقرارها الأمني، إلا إذا امتنعوا عن حرمان الآخرين منه، وذلك إذا نُظر إليه على أنه عملية تحرر، أما التعريف الآخر للأمن فمرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة التنظيمات والأفراد على الحفاظ على قيمهم ومبادئهم، ويتحقق استقرارهم الأمني إذا حافظوا عليه. إذَن فالأمن هو الإجراءات والاحتياطات الوقائية اللازمة لمستويين: دفاعي وهجومي. المرجعية الفكرية للوعي الأمني إن القرآن الكريم يحتوي على الكثير من المعاني الأمنية، وجاء بالكثير من أساسيات العمل الأمني ومفاهيمه، وقد أكّدت النصوص القرآنية أنَّ للعمل الأمني أصلاً شرعياً من الأصول الإسلامية التي ينبغي للمسـلم أن يأخذ بها، ويستفيد منها، وينفّذها. وهناك الكثير من الآيات التي تحمل في طياتها الكثير من المعاني الأمنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: (.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية 4) (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). إن مفهوم الأمن يشمل كل ما يحقق الاستقلال وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ببُعدَيه الداخلي والخارجي، أي تأمين الكيان أو التنظيم من الأخطار التي تهدده داخلياً وخارجياً؛ لتهيئة الظروف المناسبة لتحقيق الغايات والأهداف، ويرتكز على ثلاثة محاور رئيسية: 1- تأمين الكيان أو التنظيم داخلياً وخارجياً. 2- تحقيق الاستقلال والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي. 3- تحقيق الرضا لدى أفراد التنظيم. منهجية وأبعاد العمل الأمني يقول روبرت مكنمارا (Robert Mcnamara) في كتابه (جوهر الأمن): "إن الأمن لا يعني تراكم السلاح، بالرغم من أن ذلك جزءاً منه، وليس القوة العسكرية بالرغم من أنه قد يشتمل عليها، وليس النشاط العسكري التقليدي بالرغم من أنه قد يحتوي عليه، إنما الأمن هو التنمية، فبدونها لا يمكن تحقيق الأمن". وبالتالي يتضح لنا بأن الأمن له العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التنمية وليس المفهوم العسكري فقط؛ فإذا طبقنا مفهوم الأمن على التنظيمات والحركات فإنه يعني قدرتها على الحفاظ على هويتها واستقلالية قرارها وتكاملها، وتوفير الوسائل اللازمة للتصدي للمخاطر التي تواجهها وتواجه أفرادها. ويتضح من ذلك أن هناك العديد من الأبعاد المفاهيمية للعمل الأمني، وهي: - البعد الفكري والثقافي. - البعد الاقتصادي. - البعد السياسي. - البعد العسكري. - البعد المعلوماتي والاستخباري. - البعد الجماهيري والإعلامي. في العصر الحالي حدثت تغيرات كثيرة في مفهوم الأمن والمشهد الأمني بسبب تغير مفهوم القوة، والتي لم تعد في الأساس ترتبط ارتباطاً أساسياً بالعمل العسكري؛ لكن تعدته إلى التنمية الشاملة في المجالات التكنولوجية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعلوماتية. فانقسم العمل الأمني إلى قسمين: 1- العمل الأمني الخشن. 2- العمل الأمني الناعم. فالعمل الأمني الخشن يرتبط بالعمل العسكري وهي القوة التي كان يبنى عليها مفهوم الأمن منذ القِدم أما في العصر الحديث، فقد ظهر قسم آخر من العمل الأمني، وهو العمل الأمني الناعم، الذي يعتمد على القوة التحويلية، ويتميز بأنه أقل قهرية. أهمية العمل الأمني للتنظيمات الثورية وحركات التحرر الوطني تعي أنظمة الحكم القمعية مفهوم الأمن وأهميته للتحكم في الشعوب ومصائرهم، وقد أدى هذا إلى الاهتمام الكبير بالأمن وتخصيص الميزانيات والإمكانيات البشرية والمادية الضخمة له، والتي توفَّر لرجال الأمن بصورة خاصة؛ فأقيمت لهم أكاديميات تقوم بتدريسهم العلوم الأمنية وتفريغهم تماماً من أي مشاغل تجذب عقولهم لغير هذا المجال؛ كي يحققوا فيه أقصي درجات الابداع. فجهاز المخابرات المركزية الأمريكية، والذي يُعد من أقوى الأجهزة الأمنية لدى الولايات المتحدة، لو نظرنا إلى بعض المخصصات المتاحة له، لعلمنا مدى أهمية العمل الأمني، فعلي سبيل المثال تقع مبانيها على مساحة 3000 دونم، وتتألف من سبعة طوابق، وفيها ما يزيد عن 1000 غرفة، ويعمل فيها 50000 موظف، ويسع موقف سيارتها 3000 سيارة، وقد كلف المبنى ما يقارب 46 مليون دولار، وعدد عاملي الجهاز في واشنطن العاصمة فقط 10000 شخص، وتضم أجهزته العديد من الاختصاصيين، من العسكريين والكيميائيين والفيزيائيين وعلماء القانون وعلماء النفس والاجتماع وعلماء ذرة وسياسيين وخبراء لغات. فالأمن له أهمية لإفشال المؤامرات التي تحاك ضد التنظيم، لمنع الاختراق المباشر وغير المباشر للتنظيمات، والتعرف على الجواسيس، وحفظ أمن الأفراد والمعلومات والخطط. ولعل عملية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي أكبر دليل على ضرورة الاهتمام بهذا المجال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر 1- محمد عمارة - الإسلام والأمن الاجتماعي – القاهرة دار الشروق 1998. 2- معجم مختار الصحاح . 3- سليمان عبدالله الحربي ، مفهوم الأمن: مستوياته وصيغة وتهديداته: دراسة نظرية في المفاهيم والأطر، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 19 عام 2008م. 4- أنور ماجد عشقي – الاستراتيجية الأمنية العربية لمواجهة العولمة – مركز الدراسات البحوث 2006م. 5- جون بليس - الأمن الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة- مركز الخليج للأبحاث. الإمارات العربية المتحدة 2004م. 6- كتاب جوهر الأمن، مكتبة الإسكندرية الإلكترونية. 7- https://drive.google.com/file/d/0B6alj0IcJKqiN1VpWGFoSkpLck0/view كتاب (الاختيار: السيطرة علي العالم أم قيادة العالم). 8- أفاق الأمن الإسرائيلي الواقع والمستقبل / خالد وليد محمود / مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات / بيروت. 9- http://www.politics-dz.com/community/threads/mfxum-al-mn-almusy.3851/ 10- الأمن الثقافي: مفهومة ودواعيه وعوامل تحقيقه، م. نهلة محمد أحمد جبر/ الأمانة العامة لجامعة الدول العربية/ القاهرة . 11- https://www.cia.gov/about-cia/iraqi-rewards-program.html (موقع وكالة المخابرات الأمريكية CIA).
حركات التحرر الإسلامية والاستراتيجيات الأمنية

إسلام زعبل

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

الحقيقة أننا نحيا في ظل عالم تحكمه وتسيطر عليه خُطط واستراتيجيات أمنية، موضوعة له بدقة من قِبل أجهزة أمنية عالمية وإقليمية ومحلية، يتمتع أفرادها بحس أمني عالي موضوع لهم بمنهجية علمية دقيقة؛ فالأجهزة الأمنية للمؤسسات والدول والأفراد يمكننا أن نشبهها بالجهاز المناعي للجسد؛ فهو الذي يحميه من الأمراض ليكون قوياً متأهباً باستمرار للدفاع وصد أي هجوم خارجي يتعرض له وعلاج أي خلل داخلي. فإذا طبقنا هذا على الجماعات وعددنا أن الجماعة هي الجسد، وقلبها أيديولوجيتها، وعقلها تنظيمها، فيمكننا القول بأن مناعتها متمثل في جهازها الأمني.

فالعمل الأمني أحد الموضوعات المهمة التي ينبغي على حركات التحرر الإسلامية أن توليها اهتماماً عظيماً، خاصة مع تطور أساليب المواجهة بينها وبين خصومها، وتبدو أهمية الأمن واضحة وجلية في أثرها على بعض الجماعات والحركات التحررية في منطقتنا العربية؛ فقد أدت الضربات المتتالية من الأجهزة الأمنية وأجهزة الاستخبارات إلى تغيير واضح في خطط هذه الجماعات؛ مما آل بها في أحيان كثيرة إلى الركون والمداهنة، وذلك بسبب عدم امتلاكها الأجهزة الأمنية المناسبة لصد هذه الهجمات والوقاية منها.

فعند النظر لمعظم التنظيمات الناجحة التي حققت أهدافها وخططها، نجد أنها تمتلك أجهزة أمنية تعمل في صمت؛ فالعمل الأمني ليس حكراً على الدول والحكومات؛ بل تتبناه معظم التنظيمات السياسية المعارضة في العالم من جماعات وأحزاب وقوى ضغط، ووصل الأمر إلى وجود أجهزة أمنية لشخصيات ورموز؛ كبعض رجال المال والأعمال، وكان سبباً لنجاح العديد من الثورات التحررية في العالم، مثل ثورة التحرير الجزائرية، والثورة الكوبية، والثورة الإيرانية.

لذلك سأتطرق في هذه السلسلة إلى العلوم والاستراتيجية الأمنية، والوعي والثقافة الأمنية، وفي هذا المقال أتناول مفهومه ومرجعيته ومحاوره وأبعاده وأهميته، وسيتبعه مقالات أخرى بإذن الله.

مفهوم وفلسفة الأمن

إن مفهوم الأمن من أصعب المفاهيم التي يتناولها التحليل العلمي، لأنه مفهوم نسبي متغير، وذو أبعاد ومستويات متنوعة، ويتعرض لتحديات وتهديدات مباشرة وغير مباشرة، من مصادر مختلفة تختلف درجاتها وأنواعها وأبعادها.
لغوياً: جاءت معانيه في القرآن الكريم فهو ضد "الخوف" أي الطمأنينة، وبالرجوع للمعاجم يعني السلامة من الخطر، أ م ن : الأمَانُ والأمَنةُ بمعنى فهم وسلم. (مختار الصحاح).

اصطلاحاً: ارتبط بكيفية استعمال القوة، لإدارة الأخطار التي تهدد الأفراد والتنظيمات، للحفاظ على استقرارهم واستقلاليتهم.

وهناك تعريفات أخرى مختلفة منها:

- يعرف باري بوذان الأمن بأنه (العمل علي التحرر من التهديد).

- أما أرنولد ولفرز ( Arnold Wolfers ) فيُعرف الأمن بغياب التهديدات للقيم والأفكار المكتسبة، وغياب الخوف من الهجوم عليها.

- ويتضح من تعريف والتر ليبمان ( walter lippman ) أن أي جماعة أو تنظيم تبقى في وضع آمن إذا لم تُضحِ بقيمها ومبادئها، وتحفظ أمنها إذا خرجت من معركتها حافظة لقيمها ومبادئها التي تدافع عنها.

ويتضح من التعريفات السابقة رؤي مختلفة حول موضوع الأمن، منها استعمال القوة لإدارة المخاطر التي تواجه التنظيمات، أما في تعريف باري بوذان فيصفه كلٌ من بوث (booth ) و ويلر (wheeler) بأن عملية التحرر التي يقصدها لا يمكن للأفراد والجماعات تحقيق استقرارها الأمني، إلا إذا امتنعوا عن حرمان الآخرين منه، وذلك إذا نُظر إليه على أنه عملية تحرر، أما التعريف الآخر للأمن فمرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة التنظيمات والأفراد على الحفاظ على قيمهم ومبادئهم، ويتحقق استقرارهم الأمني إذا حافظوا عليه. إذَن فالأمن هو الإجراءات والاحتياطات الوقائية اللازمة لمستويين: دفاعي وهجومي.

المرجعية الفكرية للوعي الأمني

إن القرآن الكريم يحتوي على الكثير من المعاني الأمنية، وجاء بالكثير من أساسيات العمل الأمني ومفاهيمه، وقد أكّدت النصوص القرآنية أنَّ للعمل الأمني أصلاً شرعياً من الأصول الإسلامية التي ينبغي للمسـلم أن يأخذ بها، ويستفيد منها، وينفّذها.

وهناك الكثير من الآيات التي تحمل في طياتها الكثير من المعاني الأمنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر:

(.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية 4)

(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83).

إن مفهوم الأمن يشمل كل ما يحقق الاستقلال وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ببُعدَيه الداخلي والخارجي، أي تأمين الكيان أو التنظيم من الأخطار التي تهدده داخلياً وخارجياً؛ لتهيئة الظروف المناسبة لتحقيق الغايات والأهداف، ويرتكز على ثلاثة محاور رئيسية:

1- تأمين الكيان أو التنظيم داخلياً وخارجياً.
2- تحقيق الاستقلال والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
3- تحقيق الرضا لدى أفراد التنظيم.

منهجية وأبعاد العمل الأمني

يقول روبرت مكنمارا (Robert Mcnamara) في كتابه (جوهر الأمن): "إن الأمن لا يعني تراكم السلاح، بالرغم من أن ذلك جزءاً منه، وليس القوة العسكرية بالرغم من أنه قد يشتمل عليها، وليس النشاط العسكري التقليدي بالرغم من أنه قد يحتوي عليه، إنما الأمن هو التنمية، فبدونها لا يمكن تحقيق الأمن".

وبالتالي يتضح لنا بأن الأمن له العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التنمية وليس المفهوم العسكري فقط؛ فإذا طبقنا مفهوم الأمن على التنظيمات والحركات فإنه يعني قدرتها على الحفاظ على هويتها واستقلالية قرارها وتكاملها، وتوفير الوسائل اللازمة للتصدي للمخاطر التي تواجهها وتواجه أفرادها.

ويتضح من ذلك أن هناك العديد من الأبعاد المفاهيمية للعمل الأمني، وهي:
- البعد الفكري والثقافي.
- البعد الاقتصادي.
- البعد السياسي.
- البعد العسكري.
- البعد المعلوماتي والاستخباري.
- البعد الجماهيري والإعلامي.

في العصر الحالي حدثت تغيرات كثيرة في مفهوم الأمن والمشهد الأمني بسبب تغير مفهوم القوة، والتي لم تعد في الأساس ترتبط ارتباطاً أساسياً بالعمل العسكري؛ لكن تعدته إلى التنمية الشاملة في المجالات التكنولوجية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعلوماتية.

فانقسم العمل الأمني إلى قسمين:
1- العمل الأمني الخشن.
2- العمل الأمني الناعم.

فالعمل الأمني الخشن يرتبط بالعمل العسكري وهي القوة التي كان يبنى عليها مفهوم الأمن منذ القِدم أما في العصر الحديث، فقد ظهر قسم آخر من العمل الأمني، وهو العمل الأمني الناعم، الذي يعتمد على القوة التحويلية، ويتميز بأنه أقل قهرية.

أهمية العمل الأمني للتنظيمات الثورية وحركات التحرر الوطني
تعي أنظمة الحكم القمعية مفهوم الأمن وأهميته للتحكم في الشعوب ومصائرهم، وقد أدى هذا إلى الاهتمام الكبير بالأمن وتخصيص الميزانيات والإمكانيات البشرية والمادية الضخمة له، والتي توفَّر لرجال الأمن بصورة خاصة؛ فأقيمت لهم أكاديميات تقوم بتدريسهم العلوم الأمنية وتفريغهم تماماً من أي مشاغل تجذب عقولهم لغير هذا المجال؛ كي يحققوا فيه أقصي درجات الابداع.

فجهاز المخابرات المركزية الأمريكية، والذي يُعد من أقوى الأجهزة الأمنية لدى الولايات المتحدة، لو نظرنا إلى بعض المخصصات المتاحة له، لعلمنا مدى أهمية العمل الأمني، فعلي سبيل المثال تقع مبانيها على مساحة 3000 دونم، وتتألف من سبعة طوابق، وفيها ما يزيد عن 1000 غرفة، ويعمل فيها 50000 موظف، ويسع موقف سيارتها 3000 سيارة، وقد كلف المبنى ما يقارب 46 مليون دولار، وعدد عاملي الجهاز في واشنطن العاصمة فقط 10000 شخص، وتضم أجهزته العديد من الاختصاصيين، من العسكريين والكيميائيين والفيزيائيين وعلماء القانون وعلماء النفس والاجتماع وعلماء ذرة وسياسيين وخبراء لغات.

فالأمن له أهمية لإفشال المؤامرات التي تحاك ضد التنظيم، لمنع الاختراق المباشر وغير المباشر للتنظيمات، والتعرف على الجواسيس، وحفظ أمن الأفراد والمعلومات والخطط. ولعل عملية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي أكبر دليل على ضرورة الاهتمام بهذا المجال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1- محمد عمارة - الإسلام والأمن الاجتماعي – القاهرة دار الشروق 1998.
2- معجم مختار الصحاح .
3- سليمان عبدالله الحربي ، مفهوم الأمن: مستوياته وصيغة وتهديداته: دراسة نظرية في المفاهيم والأطر، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 19 عام 2008م.
4- أنور ماجد عشقي – الاستراتيجية الأمنية العربية لمواجهة العولمة – مركز الدراسات البحوث 2006م.
5- جون بليس - الأمن الدولي في حقبة ما بعد الحرب الباردة- مركز الخليج للأبحاث. الإمارات العربية المتحدة 2004م.
6- كتاب جوهر الأمن، مكتبة الإسكندرية الإلكترونية.
7-
https://drive.google.com/file/d/0B6alj0IcJKqiN1VpWGFoSkpLck0/view كتاب (الاختيار: السيطرة علي العالم أم قيادة العالم).
8- أفاق الأمن الإسرائيلي الواقع والمستقبل / خالد وليد محمود / مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات / بيروت.
9- http://www.politics-dz.com/community/threads/mfxum-al-mn-almusy.3851/
10- الأمن الثقافي: مفهومة ودواعيه وعوامل تحقيقه، م. نهلة محمد أحمد جبر/ الأمانة العامة لجامعة الدول العربية/ القاهرة .
11-
https://www.cia.gov/about-cia/iraqi-rewards-program.html (موقع وكالة المخابرات الأمريكية CIA).
‏١٦‏/١٢‏/٢٠١٨ ٨:١٧ م‏
تقرير (خمس سنوات من حرب مصر على الإرهاب) م. أحمد مولانا Ahmed [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] مع تطور الصراع بين النظام المصري وبعض القطاعات المناهضة للانقلاب في مصر، وتضمنها لبعض أنواع المواجهات المسلحة، تصاعد اهتمام المراكز البحثية بالشأن الأمني المصري، ومن ضمن تلك المراكز معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، ومقره الولايات المتحدة الأميركية، فخصص المعهد منذ مارس ٢٠١٤ منصة لمراقبة المشهد الأمني في مصر تتابع بشكل يومي وسائل الإعلام لتحديث قاعدة البيانات الخاصة بالمعهد عن المشهد الأمني في مصر. ويهدف هذا المشروع حسب المعهد إلى معالجة التساؤلات التي ظلت دون إجابة، مثل: ما مدى خطورة مشكلة الارهاب في مصر؟ ومن هم الفاعلون الذين ينفذون تلك الهجمات؟ وهل كانت جهود الدولة كافية، ومناسبة للتخفيف من العنف؟ وما هي الآفاق طويلة المدى لترسيخ الأمن في مصر؟ وقد أصدر المعهد تقارير دورية شهرية عن الحالة الأمنية في مصر، ثم مع تراجع حدة المواجهات صارت تقاريره فصلية كل ثلاثة أشهر، ثم مؤخرا في منتصف نوفمبر ٢٠١٨ أعلن المعهد في تطور ملفت للنظر عن تدشينه نشرة أسبوعية تتناول الشأن الأمني المصري. ويظل من أهم ما نشره معهد التحرير بواشنطن حتى الآن تقرير بانورامي مطول عن الحالة الأمنية بمصر بعنوان (خمس سنوات من حرب مصر على الإرهاب). ونُشر ذاك التقرير بالانجليزية في نهاية يوليو عام ٢٠١٨ ، فاعتنيت بترجمته للعربية، وستُنشر قريباً بمشيئة الله مع تعقيبات عليه، وفي هذا المقال سأستعرض أبرز المحاور العامة للتقرير. انقسم التقرير إلى خمسة محاور أساسية، هي: • ملخص تنفيذي، وشمل تقديم عرض إجمالي للتقرير ككل. •الإرهاب، وتناول تطور ما سماه بالعمليات الإرهابية في مصر منذ عام 2013، وخلص إلى تزايد العنف عبر أنحاء مصر عقب أحداث الثورة عام 2011، ثم تحوله بعد منتصف عام ٢٠١٣ ليبتعد عن الشكل العفوي ويصبح أكثر تنظيماً، وتعمداً، وتسييساً. وقد رصد المعهد وقوع 339 هجوم من يوليو 2013 حتى نهاية ذلك العام، وحدوث 1343 هجوماً جرى تبنيهم من قبل جماعات مسلحة منذ نهاية عام 2013 حتى منتصف عام 2018. كما رصد المعهد امتداد العنف إلى الدلتا والصعيد فضلاً عن سيناء التي شهدت وحدها حدوث 86% من الهجمات المسلحة المبلغ عنها، وقد استهدفت 66% من الهجمات في جميع أنحاء مصر منذ بدء الحرب على الإرهاب عام 2013 قوات الأمن، وكانت محافظة البحر الأحمر هي المحافظة الوحيدة على مستوى مصر التي لم تشهد عمليات ضد عناصر الأمن. وتناول التقرير بشكل من التفصيل تطور عمليات جماعة أنصار بيت المقدس، ثم عمليات ولاية سيناء، وبالأخص تمكن عناصرها من السيطرة على مدينة الشيخ زويد لفترة وجيزة يوم 1 يوليو 2015. وهو الحادث الذي يمثل حسب التقرير النموذج الوحيد لاستيلاء وسيطرة فاعل غير حكومي بمصر على منطقة حضرية، وإن كانت العملية انتهت بانسحاب المسلحين وتكبدهم لخسائر كبيرة. كما تطرق التقرير إلى التغييرات التي طرأت على عمليات ولاية سيناء منذ مقتل قائدها السابق أبي دعاء الأنصاري، وتوجهها لشن عمليات طائفية تستهدف الصوفية والأقباط. وخلص التقرير إلى أن الوضع الأمني في شمال سيناء يشهد حالة من التشرذم، وعدم الاستقرار، مما ينذر ببقاء الوضع على ما هو عليه حتى لو هُزمت ولاية سيناء. كما تعرض التقرير للحالة الأمنية في بقية المحافظات خارج سيناء، والتي أطلق عليها البر الرئيسي بمصر، وقال إن مستوى العنف في تلك المحافظات شهد تذبذباً بلغ ذروته خلال عامي 2014، و2015 عبر استهداف البنية التحتية للنقل، والاتصالات، وشبكات الكهرباء، وغيرها من الأهداف الاقتصادية كما شهد اغتيالات لمسئولين وعناصر أمنية. وبلغ معدل الهجمات آنذاك 88 هجوماً تقريباً في المتوسط شهرياً خلال النصف الأول من عام 2015، ثم انخفض بعد ذلك بشكل كبير، وعزا التقرير ذلك الانخفاض إلى عدة عوامل منها نجاح وزارة الداخلية في استهداف قيادات التنظيمات المسلحة، والسجن الجماعي للمعارضة السياسية، والذي ربما شمل من شاركوا في العنف أو ردع آخرين عن القيام به؛ وزيادة الحضور الأمني في المواقع المعرضة للهجوم (مثل الكنائس)، وفشل المراحل السابقة من المواجهات في إحداث أي تغيير في النظام السياسي، وانتقال المقاتلين إلى شمال سيناء أو ليبيا أو غيرها من الأماكن الأكثر جاذبية؛ وانخفاض تدفقات الموارد إلى الجماعات المسلحة؛ وتقييد حركة السفر من سيناء إلى بقية أنحاء مصر، أو لمزيج من هذه الأمور. ورغم ذلك أكد التقرير على أن الهجمات المتقطعة في وادي النيل والصحراء الغربية لا تزال تمثل مصدراً للقلق، وخلص إلى أن الاستراتيجية الحالية للنظام المصري تبدو مؤهلة لتحقيق ايقاف هش لما سماها بالأنشطة الإرهابية بمصر في أفضل الأحوال، وقد تدفع ببساطة الجهات العنيفة إلى صقل استراتيجيات التجنيد الخاصة بها. وقال إنه رغم انحسار عدد الهجمات المبلغ عنها يومياً إلى حد ما، فإن مصر ما زالت في وضع مماثل لما كانت عليه عند إعلانها الحرب على الإرهاب. إذ فشل مَن يحكمون مصر، ويشرفون على هيئاتها الأمنية في تكييف تكتيكات تواكب التهديدات الأمنية المتطورة، وتطوير سياسة استراتيجية طويلة الأمد لمكافحة الإرهاب؛ أو تنفيذ برنامج شامل لمنع التطرف وفتح قنوات للتعبير السلمي عن المظالم، بدلاً من الاعتماد على العقاب الجماعي والتكتيكات المسيسة. • مكافحة الإرهاب قال التقرير إن معدل عمليات مكافحة الإرهاب شهد تذبذباً هو الآخر، وأنه منذ يوليو 2013، أبلغت الحكومة رسمياً عن 1780 عملية أمنية في جميع أنحاء مصر، وأُبلغ عن 1664 عملية إضافية عبر وسائل الإعلام الإخبارية. وقد أُبلغ عن حوالي 39 % من هذه العمليات في شبه جزيرة سيناء، في حين أُبلغ عن 13 % في الجيزة والقاهرة. في حين لم يحدد حوالي 20٪ من نشاط مكافحة الإرهاب الرسمي المعلن عنه رسمياً المحافظة التي يُزعم أن النشاط وقع فيها. وقد أسفرت هذه العمليات عن مقتل 7097 شخصاً، واعتقال ما يزيد عن 27000 آخرين (حسب منهجية حساب المعهد للمعتقلين في عمليات مكافحة الإرهاب فقط)، وبلغ معدل الاعتقالات ذروته في شهر مايو 2015 حيث وصل إلى 3070 حالة اعتقال. وأكد التقرير على توقف وزارة الداخلية مؤخرا عن الإعلان عن حدوث اعتقالات، في حين زادت عمليات القتل خارج نطاق القانون، فقد أسفرت 3% فقط من عمليات مكافحة الإرهاب خارج شمال سيناء خلال السنة الأولى من الحرب على الإرهاب عن حدوث وفيات. وبحلول عام 2016، ارتفع هذا الرقم إلى 23%، وبحلول عام 2017، أسفرت 42 % من إجمالي عمليات مكافحة الإرهاب المبلغ عنها خارج شمال سيناء عن حدوث وفيات. • السياق السياسي والقانوني وتناول التقرير خلاله تشريعات وقوانين مكافحة الإرهاب التي أصدرها السيسي، كما أشار لتوظيف النظام للمنظومة القضائية في حملته ضد جماعة الإخوان المسلمين، وعدم قيام مجلس النواب بأي دور لمحاسبة المسئولين عن وقوع تجاوزات تجاه المواطنين. فضلاً عن مد حالة الطوارئ بشكل مخالف للدستور. وكذلك استعرض التقرير التغييرات الجوهرية التي أجراها السيسي في وزارة الدفاع والمخابرات العامة ووزارة الداخلية، وخلص إلى أنها تشير إلى تضييق السيسي لدائرته الداخلية، وتعيينه للمسئولين بناء على درجة ولائهم له لا حسب كفاءتهم. وكذلك أشار إلى تكميم أفواه الإعلام، والتضييق على الصحفيين، وحجب 500 موقعاً إلكترونياً. كما تعرض التقرير للسياق الجغرافي السياسي للوضع في مصر، وأشار إلى رغبة واشنطن في الحفاظ على الاستقرار بمصر، مع الإشارة إلى أن هجمات النظام المصري العدوانية على حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والاستمرار في العلاقات مع كوريا الشمالية، وإحباط واشنطن من النهج المصري لمكافحة الإرهاب من الأمور التي أضرت بالدعم غير المشروط من إدارة ترامب للسيسي، وهو ما انعكس على تجميد حصة من المساعدات العسكرية الأميركية المقدمة إلى مصر. وفي المقابل فقد تعززت العلاقة الأمنية بين مصر وأوروبا منذ الانقلاب العسكري، فرغم بعض النقد الأوروبي الصريح لممارسات القاهرة الأمنية، فقد باعت الدول الأوروبية المزيد من الأسلحة لمصر منذ عام 2014 أكثر من أي وقت مضى حتى أن قيمة صفقات الأسلحة الفرنسية المصرية تخطت صفقات مصر مع الولايات المتحدة. كما أشار التقرير إلى توتر العلاقات المصرية الروسية على خلفية حادث سقوط الطائرة الروسية، مع بقاء روسيا شريكاً أمنياً رئيسياً لمصر، أما العلاقات المصرية الإسرائيلية فقد وصلت إلى أزهى صورها على الإطلاق، وشهدت تنسيقاً عسكرياً متبادلاً في مواجهة ولاية سيناء. وكذلك أشار التقرير إلى التقارب المصري الإماراتي، وضخ الإمارات لعشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات في مصر منذ صعود السيسي إلى السلطة، فضلاً عن التنسيق المتبادل بين البلدين في الملف الليبي. • وخلص التقرير إلى أن تقليص حقوق الإنسان، وتقييد الحيز العام، والاعتماد على ممارسات خارج نطاق القانون، مثل الإعدام الناجز، والعقاب الجماعي، لم يخدم بفعالية هدف القضاء على الإرهاب المزعوم، وإنما تسببت في دفع البعض لحمل السلاح، وتنفيذ العدالة بعيداً عن الدولة. وهو ما أسفر عن مقتل قرابة 1400 من أفراد الأمن خلال السنوات الخمس الماضية. وأكد التقرير على عدم وجود مسوغات للتكاليف الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة لهذه الأساليب، فهي لم تؤسس الأمن بشكل كاف؛ فقد وقع 182 هجوماً إرهابياً في العام الماضي وحده مما أسفر عن مقتل 520 شخصاً، وهو عدد أكثر من عدد القتلى في الهجمات الإرهابية خلال العام التالي لإعلان الحرب على الإرهاب والبالغ 363 شخصاً. وأنه رغم انخفاض وتيرة الهجمات ببقية أرجاء مصر عدا سيناء، فإن الوجود الحالي للعناصر المسلحة في سيناء، فضلاً عن ظهور ما يقرب من دستة من الجماعات المسلحة على مدى السنوات الخمس الماضية الموصوفة في هذا التقرير، يؤكد على هشاشة الفترة الحالية من الهدوء.
تقرير (خمس سنوات من حرب مصر على الإرهاب)

م. أحمد مولانا Ahmed

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

مع تطور الصراع بين النظام المصري وبعض القطاعات المناهضة للانقلاب في مصر، وتضمنها لبعض أنواع المواجهات المسلحة، تصاعد اهتمام المراكز البحثية بالشأن الأمني المصري، ومن ضمن تلك المراكز معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، ومقره الولايات المتحدة الأميركية، فخصص المعهد منذ مارس ٢٠١٤ منصة لمراقبة المشهد الأمني في مصر تتابع بشكل يومي وسائل الإعلام لتحديث قاعدة البيانات الخاصة بالمعهد عن المشهد الأمني في مصر.

ويهدف هذا المشروع حسب المعهد إلى معالجة التساؤلات التي ظلت دون إجابة، مثل: ما مدى خطورة مشكلة الارهاب في مصر؟ ومن هم الفاعلون الذين ينفذون تلك الهجمات؟ وهل كانت جهود الدولة كافية، ومناسبة للتخفيف من العنف؟ وما هي الآفاق طويلة المدى لترسيخ الأمن في مصر؟

وقد أصدر المعهد تقارير دورية شهرية عن الحالة الأمنية في مصر، ثم مع تراجع حدة المواجهات صارت تقاريره فصلية كل ثلاثة أشهر، ثم مؤخرا في منتصف نوفمبر ٢٠١٨ أعلن المعهد في تطور ملفت للنظر عن تدشينه نشرة أسبوعية تتناول الشأن الأمني المصري.

ويظل من أهم ما نشره معهد التحرير بواشنطن حتى الآن تقرير بانورامي مطول عن الحالة الأمنية بمصر بعنوان (خمس سنوات من حرب مصر على الإرهاب). ونُشر ذاك التقرير بالانجليزية في نهاية يوليو عام ٢٠١٨ ، فاعتنيت بترجمته للعربية، وستُنشر قريباً بمشيئة الله مع تعقيبات عليه، وفي هذا المقال سأستعرض أبرز المحاور العامة للتقرير.

انقسم التقرير إلى خمسة محاور أساسية، هي:

• ملخص تنفيذي، وشمل تقديم عرض إجمالي للتقرير ككل.
•الإرهاب، وتناول تطور ما سماه بالعمليات الإرهابية في مصر منذ عام 2013، وخلص إلى تزايد العنف عبر أنحاء مصر عقب أحداث الثورة عام 2011، ثم تحوله بعد منتصف عام ٢٠١٣ ليبتعد عن الشكل العفوي ويصبح أكثر تنظيماً، وتعمداً، وتسييساً.

وقد رصد المعهد وقوع 339 هجوم من يوليو 2013 حتى نهاية ذلك العام، وحدوث 1343 هجوماً جرى تبنيهم من قبل جماعات مسلحة منذ نهاية عام 2013 حتى منتصف عام 2018. كما رصد المعهد امتداد العنف إلى الدلتا والصعيد فضلاً عن سيناء التي شهدت وحدها حدوث 86% من الهجمات المسلحة المبلغ عنها، وقد استهدفت 66% من الهجمات في جميع أنحاء مصر منذ بدء الحرب على الإرهاب عام 2013 قوات الأمن، وكانت محافظة البحر الأحمر هي المحافظة الوحيدة على مستوى مصر التي لم تشهد عمليات ضد عناصر الأمن.

وتناول التقرير بشكل من التفصيل تطور عمليات جماعة أنصار بيت المقدس، ثم عمليات ولاية سيناء، وبالأخص تمكن عناصرها من السيطرة على مدينة الشيخ زويد لفترة وجيزة يوم 1 يوليو 2015. وهو الحادث الذي يمثل حسب التقرير النموذج الوحيد لاستيلاء وسيطرة فاعل غير حكومي بمصر على منطقة حضرية، وإن كانت العملية انتهت بانسحاب المسلحين وتكبدهم لخسائر كبيرة.

كما تطرق التقرير إلى التغييرات التي طرأت على عمليات ولاية سيناء منذ مقتل قائدها السابق أبي دعاء الأنصاري، وتوجهها لشن عمليات طائفية تستهدف الصوفية والأقباط. وخلص التقرير إلى أن الوضع الأمني في شمال سيناء يشهد حالة من التشرذم، وعدم الاستقرار، مما ينذر ببقاء الوضع على ما هو عليه حتى لو هُزمت ولاية سيناء.

كما تعرض التقرير للحالة الأمنية في بقية المحافظات خارج سيناء، والتي أطلق عليها البر الرئيسي بمصر، وقال إن مستوى العنف في تلك المحافظات شهد تذبذباً بلغ ذروته خلال عامي 2014، و2015 عبر استهداف البنية التحتية للنقل، والاتصالات، وشبكات الكهرباء، وغيرها من الأهداف الاقتصادية كما شهد اغتيالات لمسئولين وعناصر أمنية.

وبلغ معدل الهجمات آنذاك 88 هجوماً تقريباً في المتوسط شهرياً خلال النصف الأول من عام 2015، ثم انخفض بعد ذلك بشكل كبير، وعزا التقرير ذلك الانخفاض إلى عدة عوامل منها نجاح وزارة الداخلية في استهداف قيادات التنظيمات المسلحة، والسجن الجماعي للمعارضة السياسية، والذي ربما شمل من شاركوا في العنف أو ردع آخرين عن القيام به؛ وزيادة الحضور الأمني في المواقع المعرضة للهجوم (مثل الكنائس)، وفشل المراحل السابقة من المواجهات في إحداث أي تغيير في النظام السياسي، وانتقال المقاتلين إلى شمال سيناء أو ليبيا أو غيرها من الأماكن الأكثر جاذبية؛ وانخفاض تدفقات الموارد إلى الجماعات المسلحة؛ وتقييد حركة السفر من سيناء إلى بقية أنحاء مصر، أو لمزيج من هذه الأمور.

ورغم ذلك أكد التقرير على أن الهجمات المتقطعة في وادي النيل والصحراء الغربية لا تزال تمثل مصدراً للقلق، وخلص إلى أن الاستراتيجية الحالية للنظام المصري تبدو مؤهلة لتحقيق ايقاف هش لما سماها بالأنشطة الإرهابية بمصر في أفضل الأحوال، وقد تدفع ببساطة الجهات العنيفة إلى صقل استراتيجيات التجنيد الخاصة بها. وقال إنه رغم انحسار عدد الهجمات المبلغ عنها يومياً إلى حد ما، فإن مصر ما زالت في وضع مماثل لما كانت عليه عند إعلانها الحرب على الإرهاب. إذ فشل مَن يحكمون مصر، ويشرفون على هيئاتها الأمنية في تكييف تكتيكات تواكب التهديدات الأمنية المتطورة، وتطوير سياسة استراتيجية طويلة الأمد لمكافحة الإرهاب؛ أو تنفيذ برنامج شامل لمنع التطرف وفتح قنوات للتعبير السلمي عن المظالم، بدلاً من الاعتماد على العقاب الجماعي والتكتيكات المسيسة.

• مكافحة الإرهاب

قال التقرير إن معدل عمليات مكافحة الإرهاب شهد تذبذباً هو الآخر، وأنه منذ يوليو 2013، أبلغت الحكومة رسمياً عن 1780 عملية أمنية في جميع أنحاء مصر، وأُبلغ عن 1664 عملية إضافية عبر وسائل الإعلام الإخبارية. وقد أُبلغ عن حوالي 39 % من هذه العمليات في شبه جزيرة سيناء، في حين أُبلغ عن 13 % في الجيزة والقاهرة. في حين لم يحدد حوالي 20٪ من نشاط مكافحة الإرهاب الرسمي المعلن عنه رسمياً المحافظة التي يُزعم أن النشاط وقع فيها. وقد أسفرت هذه العمليات عن مقتل 7097 شخصاً، واعتقال ما يزيد عن 27000 آخرين (حسب منهجية حساب المعهد للمعتقلين في عمليات مكافحة الإرهاب فقط)، وبلغ معدل الاعتقالات ذروته في شهر مايو 2015 حيث وصل إلى 3070 حالة اعتقال.

وأكد التقرير على توقف وزارة الداخلية مؤخرا عن الإعلان عن حدوث اعتقالات، في حين زادت عمليات القتل خارج نطاق القانون، فقد أسفرت 3% فقط من عمليات مكافحة الإرهاب خارج شمال سيناء خلال السنة الأولى من الحرب على الإرهاب عن حدوث وفيات. وبحلول عام 2016، ارتفع هذا الرقم إلى 23%، وبحلول عام 2017، أسفرت 42 % من إجمالي عمليات مكافحة الإرهاب المبلغ عنها خارج شمال سيناء عن حدوث وفيات.

• السياق السياسي والقانوني

وتناول التقرير خلاله تشريعات وقوانين مكافحة الإرهاب التي أصدرها السيسي، كما أشار لتوظيف النظام للمنظومة القضائية في حملته ضد جماعة الإخوان المسلمين، وعدم قيام مجلس النواب بأي دور لمحاسبة المسئولين عن وقوع تجاوزات تجاه المواطنين. فضلاً عن مد حالة الطوارئ بشكل مخالف للدستور.

وكذلك استعرض التقرير التغييرات الجوهرية التي أجراها السيسي في وزارة الدفاع والمخابرات العامة ووزارة الداخلية، وخلص إلى أنها تشير إلى تضييق السيسي لدائرته الداخلية، وتعيينه للمسئولين بناء على درجة ولائهم له لا حسب كفاءتهم. وكذلك أشار إلى تكميم أفواه الإعلام، والتضييق على الصحفيين، وحجب 500 موقعاً إلكترونياً.

كما تعرض التقرير للسياق الجغرافي السياسي للوضع في مصر، وأشار إلى رغبة واشنطن في الحفاظ على الاستقرار بمصر، مع الإشارة إلى أن هجمات النظام المصري العدوانية على حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والاستمرار في العلاقات مع كوريا الشمالية، وإحباط واشنطن من النهج المصري لمكافحة الإرهاب من الأمور التي أضرت بالدعم غير المشروط من إدارة ترامب للسيسي، وهو ما انعكس على تجميد حصة من المساعدات العسكرية الأميركية المقدمة إلى مصر.

وفي المقابل فقد تعززت العلاقة الأمنية بين مصر وأوروبا منذ الانقلاب العسكري، فرغم بعض النقد الأوروبي الصريح لممارسات القاهرة الأمنية، فقد باعت الدول الأوروبية المزيد من الأسلحة لمصر منذ عام 2014 أكثر من أي وقت مضى حتى أن قيمة صفقات الأسلحة الفرنسية المصرية تخطت صفقات مصر مع الولايات المتحدة.

كما أشار التقرير إلى توتر العلاقات المصرية الروسية على خلفية حادث سقوط الطائرة الروسية، مع بقاء روسيا شريكاً أمنياً رئيسياً لمصر، أما العلاقات المصرية الإسرائيلية فقد وصلت إلى أزهى صورها على الإطلاق، وشهدت تنسيقاً عسكرياً متبادلاً في مواجهة ولاية سيناء. وكذلك أشار التقرير إلى التقارب المصري الإماراتي، وضخ الإمارات لعشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات في مصر منذ صعود السيسي إلى السلطة، فضلاً عن التنسيق المتبادل بين البلدين في الملف الليبي.

• وخلص التقرير إلى أن تقليص حقوق الإنسان، وتقييد الحيز العام، والاعتماد على ممارسات خارج نطاق القانون، مثل الإعدام الناجز، والعقاب الجماعي، لم يخدم بفعالية هدف القضاء على الإرهاب المزعوم، وإنما تسببت في دفع البعض لحمل السلاح، وتنفيذ العدالة بعيداً عن الدولة. وهو ما أسفر عن مقتل قرابة 1400 من أفراد الأمن خلال السنوات الخمس الماضية.

وأكد التقرير على عدم وجود مسوغات للتكاليف الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة لهذه الأساليب، فهي لم تؤسس الأمن بشكل كاف؛ فقد وقع 182 هجوماً إرهابياً في العام الماضي وحده مما أسفر عن مقتل 520 شخصاً، وهو عدد أكثر من عدد القتلى في الهجمات الإرهابية خلال العام التالي لإعلان الحرب على الإرهاب والبالغ 363 شخصاً. وأنه رغم انخفاض وتيرة الهجمات ببقية أرجاء مصر عدا سيناء، فإن الوجود الحالي للعناصر المسلحة في سيناء، فضلاً عن ظهور ما يقرب من دستة من الجماعات المسلحة على مدى السنوات الخمس الماضية الموصوفة في هذا التقرير، يؤكد على هشاشة الفترة الحالية من الهدوء.
‏١٤‏/١٢‏/٢٠١٨ ٨:٠٩ م‏
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام 3 نعم.. انتشر الإسلام بالجهاد مصطفى البدري [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] بعد المقالين السابقين (دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام 1، 2) وصلني التساؤل المشهور المُتكرر: هل تعني أن الإسلام انتشر في أنحاء المعمورة بالسيف والقوة؟ وإن كان مجموع المقالات يحمل جوابا مفصَّلًا ومؤصَّلًا عن هذا السؤال، إلا أن تخصيص مقال واحد للجواب المباشر عنه أمر مهم كذلك. الأجوبة الضعيفة حيث إنه سؤال يحمل في طياته اتهامًا وتشويهًا لهذا الدين أولًا، ويُريد وسمَه بأنه دين القتل وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ثم يحمل اتهامًا وتشويهًا لحملة هذا الدين بدايةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرورًا بصحابته الكرام، والأئمة الأعلام، وصولًا إلى أهل الإسلام في كل زمانٍ ومكان. وحيث إن خبث السؤال يبدأ بوضع المجيب عنه في قفص الاتهام، فإنني أرفض الجواب عنه من هذا المكان الذي يريد خصمي أن يضعني فيه، وقد وجدت عامة من قبلوا الجواب من هذا الموضع قد خرجوا بما فحواه: أن الإسلام دين ضعيف هزيل لا يعرف للقوة سبيلًا ولا لحمل السلاح طريقًا!! حتى إنني قرأت كتابًا كاملًا في السيرة النبوية يؤصل لكون رسالة الإسلام سلمية من بدايتها إلى نهايتها. ليس عجيبًا أن يخرج هذا السؤال أو أن يصدر من أعداء الدين؛ لكن العجيب هو ما يقوم به بعض دُعاة المسلمين حينما يشعرون بالتُهمة عند سماع هذا السؤال، فبدلًا من أن يلبسوا لباس العزة والافتخار تراهم يلبسون لباس الهزيمة والانكسار. كان الواجب على هؤلاء العلماء والدعاة ألا يقبلوا ابتداءً أن يكونوا في قفص الاتهام، لأن قبولهم يعني أن الجواب سيكون ضعيفًا هزيلًا، لأنه ليس من الموضع الصحيح، فيكون الجواب: أبدًا، لم ينتشر الإسلام بالسيف ولا بالقوة، بل انتشر بسبب حسن معاملة المسلمين لغيرهم، عبر القوافل التجارية وأشباهها. وهذا في الحقيقة هروبٌ من الجواب الحقيقي؛ فالمسلم الذي يفخر ويعتز بدينه فضلًا عن الداعية أو عن العالم أو الشيخ، لن يكون جوابه بهذا الاختزال؛ لأن القوافل التجارية كان لها أثر لا يُنكر في إبراز أخلاق الإسلام، خاصةً مع اشتهار التجار المسلمين بالصدق والأمانة وحسن الخُلق، لكن هذا لا يكفي لانتشار الدين واعتناق الناس إياه. هل الأخلاق وحدها كافية؟! الأخلاق قد تؤثر في الرجل والرجلين أو جماعة قليلة من الناس، لكن العامة والجماهير المُتكاثرة لا تُغير دينها ومعتقدها بمثل هذا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، ورغم ذلك كَفَر به عامة قومه، وكذبوه، وهو المعروف بينهم عليه الصلاة والسلام بالصادق الأمين، وما آمن من أهل مكة إلا القليل، وكان حسن الخلق صفة ملازمة للأنبياء والرسل جميعًا، ورغم "يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويأتي النبي ومعه الرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد". وترى في المقابل قول الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}؛ يعني بعد النصر وبعد الفتح يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وهذا ما حصل بالضبط مع أهل مكة، رغم أن أغلبهم وعامتهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته، إلا أن الأمر انعكس تمامًا بعد الفتح، ودخل عامة أهل مكة في دين الإسلام. بل إن مصر وبلاد المغرب دليل واضح على ذلك، حيث استغرق فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرابة أربع سنوات، أمّا المغرب.. فقد زادت مُدة الفتوحات فيها عن نصف قرن من الزمان، حتى تم تخليصها من البيزنطيين، ودخل أهلها في دين الإسلام، ومن المعلوم أن ثلاثة من القادة المشاهير قد تناوبوا في هذه المعارك وهذه الفتوحات في بلاد المغرب العربي؛ عقبة بن نافع الصحابي الجليل رضي الله عنه، وبعده حسان بن النعمان، وتلاه موسى بن نُصير، واستمرت الفتوحات بعد ذلك حتى طارق بن زياد الذي دخل بلاد الأندلس شمالًا وعبر المضيق، وتحول سُكان هذه البلاد من دياناتهم الأصلية، وكان أغلبها النصرانية وكان فيهم بعض اليهود، تحولوا من ديانتهم التي كانوا عليها، ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى (الإسلام). وما ولدتُ أنا في مصر مسلمًا ولا أنتم في بلادكم إلا بفضل الله تبارك وتعالى ثم هذه الفتوحات العظيمة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها، وقبور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شاهدةٌ على ذلك، فعامة الصحابة لم يدفنوا في المدينة، التي كانوا فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنك تجد أسماء مشاهير: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قبره في القسطنطينية (إسطنبول)، خالد بن الوليد قبره في الشام أو بالتحديد في مدينة حِمص، عقبة بن نافع المشهور أنه دُفن في الجزائر، وفي مصر عمرو بن العاص، وغيرهم. إذا أردنا أن نُجيب على هذا التساؤل فنُجيب بكل عزةٍ وافتخار أن الإسلام لم يصل إلينا إلا عبر رفع راية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وعبر هذه الفتوحات؛ فما قامت حضارة من الحضارات إلا بوجود قوات عسكرية تقوم برفع رايتها، تتحرك لنشر أفكارها وثقافتها وإقناع الناس بما فيها. إذن.. كيف نفسر انتشار الإسلام في بلاد لم تصلها جيوش الفتح؟ نعم، انتشر الإسلام في بلاد واسعة لم تصلها جيوش الفتح، بل إن المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس يقول بأن ثلث عالم الإسلام فقط هو الذي وصلت إليه الجيوش وبقية الثلثين إنما فتحها الإسلام بهذا الانتشار الدعوي والأخلاقي وعبر قوافل التجار ونحوه. لكن الشيء المهم الذي لا بد من إضافته بعد كلام د. مؤنس هو أن هؤلاء التجار وهذه الحالة الدعوية لو لم تكن مستندة إلى دولة إسلامية قوية وواسعة تمثل القوة العظمى العالمية وقتها لم يكن ليكون لها نفس هذا الأثر الواسع في نفوس الناس. لولا هذا الثلث المفتوح بالقوة والذي تكونت به دولة إسلامية قوية ما كان سيتوفر لهؤلاء التجار نفس الألق والتأثير في الناس.. إنما استمدت أخلاقهم تأثيرها مضاعفاً لكونهم ينتمون إلى حضارة قوية ودين كبير ودولة عظمى! أي أنه لولا الثلث المفتوح بالجهاد لم يكن للثلثين الآخريْن أن يُفتحا بمجرد الدعوة والأخلاق. ونحن في أيامنا هذه نرى هذا واقعاً في حياتنا، فنحن نتأثر بأخلاق وسلوكيات وأفكار الأوروبيين أكثر من تأثرنا بأخلاق وسلوكيات وأفكار وعقائد الصينيين واليابانيين والروس، وأكثر المرتدين عن الإسلام في بلادنا يتجهون إلى الإلحاد على الطريقة الغربية أو إلى المسيحية الكاثوليكية والبروتستانية (الغربية) ولا يتجهون إلى البوذية أو الكونفوشيوسية أو الأرثوذكسية أو الهندوسية. وهنا يُطرح تساؤل آخر مهم: ما هي الغاية من تشريع الجهاد؟ الجواب: الغاية من تشريع الجهاد هي نفس الغاية من ابتداء الخلق، وهي تحقيق العبودية الكاملة لله تبارك وتعالى في كونه، والأدلة كثيرة جدًا على أن غاية هذا الجهاد الأكبر هو تعبيد الناس لله عز وجل وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض، وإخلاء العالم من الفساد. من أظهرها قول الله عز وجل –كما في سورة البقرة-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، وفي آية الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قال ابن كثير رحمه الله: ثم أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة؛ أي شرك، يعني حتى لا يكون شرك، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع وغيرهم...قال ابن كثير: ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان. اهـ وقال ابن جرير الطبري: فقاتلوهم حتى لا يكون شركٌ، ولا يُعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله وحتى تكون الطاعة والعبادة كُلها لله خالصةً دون غيره. اهـ وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية، وهي ألا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المُخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يَحِلّ قتاله. اهـ وفي صحيح البخاري قصة مشهورة واضحة للدلالة على هذا، فيها قال المُغيرة بن شعبة الصحابي الجليل لعامل كسرى: أمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. وهذا الحديث ظاهر في هذا الأمر الذي نعنيه وهو أن الغاية من الجهاد هي تعبيد الناس لرب العباد سبحانه وتعالى، وأثر ربعي بن عامر المشهور: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. لكن هل يعني هذا إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ هل شرع الله عز وجل الجهاد من أجل إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ الجواب: بالطبع لا، فالإسلام لا يقبل إلا من دخل في الدين مُخلصًا صادقًا شاهدًا بشهادة الحق برضا كاملٍ عن هذا الدين؛ الإسلام لا يريد وجود المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وإن كان يقبل منهم خضوعهم الظاهر للدين وتشريعاته. فإذا أردنا أن نختصر المسألة كلها فنقول بوضوح: إن الدولة في الإسلام توسعت بالسيف والقوة كما توسعت كل الدول، لكن الإسلام لم ينتشر بالإكراه.. كان السيف يزيل الأنظمة الحاكمة القاهرة التي استعبدت الناس وأذلتهم وحكمتهم بالعنف والعسف، ولم يكن السيف يفرض الإسلام على أحد، وقد عجز المؤرخون المتعصبون ضد الإسلام عن رصد حالات إجبار لغير المسلمين على اعتناق الإسلام. بل إن بقاء كافة الأديان القديمة في بلاد الإسلام حتى اليوم هو أهم وأكبر الأدلة على هذا. بينما أوروبا نفسها لم تحتمل وجود مسلمين فيها فأقامت محاكم التفتيش وعمليات الطرد والإبادة منذ إسبانيا في القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين (بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية) ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عند أواخر القرن العشرين). والمعنى الصحيح هو: أن الجهاد شُرع لإزالة الموانع والعوائق التي تحول بين الناس وبين معرفة الإسلام على حقيقته -كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة-: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، وآية سورة الكهف كذلك: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}. فلابد أن يظهر الدين ويقيم نظامه، ويتضح للناس بشكلٍ كاملٍ غير منقوص ولا مُشوّه، وكما يظهر للناس عدالته وعفوه وسماحته، كذلك يظهر لهم شدته وقسوته مع المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، وهذا لا يتحقق أبدًا إلا في ظل وجود قوة رادعة. وهذه هي المعاني الظاهرة من هدف جهاد المسلمين حتى تزول العوائق والموانع أمام الناس لمعرفة هذا الدين، ومن ثم الدخول فيه. صاحب كتاب "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" يُسمي هذا المعنى إزالة الفتنة عن الناس، وهو بذلك يُعيد المعنى إلى الآيات الكريمة التي ذكرناها، إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائقٍ، وحتى يروا نظام الإسلام مُطبقًا ليعرفوا ما فيه من عدلٍ وإصلاحٍ للبشر، وما فيه من سمُوِّ في شتى المجالات. ثم قال الشيخ: والفتنة أنواع ثلاثة:  النوع الأول: ما يُمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين؛ ليرتدوا عن دينهم، وبالطبع لا بد من الجهاد حتى تُرفع هذه الفتنة على المسلمين، وحتى لا يتعرض المسلمون لوسائل التعذيب والتضييق التي مروا بها في مراحل الاستضعاف، ونمر بها الآن، ويمر بها كل مسلم في مكانٍ هو فيه مستضعف أو في زمان هو في مستضعف. ويكون دور الجهاد هنا هو الحفاظ على دين المسلم من التبديل وعقيدته من التلاعب.  النوع الثاني من الفتنة هو: الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من انتشار الفساد والانحراف في شتى مجالات الحياة.  النوع الثالث من الفتنة هو: فتنة الكُفار أنفسهم وصَدُّهم عن استماع الحق وقبوله؛ لأن الدولة عندما تكون خاضعة لنظامٍ كافر، فطبيعة الحال أنها تمنع المسلمين من أن يُخاطبوا أهل هذه البُلدان؛ وهل يُعقل أن تأتي دولة كافرة بدعاة مسلمين تقول لهم: ادخلوا إلى بلادنا وانشروا الدعوة وعلموا الناس الإسلام وعرفوهم بحقيقة الإسلام؟ هذا غير وارد وغير ممكن؛ وما يحدث حاليًا من السماح ببعض المراكز والمؤسسات الدعوية في بلاد الغرب، ما هو إلا محض خداع وكذب. لأنهم لا يسمحون بعرض الإسلام كما أُنزِل، بل يسمحون بعرض الإسلام العصري المعتدل كما يريدونه هم، إسلام لا يعرف شيئًا اسمه الولاء والبراء، إسلام لا يسمى غير أهله بأنهم كفار؛ إنما يسميهم (الآخر)، ولا يطلق على الخارجين عنه والمارقين منه أنهم مرتدون، إسلام لا يعرف شيئًا اسمه الجهاد في سبيل الله، ولكن الجهاد من أجل الوطن الذي يحميك وتعيش في كنفه حتى لو دعاك ذلك لقتل إخوانك المسلمين في بلد آخر، كما فعلت بريطانيا عندما جَنّدَت المسلمين الهنود في صفها حال حربها مع العثمانيين، وكما فعلته أمريكا عند حربها على أفغانستان والعراق!! إسلام مُشَوَّه مبتورٌ مقطوع الصِّلة عن ثوابته ومبادئه كقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ} وقول نبيه: "المسلم أخو المسلم" وغيرها. وهذا هو الطبيعي عندما يُعرَض الإسلام تحت سلطان غيره، فكان لابد من الجهاد حتى يُعرَض تحت سلطان نفسه. تصديقًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} لأنهم حتما يكرهون ذلك. ونستحضر هنا ولابد قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده، من بعد قيام الحُجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاثة عشر سنة تُوحَى إليه السور المكية وكلها جدالٌ مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وتبيان ودلائل. فلما قامت الحجة على من خالف، شرَع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والْهَامِ لمن خالف القرآن وكذّب به وعانده. اهـ ويقول ابن القيم عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: وبعَثَه –أي: الله عز وجل- بالكتاب الهادي والسيف الناصر بين يدي الساعة حتى يُعبد سبحانه وحده لا شريك به، وجُعل رزقه تحت ظل سيف ورمحه ، وقال أيضًا رحمه الله: فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحُجة والبرهان وبالسيف والعنان، فكلاهما في نصره –أي: في نصر الإسلام- أخوان شقيقان. اهـ وآخر ما أريد قوله هنا هو: لعلنا الآن عرفنا لماذا يعيش المسلمون حاليًا حالات الضعف والهوان أمام أعداء الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سَلَّطَ الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" . والحديث الآخر المشهور: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت" . وبالطبع قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة 39:38]. يعني: أن الله عز وجل توعّد بالعذاب والعقاب مَن ترك الجهاد في سبيله، والمقولة المشهورة: ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذُلوا. نسأل الله العفو والعافية. وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال رحمه الله: وليس العذاب الذي يتهددهم هو عذاب الآخرة فقط، بل عذاب الدنيا والآخرة، عذاب الذلِّ يُصيب القاعدين عن الجهاد، عذاب الحرمان من الخيرات التي يستفيد منها العدو الكافر ويُحرمها أهلها، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد، ويُقدِّمون على مذابح الذل أضعافَ ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة أضعاف ما كان يتطلبه منها جهاد الأعداء. انتهى كلامه رحمه الله. والله من وراء القصد
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام 3

نعم.. انتشر الإسلام بالجهاد

مصطفى البدري

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

بعد المقالين السابقين (دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام 1، 2) وصلني التساؤل المشهور المُتكرر: هل تعني أن الإسلام انتشر في أنحاء المعمورة بالسيف والقوة؟

وإن كان مجموع المقالات يحمل جوابا مفصَّلًا ومؤصَّلًا عن هذا السؤال، إلا أن تخصيص مقال واحد للجواب المباشر عنه أمر مهم كذلك.

الأجوبة الضعيفة

حيث إنه سؤال يحمل في طياته اتهامًا وتشويهًا لهذا الدين أولًا، ويُريد وسمَه بأنه دين القتل وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ثم يحمل اتهامًا وتشويهًا لحملة هذا الدين بدايةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرورًا بصحابته الكرام، والأئمة الأعلام، وصولًا إلى أهل الإسلام في كل زمانٍ ومكان.

وحيث إن خبث السؤال يبدأ بوضع المجيب عنه في قفص الاتهام، فإنني أرفض الجواب عنه من هذا المكان الذي يريد خصمي أن يضعني فيه، وقد وجدت عامة من قبلوا الجواب من هذا الموضع قد خرجوا بما فحواه: أن الإسلام دين ضعيف هزيل لا يعرف للقوة سبيلًا ولا لحمل السلاح طريقًا!! حتى إنني قرأت كتابًا كاملًا في السيرة النبوية يؤصل لكون رسالة الإسلام سلمية من بدايتها إلى نهايتها.

ليس عجيبًا أن يخرج هذا السؤال أو أن يصدر من أعداء الدين؛ لكن العجيب هو ما يقوم به بعض دُعاة المسلمين حينما يشعرون بالتُهمة عند سماع هذا السؤال، فبدلًا من أن يلبسوا لباس العزة والافتخار تراهم يلبسون لباس الهزيمة والانكسار.

كان الواجب على هؤلاء العلماء والدعاة ألا يقبلوا ابتداءً أن يكونوا في قفص الاتهام، لأن قبولهم يعني أن الجواب سيكون ضعيفًا هزيلًا، لأنه ليس من الموضع الصحيح، فيكون الجواب: أبدًا، لم ينتشر الإسلام بالسيف ولا بالقوة، بل انتشر بسبب حسن معاملة المسلمين لغيرهم، عبر القوافل التجارية وأشباهها.

وهذا في الحقيقة هروبٌ من الجواب الحقيقي؛ فالمسلم الذي يفخر ويعتز بدينه فضلًا عن الداعية أو عن العالم أو الشيخ، لن يكون جوابه بهذا الاختزال؛ لأن القوافل التجارية كان لها أثر لا يُنكر في إبراز أخلاق الإسلام، خاصةً مع اشتهار التجار المسلمين بالصدق والأمانة وحسن الخُلق، لكن هذا لا يكفي لانتشار الدين واعتناق الناس إياه.

هل الأخلاق وحدها كافية؟!

الأخلاق قد تؤثر في الرجل والرجلين أو جماعة قليلة من الناس، لكن العامة والجماهير المُتكاثرة لا تُغير دينها ومعتقدها بمثل هذا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، ورغم ذلك كَفَر به عامة قومه، وكذبوه، وهو المعروف بينهم عليه الصلاة والسلام بالصادق الأمين، وما آمن من أهل مكة إلا القليل، وكان حسن الخلق صفة ملازمة للأنبياء والرسل جميعًا، ورغم "يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويأتي النبي ومعه الرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد".

وترى في المقابل قول الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}؛ يعني بعد النصر وبعد الفتح يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وهذا ما حصل بالضبط مع أهل مكة، رغم أن أغلبهم وعامتهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته، إلا أن الأمر انعكس تمامًا بعد الفتح، ودخل عامة أهل مكة في دين الإسلام.

بل إن مصر وبلاد المغرب دليل واضح على ذلك، حيث استغرق فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرابة أربع سنوات، أمّا المغرب.. فقد زادت مُدة الفتوحات فيها عن نصف قرن من الزمان، حتى تم تخليصها من البيزنطيين، ودخل أهلها في دين الإسلام، ومن المعلوم أن ثلاثة من القادة المشاهير قد تناوبوا في هذه المعارك وهذه الفتوحات في بلاد المغرب العربي؛ عقبة بن نافع الصحابي الجليل رضي الله عنه، وبعده حسان بن النعمان، وتلاه موسى بن نُصير، واستمرت الفتوحات بعد ذلك حتى طارق بن زياد الذي دخل بلاد الأندلس شمالًا وعبر المضيق، وتحول سُكان هذه البلاد من دياناتهم الأصلية، وكان أغلبها النصرانية وكان فيهم بعض اليهود، تحولوا من ديانتهم التي كانوا عليها، ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى (الإسلام).

وما ولدتُ أنا في مصر مسلمًا ولا أنتم في بلادكم إلا بفضل الله تبارك وتعالى ثم هذه الفتوحات العظيمة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها، وقبور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شاهدةٌ على ذلك، فعامة الصحابة لم يدفنوا في المدينة، التي كانوا فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنك تجد أسماء مشاهير: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قبره في القسطنطينية (إسطنبول)، خالد بن الوليد قبره في الشام أو بالتحديد في مدينة حِمص، عقبة بن نافع المشهور أنه دُفن في الجزائر، وفي مصر عمرو بن العاص، وغيرهم.

إذا أردنا أن نُجيب على هذا التساؤل فنُجيب بكل عزةٍ وافتخار أن الإسلام لم يصل إلينا إلا عبر رفع راية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وعبر هذه الفتوحات؛ فما قامت حضارة من الحضارات إلا بوجود قوات عسكرية تقوم برفع رايتها، تتحرك لنشر أفكارها وثقافتها وإقناع الناس بما فيها.

إذن.. كيف نفسر انتشار الإسلام في بلاد لم تصلها جيوش الفتح؟

نعم، انتشر الإسلام في بلاد واسعة لم تصلها جيوش الفتح، بل إن المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس يقول بأن ثلث عالم الإسلام فقط هو الذي وصلت إليه الجيوش وبقية الثلثين إنما فتحها الإسلام بهذا الانتشار الدعوي والأخلاقي وعبر قوافل التجار ونحوه.

لكن الشيء المهم الذي لا بد من إضافته بعد كلام د. مؤنس هو أن هؤلاء التجار وهذه الحالة الدعوية لو لم تكن مستندة إلى دولة إسلامية قوية وواسعة تمثل القوة العظمى العالمية وقتها لم يكن ليكون لها نفس هذا الأثر الواسع في نفوس الناس.

لولا هذا الثلث المفتوح بالقوة والذي تكونت به دولة إسلامية قوية ما كان سيتوفر لهؤلاء التجار نفس الألق والتأثير في الناس.. إنما استمدت أخلاقهم تأثيرها مضاعفاً لكونهم ينتمون إلى حضارة قوية ودين كبير ودولة عظمى!
أي أنه لولا الثلث المفتوح بالجهاد لم يكن للثلثين الآخريْن أن يُفتحا بمجرد الدعوة والأخلاق.

ونحن في أيامنا هذه نرى هذا واقعاً في حياتنا، فنحن نتأثر بأخلاق وسلوكيات وأفكار الأوروبيين أكثر من تأثرنا بأخلاق وسلوكيات وأفكار وعقائد الصينيين واليابانيين والروس، وأكثر المرتدين عن الإسلام في بلادنا يتجهون إلى الإلحاد على الطريقة الغربية أو إلى المسيحية الكاثوليكية والبروتستانية (الغربية) ولا يتجهون إلى البوذية أو الكونفوشيوسية أو الأرثوذكسية أو الهندوسية.

وهنا يُطرح تساؤل آخر مهم: ما هي الغاية من تشريع الجهاد؟

الجواب: الغاية من تشريع الجهاد هي نفس الغاية من ابتداء الخلق، وهي تحقيق العبودية الكاملة لله تبارك وتعالى في كونه، والأدلة كثيرة جدًا على أن غاية هذا الجهاد الأكبر هو تعبيد الناس لله عز وجل وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض، وإخلاء العالم من الفساد.

من أظهرها قول الله عز وجل –كما في سورة البقرة-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، وفي آية الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

قال ابن كثير رحمه الله: ثم أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة؛ أي شرك، يعني حتى لا يكون شرك، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع وغيرهم...قال ابن كثير: ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان. اهـ وقال ابن جرير الطبري: فقاتلوهم حتى لا يكون شركٌ، ولا يُعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله وحتى تكون الطاعة والعبادة كُلها لله خالصةً دون غيره. اهـ

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية، وهي ألا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المُخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يَحِلّ قتاله. اهـ

وفي صحيح البخاري قصة مشهورة واضحة للدلالة على هذا، فيها قال المُغيرة بن شعبة الصحابي الجليل لعامل كسرى: أمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. وهذا الحديث ظاهر في هذا الأمر الذي نعنيه وهو أن الغاية من الجهاد هي تعبيد الناس لرب العباد سبحانه وتعالى، وأثر ربعي بن عامر المشهور: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

لكن هل يعني هذا إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ هل شرع الله عز وجل الجهاد من أجل إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ الجواب: بالطبع لا، فالإسلام لا يقبل إلا من دخل في الدين مُخلصًا صادقًا شاهدًا بشهادة الحق برضا كاملٍ عن هذا الدين؛ الإسلام لا يريد وجود المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وإن كان يقبل منهم خضوعهم الظاهر للدين وتشريعاته.

فإذا أردنا أن نختصر المسألة كلها فنقول بوضوح: إن الدولة في الإسلام توسعت بالسيف والقوة كما توسعت كل الدول، لكن الإسلام لم ينتشر بالإكراه.. كان السيف يزيل الأنظمة الحاكمة القاهرة التي استعبدت الناس وأذلتهم وحكمتهم بالعنف والعسف، ولم يكن السيف يفرض الإسلام على أحد، وقد عجز المؤرخون المتعصبون ضد الإسلام عن رصد حالات إجبار لغير المسلمين على اعتناق الإسلام. بل إن بقاء كافة الأديان القديمة في بلاد الإسلام حتى اليوم هو أهم وأكبر الأدلة على هذا. بينما أوروبا نفسها لم تحتمل وجود مسلمين فيها فأقامت محاكم التفتيش وعمليات الطرد والإبادة منذ إسبانيا في القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين (بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية) ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عند أواخر القرن العشرين).

والمعنى الصحيح هو: أن الجهاد شُرع لإزالة الموانع والعوائق التي تحول بين الناس وبين معرفة الإسلام على حقيقته -كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة-: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، وآية سورة الكهف كذلك: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.

فلابد أن يظهر الدين ويقيم نظامه، ويتضح للناس بشكلٍ كاملٍ غير منقوص ولا مُشوّه، وكما يظهر للناس عدالته وعفوه وسماحته، كذلك يظهر لهم شدته وقسوته مع المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، وهذا لا يتحقق أبدًا إلا في ظل وجود قوة رادعة.

وهذه هي المعاني الظاهرة من هدف جهاد المسلمين حتى تزول العوائق والموانع أمام الناس لمعرفة هذا الدين، ومن ثم الدخول فيه.

صاحب كتاب "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" يُسمي هذا المعنى إزالة الفتنة عن الناس، وهو بذلك يُعيد المعنى إلى الآيات الكريمة التي ذكرناها، إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائقٍ، وحتى يروا نظام الإسلام مُطبقًا ليعرفوا ما فيه من عدلٍ وإصلاحٍ للبشر، وما فيه من سمُوِّ في شتى المجالات.

ثم قال الشيخ: والفتنة أنواع ثلاثة:


النوع الأول: ما يُمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين؛ ليرتدوا عن دينهم، وبالطبع لا بد من الجهاد حتى تُرفع هذه الفتنة على المسلمين، وحتى لا يتعرض المسلمون لوسائل التعذيب والتضييق التي مروا بها في مراحل الاستضعاف، ونمر بها الآن، ويمر بها كل مسلم في مكانٍ هو فيه مستضعف أو في زمان هو في مستضعف.

ويكون دور الجهاد هنا هو الحفاظ على دين المسلم من التبديل وعقيدته من التلاعب.


النوع الثاني من الفتنة هو: الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من انتشار الفساد والانحراف في شتى مجالات الحياة.


النوع الثالث من الفتنة هو: فتنة الكُفار أنفسهم وصَدُّهم عن استماع الحق وقبوله؛ لأن الدولة عندما تكون خاضعة لنظامٍ كافر، فطبيعة الحال أنها تمنع المسلمين من أن يُخاطبوا أهل هذه البُلدان؛ وهل يُعقل أن تأتي دولة كافرة بدعاة مسلمين تقول لهم: ادخلوا إلى بلادنا وانشروا الدعوة وعلموا الناس الإسلام وعرفوهم بحقيقة الإسلام؟ هذا غير وارد وغير ممكن؛ وما يحدث حاليًا من السماح ببعض المراكز والمؤسسات الدعوية في بلاد الغرب، ما هو إلا محض خداع وكذب.

لأنهم لا يسمحون بعرض الإسلام كما أُنزِل، بل يسمحون بعرض الإسلام العصري المعتدل كما يريدونه هم، إسلام لا يعرف شيئًا اسمه الولاء والبراء، إسلام لا يسمى غير أهله بأنهم كفار؛ إنما يسميهم (الآخر)، ولا يطلق على الخارجين عنه والمارقين منه أنهم مرتدون، إسلام لا يعرف شيئًا اسمه الجهاد في سبيل الله، ولكن الجهاد من أجل الوطن الذي يحميك وتعيش في كنفه حتى لو دعاك ذلك لقتل إخوانك المسلمين في بلد آخر، كما فعلت بريطانيا عندما جَنّدَت المسلمين الهنود في صفها حال حربها مع العثمانيين، وكما فعلته أمريكا عند حربها على أفغانستان والعراق!!

إسلام مُشَوَّه مبتورٌ مقطوع الصِّلة عن ثوابته ومبادئه كقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ} وقول نبيه: "المسلم أخو المسلم" وغيرها.

وهذا هو الطبيعي عندما يُعرَض الإسلام تحت سلطان غيره، فكان لابد من الجهاد حتى يُعرَض تحت سلطان نفسه. تصديقًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} لأنهم حتما يكرهون ذلك.

ونستحضر هنا ولابد قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده، من بعد قيام الحُجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاثة عشر سنة تُوحَى إليه السور المكية وكلها جدالٌ مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وتبيان ودلائل.

فلما قامت الحجة على من خالف، شرَع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والْهَامِ لمن خالف القرآن وكذّب به وعانده. اهـ

ويقول ابن القيم عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: وبعَثَه –أي: الله عز وجل- بالكتاب الهادي والسيف الناصر بين يدي الساعة حتى يُعبد سبحانه وحده لا شريك به، وجُعل رزقه تحت ظل سيف ورمحه ، وقال أيضًا رحمه الله: فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحُجة والبرهان وبالسيف والعنان، فكلاهما في نصره –أي: في نصر الإسلام- أخوان شقيقان. اهـ

وآخر ما أريد قوله هنا هو: لعلنا الآن عرفنا لماذا يعيش المسلمون حاليًا حالات الضعف والهوان أمام أعداء الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سَلَّطَ الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" . والحديث الآخر المشهور: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت" .

وبالطبع قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة 39:38].

يعني: أن الله عز وجل توعّد بالعذاب والعقاب مَن ترك الجهاد في سبيله، والمقولة المشهورة: ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذُلوا. نسأل الله العفو والعافية.

وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال رحمه الله: وليس العذاب الذي يتهددهم هو عذاب الآخرة فقط، بل عذاب الدنيا والآخرة، عذاب الذلِّ يُصيب القاعدين عن الجهاد، عذاب الحرمان من الخيرات التي يستفيد منها العدو الكافر ويُحرمها أهلها، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد، ويُقدِّمون على مذابح الذل أضعافَ ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة أضعاف ما كان يتطلبه منها جهاد الأعداء. انتهى كلامه رحمه الله.

والله من وراء القصد
‏١٢‏/١٢‏/٢٠١٨ ٦:٤٤ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (9) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] لم يكن ثمة شك في أني سألتحق بكلية الطب، لقد كنت من المتفوقين طوال حياتي الدراسة، وقد التحق رفاقي السبعة بالفعل بكلية الطب، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.. كان صديقي أحمد سالم هو رفيقي في مقعد الدراسة أيضاً، وكانت صداقتنا قوية ومنعقدة على التفوق والحب أيضاً، وقد بلغنا من التفوق –ولا بأس أن نقول هنا: من الغرور- أننا فكَّرنا في اختراع قوانين رياضية لحل المسائل، فإن كنا نحلُّ المسائل وفقاً لقوانين وضعها آخرون فلسنا بأقلَّ منهم شأناً لنضع نحن أيضاً قوانين تُحَلُّ بها المسائل. كنت أنا وهو نكمل بعضنا البعض في هذا الجانب الدراسي، وقد جاء اليوم الذي وضعنا فيه قانوناً لحل المسائل الرياضية (فرع الجبر) بعد أن هدانا تفكيرنا إليه، وجربناه على ثلاثين مسألة فكانت النتائج صحيحة، فقلت لصديقي: لا يمكن لقانون أن يكون خطأ بعد حل ثلاثين مسألة، وبدا أننا قد وصلنا سريعاً إلى ما نصبو إليه، فهرعنا إلى الأستاذ عبدالوهاب أستاذ مادة الرياضيات وعرضنا عليه القانون الذي وضعناه فجرَّبه على عشر مسائل أخرى فإذا بها تنحل وتعطي النتائج الصحيحة، ودهش الأستاذ، ساعتها لم يخامرنا شكٌّ في أننا وضعنا قانوناً جديداً في علم الرياضيات، ثم أخذنا إلى أستاذ آخر كان مدرساً أول لمادة الرياضيات، وعرضنا عليه القانون الجديد فجربه على مسألتين فلاحظ شيئاً خاطئاً مركباً في القانون وفي تطبيقنا له، وهذا الخطأ المركب هو الذي كان يفضي في النهاية إلى خروج الحل الصحيح للمسائل التي نجربها عليه. للأسف لم تعش فرحتنا إلا أمداً قصيراً، لكني أسرد هذه الحكاية هنا وصفاً لما كنا فيه من التفوق ومن علاقتنا ومن إكمالنا لبعضنا، وهو ما له متعلق بسؤال: لمَ لمْ أدخل كلية الطب؟ كانت خطتي في المذاكرة والامتحانات أن أحصل على الدرجات النهائية في مواد العلوم والرياضيات ولا أسمح لنفسي بالنقصان ولو درجة واحدة، إذ إن مواد اللغة العربية والإنجليزية مما يصعب الحصول فيها على الدرجات النهائية فلتكن هي وحدها المواد التي سأنقص فيها بعض الدرجات. وجاء اليوم الأول في الامتحانات وكان فيه امتحانان: اللغة العربية والجبر. وقد أديت أداءاً حسناً في امتحان اللغة العربية ثم دخلت إلى مادة الجبر التي لن أسمح لنفسي فيها بنقصان درجة واحدة! من مفارقات الأقدار أن واضعي امتحان الجبر في تلك السنة أخطؤوا ووضعوا سؤالاً خاطئاً، لكن الطلاب لم يعرفوا أنه خاطئ وإنما تصوروا أنها مسألة صعبة، وكانت هذه المسألة هي السؤال الثاني من بين أربعة أسئلة يتكون منها الامتحان، وقد تكهرب الطلاب لهذا السؤال العسير إلا أن معظمهم فعل ما هو طبيعي منطقي، أنهم تجاوزوه ليحلوا باقي الامتحان، أما أنا فلم أفعل! إذ كيف لمتفوق مثلي كاد أن يضع قانونًا في الجبر أن يتوقف أمام مسألة؟! لقد كنت مشهوراً بأني لا تقف أمامي مسألة أبداً حتى أن مدرساً استعان بي يوماً لحل مسألة تعسرت عليه، ثم كيف لمثلي أمام مسألة في امتحان عزم على أنه لن ينقص فيه درجة واحدة؟! وتحول الأمر إلى ما يشبه المعركة الشخصية والتحدي الخاص، ظللت أمام المسألة (الخاطئة أصلًا) أقلبها يمنة ويسرة وأدور حولها أماماً وخلفاً وهي لا تنحل، وهكذا حتى مرَّ نصف وقت الامتحان أمامها، ولما شعرت بالأزمة والاختناق هرعت إلى إكمال بقية الأسئلة لكنني لم أدرك الحل، وانتهى الوقت وأُخِذَت الورقة مني وقد تركت سؤالين كاملين. انتهى يوم الامتحانات الأول بصدمة غير متوقعة ترتب عليها إحباط شديد، كما ترتبت عليها نتيجة أسوأ وهي سوء سلوكي في المواد الأخرى بعد أن أدركت ضياع حلمي على يد مادة الجبر، ولم ألبث أن عرفت صباح اليوم التالي أن المسألة خاطئة من الأصل وأن درجاتها ستوزع على أسئلة الامتحان الأخرى فزاد همّي وغمّي، ولهذا السبب حصلت في الثانوية العامة على 71 بالمائة. لم تكن هذه الدرجة سيئة، بل كانت تؤهلني لدخول المعهد العالي الصناعي في المنيا، ولم يكن هذا بعيداً عن طموحي في دراسة الهندسة، إذ لن يلبث المعهد أن يتحول إلى كلية الهندسة، وهو التحول الذي حصل في نفس هذه السنة، إلا أن رغبتي في كلية الطب كانت أقوى وكانت تهيمن علي بشدة، فقررت أن أدخل كلية التجارة لاعتقادي أنها سهلة، وأنني سأتمكن من أن أعيد الثانوية العامة بالتوازي مع دراستي فيها، فلقد عزمت على أن أعيد سنة الثانوية العامة لأتمكن من دخول كلية الطب من جديد. إلا أن رياحاً أخرى أشد جاءت بما لا تشتهيه السفن! لقد كنت أجهل إجراءات إعادة القيد في الثانوية العامة، لقد ظننت أن بإمكاني الالتحاق بالامتحانات في نهاية السنة، ولم يكن لي علم بضرورة التسجيل في المدرسة لهذا الغرض حتى فات وقت إعادة القيد وانتهى، لم أكتشف هذا إلا حين تحدثت مع صديقي عبدالجواد الذي كان رفيقاً في سكن الرابطة (تشبه المدينة الجامعية) في قنا، حين سألني: في أي مدرسة سَجَّلت لإعادة امتحان الثانوية العامة؟ فقلت ببساطة: حينما أنهي امتحانات كلية التجارة سأذهب لأمتحن في إدفو، فسألني: هل أعدت قيدك في إدفو؟! فقلت: لا، فقال: كيف؟! لقد انتهى وقت التسجيل وإعادة القيد! وقعت الصدمة فوق رأسي، وبكيت بكاءً شديداً في تلك الليلة، وحاولت من الصباح أن أعيد تسجيلي لامتحان الثانوية العامة وبذلت كل ما أستطيع إلا أنني لم أنجح، وزاد همِّي وغمِّي أضعافاً مضاعفة، لقد فاتني حلمي في الطب حين توقفت أمام هذه المسألة التي كانت أصلاً خاطئة، ثم لم أدخل كلية الهندسة لكي أحفظ لنفسي إمكانية إعادة امتحان الثانوية العامة، ثم ها أنا أكتشف أن امتحان الثانوية العامة نفسه قد ضاع أيضاً! وتذكرت يومها صديقي ورفيق الدراسة أحمد سالم الذي التحق بكلية العلوم وألحَّ علي أن أدخلها معه لنتفوق معاً ولنكون من بعدها أساتذة بالكلية، إلا أنني واجهت إلحاحه بإلحاح مقابل: أني إنما دخلت كلية التجارة لإعادة امتحان الثانوية العامة! تحطمت آمالي، وصرت في موقف لم يمرّ علي مثله من قبل، وكرهت كلية التجارة التي صارت سجني من بعد ما كنتُ أظنها وسيلتي ومعبراً لي إلى ما أحب، فلم أهتم بأن أذاكر، ونجحت بصعوبة في السنة الأولى، ووجدتني أنجح بصعوبة بينما صديقي أحمد سالم الذي طالما ألحَّ على أن أكون معه قد نجح بتقدير جيد جداً في كلية العلوم، وبقية أصدقائي بين الطب والهندسة، وهكذا انتهى مساري الدراسي أسوأ نهاية: لا أنا تفوقت في الثانوية العامة، ولا دخلت الطب، ولا دخلت الهندسة، ولا استطعت العودة إلى الثانوية العامة، ولا تفوقت في كلية التجارة! حصل هذا كله في أول عهد السادات، أو كما كان يقول "دولة العلم والإيمان"، وقد كنتُ حتى ذلك الوقت في الاتحاد الاشتراكي، فكنتُ مع التيار اليساري ضد السادات، لا سيما وقد كانت الأخبار تنقل أخبار التوتر في العلاقات بين السادات والاتحاد السوفيتي وأن السوفيت لا يعطون الأسلحة الضرورية التي يحتاجها السادات وأن هذا ما يؤخر التحرك العسكري، ولهذا فلن يكون عام 1971 هو عام الحسم كما كان يقال لنا. مر عام 1971، ثم وراءه 1972، ولا حسم ولا حرب، فشرع اليسار المصري بتنظيم مظاهرات كثيرة، وكنت أشارك فيها كطالب عادي أو كمواطن مصري، مجرد مشاركة ليس فيها تزعم، ففي ذلك الوقت لم تكن قضايا الشأن العام تشغلني كثيراً، وسائر ما كان مني قبل هذا إنما كان بسبب إغراء تجربة عبدالناصر في الانقلاب العسكري، وكان دخولي الاتحاد الاشتراكي لطبيعة تفوقي الدراسي، ولذلك فقد كنت حتى تلك اللحظة عضواً في الاتحاد الاشتراكي وعضواً في الطريقة الصوفية. ولم يكن الجمع بين عضوية الاتحاد الاشتراكي والصوفية عملاً متناقضاً آنذاك كما قد يبدو الآن، بل إن كثيراً من قيادات الدولة كان يغلب عليها الطابع الصوفي، حتى في أمن الدولة، وكان رئيس مجلس المدينة صوفياً، ومأمور القسم صوفياً. والجمع بين ذلك بسيط: فالتدين على الشكل الصوفي تدين مرغوب فيه من جانب الدولة، وأستطيع أن أشهد على هذا من واقع ما رأيته وعاينته، بل لقد كان جزءاً من الدعاية الإعلامية لعبدالناصر أنه مدعوم من الأقطاب الصوفية الأربعة، ومما كان ينتشر في زماننا أن بريطانيا ألقت قنبلة ذرية على القاهرة فصدَّها عن القاهرة شيخ الصوفية الأكبر في مصر، وذلك أنه صعد في السماء وأمسك بالقنبلة ثم أراحها على قبة الجامع الأقمر فلم تنفجر، ولا تزال موضوعة فوق القبة حتى الآن. فمن هاهنا كانت الهالة الإعلامية حول جمال عبدالناصر تحتوي طيفاً صوفياً فلم يقع التناقض في نفوس الكثيرين بين عضوية الاتحاد الاشتراكي وعضوية الصوفية. بل كان المـُوَجِّهون في الاتحاد الاشتراكي يغلب عليهم الطيبة، بل كان المـُوَجِّه العام على مستوى أسوان واسمه الأستاذ سعد وكان مُصَعَّدًا من الطبقة العمالية، ودخل لانتخابات حتى صار الأمين العام على مستوى أسوان، وكان شاباً في الثلاثينات من عمره، وكان يتحدث عن إصلاح الدولية وكيفية بنائها، وهو هو نفسه كان يؤمنا في الصلاة. إلا أنهم أخذوا من الاشتراكية ما وافق شهوة الشباب، فكانوا يأخذون منها العلاقات المحرمة مع الفتيات وأن يكون بينهم علاقة خارج الزواج، وتلك من الأمور التي دفعتني لترك الاشتراكية والتوجه للتيار الإسلامي الذي كان يتشكل في أعوام 1974، 1975م. وفيما قبل حرب أكتوبر كانت تسود حالة من الغليان تشمل جميع الشباب بلا استثناء، وكان التفكير السائد هو التفكير في تحرير فلسطين، لم يكن أحد ينادي بتحرير سيناء بل ولم نكن نشعر أن سيناء هي المحتلة بقدر ما كنا نشعر أن المعركة حول فلسطين بل وسوريا أيضاً. لكن قبل الذهاب إلى وصف ما حصل في حرب أكتوبر أحب أن أتوقف هنا في نبذة مهمة عن العلاقة بيننا وبين آبائنا وأهالينا في هذه الفترة: ليس ثمة شيء متميز في أسرتي، كانت أسرة عادية، متوسطة أو حتى أقل من المتوسطة، وفيما يخص –مثلاً- أني لم ألتحق بكلية الطب أو الهندسة، كان أبي يشعر بأنني طالب متميز ومتدين، وكان يشعر أن هذا حدث بقدر الله، لم يكن متديناً بل مسلماً عادياً ولكنه كان متوكلاً على الله للغاية، فكان يقول: هذا قدر الله، وأنت على كل حال ستذهب إلى الجامعة. كانت ثقافة الناس وقتها أن الطالب طالما سيدخل الجامعة فالفارق ليس كبيراً بين الكليات. وكان يعزز من شعوره هذا أن أصدقائي حين كانوا يزورونني في البيت كانوا لا يتحرجون من إظهار اعترافهم بتفوقي وتميزي وأن المسألة حظوظ في نهاية الأمر. نعم، كان هذا يزيد من حزنه ولكن كان يزيد أيضاً من تعاطفه وتشجيعه لي، وهكذا كانت أمي وكان إخوتي.. لقد كانوا يتخذونني قدوة! وتلك على الحقيقة لم تكن مزية خاصة بي، وهذا هو ما أريد التركيز عليه هنا، لقد كان جيلنا هذا من الشباب هو الجيل الذي قاد آباءه وأثَّر فيهم أكثر بكثير مما قادوه وأثروا به، إن قصتي مع أهلي هي قصة مكررة لإخوة الجماعة الإسلامية مع أهاليهم، وأتذكر هاهنا مثلاً معبراً: كنت أذهب مع أبي لشركة بيع المصنوعات المصرية، والتي كان عُمَّال المصنع يأخذون منها حاجتهم، فكنت أقف مع أبي في الصف، وكان يريد أن يتقدم الناس لأولوية أنه عامل، وكان الذي يبيع يتحرج من نهره كما ينهر غيره من الناس إن تجاوزوا أدوارهم لكونه من عمال المصنع، فكنت أنا الذي أقول له: يا أبي لا بد أن نلتزم دورنا، وإذا أحببت ألا تقف لطول الوقوف فاجلس وأنا أقف مكانك في الصف حتى يأتي دورك. وحين يقع مثل هذا الكلام أمام الناس والعاملين كانوا يأذنون لنا في أن نتقدم عليهم ونأخذ أولاً. هكذا كان الآباء يشعرون تجاهنا بشعور الاعتزاز والفخر، لم نكن مثل أبناء اليوم مع آبائهم، أولئك الذين يغلب عليهم التمرد، وإني حين أقارن بين علاقتي مع أبي وعلاقتي مع ابني عمار مثلاً أرى أن أبي كان ينصحني بألا أتهور وألا أواجه السلطة، وكان يُذَكِّرني دائما بأننا لا نستطيع مواجهة الحكومة، يقول: لدي أبناء غيرك وأريد أن أربيهم وأرعاهم كما ربيتك ورعيتك. وعندما أطلقت لحيتي قال لي: ليست لدي مشكلة في هذه المسألة لكن إن اعتقلوك فمركز ادفو بعيد عنا ولن أستطيع حتى أن أساعدك. ومن المواقف الطريفة المتعلقة بهذا الأمر أنني عندما اعتقلت سنة 1982 جاءني لزيارتي في معتقلي بالقاهرة، فذكّرته بهذا وقلت: جئتني إلى مصر (القاهرة) وليس ادفو؟! فقال: ألا زلت تذكر؟! وهل هناك من يترك ابنه، وبكى! فقلت له: ما رأيك يا أبي أني إذا خرجت من المعتقل فسأحلق لحيتي، فقال: إن فعلتَ فلست ابني. لم أكن جادًّا بطبيعة الحال وإنما كنت أحاول اختبار موقفه! أما بالنسبة لابني عمار فإني أقنعه أن يخرج في المظاهرات فيشارك إخوانه والشباب فيرفض، ويجادلني قائلا: لم نفعل شيئاً في الجماعة الإسلامية طوال عشرين سنة، ثم يقول: اترك لي اختيار الطريق الذي أريده. وهكذا، كنت أحث أبي على الفضيلة، ثم إني أحث ابني على الفضيلة، كأن الموضوع قد انعكس تماماً. لقد أثبتت التجربة أننا كنا ثوريين أكثر من أبنائنا! شباب جيلنا أنشأ الجماعة الإسلامية من لا شيء، فإذا قلنا الآن إننا فشلنا وإن الإخوان فشلوا فأين الجيل الجديد؟ أين الذي ينشيء تنظيماً جديداً يكون بديلاً لهذه التجارب التي يراها فاشلة؟! نحن في جيلنا كنا البديل لما نراه قد فشل، كنا بديلاً للإخوان حين لم يعجبنا سلوكهم، كانت ردة فعلنا إنشاء جماعة جديدة، كنا نطمح ونتحفز ونخطط لنقوم بانقلاب عسكري ولنقود ثورة شعبية ولنحكم مصر، وكنا ساعتها في العشرينات، أما شباب العشرينات اليوم فنحن نحاول أن نقنعهم بالعمل! كانت وقفة لا بد منها، قبل أن أدلف إلى ما حصل في حرب أكتوبر..
مذكرات الشيخ رفاعي طه (9)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

لم يكن ثمة شك في أني سألتحق بكلية الطب، لقد كنت من المتفوقين طوال حياتي الدراسة، وقد التحق رفاقي السبعة بالفعل بكلية الطب، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن..

كان صديقي أحمد سالم هو رفيقي في مقعد الدراسة أيضاً، وكانت صداقتنا قوية ومنعقدة على التفوق والحب أيضاً، وقد بلغنا من التفوق –ولا بأس أن نقول هنا: من الغرور- أننا فكَّرنا في اختراع قوانين رياضية لحل المسائل، فإن كنا نحلُّ المسائل وفقاً لقوانين وضعها آخرون فلسنا بأقلَّ منهم شأناً لنضع نحن أيضاً قوانين تُحَلُّ بها المسائل.

كنت أنا وهو نكمل بعضنا البعض في هذا الجانب الدراسي، وقد جاء اليوم الذي وضعنا فيه قانوناً لحل المسائل الرياضية (فرع الجبر) بعد أن هدانا تفكيرنا إليه، وجربناه على ثلاثين مسألة فكانت النتائج صحيحة، فقلت لصديقي: لا يمكن لقانون أن يكون خطأ بعد حل ثلاثين مسألة، وبدا أننا قد وصلنا سريعاً إلى ما نصبو إليه، فهرعنا إلى الأستاذ عبدالوهاب أستاذ مادة الرياضيات وعرضنا عليه القانون الذي وضعناه فجرَّبه على عشر مسائل أخرى فإذا بها تنحل وتعطي النتائج الصحيحة، ودهش الأستاذ، ساعتها لم يخامرنا شكٌّ في أننا وضعنا قانوناً جديداً في علم الرياضيات، ثم أخذنا إلى أستاذ آخر كان مدرساً أول لمادة الرياضيات، وعرضنا عليه القانون الجديد فجربه على مسألتين فلاحظ شيئاً خاطئاً مركباً في القانون وفي تطبيقنا له، وهذا الخطأ المركب هو الذي كان يفضي في النهاية إلى خروج الحل الصحيح للمسائل التي نجربها عليه.

للأسف لم تعش فرحتنا إلا أمداً قصيراً، لكني أسرد هذه الحكاية هنا وصفاً لما كنا فيه من التفوق ومن علاقتنا ومن إكمالنا لبعضنا، وهو ما له متعلق بسؤال: لمَ لمْ أدخل كلية الطب؟

كانت خطتي في المذاكرة والامتحانات أن أحصل على الدرجات النهائية في مواد العلوم والرياضيات ولا أسمح لنفسي بالنقصان ولو درجة واحدة، إذ إن مواد اللغة العربية والإنجليزية مما يصعب الحصول فيها على الدرجات النهائية فلتكن هي وحدها المواد التي سأنقص فيها بعض الدرجات. وجاء اليوم الأول في الامتحانات وكان فيه امتحانان: اللغة العربية والجبر. وقد أديت أداءاً حسناً في امتحان اللغة العربية ثم دخلت إلى مادة الجبر التي لن أسمح لنفسي فيها بنقصان درجة واحدة!

من مفارقات الأقدار أن واضعي امتحان الجبر في تلك السنة أخطؤوا ووضعوا سؤالاً خاطئاً، لكن الطلاب لم يعرفوا أنه خاطئ وإنما تصوروا أنها مسألة صعبة، وكانت هذه المسألة هي السؤال الثاني من بين أربعة أسئلة يتكون منها الامتحان، وقد تكهرب الطلاب لهذا السؤال العسير إلا أن معظمهم فعل ما هو طبيعي منطقي، أنهم تجاوزوه ليحلوا باقي الامتحان، أما أنا فلم أفعل! إذ كيف لمتفوق مثلي كاد أن يضع قانونًا في الجبر أن يتوقف أمام مسألة؟! لقد كنت مشهوراً بأني لا تقف أمامي مسألة أبداً حتى أن مدرساً استعان بي يوماً لحل مسألة تعسرت عليه، ثم كيف لمثلي أمام مسألة في امتحان عزم على أنه لن ينقص فيه درجة واحدة؟! وتحول الأمر إلى ما يشبه المعركة الشخصية والتحدي الخاص، ظللت أمام المسألة (الخاطئة أصلًا) أقلبها يمنة ويسرة وأدور حولها أماماً وخلفاً وهي لا تنحل، وهكذا حتى مرَّ نصف وقت الامتحان أمامها، ولما شعرت بالأزمة والاختناق هرعت إلى إكمال بقية الأسئلة لكنني لم أدرك الحل، وانتهى الوقت وأُخِذَت الورقة مني وقد تركت سؤالين كاملين.

انتهى يوم الامتحانات الأول بصدمة غير متوقعة ترتب عليها إحباط شديد، كما ترتبت عليها نتيجة أسوأ وهي سوء سلوكي في المواد الأخرى بعد أن أدركت ضياع حلمي على يد مادة الجبر، ولم ألبث أن عرفت صباح اليوم التالي أن المسألة خاطئة من الأصل وأن درجاتها ستوزع على أسئلة الامتحان الأخرى فزاد همّي وغمّي، ولهذا السبب حصلت في الثانوية العامة على 71 بالمائة.

لم تكن هذه الدرجة سيئة، بل كانت تؤهلني لدخول المعهد العالي الصناعي في المنيا، ولم يكن هذا بعيداً عن طموحي في دراسة الهندسة، إذ لن يلبث المعهد أن يتحول إلى كلية الهندسة، وهو التحول الذي حصل في نفس هذه السنة، إلا أن رغبتي في كلية الطب كانت أقوى وكانت تهيمن علي بشدة، فقررت أن أدخل كلية التجارة لاعتقادي أنها سهلة، وأنني سأتمكن من أن أعيد الثانوية العامة بالتوازي مع دراستي فيها، فلقد عزمت على أن أعيد سنة الثانوية العامة لأتمكن من دخول كلية الطب من جديد.

إلا أن رياحاً أخرى أشد جاءت بما لا تشتهيه السفن! لقد كنت أجهل إجراءات إعادة القيد في الثانوية العامة، لقد ظننت أن بإمكاني الالتحاق بالامتحانات في نهاية السنة، ولم يكن لي علم بضرورة التسجيل في المدرسة لهذا الغرض حتى فات وقت إعادة القيد وانتهى، لم أكتشف هذا إلا حين تحدثت مع صديقي عبدالجواد الذي كان رفيقاً في سكن الرابطة (تشبه المدينة الجامعية) في قنا، حين سألني: في أي مدرسة سَجَّلت لإعادة امتحان الثانوية العامة؟ فقلت ببساطة: حينما أنهي امتحانات كلية التجارة سأذهب لأمتحن في إدفو، فسألني: هل أعدت قيدك في إدفو؟! فقلت: لا، فقال: كيف؟! لقد انتهى وقت التسجيل وإعادة القيد!

وقعت الصدمة فوق رأسي، وبكيت بكاءً شديداً في تلك الليلة، وحاولت من الصباح أن أعيد تسجيلي لامتحان الثانوية العامة وبذلت كل ما أستطيع إلا أنني لم أنجح، وزاد همِّي وغمِّي أضعافاً مضاعفة، لقد فاتني حلمي في الطب حين توقفت أمام هذه المسألة التي كانت أصلاً خاطئة، ثم لم أدخل كلية الهندسة لكي أحفظ لنفسي إمكانية إعادة امتحان الثانوية العامة، ثم ها أنا أكتشف أن امتحان الثانوية العامة نفسه قد ضاع أيضاً! وتذكرت يومها صديقي ورفيق الدراسة أحمد سالم الذي التحق بكلية العلوم وألحَّ علي أن أدخلها معه لنتفوق معاً ولنكون من بعدها أساتذة بالكلية، إلا أنني واجهت إلحاحه بإلحاح مقابل: أني إنما دخلت كلية التجارة لإعادة امتحان الثانوية العامة!

تحطمت آمالي، وصرت في موقف لم يمرّ علي مثله من قبل، وكرهت كلية التجارة التي صارت سجني من بعد ما كنتُ أظنها وسيلتي ومعبراً لي إلى ما أحب، فلم أهتم بأن أذاكر، ونجحت بصعوبة في السنة الأولى، ووجدتني أنجح بصعوبة بينما صديقي أحمد سالم الذي طالما ألحَّ على أن أكون معه قد نجح بتقدير جيد جداً في كلية العلوم، وبقية أصدقائي بين الطب والهندسة، وهكذا انتهى مساري الدراسي أسوأ نهاية: لا أنا تفوقت في الثانوية العامة، ولا دخلت الطب، ولا دخلت الهندسة، ولا استطعت العودة إلى الثانوية العامة، ولا تفوقت في كلية التجارة!

حصل هذا كله في أول عهد السادات، أو كما كان يقول "دولة العلم والإيمان"، وقد كنتُ حتى ذلك الوقت في الاتحاد الاشتراكي، فكنتُ مع التيار اليساري ضد السادات، لا سيما وقد كانت الأخبار تنقل أخبار التوتر في العلاقات بين السادات والاتحاد السوفيتي وأن السوفيت لا يعطون الأسلحة الضرورية التي يحتاجها السادات وأن هذا ما يؤخر التحرك العسكري، ولهذا فلن يكون عام 1971 هو عام الحسم كما كان يقال لنا.

مر عام 1971، ثم وراءه 1972، ولا حسم ولا حرب، فشرع اليسار المصري بتنظيم مظاهرات كثيرة، وكنت أشارك فيها كطالب عادي أو كمواطن مصري، مجرد مشاركة ليس فيها تزعم، ففي ذلك الوقت لم تكن قضايا الشأن العام تشغلني كثيراً، وسائر ما كان مني قبل هذا إنما كان بسبب إغراء تجربة عبدالناصر في الانقلاب العسكري، وكان دخولي الاتحاد الاشتراكي لطبيعة تفوقي الدراسي، ولذلك فقد كنت حتى تلك اللحظة عضواً في الاتحاد الاشتراكي وعضواً في الطريقة الصوفية.

ولم يكن الجمع بين عضوية الاتحاد الاشتراكي والصوفية عملاً متناقضاً آنذاك كما قد يبدو الآن، بل إن كثيراً من قيادات الدولة كان يغلب عليها الطابع الصوفي، حتى في أمن الدولة، وكان رئيس مجلس المدينة صوفياً، ومأمور القسم صوفياً. والجمع بين ذلك بسيط: فالتدين على الشكل الصوفي تدين مرغوب فيه من جانب الدولة، وأستطيع أن أشهد على هذا من واقع ما رأيته وعاينته، بل لقد كان جزءاً من الدعاية الإعلامية لعبدالناصر أنه مدعوم من الأقطاب الصوفية الأربعة، ومما كان ينتشر في زماننا أن بريطانيا ألقت قنبلة ذرية على القاهرة فصدَّها عن القاهرة شيخ الصوفية الأكبر في مصر، وذلك أنه صعد في السماء وأمسك بالقنبلة ثم أراحها على قبة الجامع الأقمر فلم تنفجر، ولا تزال موضوعة فوق القبة حتى الآن. فمن هاهنا كانت الهالة الإعلامية حول جمال عبدالناصر تحتوي طيفاً صوفياً فلم يقع التناقض في نفوس الكثيرين بين عضوية الاتحاد الاشتراكي وعضوية الصوفية.

بل كان المـُوَجِّهون في الاتحاد الاشتراكي يغلب عليهم الطيبة، بل كان المـُوَجِّه العام على مستوى أسوان واسمه الأستاذ سعد وكان مُصَعَّدًا من الطبقة العمالية، ودخل لانتخابات حتى صار الأمين العام على مستوى أسوان، وكان شاباً في الثلاثينات من عمره، وكان يتحدث عن إصلاح الدولية وكيفية بنائها، وهو هو نفسه كان يؤمنا في الصلاة. إلا أنهم أخذوا من الاشتراكية ما وافق شهوة الشباب، فكانوا يأخذون منها العلاقات المحرمة مع الفتيات وأن يكون بينهم علاقة خارج الزواج، وتلك من الأمور التي دفعتني لترك الاشتراكية والتوجه للتيار الإسلامي الذي كان يتشكل في أعوام 1974، 1975م.
وفيما قبل حرب أكتوبر كانت تسود حالة من الغليان تشمل جميع الشباب بلا استثناء، وكان التفكير السائد هو التفكير في تحرير فلسطين، لم يكن أحد ينادي بتحرير سيناء بل ولم نكن نشعر أن سيناء هي المحتلة بقدر ما كنا نشعر أن المعركة حول فلسطين بل وسوريا أيضاً.

لكن قبل الذهاب إلى وصف ما حصل في حرب أكتوبر أحب أن أتوقف هنا في نبذة مهمة عن العلاقة بيننا وبين آبائنا وأهالينا في هذه الفترة:
ليس ثمة شيء متميز في أسرتي، كانت أسرة عادية، متوسطة أو حتى أقل من المتوسطة، وفيما يخص –مثلاً- أني لم ألتحق بكلية الطب أو الهندسة، كان أبي يشعر بأنني طالب متميز ومتدين، وكان يشعر أن هذا حدث بقدر الله، لم يكن متديناً بل مسلماً عادياً ولكنه كان متوكلاً على الله للغاية، فكان يقول: هذا قدر الله، وأنت على كل حال ستذهب إلى الجامعة. كانت ثقافة الناس وقتها أن الطالب طالما سيدخل الجامعة فالفارق ليس كبيراً بين الكليات. وكان يعزز من شعوره هذا أن أصدقائي حين كانوا يزورونني في البيت كانوا لا يتحرجون من إظهار اعترافهم بتفوقي وتميزي وأن المسألة حظوظ في نهاية الأمر. نعم، كان هذا يزيد من حزنه ولكن كان يزيد أيضاً من تعاطفه وتشجيعه لي، وهكذا كانت أمي وكان إخوتي.. لقد كانوا يتخذونني قدوة!

وتلك على الحقيقة لم تكن مزية خاصة بي، وهذا هو ما أريد التركيز عليه هنا، لقد كان جيلنا هذا من الشباب هو الجيل الذي قاد آباءه وأثَّر فيهم أكثر بكثير مما قادوه وأثروا به، إن قصتي مع أهلي هي قصة مكررة لإخوة الجماعة الإسلامية مع أهاليهم، وأتذكر هاهنا مثلاً معبراً:

كنت أذهب مع أبي لشركة بيع المصنوعات المصرية، والتي كان عُمَّال المصنع يأخذون منها حاجتهم، فكنت أقف مع أبي في الصف، وكان يريد أن يتقدم الناس لأولوية أنه عامل، وكان الذي يبيع يتحرج من نهره كما ينهر غيره من الناس إن تجاوزوا أدوارهم لكونه من عمال المصنع، فكنت أنا الذي أقول له: يا أبي لا بد أن نلتزم دورنا، وإذا أحببت ألا تقف لطول الوقوف فاجلس وأنا أقف مكانك في الصف حتى يأتي دورك. وحين يقع مثل هذا الكلام أمام الناس والعاملين كانوا يأذنون لنا في أن نتقدم عليهم ونأخذ أولاً.
هكذا كان الآباء يشعرون تجاهنا بشعور الاعتزاز والفخر، لم نكن مثل أبناء اليوم مع آبائهم، أولئك الذين يغلب عليهم التمرد، وإني حين أقارن بين علاقتي مع أبي وعلاقتي مع ابني عمار مثلاً أرى أن أبي كان ينصحني بألا أتهور وألا أواجه السلطة، وكان يُذَكِّرني دائما بأننا لا نستطيع مواجهة الحكومة، يقول: لدي أبناء غيرك وأريد أن أربيهم وأرعاهم كما ربيتك ورعيتك. وعندما أطلقت لحيتي قال لي: ليست لدي مشكلة في هذه المسألة لكن إن اعتقلوك فمركز ادفو بعيد عنا ولن أستطيع حتى أن أساعدك.

ومن المواقف الطريفة المتعلقة بهذا الأمر أنني عندما اعتقلت سنة 1982 جاءني لزيارتي في معتقلي بالقاهرة، فذكّرته بهذا وقلت: جئتني إلى مصر (القاهرة) وليس ادفو؟! فقال: ألا زلت تذكر؟! وهل هناك من يترك ابنه، وبكى! فقلت له: ما رأيك يا أبي أني إذا خرجت من المعتقل فسأحلق لحيتي، فقال: إن فعلتَ فلست ابني. لم أكن جادًّا بطبيعة الحال وإنما كنت أحاول اختبار موقفه!

أما بالنسبة لابني عمار فإني أقنعه أن يخرج في المظاهرات فيشارك إخوانه والشباب فيرفض، ويجادلني قائلا: لم نفعل شيئاً في الجماعة الإسلامية طوال عشرين سنة، ثم يقول: اترك لي اختيار الطريق الذي أريده. وهكذا، كنت أحث أبي على الفضيلة، ثم إني أحث ابني على الفضيلة، كأن الموضوع قد انعكس تماماً. لقد أثبتت التجربة أننا كنا ثوريين أكثر من أبنائنا!

شباب جيلنا أنشأ الجماعة الإسلامية من لا شيء، فإذا قلنا الآن إننا فشلنا وإن الإخوان فشلوا فأين الجيل الجديد؟ أين الذي ينشيء تنظيماً جديداً يكون بديلاً لهذه التجارب التي يراها فاشلة؟! نحن في جيلنا كنا البديل لما نراه قد فشل، كنا بديلاً للإخوان حين لم يعجبنا سلوكهم، كانت ردة فعلنا إنشاء جماعة جديدة، كنا نطمح ونتحفز ونخطط لنقوم بانقلاب عسكري ولنقود ثورة شعبية ولنحكم مصر، وكنا ساعتها في العشرينات، أما شباب العشرينات اليوم فنحن نحاول أن نقنعهم بالعمل!

كانت وقفة لا بد منها، قبل أن أدلف إلى ما حصل في حرب أكتوبر..
‏١١‏/١٢‏/٢٠١٨ ٣:٢٧ م‏
فرق الأحكام بين بن لادن وعزام كرم الحفيان [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] مقدمة نشرع في هذه الورقة بتفصيل وتوضيح بعض ما أجملناه في المقالة السابقة، ونكرر التنويه بأن المرحلة المستهدفة بالعرض والتحليل هي ما استقر وانتشر من فكر ونهج بن لادن وعزام لا ما سبق أو ما خرج عن النسق العام. بدايةً، تحسن الإشارة إلى أمرين هامين: الأول: استقلال بن لادن عن عزام على الصعيد العملي تم قبل قتل الأخير (لأسبابٍ ليس هنا محل سردها بالكامل)، دل على ذلك ترك بن لادن للعمل في مكتب خدمات المجاهدين (الذي أسسه عزام) وإيقاف تمويله له ، ثم إنشاء تنظيم القاعدة مطلع 1988م، إلا أن علاقتهما الشخصية بقيت جيدة حتى مقتل عزام 1989م. الثاني: السبب الأهم لجل الخلافات الفكرية الجذرية بين الشيخين (المرتبطة بأحكام التكفير والموقف من الجماعات) لاعلاقة لها بالتموضعات الجديدة للقوى العالمية والتفرد والهيمنة الأمريكية وتوابعها، أو تقلبات أداء الجماعات الإسلامية بعد وفاة عزام، إنما مردها لتغيرات مجردة طرأت على فكر بن لادن وشكلت منهجه الجديد بشكل تدريجي نتيجة تأثره بكوادر السلفية الجهادية خلال تسعينيات القرن الماضي وبواكير الألفية الميلادية الثالثة. ما يهمنا في الأسطر القادمة هو بسط وتفنيد الاختلافات الحادة في مسائل الأحكام، ولفت الأنظار إلى مخرجات آلية ومرجعية التفكيرعند بن لادن وعزام فيما يخص: الانخراط بالعمل السياسي الدستوري في ظل هيمنة المنظومة القانونية الغربية على العالم الإسلامي. يؤمن بن لادن بأن أي مشاركة سياسية في ظل القوانين الوضعية (المخالفة للشرع الإسلامي) الحاكمة منذ عشرات السنين محليةً كانت أوعالمية، هوعملٌ كفريٌ مخرج من الملة مهما كانت المعطيات والنيات والأهداف. يشمل هذا: جميع الحكام والحكومات المشرّعة للقوانين الوضعية أوالحاكمة بها أو المتحاكمة لها (بلا استثناء)، إضافةً إلى المنتخَبين والمنتخِبين في مجالس الشعب التشريعية (بشرط إدراكهم للصلاحيات التشريعية الممنوحة للبرلمانيين). جاء على لسان بن لادن في أهم بيان تأسيسي شمل الأحكام الجديدة التي تبناها (وأكّد على القديمة) بتاريخ 3 أغسطس 1995: "إن تحكيم القوانين الوضعية والتحاكم إليها هو بلا شك عبادة ممن يفعل ذلك لواضع هذه القوانين"، وجاء أيضاً: "ناهيك عما يحكم البلاد في علاقاتها الخارجية من تلك القوانين التي نأخذ مثالاً لها التزامكم بالتحاكم إلى هيئة تسوية المنازعات بين دول مجلس التعاون الخليجي، فهذه الهيئة.. هيئة كفرية قانونية بما لا يدع مجالاً للشك.. التحاكم إلى مثل هذه الهيئات.. كفرٌ بواحٌ مخرجٌ من الملة" . وإن كان هذا البيان موجهاً إلى ملك السعودية ونظامه وحكومته، إلا أن بن لادن أحال إلى فحواه كثيراً في الفترات اللاحقة وعمم الحكم الذي فيه: "فهؤلاء الحكام قد نقضوها من أساسها بموالاتهم للكفار، وبتشريعهم للقوانين الوضعية، وإقرارهم واحتكامهم لقوانين الأمم المتحدة الملحدة" . "فالعلة الكبرى في تكفيرنا للحكام أنهم لا يحكّمون شرع الله تعالى في جميع شؤوننا.. وما قلناه في البيان السابع عشر من الأدلة عن الحكام في ارتدادهم عن الملة وعدم التزامهم بمقتضيات "لا إله إلا الله" ينطبق كذلك على الزعامات الدينية في مجلس الحكم الانتقالي، وعلى أي زعامة أخرى في أي مجلس مشابه في العالم الإسلامي تقترف ما اقترفوه، حيث إن من أهم ما تعنيه كلمة "لا إله إلا الله" أي لا حاكم ولا مشرع إلا الله" . وبعد أن استعرض بن لادن حال الأمة منذ سقوط الخلافة وقيام الدول العلمانية، قال في أحد بياناته الموجهة إلى الأمة بعنوان "بيان الإيمان" في 2007م: "جاءت قيادات جعلت الدخول إلى الإصلاح من بوابة الشرك الديمقراطي، فأين ذهب إيمانهم وأين ذهبت عقولهم حتى يقتحموا هذه الأعمال الشركية المخرجة من الملة فظلوا يدورون في حلقة مفرغة منذ عقود" . وصرّح أيضاً: "فكيف إذا علمنا أن كثيراً من هذه الجماعات، قد شاركت في مجالس النواب التشريعية الشركية، وكل من يعلم حقيقة هذه المجالس، يعلم أن نواب هذه الجماعات، قد أقسموا بالله العظيم قسماً، يلزمهم باحترام والتزام ما جاء في دستور دولتهم الطاغوتية... وهذا اليمين لا يختلف فيه اثنان من أهل الإسلام بأنه عمل شركي قام به صاحبه عالماً طائعاً مختاراً وقد أفتى علماء أجلاء بكفر من قام بمثل هذا العمل الشركي" ، وهؤلاء العلماء أبرزهم: أبومحمد المقدسي وناصر الفهد وعلي الخضير ، وهم من أبرز شيوخ السلفية الجهادية. والمصدر المعتمد عندهم في تكييف وإطلاق الأحكام هو ميراث الحركة الوهابية الخالصة قبل اختلاطها بغيرها من الافكار والمدارس الإسلامية مطلع القرن العشرين. ومما قاله أيضاً في أحد رسائله: "فالملايين من المسلمين بما في ذلك الكثير من أعضاء الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، واقعون في الأعمال الشركية بسبب الانتخابات في المجالس التشريعية" . وفي أحد أهم كلماته الصوتية للأمة عامة وللعراقيين خاصة (قبيل أول انتخابات برلمانية أعقبت الاحتلال)، وفي سياق قبوله لبيعة الزرقاوي وتدشين فرع القاعدة في العراق، صرح بفتوى نصها: "إن كل من يشارك في هذه الانتخابات والتي سبق وصف حالها عن رضى وعلم، يكون قد كفر بالله تعالى" . والمقصود بالرضا هنا هو نقيض الإكراه وليس الرضا القلبي، والعلم هو إدراك الصلاحيات التشريعية التي يمنحها الدستورالوضعي للبرلمانيين. وعنده، جميع المسائل السابقة من قطعيات العقيدة التي لا تقبل الخلاف ولا يُعذر من قام بها، وهو في هذا يتبنى الرأي الأشد داخل التيار السلفي الجهادي، والذي يمثله المقدسي والخضير والفهد وغيرهم. من ناحيةٍ أخرى، وبالرغم من اتفاق عزام مع بن لادن وجزمه أن: الأساليب الانتخابية السلمية لا تقيم للإسلام دولة، وأنها ليست الحل الشامل أو الخيار الاستراتيجي لتحرير الأمة من سلطات ونفوذ الجاهلية داخلياً وخارجياً. فإن نظرته لحكم المشاركة السياسية للإسلاميين وأصحاب التوجه الإسلامي شديدة التفصيل ولا علاقة لها غالباً بمسائل الكفر والإيمان، إنما تتراوح بين الحل والحرمة بحسب ظرف كل بلد، طالما أن المشارك يظهر من سيرته وقرائن حاله وأدائه العملي السعي للإصلاح وتقليل الفساد والظلم ومعارضة القوانين المخالفة للشريعة والبعد عن العمالة للأعداء. ففيما يخص البرلمانات وحكم دخولها أجاب عزام على أحد الأسئلة المطروحة عليه قائلاً: "المجالس النيابية في بلد فيها رائحة حرية يكون فيها خير للمسلمين أو يخفف الظلم عن المسلمين، لكن لا يعمل دولة إسلامية ولا يقيم مجتمعاً إسلامياً هذا العمل" . وعلل رأيه شارحاً: "الذي يكون في مجلس نيابي وظيفته نقد الدولة والاعتراض..، فإذا كان همهم أن يبينوا للناس مساوئ هذه الدولة أو عيوبها أو يقومونها أو يخففون الظلم عن الناس، أرجو الله عز وجل أن لا يكون فيها شيء، وهذا خفف كثيراً من الظلم في بعض البلدان، أما إذا كان همه الدنيا فويلٌ له ثم ويل" . وفي موطن آخر، رداً على أحد السائلين عن دخول البرلمان إيماناً، قال عزام: "ليس إيماناً نحن نعيش في مجتمع جاؤوا لنا بأوروبا وقوانينها وطبقوها على رؤوسنا، هي فوق رأسك إن شئت أم غضبت". وحول الفائدة المرجوة من دخول البرلمان، أشار عزام إلى أن المسألة تقديرية، ولخص موقفه الإجمالي من هذه القضية بقوله: "مجلس النواب عبارة عن منبر من المنابر التي يمكن أن يوصل كلمة الحق فيها إلى الأمة، يعني هذا الذي أقتنع فيه منذ زمن والله أعلم، فقد أكون مخطئاً وقد أكون مصيباً" . أما فيما يتعلق بتولي الوزارات فموقفه العام تمثله كلماته التالية: "أما مجلس الوزراء أنا أظن والله أعلم أنه مجلس تنفيذي يحرم الدخول فيه"، بعكس مجلس النواب الذي يتيح المعارضة، إلا أنه في الوقت ذاته كان يحترم اجتهاد العلماء الآخرين المخالفين له، وقد ذكر حواراً دار بينه وبين أحد أشهر علماء الهند أبي الحسن الندوي: "ذات مرة تناقشت أنا وأبو الحسن الندوي على الوزارة، فقلت له نحن نرى أن الدخول في الوزارة في بلادنا مصيبة من المصائب بالنسبة للداعية، وكنت أتكلم معه، أقول له عن الحركة الإسلامية، أي واحد يدخل الوزارة يفصلونه، فغضب غضباً شديداً فقال: لا لا لا، نحن نبحث عن شرطي مسلم ليخفف الرشاشات عن المسلمين عندما تفتح في الهند... لا تتشددوا في هذه القضايا، هذا رأي الأستاذ الندوي بارك الله في عمره، وهو بقيةٌ من السلف الصالح نحسبه كذلك" . تظهر ثمرة هذا (الاحترام للاجتهاد الآخر) في ثنايا ثنائه الكبير على عدة تجارب، منها على سبيل المثال: تجربة عدنان منديرس (الذي أعاد الأذان باللغة العربية لتركيا)، والتجربة السياسية الماراثونية للحركة الإسلامية بتركيا (بقيادة نجم الدين أربكان)، التي شاركت وشكلت عدة حكومات، ووصل قادتها في بعض الأحيان لمنصب رئاسة الوزراء ، وتجربة إسحاق الفرحان وزير التربية والتعليم بالأردن . ذات الأمر ينطبق على رأيه بضياء الحق رئيس باكستان الأسبق، فقد كان محل ثقة عزام، وقد وصفه بالشهيد فور مقتله. هذا رغم إقرارعزام بوقوع الدولة الباكستانية وقتها في مجال الوصاية الأمريكية، وبتحكم الشيعة والقاديانيين في غالب مؤسسات الدولة، إلا أنه أكبر في ضياء الحق بذله الجهد الواسع في تغيير الدولة من داخلها. قال عزام: "طبعا باكستان هي تحت وصاية أمريكا.. لكن ضياء الحق نفسه حتى الآن أنا اظن أنه رجل طيب" ، "كبار المناصب كان يستلمها الشيعة والقاديانيون والإسماعيلية، اقتصاد البلد، الطيران، المخابرات، الجيش، كلها بيد هذه الطوائف الثلاثة... فجاء ببعض الطيبين، منهم هذا قائد الجيش الموجود ميرزا أسلم بيك، وجاء بحميد غل مديراً للاستخبارات.. نظّف نظّف نظّف، هذا الذي استطاع أن ينظفه، ولم يجد أحداً أن يساعده.. نحن نظن أنه شهيد بإذن الله" . والخلاصة التي وصل إليها عزام في مسألة التعاطي مع القوانين الوضعية بعد بحث طويل ، أن: "الحاكم الذي يشرّع (ليس يطبق) يشرّع بغير ما أنزل الله يعني يقنن قوانين ويأمر بنصوص قانونية مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، هذا يخرج من الإسلام، وكذلك المقنن الذي يصوغها في مواد قانونية، المشرّعون هؤلاء" إضافةً إلى "أي واحد في مجلس الأمة يوافق على أي مادة قانونية تناقض شرع الله" . خاتمة رأينا التفاوت الكبير في إطلاق الأحكام وفي تنزيلها على أرض الواقع بين بن لادن وعزام، على الرغم من اشتراكهما في الكثير من التفاصيل العقدية النظرية (السلفية المعاصرة)، وفي التصور الفكري (المقتبس من سيد قطب)، وذلك للتباين الكبير في العقلية الفقهية التي يميل لها كل طرف، والتي ترسم له مسار أحكامه وفتاويه. فعقلية عزام الأصولية معتادةٌ على تنوع الاجتهادات وتعدد المسالك في استنباط الأحكام، وتأخذ بعين الاعتبار بواعث الأعمال وقرائن الأحوال والقدرة والمآل (في مختلف نواحي الحياة ومنها العمل السياسي)، فلذا تتجنب التعميم وتجنح للتخصيص والتفصيل، ولا تخلط الثابت بالمتغير والعقيدة بالفقه، وتحذّر من التشكيك في عقيدة وتوحيد العاملين للإسلام وعموم المسلمين. أما عقلية بن لادن (في هذا الجانب) فكما رأينا، تعتنق الفكرة وتجعلها المعيار الأوحد، ثم تزن جميع الآراء الأخرى بها، ولا تبحث كثيراً عن جذور الاختلاف وأسبابه، ولا تتهيب من إلصاق أقصى الأحكام بجموع هائلة من العاملين للإسلام وعموم المسلمين، وذلك لتشبّعها واعتمادها (فقهياً) على: المسار التاريخي السياسي للحركة الوهابية، والنفسية التي حملتها في صراعها الدامي ذي الصبغة العقائدية مع غالب المدارس والكيانات السنية في الأمة. وبمقارنة بسيطة بين مفعول العقليتين في ساحات الجهاد والثورة والعمل الإسلامي في ثلاثة عقود مضت، تظهر أهمية إحياء فريضة الاعتبار الغائبة.
فرق الأحكام بين بن لادن وعزام

كرم الحفيان

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

مقدمة

نشرع في هذه الورقة بتفصيل وتوضيح بعض ما أجملناه في المقالة السابقة، ونكرر التنويه بأن المرحلة المستهدفة بالعرض والتحليل هي ما استقر وانتشر من فكر ونهج بن لادن وعزام لا ما سبق أو ما خرج عن النسق العام.
بدايةً، تحسن الإشارة إلى أمرين هامين:

الأول: استقلال بن لادن عن عزام على الصعيد العملي تم قبل قتل الأخير (لأسبابٍ ليس هنا محل سردها بالكامل)، دل على ذلك ترك بن لادن للعمل في مكتب خدمات المجاهدين (الذي أسسه عزام) وإيقاف تمويله له ، ثم إنشاء تنظيم القاعدة مطلع 1988م، إلا أن علاقتهما الشخصية بقيت جيدة حتى مقتل عزام 1989م.

الثاني: السبب الأهم لجل الخلافات الفكرية الجذرية بين الشيخين (المرتبطة بأحكام التكفير والموقف من الجماعات) لاعلاقة لها بالتموضعات الجديدة للقوى العالمية والتفرد والهيمنة الأمريكية وتوابعها، أو تقلبات أداء الجماعات الإسلامية بعد وفاة عزام، إنما مردها لتغيرات مجردة طرأت على فكر بن لادن وشكلت منهجه الجديد بشكل تدريجي نتيجة تأثره بكوادر السلفية الجهادية خلال تسعينيات القرن الماضي وبواكير الألفية الميلادية الثالثة.

ما يهمنا في الأسطر القادمة هو بسط وتفنيد الاختلافات الحادة في مسائل الأحكام، ولفت الأنظار إلى مخرجات آلية ومرجعية التفكيرعند بن لادن وعزام فيما يخص: الانخراط بالعمل السياسي الدستوري في ظل هيمنة المنظومة القانونية الغربية على العالم الإسلامي.

يؤمن بن لادن بأن أي مشاركة سياسية في ظل القوانين الوضعية (المخالفة للشرع الإسلامي) الحاكمة منذ عشرات السنين محليةً كانت أوعالمية، هوعملٌ كفريٌ مخرج من الملة مهما كانت المعطيات والنيات والأهداف.

يشمل هذا: جميع الحكام والحكومات المشرّعة للقوانين الوضعية أوالحاكمة بها أو المتحاكمة لها (بلا استثناء)، إضافةً إلى المنتخَبين والمنتخِبين في مجالس الشعب التشريعية (بشرط إدراكهم للصلاحيات التشريعية الممنوحة للبرلمانيين).

جاء على لسان بن لادن في أهم بيان تأسيسي شمل الأحكام الجديدة التي تبناها (وأكّد على القديمة) بتاريخ 3 أغسطس 1995: "إن تحكيم القوانين الوضعية والتحاكم إليها هو بلا شك عبادة ممن يفعل ذلك لواضع هذه القوانين"، وجاء أيضاً: "ناهيك عما يحكم البلاد في علاقاتها الخارجية من تلك القوانين التي نأخذ مثالاً لها التزامكم بالتحاكم إلى هيئة تسوية المنازعات بين دول مجلس التعاون الخليجي، فهذه الهيئة.. هيئة كفرية قانونية بما لا يدع مجالاً للشك.. التحاكم إلى مثل هذه الهيئات.. كفرٌ بواحٌ مخرجٌ من الملة" .

وإن كان هذا البيان موجهاً إلى ملك السعودية ونظامه وحكومته، إلا أن بن لادن أحال إلى فحواه كثيراً في الفترات اللاحقة وعمم الحكم الذي فيه: "فهؤلاء الحكام قد نقضوها من أساسها بموالاتهم للكفار، وبتشريعهم للقوانين الوضعية، وإقرارهم واحتكامهم لقوانين الأمم المتحدة الملحدة" .

"فالعلة الكبرى في تكفيرنا للحكام أنهم لا يحكّمون شرع الله تعالى في جميع شؤوننا.. وما قلناه في البيان السابع عشر من الأدلة عن الحكام في ارتدادهم عن الملة وعدم التزامهم بمقتضيات "لا إله إلا الله" ينطبق كذلك على الزعامات الدينية في مجلس الحكم الانتقالي، وعلى أي زعامة أخرى في أي مجلس مشابه في العالم الإسلامي تقترف ما اقترفوه، حيث إن من أهم ما تعنيه كلمة "لا إله إلا الله" أي لا حاكم ولا مشرع إلا الله" .

وبعد أن استعرض بن لادن حال الأمة منذ سقوط الخلافة وقيام الدول العلمانية، قال في أحد بياناته الموجهة إلى الأمة بعنوان "بيان الإيمان" في 2007م: "جاءت قيادات جعلت الدخول إلى الإصلاح من بوابة الشرك الديمقراطي، فأين ذهب إيمانهم وأين ذهبت عقولهم حتى يقتحموا هذه الأعمال الشركية المخرجة من الملة فظلوا يدورون في حلقة مفرغة منذ عقود" .

وصرّح أيضاً: "فكيف إذا علمنا أن كثيراً من هذه الجماعات، قد شاركت في مجالس النواب التشريعية الشركية، وكل من يعلم حقيقة هذه المجالس، يعلم أن نواب هذه الجماعات، قد أقسموا بالله العظيم قسماً، يلزمهم باحترام والتزام ما جاء في دستور دولتهم الطاغوتية... وهذا اليمين لا يختلف فيه اثنان من أهل الإسلام بأنه عمل شركي قام به صاحبه عالماً طائعاً مختاراً وقد أفتى علماء أجلاء بكفر من قام بمثل هذا العمل الشركي" ، وهؤلاء العلماء أبرزهم: أبومحمد المقدسي وناصر الفهد وعلي الخضير ، وهم من أبرز شيوخ السلفية الجهادية. والمصدر المعتمد عندهم في تكييف وإطلاق الأحكام هو ميراث الحركة الوهابية الخالصة قبل اختلاطها بغيرها من الافكار والمدارس الإسلامية مطلع القرن العشرين.

ومما قاله أيضاً في أحد رسائله: "فالملايين من المسلمين بما في ذلك الكثير من أعضاء الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، واقعون في الأعمال الشركية بسبب الانتخابات في المجالس التشريعية" .

وفي أحد أهم كلماته الصوتية للأمة عامة وللعراقيين خاصة (قبيل أول انتخابات برلمانية أعقبت الاحتلال)، وفي سياق قبوله لبيعة الزرقاوي وتدشين فرع القاعدة في العراق، صرح بفتوى نصها: "إن كل من يشارك في هذه الانتخابات والتي سبق وصف حالها عن رضى وعلم، يكون قد كفر بالله تعالى" . والمقصود بالرضا هنا هو نقيض الإكراه وليس الرضا القلبي، والعلم هو إدراك الصلاحيات التشريعية التي يمنحها الدستورالوضعي للبرلمانيين.

وعنده، جميع المسائل السابقة من قطعيات العقيدة التي لا تقبل الخلاف ولا يُعذر من قام بها، وهو في هذا يتبنى الرأي الأشد داخل التيار السلفي الجهادي، والذي يمثله المقدسي والخضير والفهد وغيرهم.

من ناحيةٍ أخرى، وبالرغم من اتفاق عزام مع بن لادن وجزمه أن: الأساليب الانتخابية السلمية لا تقيم للإسلام دولة، وأنها ليست الحل الشامل أو الخيار الاستراتيجي لتحرير الأمة من سلطات ونفوذ الجاهلية داخلياً وخارجياً. فإن نظرته لحكم المشاركة السياسية للإسلاميين وأصحاب التوجه الإسلامي شديدة التفصيل ولا علاقة لها غالباً بمسائل الكفر والإيمان، إنما تتراوح بين الحل والحرمة بحسب ظرف كل بلد، طالما أن المشارك يظهر من سيرته وقرائن حاله وأدائه العملي السعي للإصلاح وتقليل الفساد والظلم ومعارضة القوانين المخالفة للشريعة والبعد عن العمالة للأعداء.

ففيما يخص البرلمانات وحكم دخولها أجاب عزام على أحد الأسئلة المطروحة عليه قائلاً: "المجالس النيابية في بلد فيها رائحة حرية يكون فيها خير للمسلمين أو يخفف الظلم عن المسلمين، لكن لا يعمل دولة إسلامية ولا يقيم مجتمعاً إسلامياً هذا العمل" .

وعلل رأيه شارحاً: "الذي يكون في مجلس نيابي وظيفته نقد الدولة والاعتراض..، فإذا كان همهم أن يبينوا للناس مساوئ هذه الدولة أو عيوبها أو يقومونها أو يخففون الظلم عن الناس، أرجو الله عز وجل أن لا يكون فيها شيء، وهذا خفف كثيراً من الظلم في بعض البلدان، أما إذا كان همه الدنيا فويلٌ له ثم ويل" .

وفي موطن آخر، رداً على أحد السائلين عن دخول البرلمان إيماناً، قال عزام: "ليس إيماناً نحن نعيش في مجتمع جاؤوا لنا بأوروبا وقوانينها وطبقوها على رؤوسنا، هي فوق رأسك إن شئت أم غضبت". وحول الفائدة المرجوة من دخول البرلمان، أشار عزام إلى أن المسألة تقديرية، ولخص موقفه الإجمالي من هذه القضية بقوله: "مجلس النواب عبارة عن منبر من المنابر التي يمكن أن يوصل كلمة الحق فيها إلى الأمة، يعني هذا الذي أقتنع فيه منذ زمن والله أعلم، فقد أكون مخطئاً وقد أكون مصيباً" .

أما فيما يتعلق بتولي الوزارات فموقفه العام تمثله كلماته التالية: "أما مجلس الوزراء أنا أظن والله أعلم أنه مجلس تنفيذي يحرم الدخول فيه"، بعكس مجلس النواب الذي يتيح المعارضة، إلا أنه في الوقت ذاته كان يحترم اجتهاد العلماء الآخرين المخالفين له، وقد ذكر حواراً دار بينه وبين أحد أشهر علماء الهند أبي الحسن الندوي: "ذات مرة تناقشت أنا وأبو الحسن الندوي على الوزارة، فقلت له نحن نرى أن الدخول في الوزارة في بلادنا مصيبة من المصائب بالنسبة للداعية، وكنت أتكلم معه، أقول له عن الحركة الإسلامية، أي واحد يدخل الوزارة يفصلونه، فغضب غضباً شديداً فقال: لا لا لا، نحن نبحث عن شرطي مسلم ليخفف الرشاشات عن المسلمين عندما تفتح في الهند... لا تتشددوا في هذه القضايا، هذا رأي الأستاذ الندوي بارك الله في عمره، وهو بقيةٌ من السلف الصالح نحسبه كذلك" .

تظهر ثمرة هذا (الاحترام للاجتهاد الآخر) في ثنايا ثنائه الكبير على عدة تجارب، منها على سبيل المثال: تجربة عدنان منديرس (الذي أعاد الأذان باللغة العربية لتركيا)، والتجربة السياسية الماراثونية للحركة الإسلامية بتركيا (بقيادة نجم الدين أربكان)، التي شاركت وشكلت عدة حكومات، ووصل قادتها في بعض الأحيان لمنصب رئاسة الوزراء ، وتجربة إسحاق الفرحان وزير التربية والتعليم بالأردن .

ذات الأمر ينطبق على رأيه بضياء الحق رئيس باكستان الأسبق، فقد كان محل ثقة عزام، وقد وصفه بالشهيد فور مقتله. هذا رغم إقرارعزام بوقوع الدولة الباكستانية وقتها في مجال الوصاية الأمريكية، وبتحكم الشيعة والقاديانيين في غالب مؤسسات الدولة، إلا أنه أكبر في ضياء الحق بذله الجهد الواسع في تغيير الدولة من داخلها.

قال عزام: "طبعا باكستان هي تحت وصاية أمريكا.. لكن ضياء الحق نفسه حتى الآن أنا اظن أنه رجل طيب" ، "كبار المناصب كان يستلمها الشيعة والقاديانيون والإسماعيلية، اقتصاد البلد، الطيران، المخابرات، الجيش، كلها بيد هذه الطوائف الثلاثة... فجاء ببعض الطيبين، منهم هذا قائد الجيش الموجود ميرزا أسلم بيك، وجاء بحميد غل مديراً للاستخبارات.. نظّف نظّف نظّف، هذا الذي استطاع أن ينظفه، ولم يجد أحداً أن يساعده.. نحن نظن أنه شهيد بإذن الله" .

والخلاصة التي وصل إليها عزام في مسألة التعاطي مع القوانين الوضعية بعد بحث طويل ، أن: "الحاكم الذي يشرّع (ليس يطبق) يشرّع بغير ما أنزل الله يعني يقنن قوانين ويأمر بنصوص قانونية مخالفة لنصوص الكتاب والسنة، هذا يخرج من الإسلام، وكذلك المقنن الذي يصوغها في مواد قانونية، المشرّعون هؤلاء" إضافةً إلى "أي واحد في مجلس الأمة يوافق على أي مادة قانونية تناقض شرع الله" .

خاتمة

رأينا التفاوت الكبير في إطلاق الأحكام وفي تنزيلها على أرض الواقع بين بن لادن وعزام، على الرغم من اشتراكهما في الكثير من التفاصيل العقدية النظرية (السلفية المعاصرة)، وفي التصور الفكري (المقتبس من سيد قطب)، وذلك للتباين الكبير في العقلية الفقهية التي يميل لها كل طرف، والتي ترسم له مسار أحكامه وفتاويه.

فعقلية عزام الأصولية معتادةٌ على تنوع الاجتهادات وتعدد المسالك في استنباط الأحكام، وتأخذ بعين الاعتبار بواعث الأعمال وقرائن الأحوال والقدرة والمآل (في مختلف نواحي الحياة ومنها العمل السياسي)، فلذا تتجنب التعميم وتجنح للتخصيص والتفصيل، ولا تخلط الثابت بالمتغير والعقيدة بالفقه، وتحذّر من التشكيك في عقيدة وتوحيد العاملين للإسلام وعموم المسلمين.

أما عقلية بن لادن (في هذا الجانب) فكما رأينا، تعتنق الفكرة وتجعلها المعيار الأوحد، ثم تزن جميع الآراء الأخرى بها، ولا تبحث كثيراً عن جذور الاختلاف وأسبابه، ولا تتهيب من إلصاق أقصى الأحكام بجموع هائلة من العاملين للإسلام وعموم المسلمين، وذلك لتشبّعها واعتمادها (فقهياً) على: المسار التاريخي السياسي للحركة الوهابية، والنفسية التي حملتها في صراعها الدامي ذي الصبغة العقائدية مع غالب المدارس والكيانات السنية في الأمة.
وبمقارنة بسيطة بين مفعول العقليتين في ساحات الجهاد والثورة والعمل الإسلامي في ثلاثة عقود مضت، تظهر أهمية إحياء فريضة الاعتبار الغائبة.
‏٠٩‏/١٢‏/٢٠١٨ ٧:٥١ م‏
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية (3) تسليح الثورة.. البدايات والمآلات الصغير @[100001613664823:2048:منير] [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] لا يمكن لأي ثورة أياً كانت دوافعها وغاياتها أن تنجح بلا مال. فلا سلاح بلا مال، ولا غذاء للجيش ولا وقود للعربات ولا دواء بلا مال. بل لا يكاد يكون هناك شيء ذو بال له علاقة بالعمل العسكري بدون مال. ويستوي في ذلك الجيوش القديمة والحديثة، بل حتى حين كان الجهاد تطوعاً في غالبه إبّان تاريخ المسلمين في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت الجيوش تحتاج إلى المال، ومن هنا جاء حضّ القرآن على الإنفاق في سبيل الله والإشادة بالمنفقين في الجهاد، وفي السيرة من القصص والحوادث ما يثير الإعجاب والحيرة أحياناً من مستوى البذل والعطاء الذي عرفه مجتمع الصحابة، تجلّى في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك من طرف عثمان بن عفان رضي الله عنه. كان التحدّي الأكبر أمام قيادة الثورة الجزائرية هو توفير السلاح، ولم يكن هناك جهة أو دولة قبل الثورة تهب السلاح دون دفع ثمنه أو حتى من أجل تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية، ولم يكن المخططون للثورة ليجازفوا بالكشف عن الساعة الصفر لانطلاق الثورة التي لم يعلم بها الغالبية المطلقة من المجاهدين الذين نذروا أنفسهم لتفجيرها إلا أياماً أو أسابيع قبل انطلاقها. البدايات: المنظمة الخاصّة أما قبل الثورة ومنذ تأسيس المنظمة الخاصّة عام 1947 من طرف حزب الشعب لتكون ذراعاً عسكرياً ضارباً في وقت الحاجة إليه؛ فقد كان المال الذي اشترى به السلاح كلّه من اشتراكات أعضاء الحزب وأعضاء المنظمة الخاصة، وبعض السلاح كان من بقايا الحرب العالمية الأولى والثانية خاصة السلاح الألماني والإيطالي. اشتري أكثر السلاح من ليبيا ودخل الجزائر عن طريق المهرّبين. وكان أعضاء المنظمة قد تمكنوا من الحصول على بعض الذخيرة التي تركتها القوات الأمريكية بعد إنزالها في الجزائر. وقد كان لعملية بريد وهران وغنيمة أمواله دور فعّال في توفير ميزانية سدّت ثغرة كبيرة في تدبّر أمر السلاح، فلم يكن أعضاء الحزب ولا المنظمة من ذوي الثراء أو الأعمال والوظائف التي تمكنهم أن يتحصلوا على المال الكافي لتسليح ثورة أو منظمة تحضّر لثورة. لقد كان ما تحصل عليه المجاهدون من ليبيا يقارب أو يفوق 300 قطعة بين بندقية ومسدس ورشاش، كما جُمع في الشمال ما يقارب 100 قطعة بين مسدس ورشاش وقنابل يدوية. ولم تكن الأسلحة التقليدية المصنوعة محلياً غائبة عن تسليح المنظمة الخاصة برغم أن المصادر لا تذكر شيئا كبيراً عنها، مثلها مثل الأسواق والمناطق التي كانت معروفة ببيع السلاح سرّاً، وكان أكثر السلاح الذي يُباع في الأسواق هو بنادق الصيد. وكانت المتفجرات التي استطاع أعضاء المنظمة الحصول عليها غالبيتها معدّ للمحاجر من أجل تفجير المناجم أو تفجير بعض الأماكن لشق الطرقات وغيرها، وهي مثل السلاح بعضها اشتري بطريقة غير قانونية وبعضها عن طريق التهريب أو السطو على مخازن الشركات التي تمتلكها. كما أن أعضاء المنظمة الخاصّة استطاعوا الحصول على بعض أجهزة الإرسال والإشارات أو الملحقات الإلكترونية المتعلقة بها شراء أو عن طريق غنيمتها؛ كما حدث في معامل الطيران المدني بعين البيضاء قريباً من العاصمة. وأمام اشتغال حزب الشعب بمصاريف أنشطته السياسية والتكفّل بعائلات المسجونين، لم يكن أمام المنظمة الخاصة خيارات وبدائل كثيرة. من أجل ذلك كان من القرارات المهمة التي اتخذتها قيادة المنظمة إلزام كلّ عضو بالحصول على سلاحه الخاصّ وبطريقته الخاصة سلباً أو شراءً أو تهريباً. وقد كانت بنادق الصيد متوفرة بكثرة في الجزائر، خاصة في القرى والأرياف والبوادي، ولكن لم يكن أبداً متاحاً جمعها أو الحصول عليها في وضع كان يبدو مستقراً وطبيعياً لا تشوبه أي اضطرابات أو أحداث تعكّر صفوه. وقد كان هذا الهدوء قبل الثورة خاصّة بأشهر مهماً جداً لمفجري الثورة والمخططين لها، حتى لا يستنفر الاحتلال قواته وأجهزته الأمنية للتتبع والتقصي لو كانت هناك أي مؤشرات توحي بأن شيئاً ما يُدبّر أو يُخطّط له في السرّ. لم يكن تخزين السلاح يطرح مشكلة كبرى بقدر ما كان يطرحها أمر تأمينه. وقد نجح أعضاء المنظمة في إخفاء أعداد كبيرة من قطع السلاح والذخيرة ولم يُعثر عليها إلا بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة واعتقال وتعذيب أعضائها. لقد كاد اكتشاف المنظمة أن يقضي على كل أمل في استمرار التحضير للثورة والعمل المسلّح. لقد اعتقل 500 عضو أو أكثر من أعضاء المنظمة، وتم تفكيك عد كبير من شبكاتها وكشف عدد من مخابئ السلاح والاستيلاء على محتوياتها، ولم يسلم من السلاح إلا ما كان مخزناً في منطقة الأوراس وبعض مناطق القبائل، بسبب وعورة تضاريسها وعدم وصول أجهزة أمن المحتلّ إلى معرفة شيء عنها. ولا يهمنا في هذا السياق أن نتحدث عن سبب اكتشاف المنظمة الخاصة ومن كان مسؤولاً عن ذلك، ولا عن التعذيب والتنكيل الذي تعرض له المعتقلون من أعضائها؛ فذلك موضوع آخر. لقد كان ما نجا من مخازن السلاح هو الذي وجده المجاهدون بين أيديهم لما حانت ساعة الصفر. بل إن بعض هجومات وعمليات الفاتح من نوفمبر تمّت بالخناجر والمُديّ والفؤوس وحرق لمباني والحقول وتحطيم أعمده الهاتف والكهرباء في بعض المناطق التي لم يتوفر لها السلاح، وهو ملمح يشير إلى إيمان وقوة وبسالة أولئك الرجال الذين فعلوا ذلك رحمهم الله تعالى. السلاح بعد انطلاق الثورة بعد ليلة أول نوفمبر 1954 لم يكن السلاح الذي يمتلكه المجاهدون أبدا ليكافئ حتى السلاح الموجود عند حرس الغابات أو الشرطة في بعض المدن الجزائرية المتوسطة..وكان عماده بنادق الصيد وبنادق مورز الألمانية التي كانت تعادل يومها رشاش الكلاشنيكوف وبعض قذائف المورتر والقنابل التقليدية محلية الصنع. ولكن الذي صنع الفارق كان الإيمانَ والعزيمة الصلبة والإرادة الفذّة والرغبة العارمة في إخراج المحتلّ الصليبي من أرض الجزائر. ولأن الثورة كان لها ممثلوها في القاهرة حيث مقرّ الجامعة العربية، وكان لها شبكاتها وعلاقاتها في كل من ليبيا وتونس والمغرب، وكان لها جنودها وشبكات تمويلها في أوروبا فقد كان واضحاً من البداية وبعد أن تجاوزت الثورة مرحلة الخطر بثبات وبسالة مجاهدي الأوراس لأكثر من ستة أشهر كما وعد الشهيد مصطفى بن بو العيد ووفّى به رجاله الذين تحملوا عبئاً وضغطاً هائلين ساحقين ولكن الله ثبتهم ونصرهم. أما بعد مضي الأشهر الستّة الأولى وبعد عملية الهجوم الكبرى في الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد زيغود يوسف؛ فقد أصبحت الثورة الشاملة أمراً واقعاً وأدركت فرنسا أن الأمر ليس مجرد اضطرابات عابرة أو سخطاً شعبياً مسلحاً يمكنها القضاء عليه بسهولة، وهي كانت تسوّق ذلك في إعلامها الداخلي والخارجي لدى حلفائها. لكن مما تجدر الإشارة إليه بوضوح في هذا السياق أن الثورة الجزائرية جاءت بأشهر فقط بعد هزيمة فرنسا النكراء في معركة ديان بيان فو في الفيتنام، وأنها كانت في سياق ما سمّي يومها بـ(تصفية الاستعمار).. فلم تكن الثورة الجزائرية يُتعامل معها كما يُتعامل مع الحركات الجهادية والمسلحة اليوم على أنها إرهاب، وقد ذكرنا سابقاً أن قيادة الثورة اتصلت مبكراً بالجامعة العربية في مصر وكانت لها صلات بالقيادة السياسية والأمنية المصرية وكانت لها علاقاتها مع السلطات المغربية والتونسية قبل الاستقلال وبعده، وكان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين دور كبير في إيصال صوت الثورة وربط علاقات مع جهات رسمية وشعبية في الشام والعراق فضلاً عن مصر.. كل هذه الملابسات جعلت التسلح النوعي الذي يناسب ثورة شعبية ممكناً ومتاحاً رغم التحديات التي كانت دائما ممثلة في: • رقابة ويقظة أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية. • في الخطين المكهربين: شال وموريس على الحدود الغربية والشرقية. • في تعاطي السلطات المغربية والتونسية سلباً مع عمليات تهريب أو شراء الأسلحة من بلديهما تحت ضغط الاحتلال، أو طلباً لمصالح سياسية من قيادة الثورة كالحدود أو غيرها. لقد كان أكثر السلاح الذي وصل المجاهدين في الداخل قادماً من: • الدول العربية : التي تأتي في مقدمتها مصر كمصدر أو مَعْبر. • دول المعسكر الشرقي: في إطار الحرب الباردة بينه وبين أوروبا كعضو في الحلف الأطلسي. • شبكات التهريب: التي كانت تمتد حتى الدول الأوروبية، والتي كانت تشتغل إما تطوعاً ونصرةً للثورة أو كشبكات تبيع وتشتري السلاح، وقد تركزت كبرى عمليات التهريب عبر المنافذ البحرية الغربية مروراً بإسبانيا والمغرب. • السوق السوداء: التي كانت تتاجر بيعاً وشراءً في بقايا الحرب العالمية الثانية، خاصّة من بنادق ومسدسات ومدافع هاون ومورتر وقنابل يدوية ورشاشات وذخيرة. • معامل صناعة الأسلحة والذخيرة التي أقامتها الثورة في الأراضي المغربية، خصوصاً والتي استطاعت تحقيق منجزات مهمة بمقاييس ذلك الوقت، وقد استطاعت مثلاً أن تنتج نصف مليون قنبلة يدوية و1000 مسدس رشاش نوع PH60 و 500 مدفع هاون وكمية معتبرة من العبوات. لقد استفادت الثورة الجزائرية من موجة عابرة للقارات من التعاطف، وجاءت في فترة كان اليسار الأوروبي في أوج عنفوانه الثوري؛ فانخرط عدد كبير من الشيوعيين ومن الفرنسيين أنفسهم في عمليات التهريب والتمويل لشراء الأسلحة وفي استخدام علاقاتهم للضغط في اتجاه يخدم الثورة. ومع ذلك فإن المجاهدين كانوا دائماً يشكون من نقص السلاح والذخيرة كماً ونوعاً، وقد عانوا الأمرّين من الطيران الفرنسي ولم تكن إلا مناطق قليلة تحوز مضادات للطيران، ولم يمتلك المجاهدون دبابات ولا عربات مدرعة ولا صواريخ. وقد زادت مشكلة التسليح تعقيداً وصعوبة بعد بناء خطي شال وموريس، وبعد النزاعات التي عرفتها قيادات الثورة الداخلية فيما بينها، وبين القيادة في الخارج. ولقد أضعف تناقص مستوى التسليح على أداء الثورة العسكري وأنهك المجاهدين في الداخل، لولا أن الثورة كانت قد اكتسبت زخماً من التعاطف السياسي الدولي خاصة بعد موقف الرئيس الأمريكي كنيدي منها إيجابياً، والذي قد يكون على الأرجح محاولة لصد المعسكر الشرقي أو لأنها قد تكون قناعة لديه! وكذلك بعد مظاهرات 11 ديسمبر 1961، هذا التعاطف أدخل القضية الجزائرية أروقة الأمم المتحدة ما خفّف العبء عن مجاهدي الداخل وأعطاهم أملاً يعوضهم نقص السلاح. كما لا ينبغي أن نغفل أبداً دور فرنسا الماكر في إضعاف المجاهدين حاملي السلاح عن طريق الحصار الشديد، لحساب مفاوضين سياسيين مرنين يمكن الوصول معهم إلى حلول وسط، وبعض منهم كان حتى السنتين الأوليين من الثورة ما زال يتبنى خط الاندماج ويطالب فقط بتحسين ظروف الجزائريين وحقوقهم السياسية؛ بل وعارض بطريقة أو أخرى الثورة المسلّحة. وقد أثمر هذا المكر الفرنسي المسنود بالمخابر والخبراء والتجربة مع المفاوضين الجزائريين في مفاوضات إيفيان السويسرية، الذين كانت صلة أكثرهم ضعيفة بالجهاد في الداخل أو كانوا ما زالوا على قناعاتهم القديمة اليسارية أو الاندماجية، أو كانوا في الغالب مبهورين بالحضارة الغربية ويرون فيها مثلاً أعلى، وهذه النفسيات من الصعب جداً أن تثبت أو تنتصر في مفاوضات مع عدو لدود متوحش ماكر مثل فرنسا. ولم يكن الأمر مقتصراً فقط على جانب المفاوضات من طرف فرنسا وإنما كان أيضاً إنهاك المجاهدين في الداخل بحرمانهم من السلاح كمّاً ونوعاً، وكانت فرنسا قد اقتنعت أن الاستقلال آتٍ لا محالة؛ فكانت السنوات الأربع الأخيرة حافلة بالمكائد والاختراقات والترتيبات التي تهيء الأرضية وتفتح الطريق أمام الدفعات التي كانت تعدّها فرنسا لتولي السلطة واختراق مؤسسات ما بعد الاستقلال. وقد حدث ذلك بالفعل على مستوى جيش التحرير عن طريق اختراقه بالضباط الهاربين من الجيش الفرنسي والمعروفين في الجزائر بضباط فرنسا، وعلى مستوى الإدارات المركزية والوزارات، ثم تجلّى ذلك كله بعد 30 سنة بوضوح في انقلاب 1992 ضد الخيار الشعبي الذي أفرز فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكان هناك أثر آخر جليّ في التسليح الذي تكفلت به الدول العربية وعلى رأسها مصر والمعسكر الشرقي والدعم الإعلامي والسياسي الذي قدمه اليساريون في العالم، أن استقر الاختيار في مؤتمر طرابلس قبيل الاستقلال على النهج الاشتراكي والبعد القومي بالمفهوم الذي كان يروّج له عبد الناصر يومها وكان سائداً في الساحة العربية كلها تقريباً، والذي تبنّاه الرئيس بن بلّة ثم هواري بومدين ولو بشكل مختلف عن سابقه، وأُقصي أي بُعد إسلامي للشعب الجزائري في الخيارات الاستراتيجية الكبرى ما عدا كلمات قليلة مبثوثة هنا وهناك في النصوص القانونية والبيانات السياسية كلها موهمة وحمالة أوجه وفي قضايا فرعية، ما عدا بيان أول نوفمبر الذي أشار بوضوح إلى أن الدولة الجزائرية ذات السيادة يجب أن تكون ديموقراطية اجتماعية في (إطار المبادئ الإسلامية)، وحتى هذه العبارة لم تسلم من التأويل والإقصاء الذي جعلها جزءاً من التاريخ لا أثر له في واقع الجزائريين. لقد كان التحدّي الأكبر أمام كل الثورات والحركات الجهادية الكبرى هو مشكل السلاح، وكان الاختراق والتحكّم في القرارات الكبرى والتوظيف ينطلق دائماً منها ويعتمد عليها، وفي ظل منظومة هيمنة عالمية بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية وشُبّكت وعُقّدت ورُبطت أجزاؤها بشبكة من القوانين والاتفاقيات والالتزامات التي تُجبر عليها الدول أو تنخرط فيها طواعية؛ كل ذلك جعل حركة أي قطعة سلاح من طرف لآخر محسوبة ومراقبة، وحتى لو نجحت فإن صاحبها سيكون معرّضاً للعقوبات والحصار وربما الاغتيال. لقد كان من حظ الثورة الجزائرية نسبياً أنها: • حدثت في زمن الثنائية القطبية. • وفترة الحرب الباردة. • وفي سياق سياسي وثقافي عالمي شعبي وإعلامي يطالب بتصفية الاستعمار القديم وإنهائه، وإن كان ذلك في الحقيقة لصالح أشكال جديدة من الاستعمار. • واستفادت من دعم عربي وإسلامي معتبر، جاء بعد ارتفاع لواء القومية العربية ومحاولة عبد الناصر تزعُّم العالم العربي. • وكانت ثورة انخرطت فيها نسبة مؤثرة من الشعب الجزائري برغم ثقل وطأة العمالة والخيانات، كما هو الشأن في ثورات كل شعوب العالم عبر التاريخ. أما ما حدث بعد ذلك من ثورات تحرر أو حركات جهادية لإسقاط الأنظمة فقد حُرمت من كل هذه الميزات والمعطيات، وأصبح السلاح نفسه الذي تحتاجه هذه الثورات والحركات سلاحاً ضدّها، وفي أيدي أعدائها يستخدمونه ضدّها لابتزازها أو توظيفها أو تحجيم دورها وإضعافها، حتى تقبل الإملاءات والشروط، أو حتى من أجل اختراقها لتصبح أداة مباشرة وصريحة للثورة المضادّة. ونحن هنا حين نتحدّث عن السلاح، فإننا نتحدّث حتماً عن المال الذي يُشترى به السلاح وتُضمن به احتياجات الجيوش اللوجيستية وغيرها؛ فهما مرتبطان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. لقد كان هذا تحدّياً في الماضي القريب وما زال. وما لم تحدث اختلالات وتصدّعات في بنية منظومة الهيمنة العالمية بين شرقه وغربه أو بين مكوّناته في الحلف الأطلسي أو بين الصين وروسيا أو بين دول الاتّحاد الأوروبي بما يتيح متنفساً يصبح فيه أمر السلاح متاحاً دون شروط ولا رقابة مباشرة، وما لم يردم المسلمون وهم رأس حربة التحرّر من منظومة الهيمنة في العالم الفجوة التقنية بشكل يتيح لهم الحصول على تقنيات ومعارف وعلوم تمكّنهم من صناعة السلاح ولو في المستوى الذي يسمح لهم فقط بالتحرّر من التوظيف والاختراق وبعيداً عن الأنظمة والدول الوظيفية؛ ليصبح ممكناً على المستوى الشعبي، وهو أمر بدأت بعض ملامحه تتضح وإن في شيء من الغموض والتحدّيات الكبرى، وما لم تقُم للمسلمين في العالم العربي أو الإسلامي عامّة دولة قويّة تتبنى قضاياهم بوضوح وتناصرهم بقوة وتدافع عنهم بإيمان وتدعمهم دون خشية حصار أو إسقاط وتوفّر لهم التدريب والتأهيل اللازمين فقط لأنهم مستضعفون ومظلومون ولأنهم مسلمون من حقّهم أن يعيشوا حياتهم بإسلامهم أعزة كرماء أحراراً.. ما لم يحدث ذلك فسوف يبقى التحدّي قائماً، ويبقى الأمر نفسه يتكرر بأشكال وصور مختلفة ولكن مآلها واحد: الاختراق والتوظيف والاحتواء لصالح دول الكفر وتوابعها من الأنظمة الوظيفية في العالم العربي والإسلامي. الخلاصة إن ثورة التحرير الجزائرية كانت عسكرياً من أكبر ثورات التحرير بجانب الحرب الفيتنامية وجهاد الشعب الأفغاني. ولكن ما حققته لم يكن هو الاستقلال الذي ترصّع تاجه السيادة الكاملة وإنما كان ما تحقّق هو ما يمكن تسميته بـ(الجلاء العسكري الفرنسي) عن الجزائر. فلقد تحقّق بعد الاستقلال من أهداف الاستعمار ما لم يتحقق قبله، ووقع من المسخ لهوية الشعب وسلخه عن دينه وتغريبه وتلويث أخلاقه وفصله عن مصادر قوّته واستلاب ثرواته الظاهرة والباطنة وتهجير طاقاته وكفاءاته من الشباب والعلماء، ما لم يحدث مثله إلا في بدايات الاحتلال وحتى قريب من الحرب العالمية الأولى، وتُوّج كل هذا التدمير الممنهج بالمحرقة التي تعرض لها الجزائريون بعد انقلاب 1992، والتي حدثت بتواطؤ كامل ودعم خفيّ من فرنسا وصمت من حلفائها الغربيين، إلا من التنديد والشجب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؛ تلك المحرقة المهولة التي تلتها (المرحلة البوتفليقية) التي وصفها الشيخ الأستاذ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين السابق أنها أسوأ مرحلة مرّت بها الجزائر منذ استقلالها. لقد دمّر الاستعمار الفرنسي كل مقدّرات الشعب الجزائري المادية، ولكن كان قد بقي له من دينه ولغته ما يحفظ وجوده من الاندثار، وكانت تضحيات الجزائريين ضخمة جدّاً بحيث تكون غنيمته الكبرى بعد حرب تحريرية مثل هذه أن يستعيد من قوته وأصالته ونهضته المادية وصِلته بدينه وإعادة بناء الإنسان الجزائريّ وترميم ما جعله الاحتلال حطاماً وركاماً، ولكنّ الاستبداد باسم الاشتراكية كان في حقيقته مواصلة واستمراراً لما فعله الاحتلال بأيدٍ جزائريّة وفي ظلّ دولة قمعت الإنسان وشوهت فطرته. ثم جاءت محرقة التسعينيات لتستأصل ما أفلت من المرحلتين وتجتـثّه من جذوره وتجعل جيلاً كاملاً ضحيّة للبطش والقهر والتنكيل تنفيذاً لكلمة الهالك رضا مالك رئيس الحكومة الأسبق وأحد مفاوضي إيفيان مع فرنسا حين قال نهاية عام 1995 كلمته المشهورة التي أطلق بها شرارة المجازر في الجزائر: (يجب على الرعب أن يغيّر معسكره)، ثم جاءت مرحلة بوتفليقة منذ 1999 لتستلم جيلاً آخر أنهكته المحرقة فتزيد من مسخه وتشويه كلّ شيء جميل فيه وتحارب كلّ مقوّمات هوّيته. باختصار شديد: لقد أُجهِضت ثورة التحرير. وقد كتب فرحات عباس بعد الاستقلال رغم أنه كان عرّاب التيار الاندماجي كتابه الذي جعل عنوانه (الاستقلال المُصادَر)، وقبله قال الشهيد زيغود يوسف قائد الشمال القسنطيني وقائد معركة 20 أوت 1955 التي فكّت الحصار عن الأوراس بعد أن حضر مؤتمر الصومام عام 1956 ورأى فيه إرهاصات الانقلاب على بيان أول نوفمبر بتغييب كل ما له علاقة بالإسلام وإرهاصات الاحتراب والفتنة بين قادة المناطق كلمته: أما الاستقلال فهو آتٍ، وأما الثورة فقد انتهت. وقال الشيخ الإمام البشير الإبراهيمي في أوّل خطبة جمعة له بعد الاستقلال في جامع كتشاوة: (إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يُطاع فيما دون ذلك"، فهو قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها". ما أسفرت عنه الثورة كان (جلاءً عسكرياً) لقوات الاستعمار وهزيمة نكراء لجيوشه، أما هدف الثورة الذي جاء في بيان أول نوفمبر فلم يتحقق منه سيادة ولا ديموقراطية ولا رفاه اجتماعي ولو بالاشتراكية الشوهاء، ولا روعيت فيه المبادئ الإسلامية التي تؤطر ذلك كلّه، أمّا الدولة فقد تحققت ولكنها كانت (وظيفية) منذ تأسيسها تترنّح بين الولاء للشرق أو لفرنسا تحديداً. سُرقت ثورة الجزائريين كما سُرقت ثورات العرب والمسلمين في كلّ الأقطار، وما زالت تُسرق أو تُحتوى أو يُلتَف عليها أو تُكسر بالثورات المضادّة المخترقة والموظفة حتى النخاع. الأسباب كثيرة ومتنوعة ومتشابكة ومعقّدة، يحسن أن تُفرد لها الدراسات وتُخصّص لها المؤتمرات ويعصر فيها المفكرون مادّة عقولهم الرماديّة، وذلك مضمار آخر ما زلنا لم نوفّه حقّه ولم نعطه ما يستحقّ.
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية (3)
تسليح الثورة.. البدايات والمآلات

الصغير منير

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

لا يمكن لأي ثورة أياً كانت دوافعها وغاياتها أن تنجح بلا مال. فلا سلاح بلا مال، ولا غذاء للجيش ولا وقود للعربات ولا دواء بلا مال. بل لا يكاد يكون هناك شيء ذو بال له علاقة بالعمل العسكري بدون مال. ويستوي في ذلك الجيوش القديمة والحديثة، بل حتى حين كان الجهاد تطوعاً في غالبه إبّان تاريخ المسلمين في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت الجيوش تحتاج إلى المال، ومن هنا جاء حضّ القرآن على الإنفاق في سبيل الله والإشادة بالمنفقين في الجهاد، وفي السيرة من القصص والحوادث ما يثير الإعجاب والحيرة أحياناً من مستوى البذل والعطاء الذي عرفه مجتمع الصحابة، تجلّى في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك من طرف عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان التحدّي الأكبر أمام قيادة الثورة الجزائرية هو توفير السلاح، ولم يكن هناك جهة أو دولة قبل الثورة تهب السلاح دون دفع ثمنه أو حتى من أجل تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية، ولم يكن المخططون للثورة ليجازفوا بالكشف عن الساعة الصفر لانطلاق الثورة التي لم يعلم بها الغالبية المطلقة من المجاهدين الذين نذروا أنفسهم لتفجيرها إلا أياماً أو أسابيع قبل انطلاقها.

البدايات: المنظمة الخاصّة

أما قبل الثورة ومنذ تأسيس المنظمة الخاصّة عام 1947 من طرف حزب الشعب لتكون ذراعاً عسكرياً ضارباً في وقت الحاجة إليه؛ فقد كان المال الذي اشترى به السلاح كلّه من اشتراكات أعضاء الحزب وأعضاء المنظمة الخاصة، وبعض السلاح كان من بقايا الحرب العالمية الأولى والثانية خاصة السلاح الألماني والإيطالي.

اشتري أكثر السلاح من ليبيا ودخل الجزائر عن طريق المهرّبين. وكان أعضاء المنظمة قد تمكنوا من الحصول على بعض الذخيرة التي تركتها القوات الأمريكية بعد إنزالها في الجزائر.

وقد كان لعملية بريد وهران وغنيمة أمواله دور فعّال في توفير ميزانية سدّت ثغرة كبيرة في تدبّر أمر السلاح، فلم يكن أعضاء الحزب ولا المنظمة من ذوي الثراء أو الأعمال والوظائف التي تمكنهم أن يتحصلوا على المال الكافي لتسليح ثورة أو منظمة تحضّر لثورة.

لقد كان ما تحصل عليه المجاهدون من ليبيا يقارب أو يفوق 300 قطعة بين بندقية ومسدس ورشاش، كما جُمع في الشمال ما يقارب 100 قطعة بين مسدس ورشاش وقنابل يدوية.

ولم تكن الأسلحة التقليدية المصنوعة محلياً غائبة عن تسليح المنظمة الخاصة برغم أن المصادر لا تذكر شيئا كبيراً عنها، مثلها مثل الأسواق والمناطق التي كانت معروفة ببيع السلاح سرّاً، وكان أكثر السلاح الذي يُباع في الأسواق هو بنادق الصيد.

وكانت المتفجرات التي استطاع أعضاء المنظمة الحصول عليها غالبيتها معدّ للمحاجر من أجل تفجير المناجم أو تفجير بعض الأماكن لشق الطرقات وغيرها، وهي مثل السلاح بعضها اشتري بطريقة غير قانونية وبعضها عن طريق التهريب أو السطو على مخازن الشركات التي تمتلكها.

كما أن أعضاء المنظمة الخاصّة استطاعوا الحصول على بعض أجهزة الإرسال والإشارات أو الملحقات الإلكترونية المتعلقة بها شراء أو عن طريق غنيمتها؛ كما حدث في معامل الطيران المدني بعين البيضاء قريباً من العاصمة.

وأمام اشتغال حزب الشعب بمصاريف أنشطته السياسية والتكفّل بعائلات المسجونين، لم يكن أمام المنظمة الخاصة خيارات وبدائل كثيرة. من أجل ذلك كان من القرارات المهمة التي اتخذتها قيادة المنظمة إلزام كلّ عضو بالحصول على سلاحه الخاصّ وبطريقته الخاصة سلباً أو شراءً أو تهريباً.

وقد كانت بنادق الصيد متوفرة بكثرة في الجزائر، خاصة في القرى والأرياف والبوادي، ولكن لم يكن أبداً متاحاً جمعها أو الحصول عليها في وضع كان يبدو مستقراً وطبيعياً لا تشوبه أي اضطرابات أو أحداث تعكّر صفوه. وقد كان هذا الهدوء قبل الثورة خاصّة بأشهر مهماً جداً لمفجري الثورة والمخططين لها، حتى لا يستنفر الاحتلال قواته وأجهزته الأمنية للتتبع والتقصي لو كانت هناك أي مؤشرات توحي بأن شيئاً ما يُدبّر أو يُخطّط له في السرّ.

لم يكن تخزين السلاح يطرح مشكلة كبرى بقدر ما كان يطرحها أمر تأمينه. وقد نجح أعضاء المنظمة في إخفاء أعداد كبيرة من قطع السلاح والذخيرة ولم يُعثر عليها إلا بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة واعتقال وتعذيب أعضائها.
لقد كاد اكتشاف المنظمة أن يقضي على كل أمل في استمرار التحضير للثورة

والعمل المسلّح. لقد اعتقل 500 عضو أو أكثر من أعضاء المنظمة، وتم تفكيك عد كبير من شبكاتها وكشف عدد من مخابئ السلاح والاستيلاء على محتوياتها، ولم يسلم من السلاح إلا ما كان مخزناً في منطقة الأوراس وبعض مناطق القبائل، بسبب وعورة تضاريسها وعدم وصول أجهزة أمن المحتلّ إلى معرفة شيء عنها.

ولا يهمنا في هذا السياق أن نتحدث عن سبب اكتشاف المنظمة الخاصة ومن كان مسؤولاً عن ذلك، ولا عن التعذيب والتنكيل الذي تعرض له المعتقلون من أعضائها؛ فذلك موضوع آخر.

لقد كان ما نجا من مخازن السلاح هو الذي وجده المجاهدون بين أيديهم لما حانت ساعة الصفر. بل إن بعض هجومات وعمليات الفاتح من نوفمبر تمّت بالخناجر والمُديّ والفؤوس وحرق لمباني والحقول وتحطيم أعمده الهاتف والكهرباء في بعض المناطق التي لم يتوفر لها السلاح، وهو ملمح يشير إلى إيمان وقوة وبسالة أولئك الرجال الذين فعلوا ذلك رحمهم الله تعالى.

السلاح بعد انطلاق الثورة

بعد ليلة أول نوفمبر 1954 لم يكن السلاح الذي يمتلكه المجاهدون أبدا ليكافئ حتى السلاح الموجود عند حرس الغابات أو الشرطة في بعض المدن الجزائرية المتوسطة..وكان عماده بنادق الصيد وبنادق مورز الألمانية التي كانت تعادل يومها رشاش الكلاشنيكوف وبعض قذائف المورتر والقنابل التقليدية محلية الصنع. ولكن الذي صنع الفارق كان الإيمانَ والعزيمة الصلبة والإرادة الفذّة والرغبة العارمة في إخراج المحتلّ الصليبي من أرض الجزائر.

ولأن الثورة كان لها ممثلوها في القاهرة حيث مقرّ الجامعة العربية، وكان لها شبكاتها وعلاقاتها في كل من ليبيا وتونس والمغرب، وكان لها جنودها وشبكات تمويلها في أوروبا فقد كان واضحاً من البداية وبعد أن تجاوزت الثورة مرحلة الخطر بثبات وبسالة مجاهدي الأوراس لأكثر من ستة أشهر كما وعد الشهيد مصطفى بن بو العيد ووفّى به رجاله الذين تحملوا عبئاً وضغطاً هائلين ساحقين ولكن الله ثبتهم ونصرهم.

أما بعد مضي الأشهر الستّة الأولى وبعد عملية الهجوم الكبرى في الشمال القسنطيني بقيادة الشهيد زيغود يوسف؛ فقد أصبحت الثورة الشاملة أمراً واقعاً وأدركت فرنسا أن الأمر ليس مجرد اضطرابات عابرة أو سخطاً شعبياً مسلحاً يمكنها القضاء عليه بسهولة، وهي كانت تسوّق ذلك في إعلامها الداخلي والخارجي لدى حلفائها.

لكن مما تجدر الإشارة إليه بوضوح في هذا السياق أن الثورة الجزائرية جاءت بأشهر فقط بعد هزيمة فرنسا النكراء في معركة ديان بيان فو في الفيتنام، وأنها كانت في سياق ما سمّي يومها بـ(تصفية الاستعمار).. فلم تكن الثورة الجزائرية يُتعامل معها كما يُتعامل مع الحركات الجهادية والمسلحة اليوم على أنها إرهاب، وقد ذكرنا سابقاً أن قيادة الثورة اتصلت مبكراً بالجامعة العربية في مصر وكانت لها صلات بالقيادة السياسية والأمنية المصرية وكانت لها علاقاتها مع السلطات المغربية والتونسية قبل الاستقلال وبعده، وكان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين دور كبير في إيصال صوت الثورة وربط علاقات مع جهات رسمية وشعبية في الشام والعراق فضلاً عن مصر.. كل هذه الملابسات جعلت التسلح النوعي الذي يناسب ثورة شعبية ممكناً ومتاحاً رغم التحديات التي كانت دائما ممثلة في:

• رقابة ويقظة أجهزة الأمن والاستخبارات الفرنسية.
• في الخطين المكهربين: شال وموريس على الحدود الغربية والشرقية.
• في تعاطي السلطات المغربية والتونسية سلباً مع عمليات تهريب أو شراء الأسلحة من بلديهما تحت ضغط الاحتلال، أو طلباً لمصالح سياسية من قيادة الثورة كالحدود أو غيرها.
لقد كان أكثر السلاح الذي وصل المجاهدين في الداخل قادماً من:
• الدول العربية : التي تأتي في مقدمتها مصر كمصدر أو مَعْبر.
• دول المعسكر الشرقي: في إطار الحرب الباردة بينه وبين أوروبا كعضو في الحلف الأطلسي.
• شبكات التهريب: التي كانت تمتد حتى الدول الأوروبية، والتي كانت تشتغل إما تطوعاً ونصرةً للثورة أو كشبكات تبيع وتشتري السلاح، وقد تركزت كبرى عمليات التهريب عبر المنافذ البحرية الغربية مروراً بإسبانيا والمغرب.
• السوق السوداء: التي كانت تتاجر بيعاً وشراءً في بقايا الحرب العالمية الثانية، خاصّة من بنادق ومسدسات ومدافع هاون ومورتر وقنابل يدوية ورشاشات وذخيرة.
• معامل صناعة الأسلحة والذخيرة التي أقامتها الثورة في الأراضي المغربية، خصوصاً والتي استطاعت تحقيق منجزات مهمة بمقاييس ذلك الوقت، وقد استطاعت مثلاً أن تنتج نصف مليون قنبلة يدوية و1000 مسدس رشاش نوع PH60 و 500 مدفع هاون وكمية معتبرة من العبوات.

لقد استفادت الثورة الجزائرية من موجة عابرة للقارات من التعاطف، وجاءت في فترة كان اليسار الأوروبي في أوج عنفوانه الثوري؛ فانخرط عدد كبير من الشيوعيين ومن الفرنسيين أنفسهم في عمليات التهريب والتمويل لشراء الأسلحة وفي استخدام علاقاتهم للضغط في اتجاه يخدم الثورة.

ومع ذلك فإن المجاهدين كانوا دائماً يشكون من نقص السلاح والذخيرة كماً ونوعاً، وقد عانوا الأمرّين من الطيران الفرنسي ولم تكن إلا مناطق قليلة تحوز مضادات للطيران، ولم يمتلك المجاهدون دبابات ولا عربات مدرعة ولا صواريخ. وقد زادت مشكلة التسليح تعقيداً وصعوبة بعد بناء خطي شال وموريس، وبعد النزاعات التي عرفتها قيادات الثورة الداخلية فيما بينها، وبين القيادة في الخارج.

ولقد أضعف تناقص مستوى التسليح على أداء الثورة العسكري وأنهك المجاهدين في الداخل، لولا أن الثورة كانت قد اكتسبت زخماً من التعاطف السياسي الدولي خاصة بعد موقف الرئيس الأمريكي كنيدي منها إيجابياً، والذي قد يكون على الأرجح محاولة لصد المعسكر الشرقي أو لأنها قد تكون قناعة لديه! وكذلك بعد مظاهرات 11 ديسمبر 1961، هذا التعاطف أدخل القضية الجزائرية أروقة الأمم المتحدة ما خفّف العبء عن مجاهدي الداخل وأعطاهم أملاً يعوضهم نقص السلاح.

كما لا ينبغي أن نغفل أبداً دور فرنسا الماكر في إضعاف المجاهدين حاملي السلاح عن طريق الحصار الشديد، لحساب مفاوضين سياسيين مرنين يمكن الوصول معهم إلى حلول وسط، وبعض منهم كان حتى السنتين الأوليين من الثورة ما زال يتبنى خط الاندماج ويطالب فقط بتحسين ظروف الجزائريين وحقوقهم السياسية؛ بل وعارض بطريقة أو أخرى الثورة المسلّحة.

وقد أثمر هذا المكر الفرنسي المسنود بالمخابر والخبراء والتجربة مع المفاوضين الجزائريين في مفاوضات إيفيان السويسرية، الذين كانت صلة أكثرهم ضعيفة بالجهاد في الداخل أو كانوا ما زالوا على قناعاتهم القديمة اليسارية أو الاندماجية، أو كانوا في الغالب مبهورين بالحضارة الغربية ويرون فيها مثلاً أعلى، وهذه النفسيات من الصعب جداً أن تثبت أو تنتصر في مفاوضات مع عدو لدود متوحش ماكر مثل فرنسا.

ولم يكن الأمر مقتصراً فقط على جانب المفاوضات من طرف فرنسا وإنما كان أيضاً إنهاك المجاهدين في الداخل بحرمانهم من السلاح كمّاً ونوعاً، وكانت فرنسا قد اقتنعت أن الاستقلال آتٍ لا محالة؛ فكانت السنوات الأربع الأخيرة حافلة بالمكائد والاختراقات والترتيبات التي تهيء الأرضية وتفتح الطريق أمام الدفعات التي كانت تعدّها فرنسا لتولي السلطة واختراق مؤسسات ما بعد الاستقلال.

وقد حدث ذلك بالفعل على مستوى جيش التحرير عن طريق اختراقه بالضباط الهاربين من الجيش الفرنسي والمعروفين في الجزائر بضباط فرنسا، وعلى مستوى الإدارات المركزية والوزارات، ثم تجلّى ذلك كله بعد 30 سنة بوضوح في انقلاب 1992 ضد الخيار الشعبي الذي أفرز فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

وكان هناك أثر آخر جليّ في التسليح الذي تكفلت به الدول العربية وعلى رأسها مصر والمعسكر الشرقي والدعم الإعلامي والسياسي الذي قدمه اليساريون في العالم، أن استقر الاختيار في مؤتمر طرابلس قبيل الاستقلال على النهج الاشتراكي والبعد القومي بالمفهوم الذي كان يروّج له عبد الناصر يومها وكان سائداً في الساحة العربية كلها تقريباً، والذي تبنّاه الرئيس بن بلّة ثم هواري بومدين ولو بشكل مختلف عن سابقه، وأُقصي أي بُعد إسلامي للشعب الجزائري في الخيارات الاستراتيجية الكبرى ما عدا كلمات قليلة مبثوثة هنا وهناك في النصوص القانونية والبيانات السياسية كلها موهمة وحمالة أوجه وفي قضايا فرعية، ما عدا بيان أول نوفمبر الذي أشار بوضوح إلى أن الدولة الجزائرية ذات السيادة يجب أن تكون ديموقراطية اجتماعية في (إطار المبادئ الإسلامية)، وحتى هذه العبارة لم تسلم من التأويل والإقصاء الذي جعلها جزءاً من التاريخ لا أثر له في واقع الجزائريين.

لقد كان التحدّي الأكبر أمام كل الثورات والحركات الجهادية الكبرى هو مشكل السلاح، وكان الاختراق والتحكّم في القرارات الكبرى والتوظيف ينطلق دائماً منها ويعتمد عليها، وفي ظل منظومة هيمنة عالمية بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية وشُبّكت وعُقّدت ورُبطت أجزاؤها بشبكة من القوانين والاتفاقيات والالتزامات التي تُجبر عليها الدول أو تنخرط فيها طواعية؛ كل ذلك جعل حركة أي قطعة سلاح من طرف لآخر محسوبة ومراقبة، وحتى لو نجحت فإن صاحبها سيكون معرّضاً للعقوبات والحصار وربما الاغتيال.

لقد كان من حظ الثورة الجزائرية نسبياً أنها:

• حدثت في زمن الثنائية القطبية.
• وفترة الحرب الباردة.
• وفي سياق سياسي وثقافي عالمي شعبي وإعلامي يطالب بتصفية الاستعمار القديم وإنهائه، وإن كان ذلك في الحقيقة لصالح أشكال جديدة من الاستعمار.
• واستفادت من دعم عربي وإسلامي معتبر، جاء بعد ارتفاع لواء القومية العربية ومحاولة عبد الناصر تزعُّم العالم العربي.
• وكانت ثورة انخرطت فيها نسبة مؤثرة من الشعب الجزائري برغم ثقل وطأة العمالة والخيانات، كما هو الشأن في ثورات كل شعوب العالم عبر التاريخ.

أما ما حدث بعد ذلك من ثورات تحرر أو حركات جهادية لإسقاط الأنظمة فقد حُرمت من كل هذه الميزات والمعطيات، وأصبح السلاح نفسه الذي تحتاجه هذه الثورات والحركات سلاحاً ضدّها، وفي أيدي أعدائها يستخدمونه ضدّها لابتزازها أو توظيفها أو تحجيم دورها وإضعافها، حتى تقبل الإملاءات والشروط، أو حتى من أجل اختراقها لتصبح أداة مباشرة وصريحة للثورة المضادّة.

ونحن هنا حين نتحدّث عن السلاح، فإننا نتحدّث حتماً عن المال الذي يُشترى به السلاح وتُضمن به احتياجات الجيوش اللوجيستية وغيرها؛ فهما مرتبطان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

لقد كان هذا تحدّياً في الماضي القريب وما زال. وما لم تحدث اختلالات وتصدّعات في بنية منظومة الهيمنة العالمية بين شرقه وغربه أو بين مكوّناته في الحلف الأطلسي أو بين الصين وروسيا أو بين دول الاتّحاد الأوروبي بما يتيح متنفساً يصبح فيه أمر السلاح متاحاً دون شروط ولا رقابة مباشرة، وما لم يردم المسلمون وهم رأس حربة التحرّر من منظومة الهيمنة في العالم الفجوة التقنية بشكل يتيح لهم الحصول على تقنيات ومعارف وعلوم تمكّنهم من صناعة السلاح ولو في المستوى الذي يسمح لهم فقط بالتحرّر من التوظيف والاختراق وبعيداً عن الأنظمة والدول الوظيفية؛ ليصبح ممكناً على المستوى الشعبي، وهو أمر بدأت بعض ملامحه تتضح وإن في شيء من الغموض والتحدّيات الكبرى، وما لم تقُم للمسلمين في العالم العربي أو الإسلامي عامّة دولة قويّة تتبنى قضاياهم بوضوح وتناصرهم بقوة وتدافع عنهم بإيمان وتدعمهم دون خشية حصار أو إسقاط وتوفّر لهم التدريب والتأهيل اللازمين فقط لأنهم مستضعفون ومظلومون ولأنهم مسلمون من حقّهم أن يعيشوا حياتهم بإسلامهم أعزة كرماء أحراراً..

ما لم يحدث ذلك فسوف يبقى التحدّي قائماً، ويبقى الأمر نفسه يتكرر بأشكال وصور مختلفة ولكن مآلها واحد: الاختراق والتوظيف والاحتواء لصالح دول الكفر وتوابعها من الأنظمة الوظيفية في العالم العربي والإسلامي.

الخلاصة

إن ثورة التحرير الجزائرية كانت عسكرياً من أكبر ثورات التحرير بجانب الحرب الفيتنامية وجهاد الشعب الأفغاني. ولكن ما حققته لم يكن هو الاستقلال الذي ترصّع تاجه السيادة الكاملة وإنما كان ما تحقّق هو ما يمكن تسميته بـ(الجلاء العسكري الفرنسي) عن الجزائر.

فلقد تحقّق بعد الاستقلال من أهداف الاستعمار ما لم يتحقق قبله، ووقع من المسخ لهوية الشعب وسلخه عن دينه وتغريبه وتلويث أخلاقه وفصله عن مصادر قوّته واستلاب ثرواته الظاهرة والباطنة وتهجير طاقاته وكفاءاته من الشباب والعلماء، ما لم يحدث مثله إلا في بدايات الاحتلال وحتى قريب من الحرب العالمية الأولى، وتُوّج كل هذا التدمير الممنهج بالمحرقة التي تعرض لها الجزائريون بعد انقلاب 1992، والتي حدثت بتواطؤ كامل ودعم خفيّ من فرنسا وصمت من حلفائها الغربيين، إلا من التنديد والشجب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؛ تلك المحرقة المهولة التي تلتها (المرحلة البوتفليقية) التي وصفها الشيخ الأستاذ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين السابق أنها أسوأ مرحلة مرّت بها الجزائر منذ استقلالها.

لقد دمّر الاستعمار الفرنسي كل مقدّرات الشعب الجزائري المادية، ولكن كان قد بقي له من دينه ولغته ما يحفظ وجوده من الاندثار، وكانت تضحيات الجزائريين ضخمة جدّاً بحيث تكون غنيمته الكبرى بعد حرب تحريرية مثل هذه أن يستعيد من قوته وأصالته ونهضته المادية وصِلته بدينه وإعادة بناء الإنسان الجزائريّ وترميم ما جعله الاحتلال حطاماً وركاماً، ولكنّ الاستبداد باسم الاشتراكية كان في حقيقته مواصلة واستمراراً لما فعله الاحتلال بأيدٍ جزائريّة وفي ظلّ دولة قمعت الإنسان وشوهت فطرته.

ثم جاءت محرقة التسعينيات لتستأصل ما أفلت من المرحلتين وتجتـثّه من جذوره وتجعل جيلاً كاملاً ضحيّة للبطش والقهر والتنكيل تنفيذاً لكلمة الهالك رضا مالك رئيس الحكومة الأسبق وأحد مفاوضي إيفيان مع فرنسا حين قال نهاية عام 1995 كلمته المشهورة التي أطلق بها شرارة المجازر في الجزائر:

(يجب على الرعب أن يغيّر معسكره)، ثم جاءت مرحلة بوتفليقة منذ 1999 لتستلم جيلاً آخر أنهكته المحرقة فتزيد من مسخه وتشويه كلّ شيء جميل فيه وتحارب كلّ مقوّمات هوّيته.

باختصار شديد: لقد أُجهِضت ثورة التحرير. وقد كتب فرحات عباس بعد الاستقلال رغم أنه كان عرّاب التيار الاندماجي كتابه الذي جعل عنوانه (الاستقلال المُصادَر)، وقبله قال الشهيد زيغود يوسف قائد الشمال القسنطيني وقائد معركة 20 أوت 1955 التي فكّت الحصار عن الأوراس بعد أن حضر مؤتمر الصومام عام 1956 ورأى فيه إرهاصات الانقلاب على بيان أول نوفمبر بتغييب كل ما له علاقة بالإسلام وإرهاصات الاحتراب والفتنة بين قادة المناطق كلمته: أما الاستقلال فهو آتٍ، وأما الثورة فقد انتهت.

وقال الشيخ الإمام البشير الإبراهيمي في أوّل خطبة جمعة له بعد الاستقلال في جامع كتشاوة: (إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يُطاع فيما دون ذلك"، فهو قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها".

ما أسفرت عنه الثورة كان (جلاءً عسكرياً) لقوات الاستعمار وهزيمة نكراء لجيوشه، أما هدف الثورة الذي جاء في بيان أول نوفمبر فلم يتحقق منه سيادة ولا ديموقراطية ولا رفاه اجتماعي ولو بالاشتراكية الشوهاء، ولا روعيت فيه المبادئ الإسلامية التي تؤطر ذلك كلّه، أمّا الدولة فقد تحققت ولكنها كانت (وظيفية) منذ تأسيسها تترنّح بين الولاء للشرق أو لفرنسا تحديداً.

سُرقت ثورة الجزائريين كما سُرقت ثورات العرب والمسلمين في كلّ الأقطار، وما زالت تُسرق أو تُحتوى أو يُلتَف عليها أو تُكسر بالثورات المضادّة المخترقة والموظفة حتى النخاع.

الأسباب كثيرة ومتنوعة ومتشابكة ومعقّدة، يحسن أن تُفرد لها الدراسات وتُخصّص لها المؤتمرات ويعصر فيها المفكرون مادّة عقولهم الرماديّة، وذلك مضمار آخر ما زلنا لم نوفّه حقّه ولم نعطه ما يستحقّ.
‏٠٨‏/١٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٠ ص‏
افتتاحية العدد الجديد إعدامات في مصر، وتبديل للدين في تونس.. ألا من مراجعة لفقه الانسحاب والتنازل بدعوى المصالح والمفاسد؟! @[520036614:2048:محمد إلهامي] [حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX حمّل هدية العدد bit.ly/2E7rUXq] أكثر الأسئلة التي كان يطرحها الإعلام العلماني على أي سياسي إسلامي: ماذا ستفعلون في النساء العاريات على الشواطيء، في النساء غير المحجبات واللاتي لا يردن أن يرتدين الحجاب، في مصانع ومحلات بيع الخمور، في السينما والمسرح، في رياضات السباحة وفن الباليه... وهكذا! في المقابل فإن سائر الإجابات التي يبذلها الإسلاميون في هذه الأبواب تفيد بث الطمأنينة لهذه القطاعات، حتى إن أكثرها وضوحاً و"تشدداً" هي الإجابة التي تتحدث عن التدرج والرفق في تغيير هذه الأمور، وتتفق الإجابات الإسلامية على أن هموم الأمة أوسع وأكبر من هذه الأشياء، هموم في الاقتصاد والسياسة والطاقة والتعليم. وبالرغم من هذا فإن الحملات الإعلامية العلمانية وحديث المثقفين العلمانيين يأخذ هذه الصورة: هؤلاء خطر على الحريات، هؤلاء خطر على الفن والثقافة والسياحة والرياضة والمسرح، هؤلاء لا يفكرون إلا بغرائزهم ولا ينتبهون إلا للمرأة وحجاب المرأة ويتركون هموم الوطن الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية، هؤلاء طلائع الظلام القادم من العصور الوسطى الرجعية! ثم حين يكون العلماني في موقع السلطة، بانقلاب أو توريث، مدعوم بالدول الأجنبية بطبيعة الحال، فإنه لا يفعل شيئاً في أبواب الاقتصاد والسياسة والإنتاج والطاقة والتعليم، أبداً.. بل هو يتوجه من ناحيته لمحاربة دين الناس وعقيدتهم وأخلاقهم، لا حرية متاحة إلا حرية الانحلال والإباحية، ولا تقدم إلا على مستوى انتشار الخمور والفجور، ولا قوانين تصدر إلا التي تزيد من سطوة الحاكم العلماني وهيمنة الأجنبي ومحاربة الدين. وها هو الباجي قايد السبسي لم يجد شيئاً ينبغي أن يُهتم به سوى إصدار قانون يُسَوِّي بين الرجل والمرأة في الميراث رغم امتلاء تونس بالمشكلات! ومع هذا فالنخبة الثقافية العلمانية بامتداد العالم العربي لا تحدثه عن هذه المشكلات المزمنة بل تصفق له على هذه المشكلة الجديدة التي يصنعها في بلده. هذه هي أولويات العلمانيين.. وإنها لأولوياتهم منذ وُجِدوا في بلادنا، فهم أبناء الاستعمار الأجنبي وربائبه، وما كان لهم أن يصلوا إلى السلطة ويحكمونا إلا بقوة الاستعمار المسلحة ودعمه، وبقدر ما أنهم رسَّخوا وعَمَّقوا ما نحن فيه من التخلف على سائر المستويات بقدر ما أنهم نشروا في بلادنا الكفر والانحلال والتهتك. المشكلة الحقيقية أن كثيراً منا لا يفهمون ذلك، يرونهم شركاء الوطن لا صنائع الاستعمار، يحسبونهم أصحاب فكر مختلف لا أصحاب عداوة أصيلة، يتوهمون أن هدفاً مثل "تقدم الوطن" أو "استقلال الوطن" يمكن أن يجمع بيننا وبينهم. بعضنا جاهل بهم وهو جهل فادح فاضح لا يُعذَر صاحبه به، وبعضنا من ضعفه وعجزه يريد أن يتوهم هذا لئلا يواجه الحقيقة التي تزيده شعوراً بحجم التكاليف والمسؤولية، وبعضنا من أخطائه وفشله وخياناته أيضا يُسَوِّق هذا الوهم لئلا يقال عنه: أخطأ وفشل وخان. هؤلاء الذين هم منا، هم من يجبروننا على إعادة التكرار والثرثرة في الكلام المعروف المملول عن عداوة هؤلاء وكونهم صنائع الاستعمار وممثلو مصالحه في بلادنا.. أولئك يقطعون الطريق حول تطور الكلام والأفكار لتبحث في "كيفية التخلص منهم" لنظل نراوح مكاننا في إثبات أنهم خصوم وأعداء. وهم من ناحيتهم لا يُقَصِّرون في إظهار عداوتهم، فما إن تلوح لهم فرصة حتى تكون منازلنا بين القبور والسجون والمنافي، بين من قضى نحبه ومن ينتظر، من لم يمُت بالرصاص مات بالتعذيب، ومن لم يمت بالمشنقة مات من أمراض السجن، ومن لم يمت بهذا كله مات بباب من أبواب الفساد الذي ينشرونه في بلادنا: تحت ركام عقار بُني بخلاف مواصفات الأمان، أو حَرقاً في قطار، أو غرقاً في سفينة، أو تحت عجلات سيارة على الطريق العام. إن أي حساب لتكلفة بقاء هذه الأنظمة على أمتنا سيؤدي مباشرة إلى نتيجة تقول: إن كل فوضى ناتجة عن الثورة عليهم وإسقاط أنظمتهم هي بكل تأكيد أهون وأقل ضرراً، فحجم ضرر هذه النظم على الأمة لمدة ستين سنة لا يمكن حصره، بينما لا يمكن أن تستمر فوضى في مكان ما لستين سنة مثلاً، الناس يستطيعون تدبير أمرهم وحكم نفسهم والتكيف مع أوضاعهم أفضل كثيراً من حالهم تحت أنظمة قاهرة تتفنن في قتلهم وسلب أموالهم وتمكين الأجنبي في بلادهم. وقد ثبت من سيرتهم التي كتبوها بدمائنا، ورسموها بسياطهم فوق لحومنا، أنهم لا يؤمنون بشيء، إذ ليس من مبدأ أو قاعدة يمكن التفاهم معهم عليها، لا هم يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات العامة ولا بحق الشعب في المتابعة والمراقبة فضلاً عن المحاسبة. فمن هاهنا كانت لحظات الثورات العربية لحظات فارقة ذهبية لقلب هذا الوضع، والتخلص من هذه الأنظمة، ذلك أن الشعوب لا تنفجر متى أردنا ذلك، بل ولا تزال تحير علماء الاجتماع في تحديد توقيت وأسباب انفجارها، إلا أن أولئك الجاهلين المغفلين منا سارعوا لامتصاصها وتبريدها، بل وظفت الأنظمة بعضاً منهم لتداركها قبل وقوعها، حدث هذا في مصر وتونس والمغرب واليمن والأردن. في تلك البلاد، كان الإسلاميون وسيلة امتصاص وتبريد الثورات وتداركها، رغم أنهم أكثر الكاسبين من نجاح الثورات، وأول الخاسرين إذا أخفقت، بل هم من قبلها مضطهدون ومن بعدها مضطهدون. فالإسلاميون في اليمن هم من شلُّوا حركة الثورة وأدخلوها في دهاليز اللقاء المشترك والمبادرة الخليجية وترتيبات المبعوث الأممي حتى أكل الحوثي اليمن، وقد كانوا قادرين –فقط لو تجاسروا وقرروا- أن يُجَنِّبوا اليمن مصيره المريع الذي يلقاه اليوم بين طرفين مجرمين: الحوثي ممثل إيران، مقابل السعودية والإمارات، ولا يدفع الثمن إلا أهل اليمن. والإسلاميون في المغرب قبلوا أن يشاركوا مشاركة شكلية في الحكومة التي هي بلا صلاحيات ليكونوا درع القصر في الالتفاف حول الثورة الوشيكة، وليكونوا أيضاً سيفه في طعنها والقضاء عليها في مهدها، وقد فعلوا، ثم وجدوا أنفسهم بلا صلاحيات ولا قدرة، بل إذا نجحوا فالمدح متجه لجلالة الملك وإذا فشلوا فالسب والشتم متوجه إليهم! ومثل هذه التجربة تقال عن الأردن أيضاً مع تغيير تفاصيل غير مؤثرة! والإسلاميون في مصر كانوا الأسرع إلى تهدئة الشارع وتبريد الثورة، ولولا ظهور شخصية ثورية مثل حازم أبو إسماعيل مع وجود رغبة دولية في "تجريب" الإسلاميين في الحكم لكانت قد تكررت تجربة 1954 بحذافيرها، لكن هذه المتغيرات أفسحت المجال لسَنة في السلطة منزوعة الصلاحيات، ومع هذا فإن أداءهم في هذه السنة كان أداء من امتلك الدولة وسيطر عليها، فسيطر عليهم الحرص على الدولة ومؤسساتها وتغييب الشعب عن الصراع الدائر في الدهاليز بل والحرص على تهدئته وتبريد روحه الثورية، فكان أن انقلبت هذه الروح الثورية بفعل مؤسسات الدولة وإعلامها لتكون ضد الإسلاميين أنفسهم، لم يفكر أولئك في مواجهة هذه الدولة العميقة لحظةَ أن كانوا قادرين ووراءهم ثورة شعبية رفعتهم –رغماً عنها- إلى السلطة، كما لم يفكروا في مواجهتها وهم مهددون، ثم لم يفكروا في مواجهتها بعد الانقلاب.. حالة عجيبة من حالات الانكسار النفسي والهزيمة المعنوية! وصار الذي هتف "سلميتنا أقوى من الرصاص" نزيلاً في الزنزانة بتهمة الإرهاب! تجربة تونس فريدة جداً في بيان نكبتنا ونكستنا العربية الإسلامية، وواحدة من أهم الشواهد الضخمة المنتصبة على ما نحن فيه من التيه. يقولون عن راشد الغنوشي مفكر، رغم أن سلوكه السياسي نموذج من السذاجة والضعف والارتباك ثم الفشل. ولا يمكن تفسير مساره إلا أنه آمن بالديمقراطية أكثر من إيمانه بالله وبكتابه وبرسوله، فإن كلام الله وسيرة رسوله ضد الغنوشي على طول الخط.. والغنوشي الذي تأسف قديماً وأدان الحركة الإسلامية لأنها لم تهتم بعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد ظهر أنه لم يعتبر من هذه العلوم ولم يستفد منها شيئاً! فمختصر مسار حركة النهضة التونسية أنها لم ترد إقامة الإسلام الذي هو مبرر وجودها كحركة إسلامية فتنازلت عن كل تأسيس إسلامي في الدستور أو هياكل الدولة، بل ولا احترمت الديمقراطية كوسيلة لبيان إرادة الشعب التي رفعتها إلى السلطة فتنازلت عن السلطة، إنما احترمت رغبة الأقوياء –وهم في أشد حالات ضعفهم، في لحظة الثورة- وسمَّت ذلك "البحث عن التوافق، الصيغة المشتركة للتعايش..." ونحو هذه الألفاظ النخبوية السفيهة الكفيلة باستجلاب الهزيمة في أي لحظة صراع فارقة. فانتهى هذا إلى أنها أسلمت الثورة إلى نظام (بن علي) نفسه مرة أخرى، وبشرعية كاملة، وهي الآن لا تملك أن تحمي نفسها من أن تنزل نفس السجون إن قررت السلطة أن تفعل هذا. وبالموازاة مع هذا كله أسهلت حركة النهضة التنازل عن الإسلام وتكييفه وتأويله وتطويعه وتعديله ليتفق مع رغبات الحداثة الغربية العلمانية الغالبة. ثم لا يأتينا من الغنوشي إلا مقالات تبريرية وتراجعات وتعديلات على أفكاره القديمة حتى صار الغنوشي نموذجاً مثالياً للتأصيل "الشرعي" للعلمانية! سيقولون: كل هذه البلاد وفَّرت على نفسها الصراع والدماء الذي انطلق في مصر وليبيا وسوريا. ونقول: الاستسلام حلٌّ يجيده كل أحد، ويملكه كل أحد، ولا يُعدَّ ذكاء ولا حكمة أنك تنسحب من المعركة، تنسحب منها في أفضل فرصة ممكنة (فرصة ثورة شعبية).. ولا يُمدح أحدٌ بأنه انسحب من كل معركة فوفَّر على نفسه وجنوده الحياة! هذا يسمى انسحاباً واستسلاماً وضعفاً وجبناً ويسمى أيضاً خيانة!.. ولا يُعدّ الانسحاب حكمة إلا من قائد تتواصل انتصاراته لكنه انسحب من واحدة أو اثنتين لظروف رآها، أما من يقضي حياته في الانسحاب وتجنب المعارك فلا يسمى حكيماً بل جباناً! نعم، مرسي لم يكن رئيساً جيداً، لم يخض المعركة بحقها في الوقت الذي كان الشعب فيه معه، لكن صمود اللحظة الأخيرة هو ما جعل صورة الحق والباطل واضحة في مصر حتى الآن، وهذا ما يُحسب له، لا يزال السيسي عسكرياً منقلباً.. بينما لا يستطيع أحد أن يقول مثل ذلك عن السبسي في تونس! فإنه يتمتع بشرعية كاملة! وهكذا ماذا تكون الثورة قد حققت من النتائج، إن نحن أخذت حركة النهضة بناصيتها فأعادتها إلى النظام القديم ومعها الشرعية التي تنقله من مغتصب إلى ديمقراطي؟! هذا مع أنه لا ضمانة أبداً أنه سيحترم هذه الديمقراطية ولن ينقلب عليها، إذ لسنا نعرف من أخلاقهم ولا من أخلاق داعميهم الإيمان بالديمقراطية، كما ليس بأيدي النهضة والغنوشي من الضمانات الواقعية والاستعدادات العملية ما يجعلهم يتخوفون من الانقلاب على الديمقراطية. إذا أردنا إجمال الحقائق في عالم البشر والسياسية فسيكون من بينها هذه الأمور: 1. لا تنهض الأمم إلا حين تمر بمخاضات عسيرة مؤلمة تفقد فيها كثيراً من الخسائر حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال، الذي يؤهلها لتكون قوى كبيرة وعظمى فيما بعد. 2. الاستبداد المعاصر هو صنيعة الاحتلال، والاحتلال داعمه وكفيله، فمعركة التصدي للاستبداد الداخلي هي جزء من معركة التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهؤلاء الحكام وهذه الأنظمة ليسوا مجرد وطنيين وقع بيننا وبينهم الاختلاف في الرأي والنظر وطريق النهضة، بل هم وكلاء الاحتلال الذين يحاربون هذه البلاد وأهلها أشد مما كان يحاربها أسيادهم. 3. ليس من مستبد ولا محتل يرحل من مكانه ويفرط في سلطانه لمجرد احترام الرغبة الشعبية، بل لا يرحل مستبد ولا محتل إلا كارهاً مقهوراً مجبراً بعد استنفاد وسائله في التشبث والبقاء. 4. الثورات لحظات فارقة ونادرة ولا تتكرر كلما شئنا. حين يفقد العلماء وقادة الحركات الإسلامية الوعي بهذه الأمور وتنحصر رؤيتهم في حقن الدماء "هنا" و"الآن" فإنهم لا يصنعون خيرًا للبلاد والعباد، بل على العكس، هم يسلمونها لحقبة قادمة بعشرات السنين لا تحصى فيها الخسائر من الدين والدماء والأموال والهيمنة الأجنبية والتخلف العلمي والحضاري. ومن هنا فإن إفشال الثورات بتبريدها وتسكينها وتخديرها قبل تحقيق التمكين الحقيقي لممثلي الشعب –وهم في بلادنا الإسلاميون- ليس إنقاذاً للأوطان من الفوضى، بل هو إنقاذ للأجنبي من الورطة التي قد تنفجر في وجهه وتُخرجه من البلد. وحينئذ فالموازنة بين المصالح والمفاسد لا ينبغي أن تكون مقتصرة عن اللحظة "الآن" والمكان "هنا"، بل ينبغي أن تتسع لتشمل المستقبل –الذي نعرفه بخبرة الماضي- وأن تتسع بحجم الأمة لنرى كيف يمكن أن يؤثر الاستسلام هنا أو الانتصار هنا على الأمة كلها في معاركها الدائرة شرقاً وغرباً. وساعتئذ سنرى أن احتمال الألم في المخاض حتى الاستقلال والتحرر من الاستبداد والاحتلال أهون كثيراً كثيراً كثيراً من أخذ جرعة المخدر اللحظية الـمُسَكِّنة والتي سرعان ما تنتهي لنجد ألماً طويلاً مستمراً لا ينتهي أيضاً إلا بمخاض آخر تكاليفه أشد وأقسى! سل الذين مَكَّنوا لعبد الناصر في مصر حين لم يواجههوه أول أمره: دماء من حقنتم؟! ودماء من أرقتم؟!.. وهل كانت مواجهة عبد الناصر قبل أن يستبد ستؤدي مهما بلغت تكاليفها إلى هذه النكبة التي نحياها ستين سنة؟!
افتتاحية العدد الجديد

إعدامات في مصر، وتبديل للدين في تونس.. ألا من مراجعة لفقه الانسحاب والتنازل بدعوى المصالح والمفاسد؟!

محمد إلهامي

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2Sm3WKX
حمّل هدية العدد
bit.ly/2E7rUXq]

أكثر الأسئلة التي كان يطرحها الإعلام العلماني على أي سياسي إسلامي: ماذا ستفعلون في النساء العاريات على الشواطيء، في النساء غير المحجبات واللاتي لا يردن أن يرتدين الحجاب، في مصانع ومحلات بيع الخمور، في السينما والمسرح، في رياضات السباحة وفن الباليه... وهكذا!

في المقابل فإن سائر الإجابات التي يبذلها الإسلاميون في هذه الأبواب تفيد بث الطمأنينة لهذه القطاعات، حتى إن أكثرها وضوحاً و"تشدداً" هي الإجابة التي تتحدث عن التدرج والرفق في تغيير هذه الأمور، وتتفق الإجابات الإسلامية على أن هموم الأمة أوسع وأكبر من هذه الأشياء، هموم في الاقتصاد والسياسة والطاقة والتعليم. وبالرغم من هذا فإن الحملات الإعلامية العلمانية وحديث المثقفين العلمانيين يأخذ هذه الصورة: هؤلاء خطر على الحريات، هؤلاء خطر على الفن والثقافة والسياحة والرياضة والمسرح، هؤلاء لا يفكرون إلا بغرائزهم ولا ينتبهون إلا للمرأة وحجاب المرأة ويتركون هموم الوطن الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية، هؤلاء طلائع الظلام القادم من العصور الوسطى الرجعية!

ثم حين يكون العلماني في موقع السلطة، بانقلاب أو توريث، مدعوم بالدول الأجنبية بطبيعة الحال، فإنه لا يفعل شيئاً في أبواب الاقتصاد والسياسة والإنتاج والطاقة والتعليم، أبداً.. بل هو يتوجه من ناحيته لمحاربة دين الناس وعقيدتهم وأخلاقهم، لا حرية متاحة إلا حرية الانحلال والإباحية، ولا تقدم إلا على مستوى انتشار الخمور والفجور، ولا قوانين تصدر إلا التي تزيد من سطوة الحاكم العلماني وهيمنة الأجنبي ومحاربة الدين. وها هو الباجي قايد السبسي لم يجد شيئاً ينبغي أن يُهتم به سوى إصدار قانون يُسَوِّي بين الرجل والمرأة في الميراث رغم امتلاء تونس بالمشكلات! ومع هذا فالنخبة الثقافية العلمانية بامتداد العالم العربي لا تحدثه عن هذه المشكلات المزمنة بل تصفق له على هذه المشكلة الجديدة التي يصنعها في بلده.

هذه هي أولويات العلمانيين..

وإنها لأولوياتهم منذ وُجِدوا في بلادنا، فهم أبناء الاستعمار الأجنبي وربائبه، وما كان لهم أن يصلوا إلى السلطة ويحكمونا إلا بقوة الاستعمار المسلحة ودعمه، وبقدر ما أنهم رسَّخوا وعَمَّقوا ما نحن فيه من التخلف على سائر المستويات بقدر ما أنهم نشروا في بلادنا الكفر والانحلال والتهتك.

المشكلة الحقيقية أن كثيراً منا لا يفهمون ذلك، يرونهم شركاء الوطن لا صنائع الاستعمار، يحسبونهم أصحاب فكر مختلف لا أصحاب عداوة أصيلة، يتوهمون أن هدفاً مثل "تقدم الوطن" أو "استقلال الوطن" يمكن أن يجمع بيننا وبينهم. بعضنا جاهل بهم وهو جهل فادح فاضح لا يُعذَر صاحبه به، وبعضنا من ضعفه وعجزه يريد أن يتوهم هذا لئلا يواجه الحقيقة التي تزيده شعوراً بحجم التكاليف والمسؤولية، وبعضنا من أخطائه وفشله وخياناته أيضا يُسَوِّق هذا الوهم لئلا يقال عنه: أخطأ وفشل وخان.

هؤلاء الذين هم منا، هم من يجبروننا على إعادة التكرار والثرثرة في الكلام المعروف المملول عن عداوة هؤلاء وكونهم صنائع الاستعمار وممثلو مصالحه في بلادنا.. أولئك يقطعون الطريق حول تطور الكلام والأفكار لتبحث في "كيفية التخلص منهم" لنظل نراوح مكاننا في إثبات أنهم خصوم وأعداء.

وهم من ناحيتهم لا يُقَصِّرون في إظهار عداوتهم، فما إن تلوح لهم فرصة حتى تكون منازلنا بين القبور والسجون والمنافي، بين من قضى نحبه ومن ينتظر، من لم يمُت بالرصاص مات بالتعذيب، ومن لم يمت بالمشنقة مات من أمراض السجن، ومن لم يمت بهذا كله مات بباب من أبواب الفساد الذي ينشرونه في بلادنا: تحت ركام عقار بُني بخلاف مواصفات الأمان، أو حَرقاً في قطار، أو غرقاً في سفينة، أو تحت عجلات سيارة على الطريق العام.

إن أي حساب لتكلفة بقاء هذه الأنظمة على أمتنا سيؤدي مباشرة إلى نتيجة تقول: إن كل فوضى ناتجة عن الثورة عليهم وإسقاط أنظمتهم هي بكل تأكيد أهون وأقل ضرراً، فحجم ضرر هذه النظم على الأمة لمدة ستين سنة لا يمكن حصره، بينما لا يمكن أن تستمر فوضى في مكان ما لستين سنة مثلاً، الناس يستطيعون تدبير أمرهم وحكم نفسهم والتكيف مع أوضاعهم أفضل كثيراً من حالهم تحت أنظمة قاهرة تتفنن في قتلهم وسلب أموالهم وتمكين الأجنبي في بلادهم.

وقد ثبت من سيرتهم التي كتبوها بدمائنا، ورسموها بسياطهم فوق لحومنا، أنهم لا يؤمنون بشيء، إذ ليس من مبدأ أو قاعدة يمكن التفاهم معهم عليها، لا هم يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات العامة ولا بحق الشعب في المتابعة والمراقبة فضلاً عن المحاسبة.

فمن هاهنا كانت لحظات الثورات العربية لحظات فارقة ذهبية لقلب هذا الوضع، والتخلص من هذه الأنظمة، ذلك أن الشعوب لا تنفجر متى أردنا ذلك، بل ولا تزال تحير علماء الاجتماع في تحديد توقيت وأسباب انفجارها، إلا أن أولئك الجاهلين المغفلين منا سارعوا لامتصاصها وتبريدها، بل وظفت الأنظمة بعضاً منهم لتداركها قبل وقوعها، حدث هذا في مصر وتونس والمغرب واليمن والأردن.

في تلك البلاد، كان الإسلاميون وسيلة امتصاص وتبريد الثورات وتداركها، رغم أنهم أكثر الكاسبين من نجاح الثورات، وأول الخاسرين إذا أخفقت، بل هم من قبلها مضطهدون ومن بعدها مضطهدون. فالإسلاميون في اليمن هم من شلُّوا حركة الثورة وأدخلوها في دهاليز اللقاء المشترك والمبادرة الخليجية وترتيبات المبعوث الأممي حتى أكل الحوثي اليمن، وقد كانوا قادرين –فقط لو تجاسروا وقرروا- أن يُجَنِّبوا اليمن مصيره المريع الذي يلقاه اليوم بين طرفين مجرمين: الحوثي ممثل إيران، مقابل السعودية والإمارات، ولا يدفع الثمن إلا أهل اليمن.

والإسلاميون في المغرب قبلوا أن يشاركوا مشاركة شكلية في الحكومة التي هي بلا صلاحيات ليكونوا درع القصر في الالتفاف حول الثورة الوشيكة، وليكونوا أيضاً سيفه في طعنها والقضاء عليها في مهدها، وقد فعلوا، ثم وجدوا أنفسهم بلا صلاحيات ولا قدرة، بل إذا نجحوا فالمدح متجه لجلالة الملك وإذا فشلوا فالسب والشتم متوجه إليهم! ومثل هذه التجربة تقال عن الأردن أيضاً مع تغيير تفاصيل غير مؤثرة!

والإسلاميون في مصر كانوا الأسرع إلى تهدئة الشارع وتبريد الثورة، ولولا ظهور شخصية ثورية مثل حازم أبو إسماعيل مع وجود رغبة دولية في "تجريب" الإسلاميين في الحكم لكانت قد تكررت تجربة 1954 بحذافيرها، لكن هذه المتغيرات أفسحت المجال لسَنة في السلطة منزوعة الصلاحيات، ومع هذا فإن أداءهم في هذه السنة كان أداء من امتلك الدولة وسيطر عليها، فسيطر عليهم الحرص على الدولة ومؤسساتها وتغييب الشعب عن الصراع الدائر في الدهاليز بل والحرص على تهدئته وتبريد روحه الثورية، فكان أن انقلبت هذه الروح الثورية بفعل مؤسسات الدولة وإعلامها لتكون ضد الإسلاميين أنفسهم، لم يفكر أولئك في مواجهة هذه الدولة العميقة لحظةَ أن كانوا قادرين ووراءهم ثورة شعبية رفعتهم –رغماً عنها- إلى السلطة، كما لم يفكروا في مواجهتها وهم مهددون، ثم لم يفكروا في مواجهتها بعد الانقلاب.. حالة عجيبة من حالات الانكسار النفسي والهزيمة المعنوية! وصار الذي هتف "سلميتنا أقوى من الرصاص" نزيلاً في الزنزانة بتهمة الإرهاب!

تجربة تونس فريدة جداً في بيان نكبتنا ونكستنا العربية الإسلامية، وواحدة من أهم الشواهد الضخمة المنتصبة على ما نحن فيه من التيه. يقولون عن راشد الغنوشي مفكر، رغم أن سلوكه السياسي نموذج من السذاجة والضعف والارتباك ثم الفشل. ولا يمكن تفسير مساره إلا أنه آمن بالديمقراطية أكثر من إيمانه بالله وبكتابه وبرسوله، فإن كلام الله وسيرة رسوله ضد الغنوشي على طول الخط.. والغنوشي الذي تأسف قديماً وأدان الحركة الإسلامية لأنها لم تهتم بعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد ظهر أنه لم يعتبر من هذه العلوم ولم يستفد منها شيئاً!

فمختصر مسار حركة النهضة التونسية أنها لم ترد إقامة الإسلام الذي هو مبرر وجودها كحركة إسلامية فتنازلت عن كل تأسيس إسلامي في الدستور أو هياكل الدولة، بل ولا احترمت الديمقراطية كوسيلة لبيان إرادة الشعب التي رفعتها إلى السلطة فتنازلت عن السلطة، إنما احترمت رغبة الأقوياء –وهم في أشد حالات ضعفهم، في لحظة الثورة- وسمَّت ذلك "البحث عن التوافق، الصيغة المشتركة للتعايش..." ونحو هذه الألفاظ النخبوية السفيهة الكفيلة باستجلاب الهزيمة في أي لحظة صراع فارقة. فانتهى هذا إلى أنها أسلمت الثورة إلى نظام (بن علي) نفسه مرة أخرى، وبشرعية كاملة، وهي الآن لا تملك أن تحمي نفسها من أن تنزل نفس السجون إن قررت السلطة أن تفعل هذا. وبالموازاة مع هذا كله أسهلت حركة النهضة التنازل عن الإسلام وتكييفه وتأويله وتطويعه وتعديله ليتفق مع رغبات الحداثة الغربية العلمانية الغالبة. ثم لا يأتينا من الغنوشي إلا مقالات تبريرية وتراجعات وتعديلات على أفكاره القديمة حتى صار الغنوشي نموذجاً مثالياً للتأصيل "الشرعي" للعلمانية!

سيقولون: كل هذه البلاد وفَّرت على نفسها الصراع والدماء الذي انطلق في مصر وليبيا وسوريا.

ونقول: الاستسلام حلٌّ يجيده كل أحد، ويملكه كل أحد، ولا يُعدَّ ذكاء ولا حكمة أنك تنسحب من المعركة، تنسحب منها في أفضل فرصة ممكنة (فرصة ثورة شعبية).. ولا يُمدح أحدٌ بأنه انسحب من كل معركة فوفَّر على نفسه وجنوده الحياة! هذا يسمى انسحاباً واستسلاماً وضعفاً وجبناً ويسمى أيضاً خيانة!.. ولا يُعدّ الانسحاب حكمة إلا من قائد تتواصل انتصاراته لكنه انسحب من واحدة أو اثنتين لظروف رآها، أما من يقضي حياته في الانسحاب وتجنب المعارك فلا يسمى حكيماً بل جباناً!

نعم، مرسي لم يكن رئيساً جيداً، لم يخض المعركة بحقها في الوقت الذي كان الشعب فيه معه، لكن صمود اللحظة الأخيرة هو ما جعل صورة الحق والباطل واضحة في مصر حتى الآن، وهذا ما يُحسب له، لا يزال السيسي عسكرياً منقلباً.. بينما لا يستطيع أحد أن يقول مثل ذلك عن السبسي في تونس! فإنه يتمتع بشرعية كاملة!

وهكذا ماذا تكون الثورة قد حققت من النتائج، إن نحن أخذت حركة النهضة بناصيتها فأعادتها إلى النظام القديم ومعها الشرعية التي تنقله من مغتصب إلى ديمقراطي؟! هذا مع أنه لا ضمانة أبداً أنه سيحترم هذه الديمقراطية ولن ينقلب عليها، إذ لسنا نعرف من أخلاقهم ولا من أخلاق داعميهم الإيمان بالديمقراطية، كما ليس بأيدي النهضة والغنوشي من الضمانات الواقعية والاستعدادات العملية ما يجعلهم يتخوفون من الانقلاب على الديمقراطية.

إذا أردنا إجمال الحقائق في عالم البشر والسياسية فسيكون من بينها هذه الأمور:

1. لا تنهض الأمم إلا حين تمر بمخاضات عسيرة مؤلمة تفقد فيها كثيراً من الخسائر حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال، الذي يؤهلها لتكون قوى كبيرة وعظمى فيما بعد.

2. الاستبداد المعاصر هو صنيعة الاحتلال، والاحتلال داعمه وكفيله، فمعركة التصدي للاستبداد الداخلي هي جزء من معركة التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهؤلاء الحكام وهذه الأنظمة ليسوا مجرد وطنيين وقع بيننا وبينهم الاختلاف في الرأي والنظر وطريق النهضة، بل هم وكلاء الاحتلال الذين يحاربون هذه البلاد وأهلها أشد مما كان يحاربها أسيادهم.

3. ليس من مستبد ولا محتل يرحل من مكانه ويفرط في سلطانه لمجرد احترام الرغبة الشعبية، بل لا يرحل مستبد ولا محتل إلا كارهاً مقهوراً مجبراً بعد استنفاد وسائله في التشبث والبقاء.

4. الثورات لحظات فارقة ونادرة ولا تتكرر كلما شئنا.

حين يفقد العلماء وقادة الحركات الإسلامية الوعي بهذه الأمور وتنحصر رؤيتهم في حقن الدماء "هنا" و"الآن" فإنهم لا يصنعون خيرًا للبلاد والعباد، بل على العكس، هم يسلمونها لحقبة قادمة بعشرات السنين لا تحصى فيها الخسائر من الدين والدماء والأموال والهيمنة الأجنبية والتخلف العلمي والحضاري. ومن هنا فإن إفشال الثورات بتبريدها وتسكينها وتخديرها قبل تحقيق التمكين الحقيقي لممثلي الشعب –وهم في بلادنا الإسلاميون- ليس إنقاذاً للأوطان من الفوضى، بل هو إنقاذ للأجنبي من الورطة التي قد تنفجر في وجهه وتُخرجه من البلد.

وحينئذ فالموازنة بين المصالح والمفاسد لا ينبغي أن تكون مقتصرة عن اللحظة "الآن" والمكان "هنا"، بل ينبغي أن تتسع لتشمل المستقبل –الذي نعرفه بخبرة الماضي- وأن تتسع بحجم الأمة لنرى كيف يمكن أن يؤثر الاستسلام هنا أو الانتصار هنا على الأمة كلها في معاركها الدائرة شرقاً وغرباً. وساعتئذ سنرى أن احتمال الألم في المخاض حتى الاستقلال والتحرر من الاستبداد والاحتلال أهون كثيراً كثيراً كثيراً من أخذ جرعة المخدر اللحظية الـمُسَكِّنة والتي سرعان ما تنتهي لنجد ألماً طويلاً مستمراً لا ينتهي أيضاً إلا بمخاض آخر تكاليفه أشد وأقسى!

سل الذين مَكَّنوا لعبد الناصر في مصر حين لم يواجههوه أول أمره: دماء من حقنتم؟! ودماء من أرقتم؟!.. وهل كانت مواجهة عبد الناصر قبل أن يستبد ستؤدي مهما بلغت تكاليفها إلى هذه النكبة التي نحياها ستين سنة؟!
‏٠٤‏/١٢‏/٢٠١٨ ٨:٠٤ م‏
صدر العدد الجديد من مجلة كلمة حق للتحميل: bit.ly/2Sm3WKX حمل هدية العدد مختصر كتاب حرب بلا قتال لمحمد عبد الحميد: bit.ly/2E7rUXq نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة تابعنا: تويتر https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام https://t.me/klmtuhaq
صدر العدد الجديد من مجلة كلمة حق

للتحميل:
bit.ly/2Sm3WKX

حمل هدية العدد مختصر كتاب حرب بلا قتال لمحمد عبد الحميد:
bit.ly/2E7rUXq

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة

تابعنا:

تويتر
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/١٢‏/٢٠١٨ ٥:٤٤ م‏
المسألة الخاشقجية حامد عبد العظيم (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) بات مؤكداً أن الصحفي جمال خاشقجي (60 عاماً) قد قُتل في مقر القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول، بل وتشير العديد من التسريبات عن مسؤولين أتراك أن خاشقجي قد عُذب وقُطّعت جثته لإخفائها. ونحن إذ نرجو الرحمة لجمال خاشقجي إلا أننا نريد الاستفادة من هذه المسألة على مستوى الوعي ومستوى العمل، فلا يحدث أمر في هذا الكون إلا لحكمة يعلمها الله تعالى، ويعلم بعضها من شاء من البشر. 1) لقد فضح هذا الحادث النظام السعودي، وأظهره في حُلته الشيطانية الحقيقية للجميع، والتي كان يخبئها دوماً ويسترها بحُلة كاذبة ملائكية مزورة، تتمثل في أنه حامي الحرمين الشريفين وخادمهما، وأنه حارس "السلفية" والدين الصحيح والعقيدة الصافية النقية من الشرك! تلك "السلفية" التي استخدموها لغسيل عمالتهم وتبييض وجوههم، أمام العالم الإسلامي، ولتخدير دماغ البسطاء ومحبي النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته والتابعين لعدم رؤية نظامهم العميل على حقيقته. لقد خُدع كثير من المسلمين في هذا النظام الطاغوتي لعشرات السنين، وأصبحت السعودية في نظرهم بلاداً إسلامية تطبق الشريعة! وكأن الشريعة محصورة في حدود ضيقة ولا تشمل السياسة والاقتصاد ولا تحوي العدل والحرية والحق، وأصبحت في نظرهم قبلة طلبهم للعلم وقبلة صيامهم لشهر رمضان، فتجد بعضهم يؤجل ويُقدم صيامه حتى تعلن السعودية رؤيتها لهلال، حتى وإن ظهر الهلال في بلده أو لم يظهر بعد. باعتبار أن السعودية نظام ثقة لا يتحرك في شاردة ولا واردة إلا على هدي الشرع وهداه! ولكن هذا الحادث قد عرّى هذا النظام أكثر، وتركه بلا ساتر يستر به عورته، واتضح أنه نظام دموي لا يتحرج من تقطيع جثة مواطن بالمنشار لمجرد أنه ينتقد سياسات بلاده، وأنه نظام وظيفي يأتمر بأمر سيده، لا فرق في ذلك بينه وبين أي نظام عميل آخر، وهو الأمر الذي كان واضحاً لدى العقلاء منذ عهد عبد العزيز آل سعود عميل بريطانيا، واستمر في أبنائه من بعده حتى أصبحت السعودية محتلة احتلالاً شبه كامل من أمريكا، احتلال سياسي واقتصادي، بل وحتى عسكري. 2) هذا الحادث وطريقة وسرعة تنفيذه، يؤكد بشكل كبير أن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها هذا النظام بتلك الأعمال الإجرامية التي تشبه أعمال عصابات المافيا، وأن آلاف الأسرى المعتقلين لديه ليسوا بعيدين على الإطلاق عن هذا المصير، فإن كان قد فعل ذلك بمَن هو في بلد آخر فكيف يفعل بمن هم عنده وفي سجونه ولا يعلم أحد عنهم شيئاً؟ لذلك فالعمل على تحرير الأسرى من السجون السعودية هو أم لازم وحتمي، خاصة وأنهم نخبة المجتمع السعودي الحقيقية وأهل الصدق والحق فيه، ولم يبقَ خارج السجون إلا أبواق النظام كعائض القرني والعريفي والمغامسي والفوزان وغيرهم، وقلة نادرة من أهل الصدق لا يُسمع لهم صوت. 3) في حادثة خاشقجي دروس كثيرة للنشطاء الذين تطاردهم أنظمتهم العميلة، فالنظام العميل - سواء السعودي أو المصري أو الإماراتي أو غيرهم - وأجهزة استخباراته تزعجهم وتقض مضاجعهم المعارضة بأنواعها، من المعارضة بالكلمة إلى المقاومة بالسلاح، ولن يتورع أبداً عن اغتيال معارضيه في الخارج ليرهب الآخرين، وهذا المقصد الرئيسي من قتل خاشقجي ولكنه انقلب على رأس فاعليه. لذلك يجب الأخذ في الحسبان أن قنصلية الأنظمة الطاغوتية ما هي إلا مقرات استخباراتية تراقب وتجمع المعلومات عن المعارضين، فهذه وظيفة أساسية لها مع وظائفها القنصلية الأخري. فلابد من تجنب التعامل مع هذه القنصليات قدر الإمكان، وفي حالة الذهاب إليها للاضطرار يجب اصطحاب صديق لينتظر في الخارج حيث يعلم موظفو القنصلية أنك لم تأتِ وحيداً فيستفردوا بك. ومعلوم أن موظفي القنصلية يأخذون المتعلقات الشخصية للشخص قبل أن يدخل القنصلية، لذلك فترك المتعلقات الشخصية مع صديقك أو زوجتك أو ابنك أو أياً كان من ينتظرك خارج القنصلية هو أمر ضروري، مثل أوراقك المهمة ومحفظتك وهاتفك ومفاتيحك، وخذ فقط المبلغ المالي الخاص بمعاملتك وجواز سفرك، واحذر أن تكتب عنوانك الذي تقيم فيه بدقة. وبعد كل هذه التنبيهات يظل الذهاب إلى قنصلية هؤلاء أمراً خطيراً. 4) الدرس الذي يكرره قتل خاشقجي والذي لا يريد أن يتعلمه الكثيرون ويتملص من حقيقته الأكثر، أن العمل على إسقاط هذه الأنظمة الإجرامية هو واجب الوقت، وأنه لن توجد عدالة أو حقوق إنسان أو حرية أو إصلاح أو شريعة في عهد هؤلاء، فهم لن يسمحوا بأي جهد من شأنه أن يحقق الاستقلال عن التابعية لأمريكا، ولن يرضوا بأي تجمع إصلاحي ديني باستثناء تجمعات أبواق وعلماء السلطان، ولن يتركوا أي سعي نهضوي يتكون إلا ويقضون عليه في مهده. فإسقاطهم هو واجب وفرض هذا العصر الذي يأثم به المسلمون جميعهم إذا لم يقُم به بعضهم؛ لِما يفسدونه من البلاد والعباد، والحاضر والمستقبل، والدين والدنيا. 5) ولكن الحديث عن إسقاط هذه الأنظمة يستدعي حديثاً آخر ذا شجون، لا ينتبه له إلا أفذاذ الناس، ويُقصر فيه السواد الأعظم للأسف الشديد، وهو حديث الكوادر، فلا يكفي الحث على إسقاط هذه الأنظمة دون سؤال ما بعد النظام العميل، حتى لا تتحول الثورات إلى مجرد نظام عميل جديد، لذلك فالتخطيط والتنظيم والإنفاق السخي من أجل إعداد الكوادر السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية وغيرهم، مهم للغاية ومن ضمن واجبات الوقت أيضاً، وذلك سعياً لإعداد نخبة حرة ووطنية تحترم دينها وتعرفه، وتعي واقعها بدقة، وتتخصص في مجال تحتاجه الأمة، ويكون لديها الجاهزية لخدمة الأمة عند الاحتياج لديها، وقبل ذلك تعمل بكل طاقتها لإسقاط الأنظمة الظالمة والتأسيس لأنظمة إسلامية عادلة. وأكثر ما يجعل الناس يغفلون عن ذلك أنهم ينظرون إليه أنه أمر بعيد المدى، منشغلين بدلاً منه بمستجدات الواقع، وهذا لعمري خسارة عظيمة لن يدركوها إلا عند حدوث الأمور الجلل الكبار والتي يبحثون فيها عن متخصصين فلا يجدون إلا من صُنعوا على أعين الاحتلال والأنظمة العميلة. وقد مرت سبع سنوات على الثورات العربية، وقد كانت هذه الفترة كفيلة بصنع كوادر في مجالات عدة، وهو ما حدث بقدر ضئيل جداً للأسف الشديد. نسأل الله أن يرحم جمال خاشقجي وأن يوقظ الأمة من غفلتها وركدتها.
المسألة الخاشقجية
حامد عبد العظيم

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

بات مؤكداً أن الصحفي جمال خاشقجي (60 عاماً) قد قُتل في مقر القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول، بل وتشير العديد من التسريبات عن مسؤولين أتراك أن خاشقجي قد عُذب وقُطّعت جثته لإخفائها.

ونحن إذ نرجو الرحمة لجمال خاشقجي إلا أننا نريد الاستفادة من هذه المسألة على مستوى الوعي ومستوى العمل، فلا يحدث أمر في هذا الكون إلا لحكمة يعلمها الله تعالى، ويعلم بعضها من شاء من البشر.

1) لقد فضح هذا الحادث النظام السعودي، وأظهره في حُلته الشيطانية الحقيقية للجميع، والتي كان يخبئها دوماً ويسترها بحُلة كاذبة ملائكية مزورة، تتمثل في أنه حامي الحرمين الشريفين وخادمهما، وأنه حارس "السلفية" والدين الصحيح والعقيدة الصافية النقية من الشرك! تلك "السلفية" التي استخدموها لغسيل عمالتهم وتبييض وجوههم، أمام العالم الإسلامي، ولتخدير دماغ البسطاء ومحبي النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته والتابعين لعدم رؤية نظامهم العميل على حقيقته.

لقد خُدع كثير من المسلمين في هذا النظام الطاغوتي لعشرات السنين، وأصبحت السعودية في نظرهم بلاداً إسلامية تطبق الشريعة! وكأن الشريعة محصورة في حدود ضيقة ولا تشمل السياسة والاقتصاد ولا تحوي العدل والحرية والحق، وأصبحت في نظرهم قبلة طلبهم للعلم وقبلة صيامهم لشهر رمضان، فتجد بعضهم يؤجل ويُقدم صيامه حتى تعلن السعودية رؤيتها لهلال، حتى وإن ظهر الهلال في بلده أو لم يظهر بعد. باعتبار أن السعودية نظام ثقة لا يتحرك في شاردة ولا واردة إلا على هدي الشرع وهداه!

ولكن هذا الحادث قد عرّى هذا النظام أكثر، وتركه بلا ساتر يستر به عورته، واتضح أنه نظام دموي لا يتحرج من تقطيع جثة مواطن بالمنشار لمجرد أنه ينتقد سياسات بلاده، وأنه نظام وظيفي يأتمر بأمر سيده، لا فرق في ذلك بينه وبين أي نظام عميل آخر، وهو الأمر الذي كان واضحاً لدى العقلاء منذ عهد عبد العزيز آل سعود عميل بريطانيا، واستمر في أبنائه من بعده حتى أصبحت السعودية محتلة احتلالاً شبه كامل من أمريكا، احتلال سياسي واقتصادي، بل وحتى عسكري.

2) هذا الحادث وطريقة وسرعة تنفيذه، يؤكد بشكل كبير أن هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها هذا النظام بتلك الأعمال الإجرامية التي تشبه أعمال عصابات المافيا، وأن آلاف الأسرى المعتقلين لديه ليسوا بعيدين على الإطلاق عن هذا المصير، فإن كان قد فعل ذلك بمَن هو في بلد آخر فكيف يفعل بمن هم عنده وفي سجونه ولا يعلم أحد عنهم شيئاً؟ لذلك فالعمل على تحرير الأسرى من السجون السعودية هو أم لازم وحتمي، خاصة وأنهم نخبة المجتمع السعودي الحقيقية وأهل الصدق والحق فيه، ولم يبقَ خارج السجون إلا أبواق النظام كعائض القرني والعريفي والمغامسي والفوزان وغيرهم، وقلة نادرة من أهل الصدق لا يُسمع لهم صوت.

3) في حادثة خاشقجي دروس كثيرة للنشطاء الذين تطاردهم أنظمتهم العميلة، فالنظام العميل - سواء السعودي أو المصري أو الإماراتي أو غيرهم - وأجهزة استخباراته تزعجهم وتقض مضاجعهم المعارضة بأنواعها، من المعارضة بالكلمة إلى المقاومة بالسلاح، ولن يتورع أبداً عن اغتيال معارضيه في الخارج ليرهب الآخرين، وهذا المقصد الرئيسي من قتل خاشقجي ولكنه انقلب على رأس فاعليه.

لذلك يجب الأخذ في الحسبان أن قنصلية الأنظمة الطاغوتية ما هي إلا مقرات استخباراتية تراقب وتجمع المعلومات عن المعارضين، فهذه وظيفة أساسية لها مع وظائفها القنصلية الأخري. فلابد من تجنب التعامل مع هذه القنصليات قدر الإمكان، وفي حالة الذهاب إليها للاضطرار يجب اصطحاب صديق لينتظر في الخارج حيث يعلم موظفو القنصلية أنك لم تأتِ وحيداً فيستفردوا بك.

ومعلوم أن موظفي القنصلية يأخذون المتعلقات الشخصية للشخص قبل أن يدخل القنصلية، لذلك فترك المتعلقات الشخصية مع صديقك أو زوجتك أو ابنك أو أياً كان من ينتظرك خارج القنصلية هو أمر ضروري، مثل أوراقك المهمة ومحفظتك وهاتفك ومفاتيحك، وخذ فقط المبلغ المالي الخاص بمعاملتك وجواز سفرك، واحذر أن تكتب عنوانك الذي تقيم فيه بدقة. وبعد كل هذه التنبيهات يظل الذهاب إلى قنصلية هؤلاء أمراً خطيراً.

4) الدرس الذي يكرره قتل خاشقجي والذي لا يريد أن يتعلمه الكثيرون ويتملص من حقيقته الأكثر، أن العمل على إسقاط هذه الأنظمة الإجرامية هو واجب الوقت، وأنه لن توجد عدالة أو حقوق إنسان أو حرية أو إصلاح أو شريعة في عهد هؤلاء، فهم لن يسمحوا بأي جهد من شأنه أن يحقق الاستقلال عن التابعية لأمريكا، ولن يرضوا بأي تجمع إصلاحي ديني باستثناء تجمعات أبواق وعلماء السلطان، ولن يتركوا أي سعي نهضوي يتكون إلا ويقضون عليه في مهده. فإسقاطهم هو واجب وفرض هذا العصر الذي يأثم به المسلمون جميعهم إذا لم يقُم به بعضهم؛ لِما يفسدونه من البلاد والعباد، والحاضر والمستقبل، والدين والدنيا.

5) ولكن الحديث عن إسقاط هذه الأنظمة يستدعي حديثاً آخر ذا شجون، لا ينتبه له إلا أفذاذ الناس، ويُقصر فيه السواد الأعظم للأسف الشديد، وهو حديث الكوادر، فلا يكفي الحث على إسقاط هذه الأنظمة دون سؤال ما بعد النظام العميل، حتى لا تتحول الثورات إلى مجرد نظام عميل جديد، لذلك فالتخطيط والتنظيم والإنفاق السخي من أجل إعداد الكوادر السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية وغيرهم، مهم للغاية ومن ضمن واجبات الوقت أيضاً، وذلك سعياً لإعداد نخبة حرة ووطنية تحترم دينها وتعرفه، وتعي واقعها بدقة، وتتخصص في مجال تحتاجه الأمة، ويكون لديها الجاهزية لخدمة الأمة عند الاحتياج لديها، وقبل ذلك تعمل بكل طاقتها لإسقاط الأنظمة الظالمة والتأسيس لأنظمة إسلامية عادلة.

وأكثر ما يجعل الناس يغفلون عن ذلك أنهم ينظرون إليه أنه أمر بعيد المدى، منشغلين بدلاً منه بمستجدات الواقع، وهذا لعمري خسارة عظيمة لن يدركوها إلا عند حدوث الأمور الجلل الكبار والتي يبحثون فيها عن متخصصين فلا يجدون إلا من صُنعوا على أعين الاحتلال والأنظمة العميلة. وقد مرت سبع سنوات على الثورات العربية، وقد كانت هذه الفترة كفيلة بصنع كوادر في مجالات عدة، وهو ما حدث بقدر ضئيل جداً للأسف الشديد.

نسأل الله أن يرحم جمال خاشقجي وأن يوقظ الأمة من غفلتها وركدتها.
‏٢٩‏/١١‏/٢٠١٨ ٧:٤٩ م‏
أدب الأزمة د. مجدي شلش (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) وطن يُباع، شعب يحطم، ثورة تخمد، شباب يقتل، نساء تعتقل وتغتصب، أرامل حزينة، أمهات ثكلي، آباء بلا حول ولا قوة. سجون قبور، تعذيب قاتل، طعامهم الصبر، مشربهم الإيمان، ملبسهم التقوى، حياة برائحة الموت، وموت فيه بعض رائحة حياة، عظام تتحرك، قلوب بالثبات ساكنة، وصدور بالإيمان والنصر مطمئنة. شهداء جادوا بدمهم من أجل قضيتهم، باعوا النفس والنفيس لتطهير الأرض من الرجس والوسخ، ارتفع أفضل ما فينا ثمناً لحياتنا وحياة أمتنا، هم الآن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون. مطاردون بلا وطن، مشردون بلا مأوى، سائحون بلا سكن، شبابنا حيران، نساؤنا حبلي بالغم والأحزان، صغيرنا تائه، كبيرنا أقرب للفقد والحرمان، الكل حزين ومكلوم، ضحكهم بكاء، لعبهم ترح، وتنزههم خوف وفزع. أزمة يرى البعض أن الأمة لم تمر بمثلها، تكالب الأعداء من الداخل والخارج، صفقات كبري على هوية الأمة، وضربات للثوابت بمكر الليل والنهار، الأمة كأنها تنتظر الجلد والسلخ بعد الذبح، مالها في الأفق الدنيوي البشري من ظهير ولا نصير. الأزمات الكبرى لها رجالها وشبابها، مفكروها وعقلاؤها، عظماؤها أصحاب الأدب الراقي، والسلوك الجامع، نفوسهم من الأحقاد خالية، وأرواحهم من السمو عالية، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم لإخوانهم غضاضة، أهل إيثار وكرم وما معهم إلا الخصاصة. أزمتنا كبيرة تحتاج إلى رجال كبار القلوب والعقول يأخذون بيد القريب، ويكرمون البعيد، تتألف بهم القلوب، وتنشرح بهم الصدور، وجوههم رغم الأحزان مبتسمة، ونفوسهم رغم الضيق متسعة، وبيوتهم قبلة الأحرار من كل لون وطيف، بأدبهم يقرب البعيد، وبسلوكهم يعود الشريد. نعم القوم الأشعريون كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم من مال فاقتسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم، هكذا أدب الغزو إذا نتج عنه أرامل فقط، ونحن في أزمة أشد من فقد الأرامل لأزواجهن، إنها أزمة هوية أمة. هنا تتجلى الرجولة والشهامة وتظهر معادن الناس، كيف يتقلب أخ في النعمة ويعلم أن أخاه بلا مأوى؟ كيف ينام ويقوم ويقعد وهو يعلم أن شباباً بلا عمل ولا سكن ولا طعام أو شراب؟ الأشعريون مدحوا قبل إسلامهم، وهكذا طبيعة العربي المسلم الأصيل الكرم والنجدة والشجاعة. الخسة والنذالة والرخص لمن ملك وحرم لمجرد الاختلاف معه في الرأي أو الوجهة، لا إنسانية ولا أخوة لمن حارب أحبابه وإخوانه في قوت يقيم به نفسه وعياله، أخوة شكلية لا رصيد فبها من ذرة شهامة أو حب أو إنسانية. رأيت بأم عيني رجالا كراماً أخرجوا أولادهم من التعليم لعدم النفقة، وقد كانوا من أكرم الناس مع إخوانهم قبل خروجهم من ديارهم، ونساء وبنات خرجن للعمل في المقاهي والمطاعم لقلة ذات اليد وكن من أهل الفضل والجود مع زوارهم في بيوتهم. الأزمات الكبرى الأصل أن يلتحف الناس بلحاف واحد، ويجمعهم طعام واحد، وكساء واحد، ومسكن واحد، أول درجات الثبات حتى يأتي النصر أن يجد الفقير عند الغني ما يكفيه، والضعيف عند القوي ما يحميه، واليتيم عند القائد ما يرشده ويؤويه. ديننا دين السمو والرفعة والعطاء، منه تعلمنا فضل الحب والأخوة والإيثار، دخلت امرأة الجنة لأنها أكرمت وسقت كلباً رغم زناها، وبعض إخواننا يمنعون إخوانهم الحب والصفاء لأنهم تكلموا في حقهم وقد قرؤوا قوله تعالى: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] ليس بعد حادثة الإفك من جريمة في حق الأب، وقد منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه العطاء لخوض مسطح في عرض ابنته الطاهرة، أزمة كبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، إلا إن أدب القرآن تنزّل بالعفو والصفح واستمرار العطاء حتى يجود الله عليه بالعفو والمغفرة. كفى بالمرء أدباً وحسناً أن تعد معايبه، ومن منا بلا عيب أو خلل أو تقصير كلنا ذلك الرجل، تمنع عن أخيك حقه في الحب والحنان لمجرد ذنب ارتكبه وهو في أزمة، والأزمات الكبرى تذهب بلب العقلاء فما بالنا ببعض الشباب خرجوا من ديارهم بلا أب معهم يربي، ولا أم تحن، فكن أنت الحاني وإن جهلوا. تعلمنا من دعوتنا أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، أناس لمجرد أن تختلف معهم قالوك ورجموك وبألسنة حداد قتلوك، أناس عشت معهم عشرات السنين، عملنا وأكلنا وشربنا ونمنا معاً وقد نسوا الفضل بيننا. في الأزمات الكبرى يترفع الإنسان بلسانه عن إخوانه، فلا يذكرهم إلا بالخير، بعض الشباب حاد من شدة الأزمة فطال لسانه، وساء أدبه، وخلط بين النصح المؤدب الذي يرتكز على الفكر والهدف وبين السب بالأم والأب والأهل وهتك الستر وشتان ما بين الأمرين من سلوك وأدب. أروع الأدب في الأزمات الهدوء في التفكير والتقييم لما فات، لا بشر بلا خطأ، ولا عصمة لحركة أو جماعة، التشنج بأن كل أمورنا علي الصواب خطأ محض، والتسرع في تقييم الأزمة خطل وخلل، وترك التقييم كلياً مصيبة وكارثة، النظر فيما فات لتقويم ما هو آت عقل وحكمة ورشاد. أدب الأزمات تقديم ذوي الكفاءات، الأزمات الكبرى لها العقول العظمي، من كل الأطياف والاتجاهات، شرعياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً وحقوقياً، فرصة لتكوين وتأهيل رجال دولة في شتى المجالات والتخصصات، في الأزمات الكبرى لا مكان للمطبلين والمادحين بحق أو غير حق، الأزمات الكبرى لا تحل برؤي أهل الثقة إن كان عندهم نظر، أو المنافقين إن كان عندهم دين، أو المصلحجية إن كان عندهم نخوة وكرامة. الأزمات الكبرى أدبها القريب الصحيح فقه المضاربة لا فقه الودائع، ترك الأمور على ما هي عليها أقرب لحفظ الأمانات حتى يأتي وقتها، ويخرج أهلها، إن صح هذا في الأمانات الصغري لا يصح في الأمانات الكبري، وقد منحنا الله العقل والحكمة والبصيرة، وهم بحمد الله من جميع الأطياف والاتجاهات كثر، فضارب بهم في سوق العمل بكل قوة ولا تخف ولا تخجل. شتان بين فقه الودائع القائم على الركون والخمول وإن كان فيه نوع حفظ، وبين فقه المضاربة القائم على التصور الصحيح للسوق، ثم العمل الذي لا يخلو من مخاطرة أو مغامرة، في النهاية الربح غالبا يكون للمضارب المغامر لا للحافظ الكسول.
أدب الأزمة

د. مجدي شلش

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

وطن يُباع، شعب يحطم، ثورة تخمد، شباب يقتل، نساء تعتقل وتغتصب، أرامل حزينة، أمهات ثكلي، آباء بلا حول ولا قوة.

سجون قبور، تعذيب قاتل، طعامهم الصبر، مشربهم الإيمان، ملبسهم التقوى، حياة برائحة الموت، وموت فيه بعض رائحة حياة، عظام تتحرك، قلوب بالثبات ساكنة، وصدور بالإيمان والنصر مطمئنة.

شهداء جادوا بدمهم من أجل قضيتهم، باعوا النفس والنفيس لتطهير الأرض من الرجس والوسخ، ارتفع أفضل ما فينا ثمناً لحياتنا وحياة أمتنا، هم الآن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.

مطاردون بلا وطن، مشردون بلا مأوى، سائحون بلا سكن، شبابنا حيران، نساؤنا حبلي بالغم والأحزان، صغيرنا تائه، كبيرنا أقرب للفقد والحرمان، الكل حزين ومكلوم، ضحكهم بكاء، لعبهم ترح، وتنزههم خوف وفزع.

أزمة يرى البعض أن الأمة لم تمر بمثلها، تكالب الأعداء من الداخل والخارج، صفقات كبري على هوية الأمة، وضربات للثوابت بمكر الليل والنهار، الأمة كأنها تنتظر الجلد والسلخ بعد الذبح، مالها في الأفق الدنيوي البشري من ظهير ولا نصير.

الأزمات الكبرى لها رجالها وشبابها، مفكروها وعقلاؤها، عظماؤها أصحاب الأدب الراقي، والسلوك الجامع، نفوسهم من الأحقاد خالية، وأرواحهم من السمو عالية، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم لإخوانهم غضاضة، أهل إيثار وكرم وما معهم إلا الخصاصة.

أزمتنا كبيرة تحتاج إلى رجال كبار القلوب والعقول يأخذون بيد القريب، ويكرمون البعيد، تتألف بهم القلوب، وتنشرح بهم الصدور، وجوههم رغم الأحزان مبتسمة، ونفوسهم رغم الضيق متسعة، وبيوتهم قبلة الأحرار من كل لون وطيف، بأدبهم يقرب البعيد، وبسلوكهم يعود الشريد.

نعم القوم الأشعريون كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم من مال فاقتسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم، هكذا أدب الغزو إذا نتج عنه أرامل فقط، ونحن في أزمة أشد من فقد الأرامل لأزواجهن، إنها أزمة هوية أمة.

هنا تتجلى الرجولة والشهامة وتظهر معادن الناس، كيف يتقلب أخ في النعمة ويعلم أن أخاه بلا مأوى؟ كيف ينام ويقوم ويقعد وهو يعلم أن شباباً بلا عمل ولا سكن ولا طعام أو شراب؟ الأشعريون مدحوا قبل إسلامهم، وهكذا طبيعة العربي المسلم الأصيل الكرم والنجدة والشجاعة.

الخسة والنذالة والرخص لمن ملك وحرم لمجرد الاختلاف معه في الرأي أو الوجهة، لا إنسانية ولا أخوة لمن حارب أحبابه وإخوانه في قوت يقيم به نفسه وعياله، أخوة شكلية لا رصيد فبها من ذرة شهامة أو حب أو إنسانية.

رأيت بأم عيني رجالا كراماً أخرجوا أولادهم من التعليم لعدم النفقة، وقد كانوا من أكرم الناس مع إخوانهم قبل خروجهم من ديارهم، ونساء وبنات خرجن للعمل في المقاهي والمطاعم لقلة ذات اليد وكن من أهل الفضل والجود مع زوارهم في بيوتهم.

الأزمات الكبرى الأصل أن يلتحف الناس بلحاف واحد، ويجمعهم طعام واحد، وكساء واحد، ومسكن واحد، أول درجات الثبات حتى يأتي النصر أن يجد الفقير عند الغني ما يكفيه، والضعيف عند القوي ما يحميه، واليتيم عند القائد ما يرشده ويؤويه.

ديننا دين السمو والرفعة والعطاء، منه تعلمنا فضل الحب والأخوة والإيثار، دخلت امرأة الجنة لأنها أكرمت وسقت كلباً رغم زناها، وبعض إخواننا يمنعون إخوانهم الحب والصفاء لأنهم تكلموا في حقهم وقد قرؤوا قوله تعالى: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]
ليس بعد حادثة الإفك من جريمة في حق الأب، وقد منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه العطاء لخوض مسطح في عرض ابنته الطاهرة، أزمة كبيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، إلا إن أدب القرآن تنزّل بالعفو والصفح واستمرار العطاء حتى يجود الله عليه بالعفو والمغفرة.

كفى بالمرء أدباً وحسناً أن تعد معايبه، ومن منا بلا عيب أو خلل أو تقصير كلنا ذلك الرجل، تمنع عن أخيك حقه في الحب والحنان لمجرد ذنب ارتكبه وهو في أزمة، والأزمات الكبرى تذهب بلب العقلاء فما بالنا ببعض الشباب خرجوا من ديارهم بلا أب معهم يربي، ولا أم تحن، فكن أنت الحاني وإن جهلوا.

تعلمنا من دعوتنا أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، أناس لمجرد أن تختلف معهم قالوك ورجموك وبألسنة حداد قتلوك، أناس عشت معهم عشرات السنين، عملنا وأكلنا وشربنا ونمنا معاً وقد نسوا الفضل بيننا.

في الأزمات الكبرى يترفع الإنسان بلسانه عن إخوانه، فلا يذكرهم إلا بالخير، بعض الشباب حاد من شدة الأزمة فطال لسانه، وساء أدبه، وخلط بين النصح المؤدب الذي يرتكز على الفكر والهدف وبين السب بالأم والأب والأهل وهتك الستر وشتان ما بين الأمرين من سلوك وأدب.

أروع الأدب في الأزمات الهدوء في التفكير والتقييم لما فات، لا بشر بلا خطأ، ولا عصمة لحركة أو جماعة، التشنج بأن كل أمورنا علي الصواب خطأ محض، والتسرع في تقييم الأزمة خطل وخلل، وترك التقييم كلياً مصيبة وكارثة، النظر فيما فات لتقويم ما هو آت عقل وحكمة ورشاد.

أدب الأزمات تقديم ذوي الكفاءات، الأزمات الكبرى لها العقول العظمي، من كل الأطياف والاتجاهات، شرعياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً وحقوقياً، فرصة لتكوين وتأهيل رجال دولة في شتى المجالات والتخصصات، في الأزمات الكبرى لا مكان للمطبلين والمادحين بحق أو غير حق، الأزمات الكبرى لا تحل برؤي أهل الثقة إن كان عندهم نظر، أو المنافقين إن كان عندهم دين، أو المصلحجية إن كان عندهم نخوة وكرامة.

الأزمات الكبرى أدبها القريب الصحيح فقه المضاربة لا فقه الودائع، ترك الأمور على ما هي عليها أقرب لحفظ الأمانات حتى يأتي وقتها، ويخرج أهلها، إن صح هذا في الأمانات الصغري لا يصح في الأمانات الكبري، وقد منحنا الله العقل والحكمة والبصيرة، وهم بحمد الله من جميع الأطياف والاتجاهات كثر، فضارب بهم في سوق العمل بكل قوة ولا تخف ولا تخجل.

شتان بين فقه الودائع القائم على الركون والخمول وإن كان فيه نوع حفظ، وبين فقه المضاربة القائم على التصور الصحيح للسوق، ثم العمل الذي لا يخلو من مخاطرة أو مغامرة، في النهاية الربح غالبا يكون للمضارب المغامر لا للحافظ الكسول.
‏٢٧‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٠١ م‏
بيان علماء الأزهر لتحرير فلسطين (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) إثْرَ صُدورِ قرارِ تقسيم فَلَسطينَ سَنَةَ ( 1947م ) أصْدَرَ عُلَماءُ الأزهرِ النداءَ التالي: إِلَى أبناءِ العروبَةِ والإسلامِ مِنْ عُلماءِ الجامِعِ الأزهَرِ(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران : 138] (1). بسم الله الرحمن الرحيم يا مَعْشَرَ المُسلِمينَ: قُضِيَ الأمْرُ وتآلَبَتْ عَوامِلُ البَغْيِ والطُغيانِ عَلى فَلَسطينَ، وفيها المَسجِدُ الأَقْصَى، أُولى القبلتينِ وثالثُ الحَرَمَينِ، ومُنْتَهى إسراءِ خاتَمِ النَّبِيِّين صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيهِ. قُضي الأمْرُ وتبَيَنَ لَكُم أنَّ الباطِلَ ما زَالَ في غَلْوائِهِ، وأنَّ الهَوَى ما فَتِئَ عَلى العُقولِ مُسيطِرًا، وأنَّ الميثَاقَ الذي زَعَموهُ سَبيلاً للعدْلِ والإنصافِ ما هُوَ إلاَّ تنظيمٌ للظُلْمِ والإجحافِ، ولَمْ يَبقَ بَعْدَ اليومِ صَبْرٌ عَلى تِلكُمُ الهَضيمَةِ التِي يُريدونَ أنْ يُرهِقونا بِهَا في بلادِنا، وأنْ يَجْثُموا بِهَا عَلى صُدورنِا، وأنْ يُمَزِقوا بِهَا أوصالَ شُعوبٍ وَحَّدَ اللهُ بيَنَها في الدينِ واللغَةِ والشعورِ. إنَّ قَرارَ هَيئةِ الأمُمِ المُتَحِدَةِ، قَرارٌ مِنْ هَيئَةٍ لا تَمْلِكُهُ، وهُوَ قَرارٌ باطِلٌ جائِرٌ لَيسَ لَهُ نَصيبٌ مِنَ الحَقِ ولا العدالَةِ، ففَلَسطينُ مِلْكُ العَرَبِ والمُسلِمينَ، بَذَلوا فيها النفوسَ الغاليةَ، والدِماءَ الزكيَّةَ، وسَتَبقى إنْ شَاءَ اللهُ مِلْكُ العَرَبِ والمُسلِمينَ رَغْمَ تَحالُفِ المُبطلينَ، ولَيْسَ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كانَ أنْ يُنازِعَهُمْ فيها أو يُمَزقُها. وإِذا كَانَ البُغاةُ العُتاةُ قَصدوا بالسوءِ مِنْ قَبْلُ هذهِ الأماكنَ المُقَدَّسَةِ فَوَجَدوا مِنْ أبناءِ العروبَةِ والإسلامِ قساورةً ضراغِمَ ذادوا عَنِ الحِمى، ورَدوا البَغي عَلى أعْقابِهِ مُقَلَّمَ الأظافِرِ مُحَطَّم الأسِنَّةِ، فإنَّ في السُويْداءِ اليومَ رِجالاً، وفي الشَّرى آسادًا، وإنَّ التاريخَ لعائِدٌ بِهِم سيرَتَه الأولى، وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَموا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنقَلِبونَ. يا أبناءَ العُروبَةِ والإسلامِ: لَقد أَعْذَرتُمْ مِنْ قبَلُ وناضَلْتُم حتَّى تَبَينَ للناسِ وَجْهَ الحَقِ سافرًا ولَكِنَّ دسائِسَ الصهيونِيَّةِ وفِتَنِهِا وأموالَها قد استطاعَتْ أنْ تَجْلِبَ عَلى هذا الحَقِّ المُقَدَّسِ بِخَيْلِها وَرَجْلِها، فَعَمِيَتْ عَنْهُ الْعُيونُ، وصُمَّتْ الآذانُ والتَوَتْ الأعناقُ، فإذا بِكمُ تَقِفونَ في هَيْئَةِ الأُمَّمِ وحدَكم، ومُدَّعو نُصْرَةِ العَدالَةِ يَتَسللونَ عَنكُم لِواذًا، بَيْنَ مُستهِينٍ بِكُم، ومُمَّالئٍ لأعدائِكُم ومُتَسَتِرٍ بالصَمْتِ مُتَصَنِّعٍ للحيادِ. فإذا كُنُتُمْ قد استنفدتُم بِذَلِكَ جِهادَ الحُجَّة والبيانِ، فإنَّ وَراءَ هذا الجِهَادِ لإنقاذِ الحقِّ وحِمايَتِهِ، جِهادًا سَبيلُهُ مَشروعَةٌ وكَلِمَتُهُ مَسموعَةٌ، تَدفَعونَ بِهِ عَنْ كَيانكُم ومُستَقْبَلَ أبنائِكُم وأحفادِكُم. فذودوا عَنِ الحِمى، وادْفَعوا الذئابَ عَنِ العَرينِ، وجَاهِدوا في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )[النساء: 74 ] (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا )[النساء : 76]. يا أبناءَ العُروبَةِ والإسلامِ: خُذوا حِذْرَكُم فانْفِروا ثُباتٍ أو انْفِروا جَميعًا، وإيّاكُم أنْ يَكْتُبَ التاريخُ أنَّ العَرَبَ الأُباةَ الأماجِدَ، قَد خرَّوا أمامَ الظُلْمِ ساجدينَ أو قَبِلوا الذُلَّ صاغرينَ، إنَّ الخَطْبَ جَلَلٌ ، وإنَّ هذا اليومَ الفصلُ وما هُوَ بالهَزْلِ. فَلَيَبذُلْ كُلُّ عَرَبِيٍّ ، وكُلُّ مُسلمٍ في أقصى الأرضِ وأدناها مِنْ ذاتِ نَفْسِهِ ومالِهِ ما يَرُدُّ عَنِ الحِمى كَيدَ الكائدينَ ، وعُدوانَ المُعتدينَ. سُدُّوا عَليهِم السُّبُلَ واقْعُدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وقاطِعوهم في تِجارتَهِم ومُعاملاتِهِم، وأعِدُّوا فيما بَينَكُم كَتائِبَ الجِهَادِ، وقوموا بِفَرْضِ اللهِ عَليكُم واعْلَمُواْ أَنَّ الجِهَادَ الآنَ قد أصبحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلى كُلِّ قادرٍ بِنَفْسِهِ أو مالِهِ وأنَّ مَنْ يَتَخَلَفُ عَنْ هذا الواجِبِ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وإثْمٍ عَظيمٍ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[التوبة:111]. فإذا كُنْتُم بإيِمانِكم قَدْ بِعْتُمُ اللهَ أنفَسَكُم وأموالَكُم، فها هُو ذا وَقْتُ البذْلِ والتسليمِ، وأوفوا بِعَهْدِ اللهِ يوفِ بِعَهدِكُم. وليَشهَدِ العالَمُ غَضبتَكُم للكرامَةِ وذَودَكُم عَنِ الحَقِّ، ولْتَكُنْ غَضبتُكُم هذهِ عَلى أعداءِ الحَقِّ وأعدائِكُم، لا عَلى المُحْتَمينَ بِكم مِمَّنْ لَهُم حَقُ المواطِنِ عَليكُم وحَق الاحتماءِ بِكُم، فاحذروا أنْ تَعْتَدوا عَلى أَحَدٍ مِنهم إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتدِينَ، ولتتجاوبْ الأصداءُ في كُلِّ مَشْرِقٍ ومَغْرِبٍ بالكلمةِ المُحبَّبَةِ إِلَى المؤمنين: الجِهَادَ، الجِهَادَ، الجِهَادَ، واللهُ مَعَكُمْ. الموقعون على الفتوى: الشيخ مُحَمَّد مأمون الشناوي ( شيخ الجامع الأزهر )، والشيخ مُحَمَّد حسنين مخلوف ( مفتي الديار المصرية )، والشيخ عبد الرحمن حسن ( وكيل شيخ الجامع الأزهر )، الشيخ عبد المجيد سليم ( مفتي الديار المصرية السابق ) الشيخ مُحَمَّد عبد اللطيف دراز ( مدير الجامع الأزهر والمعاهد الدينية )، والشيخ محمود أبو العيون ( السكرتير العام للجامع الأزهر والمعاهد الدينية )، الشيخ عبد الجليل عيسى ( شيخ كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر )، والشيخ الحسيني سلطان (شيخ كلية أصول الدين ) الشيخ / عيسى منون ( شيخ كلية الشريعة )، والشيخ مُحَمَّد الجهني ( شيخ معهد القاهرة )، والشيخ عبد الرحمن تاج ( شيخ القسم العام )، والشيخ محمود الغمراوي ( المفتش بالأزهر )، وأعضاء جماعة كبار العلماء وكثير من غير هَؤلاءِ العلماء والمدرسين في الكليات والمعاهد الأزهريَّة في القاهرة والأقاليم المصريَّة. ـــــــــــــــــــــــــ (1) الهيئة العربية العليا فَلَسطين، حكم الإسلام في قضية فَلَسطين: فتاوى شرعية خطيرة لمناسبة معاهدة الصلح بَيْنَ مصر والعدو اليهودي ( بيروت: الهيئة العليا لفَلَسطين ، مايو 1979، ص (14 _ 15).
بيان علماء الأزهر لتحرير فلسطين

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

إثْرَ صُدورِ قرارِ تقسيم فَلَسطينَ سَنَةَ ( 1947م ) أصْدَرَ عُلَماءُ الأزهرِ النداءَ التالي: إِلَى أبناءِ العروبَةِ والإسلامِ مِنْ عُلماءِ الجامِعِ الأزهَرِ(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران : 138] (1).

بسم الله الرحمن الرحيم

يا مَعْشَرَ المُسلِمينَ: قُضِيَ الأمْرُ وتآلَبَتْ عَوامِلُ البَغْيِ والطُغيانِ عَلى فَلَسطينَ، وفيها المَسجِدُ الأَقْصَى، أُولى القبلتينِ وثالثُ الحَرَمَينِ، ومُنْتَهى إسراءِ خاتَمِ النَّبِيِّين صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيهِ.

قُضي الأمْرُ وتبَيَنَ لَكُم أنَّ الباطِلَ ما زَالَ في غَلْوائِهِ، وأنَّ الهَوَى ما فَتِئَ عَلى العُقولِ مُسيطِرًا، وأنَّ الميثَاقَ الذي زَعَموهُ سَبيلاً للعدْلِ والإنصافِ ما هُوَ إلاَّ تنظيمٌ للظُلْمِ والإجحافِ، ولَمْ يَبقَ بَعْدَ اليومِ صَبْرٌ عَلى تِلكُمُ الهَضيمَةِ التِي يُريدونَ أنْ يُرهِقونا بِهَا في بلادِنا، وأنْ يَجْثُموا بِهَا عَلى صُدورنِا، وأنْ يُمَزِقوا بِهَا أوصالَ شُعوبٍ وَحَّدَ اللهُ بيَنَها في الدينِ واللغَةِ والشعورِ.

إنَّ قَرارَ هَيئةِ الأمُمِ المُتَحِدَةِ، قَرارٌ مِنْ هَيئَةٍ لا تَمْلِكُهُ، وهُوَ قَرارٌ باطِلٌ جائِرٌ لَيسَ لَهُ نَصيبٌ مِنَ الحَقِ ولا العدالَةِ، ففَلَسطينُ مِلْكُ العَرَبِ والمُسلِمينَ، بَذَلوا فيها النفوسَ الغاليةَ، والدِماءَ الزكيَّةَ، وسَتَبقى إنْ شَاءَ اللهُ مِلْكُ العَرَبِ والمُسلِمينَ رَغْمَ تَحالُفِ المُبطلينَ، ولَيْسَ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كانَ أنْ يُنازِعَهُمْ فيها أو يُمَزقُها.

وإِذا كَانَ البُغاةُ العُتاةُ قَصدوا بالسوءِ مِنْ قَبْلُ هذهِ الأماكنَ المُقَدَّسَةِ فَوَجَدوا مِنْ أبناءِ العروبَةِ والإسلامِ قساورةً ضراغِمَ ذادوا عَنِ الحِمى، ورَدوا البَغي عَلى أعْقابِهِ مُقَلَّمَ الأظافِرِ مُحَطَّم الأسِنَّةِ، فإنَّ في السُويْداءِ اليومَ رِجالاً، وفي الشَّرى آسادًا، وإنَّ التاريخَ لعائِدٌ بِهِم سيرَتَه الأولى، وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَموا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنقَلِبونَ.

يا أبناءَ العُروبَةِ والإسلامِ: لَقد أَعْذَرتُمْ مِنْ قبَلُ وناضَلْتُم حتَّى تَبَينَ للناسِ وَجْهَ الحَقِ سافرًا ولَكِنَّ دسائِسَ الصهيونِيَّةِ وفِتَنِهِا وأموالَها قد استطاعَتْ أنْ تَجْلِبَ عَلى هذا الحَقِّ المُقَدَّسِ بِخَيْلِها وَرَجْلِها، فَعَمِيَتْ عَنْهُ الْعُيونُ، وصُمَّتْ الآذانُ والتَوَتْ الأعناقُ، فإذا بِكمُ تَقِفونَ في هَيْئَةِ الأُمَّمِ وحدَكم، ومُدَّعو نُصْرَةِ العَدالَةِ يَتَسللونَ عَنكُم لِواذًا، بَيْنَ مُستهِينٍ بِكُم، ومُمَّالئٍ لأعدائِكُم ومُتَسَتِرٍ بالصَمْتِ مُتَصَنِّعٍ للحيادِ.

فإذا كُنُتُمْ قد استنفدتُم بِذَلِكَ جِهادَ الحُجَّة والبيانِ، فإنَّ وَراءَ هذا الجِهَادِ لإنقاذِ الحقِّ وحِمايَتِهِ، جِهادًا سَبيلُهُ مَشروعَةٌ وكَلِمَتُهُ مَسموعَةٌ، تَدفَعونَ بِهِ عَنْ كَيانكُم ومُستَقْبَلَ أبنائِكُم وأحفادِكُم.

فذودوا عَنِ الحِمى، وادْفَعوا الذئابَ عَنِ العَرينِ، وجَاهِدوا في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )[النساء: 74 ] (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا )[النساء : 76].

يا أبناءَ العُروبَةِ والإسلامِ: خُذوا حِذْرَكُم فانْفِروا ثُباتٍ أو انْفِروا جَميعًا، وإيّاكُم أنْ يَكْتُبَ التاريخُ أنَّ العَرَبَ الأُباةَ الأماجِدَ، قَد خرَّوا أمامَ الظُلْمِ ساجدينَ أو قَبِلوا الذُلَّ صاغرينَ، إنَّ الخَطْبَ جَلَلٌ ، وإنَّ هذا اليومَ الفصلُ وما هُوَ بالهَزْلِ.

فَلَيَبذُلْ كُلُّ عَرَبِيٍّ ، وكُلُّ مُسلمٍ في أقصى الأرضِ وأدناها مِنْ ذاتِ نَفْسِهِ ومالِهِ ما يَرُدُّ عَنِ الحِمى كَيدَ الكائدينَ ، وعُدوانَ المُعتدينَ.

سُدُّوا عَليهِم السُّبُلَ واقْعُدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وقاطِعوهم في تِجارتَهِم ومُعاملاتِهِم، وأعِدُّوا فيما بَينَكُم كَتائِبَ الجِهَادِ، وقوموا بِفَرْضِ اللهِ عَليكُم واعْلَمُواْ أَنَّ الجِهَادَ الآنَ قد أصبحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلى كُلِّ قادرٍ بِنَفْسِهِ أو مالِهِ وأنَّ مَنْ يَتَخَلَفُ عَنْ هذا الواجِبِ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وإثْمٍ عَظيمٍ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[التوبة:111].

فإذا كُنْتُم بإيِمانِكم قَدْ بِعْتُمُ اللهَ أنفَسَكُم وأموالَكُم، فها هُو ذا وَقْتُ البذْلِ والتسليمِ، وأوفوا بِعَهْدِ اللهِ يوفِ بِعَهدِكُم.

وليَشهَدِ العالَمُ غَضبتَكُم للكرامَةِ وذَودَكُم عَنِ الحَقِّ، ولْتَكُنْ غَضبتُكُم هذهِ عَلى أعداءِ الحَقِّ وأعدائِكُم، لا عَلى المُحْتَمينَ بِكم مِمَّنْ لَهُم حَقُ المواطِنِ عَليكُم وحَق الاحتماءِ بِكُم، فاحذروا أنْ تَعْتَدوا عَلى أَحَدٍ مِنهم إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتدِينَ، ولتتجاوبْ الأصداءُ في كُلِّ مَشْرِقٍ ومَغْرِبٍ بالكلمةِ المُحبَّبَةِ إِلَى المؤمنين: الجِهَادَ، الجِهَادَ، الجِهَادَ، واللهُ مَعَكُمْ.

الموقعون على الفتوى:
الشيخ مُحَمَّد مأمون الشناوي ( شيخ الجامع الأزهر )، والشيخ مُحَمَّد حسنين مخلوف ( مفتي الديار المصرية )، والشيخ عبد الرحمن حسن ( وكيل شيخ الجامع الأزهر )، الشيخ عبد المجيد سليم ( مفتي الديار المصرية السابق ) الشيخ مُحَمَّد عبد اللطيف دراز ( مدير الجامع الأزهر والمعاهد الدينية )، والشيخ محمود أبو العيون ( السكرتير العام للجامع الأزهر والمعاهد الدينية )، الشيخ عبد الجليل عيسى ( شيخ كلية اللغة العربية بالجامع الأزهر )، والشيخ الحسيني سلطان (شيخ كلية أصول الدين ) الشيخ / عيسى منون ( شيخ كلية الشريعة )، والشيخ مُحَمَّد الجهني ( شيخ معهد القاهرة )، والشيخ عبد الرحمن تاج ( شيخ القسم العام )، والشيخ محمود الغمراوي ( المفتش بالأزهر )، وأعضاء جماعة كبار العلماء وكثير من غير هَؤلاءِ العلماء والمدرسين في الكليات والمعاهد الأزهريَّة في القاهرة والأقاليم المصريَّة.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الهيئة العربية العليا فَلَسطين، حكم الإسلام في قضية فَلَسطين: فتاوى شرعية خطيرة لمناسبة معاهدة الصلح بَيْنَ مصر والعدو اليهودي ( بيروت: الهيئة العليا لفَلَسطين ، مايو 1979، ص (14 _ 15).
‏٢٥‏/١١‏/٢٠١٨ ٧:٢٢ م‏
ولِيَعلم الذين نافقوا د. عبد العزيز الطريفي (فك الله أسره)* (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) قال تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ" [آل عمران : 167]. الآية نزلت في المناففقين وفي ابن أبي وأصحابه خاصة فيمن تردد في حكم الجهاد والاستجابة لأمر الله فيه؛ وذلك أن الله أمرهم بالخروج مع نبيه في أُحد، فرجع ابن أبي ومعه ثلث القوم؛ فاعتذروا بقولهم: "قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ" أي: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدافعنا عنكم، ولكنا لا نظن أن يكون قتال. أكثر ما يظهر النفاق: وإنما هي أعذار يظهر الله بها النفاق، وأكثر ما يظهر الله باطن المنافقين بأمرين: الأول: بالاستهزاء؛ كما في قوله تعالى: "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ" [التوبة : 64]. الثاني: بالأعذار التي يبدونها للتملص من الحق؛ لضعفها في مقابل الحجة، وكلما كانت الحجة في وجه الحق ضعيفة، سترت خلفها كبرا ونفاقا؛ لأن النفوس لا تتشوف إلى المعارضة بلا سبب، فتبدي حججًا واهية، وأعذارًا ضعيفة؛ وهي في باطنها معاندة. ولم يكن المنافقون يعارضون أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجهاد، وإنما يعتذرون بأعذار ضعيفة؛ ففي غزوة أُحد قالوا: "قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ"، وفي تبوك قالوا: "لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ" [التوبة : 81]، وفيها قال الجد بن قيس: "ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي" [التوبة : 49]. وفي أُحد لم يظهروا الامتناع من القتال؛ وإنما لا يظنون وقوع القتال؛ فلا يرون خروجهم بلا فائدة تتحقق، وفي تبوك لم يظهروا الامتناع من الجهاد؛ وإنما خشية الحر وحالهم لو كان بردا لخرجنا، وفي تبوك تبوك أيضًا لم يظهر الجد بن قيس الامتناع على الجهاد؛ وإنما أظهر خوف الفتنة على نفسه، وظاهره لو لم تكن فتنة فهو مقاتل، وبكثرة الأعذار لترك الحق يظهر النفاق. وهذه الأعذار تخرجهم من دائرة الكفر الظاهر إلى النفاق؛ ولذا قال تعالى: "هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ"، فلم يحكم بكفرهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) ليؤاخذهم على الكفر؛ وإنما حكم بنفاقهم؛ ليعاملهم به؛ ولذا عقب ذلك بقوله: "يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ". احتواء المنافقين: ومن فقه السياسة في جهاد النبي (صلى الله عليه وسلم): احتواء المنافقين، وإن مكروا وخدعوا وخانوا؛ كما فعل ابن أبي حيث حيث رجع بثلث الجيش، فلم يعاقبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أُحد ؛ وإنما جهلهم في عداد الجماعة، وأخذهم في جهاد بعد ذلك؛ لأن عزلهم عن الجماعة زيادة لشرهم وخبثهم؛ فهم يرجون أن الناس تظنهم متأولين وليسوا بمنافقين، ولو أعلن نفاق من يبطن شره، أظهره وانسلخ من جلده وأعلن العداوة، وهذا لا تتشوف إليه الشريعة، واعتبارهم في الظاهر مع جماعة المسلمين لا يعنى توليتهم ولاية، ولا اتخاذهم بطانة. تكثير سواد المسلمين عند القتال: وفى الآية: مشروعية تكثير المسلمين عند قيام النفير، ولو كان الناس في كفاية عدد؛ فالكثرة لها أثر في نفوس المسلمين بشد العزيمة وتقوية الهمة، ولها أثر على الكفار ببث الخوف والرعب، وأكثر هزائم الجيوش معنوية أكثر منها مادية. وقد روى ابن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ قال: "تُكَثِّرُوا بأنفُسِكم ولو لم تُقاتِلوا"؛ وبنحو هذا قال الضحاك وابن جريج وغيرهما (1). وفي الآية: أن مَن كثَّر سواد المجاهدين، فحضر معهم ولو لم يغز: أن له حكم المجاهد في الأجر والثواب. وقال أنس بن مالك: "رأيت يوم القادسية عبد اله بن أم مكتو الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: اليس قد أنزل الله عُذرك؟ قال: بلى! ولكني أُكثَّر سواد المسلمين بنفسي" (2). ورُوي نحو هذا عن سهل بن سعد؛ رواه الطبراني والبخاري في "تاريخه"؛ من حديث أبي حازم عنه. وفي قوله: "تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا" بيان لمراتب الحهاد، وأن اعلاه المواجهة مع العدو، وهو المقاتلة، وكلما كان المجاهد من العدو أقرب، كان في الأجر والثواب أعظم؛ لأن الله أمرهم أن يقاتلوا، وإن أبوا أن يكونوا من ورائهم يكثرون سواد المسلمين أو احاط بهم عدوهم. جهاد الطلب، وجهاد الدفع: وأخذ بعضهم من الآية الإشارة إلي نوعي الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدفع؛ وهذا نسبي وليس تقسيمًا مطلقًا في الآية؛ لأن خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة أُحد دفعٌ لا طلبٌ؛ لأنه علم بقدوم المشركين إليه فتجهز لمواجهتهم وصدهم، وهذه الآية نزلت في أُحد ، ولكن المتأخرين من وراء المقاتلين يُعدون مُدافعين بالنسبة للمتقدمين عليهم، والمتقدمين يُعَدون مقاتلين وطالبين بالنسبة للمتأخرين عنهم. التفاضل بين جهاد الدفع والطلب: وجهاد الطلب أعظم من جهاد الدفع؛ لأن جهاد الدفع لا يفتقر إلي نية، ومشوب بقصد حياطة الدنيا وحمايتها من نفس وأرض ومال وعرض، وأما جهاد الطلب، فالقصد فيه أكثر تجردًا؛ لاشتراط النية فيه لإعلاء كلمة الله، ثم إن أصل جهاد الدفع من جنس الفطرة والحمية الموجودة في جنس الحيوان، كان إنسانًا أو بهيمًا، فهو يدفع المعتدي عليه، وأما جهاد الطلب، من خصائص الإنسان وأهل الإيمان، وفي جهاد الدفع حماية للدنيا وصون لها، وفي جهاد الطلب ترك للدنيا وبذل لها، وقد يكون المجاهد يُجاهد جهاد الدفع وله أجر جهاد الطلب وفضله إذا كان يدفع عن مال غيره ونفسه وعرضه وأرضه؛ فهذا في جهاده جهاد دفع، واجره أجر طلب. وكلا الجهادين الدفع والطلب فضلهما عند الله عظيم، والأجر الوارد في الكتاب والسنة لهما في الآخرة يدخلان فيه جميعا، ولكنه عند التفاضل؛ فالطلب أفضل من الدفع في الآخرة، وجهاد الدفع أوجب في الدنيا؛ وهذه المسألة من نوادر المسائل التي يكون فيها النفل أعظم من الفرض وهما من جنس واحد. واخذ بعضهم من قوله: "قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا" الإشارة إلي عدم اشتراط النية في الدفع، فذكر القتال: "قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" وما ذكر سبيل الل في الدفع، ولعل الأظهر: أن الله ذكر الدفع بعد المقاتلة في سبيل الله عطفا عليها، وتقديره: (أو ادفعوا في سبيل الله)؛ ولكن حذف: (سبيل الله) دفعًا للتكرار. ولا خلاف أن جهاد الدفع لا يفتقر إلى نية؛ وإنما قصد حماية العرض والدم والنفس والمال كاف في ثبوت الأجر؛ ففي "الصحيحين"؛ من حديث عبد الله بن عمرو (رضى الله عنهما)؛ قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ" (3). وعند أبي داود والنسائي وغيرهما؛ من حديث سعيد بن زيد: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ ، أَوْ دُونَ دَمِهِ ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (4). وأما جهاد الطلب، فلا يُقبل إلا بنية، ومَن قاتل بلا نية، فميتته جاهلية؛ لِما في "الصحيحين": "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (5). ___________________________ *مقال مقتطف من كتاب التفسير والبيان في أحكام القرآن، د. عبد العزيز الطريفي، ص: 683 - 687. 1) "تفسير الطبري" (6/224)، و"تفسير ابن المنذر" (2/482). 2) "تفسير الطبري" (5/404). 3) أخرجه البخاري (2480) (3/136)، ومسلم (141) (1/124). 4) أخرجه أبو داود (4772) (4/246)، والترمذي (1421) (4/30)، والنسائي (4095) (7/116). 5) أخرجه البخاري (123) (1/36)، ومسلم (1904) (3/1513).
ولِيَعلم الذين نافقوا
د. عبد العزيز الطريفي (فك الله أسره)*

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

قال تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ" [آل عمران : 167].

الآية نزلت في المناففقين وفي ابن أبي وأصحابه خاصة فيمن تردد في حكم الجهاد والاستجابة لأمر الله فيه؛ وذلك أن الله أمرهم بالخروج مع نبيه في أُحد، فرجع ابن أبي ومعه ثلث القوم؛ فاعتذروا بقولهم: "قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ" أي: لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدافعنا عنكم، ولكنا لا نظن أن يكون قتال.

أكثر ما يظهر النفاق:

وإنما هي أعذار يظهر الله بها النفاق، وأكثر ما يظهر الله باطن المنافقين بأمرين:

الأول: بالاستهزاء؛ كما في قوله تعالى: "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ" [التوبة : 64].

الثاني: بالأعذار التي يبدونها للتملص من الحق؛ لضعفها في مقابل الحجة، وكلما كانت الحجة في وجه الحق ضعيفة، سترت خلفها كبرا ونفاقا؛ لأن النفوس لا تتشوف إلى المعارضة بلا سبب، فتبدي حججًا واهية، وأعذارًا ضعيفة؛ وهي في باطنها معاندة.

ولم يكن المنافقون يعارضون أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجهاد، وإنما يعتذرون بأعذار ضعيفة؛ ففي غزوة أُحد قالوا: "قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ"، وفي تبوك قالوا: "لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ" [التوبة : 81]، وفيها قال الجد بن قيس: "ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي" [التوبة : 49].

وفي أُحد لم يظهروا الامتناع من القتال؛ وإنما لا يظنون وقوع القتال؛ فلا يرون خروجهم بلا فائدة تتحقق، وفي تبوك لم يظهروا الامتناع من الجهاد؛ وإنما خشية الحر وحالهم لو كان بردا لخرجنا، وفي تبوك تبوك أيضًا لم يظهر الجد بن قيس الامتناع على الجهاد؛ وإنما أظهر خوف الفتنة على نفسه، وظاهره لو لم تكن فتنة فهو مقاتل، وبكثرة الأعذار لترك الحق يظهر النفاق.
وهذه الأعذار تخرجهم من دائرة الكفر الظاهر إلى النفاق؛ ولذا قال تعالى: "هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ"، فلم يحكم بكفرهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) ليؤاخذهم على الكفر؛ وإنما حكم بنفاقهم؛ ليعاملهم به؛ ولذا عقب ذلك بقوله: "يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ".

احتواء المنافقين:

ومن فقه السياسة في جهاد النبي (صلى الله عليه وسلم): احتواء المنافقين، وإن مكروا وخدعوا وخانوا؛ كما فعل ابن أبي حيث حيث رجع بثلث الجيش، فلم يعاقبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أُحد ؛ وإنما جهلهم في عداد الجماعة، وأخذهم في جهاد بعد ذلك؛ لأن عزلهم عن الجماعة زيادة لشرهم وخبثهم؛ فهم يرجون أن الناس تظنهم متأولين وليسوا بمنافقين، ولو أعلن نفاق من يبطن شره، أظهره وانسلخ من جلده وأعلن العداوة، وهذا لا تتشوف إليه الشريعة، واعتبارهم في الظاهر مع جماعة المسلمين لا يعنى توليتهم ولاية، ولا اتخاذهم بطانة.

تكثير سواد المسلمين عند القتال:

وفى الآية: مشروعية تكثير المسلمين عند قيام النفير، ولو كان الناس في كفاية عدد؛ فالكثرة لها أثر في نفوس المسلمين بشد العزيمة وتقوية الهمة، ولها أثر على الكفار ببث الخوف والرعب، وأكثر هزائم الجيوش معنوية أكثر منها مادية.

وقد روى ابن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ قال: "تُكَثِّرُوا بأنفُسِكم ولو لم تُقاتِلوا"؛ وبنحو هذا قال الضحاك وابن جريج وغيرهما (1).

وفي الآية: أن مَن كثَّر سواد المجاهدين، فحضر معهم ولو لم يغز: أن له حكم المجاهد في الأجر والثواب.

وقال أنس بن مالك: "رأيت يوم القادسية عبد اله بن أم مكتو الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: اليس قد أنزل الله عُذرك؟ قال: بلى! ولكني أُكثَّر سواد المسلمين بنفسي" (2).

ورُوي نحو هذا عن سهل بن سعد؛ رواه الطبراني والبخاري في "تاريخه"؛ من حديث أبي حازم عنه.

وفي قوله: "تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا" بيان لمراتب الحهاد، وأن اعلاه المواجهة مع العدو، وهو المقاتلة، وكلما كان المجاهد من العدو أقرب، كان في الأجر والثواب أعظم؛ لأن الله أمرهم أن يقاتلوا، وإن أبوا أن يكونوا من ورائهم يكثرون سواد المسلمين أو احاط بهم عدوهم.

جهاد الطلب، وجهاد الدفع:

وأخذ بعضهم من الآية الإشارة إلي نوعي الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدفع؛ وهذا نسبي وليس تقسيمًا مطلقًا في الآية؛ لأن خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة أُحد دفعٌ لا طلبٌ؛ لأنه علم بقدوم المشركين إليه فتجهز لمواجهتهم وصدهم، وهذه الآية نزلت في أُحد ، ولكن المتأخرين من وراء المقاتلين يُعدون مُدافعين بالنسبة للمتقدمين عليهم، والمتقدمين يُعَدون مقاتلين وطالبين بالنسبة للمتأخرين عنهم.

التفاضل بين جهاد الدفع والطلب:

وجهاد الطلب أعظم من جهاد الدفع؛ لأن جهاد الدفع لا يفتقر إلي نية، ومشوب بقصد حياطة الدنيا وحمايتها من نفس وأرض ومال وعرض، وأما جهاد الطلب، فالقصد فيه أكثر تجردًا؛ لاشتراط النية فيه لإعلاء كلمة الله، ثم إن أصل جهاد الدفع من جنس الفطرة والحمية الموجودة في جنس الحيوان، كان إنسانًا أو بهيمًا، فهو يدفع المعتدي عليه، وأما جهاد الطلب، من خصائص الإنسان وأهل الإيمان، وفي جهاد الدفع حماية للدنيا وصون لها، وفي جهاد الطلب ترك للدنيا وبذل لها، وقد يكون المجاهد يُجاهد جهاد الدفع وله أجر جهاد الطلب وفضله إذا كان يدفع عن مال غيره ونفسه وعرضه وأرضه؛ فهذا في جهاده جهاد دفع، واجره أجر طلب.

وكلا الجهادين الدفع والطلب فضلهما عند الله عظيم، والأجر الوارد في الكتاب والسنة لهما في الآخرة يدخلان فيه جميعا، ولكنه عند التفاضل؛ فالطلب أفضل من الدفع في الآخرة، وجهاد الدفع أوجب في الدنيا؛ وهذه المسألة من نوادر المسائل التي يكون فيها النفل أعظم من الفرض وهما من جنس واحد.

واخذ بعضهم من قوله: "قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا" الإشارة إلي عدم اشتراط النية في الدفع، فذكر القتال: "قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" وما ذكر سبيل الل في الدفع، ولعل الأظهر: أن الله ذكر الدفع بعد المقاتلة في سبيل الله عطفا عليها، وتقديره: (أو ادفعوا في سبيل الله)؛ ولكن حذف: (سبيل الله) دفعًا للتكرار.

ولا خلاف أن جهاد الدفع لا يفتقر إلى نية؛ وإنما قصد حماية العرض والدم والنفس والمال كاف في ثبوت الأجر؛ ففي "الصحيحين"؛ من حديث عبد الله بن عمرو (رضى الله عنهما)؛ قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ" (3).

وعند أبي داود والنسائي وغيرهما؛ من حديث سعيد بن زيد: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ ، أَوْ دُونَ دَمِهِ ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (4).

وأما جهاد الطلب، فلا يُقبل إلا بنية، ومَن قاتل بلا نية، فميتته جاهلية؛ لِما في "الصحيحين": "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (5).

___________________________

*مقال مقتطف من كتاب التفسير والبيان في أحكام القرآن، د. عبد العزيز الطريفي، ص: 683 - 687.
1) "تفسير الطبري" (6/224)، و"تفسير ابن المنذر" (2/482).
2) "تفسير الطبري" (5/404).
3) أخرجه البخاري (2480) (3/136)، ومسلم (141) (1/124).
4) أخرجه أبو داود (4772) (4/246)، والترمذي (1421) (4/30)، والنسائي (4095) (7/116).
5) أخرجه البخاري (123) (1/36)، ومسلم (1904) (3/1513).
‏٢٢‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٣٢ م‏
الأحداث الكونية .. وصناعة الوعي د. عطية عدلان الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) لا يمكن تصنيف الأحداث التي تقع في منطقتنا من ثورات وانقلابات وقتل وهرج وتآمر ومكائد على أنها أحداث كونية صرفة لا تَعَلُّقَ لها بإرادة الإنسان؛ لأنَّها جرت بمشيئة الخلق - محسنهم ومسيئهم - وبكامل اختيارهم، ووقعت بكسب أيديهم، وبحصد أقلامهم وألسنتهم وآلات حربهم، هذا هو الوجه الإنسانيّ للأحداث، والذي يعكس التكليف والمسئولية، أمَّا بالنظر لما وراء هذا المشهد - بكافَّة صوره الجزئية المتلاحقة - من سنن إلهية تحرك الوجود البشريّ في اتجاه صناعة واقع إنسانيّ جديد؛ فإنّ المشهد يختلف جد الاختلاف؛ ليصير قابلاً لوصفه بأنه كونيٌّ، ترسم ملامحه وتضع سماته يد القدرة وقلم القدر. لذلك لم تكن موجة الربيع العربيّ مجرد أحداث وتحركات شعبية؛ نجتهد في وزنها وتقييمها ودراسة سلبياتها وإيجابياتها، ومعرفة ما لها وما عليها، وإنما كانت إلى جانب ذلك زلزالاً بشرياً أحدث صدوعاً في التركيبة النفسية والعقلية والشعورية للشريحة البشرية القاطنة لمنطقتنا، وكشف كثيراً مما كان مخبوءا مستوراً، وصاغ إرادة للتغيير قوية ماضية، تذبل أحياناً تحت مطارق المحن ولكنها باقية، تخبو وتخفت وتعلو وتهبط، ولكن لا تموت ولا يلفها الفناء، ولم تكن تلك الانقلابات على الموجة الثورية الآنفة مجرد جريمة ارتكبتها الثورة المضادة بمعاونة إقليمية جاهرة ودعم دوليّ مستتر، وإنَّما كانت إلى جانب ذلك عاصفة عاتية عَرَّت ما تبقى مما كان مستوراً من فضائح وقبائح الأنظمة وأجهزتها ومؤسساتها، وكشفت العلاقة بينها وبين القوى المتحكمة في المنطقة، وفضحت أمراً آخر ما كان ليفتضح بيد أصحابه ولو أنفَقَتْ القلة الواعية عمرها كله في سبيل ذلك، وهو السذاجة والسطحية والجهل بالواقع لدى كافة الاتجاهات المناهضة للاستبداد والمقاومة للظلم ولفساد. ولا تزال الأحداث تتوالى وتتابع وتتسارع وتتسابق؛ كأنها ثورة كونية على الزيف والخداع؛ تهدف إلى إسقاط الأقنعة وهتك الحجب وكشف المخبوء وراء ركام الوعي المزيف؛ وتساقطت في قلوب الخلق جميع الأوهام وتحطمت كل الأصنام، فأمَّا النظام العربيّ بكافة أجنحته فبرغم بقائه واستعادته لتمكنه وتجذره بالقبضة الأمنية الرعناء لم يعد له وجود في عقول الناس وقلوبهم وقناعاتهم، وأمَّا النظام الدولي بكل مؤسساته الزائفة فقد تهشم على صخور الأحداث المتوالية، فلم يعد أحد يسمع باسم شيء من هذه المؤسسات إلا ويجري بخلده شريط الأحداث المؤلمة وبمحاذاته كل حكايات النفاق والخداع والختل، وفي الجولة الأخيرة تَبَخَّر كل ما تبقي من الاحترام والتوقير للنظام الذي ظل دهوراً مستتراً وراء خدمة الحرمين الشريفين وهو يمارس بأموال المسلمين ومقدرات الأمة أبشع الجرائم؛ إحباطاً للثورات ودعماً للانقلابات وإعانة لكل مستبد ظالم. لكن الشيء المؤكد هو أنَّ المنتج الوحيد الذي يعد مكسباً كبيراً من وراء كل هذه الأحداث هو ذلك الكمّ الهائل من الحقائق والمعلومات التي تصلح لتشكيل وعي جديد؛ يعد الركيزة الأولى في التغيير المنشود، إلى حدّ إمكان الزعم بأنّ تتابع الأحداث وتواليها وتسارعها وتزاحمها إنما جاء على هذا النحو لكون الحاجة إلى تشكيل الوعي عاجلة وملحة وعلى درجة من الخطورة تستدعي انتفاضة توعوية شاملة؛ وعليه فإنَّ واجب الوقت الأول هو صناعة الوعي على نار الأحداث الكونية الكبيرة؛ ويترتب على هذه النتيجة حزمة من المسلمات، منها أنَّ التأخر في أداء هذا الواجب يعني التأخر في الخروج من ذلك النفق المظلم، ومنها أنَّ أكبر جرم يرتكب في حق هذه الأمة في هذه المرحلة هو تفويت الفرصة على من يسعى لصناعة الوعي النظيف؛ بممارسة التشويه والتزييف. وأهم تحدّ في معركة الوعي هو تحديد الأعداء وتمييزهم عن الأصدقاء، وإعطاء كل نوع من الأعداء وزنه وحكمه، والاطلاع على ما بينهم جميعاً من علاقات ومصالح؛ وتقييم الأحداث التاريخية التي رسمت ملامح الفترة السابقة، مع قدر ضروريّ من الاستشراف والتنبؤ يبنى على أصول التفكير العلميّ وعلى فهم التاريخ والواقع وربط ذلك كله بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الشعوب والأمم والحضارات. لذلك نجد أن من أهم مقاصد القرآن الكريم وأكبر موضوعاته صناعة وعي إسلاميّ إيماني رشيد؛ لولاه ما استطاع المسلمون أن يديروا الصراع مع الجاهلية التي كانت تموج بالعداوة عليهم آنذاك، ولاسيما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ارتد العرب قاطبة عن الإسلام إلا أهل مكة والمدينة، وتربصت بالمسلمين من وراء الجزيرة فارس والروم، وأطلت الفتنة برأسها، وصار الصحابة في هذه المحنة ووسط هذا المحيط من العداوات كغُيَمْات مَطِيرة في ليلة شاتية حالكة الظلمة؛ يومها نهض الصحابة خلف أبي بكر لا يترددون ولا يتلعثمون، حتى القضايا القليلة التي اختلفوا في تقديرها كقتال مانعي الزكاة لم يطل اختلافهم إلا بقدر ما تتجمع الفكرة الواحدة في ذهن الرجل الواحد؛ وما ذاك إلا للمستوى الرفيع من النضج والوعي الذي يعصمهم من الزلل ومن تفرق الكلمة. فانظر - على سبيل المثال - كيف كان القرآن يصنع الوعي بحقائق الرجال والكيانات ويفسر المواقف الصادرة عنها تفسيراً يجلي الحقائق ويكشف المخبوء: ففي شأن الكفار المعاندين ولا سيما أئمة الكفر منهم يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة 6) (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)) (الحجر 14-15) (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم 29) (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) (غافر 4) (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) (آل عمران 196) (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (الحجر 2) (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)) (القلم 51-52) (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم 9)، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال 73)؛ لذلك لم ينخدع المسلمون بالكفار ولم يلينوا لهم، ولم يقعوا يوماً في براثن الخداع التي طالما نصبوها لهم، وفرقوا في كل مراحل جهادهم بين الكبراء منهم والضعفاء. وحتى لا ينخدع المسلمون بأهل الكتاب لكونهم أهل كتاب؛ كان القرآن ينزل بتقرير المفاهيم الصحيحة التي تنبني عليها المواقف الصحيحة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة 120) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة 34) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) (المائدة 51-52). والأخطر من هؤلاء وهؤلاء المنافقون؛ فأمرهم يخفى وحقيقتهم تستتر وراء غلالة من زخرف القول؛ فليكن البيان في حقهم وافياً: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)) (المنافقون 3-4) (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران 119) (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة 66) (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون 8) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)) (الحشر 11-12).
الأحداث الكونية .. وصناعة الوعي
د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

لا يمكن تصنيف الأحداث التي تقع في منطقتنا من ثورات وانقلابات وقتل وهرج وتآمر ومكائد على أنها أحداث كونية صرفة لا تَعَلُّقَ لها بإرادة الإنسان؛ لأنَّها جرت بمشيئة الخلق - محسنهم ومسيئهم - وبكامل اختيارهم، ووقعت بكسب أيديهم، وبحصد أقلامهم وألسنتهم وآلات حربهم، هذا هو الوجه الإنسانيّ للأحداث، والذي يعكس التكليف والمسئولية، أمَّا بالنظر لما وراء هذا المشهد - بكافَّة صوره الجزئية المتلاحقة - من سنن إلهية تحرك الوجود البشريّ في اتجاه صناعة واقع إنسانيّ جديد؛ فإنّ المشهد يختلف جد الاختلاف؛ ليصير قابلاً لوصفه بأنه كونيٌّ، ترسم ملامحه وتضع سماته يد القدرة وقلم القدر.

لذلك لم تكن موجة الربيع العربيّ مجرد أحداث وتحركات شعبية؛ نجتهد في وزنها وتقييمها ودراسة سلبياتها وإيجابياتها، ومعرفة ما لها وما عليها، وإنما كانت إلى جانب ذلك زلزالاً بشرياً أحدث صدوعاً في التركيبة النفسية والعقلية والشعورية للشريحة البشرية القاطنة لمنطقتنا، وكشف كثيراً مما كان مخبوءا مستوراً، وصاغ إرادة للتغيير قوية ماضية، تذبل أحياناً تحت مطارق المحن ولكنها باقية، تخبو وتخفت وتعلو وتهبط، ولكن لا تموت ولا يلفها الفناء، ولم تكن تلك الانقلابات على الموجة الثورية الآنفة مجرد جريمة ارتكبتها الثورة المضادة بمعاونة إقليمية جاهرة ودعم دوليّ مستتر، وإنَّما كانت إلى جانب ذلك عاصفة عاتية عَرَّت ما تبقى مما كان مستوراً من فضائح وقبائح الأنظمة وأجهزتها ومؤسساتها، وكشفت العلاقة بينها وبين القوى المتحكمة في المنطقة، وفضحت أمراً آخر ما كان ليفتضح بيد أصحابه ولو أنفَقَتْ القلة الواعية عمرها كله في سبيل ذلك، وهو السذاجة والسطحية والجهل بالواقع لدى كافة الاتجاهات المناهضة للاستبداد والمقاومة للظلم ولفساد.

ولا تزال الأحداث تتوالى وتتابع وتتسارع وتتسابق؛ كأنها ثورة كونية على الزيف والخداع؛ تهدف إلى إسقاط الأقنعة وهتك الحجب وكشف المخبوء وراء ركام الوعي المزيف؛ وتساقطت في قلوب الخلق جميع الأوهام وتحطمت كل الأصنام، فأمَّا النظام العربيّ بكافة أجنحته فبرغم بقائه واستعادته لتمكنه وتجذره بالقبضة الأمنية الرعناء لم يعد له وجود في عقول الناس وقلوبهم وقناعاتهم، وأمَّا النظام الدولي بكل مؤسساته الزائفة فقد تهشم على صخور الأحداث المتوالية، فلم يعد أحد يسمع باسم شيء من هذه المؤسسات إلا ويجري بخلده شريط الأحداث المؤلمة وبمحاذاته كل حكايات النفاق والخداع والختل، وفي الجولة الأخيرة تَبَخَّر كل ما تبقي من الاحترام والتوقير للنظام الذي ظل دهوراً مستتراً وراء خدمة الحرمين الشريفين وهو يمارس بأموال المسلمين ومقدرات الأمة أبشع الجرائم؛ إحباطاً للثورات ودعماً للانقلابات وإعانة لكل مستبد ظالم.

لكن الشيء المؤكد هو أنَّ المنتج الوحيد الذي يعد مكسباً كبيراً من وراء كل هذه الأحداث هو ذلك الكمّ الهائل من الحقائق والمعلومات التي تصلح لتشكيل وعي جديد؛ يعد الركيزة الأولى في التغيير المنشود، إلى حدّ إمكان الزعم بأنّ تتابع الأحداث وتواليها وتسارعها وتزاحمها إنما جاء على هذا النحو لكون الحاجة إلى تشكيل الوعي عاجلة وملحة وعلى درجة من الخطورة تستدعي انتفاضة توعوية شاملة؛ وعليه فإنَّ واجب الوقت الأول هو صناعة الوعي على نار الأحداث الكونية الكبيرة؛ ويترتب على هذه النتيجة حزمة من المسلمات، منها أنَّ التأخر في أداء هذا الواجب يعني التأخر في الخروج من ذلك النفق المظلم، ومنها أنَّ أكبر جرم يرتكب في حق هذه الأمة في هذه المرحلة هو تفويت الفرصة على من يسعى لصناعة الوعي النظيف؛ بممارسة التشويه والتزييف.

وأهم تحدّ في معركة الوعي هو تحديد الأعداء وتمييزهم عن الأصدقاء، وإعطاء كل نوع من الأعداء وزنه وحكمه، والاطلاع على ما بينهم جميعاً من علاقات ومصالح؛ وتقييم الأحداث التاريخية التي رسمت ملامح الفترة السابقة، مع قدر ضروريّ من الاستشراف والتنبؤ يبنى على أصول التفكير العلميّ وعلى فهم التاريخ والواقع وربط ذلك كله بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الشعوب والأمم والحضارات.

لذلك نجد أن من أهم مقاصد القرآن الكريم وأكبر موضوعاته صناعة وعي إسلاميّ إيماني رشيد؛ لولاه ما استطاع المسلمون أن يديروا الصراع مع الجاهلية التي كانت تموج بالعداوة عليهم آنذاك، ولاسيما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما ارتد العرب قاطبة عن الإسلام إلا أهل مكة والمدينة، وتربصت بالمسلمين من وراء الجزيرة فارس والروم، وأطلت الفتنة برأسها، وصار الصحابة في هذه المحنة ووسط هذا المحيط من العداوات كغُيَمْات مَطِيرة في ليلة شاتية حالكة الظلمة؛ يومها نهض الصحابة خلف أبي بكر لا يترددون ولا يتلعثمون، حتى القضايا القليلة التي اختلفوا في تقديرها كقتال مانعي الزكاة لم يطل اختلافهم إلا بقدر ما تتجمع الفكرة الواحدة في ذهن الرجل الواحد؛ وما ذاك إلا للمستوى الرفيع من النضج والوعي الذي يعصمهم من الزلل ومن تفرق الكلمة.

فانظر - على سبيل المثال - كيف كان القرآن يصنع الوعي بحقائق الرجال والكيانات ويفسر المواقف الصادرة عنها تفسيراً يجلي الحقائق ويكشف المخبوء: ففي شأن الكفار المعاندين ولا سيما أئمة الكفر منهم يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة 6) (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)) (الحجر 14-15) (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم 29) (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) (غافر 4) (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) (آل عمران 196) (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (الحجر 2) (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)) (القلم 51-52) (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم 9)، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال 73)؛ لذلك لم ينخدع المسلمون بالكفار ولم يلينوا لهم، ولم يقعوا يوماً في براثن الخداع التي طالما نصبوها لهم، وفرقوا في كل مراحل جهادهم بين الكبراء منهم والضعفاء.

وحتى لا ينخدع المسلمون بأهل الكتاب لكونهم أهل كتاب؛ كان القرآن ينزل بتقرير المفاهيم الصحيحة التي تنبني عليها المواقف الصحيحة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة 120) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة 34) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) (المائدة 51-52).

والأخطر من هؤلاء وهؤلاء المنافقون؛ فأمرهم يخفى وحقيقتهم تستتر وراء غلالة من زخرف القول؛ فليكن البيان في حقهم وافياً: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)) (المنافقون 3-4) (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران 119) (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة 66) (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون 8) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)) (الحشر 11-12).
‏١٩‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:١٥ م‏
أمثلة من تكتيكات المتمردين (من الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد) ترجمة مركز حازم للدراسات (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) • الكمائن: هجمات على غرار حرب العصابات لقتل أو ترويع قوات مكافحة التمرد. • الاغتيال: مصطلح يطلق بشكل عام على قتل شخصيات شهيرة، ومسؤولين بارزين. كما أنه قد يتعلق "بالخونة" الذين يرتدون عن التمرد. وكذلك يتعلق بمصادر الاستخبارات البشرية، وغيرهم من الذين يعملون مع أو لصالح حكومة الدولة المضيفة أو قوات الولايات المتحدة. • إحراق المباني عمداً: يكون أقل إثارة من أغلب التكتيكات، ويتميز بالمخاطرة البسيطة من قبل الجاني، كما يتطلب مستوى منخفض من المعرفة الفنية. • قذف القنابل، واستخدام العبوات شديدة الانفجار: فالعبوات الناسفة المصنعة محلياً غالباً ما تمثل السلاح المفضل للمتمردين. وإنتاج تلك الأجهزة قد يكون غير مكلف. وبسبب توافر أساليب مختلفة للتفجير تنخفض خطورة استعمالها بالنسبة للجاني. كما لا يمكن تجاهل الهجمات الانتحارية كأسلوب مستخدم. ومن ميزاته أيضاً الدعاية التي تحدثها مثل تلك الهجمات. كذلك قدرة المتمردين على التحكم في الإصابات من خلال التفجير المؤقت ووضع العبوات بحرص. كما أن الهجمات من الممكن إنكارها بسهولة إذا أتت بنتائج غير مرغوب فيها، فمن عام 1983 حتى 1996، تضمنت نصف حوادث الإرهاب تقريباً على مستوى العالم استخدام المتفجرات. • الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو الإشعاعية أو النووية: هناك احتمال لاستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في المستقبل. فهذه الأنواع من الأسلحة تعتبر رخيصة نسبياً، وسهلة التصنيع. ويمكن أن تستخدم بدلاً من المتفجرات التقليدية في العديد من الحالات. إن احتمال إحداث دمار شامل، والخوف الدفين لدي معظم الناس من هذه الأسلحة، يجعلها جذابة للجماعات التي ترغب في لفت الانتباه على مستوى العالم. ورغم الاعتراف بأن أسلحة التفجير النووي بعيدة المنال مادياً وفنياً عن معظم الجماعات الإرهابية، فلا يصعب الحصول على سلاح كيماوي أو بيولوجي أو جهاز إشعاعي، يستخدم ملوثات نووية. فالتكنولوجيا بسيطة ونتيجة الفعل المتوقعة تكون أكبر بكثير من استخدام المتفجرات التقليدية. • المظاهرات: يمكن استخدام المظاهرات في التحريض على ردود فعل عنيفة من قبل قوات مكافحة التمرد، ولاستعراض شعبية قضية المتمردين أيضاً. • الحرمان والخداع: - يتكون الحرمان من إجراءات تُتخذ عبر التهديد لوقف أو منع أو إفساد جهود الولايات المتحدة لجمع المعلومات. ومن أمثلة ذلك قتل مصادر الاستخبارات البشرية. - أما الخداع فيشتمل على التلاعب المتعمد بالمعلومات والتصورات من أجل التضليل. وتتضمن الأمثلة على ذلك تقديم معلومات استخباراتية مزيفة. • الخطف واختطاف الطائرات. في بعض الأحيان يستخدم المتمردون الخطف كوسائل للهروب. إلا أن عمليات الخطف تتم في الغالب لإخراج مشهد مثير للرهائن. ورغم أنه قد جرى اختطاف قطارات وحافلات وسفن، فإن الطائرات هي الهدف المفضل بسبب قدرتها الفائقة على الحركة، وصعوبة الدخول إليها بمجرد الاستيلاء عليها. • الخدع. يمكن لأي جماعة من المتمردين أو جماعة إرهابية يعتد بها استخدام الخدع وتحقيق نجاح كبير. فتهديد حياة أحد الأشخاص تؤدي بذلك الشخص ومن يرتبطون به إلى بذل الوقت والجهود في إجراءات الأمن. كما أن التهديد بوجود قنبلة يمكن أن يغلق مبنى تجارياً أو يؤدي إلى إخلاء مسرح أو تأخير رحلة جوية دون أي تكلفة من جانب المتمردين. وكذلك تؤدي الإنذارات المزيفة إلى هبوط الكفاءة التحليلية والعملياتية لأفراد الأمن الرئيسيين مما ينزل بمستوى الاستعداد. • احتجاز الرهائن: إن احتجاز الرهائن هو الاعتقال العلني لشخص أو أكثر من أجل الحصول على الشهرة أو غير ذلك من الامتيازات مقابل إطلاق سراح الرهائن. ورغم الإثارة، فإن احتجاز الرهائن ينطوي على مخاطرة كبيرة بالنسبة لمرتكبي الحادث. •النيران غير المباشرة: ربما يستخدم المتمردون نيرانا غير مباشرة مثل قذائف المورتر من أجل إنهاك قوات مكافحة التمرد أو اجبارها على التحرك مما يتيح استهدافها بكمائن ثانوية. •التسلل والتدمير: يستخدم المتمردون هذه التكتيكات للحصول على المعلومات الاستخبارية، والحد من فعالية الهيئات الحكومية بالدولة المضيفة. وتشمل تلك التكتيكات الانخراط في الوكالات الحكومية بالدولة المضيفة لاستمالة عملاء لهم، أو اقناع أعضاء من الحكومة بدعم التمرد. أما التدمير فقد يتحقق عبر الترويع، أو تجنيد الأفراد المتعاطفين أو عبر الرشاوى. •الاختطاف: رغم التشابه مع آخذ الرهائن، إلا أنه توجد اختلافات هامة بين الاختطاف وآخذ الرهائن. فالاختطاف هو احتجاز سري لشخص أو أكثر للحصول على نتائج محددة. ويكون تنفيذه شديد الصعوبة بوجه عام، كما يظل الجناة غير معلومين لزمن طويل. ويكون الاهتمام الإعلامي كثيفاً في البداية، إلا أنه يخف بمرور الوقت. وبسبب الوقت المستغرق في تلك العمليات، يحتاج الاختطاف الناجح إلى تخطيط متقن وتجهيزات لوجستية مناسبة. كما قد تكون المخاطرة بالنسبة للجناة أقل من نموذج أخذ الرهائن. • الدعاية: يمكن أن يبث المتمردون الدعاية مستخدمين أي نوع من وسائل الإعلام، بما في ذلك الحديث وجهاً لوجه. • الغارات أو الهجمات على المرافق: يتم تنفيذ الهجمات المسلحة على المباني والمرافق عادة من أجل: - إظهار عدم قدرة حكومة الدولة المضيفة على تأمين المرافق الهامة أو الرموز الوطنية. - الحصول على الموارد (على سبيل المثال، السطو على بنك أو مستودع أسلحة). - قتل أفراد حكومة الدولة المضيفة. - ترويع حكومة الدولة المضيفة والسكان. • التخريب: إن الهدف من معظم حوادث التخريب هو إظهار مدى تعرض المجتمع وحكومة الدولة المضيفة للأعمال الإرهابية. وتكون المناطق الصناعية و التجارية أكثر عرضة للتخريب من الأماكن الأقل تطوراً. وتكون شبكات مرافق الخدمات والاتصالات والنقل معتمدة على بعضها البعض، فالدمار الخطير الذي يصيب أحدها يؤثر فيها جميعاً ويحظى بالاهتمام العام الفوري. ويمكن لتخريب المرافق الصناعية والتجارية أن يحدث أعطالاً خطيرة ويعطي مؤشراً على النوايا المستقبلية. وتكون المرافق والتجهيزات العسكرية ونظم المعلومات والبنية التحتية للمعلومات، أهدافا محتملة. • الاستيلاء: يكون الاستيلاء عادة مشتملاً على مباني أو أشياء ذات قيمة بالنسبة للجمهور، وهو يتضمن بعض المخاطرة بالنسبة للجناة حيث يوافر لدي قوات الأمن وقت مناسب للرد.
أمثلة من تكتيكات المتمردين

(من الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد)

ترجمة مركز حازم للدراسات

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

• الكمائن: هجمات على غرار حرب العصابات لقتل أو ترويع قوات مكافحة التمرد.

• الاغتيال: مصطلح يطلق بشكل عام على قتل شخصيات شهيرة، ومسؤولين بارزين. كما أنه قد يتعلق "بالخونة" الذين يرتدون عن التمرد. وكذلك يتعلق بمصادر الاستخبارات البشرية، وغيرهم من الذين يعملون مع أو لصالح حكومة الدولة المضيفة أو قوات الولايات المتحدة.

• إحراق المباني عمداً: يكون أقل إثارة من أغلب التكتيكات، ويتميز بالمخاطرة البسيطة من قبل الجاني، كما يتطلب مستوى منخفض من المعرفة الفنية.

• قذف القنابل، واستخدام العبوات شديدة الانفجار: فالعبوات الناسفة المصنعة محلياً غالباً ما تمثل السلاح المفضل للمتمردين. وإنتاج تلك الأجهزة قد يكون غير مكلف. وبسبب توافر أساليب مختلفة للتفجير تنخفض خطورة استعمالها بالنسبة للجاني. كما لا يمكن تجاهل الهجمات الانتحارية كأسلوب مستخدم.

ومن ميزاته أيضاً الدعاية التي تحدثها مثل تلك الهجمات. كذلك قدرة المتمردين على التحكم في الإصابات من خلال التفجير المؤقت ووضع العبوات بحرص. كما أن الهجمات من الممكن إنكارها بسهولة إذا أتت بنتائج غير مرغوب فيها، فمن عام 1983 حتى 1996، تضمنت نصف حوادث الإرهاب تقريباً على مستوى العالم استخدام المتفجرات.

• الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو الإشعاعية أو النووية: هناك احتمال لاستخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في المستقبل. فهذه الأنواع من الأسلحة تعتبر رخيصة نسبياً، وسهلة التصنيع. ويمكن أن تستخدم بدلاً من المتفجرات التقليدية في العديد من الحالات. إن احتمال إحداث دمار شامل، والخوف الدفين لدي معظم الناس من هذه الأسلحة، يجعلها جذابة للجماعات التي ترغب في لفت الانتباه على مستوى العالم. ورغم الاعتراف بأن أسلحة التفجير النووي بعيدة المنال مادياً وفنياً عن معظم الجماعات الإرهابية، فلا يصعب الحصول على سلاح كيماوي أو بيولوجي أو جهاز إشعاعي، يستخدم ملوثات نووية. فالتكنولوجيا بسيطة ونتيجة الفعل المتوقعة تكون أكبر بكثير من استخدام المتفجرات التقليدية.

• المظاهرات: يمكن استخدام المظاهرات في التحريض على ردود فعل عنيفة من قبل قوات مكافحة التمرد، ولاستعراض شعبية قضية المتمردين أيضاً.

• الحرمان والخداع:
- يتكون الحرمان من إجراءات تُتخذ عبر التهديد لوقف أو منع أو إفساد جهود الولايات المتحدة لجمع المعلومات. ومن أمثلة ذلك قتل مصادر الاستخبارات البشرية.

- أما الخداع فيشتمل على التلاعب المتعمد بالمعلومات والتصورات من أجل التضليل. وتتضمن الأمثلة على ذلك تقديم معلومات استخباراتية مزيفة.

• الخطف واختطاف الطائرات. في بعض الأحيان يستخدم المتمردون الخطف كوسائل للهروب. إلا أن عمليات الخطف تتم في الغالب لإخراج مشهد مثير للرهائن. ورغم أنه قد جرى اختطاف قطارات وحافلات وسفن، فإن الطائرات هي الهدف المفضل بسبب قدرتها الفائقة على الحركة، وصعوبة الدخول إليها بمجرد الاستيلاء عليها.

• الخدع. يمكن لأي جماعة من المتمردين أو جماعة إرهابية يعتد بها استخدام الخدع وتحقيق نجاح كبير. فتهديد حياة أحد الأشخاص تؤدي بذلك الشخص ومن يرتبطون به إلى بذل الوقت والجهود في إجراءات الأمن. كما أن التهديد بوجود قنبلة يمكن أن يغلق مبنى تجارياً أو يؤدي إلى إخلاء مسرح أو تأخير رحلة جوية دون أي تكلفة من جانب المتمردين. وكذلك تؤدي الإنذارات المزيفة إلى هبوط الكفاءة التحليلية والعملياتية لأفراد الأمن الرئيسيين مما ينزل بمستوى الاستعداد.

• احتجاز الرهائن: إن احتجاز الرهائن هو الاعتقال العلني لشخص أو أكثر من أجل الحصول على الشهرة أو غير ذلك من الامتيازات مقابل إطلاق سراح الرهائن. ورغم الإثارة، فإن احتجاز الرهائن ينطوي على مخاطرة كبيرة بالنسبة لمرتكبي الحادث.

•النيران غير المباشرة: ربما يستخدم المتمردون نيرانا غير مباشرة مثل قذائف المورتر من أجل إنهاك قوات مكافحة التمرد أو اجبارها على التحرك مما يتيح استهدافها بكمائن ثانوية.

•التسلل والتدمير: يستخدم المتمردون هذه التكتيكات للحصول على المعلومات الاستخبارية، والحد من فعالية الهيئات الحكومية بالدولة المضيفة. وتشمل تلك التكتيكات الانخراط في الوكالات الحكومية بالدولة المضيفة لاستمالة عملاء لهم، أو اقناع أعضاء من الحكومة بدعم التمرد. أما التدمير فقد يتحقق عبر الترويع، أو تجنيد الأفراد المتعاطفين أو عبر الرشاوى.

•الاختطاف: رغم التشابه مع آخذ الرهائن، إلا أنه توجد اختلافات هامة بين الاختطاف وآخذ الرهائن. فالاختطاف هو احتجاز سري لشخص أو أكثر للحصول على نتائج محددة. ويكون تنفيذه شديد الصعوبة بوجه عام، كما يظل الجناة غير معلومين لزمن طويل. ويكون الاهتمام الإعلامي كثيفاً في البداية، إلا أنه يخف بمرور الوقت. وبسبب الوقت المستغرق في تلك العمليات، يحتاج الاختطاف الناجح إلى تخطيط متقن وتجهيزات لوجستية مناسبة. كما قد تكون المخاطرة بالنسبة للجناة أقل من نموذج أخذ الرهائن.

• الدعاية: يمكن أن يبث المتمردون الدعاية مستخدمين أي نوع من وسائل الإعلام، بما في ذلك الحديث وجهاً لوجه.

• الغارات أو الهجمات على المرافق: يتم تنفيذ الهجمات المسلحة على المباني والمرافق عادة من أجل:

- إظهار عدم قدرة حكومة الدولة المضيفة على تأمين المرافق الهامة أو الرموز الوطنية.
- الحصول على الموارد (على سبيل المثال، السطو على بنك أو مستودع أسلحة).
- قتل أفراد حكومة الدولة المضيفة.
- ترويع حكومة الدولة المضيفة والسكان.

• التخريب: إن الهدف من معظم حوادث التخريب هو إظهار مدى تعرض المجتمع وحكومة الدولة المضيفة للأعمال الإرهابية. وتكون المناطق الصناعية و التجارية أكثر عرضة للتخريب من الأماكن الأقل تطوراً. وتكون شبكات مرافق الخدمات والاتصالات والنقل معتمدة على بعضها البعض، فالدمار الخطير الذي يصيب أحدها يؤثر فيها جميعاً ويحظى بالاهتمام العام الفوري. ويمكن لتخريب المرافق الصناعية والتجارية أن يحدث أعطالاً خطيرة ويعطي مؤشراً على النوايا المستقبلية. وتكون المرافق والتجهيزات العسكرية ونظم المعلومات والبنية التحتية للمعلومات، أهدافا محتملة.

• الاستيلاء: يكون الاستيلاء عادة مشتملاً على مباني أو أشياء ذات قيمة بالنسبة للجمهور، وهو يتضمن بعض المخاطرة بالنسبة للجناة حيث يوافر لدي قوات الأمن وقت مناسب للرد.
‏١٧‏/١١‏/٢٠١٨ ٨:٥٠ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (8) كنت عضواً في طلائع الاتحاد الاشتراكي (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] عندما كنا صغاراً في المدرسة الإعدادية، كانوا يختارون الطلاب الخمسة الأوائل على كل فصل، ويُحفِّظونهم خطب جمال عبد الناصر، ويحدثونهم عن الاشتراكية، ويشرحون لهم الميثاق، ثم كانوا يعقدون لهم لقاءات دورية –لا أتذكر الآن إن كانت شهرية أم نصف سنوية- بالإضافة إلى معسكرات صيفية في الإسكندرية ورأس البر، وأما بالنسبة لنا في مركز إدفو فقد كان معسكرنا في أسوان، ننزل هناك في نُزل الشباب، التي كانت ضمن ما كان يسمى "بيوت الشباب" وهي تتبع وزارة الشباب والرياضة، وكان لها في ذلك الوقت أنشطة ضخمة. وهذه المعسكرات مختلطة بين الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا –مثلاً- حيث يبيت الشباب والفتيات في مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية. وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي يعمل جيداً على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل -لا من كل مدرسة- أفضل خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار. كانت هذه صورة ونظام الاتحاد الاشتراكي كما رأيتها، وكانت تلك الفترة حافلة بالمشاعر الوطنية الملتهبة المرتبطة بجمال عبد الناصر الذي هو في روحنا "الزعيم"! ولم تتفكك هذه البنية العقدية القوية إلا حين طرح السادات فيما بعد فكرة تطوير الاتحاد الاشتراكي، فطُرِحت ورقة بهذا العنوان "تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، وقد حضرتُ مناقشات هذه الورقة. وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه ودياً وأخوياً وفي مكان غير المدرسة أو قسم الشرطة. وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها أني لم أعِ جيداً حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم تشغلنا كثيراً مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن -طلابَ المدارس- في مظاهرات وجنازات رمزية. كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة "بحر البقر" التي استشهد فيها عدد من الأطفال في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضاً لكوبري (جسر) إدفو في أسوان، وكان هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو متراً واحداً فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار. وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية، وكان يجري تدريبنا عسكرياً في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل والأبواب، وخصوصاً أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضاً، وكانت لا شك مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد حُدد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها وقت حدوث الغارات. لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور حماسة حقيقية، وكان مشحوناً بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيماً حقيقياً، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء حقيقياً يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي إلا رجلاً بسيطاً فلم يكن مؤدلجاً ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا فقد كان في غاية الانفعال والتأثر. بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء السادات، لقد بدا السادات ضعيفاً مهزوزاً لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى (1970 – 1973م) حتى قامت الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحاً ليكون رئيساً للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئاً مستكيناً، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة القرية، يتحدث كثيراً بالعامية. لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصاراً، كان السادات ضمن هذه الصورة الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب (على العكس من موقف وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل)، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصاراً وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصاً كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن ندخل الحرب أبداً. فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح (مايو 1971م) والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاءً طبيعياً، فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضاً: وإذ كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم يكن منهم أحد معروفاً بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض الناس من حسناته ومن بشائر عهده. إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة..
مذكرات الشيخ رفاعي طه (8)
كنت عضواً في طلائع الاتحاد الاشتراكي

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

عندما كنا صغاراً في المدرسة الإعدادية، كانوا يختارون الطلاب الخمسة الأوائل على كل فصل، ويُحفِّظونهم خطب جمال عبد الناصر، ويحدثونهم عن الاشتراكية، ويشرحون لهم الميثاق، ثم كانوا يعقدون لهم لقاءات دورية –لا أتذكر الآن إن كانت شهرية أم نصف سنوية- بالإضافة إلى معسكرات صيفية في الإسكندرية ورأس البر، وأما بالنسبة لنا في مركز إدفو فقد كان معسكرنا في أسوان، ننزل هناك في نُزل الشباب، التي كانت ضمن ما كان يسمى "بيوت الشباب" وهي تتبع وزارة الشباب والرياضة، وكان لها في ذلك الوقت أنشطة ضخمة. وهذه المعسكرات مختلطة بين الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا –مثلاً- حيث يبيت الشباب والفتيات في مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية.

وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي يعمل جيداً على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل -لا من كل مدرسة- أفضل خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار.

كانت هذه صورة ونظام الاتحاد الاشتراكي كما رأيتها، وكانت تلك الفترة حافلة بالمشاعر الوطنية الملتهبة المرتبطة بجمال عبد الناصر الذي هو في روحنا "الزعيم"! ولم تتفكك هذه البنية العقدية القوية إلا حين طرح السادات فيما بعد فكرة تطوير الاتحاد الاشتراكي، فطُرِحت ورقة بهذا العنوان "تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، وقد حضرتُ مناقشات هذه الورقة.

وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه ودياً وأخوياً وفي مكان غير المدرسة أو قسم الشرطة.

وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها أني لم أعِ جيداً حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم تشغلنا كثيراً مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن -طلابَ المدارس- في مظاهرات وجنازات رمزية.

كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة "بحر البقر" التي استشهد فيها عدد من الأطفال في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضاً لكوبري (جسر) إدفو في أسوان، وكان هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو متراً واحداً فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار.

وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية، وكان يجري تدريبنا عسكرياً في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل والأبواب، وخصوصاً أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضاً، وكانت لا شك مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد حُدد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها وقت حدوث الغارات.

لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور حماسة حقيقية، وكان مشحوناً بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيماً حقيقياً، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء حقيقياً يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي إلا رجلاً بسيطاً فلم يكن مؤدلجاً ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا فقد كان في غاية الانفعال والتأثر.

بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء السادات، لقد بدا السادات ضعيفاً مهزوزاً لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى (1970 – 1973م) حتى قامت الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحاً ليكون رئيساً للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئاً مستكيناً، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة القرية، يتحدث كثيراً بالعامية.

لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصاراً، كان السادات ضمن هذه الصورة الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب (على العكس من موقف وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل)، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصاراً وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصاً كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن ندخل الحرب أبداً.

فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح (مايو 1971م) والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاءً طبيعياً، فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضاً: وإذ كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم يكن منهم أحد معروفاً بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض الناس من حسناته ومن بشائر عهده.

إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة..
‏١٥‏/١١‏/٢٠١٨ ١٠:٥١ م‏
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام (2) م. مصطفى البدري (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون وبعد: فقد بدأنا في المقال الماضي تلخيص كتاب أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، وانتهينا فيه بفضل الله من المقدمة والباب الأول. وهنا أبدأ مستعينًا بالله في تلخيص الباب الثاني، وعنوانه: منهج الدعوة إلى الله بعد تشريع الجهاد القتالي. وحيث إن هذا الباب قد اشتمل على ثمانية مباحث هامة؛ فسوف نتناول هنا المبحث الأول والثاني فقط، مع التأكيد على أنّ هذا التلخيص لا يغني عن قراءة الكتاب الأصل. 1- تعريف الجهاد وحكمه التعريف اللغوي: يقول ابن منظور: وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا = قاتله وجاهد في سبيل الله. والجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل. اهـ وقال القسطلاني: والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهدت العدو مجاهدة وجهادًا، وهو مُشتق من الجَهد بفتح الجيم، وهو التعب والمشقة لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد بضم الجيم، وهو الطاقة، لأن كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه. التعريف الشرعي: روى أحمد عن عمرو بن عبسة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الجهاد؟ فأجابه: "أن تقاتل الكُفّار إذا لقيتهم". وقد يأتي مصطلح الجهاد في النصوص الشرعية على غير معنى قتال الكفار، لكنه إذا أُطْلِقَ فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة. يقول ابن رشد: وجهاد السيف قتال المشركين على الدين، فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أُطْلِق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ وكل النصوص التي تدل على فضائل الجهاد فالمراد بها قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا تُحمَل على جهاد النفس كما يزعم البعض، فكل علماء الإسلام من مُحَدِّثين وفقهاء إذا بوَّبُوا في كتبهم للجهاد، فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس. ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عَمَلٍ يَعْدِلُ الجهاد. قال: "لا أجده". ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تدخل مسجدَك فتقوم ولا تَفْتُر وتصوم فلا تُفْطِر؟" قال: ومن يستطيع ذلك؟ ودلالة الحديث ظاهرة، فالصيام والقيام من مجاهدة النفس، ومع هذا قال صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما يعدل الجهاد. وقال حسن البنا رحمه الله: شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر، وأن هناك جهادًا أكبر هو جهاد النفس!! وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونيَّة الجهاد والأخذ في سبيله. اهـ وأما الحديث المشهور "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فقد نص عامة المُحَدِّثين (كالبيهقي والعراقي والسيوطي والألباني) بأنه لا يصح عن رسول الله، بل فيه راوٍ وهو يحيى بن العلاء مُتَّهَم بالكذب ووضع الحديث. والخلاصة التي وصل إليها الباحث في هذا الموضوع: إذا كان المقصود بجهاد النفس هو التزام أوامر الله وشرائعه، وأول ذلك تحقيق التوحيد والكفر بالطاغوت والذي يشمل عقيدة الولاء والبراء، فآنذاك يصح أن يُطلَق عليه الجهاد الأكبر، لأنه سيشمل حتماً جهاد الكفار ومقاتلتهم. أما إذا كان المقصود به هو ما ينشره بعض المُنَفِّرين من الجهاد حيث الاكتفاء بعبادات معينة مثل قيام الليل وصيام النهار والحفاظ على الأوراد والأذكار وما أشبه ذلك، فإن اعتبار هذا هو الجهاد الأكبر مغالطة كبيرة لا يدل عليها كتاب ولا سُنَّة، وهو ظاهر في حديث أبي هريرة الذي مضى معنا، ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق" . وعلى هذا المعنى ينتظم كلام ابن القيم في زاد المعاد، والذي ذكر فيه أنَّ مجاهدة النفس في المرتبة الأولى من مراتب الجهاد. حُكْم الجهاد: أولا: جهاد الطلب والابتداء: وهو تطلب الكفار في عُقْر دارهم ودعوتهم إلى الإسلام وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام. وهذا النوع فرض كفاية على مجموع المسلمين، يدل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى الله" . وقال ابن عطية: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أُمَّة محمد فرض كفاية، إلَّا أن ينزل العدُوُّ بساحة الإسلام، فإنه حِيْنَئِذٍ فرض عَيْن. وقال حسن البنا بعد أن استعرض أقوال فقهاء الإسلام بوجوب الجهاد: فها أنت ذا ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم (مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين) على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة لنشر الدعوة. ورغم ورود عدة آثار عن بعض الصحابة والتابعين تفيد أن مذهبهم هو أن الغزو فرض عين على كل قادر، إلا أن المترجح لدى الكاتب هو قول الجمهور، وأنه فرض كفاية وذلك لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وإذا تقرر هذا.. فهل هناك عدد معين لغزو المسلمين بلاد الكفار تبرأ به ذمتهم، أم أن الأمر منوط بالقدرة على ذلك؟ قولان لأهل العلم: أوَّلهما قول الجمهور، وهو وجوب الغزو كل عام مرة على الأقل. قال القرطبي: فرضٌ على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه أو يُخرِج مَن يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغمهم ويكُفَّ أذاهم ويُظهِر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام أو يُعطُوا الجزية. اهـ واستدلوا على ذلك بأن الجهاد بديل عن الجزية، وبما أن الجزية تُدفع كل سنة، فكذلك الجهاد. والثاني أنه يجب غزو الكُفّار في عقر دارهم كلما أمكن ذلك من غير تحديد بعدد معيَّن، قال ابن حَجَر: وهو قول قوي. ويكون غزو الكُفَّار في عقر دارهم فرضًا عينيًّا في صور، ذكر منها العلماء ما يلي: 1- إذا عيَّن إمام المسلمين شخصًا بعينه. 2- إذا كان النفير عامًّا كأن يستنفر الإمام أهل قرية أو ناحية. 3- إذا كان للمسلمين أسرى عند الكفار حتى يتم استنقاذهم. 4- إذا حضر المسلم جيش المسلمين في حال قتال مع الأعداء. ثانيًا: حكم جهاد الدفع: وهو كل ما يندفع به شر الأعداء عن بلاد المسلمين. وهو فرض عين بالإجماع. قال القرطبي: إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالاً، شبابًا وشيوخًا، كل على قدر طاقته، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم، وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يَدٌ على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها، سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو ولا خلاف في هذا. اهـ بتصرف . 2- مراحل تشريع الجهاد المرحلة الأولى: وهي مرحلة الكف عن المشركين والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق . وهي التي عناها ربنا في قوله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وفيها قال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أؤمر بقتال" . قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي يصفحوا عنهم ويحملوا الأذى منهم، وهذا كان في ابتداء الإسلام، أُمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك لتأليف قلوبهم، ثم لما أصرّوا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس وقتادة. اهـ المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض. وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال ابن كثير: وقال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، وإنما شرع الله الجهاد في الوقت الأليق بهم، فلو أمر المسلمين بمكة وهم أقل من العُشر بقتال الباقين لشقَّ عليهم، فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهَمُّوا بقتله، وشرَّدوا أصحابه شذر مذر، فلما استقروا بالمدينة وصارت لهم دار إسلام ومعقلًا يلجؤون إليه، شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك. اهـ بتصرف المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط. ومن أدلة هذه المرحلة قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} وتدل السيرة النبوية أيضًا على هذه المرحلة، يقول ابن تيمية: فمن المعلوم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما قدم المدينة لم يحارب أحدًا من أهل المدينة، بل وادعهم، حتى اليهود، خصوصًا بطون الأوس والخزرج، فإنه كان يسالمهم ويتألّفهم بكل وجه، حتى حلفاء الأنصار أقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم على حلفهم. اهـ بتصرف. المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار على اختلاف أديانهم وأجناسهم ابتداءً، وإن لم يبدأوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية. وهي المقصودة بقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيها "اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ .... فَإِذَا أَنْتَ لَقِيتَ عَدُوًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاثِ خِلال .... إلى آخر الحديث" . وقال ابن تيمية: فكان النبي في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أُذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكـة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسـلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة. اهـ وهنا يُطرح السؤال المشهور: هل المرحلة الأخيرة ناسخة للمراحل السابقة، كما نص أهل التفسير على أن آية التوبة نسخت الآيات التي تأمر بالعفو والصفح؟ وقد خلص المؤلف إلى أن النسخ هو الصحيح، لكن يبقى للمسلمين فسحة حال العجز اضطرارًا في العمل بنصوص الصبر والعفو، مع وجوب السعي لرفع حالة الاضطرار. قال ابن تيمية: فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ ويقول سيد قطب في ردّه على الذين يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربًا من الجهاد في معناه الشامل: إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هنا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى؛ وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قُدُمًا في تحسين ظرفها؛ وفي إزالة العوائق من طريقها؛ حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية. فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام؛ فلهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلاً، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية، كافة في السلم كافة. اهـ والله من وراء القصد
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام (2)
م. مصطفى البدري

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون وبعد:
فقد بدأنا في المقال الماضي تلخيص كتاب أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، وانتهينا فيه بفضل الله من المقدمة والباب الأول.

وهنا أبدأ مستعينًا بالله في تلخيص الباب الثاني، وعنوانه: منهج الدعوة إلى الله بعد تشريع الجهاد القتالي.

وحيث إن هذا الباب قد اشتمل على ثمانية مباحث هامة؛ فسوف نتناول هنا المبحث الأول والثاني فقط، مع التأكيد على أنّ هذا التلخيص لا يغني عن قراءة الكتاب الأصل.

1- تعريف الجهاد وحكمه

التعريف اللغوي: يقول ابن منظور: وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا = قاتله وجاهد في سبيل الله. والجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل. اهـ

وقال القسطلاني: والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهدت العدو مجاهدة وجهادًا، وهو مُشتق من الجَهد بفتح الجيم، وهو التعب والمشقة لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد بضم الجيم، وهو الطاقة، لأن كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه.

التعريف الشرعي: روى أحمد عن عمرو بن عبسة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الجهاد؟ فأجابه: "أن تقاتل الكُفّار إذا لقيتهم".

وقد يأتي مصطلح الجهاد في النصوص الشرعية على غير معنى قتال الكفار، لكنه إذا أُطْلِقَ فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة.

يقول ابن رشد: وجهاد السيف قتال المشركين على الدين، فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أُطْلِق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ

وكل النصوص التي تدل على فضائل الجهاد فالمراد بها قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا تُحمَل على جهاد النفس كما يزعم البعض، فكل علماء الإسلام من مُحَدِّثين وفقهاء إذا بوَّبُوا في كتبهم للجهاد، فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس.

ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عَمَلٍ يَعْدِلُ الجهاد. قال: "لا أجده". ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تدخل مسجدَك فتقوم ولا تَفْتُر وتصوم فلا تُفْطِر؟" قال: ومن يستطيع ذلك؟

ودلالة الحديث ظاهرة، فالصيام والقيام من مجاهدة النفس، ومع هذا قال صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما يعدل الجهاد.

وقال حسن البنا رحمه الله: شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر، وأن هناك جهادًا أكبر هو جهاد النفس!! وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونيَّة الجهاد والأخذ في سبيله. اهـ

وأما الحديث المشهور "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فقد نص عامة المُحَدِّثين (كالبيهقي والعراقي والسيوطي والألباني) بأنه لا يصح عن رسول الله، بل فيه راوٍ وهو يحيى بن العلاء مُتَّهَم بالكذب ووضع الحديث.

والخلاصة التي وصل إليها الباحث في هذا الموضوع: إذا كان المقصود بجهاد النفس هو التزام أوامر الله وشرائعه، وأول ذلك تحقيق التوحيد والكفر بالطاغوت والذي يشمل عقيدة الولاء والبراء، فآنذاك يصح أن يُطلَق عليه الجهاد الأكبر، لأنه سيشمل حتماً جهاد الكفار ومقاتلتهم.

أما إذا كان المقصود به هو ما ينشره بعض المُنَفِّرين من الجهاد حيث الاكتفاء بعبادات معينة مثل قيام الليل وصيام النهار والحفاظ على الأوراد والأذكار وما أشبه ذلك، فإن اعتبار هذا هو الجهاد الأكبر مغالطة كبيرة لا يدل عليها كتاب ولا سُنَّة، وهو ظاهر في حديث أبي هريرة الذي مضى معنا، ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق" .

وعلى هذا المعنى ينتظم كلام ابن القيم في زاد المعاد، والذي ذكر فيه أنَّ مجاهدة النفس في المرتبة الأولى من مراتب الجهاد.

حُكْم الجهاد:

أولا: جهاد الطلب والابتداء: وهو تطلب الكفار في عُقْر دارهم ودعوتهم إلى الإسلام وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام.

وهذا النوع فرض كفاية على مجموع المسلمين، يدل على ذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى الله" .

وقال ابن عطية: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أُمَّة محمد فرض كفاية، إلَّا أن ينزل العدُوُّ بساحة الإسلام، فإنه حِيْنَئِذٍ فرض عَيْن.

وقال حسن البنا بعد أن استعرض أقوال فقهاء الإسلام بوجوب الجهاد: فها أنت ذا ترى من ذلك كله كيف أجمع أهل العلم (مجتهدين ومقلدين، سلفيين وخلفيين) على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة لنشر الدعوة.

ورغم ورود عدة آثار عن بعض الصحابة والتابعين تفيد أن مذهبهم هو أن الغزو فرض عين على كل قادر، إلا أن المترجح لدى الكاتب هو قول الجمهور، وأنه فرض كفاية وذلك لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.

وإذا تقرر هذا.. فهل هناك عدد معين لغزو المسلمين بلاد الكفار تبرأ به ذمتهم، أم أن الأمر منوط بالقدرة على ذلك؟

قولان لأهل العلم: أوَّلهما قول الجمهور، وهو وجوب الغزو كل عام مرة على الأقل.

قال القرطبي: فرضٌ على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه أو يُخرِج مَن يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغمهم ويكُفَّ أذاهم ويُظهِر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام أو يُعطُوا الجزية. اهـ

واستدلوا على ذلك بأن الجهاد بديل عن الجزية، وبما أن الجزية تُدفع كل سنة، فكذلك الجهاد.

والثاني أنه يجب غزو الكُفّار في عقر دارهم كلما أمكن ذلك من غير تحديد بعدد معيَّن، قال ابن حَجَر: وهو قول قوي.

ويكون غزو الكُفَّار في عقر دارهم فرضًا عينيًّا في صور، ذكر منها العلماء ما يلي:

1- إذا عيَّن إمام المسلمين شخصًا بعينه.
2- إذا كان النفير عامًّا كأن يستنفر الإمام أهل قرية أو ناحية.
3- إذا كان للمسلمين أسرى عند الكفار حتى يتم استنقاذهم.
4- إذا حضر المسلم جيش المسلمين في حال قتال مع الأعداء.

ثانيًا: حكم جهاد الدفع: وهو كل ما يندفع به شر الأعداء عن بلاد المسلمين.
وهو فرض عين بالإجماع.

قال القرطبي: إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالاً، شبابًا وشيوخًا، كل على قدر طاقته، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم، وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضًا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يَدٌ على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها، سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو ولا خلاف في هذا. اهـ بتصرف .

2- مراحل تشريع الجهاد

المرحلة الأولى: وهي مرحلة الكف عن المشركين والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق .

وهي التي عناها ربنا في قوله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وفيها قال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أؤمر بقتال" .

قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي يصفحوا عنهم ويحملوا الأذى منهم، وهذا كان في ابتداء الإسلام، أُمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك لتأليف قلوبهم، ثم لما أصرّوا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس وقتادة. اهـ

المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض. وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال ابن كثير: وقال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، وإنما شرع الله الجهاد في الوقت الأليق بهم، فلو أمر المسلمين بمكة وهم أقل من العُشر بقتال الباقين لشقَّ عليهم، فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهَمُّوا بقتله، وشرَّدوا أصحابه شذر مذر، فلما استقروا بالمدينة وصارت لهم دار إسلام ومعقلًا يلجؤون إليه، شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك. اهـ بتصرف

المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط.

ومن أدلة هذه المرحلة قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} وتدل السيرة النبوية أيضًا على هذه المرحلة، يقول ابن تيمية: فمن المعلوم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما قدم المدينة لم يحارب أحدًا من أهل المدينة، بل وادعهم، حتى اليهود، خصوصًا بطون الأوس والخزرج، فإنه كان يسالمهم ويتألّفهم بكل وجه، حتى حلفاء الأنصار أقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم على حلفهم. اهـ بتصرف.

المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار على اختلاف أديانهم وأجناسهم ابتداءً، وإن لم يبدأوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية.

وهي المقصودة بقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيها "اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ .... فَإِذَا أَنْتَ لَقِيتَ عَدُوًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاثِ خِلال .... إلى آخر الحديث" .

وقال ابن تيمية: فكان النبي في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أُذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكـة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسـلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة. اهـ

وهنا يُطرح السؤال المشهور: هل المرحلة الأخيرة ناسخة للمراحل السابقة، كما نص أهل التفسير على أن آية التوبة نسخت الآيات التي تأمر بالعفو والصفح؟

وقد خلص المؤلف إلى أن النسخ هو الصحيح، لكن يبقى للمسلمين فسحة حال العجز اضطرارًا في العمل بنصوص الصبر والعفو، مع وجوب السعي لرفع حالة الاضطرار.

قال ابن تيمية: فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ

ويقول سيد قطب في ردّه على الذين يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربًا من الجهاد في معناه الشامل:

إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا.

وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هنا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى؛ وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قُدُمًا في تحسين ظرفها؛ وفي إزالة العوائق من طريقها؛ حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.

فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام؛ فلهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلاً، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية، كافة في السلم كافة. اهـ

والله من وراء القصد
‏١٣‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٠٨ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
حمّل جميع ما صدر من مجلة كلمة حق:
https://klmtuhaq.blog/all/
‏١٢‏/١١‏/٢٠١٨ ٨:٤٨ ص‏
الاغتيالات الممنهجة م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed] (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) (إن الأعمال العسكرية التي تُنفذ دون تقييم آثارها السياسية، تؤدي في أفضل الأحوال إلى انخفاض الفاعلية، وفي أسوأ الأحوال تكون غير مجدية). الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد تقدم تلك الجملة الموجزة عدة دروس مهمة، من بينها أن الاعتماد على القوة العسكرية فقط دون النظر لكيفية أو مألات استخدامها قد يجلب نتائج سلبية. ورغم أن أميركا هي أقوى دولة حالياً في النظام الدولي المعاصر، إلا أنها تحرص على تحقيق أكبر قدر من أهدافها بأقل قدر من التكلفة. وقد تعلمت من أخطائها في غزو العراق، فاعتنت بداية من عهد أوباما بنمط الاغتيالات الممنهجة لقيادات وكوادر التنظيمات التي تصنفها ضمن خانة الأعداء بدلاً من شن الحروب المكلفة ضدهم. حتى أن الجيش الأميركي أصدر دليلاً إرشادياً لعمليات الاستهداف بعنوان (ATP3-60–Targeting). ونُشرت آخر نسخة معدلة منه في مايو 2015. بينما على الضفة الأخرى نشاهد كيف تضرب العشوائية جنبات معظم الحركات الإسلامية، فتتكبد تلك الحركات الكثير من التكاليف البشرية والمالية من أجل تحقيق أهداف ثانوية أو الحصول على نتائج غير مؤثرة في مسيرة الصراع مع الأعداء. خطورة الاغتيالات ودور الاستخبارات لا تنفذ أميركا اغتيالات أو عمليات قتل عشوائية لخصومها، وإنما تدرس كل عملية وفق معايير موضوعية محددة، وذلك لأن لعمليات الاغتيال والقتل تداعيات ينبغي حسابها جيداً، فينص الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد على أن (قتل أو أسر المتمردين يكون ضرورياً بالأخص عندما يعتمد التمرد على التطرف الديني أو الأيديولوجي. ومع ذلك فإنه يتعذر قتل كل متمرد. كما أن الشروع في تنفيذ ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية في بعض الحالات، فهو يخاطر بإثارة غضب السكان، وقد يسفر عن ضحايا وشهداء يلتف حولهم المجندون الجدد، وينتج دوائر مغلقة من عمليات الثأر والانتقام). وهنا يأتي دور أجهزة الاستخبارات التي ترسم خريطة واضحة للحركات المتمردة وقادتها وكوادرها، ودوافعهم للانخراط في التمرد. (فبدون استخبارات جيدة، ستبدو قوات مكافحة التمرد كملاكم أعمى يبدد طاقته ضد خصوم غير مرئيين، وربما تتسبب في أضرار غير مقصودة. بينما مع وجود استخبارات جيدة، ستكون كجراح يستأصل الأنسجة السرطانية ويحافظ على سلامة الأعضاء الحيوية الأخرى) وفقا لتعبيرات دليل الجيش الأميركي. فليس كل الخصوم تحركهم دوافع واحدة أو يمثلون خطراً متماثلاً (فقد تكون هناك مجموعات متعددة لديها أهداف مختلفة، وتحركها دوافع متنوعة. وتتطلب هذه الحالة مراقبة أهداف ودوافع كل مجموعة بشكل منفصل). بحيث (يتمكن القادة من تحديد أفضل طريقة لمواجهة كل جماعة، وهذا يشمل أيضاً تحديد الجماعات التي تتسم أهدافها بالمرونة الكافية لدرجة تسمح بإجراء مفاوضات مثمرة معها، وتحديد الكيفية التي يتم فيها التخلص من العناصر المتطرفة دون تنفير السكان). ويقسم دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد هيكل المتمردين إلى خمسة فئات متداخلة: زعماء الحركة، المقاتلون، الكادر السياسي، العناصر المساعدة (وهم الأتباع النشطون الذين يقدمون خدمات الدعم المهمة)، والقاعدة الجماهيرية. وينص الدليل على أهمية الاعتناء بزعماء الحركة، وجمع المعلومات التالية عن كل قائد منهم: • دوره في التنظيم. • نشاطاته المعروفة. • شركاؤه المعروفين. • خلفيته وتاريخه الشخصي. • معتقداته، ودوافعه، وأيديولوجيته. • تعليمه وتدريبه. • طباعه (على سبيل المثال، حريص، مندفع، مفكر، عنيف). • أهمية التنظيم. • شعبيته خارج التنظيم. ثم بعد ذلك تأتي عمليات الاغتيال التي تطلق عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عمليات الاستهداف عالي القيمة. (وهي عمليات مركزة ضد أفراد أو شبكات معينة تؤدي إزالتها أو تهميشها إلى تقويض فاعلية مجموعة المتمردين على نحو ملحوظ). وتعتبر السي آي إيه أن الآثار الاستراتيجية الإيجابية المحتملة لعمليات الاستهداف عالي الأهمية تشمل ما يلي: - تضاؤل فاعلية المتمردين لتتسبب الاغتيال بارتباك يفوق قدرة المجموعة على احتوائه، وذلك عندما تكون الهجمات أكبر من قدرة المجموعة على تعويض القادة أو عندما تسبب الضربات فقدان الأفراد ذوي المهارات الحساسة - مثل خبراء التمويل واللوجستيات - والذين يكونون عادة محدودي العدد في أي جماعة. كما أنه عادة ما تجبر عمليات الاستهداف القادة المتبقين على زيادة احترازاتهم الأمنية. - تفتيت أو تقسيم الجماعة المتمردة، فتصفية الزعماء الملتف حولهم يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل الجماعة وتشظيها، وتظهر إمكانية التقسيم هذه بشكل خاص عندما تتكون الجماعة من تحالفات بين المجموعات أو فصائل. -إضعاف الإرادة خاصة في حالة عدم وجود مخطط واضح لدى الجماعة لاستخلاف القادة. وتغيير استراتيجية الجماعة أو هيكلها بطرق تخدم الحكومة، فضلاً عن تقوية معنويات الحكومة والمحسوبين عليها. وعندما يرى القادة المختصون أن احتمالات تحقيق عملية الاستهداف لآثارها الايجابية أكبر من التأثيرات السلبية المتوقعة، يأمرون بتنفيذها للتخلص من الخصوم. وهذا الأسلوب في جوهره ليس أسلوباً جديداً في تاريخ الصراع بين الحق والباطل، إنما هو أسلوب ممتد عبر التاريخ يلخصه قوله تعالى: { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي ليقتلوه. وقد شاهدنا خلال القرن الأخير تصفية معظم الرموز الجادة للتيارات الإسلامية بدءاً من حسن البنا وسيد قطب، وصولاً إلى الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، فضلاً عن أغلب قادة التيارات الجهادية. أي أن أعداء الدين كانوا أكثر تأسياً بقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر). ونفذوا ذلك بشكل عكسي فقتلوا خيرة البشر من الرسل والأنبياء والمصلحين. وهو ما يستدعي مراجعة جادة لكيفية خوض الصراعات مع الأعداء بما يكفل تأمين القيادات الفاعلة قدر الإمكان، والاستفادة من منهجية الآخرين في التعامل مع الأعداء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: -الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد، ط.2006. - تقييم برامج الاغتيالات النوعية، وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ترجمة مركز حازم للدراسات. ط.2018.
الاغتيالات الممنهجة
م. أحمد مولانا Ahmed

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

(إن الأعمال العسكرية التي تُنفذ دون تقييم آثارها السياسية، تؤدي في أفضل الأحوال إلى انخفاض الفاعلية، وفي أسوأ الأحوال تكون غير مجدية).
الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد

تقدم تلك الجملة الموجزة عدة دروس مهمة، من بينها أن الاعتماد على القوة العسكرية فقط دون النظر لكيفية أو مألات استخدامها قد يجلب نتائج سلبية. ورغم أن أميركا هي أقوى دولة حالياً في النظام الدولي المعاصر، إلا أنها تحرص على تحقيق أكبر قدر من أهدافها بأقل قدر من التكلفة.
وقد تعلمت من أخطائها في غزو العراق، فاعتنت بداية من عهد أوباما بنمط الاغتيالات الممنهجة لقيادات وكوادر التنظيمات التي تصنفها ضمن خانة الأعداء بدلاً من شن الحروب المكلفة ضدهم. حتى أن الجيش الأميركي أصدر دليلاً إرشادياً لعمليات الاستهداف بعنوان (ATP3-60–Targeting). ونُشرت آخر نسخة معدلة منه في مايو 2015.
بينما على الضفة الأخرى نشاهد كيف تضرب العشوائية جنبات معظم الحركات الإسلامية، فتتكبد تلك الحركات الكثير من التكاليف البشرية والمالية من أجل تحقيق أهداف ثانوية أو الحصول على نتائج غير مؤثرة في مسيرة الصراع مع الأعداء.

خطورة الاغتيالات ودور الاستخبارات
لا تنفذ أميركا اغتيالات أو عمليات قتل عشوائية لخصومها، وإنما تدرس كل عملية وفق معايير موضوعية محددة، وذلك لأن لعمليات الاغتيال والقتل تداعيات ينبغي حسابها جيداً، فينص الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد على أن (قتل أو أسر المتمردين يكون ضرورياً بالأخص عندما يعتمد التمرد على التطرف الديني أو الأيديولوجي. ومع ذلك فإنه يتعذر قتل كل متمرد. كما أن الشروع في تنفيذ ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية في بعض الحالات، فهو يخاطر بإثارة غضب السكان، وقد يسفر عن ضحايا وشهداء يلتف حولهم المجندون الجدد، وينتج دوائر مغلقة من عمليات الثأر والانتقام).

وهنا يأتي دور أجهزة الاستخبارات التي ترسم خريطة واضحة للحركات المتمردة وقادتها وكوادرها، ودوافعهم للانخراط في التمرد. (فبدون استخبارات جيدة، ستبدو قوات مكافحة التمرد كملاكم أعمى يبدد طاقته ضد خصوم غير مرئيين، وربما تتسبب في أضرار غير مقصودة. بينما مع وجود استخبارات جيدة، ستكون كجراح يستأصل الأنسجة السرطانية ويحافظ على سلامة الأعضاء الحيوية الأخرى) وفقا لتعبيرات دليل الجيش الأميركي. فليس كل الخصوم تحركهم دوافع واحدة أو يمثلون خطراً متماثلاً (فقد تكون هناك مجموعات متعددة لديها أهداف مختلفة، وتحركها دوافع متنوعة. وتتطلب هذه الحالة مراقبة أهداف ودوافع كل مجموعة بشكل منفصل). بحيث (يتمكن القادة من تحديد أفضل طريقة لمواجهة كل جماعة، وهذا يشمل أيضاً تحديد الجماعات التي تتسم أهدافها بالمرونة الكافية لدرجة تسمح بإجراء مفاوضات مثمرة معها، وتحديد الكيفية التي يتم فيها التخلص من العناصر المتطرفة دون تنفير السكان).

ويقسم دليل الجيش الأميركي لمكافحة التمرد هيكل المتمردين إلى خمسة فئات متداخلة: زعماء الحركة، المقاتلون، الكادر السياسي، العناصر المساعدة (وهم الأتباع النشطون الذين يقدمون خدمات الدعم المهمة)، والقاعدة الجماهيرية. وينص الدليل على أهمية الاعتناء بزعماء الحركة، وجمع المعلومات التالية عن كل قائد منهم:

• دوره في التنظيم.
• نشاطاته المعروفة.
• شركاؤه المعروفين.
• خلفيته وتاريخه الشخصي.
• معتقداته، ودوافعه، وأيديولوجيته.
• تعليمه وتدريبه.
• طباعه (على سبيل المثال، حريص، مندفع، مفكر، عنيف).
• أهمية التنظيم.
• شعبيته خارج التنظيم.

ثم بعد ذلك تأتي عمليات الاغتيال التي تطلق عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عمليات الاستهداف عالي القيمة. (وهي عمليات مركزة ضد أفراد أو شبكات معينة تؤدي إزالتها أو تهميشها إلى تقويض فاعلية مجموعة المتمردين على نحو ملحوظ). وتعتبر السي آي إيه أن الآثار الاستراتيجية الإيجابية المحتملة لعمليات الاستهداف عالي الأهمية تشمل ما يلي:

- تضاؤل فاعلية المتمردين لتتسبب الاغتيال بارتباك يفوق قدرة المجموعة على احتوائه، وذلك عندما تكون الهجمات أكبر من قدرة المجموعة على تعويض القادة أو عندما تسبب الضربات فقدان الأفراد ذوي المهارات الحساسة - مثل خبراء التمويل واللوجستيات - والذين يكونون عادة محدودي العدد في أي جماعة. كما أنه عادة ما تجبر عمليات الاستهداف القادة المتبقين على زيادة احترازاتهم الأمنية.

- تفتيت أو تقسيم الجماعة المتمردة، فتصفية الزعماء الملتف حولهم يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل الجماعة وتشظيها، وتظهر إمكانية التقسيم هذه بشكل خاص عندما تتكون الجماعة من تحالفات بين المجموعات أو فصائل.

-إضعاف الإرادة خاصة في حالة عدم وجود مخطط واضح لدى الجماعة لاستخلاف القادة. وتغيير استراتيجية الجماعة أو هيكلها بطرق تخدم الحكومة، فضلاً عن تقوية معنويات الحكومة والمحسوبين عليها.

وعندما يرى القادة المختصون أن احتمالات تحقيق عملية الاستهداف لآثارها الايجابية أكبر من التأثيرات السلبية المتوقعة، يأمرون بتنفيذها للتخلص من الخصوم.

وهذا الأسلوب في جوهره ليس أسلوباً جديداً في تاريخ الصراع بين الحق والباطل، إنما هو أسلوب ممتد عبر التاريخ يلخصه قوله تعالى: { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي ليقتلوه. وقد شاهدنا خلال القرن الأخير تصفية معظم الرموز الجادة للتيارات الإسلامية بدءاً من حسن البنا وسيد قطب، وصولاً إلى الشيخ أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، فضلاً عن أغلب قادة التيارات الجهادية. أي أن أعداء الدين كانوا أكثر تأسياً بقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر). ونفذوا ذلك بشكل عكسي فقتلوا خيرة البشر من الرسل والأنبياء والمصلحين. وهو ما يستدعي مراجعة جادة لكيفية خوض الصراعات مع الأعداء بما يكفل تأمين القيادات الفاعلة قدر الإمكان، والاستفادة من منهجية الآخرين في التعامل مع الأعداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:

-الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد، ط.2006.
- تقييم برامج الاغتيالات النوعية، وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ترجمة مركز حازم للدراسات. ط.2018.
‏١١‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٠٣ م‏
الجهاد المعاصر بين منهجين: عزام وبن لادن كرم الحفيان (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) مقدمة مروان حديد رائد الحركية الجهادية في سورية التي تجسدت بتنظيم الطليعة المقاتلة، الملا محمد عمر زعيم المشيخية المجاهدة في أفغانستان الممثلة بحركة طالبان، أحمد ياسين مؤسس الإخوانية المقاومة في فلسطين أو ما عرف لاحقاً بحركة حماس، عمرعبدالرحمن الأب الروحي للجماعة الدعوية المحتسبة ثم الجهادية في مصر: الجماعة الإسلامية، شامل باساييف قائد القوات الشيشانية النظامية ثم غير النظامية في حروب الاستقلال ضد روسيا إبان تفكك الإتحاد السوفيتي، وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة في سماء الجماعات والشخصيات المجاهدة والجهادية على امتداد خمسين عاماً خلت. إلا أن الاسمين الأشهر والأكثر رمزيةً سواءً على صعيد الإعلام العالمي أو (في عيون غالب الشباب المسلم المقاتل) حول العالم هما: عبد الله عزام وأسامة بن لادن. يعتقد البعض أن مدرسة بن لادن والقاعدة هي التطورالتاريخي التسلسلي لرؤية عبدالله عزام وطريقته في الجهاد (خاصة العالمي) منه، بينما يرى آخرون أن البون شاسعٌ بين المنهجين في الفكر والممارسة وهما نقيضان لا التقاء بينهما. تحاول الأسطر القادمة فك الاشتباك ومقاربة الحقيقة عبر استنطاق إرث الرجلين النظري والعملي، والمرور سريعاً على مساحات الاتفاق والاختلاف، مع الأخذ بعين الاعتبار ما استقر من نهجهما دون ما سبق أو ما شذ. بادئ ذي بدء، تجدرالإشارة إلى المبادئ الرئيسية الجامعة بينهما والمكونة من خمسة عناصر: أولاً: التصور (الفلسفي) لطبيعة الدين والحضارة الإسلامية وأهم انعكاساته هو إدراك جوهر الصراع (لاسيما المعاصر) وأولوياته بين الأمة المسلمة وأعدائها، والمقتبس بالدرجة الأولى من كتابات وتقعيدات المفكرين سيد ومحمد قطب. هذا التصور دندن باستمرارعلى: تفرد ومركزية منظومة التشريع في حياة المسلم على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وفاصَل كل من ينازع أو ينتزع شيئاً من خصائصها، وجهر بالعداوة لمنظومة الحكم العلمانية المحلية والعالمية، واصفاً إياها بالجاهلية المعاصرة، التي ينبغي العمل على الإطاحة بها لتعود قوانين الإسلام لمنصة الحكم مجدداً. ثانياً: طريقة التغيير تنحصر بثورات شعبية بقيادة إسلامية، إذ يعتقد الشيخان بعدم جدوى حرب التنظيمات ضد السلطات الجاهلية، كتلك التي خاضت غمارها بعض المجموعات الجهادية المسلحة (منفردة) ولم يكلل أي منها بالنجاح، نظراً للفارق الرهيب في العدد والعدة والإمكانات. بيد أنهما لا يخفيان إكبارهما لمحاولات بعض الجماعات وتاريخها الحافل بالعمليات الفدائية الجسورة ضد رؤوس الأنظمة وكبار زبانيتهم. من ناحية أخرى، لا يؤمن كلاهما بنجاعة الطريق البرلماني الدستوري السلمي في التخلص من النظم الحاكمة والقضاء على فسادها وإفسادها. ثالثاً: أولوية العدو البعيد ولأن الثورات الشعبية (عادةً) ما تحتاج لوقت ليس بالقصير ريثما يشتعل أوارها تدريجياً من خلال: الدعوة للفكرة، والإعداد للمواجهة، والحشد للجماهير والاختراق لمؤسسات الدولة، أو لتنفجر من تلقاء نفسها نتيجة: إحساس الشعوب بتراكم المظالم والانتهاكات الممنهجة، أو العدوان الصارخ على هويتها الدينية والثقافية. فإن عزام وبن لادن يعتمدون في رؤيتهما الجهادية سياسة البدء بقتال العدو البعيد المحتل وتأجيل الدخول في صدامات مبكرة مع العدو القريب المحلي. ومع ذلك تتباين اختياراتهما في تحديد ماهية العدو البعيد المستهدف، وآلية وأدوات مواجهته، سنتطرق لها في محورالفروقات. رابعاً: الجهاد فرض عين على كل مسلم وهذه المسألة من أظهر وأبرزالمشتركات العملية بين الطرفين. حتى إن عزام كان يشدد في هذه المسألة (على غير عادته)، ويغلظ القول أحياناً على من يفتي بأنه فرض كفاية. وقد ألف كتاباً بعنوان: "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان" قرر فيه: وجوب الجهاد على كل مسلم قادر، وإثم كل من لا يجاهد، ونادى بنفير المسلمين عامة والعلماء خاصة لجهاد الكافرين المحتلين للبلدان الإسلامية. ولعل هذه النقطة هي من دفعت الكثيرين لاعتقاد تماثل نموذجي عزام وبن لادن في العمل والفكر الجهادي. خامساً: العقيدة السلفية المعاصرة يتبنى الرجلان المرجعية السلفية فيما يخص تفاصيل العقائد النظرية. وتهيمن هذه المدرسة بشكل كبيرعلى الحالة العلمية بالسعودية وغالب الخليج العربي، ويتمسك بها غالب الملتزمين دينياً هناك. أما في باقي العالم الإسلامي الممتد شرقاً وغرباً من جاكرتا إلى طنجة، فتبرز المدرستان الأشعرية والماتريدية كتيار عام سائد ومستقر منذ أزمان بعيدة. وبالرغم من الاتفاق والتناغم بين المنهجين فيما سبق، إلا أن هناك مساحات خلافية كبيرة وحساسة لا تقل أهمية ولا تأثيراً عن المشتركات، نجمل أبرزها في خمسٍ أيضاً: أولاٌ: من الجهاد الآدابي إلى الجهاد الأدبياتي يؤمن عزام بضرورة تلقي المجاهدين قسطاً من التربية قبل حمل السلاح، كيما لا تنحرف البندقية باتجاه رؤوس المؤمنين، فالتربية الإيمانية الأخلاقية تشكل عنده الأرضية الصلبة التي لا يمكن أن يقوم عملٌ قتاليٌ راشد إلا بالارتكاز عليها، وهذا المبدأ تجده مكرراً وبجرعات كبيرة في توجيهات عزام، ومقدماً على التوجه والتيار الفكري. أما بن لادن فيغلب على خطاباته الإعلامية وأدائه العملي التمحور حول الدعوة إلى التمسك بأدبيات القاعدة الفكرية والقتالية بصورة أكبر وأكثر إلحاحاً من ترسيخ الجوانب التربوية السلوكية العامة. ثانياً: العقلية الفقهية بين الأصولية والوهابية يحمل عبد الله عزام (الحاصل على دكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر) عقليةً أصولية تعي تنوع القواعد والطرق المستخدمة في استنباط الأحكام، وما يتفرع عنها من مسائل فقهية كثيرة تقع في دائرة الخلاف الواسع المقبول بين المذاهب السنيّة المعتبرة، ومنها بلا شك مسائل كثيرة تُعنى بشؤون السياسة والحرب والجهاد. فلذا تجده يتحاشى تعميم الأحكام على الأشخاص التابعين للمؤسسات أو الأحزاب أو الجماعات ويجنح للتفصيل، خاصةً في فتاوى التكفير أو الدماء، الملمح الذي لا يُلحظ عند بن لادن، بل يظهرعكسه في أحيانٍ كثيرة، فتجد تعميماتٍ كثيرة في تنزيل الأحكام على جموع من المخالفين ومنهم الإسلاميون المنخرطون في البرلمانات أو الوزارات أو التحالفات مع (السلطات الجاهلية)، يرجع هذا إلى التأثر بالعقلية الفقهية الوهابية التي تجري الأحكام على الظواهرالمتماثلة والوسائل المشتركة دون التحري عن البواعث وقرائن الحال وبوصلة الأعمال. ثالثاٌ: الجهاد العالمي بين المناصرة والمهاجرة يتمحور البرنامج الجهادي المعولم عند عزام حول كيفية مؤازرة مشاريع المقاومات الإسلامية المتعددة في مختلف الأقطارالإسلامية، عبر حشد الدعم الإنساني والخبراتي والعسكري (المجاهدين المتطوعين)، وتوجيهه وفق السياسة التي يرتئيها قادة كل مقاومة دون التدخل في تفاصيل إستراتيجية كل ميدان جهادي وكأنّه يقول بلسان حاله: أهل مكة أدرى بشعابها. في حين يطلق بن لادن تسمية المهاجرين على النافرين لنصرة إخوانهم في شتى البلاد المحتلة، ولهذا التوصيف دلالات وتبعات شرعية تفيد الأحقية بقيادة الجهاد والمشروع الإسلامي بشكل عام. ولذا يعتبر بن لادن تنظيم القاعدة في أفغانستان: القيادة المركزية للجهاد في العالم، وعلى أفرعها في مختلف البلاد أن تسير وفق الخطة التي رسمتها القاعدة الأم بغض النظرعن موافقتها أو مخالفتها للاختيارات السياسية والتكتيكية لمجاهدي تلك البلاد، تماماً كما فعلت القاعدة في أفغانستان بإعلان جهاد يهود وصليبيي العالم أجمع دون الرجوع إلى الأفغان وعلى رأسهم حركة طالبان في ذلك الوقت. رابعاً: حرب النظام العالمي أم دفع الصائل المباشر؟ يركز بن لادن في إستراتيجيته ونهجه القتالي على ضرب رأس النظام العالمي من باب "فقاتلوا أئمة الكفر"، وذلك عبر التركيز على استنزاف أمريكا وحلفائها الغربيين باستهداف مصالحهم (العسكرية والاقتصادية) ومواطنيهم في جميع بقاع الدنيا، مما سيؤدي وفقاً لمخططه لانحسار النفوذ والهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي وإنتاج مناخ مناسب للتحرر والإطاحة بأنظمة الحكم المحلية العميلة. هذه النظرة يخالفها عزام من زاويتين: 1- انطلاقاً من فهمه لفقه دفع الصائل في الشريعة الإسلامية وسياسة تحييد الخصوم، فهو يميل إلى تحريركل أرض إسلامية من صائلها الرئيس المباشر وعملائه دون توسيع دائرة الخصوم في كل قضية تحرر. 2- لم يذكرعن عزام دعوة أو تجويزخطف الطائرات وتفجيرالحافلات المدنية، لا في روسيا ولا أمريكا ولا غيرهما. خامساً: ماهية الخلاف مع الجماعات الإسلامية وكيفية إدارته من خلال استقراء رسائل بن لادن العلنية وما كُشف من السرية ك (وثائق أبوت أباد)، يظهر لك بجلاء تصنيف بن لادن للكثير من (أخطاء) الجماعات والشخصيات الإسلامية المقاتلة (في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وغيرها) ضمن الأخطاء العقدية، التي تمس أو تنقض التوحيد وليست مجرد سياسة أو إستراتيجية خاطئة. وعلى الصعيد العملي تراوحت العلاقات في ساحات الجهاد بين القاعدة وكثير من الجماعات بين: التنسيق تارة والمهادنة تارة، والاقتتال الممزوج بالتكفير تارة أخرى. على الجانب الآخر، رفض عزام تأسيس تنظيم مستقل واكتفي بنشر ودمج المجاهدين العرب في الفصائل الأفغانية المتعددة، وكان يحذر بشدة من المشاركة في أي اقتتال بيني. وعلى الرغم من اختلافه مع الكثير من الجماعات السلمية في الوطن الإسلامي، وتحفيزه للجميع على تلافي جوانب: التقصير في الجهاد والإعداد، والسلبية أو الضعف السياسي، إلا أنه كان: حريصاً على التحذير من الطعن في توحيدهم، وداعياً إلى التكامل بين الجماعات والشخصيات الجهادية والدعوية والسياسية والعلمية ما لم تكن عميلة. خاتمة حاولت هذه المقالة أن ترسم تصوراً عاماً موجزاً عن منهجي عزام وبن لادن في الجهاد، كونهما من أكثر الشخصيات تأثيراً في وجدان الشباب المجاهد ومسيرة الجهاد العابر للحدود في عصرنا الحالي. وتطرقت لأبرز نقاط الاتفاق والخلاف بينهما وخلاصتها: أن عزام وبن لادن انطلقا في فكرهما وحركتهما من ثلاثة مرتكزات مشتركة: 1- الأرضية الفكرية لسيد قطب 2- الروح الجهادية والثائرة 3- العقيدة السلفية المعاصرة، إلا أنه مع الممارسة وتبلور مدرسة كل طرف ظهرت عدة فروق فارقة، مردها بشكل كبير إلى: العقلية المهيمنة والمنظمة والمركبة للمرجعيات الثلاث، والبيئة الدينية الاجتماعية المحيطة بكل طرف. عقلية عزام كانت تميل إلى الأصولية المستوعبة لجذور ومنابع الاختلاف والتنوع في المذاهب والآراء الإسلامية، إضافةً إلى تأثره بمبدأ "نجتمع فيما اجتمعنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، فضلاً عن اهتمامه الشديد بالنواحي التربوية. أما عقلية بن لادن فغلب عليها النمط الظاهري المنتشر بالسعودية والمتمثل بمدرسة الرأي الواحد الحائز للحق المطلق والحامي للتوحيد. وهو ما يفسر: تأطيرعزام للخلافات داخل البيت الإسلامي في سياق خلاف الأخوة وإن أغلظ القول في بعضها (المرتبط بالإعداد والجهاد). وجنوح بن لادن في أحيان كثيرة لوصف خلافاته مع شركاء السلاح والعمل الإسلامي بخلافات حول التوحيد. ينطبق الأمر كذلك على رؤية بن لادن وطريقته في الجهاد العالمي إذ غلب عليها الفردية في: اتخاذ القرارات المصيرية والوسائل الغريبة والاستقلال بالمشروع عن أصحاب الأرض، بعكس عزام الذي كان لا يخرج عما يجتمع عليه أكثرالقادة والعلماء في ميدان الجهاد.
الجهاد المعاصر بين منهجين: عزام وبن لادن

كرم الحفيان

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

مقدمة

مروان حديد رائد الحركية الجهادية في سورية التي تجسدت بتنظيم الطليعة المقاتلة، الملا محمد عمر زعيم المشيخية المجاهدة في أفغانستان الممثلة بحركة طالبان، أحمد ياسين مؤسس الإخوانية المقاومة في فلسطين أو ما عرف لاحقاً بحركة حماس، عمرعبدالرحمن الأب الروحي للجماعة الدعوية المحتسبة ثم الجهادية في مصر: الجماعة الإسلامية، شامل باساييف قائد القوات الشيشانية النظامية ثم غير النظامية في حروب الاستقلال ضد روسيا إبان تفكك الإتحاد السوفيتي، وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة في سماء الجماعات والشخصيات المجاهدة والجهادية على امتداد خمسين عاماً خلت.
إلا أن الاسمين الأشهر والأكثر رمزيةً سواءً على صعيد الإعلام العالمي أو (في عيون غالب الشباب المسلم المقاتل) حول العالم هما: عبد الله عزام وأسامة بن لادن.

يعتقد البعض أن مدرسة بن لادن والقاعدة هي التطورالتاريخي التسلسلي لرؤية عبدالله عزام وطريقته في الجهاد (خاصة العالمي) منه، بينما يرى آخرون أن البون شاسعٌ بين المنهجين في الفكر والممارسة وهما نقيضان لا التقاء بينهما. تحاول الأسطر القادمة فك الاشتباك ومقاربة الحقيقة عبر استنطاق إرث الرجلين النظري والعملي، والمرور سريعاً على مساحات الاتفاق والاختلاف، مع الأخذ بعين الاعتبار ما استقر من نهجهما دون ما سبق أو ما شذ.

بادئ ذي بدء، تجدرالإشارة إلى المبادئ الرئيسية الجامعة بينهما والمكونة من خمسة عناصر:

أولاً: التصور (الفلسفي) لطبيعة الدين والحضارة الإسلامية

وأهم انعكاساته هو إدراك جوهر الصراع (لاسيما المعاصر) وأولوياته بين الأمة المسلمة وأعدائها، والمقتبس بالدرجة الأولى من كتابات وتقعيدات المفكرين سيد ومحمد قطب.

هذا التصور دندن باستمرارعلى: تفرد ومركزية منظومة التشريع في حياة المسلم على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وفاصَل كل من ينازع أو ينتزع شيئاً من خصائصها، وجهر بالعداوة لمنظومة الحكم العلمانية المحلية والعالمية، واصفاً إياها بالجاهلية المعاصرة، التي ينبغي العمل على الإطاحة بها لتعود قوانين الإسلام لمنصة الحكم مجدداً.

ثانياً: طريقة التغيير

تنحصر بثورات شعبية بقيادة إسلامية، إذ يعتقد الشيخان بعدم جدوى حرب التنظيمات ضد السلطات الجاهلية، كتلك التي خاضت غمارها بعض المجموعات الجهادية المسلحة (منفردة) ولم يكلل أي منها بالنجاح، نظراً للفارق الرهيب في العدد والعدة والإمكانات. بيد أنهما لا يخفيان إكبارهما لمحاولات بعض الجماعات وتاريخها الحافل بالعمليات الفدائية الجسورة ضد رؤوس الأنظمة وكبار زبانيتهم.

من ناحية أخرى، لا يؤمن كلاهما بنجاعة الطريق البرلماني الدستوري السلمي في التخلص من النظم الحاكمة والقضاء على فسادها وإفسادها.

ثالثاً: أولوية العدو البعيد

ولأن الثورات الشعبية (عادةً) ما تحتاج لوقت ليس بالقصير ريثما يشتعل أوارها تدريجياً من خلال: الدعوة للفكرة، والإعداد للمواجهة، والحشد للجماهير والاختراق لمؤسسات الدولة، أو لتنفجر من تلقاء نفسها نتيجة: إحساس الشعوب بتراكم المظالم والانتهاكات الممنهجة، أو العدوان الصارخ على هويتها الدينية والثقافية.

فإن عزام وبن لادن يعتمدون في رؤيتهما الجهادية سياسة البدء بقتال العدو البعيد المحتل وتأجيل الدخول في صدامات مبكرة مع العدو القريب المحلي. ومع ذلك تتباين اختياراتهما في تحديد ماهية العدو البعيد المستهدف، وآلية وأدوات مواجهته، سنتطرق لها في محورالفروقات.

رابعاً: الجهاد فرض عين على كل مسلم

وهذه المسألة من أظهر وأبرزالمشتركات العملية بين الطرفين. حتى إن عزام كان يشدد في هذه المسألة (على غير عادته)، ويغلظ القول أحياناً على من يفتي بأنه فرض كفاية.

وقد ألف كتاباً بعنوان: "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان" قرر فيه: وجوب الجهاد على كل مسلم قادر، وإثم كل من لا يجاهد، ونادى بنفير المسلمين عامة والعلماء خاصة لجهاد الكافرين المحتلين للبلدان الإسلامية.

ولعل هذه النقطة هي من دفعت الكثيرين لاعتقاد تماثل نموذجي عزام وبن لادن في العمل والفكر الجهادي.

خامساً: العقيدة السلفية المعاصرة

يتبنى الرجلان المرجعية السلفية فيما يخص تفاصيل العقائد النظرية. وتهيمن هذه المدرسة بشكل كبيرعلى الحالة العلمية بالسعودية وغالب الخليج العربي، ويتمسك بها غالب الملتزمين دينياً هناك. أما في باقي العالم الإسلامي الممتد شرقاً وغرباً من جاكرتا إلى طنجة، فتبرز المدرستان الأشعرية والماتريدية كتيار عام سائد ومستقر منذ أزمان بعيدة.

وبالرغم من الاتفاق والتناغم بين المنهجين فيما سبق، إلا أن هناك مساحات خلافية كبيرة وحساسة لا تقل أهمية ولا تأثيراً عن المشتركات، نجمل أبرزها في خمسٍ أيضاً:

أولاٌ: من الجهاد الآدابي إلى الجهاد الأدبياتي

يؤمن عزام بضرورة تلقي المجاهدين قسطاً من التربية قبل حمل السلاح، كيما لا تنحرف البندقية باتجاه رؤوس المؤمنين، فالتربية الإيمانية الأخلاقية تشكل عنده الأرضية الصلبة التي لا يمكن أن يقوم عملٌ قتاليٌ راشد إلا بالارتكاز عليها، وهذا المبدأ تجده مكرراً وبجرعات كبيرة في توجيهات عزام، ومقدماً على التوجه والتيار الفكري.

أما بن لادن فيغلب على خطاباته الإعلامية وأدائه العملي التمحور حول الدعوة إلى التمسك بأدبيات القاعدة الفكرية والقتالية بصورة أكبر وأكثر إلحاحاً من ترسيخ الجوانب التربوية السلوكية العامة.

ثانياً: العقلية الفقهية بين الأصولية والوهابية

يحمل عبد الله عزام (الحاصل على دكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر) عقليةً أصولية تعي تنوع القواعد والطرق المستخدمة في استنباط الأحكام، وما يتفرع عنها من مسائل فقهية كثيرة تقع في دائرة الخلاف الواسع المقبول بين المذاهب السنيّة المعتبرة، ومنها بلا شك مسائل كثيرة تُعنى بشؤون السياسة والحرب والجهاد. فلذا تجده يتحاشى تعميم الأحكام على الأشخاص التابعين للمؤسسات أو الأحزاب أو الجماعات ويجنح للتفصيل، خاصةً في فتاوى التكفير أو الدماء، الملمح الذي لا يُلحظ عند بن لادن، بل يظهرعكسه في أحيانٍ كثيرة، فتجد تعميماتٍ كثيرة في تنزيل الأحكام على جموع من المخالفين ومنهم الإسلاميون المنخرطون في البرلمانات أو الوزارات أو التحالفات مع (السلطات الجاهلية)، يرجع هذا إلى التأثر بالعقلية الفقهية الوهابية التي تجري الأحكام على الظواهرالمتماثلة والوسائل المشتركة دون التحري عن البواعث وقرائن الحال وبوصلة الأعمال.

ثالثاٌ: الجهاد العالمي بين المناصرة والمهاجرة

يتمحور البرنامج الجهادي المعولم عند عزام حول كيفية مؤازرة مشاريع المقاومات الإسلامية المتعددة في مختلف الأقطارالإسلامية، عبر حشد الدعم الإنساني والخبراتي والعسكري (المجاهدين المتطوعين)، وتوجيهه وفق السياسة التي يرتئيها قادة كل مقاومة دون التدخل في تفاصيل إستراتيجية كل ميدان جهادي وكأنّه يقول بلسان حاله: أهل مكة أدرى بشعابها.

في حين يطلق بن لادن تسمية المهاجرين على النافرين لنصرة إخوانهم في شتى البلاد المحتلة، ولهذا التوصيف دلالات وتبعات شرعية تفيد الأحقية بقيادة الجهاد والمشروع الإسلامي بشكل عام.

ولذا يعتبر بن لادن تنظيم القاعدة في أفغانستان: القيادة المركزية للجهاد في العالم، وعلى أفرعها في مختلف البلاد أن تسير وفق الخطة التي رسمتها القاعدة الأم بغض النظرعن موافقتها أو مخالفتها للاختيارات السياسية والتكتيكية لمجاهدي تلك البلاد، تماماً كما فعلت القاعدة في أفغانستان بإعلان جهاد يهود وصليبيي العالم أجمع دون الرجوع إلى الأفغان وعلى رأسهم حركة طالبان في ذلك الوقت.

رابعاً: حرب النظام العالمي أم دفع الصائل المباشر؟

يركز بن لادن في إستراتيجيته ونهجه القتالي على ضرب رأس النظام العالمي من باب "فقاتلوا أئمة الكفر"، وذلك عبر التركيز على استنزاف أمريكا وحلفائها الغربيين باستهداف مصالحهم (العسكرية والاقتصادية) ومواطنيهم في جميع بقاع الدنيا، مما سيؤدي وفقاً لمخططه لانحسار النفوذ والهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي وإنتاج مناخ مناسب للتحرر والإطاحة بأنظمة الحكم المحلية العميلة.

هذه النظرة يخالفها عزام من زاويتين:

1- انطلاقاً من فهمه لفقه دفع الصائل في الشريعة الإسلامية وسياسة تحييد الخصوم، فهو يميل إلى تحريركل أرض إسلامية من صائلها الرئيس المباشر وعملائه دون توسيع دائرة الخصوم في كل قضية تحرر.

2- لم يذكرعن عزام دعوة أو تجويزخطف الطائرات وتفجيرالحافلات المدنية، لا في روسيا ولا أمريكا ولا غيرهما.

خامساً: ماهية الخلاف مع الجماعات الإسلامية وكيفية إدارته

من خلال استقراء رسائل بن لادن العلنية وما كُشف من السرية ك (وثائق أبوت أباد)، يظهر لك بجلاء تصنيف بن لادن للكثير من (أخطاء) الجماعات والشخصيات الإسلامية المقاتلة (في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وغيرها) ضمن الأخطاء العقدية، التي تمس أو تنقض التوحيد وليست مجرد سياسة أو إستراتيجية خاطئة.

وعلى الصعيد العملي تراوحت العلاقات في ساحات الجهاد بين القاعدة وكثير من الجماعات بين: التنسيق تارة والمهادنة تارة، والاقتتال الممزوج بالتكفير تارة أخرى.

على الجانب الآخر، رفض عزام تأسيس تنظيم مستقل واكتفي بنشر ودمج المجاهدين العرب في الفصائل الأفغانية المتعددة، وكان يحذر بشدة من المشاركة في أي اقتتال بيني.

وعلى الرغم من اختلافه مع الكثير من الجماعات السلمية في الوطن الإسلامي، وتحفيزه للجميع على تلافي جوانب: التقصير في الجهاد والإعداد، والسلبية أو الضعف السياسي، إلا أنه كان: حريصاً على التحذير من الطعن في توحيدهم، وداعياً إلى التكامل بين الجماعات والشخصيات الجهادية والدعوية والسياسية والعلمية ما لم تكن عميلة.

خاتمة

حاولت هذه المقالة أن ترسم تصوراً عاماً موجزاً عن منهجي عزام وبن لادن في الجهاد، كونهما من أكثر الشخصيات تأثيراً في وجدان الشباب المجاهد ومسيرة الجهاد العابر للحدود في عصرنا الحالي. وتطرقت لأبرز نقاط الاتفاق والخلاف بينهما وخلاصتها:

أن عزام وبن لادن انطلقا في فكرهما وحركتهما من ثلاثة مرتكزات مشتركة:

1- الأرضية الفكرية لسيد قطب 2- الروح الجهادية والثائرة 3- العقيدة السلفية المعاصرة، إلا أنه مع الممارسة وتبلور مدرسة كل طرف ظهرت عدة فروق فارقة، مردها بشكل كبير إلى: العقلية المهيمنة والمنظمة والمركبة للمرجعيات الثلاث، والبيئة الدينية الاجتماعية المحيطة بكل طرف.

عقلية عزام كانت تميل إلى الأصولية المستوعبة لجذور ومنابع الاختلاف والتنوع في المذاهب والآراء الإسلامية، إضافةً إلى تأثره بمبدأ "نجتمع فيما اجتمعنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، فضلاً عن اهتمامه الشديد بالنواحي التربوية.

أما عقلية بن لادن فغلب عليها النمط الظاهري المنتشر بالسعودية والمتمثل بمدرسة الرأي الواحد الحائز للحق المطلق والحامي للتوحيد.

وهو ما يفسر:

تأطيرعزام للخلافات داخل البيت الإسلامي في سياق خلاف الأخوة وإن أغلظ القول في بعضها (المرتبط بالإعداد والجهاد).

وجنوح بن لادن في أحيان كثيرة لوصف خلافاته مع شركاء السلاح والعمل الإسلامي بخلافات حول التوحيد.

ينطبق الأمر كذلك على رؤية بن لادن وطريقته في الجهاد العالمي إذ غلب عليها الفردية في: اتخاذ القرارات المصيرية والوسائل الغريبة والاستقلال بالمشروع عن أصحاب الأرض، بعكس عزام الذي كان لا يخرج عما يجتمع عليه أكثرالقادة والعلماء في ميدان الجهاد.
‏٠٩‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٣١ م‏
مسيرات العودة وكسر الحصار هل تخلّت حماس عن خيار الكفاح المسلح؟! أحمد قنيطة (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) حالة من الغضب والغليان يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة جراء الحصار المستمر منذ 12 عام، والذي ضرب بأطنابه في جميع مناحي الحياة ومقومات المعيشة، وأتى على الحاجات الماسة للمواطن الغزي من ماء وغذاء ودواء وكهرباء ومعابر وغيرها من الضروريات الأساسية للحياة الآدمية، حيث يعيش 2 مليون فلسطيني فصول المعاناة اليومية في سجن كبير يُسمّى "غزة" في ظل صمت دولي رهيب، وتآمر عربي رسمي يسعى للتخلص من الإزعاج الذي تسببه غزة بثباتها وعنفوانها، ووقوفها كعقبة كؤود رافضة لتمرير المؤامرات الرامية للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، وصولاً لتصفية القضية الفلسطينية بإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، واعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال الصهيوني فيما عُرف بـ"صفقة القرن". غزة التي ما زالت تكتوي بنار الحرمان والتجويع أرادت هذه المرة أن تصرخ بأعلى صوتها في وجه المتآمرين بطريقة إبداعية جديدة وغير معهودة، لينتفض عشرات الآلاف من أهل غزة بصدورهم العارية وحناجرهم الملتهبة ويتجهوا نحو الحدود الشرقية عند نقاط التماس مع الأراضي المحتلة عام 1948م ، ويشتبكوا مع جنود العدو الغاصب بشكل مباشر ويعلنوا للعالم بأسره رفضهم للخنوع والركوع أو التسليم بالمؤامرات التي تُحاك ضد القضية الفلسطينية، فكانت المسيرات السلمية الشعبية الهادرة التي سُميت بـ "مسيرات العودة وكسر الحصار" في 30 مارس من العام الجاري 2018م، والتي تزامنت مع ذكرى يوم الأرض الذي يحييه الفلسطينيون في مثل هذا اليوم من كل عام. مسيرات العودة وكسر الحصار وفي حالة فريدة من نوعها جسدت الوحدة الحقيقية بين فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة، والفعاليات الشعبية والمدنية على اختلاف مشاربها الفكرية ومنطلقاتها السياسية من جهة أخرى لأول مرة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي أعاد الحياة من جديد للوعي الجمعي الفلسطيني الذي تعرّض لضربات قاسية من العدو الصهيوني وبتنسيق واضح مع السلطة في رام الله بقيادة محمود عباس، مرة بالحرب العسكرية الطاحنة، وأخرى بالحصار الخانق إمعاناً في الضغط على غزة كي ترفع الراية البيضاء، وتكفر بنهج المقاومة وتذوب في مشروع الاستسلام والانبطاح الذي تقوده حركة فتح والسلطة الوظيفية في رام الله. المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس التي تسيطر على غزة فعلياً، ومنذ فرض الحصار الجائر على القطاع حاولت بشتى السُبل اختراق الجدار الصلب للحصار وسعت بكل الوسائل "سياسياً واعلامياً وجماهيرياً وحتى عسكرياً" للتخفيف من وطأته على الحاضنة الشعبية للمقاومة، لكنها دائماً ما كانت تصطدم بجدار الرفض والنكران من أباطرة الحصار المتربصين بحق شعبنا في الحياة الكريمة ، ليكون الشعب المُحاصر بين خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بنهج المقاومة والكفاح المسلح لتحرير فلسطين وإفشال مؤامرات التسوية الظالمة، وإما الحرمان من لقمة العيش وحليب الأطفال وعلاج المرضى وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على القطاع المُنهك أصلاً! حركة حماس والفصائل الفلسطينية استشعرت خطورة الموقف، وتنبّهت لفصول المؤامرة التي تهدف لضرب الاستقرار الداخلي وتفتيت النسيج الاجتماعي المتماسك من خلال تجويع الشعب المقاوِم في غزة ومحاربته في حاجاته الأساسية، رغبة في دفعه للثورة على مقاومته الباسلة وقيادته المجاهدة تحت وطأة الجوع والحرمان والزيادة المهولة في نسبة البطالة والعاطلين عن العمل، حيث سعى العدو الصهيوني وسلطة عباس في رام الله طيلة سِنِيّ الحصار القاسية لتحميل المقاومة مسئولية الحصار، بسبب رفضها للخضوع لمشروع سلطة أوسلو الانهزامي الذي يرنو لنقل نموذج الحكم في الضفة الغربية إلى غزة المجاهِدة، ذلك النموذج الذي يحارب المقاومة ويُلاحق المجاهدين ويقدّس "التنسيق الأمني" مع الاحتلال ويسعى لحل القضية الفلسطينية عبر مزاعم السلام والسلمية والحلول الدبلوماسية! هذا التحدي الكبير والخطر المحدق بمشروع المقاومة دفع الفصائل الفلسطينية لتنحية خلافاتها الفكرية والسياسية جانباً، والتوافق على العمل المشترك للخروج من عنق الزجاجة وتخطي هذه المرحلة الصعبة للوصول بشعبنا ومقاومته نحو بر الأمان، فكان التوافق على دعم "مسيرات العودة وكسر الحصار" بكل السبل والوسائل، حيث تداعت القوى الشعبية والفصائلية للتوافق على توجيه الغضب العارم والبركان الثائر الذي أثقل كاهل شعبنا نحو العدو الصهيوني المتسبب الحقيقي في حصارنا وأزماتنا، سواء بطريقة مباشرة بالسيطرة على جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية، أو من خلال أدواته المتمثلة في سلطة أوسلو برام الله التي أعلنت بكل انتهازية مقيتة فرض عقوبات اقتصادية قاسية على غزة، وأنه لا يمكن فك الحصار عن غزة إلا بتمكينها من كل مفاصل الحياة في غزة بما فيها اخضاع "سلاح المقاومة" لسيطرتها المطلقة، وأنه لا سلاح شرعي سوى سلاح الأجهزة الأمنية. الشعب المحاصر الذي قدّم التضحيات الجسام بالآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى، وتحمّل التهجير وهدم البيوت جراء العدوان الصهيوني على غزة في ثلاث حروب مدمّرة خلال ست سنوات فقط، والذي صبر وصمد ولم يخذل أبناءه المجاهدين في ميدان القتال وساحات النزال، نجح في قلب الطاولة بوجه المتآمرين واستجاب بشكل سريع للنداءات الشعبية والفصائلية للمشاركة في المسيرات، ليخرج بزخم ثوري كبير وبمشاركة فاعلة من جميع فئات الشعب الفلسطيني وخاصة فئة الشباب، ويبدعوا في مشاغلة جنود العدو وإرباكهم على طول الحدود لقطاع غزة، والتنغيص على حياة المستوطنين المحتلين لبلداتنا وقُرانا المحتلة على تخوم غزة فيما يسمى بـ "مستوطنات غلاف غزة"، حيث أضحت المسيرات تشكل تهديد حقيقي للأمن والاستقرار للمغتصبين الصهاينة مما دفع بعض العائلات الصهيونية للهجرة نحو المناطق الأكثر أمناً في الشمال المحتل. نجح شعبنا المجاهد بكل اقتدار في تجاوز المؤامرة على مشروع المقاومة، وما زال يكافح من أجل كسر الحصار الظالم المفروض على غزة وشعبها ومقاومتها، وما زال يجاهد في سبيل افشال "صفقة القرن" بتمسكه بحق العودة وعدم القبول إلا بالقدس التاريخية كعاصمة لفلسطين، وأثبت شعبنا عمق وعيه بخياراته التي ارتضاها وآمن بها وضحى من أجلها، وعلى رأسها خيار الجهاد والكفاح المسلح كخيار استراتيجي لتحرير فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها، فرسم لوحة إبداعية فريدة بالتناغم بين استخدام الفعاليات السلمية والشعبية كخيار مرحلي اضطراري مرة، وبين استخدام المقاومة للخيار العسكري مرة أخرى للضغط على العدو الصهيوني ولجمه عن التمادي في عدوانه لفرض حالة من توازن الرعب. شهدت الأشهر السبعة الماضية من فعاليات "مسيرات العودة وكسر الحصار" استخدام الشباب الثائر وبطرق بدائية وإبداعية البالونات الحارقة والمتفجرة وطيّروها بالمئات نحو المغتصبات في الأراضي المحتلة عام 1948م فأحرقت قلوبهم قبل أن تحرق آلاف الدونمات من محاصيلهم الزراعية، وبثت الخوف والرعب في صفوفهم، وكذلك "فعاليات الإرباك الليلي" حيث يخرج الشباب على الحدود بشكل دوري وشبه يومي ليلاً ويقوموا بأعمال تفجير للمفرقعات وإشعال الإطارات المطاطية، ما جعل حياة المغتصبين في المناطق المحاذية لغزة جحيم لا يُطاق، وأصبحوا يطالبون حكومتهم المجرمة بإيجاد حلول خلاقة لإنهاء الحالة الثورية على الحدود مع غزة بأي طريقة سواء بفك الحصار عن غزة أو بحرب عسكرية لإنهاء حكم حماس. فصائل المقاومة لم تقف مكتوفة الأيدي في ظل هذه الجولة من الحراك الجماهيري والثبات الشعبي الأسطوري التي أسفرت عما يزيد عن 200 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى، وخاضت 4 مواجهات عسكرية ضارية مع العدو الصهيوني الذي اعتقد أن المقاومة في ظل هذا الحصار الخانق والأزمات الإنسانية المتعاقبة ستقف عاجزة عن الرد خوفاً من الوصول لحرب ستكون آثارها مدمرة على القطاع المنكوب، فجاء رد المقاومة بكل قوة وعنفوان وأمطرت مغتصبات العدو بعشرات الرشقات الصاروخية رداً على التمادي الصهيوني بقصف المواقع والمنشآت المدنية في غزة، ليعود العدو صاغراً للالتزام بقواعد الاشتباك ويعلم أن المقاومة ما زالت تثق بنفسها وقدراتها وأن لديها المزيد من أوراق الضغط التي تستطيع أن تواجه به الإرهاب والصلف الصهيوني. وتستمر مسيرات العودة وكسر الحصار بزخمها الشعبي والجماهيري المعهود، وتستمر المقاومة في دعمها اللامحدود للحراك الثوري الجماهيري، واضعة أصبعها على الزناد، معلنة أن الخيار العسكري لا زال مطروحاً على الطاولة ما لم يرضخ العالم الظالم لمطالب الغزيين الثائرين برفع كامل للحصار كمطلب إنساني بحت، ليعيش شعبنا بحرية وكرامة في ظل توفُّر الحد الأدنى من مقومات الصمود لمواصلة مشواره الجهادي نحو تحقيق حلم النصر والتمكين، وطرد المحتل الصهيوني من بلادنا المقدسة، ويقولون متى هو؟! قل عسى أن يكون قريباً.
مسيرات العودة وكسر الحصار
هل تخلّت حماس عن خيار الكفاح المسلح؟!

أحمد قنيطة

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

حالة من الغضب والغليان يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة جراء الحصار المستمر منذ 12 عام، والذي ضرب بأطنابه في جميع مناحي الحياة ومقومات المعيشة، وأتى على الحاجات الماسة للمواطن الغزي من ماء وغذاء ودواء وكهرباء ومعابر وغيرها من الضروريات الأساسية للحياة الآدمية، حيث يعيش 2 مليون فلسطيني فصول المعاناة اليومية في سجن كبير يُسمّى "غزة" في ظل صمت دولي رهيب، وتآمر عربي رسمي يسعى للتخلص من الإزعاج الذي تسببه غزة بثباتها وعنفوانها، ووقوفها كعقبة كؤود رافضة لتمرير المؤامرات الرامية للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، وصولاً لتصفية القضية الفلسطينية بإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، واعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال الصهيوني فيما عُرف بـ"صفقة القرن".

غزة التي ما زالت تكتوي بنار الحرمان والتجويع أرادت هذه المرة أن تصرخ بأعلى صوتها في وجه المتآمرين بطريقة إبداعية جديدة وغير معهودة، لينتفض عشرات الآلاف من أهل غزة بصدورهم العارية وحناجرهم الملتهبة ويتجهوا نحو الحدود الشرقية عند نقاط التماس مع الأراضي المحتلة عام 1948م ، ويشتبكوا مع جنود العدو الغاصب بشكل مباشر ويعلنوا للعالم بأسره رفضهم للخنوع والركوع أو التسليم بالمؤامرات التي تُحاك ضد القضية الفلسطينية، فكانت المسيرات السلمية الشعبية الهادرة التي سُميت بـ "مسيرات العودة وكسر الحصار" في 30 مارس من العام الجاري 2018م، والتي تزامنت مع ذكرى يوم الأرض الذي يحييه الفلسطينيون في مثل هذا اليوم من كل عام.

مسيرات العودة وكسر الحصار وفي حالة فريدة من نوعها جسدت الوحدة الحقيقية بين فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة، والفعاليات الشعبية والمدنية على اختلاف مشاربها الفكرية ومنطلقاتها السياسية من جهة أخرى لأول مرة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي أعاد الحياة من جديد للوعي الجمعي الفلسطيني الذي تعرّض لضربات قاسية من العدو الصهيوني وبتنسيق واضح مع السلطة في رام الله بقيادة محمود عباس، مرة بالحرب العسكرية الطاحنة، وأخرى بالحصار الخانق إمعاناً في الضغط على غزة كي ترفع الراية البيضاء، وتكفر بنهج المقاومة وتذوب في مشروع الاستسلام والانبطاح الذي تقوده حركة فتح والسلطة الوظيفية في رام الله.

المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس التي تسيطر على غزة فعلياً، ومنذ فرض الحصار الجائر على القطاع حاولت بشتى السُبل اختراق الجدار الصلب للحصار وسعت بكل الوسائل "سياسياً واعلامياً وجماهيرياً وحتى عسكرياً" للتخفيف من وطأته على الحاضنة الشعبية للمقاومة، لكنها دائماً ما كانت تصطدم بجدار الرفض والنكران من أباطرة الحصار المتربصين بحق شعبنا في الحياة الكريمة ، ليكون الشعب المُحاصر بين خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بنهج المقاومة والكفاح المسلح لتحرير فلسطين وإفشال مؤامرات التسوية الظالمة، وإما الحرمان من لقمة العيش وحليب الأطفال وعلاج المرضى وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على القطاع المُنهك أصلاً!

حركة حماس والفصائل الفلسطينية استشعرت خطورة الموقف، وتنبّهت لفصول المؤامرة التي تهدف لضرب الاستقرار الداخلي وتفتيت النسيج الاجتماعي المتماسك من خلال تجويع الشعب المقاوِم في غزة ومحاربته في حاجاته الأساسية، رغبة في دفعه للثورة على مقاومته الباسلة وقيادته المجاهدة تحت وطأة الجوع والحرمان والزيادة المهولة في نسبة البطالة والعاطلين عن العمل، حيث سعى العدو الصهيوني وسلطة عباس في رام الله طيلة سِنِيّ الحصار القاسية لتحميل المقاومة مسئولية الحصار، بسبب رفضها للخضوع لمشروع سلطة أوسلو الانهزامي الذي يرنو لنقل نموذج الحكم في الضفة الغربية إلى غزة المجاهِدة، ذلك النموذج الذي يحارب المقاومة ويُلاحق المجاهدين ويقدّس "التنسيق الأمني" مع الاحتلال ويسعى لحل القضية الفلسطينية عبر مزاعم السلام والسلمية والحلول الدبلوماسية!

هذا التحدي الكبير والخطر المحدق بمشروع المقاومة دفع الفصائل الفلسطينية لتنحية خلافاتها الفكرية والسياسية جانباً، والتوافق على العمل المشترك للخروج من عنق الزجاجة وتخطي هذه المرحلة الصعبة للوصول بشعبنا ومقاومته نحو بر الأمان، فكان التوافق على دعم "مسيرات العودة وكسر الحصار" بكل السبل والوسائل، حيث تداعت القوى الشعبية والفصائلية للتوافق على توجيه الغضب العارم والبركان الثائر الذي أثقل كاهل شعبنا نحو العدو الصهيوني المتسبب الحقيقي في حصارنا وأزماتنا، سواء بطريقة مباشرة بالسيطرة على جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية، أو من خلال أدواته المتمثلة في سلطة أوسلو برام الله التي أعلنت بكل انتهازية مقيتة فرض عقوبات اقتصادية قاسية على غزة، وأنه لا يمكن فك الحصار عن غزة إلا بتمكينها من كل مفاصل الحياة في غزة بما فيها اخضاع "سلاح المقاومة" لسيطرتها المطلقة، وأنه لا سلاح شرعي سوى سلاح الأجهزة الأمنية.

الشعب المحاصر الذي قدّم التضحيات الجسام بالآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى، وتحمّل التهجير وهدم البيوت جراء العدوان الصهيوني على غزة في ثلاث حروب مدمّرة خلال ست سنوات فقط، والذي صبر وصمد ولم يخذل أبناءه المجاهدين في ميدان القتال وساحات النزال، نجح في قلب الطاولة بوجه المتآمرين واستجاب بشكل سريع للنداءات الشعبية والفصائلية للمشاركة في المسيرات، ليخرج بزخم ثوري كبير وبمشاركة فاعلة من جميع فئات الشعب الفلسطيني وخاصة فئة الشباب، ويبدعوا في مشاغلة جنود العدو وإرباكهم على طول الحدود لقطاع غزة، والتنغيص على حياة المستوطنين المحتلين لبلداتنا وقُرانا المحتلة على تخوم غزة فيما يسمى بـ "مستوطنات غلاف غزة"، حيث أضحت المسيرات تشكل تهديد حقيقي للأمن والاستقرار للمغتصبين الصهاينة مما دفع بعض العائلات الصهيونية للهجرة نحو المناطق الأكثر أمناً في الشمال المحتل.

نجح شعبنا المجاهد بكل اقتدار في تجاوز المؤامرة على مشروع المقاومة، وما زال يكافح من أجل كسر الحصار الظالم المفروض على غزة وشعبها ومقاومتها، وما زال يجاهد في سبيل افشال "صفقة القرن" بتمسكه بحق العودة وعدم القبول إلا بالقدس التاريخية كعاصمة لفلسطين، وأثبت شعبنا عمق وعيه بخياراته التي ارتضاها وآمن بها وضحى من أجلها، وعلى رأسها خيار الجهاد والكفاح المسلح كخيار استراتيجي لتحرير فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها، فرسم لوحة إبداعية فريدة بالتناغم بين استخدام الفعاليات السلمية والشعبية كخيار مرحلي اضطراري مرة، وبين استخدام المقاومة للخيار العسكري مرة أخرى للضغط على العدو الصهيوني ولجمه عن التمادي في عدوانه لفرض حالة من توازن الرعب.

شهدت الأشهر السبعة الماضية من فعاليات "مسيرات العودة وكسر الحصار" استخدام الشباب الثائر وبطرق بدائية وإبداعية البالونات الحارقة والمتفجرة وطيّروها بالمئات نحو المغتصبات في الأراضي المحتلة عام 1948م فأحرقت قلوبهم قبل أن تحرق آلاف الدونمات من محاصيلهم الزراعية، وبثت الخوف والرعب في صفوفهم، وكذلك "فعاليات الإرباك الليلي" حيث يخرج الشباب على الحدود بشكل دوري وشبه يومي ليلاً ويقوموا بأعمال تفجير للمفرقعات وإشعال الإطارات المطاطية، ما جعل حياة المغتصبين في المناطق المحاذية لغزة جحيم لا يُطاق، وأصبحوا يطالبون حكومتهم المجرمة بإيجاد حلول خلاقة لإنهاء الحالة الثورية على الحدود مع غزة بأي طريقة سواء بفك الحصار عن غزة أو بحرب عسكرية لإنهاء حكم حماس.

فصائل المقاومة لم تقف مكتوفة الأيدي في ظل هذه الجولة من الحراك الجماهيري والثبات الشعبي الأسطوري التي أسفرت عما يزيد عن 200 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى، وخاضت 4 مواجهات عسكرية ضارية مع العدو الصهيوني الذي اعتقد أن المقاومة في ظل هذا الحصار الخانق والأزمات الإنسانية المتعاقبة ستقف عاجزة عن الرد خوفاً من الوصول لحرب ستكون آثارها مدمرة على القطاع المنكوب، فجاء رد المقاومة بكل قوة وعنفوان وأمطرت مغتصبات العدو بعشرات الرشقات الصاروخية رداً على التمادي الصهيوني بقصف المواقع والمنشآت المدنية في غزة، ليعود العدو صاغراً للالتزام بقواعد الاشتباك ويعلم أن المقاومة ما زالت تثق بنفسها وقدراتها وأن لديها المزيد من أوراق الضغط التي تستطيع أن تواجه به الإرهاب والصلف الصهيوني.

وتستمر مسيرات العودة وكسر الحصار بزخمها الشعبي والجماهيري المعهود، وتستمر المقاومة في دعمها اللامحدود للحراك الثوري الجماهيري، واضعة أصبعها على الزناد، معلنة أن الخيار العسكري لا زال مطروحاً على الطاولة ما لم يرضخ العالم الظالم لمطالب الغزيين الثائرين برفع كامل للحصار كمطلب إنساني بحت، ليعيش شعبنا بحرية وكرامة في ظل توفُّر الحد الأدنى من مقومات الصمود لمواصلة مشواره الجهادي نحو تحقيق حلم النصر والتمكين، وطرد المحتل الصهيوني من بلادنا المقدسة، ويقولون متى هو؟! قل عسى أن يكون قريباً.
‏٠٦‏/١١‏/٢٠١٨ ٩:١٩ م‏
افتتاحية العدد الجديد.. سِحْر الفراعين @[520036614:2048:محمد إلهامي] (حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG) لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال (وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟). تأمل في أنه لم يقل "وقتلت نفسا" بل عبَّر عنها تعبير المتهول لذكرها كأنها جريمة خارقة كبرى غير مسبوقة، وتأمل في أنه قال "وأنت من الكافرين" ولم يقل: من الغاوين، من الضالين، من الظالمين. وهذا الذي يتحدث هو فرعون نفسه، الرجل الذي قتل آلاف النفوس بغير رحمة ولا تردد ولا شعور بالأزمة، الرجل الذي أصدر قرارا بقتل الذكور الرُّضَّع لمجرد إذلال الفئة التي يضطهدها أو لمجرد التخوف الذي رآه يوما في منامه "أن ملكه يزول على يد واحد منهم".. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى! ردَّ عليه موسى ببساطة واضحة، قال (فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم)، أي: إنما فعلت ذلك عن غير عمد، ولو كان عندكم عدل لبقيت، ولكنني فررت خائفا من ظلمكم. فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟ لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة! *** حين جاء موسى بمعجزته جمع له فرعون آلاف السحرة، لم يجمع له ساحرا واحدا أو حتى عشرة.. ولم يتركهم هكذا حتى نظَّم حملة إعلامية طاغية تأييدا لهم، ونطقت أجهزة الإعلام الفرعونية تحشد الناس تحت هذا الشعار (هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)! جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! وانتظار أن يغلبوه! ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى). وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس. وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!! لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة! في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم. *** ما مناسبة كل هذا؟! مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!! قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش! حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا –أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟! لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف! هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! لكنه لم يفعل.. كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم.. ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟! المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على (شرفاء الجيش) الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي! إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل (شرفاء الجيش) هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. بل وتسميه إرهابا؟! **** ألا ترى الآن أنه نفس الجمهور الذي كان يرى في السحرة رموز الوطن حين كانوا تابعين للفرعون، فلما انشقوا عليه وآمنوا بالله صاروا أعداء الوطن الخونة المتآمرين عليه؟!.. لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟! ذلك هو خطاب فرعون.. وإعلام فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!! هشام عشماوي.. رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر! وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع! ما هكذا كانت الثورات يوما.. ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض.. ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا.. فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!! كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟! **** أكاد أتصور وأتخيل: لو أن هذا الانقلاب لم يقاومه أحد على الإطلاق.. ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟! ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة (إرهابيون)!! هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟! أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟! هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟! هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه! ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا.. فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. والله أحكم الحاكمين.
افتتاحية العدد الجديد.. سِحْر الفراعين
محمد إلهامي

(حمل العدد الجديد bit.ly/2qpOkdn حمل هدية العدد bit.ly/2PyJngG)

لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال (وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟). تأمل في أنه لم يقل "وقتلت نفسا" بل عبَّر عنها تعبير المتهول لذكرها كأنها جريمة خارقة كبرى غير مسبوقة، وتأمل في أنه قال "وأنت من الكافرين" ولم يقل: من الغاوين، من الضالين، من الظالمين.

وهذا الذي يتحدث هو فرعون نفسه، الرجل الذي قتل آلاف النفوس بغير رحمة ولا تردد ولا شعور بالأزمة، الرجل الذي أصدر قرارا بقتل الذكور الرُّضَّع لمجرد إذلال الفئة التي يضطهدها أو لمجرد التخوف الذي رآه يوما في منامه "أن ملكه يزول على يد واحد منهم".. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى!

ردَّ عليه موسى ببساطة واضحة، قال (فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم)، أي: إنما فعلت ذلك عن غير عمد، ولو كان عندكم عدل لبقيت، ولكنني فررت خائفا من ظلمكم. فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟

لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة!
***

حين جاء موسى بمعجزته جمع له فرعون آلاف السحرة، لم يجمع له ساحرا واحدا أو حتى عشرة.. ولم يتركهم هكذا حتى نظَّم حملة إعلامية طاغية تأييدا لهم، ونطقت أجهزة الإعلام الفرعونية تحشد الناس تحت هذا الشعار (هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)!

جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! وانتظار أن يغلبوه!
ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى).

وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس.

وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!!

لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة!

في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم.
***

ما مناسبة كل هذا؟!

مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!!

قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش!

حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا –أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟!

لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف!

هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! لكنه لم يفعل..

كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم..

ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟!

المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على (شرفاء الجيش) الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي!

إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل (شرفاء الجيش) هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. بل وتسميه إرهابا؟!
****

ألا ترى الآن أنه نفس الجمهور الذي كان يرى في السحرة رموز الوطن حين كانوا تابعين للفرعون، فلما انشقوا عليه وآمنوا بالله صاروا أعداء الوطن الخونة المتآمرين عليه؟!..

لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟!

ذلك هو خطاب فرعون.. وإعلام فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!!

هشام عشماوي.. رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر!

وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع!

ما هكذا كانت الثورات يوما..

ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض..

ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا..

فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!!

كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟!
****

أكاد أتصور وأتخيل: لو أن هذا الانقلاب لم يقاومه أحد على الإطلاق.. ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟!

ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة (إرهابيون)!!

هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟!

أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟!

هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟!

هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه!

ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا..

فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. والله أحكم الحاكمين.
‏٠٤‏/١١‏/٢٠١٨ ٦:٢٤ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 16، من مجلة (كلمة حق)، لشهر نوفمبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب: مختصر كتاب 33 استراتيجية للحرب، لروبرت غرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2qpOkdn لتحميل هدية العدد مختصر كتاب 33 استراتيجية للحرب، اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2PyJngG نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام https://t.me/klmtuhaq المدونة facebook.com/Klmtuhaq/
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 16، من مجلة (كلمة حق)، لشهر نوفمبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب: مختصر كتاب 33 استراتيجية للحرب، لروبرت غرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2qpOkdn

لتحميل هدية العدد مختصر كتاب 33 استراتيجية للحرب، اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2PyJngG

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر
https://twitter.com/klmtuhaq

تيليجرام
https://t.me/klmtuhaq

المدونة
facebook.com/Klmtuhaq/
‏٠١‏/١١‏/٢٠١٨ ٣:٥٦ م‏
قتال طالبان.. من أجل القلوب والعقول آشلي جاكسون ١ ترجمة/ حامد عبد العظيم "تتمثل الاستراتيجية الجديدة للمسلحين في إخراج إدارة كابول المدعومة من الولايات المتحدة من السلطة، وهي استراتيجية تعمل جيدا"ً. من نواحٍ عديدة، تبدو (تشارخ)٢ كنموذج لمنطقة أفغانية ريفية، قليل من التنمية أو الصناعة للتحدث عنهما، تعدادها السكاني ذو الـ48000 ألف نسمة يعيشون غالباً على الزراعة، فقر شائع، أولئك الذين يمكنهم العثور على وظائف أفضل في أماكن أخرى، يغادرون ويرسلون المال لمساعدة أسرهم. لكن نظرة عن قرب إلى تشارخ تكشف عن تباعد بين ما يمكن أن يتوقعه المرء في منطقة أفغانية متوسطة، المسؤولون هناك يُنظر إليهم كعادلين ونزيهين، مما يجعلهم نشازاً في بلد يُصنف باستمرار ضمن أكثر الدول فساداً. السكان المحليون يقولون إن الجريمة قليلة بشكل لافت للنظر، النزاعات بين الجيران أو العائلات نادرة، وعندما تظهر يسويها حاكم المدينة أو القاضي بسرعة. يقوم مسؤول الصحة بمراقبة العيادات بانتظام للتأكد من حضور الأطباء والممرضين ووجود الأدوية. عبر مدارس المقاطعة، يظهر المعلمون الحكوميون بالفعل، وحضور الطلاب مرتفع، وهو أمر شاذ في نظام دولة ينتشر فيه الغياب. على الورق، يمكن تفسير النجاح المفاجئ لـ(تشارخ) كدليل على أن إدارة الرئيس أشرف غاني المدعومة أمريكياً، قد طورت أخيراً شكلاً من أشكال الحكم الرشيد خارج العاصمة كابول. لكن في الواقع، لا تستحق الحكومة الأفغانية الفضل في (تشارخ)، فالمنطقة يحكمها حالياً "طالبان". فالسلطات المحلية بحكم الأمر الواقع، من العمدة إلى القاضي الوحيد في المدينة، تأتي من صفوف طالبان، والبيروقراطيون العاديون، كالمعلمين وموظفي الصحة، قد فُحصوا واختيروا من قِبل "المتمردين"، حتى على الرغم من أن كابول لا تزال تدفع رواتبهم. على الرغم من تضاعف مستوى القوات الأمريكية تقريباً، وارتفاع معدل الضربات الجوية على مدار العام الماضي، فإن طالبان تحتفظ بنفوذ كبير في مناطق شاسعة من المناطق الريفية في أفغانستان، وتعمل بكل جدية على طرد حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها أشرف غاني والمعترف بها دوليًا. إن الفكرة القائلة بأن حركة طالبان تسعى الآن إلى توفير حكم رشيد قد تثير السخط، نظراً (للقسوة الوحشية) لحكمها من عام 1996 إلى عام 2001. وخلال تلك السنوات، منعت النساء من الدراسة والعمل، وأعدمت عشاقاً صغاراً في ملاعب رياضية. ومنذ الإطاحة بالجماعة في عام 2001، أدت هجماتها الوحشية إلى مقتل عشرات الآلاف من الأفغان، وفي عام 2009، ظلت طالبان تقتل المعلمين، وتحرق المدارس، وتهاجم عمال الإغاثة٣. اليوم، تسعى حركة طالبان إلى تقديم نفسها كحركة سياسية شرعية، قادرة على إدارة الخدمات وحكم البلاد. وفي ظل انسحاب القوات الأمريكية والأفغانية لحماية المدن الكبرى - كجزء من استراتيجية واشنطن الجديدة - تملأ حركة طالبان الفراغ؛ فلم تعد طالبان مجرد تمرد غامض، إنها حكومة تنتظر الحكم. وحتى يتسنى فهم التحول المفاجئ لطالبان، يتعين على المرء أن يعود إلى عام 2014. وكان هذا عام سحب عشرات الآلاف من القوات الدولية، وقد عُرض ذلك على قادة طالبان مصحوباً بالمخاطر والفرص، وعلى كل حال هم قد واجهوا ظروفاً مماثلة من قَبل في عام 1996، فخلال ذروة الحرب الأهلية استفادوا من الغياب الفعلي لأي شكل من أشكال السلطة المركزية للسيطرة على السلطة. لكن هذه المرة، أدركت قيادة طالبان أنه بدلاً من (مهاجمة المدارس الحكومية ومشاريع المساعدات)، يمكن أن تربح أكثر من خلال ضمها إليها؛ وعن طريق القيام بذلك تستطيع أن تحوز الفضل بتقديمها الخدمات وتُقنع السكان المحليين بمشروعها. إن ما بدأ باعتراف تدريجي بأن العنف الجامح سيؤثر بالسلب على معركة طالبان للحصول على الدعم الشعبي، تطور بعد ذلك إلى بنية حوكمة متمرسة، بما يشمل إدارة المدارس والعيادات والمحاكم وجباية الضرائب وغير ذلك. وقد بدأ أعضاء حركة طالبان المحليون بالتوصل إلى اتفاق غير رسمي لوقف إطلاق النار مع جنود الحكومة، من أجل تهدئة الصراع، وتزود جنود الحكومة نقاط التفتيش بالجند حتى المساء، وبعدها تتولى طالبان هذه المواقع حتى الفجر. أدى هذا التحول في استراتيجية طالبان إلى خلق تعايش سلمي نسبيًا -وإن كان غير مستقر تماماً- بين التمرد والحكومة في مناطق كانت في السابق من أكثر المناطق اضطراباً في البلد. "كانوا قساة من قبل، لكنهم الآن يحاولون إظهار وجه مختلف". قال ذلك قائد سابق في طالبان بإقليم قندوز الشمالي، وأضاف: "رأوا أن عليهم إظهار استطاعتهم فعل كل شيء تستطيع الحكومة فعله، ولكن بشكل أفضل". يُرجِع مقاتلو طالبان ومسؤولها الفضل في ذلك التحول إلى الملا أختر محمد منصور، فقد قاد منصور ببراعة الحركة عبر سلسلة من اللحظات المحورية: - الزيادة المفاجئة التي بدأت أواخر عام 2009 ، عندما أرسلت واشنطن 33 ألف جندي إضافي لتغيير الجهود الحربية الفاشلة إلى الأحسن. - وفاة الملا محمد عمر عام 2013 ، والذي أخفاها منصور كنائب له بشكل استراتيجي لمدة عامين. - الانقسام عام 2014. - استقالة العديد من النواب الرئيسيين بمجرد تولي منصور رسميًا منصب الأمير - زعيم طالبان - في عام 2015. قال أحد مسؤولي طالبان في إقليم هلمند الجنوبي: "لقد غير منصور تفكيرنا بالكامل، حول الحكم، وحول السلام، وعن كل شيء". حوّل منصور طالبان من تمرد غير مترابط إلى دولة ظل، وعزز الأجنحة العسكرية والمالية للحركة، محاولاً الابتعاد عن نظام الرعاية والتحول إلى نظام يركز على بناء المؤسسات، وأنشأ لجنة طالبان للتحقيق حول الضحايا المدنيين، إضافة إلى أنه عين الطاجيك والأوزبك في مجلس شورى طالبان، أو مجلس القيادة، موسعاً الحركة إلى ما وراء قاعدتها الباشتونية. كان منصور يجهز الحركة للحياة بعد الحرب، وبدلاً من السعي إلى الانتصار التام عمل على إعداد طالبان لاتفاق مشاركة بالحكم. وكان من أشد المدافعين عن فتح مكتب لطالبان في قطر عام 2013، ثم قاد طالبان بحذر نحو مزيد من الانفتاح على المحادثات. في مايو/ أيار 2016، قتلت الولايات المتحدة منصور في غارة بطائرة بدون طيار، لكن رؤيته استمرت، ميزتها الأساسية هي الطريقة التي تسمح لطالبان بنشر نفوذها دون تكبد أعداد كبيرة من الجثث، أو انخفاض الروح المعنوية التي تنتج عن المعارك الضارية. عندما حاولت حركة طالبان الاستيلاء على مراكز المقاطعات والمدن الرئيسية - بما في ذلك مدينة قندوز الشمالية في عام 2015 وعام 2016 - دُفعوا بسرعة عن طريق الغارات الجوية والهجمات البرية المدعومة دوليًا. لذلك وبينما يواصلون مهاجمة المدن دورياً، كما فعلوا في الربيع الماضي في إقليم فرح الغربي وفي أغسطس/آب في إقليم غزنة الشرقي، فإن طالبان الآن تخصص موارد أقل لهذه العمليات، وتستخدمها لإحراج حكومة كابول أكثر من الاستيلاء على الأرض. ينصب تركيز طالبان الجديد على توسيع سيطرتها بطريقة أكثر دقة. بالاعتماد على القسر وعلى سمعتهم في توفير الإنصاف والعدالة - وإن كانت قاسية -، لقد اكتسبوا موطئ قدم جديدة في قرية بعد أخرى، ومع تنامي نفوذهم في مدينة معينة، يفرضون تدريجياً قواعدهم على الحياة المدنية ويوظفون قوة منظمة من موظفي الخدمة المدنية - تتراوح بين جامعي فاتورة الكهرباء والمفتشين الصحيين - لإنفاذها. ويتفاوت مستوى وجود طالبان من مكان إلى آخر، ولكن حتى في المدن التي ظاهرياً تحت سيطرة الحكومة، مثل قندوز ولاشكار جاه، فإن طالبان الآن تجمع الضرائب وتحكم في النزاعات. على عكس تنظيم (الدولة الإسلامية)، الذي حاول إنشاء بنية تحتية موازية جديدة في الأراضي التي استولى عليها، تفضّل طالبان ضم الخدمات الحكومية الحالية ومشاريع المساعدات. في مقابلة أجراها في أكتوبر/تشرين الأول 2017 عبر (واتس آب)، أوضح المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد التناقض الواضح الذي ينطوي عليه العمل جنباً إلى جنب دولة تُقاتلها منظمته قائلاً: "هذا يتعلق بتلبية احتياجات الناس، إنه ليس جزءًا من الحرب". لقد أدركت حركة طالبان بالطبع أنه لا توجد حاجة لمهاجمة مؤسسات وموارد الدولة إذا تمكنتَ بدلاً من ذلك من الاستيلاء على مواردها وإعادة توجيهها إلى أهدافك. وقد أصبحت هذه العملية أسهل بكثير بسبب شعور معظم الأفغان بالإحباط جراء الفساد المتفشي، الذي شل الخدمات العامة وجعل العثور على عمل أمراً صعباً للغاية. فيجب على ما يُقدر بنحو 80 في المئة من معلمي الدولة دفع رشاوى للحصول على مناصبهم، وفقاً لبيانات رسمية صدرت في كابول أواخر العام الماضي. قال جمال، وهو مدرس سابق في مدرسة البنين الثانوية في مركز منطقة تشارخ: "لم يكن بوسع الحكومة فعل أي شيء في السنوات العشر الماضية.. "لقد نجحت طالبان في حل مشاكلنا على الفور". جمال، الذي غُير اسمه لحمايته، كان مجرد مراهق عندما جاء التمرد إلى قريته في مقاطعة لوجار نحو عام 2007، وهرب من القتال لكنه كافح للعثور على وظيفة في مكان آخر، وقرر العودة بعد أن أكدت له عائلته أن الأمن قد استتب منذ أن سيطرت طالبان. زكّاه مديره بالمدرسة القديمة لدى طالبان، التي بدورها تحققت من خلفيته. وحالما اطمئنت أنه ليس جاسوسًا للحكومة، أظهر مسؤولو طالبان موافقتهم إلى شيوخ القرية الذين كانوا يعملون كوسيط بين طالبان والمسؤولين الحكوميين. وأبلغ الشيوخ مسؤولي وزارة التعليم الذين قاموا بتعيينه في منصبه. على الرغم من أن جمال عمل في مدرسة حكومية وكانت وزارة التعليم تدفع راتبه، كان مسؤولو طالبان مسؤولين عن عمله وبيئته المحيطة. ويقوم المراقبون المعَينون من قِبل طالبان، وهم عادة من شيوخ القرى أو الملالي، بتوظيف الموظفين وتكليف مسؤولي المدارس بتثبيت رواتب المعلمين الغائبين. ويقومون أحيانًا بإزالة ما يعدونه محتوى غير مقبول من المناهج الدراسية - مثل كتاب ثقافي يعرض صوراً للشرطة النسائية – ويستبدلون بها نصوصاً دينية. ويوجد نظام مماثل في العيادات والمستشفيات، حيث يظهر المراقبون المعَينون من قِبل طالبان بشكل عشوائي، لضمان وجود الأطباء وفحص مخزون الأدوية. قال فرهاد، مسؤول الصحة العامة في (پل علم) عاصمة إقليم لوجار: "لقد اتصل بي نظيري في حركة طالبان قائلاً: يجب أن يكون لديك طبيب جراح إضافي في هذه المنطقة، وجهاز أشعة سينية". وعندما سُئِلَ كيف كان يعلم بمثل هذه المطالب، قال فرهاد بواقعية: "إنهم يصدرون الأوامر، وعلينا أن نطيع.. قد لا نحب طريقة إدارتهم لكن على الأقل يمكننا القول إنها أقل فسادًا بكثير". يحْجم المسؤولون في كابول عن الإقرار علناً بمفاوضات على الأرض مع حركة طالبان أو مناقشة ذلك، وهم يكررون في كثير من الأحيان التزامهم بتقديم الخدمات للأفغان بغض النظر عن جانب النزاع الذي قد يكونون فيه. وقال وحيد مجروه، المتحدث باسم وزارة الصحة العامة: "إن الأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرة طالبان ليسوا بالضرورة من طالبان أنفسهم". "إن وزارة الصحة العامة ملتزمة بتوفير الخدمات الصحية لجميع الأفغان". في حين أن الوزارة ليس لديها سياسة رسمية بشأن ما إذا كان موظفوها ينبغي أن يتعاملوا مع طالبان أم لا، قال إنه في "حالات محددة يواجه العاملون بالصحة تحديات من المتمردين، فيحلون القضية من خلال شيوخ المجتمع. " لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين كم من مساحة البلاد تديرها طالبان فالتقديرات الإقليمية متنازع عليها بشدة. تقدّر بعثة التدريب والدعم التي يقودها حلف الناتو، أن التمرد يؤثر أو يسيطر على 14 في المائة من مناطق البلاد، بينما تسيطر الحكومة على 56 في المائة، ويخضع الباقي للتنازع. في المقابل، قدرت دراسة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في يناير/كانون الثاني أن حركة طالبان "نشطة بشكل علني" في 70٪ من مقاطعات البلاد. من الصعب تصور مصطلحات مثل "التأثير" و"نشطة بشكل علني". إن استراتيجية طالبان ترفض مفاهيم السيطرة الصفرية، توضح الخريطة الدقيقة لنفوذ طالبان حصارها لأغلب مراكز المدن والأقاليم الرئيسية، قيادة السيارة لمدة ساعة في أي تجاه من كابول تنقلك في مناطق طالبان، ربما لا يكون هناك علم يرفرف لطالبان، لكن الجميع يعرف من هو المسؤول، طالبان تضع القواعد وتنفذها، يجمعون الضرائب، ويحددون مقدار الحضور الذي تستطيع الحكومة الاحتفاظ به. خلال زيادتها عدد الجنود، ركزت القوات الدولية على استراتيجية "بقعة الحبر": السيطرة على مراكز الأقاليم، واستهداف كسب قلوب وعقول الأفغان من خلال تقديم المساعدات والخدمات، بعد ذلك ينتشر تأثير الحكومة إلى الخارج للتواصل مع المناطق الأخرى التي تسيطر عليها الدولة، على أمل أنه إذا تمكنت الحكومة من ربط ما يكفي من هذه المناطق، أن تجمع الدعم الكافي لتحويل الموجة ضد طالبان. ولكن مع تخفيض عدد القوات الدولية حدث العكس، أصبحت بقع الحبر أصغر وأقل اتصالاً، لقد تخلت الولايات المتحدة عن مكافحة التمرد، بينما الآن تقيم طالبان الحكم الرشيد لكسب الدعم المدني. يدّعي مسؤولو طالبان الذين تحدثت إليهم مؤخراً أنهم لا يسعون إلى تحقيق نصر تام، بل اتفاق سلام، ويبدو أن أسلوبهم في الحكم يؤيد هذا الادعاء، تقدم مقاطعة هلمند في جنوب غرب أفغانستان أفضل مثال على كيفية سير هذه العملية، تقدر الحكومة الأفغانية الآن أن طالبان تسيطر على 85 في المائة من هلمند، ويشير السكان المحليون إلى مدينة (موسى كالا) الشمالية بصفتها عاصمة طالبان. كما هو الحال في أي مكان آخر، يعتمد حكم طالبان على التعاون مع الحكومة الأفغانية. وخلال زيارة إلى عاصمة إقليم لاشكار جاه، عرض حياة الله حياة، الحاكم السابق لهلمند، ملفاً مليئاً برسائل من مسؤولي طالبان، طلب العديد منهم من الحكومة توفير العيادات والمشاريع التنموية، وقد أنكر "حياة" قدرة طالبان على الحكم قائلاً: "يمكنهم السيطرة على هذه المناطق من خلال العنف، لكنهم لا يستطيعون توفير حكومة حقيقية، ليس لديهم قدرة ولا رؤية، يعرف الأفغان أن الحكومة هي التي توفر هذه الأشياء حقيقةً". التعاون بيروقراطي بامتياز في هلمند. ففي فبراير/شباط الماضي، وقع ممثلون عن لجنة التعليم التابعة لحركة طالبان، وإدارة التعليم في المقاطعات الحكومية، مذكرة تفاهم مكونة من 10 نقاط، تحدد مسؤوليات كل منهما فيما يتعلق بتوفير التعليم. ظهرت على موقع (تويتر) مجموعة من الصور التُقطت خلال التوقيع، أعضاء طالبان بالعمامة السوداء، وجوههم مغطاة جزئياً، يجلسون القرفصاء إلى جانب نظرائهم الحكوميين. ذكر الاتفاق أن جميع المدارس هي ممتلكات حكومية، لكن مسؤولية الطالبان تكمن في حماية المدارس وموظفيها، وتعهد الجانبان على العمل معاً لإعادة فتح المدارس التي أغلقت بسبب القتال في السنوات السابقة، وبحسب داود شاه شرفي، مدير التعليم الإقليمي في الحكومة المركزية، فقد أعيد منذ توقيع الاتفاقية فتح 33 مدرسة أو أكثر من خُمس المدارس التي أغلقت. ودافع شرفي عن الاتفاق الذي انتقدته أجهزة الأمن الأفغانية نقداً لاذعاً، وقال: "بالطبع تستخدم طالبان هذه الاتفاقية كدعاية لإظهار مدى ضعف الحكومة.. ولكن هل من الأفضل أن يذهب الأطفال إلى المدرسة؟ أم لا تكون ثمة مدرسة ولا يكون أمامهم إلا الالتحاق بطالبان؟". كان لدى أعضاء طالبان المحليين صورة مختلفة، فقد قال مسؤول مالي في طالبان: "انتقد الناس طالبان لعدم فاعليتها في التسعينيات، فلم يكن لدينا هذا الكم من المساعدات عندما كنا في الحكم.. انظر إلى ما يمكننا القيام به بكل هذا الدعم الدولي إذا وضعتنا في موقع المسؤولية". بالنسبة لكثيرين، فإن فكرة عودة طالبان إلى السلطة مرعبة. لقد غيرت حركة طالبان بعض المواقف السياسية، لكن العديد من القوانين القديمة قد أعيدت إلى سابق عهدها، فبينما تقول حركة طالبان الآن إنها لا تعارض تعليم الفتيات أو النساء اللواتي يعملن في قطاعات معينة، فالحقيقة أن في المناطق التي تسيطر عليها الحركة لا تذهب الفتيات إلى المدرسة بعد البلوغ ولا تستطيع مغادرة المنزل بدون مرافق ذكَر. يجب على الرجال أن يطلقوا لحاهم، وأن يتجنبوا ارتداء الملابس العصرية، وعليهم الصلاة في المسجد، وتحظر الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون بشكل رسمي، وعلى الرغم من أن هذه القوانين غالبًا ما يُستخف بها، إلا أن ضبط فاعليها يؤدي إلى معاقبتهم بالضرب. ويُعدم المدانون بالتجسس لصالح الحكومة، ويعيش العديد من المواطنين في خوف دائم؛ الأفغان الذين لديهم القدرة يغادرون إلى المدن القريبة حيث لا تزال قوانين الحكومة مسيطرة، ومع ذلك لا يشعرون بالأمان، بسبب هجمات طالبان التي لا حصر لها في جميع أنحاء البلاد٤. إلى أي درجة تفوز طالبان بالدعم الشعبي؟ الجواب ليس واضحًا، بالتأكيد بعض الأفغان في المناطق الريفية يقدمون دعماً نشطاً للتمرد؛ وتعتمد الحركة بشكل كبير على المدنيين للحصول على الطعام والمأوى. لقد أُنهك معظم الأفغان من الحرب، وهم محبطون ومشمئزون من الوحشية التي لا تنتهي وتُرتكب من جميع الأطراف، فهم لا يرون الحكومة الحالية أو طالبان خيارًا مثاليًا، ولكن عقودًا من الاضطرابات والفوضى قد علمتهم أن تفضيلاتهم لا تعني شيئًا يُذكر. "نحن نستسلم للموجود، عندما جاء المجاهدون استسلمنا، وعندما جاءت الحكومة استسلمنا". وقال مدرس آخر من لوجار: "إذا جاءت طالبان فإننا نستسلم.. هذه هي الطريقة التي تبقينا على قيد الحياة." في أغسطس/آب 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة لأفغانستان، وتعهد "بالمحاربة والفوز". كانت الاستراتيجية تعتمد بكثافة على القوة الجوية وتولي أهمية أقل للدبلوماسية، هي في النهاية غير ملائمة لمحاربة تمرد متشابك بشدة مع السكان، بلغت الإصابات المدنية جراء الغارات الجوية أعلى مستوى لها عام 2017. فقد أسقطت الولايات المتحدة المزيد من القنابل في ذلك العام مع وجود 14000 جندي على الأرض، أكثر مما أسقطت في عام 2012 مع وجود ما يقرب من 100000 جندي. ونادراً ما أتبعت الضربات الجوية بمحاولات فرض سيطرة الحكومة، تاركة معظم الأفغان يتساءلون عن غاية هذه الضربات إذن. محاولات إصلاح الحكومة قد فشلت، وهي التي كان يعول عليها أن تعالج أسباب السخط الذي يعطي طالبان النفوذ، وهذه المحاولات للإصلاح هي الآن جزء هامشي من استراتيجية الولايات المتحدة، وكما أكد تقرير صدر مؤخراً عن المفتش العام الأمريكي المختص بإعادة إعمار أفغانستان، فشل الاستقرار إلى حد كبير، كما أن الولايات المتحدة "بالغت في تقدير قدرتها على بناء وإصلاح المؤسسات الحكومية". وتبقى حكومة الوحدة الوطنية ائتلافاً هشاً مشلولاً تقريباً، بسبب الفساد والاقتتال الداخلي، وكان الخبر الإيجابي الوحيد الذي تلقته الحكومة مؤخراً هو تنظيم وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام مع حركة طالبان خلال عطلة عيد الفطر في يونيو/حزيران. في يوليو، أظهرت تقارير أن إدارة ترامب تخلت عن آمالها في قلب موجة الحرب، وتحث الولايات المتحدة الآن القوات الأفغانية على مزيد من التراجع عن المناطق الريفية، وبدلاً من ذلك تركز مواردها المحدودة على حماية المراكز الحضرية. وتعثرت مهمة بناء قوات الأمن الأفغانية، إذ أفاد مكتب المفتش العام أن حجم القوة تقلص بنحو 5 في المائة خلال العام الماضي. وهناك أيضاً مؤشرات على أن واشنطن منفتحة على إجراء محادثات سياسية ثنائية مباشرة مع طالبان، وهي أحد المطالب القديمة للمتمردين، في أواخر يوليو زعم مسؤولو طالبان أنهم التقوا مع أليس ويلز، أكبر دبلوماسيي البيت الأبيض في جنوب ووسط آسيا، وهو الأمر الذي لم تؤكده وزارة الخارجية أو تنكره. المحادثات المباشرة هي الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب الأمريكية الأطول، ولكنها ستكون عملية طويلة ومرهقة. إن إجراءات بناء الثقة، مثل وقف إطلاق النار في العيد، مهمة، ولكن لا بد من القيام بالعديد من الأمور، من إنشاء آلية للمحادثات الرسمية، لإطلاق مبادرات بناء السلام المحلية، التي ستبني قاعدة للتسوية السياسية المستدامة. ومع ذلك، لا تزال هناك أسئلة صعبة بشأن مستقبل أفغانستان، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان. ففي حين يناقش الدبلوماسيون والخبراء ما يمكن أن تبدو عليه صفقة تقاسم السلطة مع طالبان، فالحكومة المختلطة تستولي بالفعل على أجزاء كبيرة من البلاد. _____________ (١) آشلي جاكسون، باحثة مشاركة بمعهد التنمية لما وراء البحار، مختصة بالشأن الأفغاني، وقد نُشر المقال في فصلية مجلة فورين بوليسي وعلى موقع المجلة الرسمي بتاريخ 12 سبتمبر 2018م، رابط إلكتروني. [المترجم] (٢) تقع منطقة تشارخ في الجزء الجنوبي من مقاطعة لوجار بأفغانستان. [المترجم]. (٣) آثرت الإبقاء على مثل هذه الاتهامات الكاذبة وغيرها مما سيلحظه القارئ في ثنايا المقال دون حذفها، وذلك لمعرفة طريقة تفكير الكاتبة وخلفيتها الثقافية، التي تستقيها من وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية التابعة للاحتلال، وهي أباطيل لا أساس لها من الصحة. [المترجم]. (٤) سبق التنبيه على كذب مثل هذه الادعاءات في التعليق السابق، فارجع إليه. والغرض منها تصوير طالبان أنها حركة يلفظها الشعب، وهو زعم ساذج للغاية؛ إذ لا يمكن أن تستمر قوة محلية بهذه الشراسة منذ سبعة عشر عاماً دون غطاء وتأييد وحاضنة شعبية كبيرة. وهو ما شهدت به الكاتبة نفسها حين قالت فيما يأتي بعد قليل عن طالبان إنها "تمرد متشابك بشدة مع السكان". [المترجم].
قتال طالبان.. من أجل القلوب والعقول
آشلي جاكسون ١

ترجمة/ حامد عبد العظيم

"تتمثل الاستراتيجية الجديدة للمسلحين في إخراج إدارة كابول المدعومة من الولايات المتحدة من السلطة، وهي استراتيجية تعمل جيدا"ً.

من نواحٍ عديدة، تبدو (تشارخ)٢ كنموذج لمنطقة أفغانية ريفية، قليل من التنمية أو الصناعة للتحدث عنهما، تعدادها السكاني ذو الـ48000 ألف نسمة يعيشون غالباً على الزراعة، فقر شائع، أولئك الذين يمكنهم العثور على وظائف أفضل في أماكن أخرى، يغادرون ويرسلون المال لمساعدة أسرهم.
لكن نظرة عن قرب إلى تشارخ تكشف عن تباعد بين ما يمكن أن يتوقعه المرء في منطقة أفغانية متوسطة، المسؤولون هناك يُنظر إليهم كعادلين ونزيهين، مما يجعلهم نشازاً في بلد يُصنف باستمرار ضمن أكثر الدول فساداً. السكان المحليون يقولون إن الجريمة قليلة بشكل لافت للنظر، النزاعات بين الجيران أو العائلات نادرة، وعندما تظهر يسويها حاكم المدينة أو القاضي بسرعة. يقوم مسؤول الصحة بمراقبة العيادات بانتظام للتأكد من حضور الأطباء والممرضين ووجود الأدوية. عبر مدارس المقاطعة، يظهر المعلمون الحكوميون بالفعل، وحضور الطلاب مرتفع، وهو أمر شاذ في نظام دولة ينتشر فيه الغياب.

على الورق، يمكن تفسير النجاح المفاجئ لـ(تشارخ) كدليل على أن إدارة الرئيس أشرف غاني المدعومة أمريكياً، قد طورت أخيراً شكلاً من أشكال الحكم الرشيد خارج العاصمة كابول. لكن في الواقع، لا تستحق الحكومة الأفغانية الفضل في (تشارخ)، فالمنطقة يحكمها حالياً "طالبان".

فالسلطات المحلية بحكم الأمر الواقع، من العمدة إلى القاضي الوحيد في المدينة، تأتي من صفوف طالبان، والبيروقراطيون العاديون، كالمعلمين وموظفي الصحة، قد فُحصوا واختيروا من قِبل "المتمردين"، حتى على الرغم من أن كابول لا تزال تدفع رواتبهم.

على الرغم من تضاعف مستوى القوات الأمريكية تقريباً، وارتفاع معدل الضربات الجوية على مدار العام الماضي، فإن طالبان تحتفظ بنفوذ كبير في مناطق شاسعة من المناطق الريفية في أفغانستان، وتعمل بكل جدية على طرد حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها أشرف غاني والمعترف بها دوليًا.

إن الفكرة القائلة بأن حركة طالبان تسعى الآن إلى توفير حكم رشيد قد تثير السخط، نظراً (للقسوة الوحشية) لحكمها من عام 1996 إلى عام 2001. وخلال تلك السنوات، منعت النساء من الدراسة والعمل، وأعدمت عشاقاً صغاراً في ملاعب رياضية. ومنذ الإطاحة بالجماعة في عام 2001، أدت هجماتها الوحشية إلى مقتل عشرات الآلاف من الأفغان، وفي عام 2009، ظلت طالبان تقتل المعلمين، وتحرق المدارس، وتهاجم عمال الإغاثة٣.

اليوم، تسعى حركة طالبان إلى تقديم نفسها كحركة سياسية شرعية، قادرة على إدارة الخدمات وحكم البلاد. وفي ظل انسحاب القوات الأمريكية والأفغانية لحماية المدن الكبرى - كجزء من استراتيجية واشنطن الجديدة - تملأ حركة طالبان الفراغ؛ فلم تعد طالبان مجرد تمرد غامض، إنها حكومة تنتظر الحكم.

وحتى يتسنى فهم التحول المفاجئ لطالبان، يتعين على المرء أن يعود إلى عام 2014. وكان هذا عام سحب عشرات الآلاف من القوات الدولية، وقد عُرض ذلك على قادة طالبان مصحوباً بالمخاطر والفرص، وعلى كل حال هم قد واجهوا ظروفاً مماثلة من قَبل في عام 1996، فخلال ذروة الحرب الأهلية استفادوا من الغياب الفعلي لأي شكل من أشكال السلطة المركزية للسيطرة على السلطة. لكن هذه المرة، أدركت قيادة طالبان أنه بدلاً من (مهاجمة المدارس الحكومية ومشاريع المساعدات)، يمكن أن تربح أكثر من خلال ضمها إليها؛ وعن طريق القيام بذلك تستطيع أن تحوز الفضل بتقديمها الخدمات وتُقنع السكان المحليين بمشروعها.

إن ما بدأ باعتراف تدريجي بأن العنف الجامح سيؤثر بالسلب على معركة طالبان للحصول على الدعم الشعبي، تطور بعد ذلك إلى بنية حوكمة متمرسة، بما يشمل إدارة المدارس والعيادات والمحاكم وجباية الضرائب وغير ذلك.

وقد بدأ أعضاء حركة طالبان المحليون بالتوصل إلى اتفاق غير رسمي لوقف إطلاق النار مع جنود الحكومة، من أجل تهدئة الصراع، وتزود جنود الحكومة نقاط التفتيش بالجند حتى المساء، وبعدها تتولى طالبان هذه المواقع حتى الفجر. أدى هذا التحول في استراتيجية طالبان إلى خلق تعايش سلمي نسبيًا -وإن كان غير مستقر تماماً- بين التمرد والحكومة في مناطق كانت في السابق من أكثر المناطق اضطراباً في البلد.

"كانوا قساة من قبل، لكنهم الآن يحاولون إظهار وجه مختلف". قال ذلك قائد سابق في طالبان بإقليم قندوز الشمالي، وأضاف: "رأوا أن عليهم إظهار استطاعتهم فعل كل شيء تستطيع الحكومة فعله، ولكن بشكل أفضل".

يُرجِع مقاتلو طالبان ومسؤولها الفضل في ذلك التحول إلى الملا أختر محمد منصور، فقد قاد منصور ببراعة الحركة عبر سلسلة من اللحظات المحورية:

- الزيادة المفاجئة التي بدأت أواخر عام 2009 ، عندما أرسلت واشنطن 33 ألف جندي إضافي لتغيير الجهود الحربية الفاشلة إلى الأحسن.
- وفاة الملا محمد عمر عام 2013 ، والذي أخفاها منصور كنائب له بشكل استراتيجي لمدة عامين.
- الانقسام عام 2014.
- استقالة العديد من النواب الرئيسيين بمجرد تولي منصور رسميًا منصب الأمير - زعيم طالبان - في عام 2015.

قال أحد مسؤولي طالبان في إقليم هلمند الجنوبي: "لقد غير منصور تفكيرنا بالكامل، حول الحكم، وحول السلام، وعن كل شيء". حوّل منصور طالبان من تمرد غير مترابط إلى دولة ظل، وعزز الأجنحة العسكرية والمالية للحركة، محاولاً الابتعاد عن نظام الرعاية والتحول إلى نظام يركز على بناء المؤسسات، وأنشأ لجنة طالبان للتحقيق حول الضحايا المدنيين، إضافة إلى أنه عين الطاجيك والأوزبك في مجلس شورى طالبان، أو مجلس القيادة، موسعاً الحركة إلى ما وراء قاعدتها الباشتونية.

كان منصور يجهز الحركة للحياة بعد الحرب، وبدلاً من السعي إلى الانتصار التام عمل على إعداد طالبان لاتفاق مشاركة بالحكم. وكان من أشد المدافعين عن فتح مكتب لطالبان في قطر عام 2013، ثم قاد طالبان بحذر نحو مزيد من الانفتاح على المحادثات.

في مايو/ أيار 2016، قتلت الولايات المتحدة منصور في غارة بطائرة بدون طيار، لكن رؤيته استمرت، ميزتها الأساسية هي الطريقة التي تسمح لطالبان بنشر نفوذها دون تكبد أعداد كبيرة من الجثث، أو انخفاض الروح المعنوية التي تنتج عن المعارك الضارية.

عندما حاولت حركة طالبان الاستيلاء على مراكز المقاطعات والمدن الرئيسية - بما في ذلك مدينة قندوز الشمالية في عام 2015 وعام 2016 - دُفعوا بسرعة عن طريق الغارات الجوية والهجمات البرية المدعومة دوليًا. لذلك وبينما يواصلون مهاجمة المدن دورياً، كما فعلوا في الربيع الماضي في إقليم فرح الغربي وفي أغسطس/آب في إقليم غزنة الشرقي، فإن طالبان الآن تخصص موارد أقل لهذه العمليات، وتستخدمها لإحراج حكومة كابول أكثر من الاستيلاء على الأرض.
ينصب تركيز طالبان الجديد على توسيع سيطرتها بطريقة أكثر دقة. بالاعتماد على القسر وعلى سمعتهم في توفير الإنصاف والعدالة - وإن كانت قاسية -، لقد اكتسبوا موطئ قدم جديدة في قرية بعد أخرى، ومع تنامي نفوذهم في مدينة معينة، يفرضون تدريجياً قواعدهم على الحياة المدنية ويوظفون قوة منظمة من موظفي الخدمة المدنية - تتراوح بين جامعي فاتورة الكهرباء والمفتشين الصحيين - لإنفاذها. ويتفاوت مستوى وجود طالبان من مكان إلى آخر، ولكن حتى في المدن التي ظاهرياً تحت سيطرة الحكومة، مثل قندوز ولاشكار جاه، فإن طالبان الآن تجمع الضرائب وتحكم في النزاعات.

على عكس تنظيم (الدولة الإسلامية)، الذي حاول إنشاء بنية تحتية موازية جديدة في الأراضي التي استولى عليها، تفضّل طالبان ضم الخدمات الحكومية الحالية ومشاريع المساعدات. في مقابلة أجراها في أكتوبر/تشرين الأول 2017 عبر (واتس آب)، أوضح المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد التناقض الواضح الذي ينطوي عليه العمل جنباً إلى جنب دولة تُقاتلها منظمته قائلاً: "هذا يتعلق بتلبية احتياجات الناس، إنه ليس جزءًا من الحرب".

لقد أدركت حركة طالبان بالطبع أنه لا توجد حاجة لمهاجمة مؤسسات وموارد الدولة إذا تمكنتَ بدلاً من ذلك من الاستيلاء على مواردها وإعادة توجيهها إلى أهدافك. وقد أصبحت هذه العملية أسهل بكثير بسبب شعور معظم الأفغان بالإحباط جراء الفساد المتفشي، الذي شل الخدمات العامة وجعل العثور على عمل أمراً صعباً للغاية. فيجب على ما يُقدر بنحو 80 في المئة من معلمي الدولة دفع رشاوى للحصول على مناصبهم، وفقاً لبيانات رسمية صدرت في كابول أواخر العام الماضي. قال جمال، وهو مدرس سابق في مدرسة البنين الثانوية في مركز منطقة تشارخ: "لم يكن بوسع الحكومة فعل أي شيء في السنوات العشر الماضية.. "لقد نجحت طالبان في حل مشاكلنا على الفور".

جمال، الذي غُير اسمه لحمايته، كان مجرد مراهق عندما جاء التمرد إلى قريته في مقاطعة لوجار نحو عام 2007، وهرب من القتال لكنه كافح للعثور على وظيفة في مكان آخر، وقرر العودة بعد أن أكدت له عائلته أن الأمن قد استتب منذ أن سيطرت طالبان. زكّاه مديره بالمدرسة القديمة لدى طالبان، التي بدورها تحققت من خلفيته. وحالما اطمئنت أنه ليس جاسوسًا للحكومة، أظهر مسؤولو طالبان موافقتهم إلى شيوخ القرية الذين كانوا يعملون كوسيط بين طالبان والمسؤولين الحكوميين. وأبلغ الشيوخ مسؤولي وزارة التعليم الذين قاموا بتعيينه في منصبه.

على الرغم من أن جمال عمل في مدرسة حكومية وكانت وزارة التعليم تدفع راتبه، كان مسؤولو طالبان مسؤولين عن عمله وبيئته المحيطة. ويقوم المراقبون المعَينون من قِبل طالبان، وهم عادة من شيوخ القرى أو الملالي، بتوظيف الموظفين وتكليف مسؤولي المدارس بتثبيت رواتب المعلمين الغائبين. ويقومون أحيانًا بإزالة ما يعدونه محتوى غير مقبول من المناهج الدراسية - مثل كتاب ثقافي يعرض صوراً للشرطة النسائية – ويستبدلون بها نصوصاً دينية.

ويوجد نظام مماثل في العيادات والمستشفيات، حيث يظهر المراقبون المعَينون من قِبل طالبان بشكل عشوائي، لضمان وجود الأطباء وفحص مخزون الأدوية. قال فرهاد، مسؤول الصحة العامة في (پل علم) عاصمة إقليم لوجار: "لقد اتصل بي نظيري في حركة طالبان قائلاً: يجب أن يكون لديك طبيب جراح إضافي في هذه المنطقة، وجهاز أشعة سينية". وعندما سُئِلَ كيف كان يعلم بمثل هذه المطالب، قال فرهاد بواقعية: "إنهم يصدرون الأوامر، وعلينا أن نطيع.. قد لا نحب طريقة إدارتهم لكن على الأقل يمكننا القول إنها أقل فسادًا بكثير".

يحْجم المسؤولون في كابول عن الإقرار علناً بمفاوضات على الأرض مع حركة طالبان أو مناقشة ذلك، وهم يكررون في كثير من الأحيان التزامهم بتقديم الخدمات للأفغان بغض النظر عن جانب النزاع الذي قد يكونون فيه. وقال وحيد مجروه، المتحدث باسم وزارة الصحة العامة: "إن الأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرة طالبان ليسوا بالضرورة من طالبان أنفسهم". "إن وزارة الصحة العامة ملتزمة بتوفير الخدمات الصحية لجميع الأفغان". في حين أن الوزارة ليس لديها سياسة رسمية بشأن ما إذا كان موظفوها ينبغي أن يتعاملوا مع طالبان أم لا، قال إنه في "حالات محددة يواجه العاملون بالصحة تحديات من المتمردين، فيحلون القضية من خلال شيوخ المجتمع. "

لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين كم من مساحة البلاد تديرها طالبان فالتقديرات الإقليمية متنازع عليها بشدة. تقدّر بعثة التدريب والدعم التي يقودها حلف الناتو، أن التمرد يؤثر أو يسيطر على 14 في المائة من مناطق البلاد، بينما تسيطر الحكومة على 56 في المائة، ويخضع الباقي للتنازع. في المقابل، قدرت دراسة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في يناير/كانون الثاني أن حركة طالبان "نشطة بشكل علني" في 70٪ من مقاطعات البلاد.

من الصعب تصور مصطلحات مثل "التأثير" و"نشطة بشكل علني". إن استراتيجية طالبان ترفض مفاهيم السيطرة الصفرية، توضح الخريطة الدقيقة لنفوذ طالبان حصارها لأغلب مراكز المدن والأقاليم الرئيسية، قيادة السيارة لمدة ساعة في أي تجاه من كابول تنقلك في مناطق طالبان، ربما لا يكون هناك علم يرفرف لطالبان، لكن الجميع يعرف من هو المسؤول، طالبان تضع القواعد وتنفذها، يجمعون الضرائب، ويحددون مقدار الحضور الذي تستطيع الحكومة الاحتفاظ به.

خلال زيادتها عدد الجنود، ركزت القوات الدولية على استراتيجية "بقعة الحبر": السيطرة على مراكز الأقاليم، واستهداف كسب قلوب وعقول الأفغان من خلال تقديم المساعدات والخدمات، بعد ذلك ينتشر تأثير الحكومة إلى الخارج للتواصل مع المناطق الأخرى التي تسيطر عليها الدولة، على أمل أنه إذا تمكنت الحكومة من ربط ما يكفي من هذه المناطق، أن تجمع الدعم الكافي لتحويل الموجة ضد طالبان. ولكن مع تخفيض عدد القوات الدولية حدث العكس، أصبحت بقع الحبر أصغر وأقل اتصالاً، لقد تخلت الولايات المتحدة عن مكافحة التمرد، بينما الآن تقيم طالبان الحكم الرشيد لكسب الدعم المدني.

يدّعي مسؤولو طالبان الذين تحدثت إليهم مؤخراً أنهم لا يسعون إلى تحقيق نصر تام، بل اتفاق سلام، ويبدو أن أسلوبهم في الحكم يؤيد هذا الادعاء، تقدم مقاطعة هلمند في جنوب غرب أفغانستان أفضل مثال على كيفية سير هذه العملية، تقدر الحكومة الأفغانية الآن أن طالبان تسيطر على 85 في المائة من هلمند، ويشير السكان المحليون إلى مدينة (موسى كالا) الشمالية بصفتها عاصمة طالبان. كما هو الحال في أي مكان آخر، يعتمد حكم طالبان على التعاون مع الحكومة الأفغانية.

وخلال زيارة إلى عاصمة إقليم لاشكار جاه، عرض حياة الله حياة، الحاكم السابق لهلمند، ملفاً مليئاً برسائل من مسؤولي طالبان، طلب العديد منهم من الحكومة توفير العيادات والمشاريع التنموية، وقد أنكر "حياة" قدرة طالبان على الحكم قائلاً: "يمكنهم السيطرة على هذه المناطق من خلال العنف، لكنهم لا يستطيعون توفير حكومة حقيقية، ليس لديهم قدرة ولا رؤية، يعرف الأفغان أن الحكومة هي التي توفر هذه الأشياء حقيقةً".

التعاون بيروقراطي بامتياز في هلمند. ففي فبراير/شباط الماضي، وقع ممثلون عن لجنة التعليم التابعة لحركة طالبان، وإدارة التعليم في المقاطعات الحكومية، مذكرة تفاهم مكونة من 10 نقاط، تحدد مسؤوليات كل منهما فيما يتعلق بتوفير التعليم. ظهرت على موقع (تويتر) مجموعة من الصور التُقطت خلال التوقيع، أعضاء طالبان بالعمامة السوداء، وجوههم مغطاة جزئياً، يجلسون القرفصاء إلى جانب نظرائهم الحكوميين.

ذكر الاتفاق أن جميع المدارس هي ممتلكات حكومية، لكن مسؤولية الطالبان تكمن في حماية المدارس وموظفيها، وتعهد الجانبان على العمل معاً لإعادة فتح المدارس التي أغلقت بسبب القتال في السنوات السابقة، وبحسب داود شاه شرفي، مدير التعليم الإقليمي في الحكومة المركزية، فقد أعيد منذ توقيع الاتفاقية فتح 33 مدرسة أو أكثر من خُمس المدارس التي أغلقت. ودافع شرفي عن الاتفاق الذي انتقدته أجهزة الأمن الأفغانية نقداً لاذعاً، وقال: "بالطبع تستخدم طالبان هذه الاتفاقية كدعاية لإظهار مدى ضعف الحكومة.. ولكن هل من الأفضل أن يذهب الأطفال إلى المدرسة؟ أم لا تكون ثمة مدرسة ولا يكون أمامهم إلا الالتحاق بطالبان؟".

كان لدى أعضاء طالبان المحليين صورة مختلفة، فقد قال مسؤول مالي في طالبان: "انتقد الناس طالبان لعدم فاعليتها في التسعينيات، فلم يكن لدينا هذا الكم من المساعدات عندما كنا في الحكم.. انظر إلى ما يمكننا القيام به بكل هذا الدعم الدولي إذا وضعتنا في موقع المسؤولية".

بالنسبة لكثيرين، فإن فكرة عودة طالبان إلى السلطة مرعبة. لقد غيرت حركة طالبان بعض المواقف السياسية، لكن العديد من القوانين القديمة قد أعيدت إلى سابق عهدها، فبينما تقول حركة طالبان الآن إنها لا تعارض تعليم الفتيات أو النساء اللواتي يعملن في قطاعات معينة، فالحقيقة أن في المناطق التي تسيطر عليها الحركة لا تذهب الفتيات إلى المدرسة بعد البلوغ ولا تستطيع مغادرة المنزل بدون مرافق ذكَر. يجب على الرجال أن يطلقوا لحاهم، وأن يتجنبوا ارتداء الملابس العصرية، وعليهم الصلاة في المسجد، وتحظر الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون بشكل رسمي، وعلى الرغم من أن هذه القوانين غالبًا ما يُستخف بها، إلا أن ضبط فاعليها يؤدي إلى معاقبتهم بالضرب. ويُعدم المدانون بالتجسس لصالح الحكومة، ويعيش العديد من المواطنين في خوف دائم؛ الأفغان الذين لديهم القدرة يغادرون إلى المدن القريبة حيث لا تزال قوانين الحكومة مسيطرة، ومع ذلك لا يشعرون بالأمان، بسبب هجمات طالبان التي لا حصر لها في جميع أنحاء البلاد٤.

إلى أي درجة تفوز طالبان بالدعم الشعبي؟ الجواب ليس واضحًا، بالتأكيد بعض الأفغان في المناطق الريفية يقدمون دعماً نشطاً للتمرد؛ وتعتمد الحركة بشكل كبير على المدنيين للحصول على الطعام والمأوى. لقد أُنهك معظم الأفغان من الحرب، وهم محبطون ومشمئزون من الوحشية التي لا تنتهي وتُرتكب من جميع الأطراف، فهم لا يرون الحكومة الحالية أو طالبان خيارًا مثاليًا، ولكن عقودًا من الاضطرابات والفوضى قد علمتهم أن تفضيلاتهم لا تعني شيئًا يُذكر. "نحن نستسلم للموجود، عندما جاء المجاهدون استسلمنا، وعندما جاءت الحكومة استسلمنا". وقال مدرس آخر من لوجار: "إذا جاءت طالبان فإننا نستسلم.. هذه هي الطريقة التي تبقينا على قيد الحياة."

في أغسطس/آب 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة لأفغانستان، وتعهد "بالمحاربة والفوز". كانت الاستراتيجية تعتمد بكثافة على القوة الجوية وتولي أهمية أقل للدبلوماسية، هي في النهاية غير ملائمة لمحاربة تمرد متشابك بشدة مع السكان، بلغت الإصابات المدنية جراء الغارات الجوية أعلى مستوى لها عام 2017.

فقد أسقطت الولايات المتحدة المزيد من القنابل في ذلك العام مع وجود 14000 جندي على الأرض، أكثر مما أسقطت في عام 2012 مع وجود ما يقرب من 100000 جندي. ونادراً ما أتبعت الضربات الجوية بمحاولات فرض سيطرة الحكومة، تاركة معظم الأفغان يتساءلون عن غاية هذه الضربات إذن.

محاولات إصلاح الحكومة قد فشلت، وهي التي كان يعول عليها أن تعالج أسباب السخط الذي يعطي طالبان النفوذ، وهذه المحاولات للإصلاح هي الآن جزء هامشي من استراتيجية الولايات المتحدة، وكما أكد تقرير صدر مؤخراً عن المفتش العام الأمريكي المختص بإعادة إعمار أفغانستان، فشل الاستقرار إلى حد كبير، كما أن الولايات المتحدة "بالغت في تقدير قدرتها على بناء وإصلاح المؤسسات الحكومية". وتبقى حكومة الوحدة الوطنية ائتلافاً هشاً مشلولاً تقريباً، بسبب الفساد والاقتتال الداخلي، وكان الخبر الإيجابي الوحيد الذي تلقته الحكومة مؤخراً هو تنظيم وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام مع حركة طالبان خلال عطلة عيد الفطر في يونيو/حزيران.

في يوليو، أظهرت تقارير أن إدارة ترامب تخلت عن آمالها في قلب موجة الحرب، وتحث الولايات المتحدة الآن القوات الأفغانية على مزيد من التراجع عن المناطق الريفية، وبدلاً من ذلك تركز مواردها المحدودة على حماية المراكز الحضرية. وتعثرت مهمة بناء قوات الأمن الأفغانية، إذ أفاد مكتب المفتش العام أن حجم القوة تقلص بنحو 5 في المائة خلال العام الماضي.

وهناك أيضاً مؤشرات على أن واشنطن منفتحة على إجراء محادثات سياسية ثنائية مباشرة مع طالبان، وهي أحد المطالب القديمة للمتمردين، في أواخر يوليو زعم مسؤولو طالبان أنهم التقوا مع أليس ويلز، أكبر دبلوماسيي البيت الأبيض في جنوب ووسط آسيا، وهو الأمر الذي لم تؤكده وزارة الخارجية أو تنكره.

المحادثات المباشرة هي الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب الأمريكية الأطول، ولكنها ستكون عملية طويلة ومرهقة. إن إجراءات بناء الثقة، مثل وقف إطلاق النار في العيد، مهمة، ولكن لا بد من القيام بالعديد من الأمور، من إنشاء آلية للمحادثات الرسمية، لإطلاق مبادرات بناء السلام المحلية، التي ستبني قاعدة للتسوية السياسية المستدامة. ومع ذلك، لا تزال هناك أسئلة صعبة بشأن مستقبل أفغانستان، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان. ففي حين يناقش الدبلوماسيون والخبراء ما يمكن أن تبدو عليه صفقة تقاسم السلطة مع طالبان، فالحكومة المختلطة تستولي بالفعل على أجزاء كبيرة من البلاد.

_____________
(١) آشلي جاكسون، باحثة مشاركة بمعهد التنمية لما وراء البحار، مختصة بالشأن الأفغاني، وقد نُشر المقال في فصلية مجلة فورين بوليسي وعلى موقع المجلة الرسمي بتاريخ 12 سبتمبر 2018م، رابط إلكتروني. [المترجم]
(٢) تقع منطقة تشارخ في الجزء الجنوبي من مقاطعة لوجار بأفغانستان. [المترجم].
(٣) آثرت الإبقاء على مثل هذه الاتهامات الكاذبة وغيرها مما سيلحظه القارئ في ثنايا المقال دون حذفها، وذلك لمعرفة طريقة تفكير الكاتبة وخلفيتها الثقافية، التي تستقيها من وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية التابعة للاحتلال، وهي أباطيل لا أساس لها من الصحة. [المترجم].
(٤) سبق التنبيه على كذب مثل هذه الادعاءات في التعليق السابق، فارجع إليه. والغرض منها تصوير طالبان أنها حركة يلفظها الشعب، وهو زعم ساذج للغاية؛ إذ لا يمكن أن تستمر قوة محلية بهذه الشراسة منذ سبعة عشر عاماً دون غطاء وتأييد وحاضنة شعبية كبيرة. وهو ما شهدت به الكاتبة نفسها حين قالت فيما يأتي بعد قليل عن طالبان إنها "تمرد متشابك بشدة مع السكان". [المترجم].
‏٣١‏/١٠‏/٢٠١٨ ٦:٢٢ م‏
الأكذوبة الكبرى (3) د. عطية عدلان الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: لم أشهد فيمن كتبوا في الفكر السياسي الغربي دجالاً مثل (فوكوياما) في كتابه ذاك المسمى (نهاية التاريخ)، انظر إليه وهو يجدف بعبثية ووحشية؛ محاولاً إثبات أنّه إذا كان التقدم الفيزيائي أدى إلى الليبرالية الرأسمالية؛ فإنّ التقدم الاقتصادي الناتج عن هذه الليبرالية الرأسمالية قد أنتج الديمقراطية الليبرالية!. وانظر إلى الأنكى من ذلك وهو محاولته طوال كتابه الذي طال كليل المتضورين جوعاً بسبب تلك الرأسمالية الليبرالية؛ حيث قام باستقراء للساحة الدولية يعيبه الكثير من السطحية والعجلة لينتهي إلى الزعم الذي تقيأه مداداً في قراطيس، وهو أنَّ الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التاريخ وهي المنهج المثالي للإنسان الأخير! عجباً لهذا الرجل ولمن يقرأ كتابه ثم لا يمزقه في وجهه! ألا يرون العالم يصرخ خوفاً على الديمقراطية من الرأسمالية؟! لقد بات جلياً أنَّ الخطر الأكبر على الديموقراطية ليس إلا الرأسمالية النيوليبرالية، "إنَّ عالماً فيه رئيس أمريكي يصدر القانون تلو القانون المحابي لمصالح الشركات الكبرى، ولروبرت ميردوخ فيه سلطان أقوى من سلطان توني بلير، وتضع الشركات الكبرى فيه الأجندة السياسية، إنما هو عالم مخيف وغير ديمقراطي"؛ فأين هي الرأسمالية التي تنتج ديمقراطية؟ ألم يتعرفوا على الطريقة التي يفكر بها المنظر الأول للنيوليبرالية والسوق الحرة والعولمة؟ انظروا إلى (ديمقراطيته!) المتجلية في كتاباته؛ حيث يقول بوقاحة: "وبذا يتضح تماماً أنّه من الممكن أن تقوم نظم اقتصادية رأسمالية بالدرجة الأولى في ظل نظم سياسية غير حرة"، وهذه الوقاحة ذاتها فلسفة ومنهج لدى هؤلاء جميعاً؛ بها قرروا أنَّ: "النظريات الرأسمالية تؤكد أنَّ تأثير المال أمر ديمقراطيّ في آخر تحليل؛ إذ إنَّ جميع الناس يستطيعون في ظل نظام التنافس أن يحصلوا على الثراء وأن يمارسوا به تأثيراً سياسياً، فذلك معنى الكلمة التي قالها (غيزو) رداً على أولئك الذين كانوا يعيبون على الأغنياء أنَّهم يحتكرون السلطة السياسية: (عليكم بالاغتناء)". لقد غدا العالم كله منزعجاً مرتعداً يجري ويتلفت، وباتت الشعوب الغربية قبل غيرها تتقلب في براكين القلق على دولة الرفاه، والصحف تكتب عن مستقبل يتوجب على الناس أن يتهيأوا له بشد الأحزمة، ويطلق المفكرون والحقوقيون صفارات الإنذار "ويحلل العالم المختص بشئون المستقبل (جون نايزبت) واقع المجتمعات الصناعية، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشيّ مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي". كل هذا والسيد (فوكو) يبشرنا بأن سفينة الإنسانية سوف ترسو على شاطيء السعادة والرخاء: الليبرالية!! الحقيقة الواقعية هي أنَّ الديمقراطية في خطر حقيقيّ "وبالنظر إلى ما هو راهن وإلى الإرهاصات المستشرفة لما سيكون؛ يتأكد أنّ المشروع النيوليبراليّ لا يهدف إلى تحرير الإنسان، بل إلى تحرير الرأسماليّ الاقتصاديّ من كل قيد، بما فيه قيد القيم، وتحجيم سلطة الدولة لتتصرف القوة الاقتصادية كما تشاء، ومن هنا فإنَّ النيوليبرالية ليس فيها شيء (نيو) "أي جديد"، بل هي رؤية تسعى لاستعادة البداية المتوحشة للنظام الرأسماليّ خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر؛ حيث كان للرأسمال كل الحق في طحن المعادن والبشر على حدٍّ سواء؛ من أجل نفخ حافظة النقود، فإطلاق السوق يقترن في التنظير النيوليبرالي مع مقولات لا إنسانية من قبيل ما يشيع في الخطاب النيوليبراليّ اليوم من أنَّ: (مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يطاق) و (أنَّ دولة الرفاه أصبحت تهدد المستقبل، وأنَّها كانت مجرد تنازل من جانب الرأسمال إبان الحرب الباردة، وأنَّ هذا التنازل لم يعد له الآن ما يبرره بعد انتهاء هذه الحرب) والقول: (بأنَّ شيئاً من غير المساواة بات أمراً لا مناص منه)". وليس في قلوب هؤلاء الذين سقطت الديمقراطية بكل أحلامها في أكفهم مثقال ذرة من رحمة، لو استطاعوا أن يبيعوا البشر قطع غيار لكائنات من كواكب أخرى لفعلوا ولما تورعوا، انظر إليهم وهم يستغلون قوت الناس كسلاح استراتيجي يضربون به الأنظمة التي لا تعمل بمبدأ حرية السوق: "ويمضي (براون) في حديثه قائلاً: قبل أيام قليلة التقى في واشنطن العاصمة خبراء في الزراعة والمناخ، وكذلك خبراء مختصون في تحليل ما تبثه الأقمار الصناعية من صور، وبعد أن وصل الجميع إلى ردهة تقع في الطرف الجنوبيّ من وزارة الزراعة الأمريكية أقفل أحد الحراس المسلحين باباً حديدياً سميكاً من خلفهم، وكانت الاتصالات الخارجية سواء بأجهزة التليفون أو بأجهزة الكمبيوتر قد فصلت عن القاعة التي فيها الخبراء، كما أسدلت الستائر بحيث لم يعد بإمكان أحد رؤية العالم الخارجيّ، وهكذا وفي عزلة تامة عن العالم الخارجيّ راح المجتمعون على مدى ليلة كاملة يمعنون النظر بفيض المعلومات المستقاة من المجالات المختلفة ويقارنون بعضها بالبعض الآخر، وكان هذا اللقاء الذي يذكر المرء بأساليب أجهزة المخابرات وبأفلام المافيا يتمحور حول سلاح من المحتمل أن يستخدم في سنوات معدودة من غير هوادة، إنَّه الاحتياطيّ العالميّ من الحبوب". ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ حتى تصبح كل مكتسبات الشعوب في ثوراتها التي دفعت فيها أعزّ ما لديها من المهج والأرواح ثم بسطت الديمقراطية يمينها عليها وضمتها إليها وعَدَّتها كذباً وزوراً من ثمراتها؛ تصبح في مهب الرياح العاتية، فجميع الحريات وجميع الحقوق السياسية والمدنية، بل وحق الحياة، صارت كلها مهددة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية الحليف القديم الجديد للديمقراطية، فانظر كيف تراجعت في أمريكا حاملة لواء حقوق الإنسان جميع حقوق الإنسان؟! لقد قام جورج دبليو بوش (وعائلة بوش إحدى العائلات التي بينها وبين الشركات العملاقة عقود وعهود) بتجديد في سياسة أمريكا بل وقوانينها تجاه الإنسان و"تجسد التجديد الحقيقي الذي قامت به إدارة بوش في الاستعانة بمصادر تعذيب داخلية، مع خضوع السجناء للتعذيب على أيدي مواطنين أمريكيين في سجون تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، أو نقلهم المباشر من خلال عملية نقل استثنائية إلى بلدان العالم الثالث على متن طائرات أمريكية؛ هذا ما يجعل نظام جورج بوش مختلفاً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث تجرأ النظام على المطالبة بحق التعذيب بدون حياء؛ الأمر الذي جعل الإدارة عرضة للمقاضاة الجنائية، ... إنّ سلسلة الأحداث واضحة جداً، فقد عمد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بتفويض من جورج بوش إلى سن قانون يعتبر السجناء المأسورين في أفغانستان غير خاضعين لاتفاقية جنيف؛ باعتبارهم مقاتلين معادين". قد يبدو للقارئ أنني أنتقد الرأسمالية بدلاً من الديمقراطية، وهو معذور في هذا، لكنني في الحقيقة أنتقد الديمقراطية من خلال هذا؛ لأكثر من سبب، أهم هذه الأسباب أن التحالف بين الأنظمة السياسية وبين الشركات العابرة للقارات تحت رعاية الديمقراطية واضح غاية الوضوح، وأمثلته على ذلك أكثر من أن تحصر، ولم يكن ريجان ولا مارغريت تاتشر اللذان سهّلا ويسّرا في ثمانينات القرن المنصرم وما بعده عملية التحول من الديمقراطية ذات المضامين الاجتماعية إلى النيوليبرالية والسوق الحرة ورفع يد الدولة تدريجياً عن الأنشطة الاقتصادية؛ لم يكونا أصحاب شركات عملاقة، وإنما كانا على قمة هرمي الحكم في أعتى دول الديمقراطية أمريكا وبريطانيا، ولقد صار مفضوحاً ما كان بين جورج دبليو بوش والرأسمالية من تعاون وتواطؤ لم يقف عند حدّ اختراع الحروب لتسويق السلاح حتى تعداه إلى الجذور؛ فلم يعد غريباً أن يقال: "ربما خسر جورج دبليو بوش في صندوق الانتخابات ولكنه ربح فيما يمكن الاعتماد عليه... سار الابن المحظوظ مباشرة نحو البيت الأبيض على خنزير محشو بما يقارب نصف مليار دولار... إنهم يدعونها انتخابات، ولا يبدو إلا أنها أكثر شبهاً بالمزاد". إنَّها لعبة كبيرة وأكذوبة كبرى، فالذي يملك تمويل الأحزاب والانتخابات هو الرأسمال؛ فهو إذن من يعين الحكام ولو بدا في ظاهر الأمر أن الناس يختارونهم، والذي يموّل الإعلام الذي يصنع الرأي العام هو الرأسمالي؛ فهو إذن من يصنع القرار الذي يخرج به الحكام على الناس، وإن بدا الأمر على غير ذلك الوجهه، ولم يعد خافياً على أحد أنّ: "وسائل الإعلام الرأسمالي تقوم بدور هو عكس الدور الذي توجبه المصلحة العامَّة". وإنَّ ما سعدت به الشعوب الأوربية من رفاه منغص وحريات مشوهة هو ما تبقى لها مما اكتسبته بثوراتها وبدماء الشهداء من أبنائها وظلت تحرسه طوال هذه العقود المتطاولة، وإنَّ التحالف بين الديمقراطية والرأسمالية هو في حقيقته الثورة المضادة التي ترخي مَوجها تارة وترفعه تارة أخرى لتفوت غضبة الشعوب وتسلم من شبح الثورات، أما الآن فالتحالف هذا على يقين من أن الشعوب لم تعد قادرة على أن تثور في وجه الدولة التي تغولت واحتكرت كل أدوات الإكراه الجبارة، ولعل التآمر على ثورات الربيع العربي جزء منه لمنع عدواها التي أوشكت أن تنتقل من القاهرة إلى قلب أمريكا حيث هتف الجمهور: "احتلوا وول استريت" على وزن: "اهدموا الباستيل". وإننا وشعوب العالم كله لنقف في خندق واحد ضد الاستبداد الذي يعشش تحت عباءة الديمقراطية، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
الأكذوبة الكبرى (3)
د. عطية عدلان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

لم أشهد فيمن كتبوا في الفكر السياسي الغربي دجالاً مثل (فوكوياما) في كتابه ذاك المسمى (نهاية التاريخ)، انظر إليه وهو يجدف بعبثية ووحشية؛ محاولاً إثبات أنّه إذا كان التقدم الفيزيائي أدى إلى الليبرالية الرأسمالية؛ فإنّ التقدم الاقتصادي الناتج عن هذه الليبرالية الرأسمالية قد أنتج الديمقراطية الليبرالية!. وانظر إلى الأنكى من ذلك وهو محاولته طوال كتابه الذي طال كليل المتضورين جوعاً بسبب تلك الرأسمالية الليبرالية؛ حيث قام باستقراء للساحة الدولية يعيبه الكثير من السطحية والعجلة لينتهي إلى الزعم الذي تقيأه مداداً في قراطيس، وهو أنَّ الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التاريخ وهي المنهج المثالي للإنسان الأخير!

عجباً لهذا الرجل ولمن يقرأ كتابه ثم لا يمزقه في وجهه! ألا يرون العالم يصرخ خوفاً على الديمقراطية من الرأسمالية؟! لقد بات جلياً أنَّ الخطر الأكبر على الديموقراطية ليس إلا الرأسمالية النيوليبرالية، "إنَّ عالماً فيه رئيس أمريكي يصدر القانون تلو القانون المحابي لمصالح الشركات الكبرى، ولروبرت ميردوخ فيه سلطان أقوى من سلطان توني بلير، وتضع الشركات الكبرى فيه الأجندة السياسية، إنما هو عالم مخيف وغير ديمقراطي"؛ فأين هي الرأسمالية التي تنتج ديمقراطية؟ ألم يتعرفوا على الطريقة التي يفكر بها المنظر الأول للنيوليبرالية والسوق الحرة والعولمة؟ انظروا إلى (ديمقراطيته!) المتجلية في كتاباته؛ حيث يقول بوقاحة: "وبذا يتضح تماماً أنّه من الممكن أن تقوم نظم اقتصادية رأسمالية بالدرجة الأولى في ظل نظم سياسية غير حرة"، وهذه الوقاحة ذاتها فلسفة ومنهج لدى هؤلاء جميعاً؛ بها قرروا أنَّ: "النظريات الرأسمالية تؤكد أنَّ تأثير المال أمر ديمقراطيّ في آخر تحليل؛ إذ إنَّ جميع الناس يستطيعون في ظل نظام التنافس أن يحصلوا على الثراء وأن يمارسوا به تأثيراً سياسياً، فذلك معنى الكلمة التي قالها (غيزو) رداً على أولئك الذين كانوا يعيبون على الأغنياء أنَّهم يحتكرون السلطة السياسية: (عليكم بالاغتناء)".

لقد غدا العالم كله منزعجاً مرتعداً يجري ويتلفت، وباتت الشعوب الغربية قبل غيرها تتقلب في براكين القلق على دولة الرفاه، والصحف تكتب عن مستقبل يتوجب على الناس أن يتهيأوا له بشد الأحزمة، ويطلق المفكرون والحقوقيون صفارات الإنذار "ويحلل العالم المختص بشئون المستقبل (جون نايزبت) واقع المجتمعات الصناعية، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشيّ مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي". كل هذا والسيد (فوكو) يبشرنا بأن سفينة الإنسانية سوف ترسو على شاطيء السعادة والرخاء: الليبرالية!!

الحقيقة الواقعية هي أنَّ الديمقراطية في خطر حقيقيّ "وبالنظر إلى ما هو راهن وإلى الإرهاصات المستشرفة لما سيكون؛ يتأكد أنّ المشروع النيوليبراليّ لا يهدف إلى تحرير الإنسان، بل إلى تحرير الرأسماليّ الاقتصاديّ من كل قيد، بما فيه قيد القيم، وتحجيم سلطة الدولة لتتصرف القوة الاقتصادية كما تشاء، ومن هنا فإنَّ النيوليبرالية ليس فيها شيء (نيو) "أي جديد"، بل هي رؤية تسعى لاستعادة البداية المتوحشة للنظام الرأسماليّ خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر؛ حيث كان للرأسمال كل الحق في طحن المعادن والبشر على حدٍّ سواء؛ من أجل نفخ حافظة النقود، فإطلاق السوق يقترن في التنظير النيوليبرالي مع مقولات لا إنسانية من قبيل ما يشيع في الخطاب النيوليبراليّ اليوم من أنَّ: (مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يطاق) و (أنَّ دولة الرفاه أصبحت تهدد المستقبل، وأنَّها كانت مجرد تنازل من جانب الرأسمال إبان الحرب الباردة، وأنَّ هذا التنازل لم يعد له الآن ما يبرره بعد انتهاء هذه الحرب) والقول: (بأنَّ شيئاً من غير المساواة بات أمراً لا مناص منه)".

وليس في قلوب هؤلاء الذين سقطت الديمقراطية بكل أحلامها في أكفهم مثقال ذرة من رحمة، لو استطاعوا أن يبيعوا البشر قطع غيار لكائنات من كواكب أخرى لفعلوا ولما تورعوا، انظر إليهم وهم يستغلون قوت الناس كسلاح استراتيجي يضربون به الأنظمة التي لا تعمل بمبدأ حرية السوق: "ويمضي (براون) في حديثه قائلاً: قبل أيام قليلة التقى في واشنطن العاصمة خبراء في الزراعة والمناخ، وكذلك خبراء مختصون في تحليل ما تبثه الأقمار الصناعية من صور، وبعد أن وصل الجميع إلى ردهة تقع في الطرف الجنوبيّ من وزارة الزراعة الأمريكية أقفل أحد الحراس المسلحين باباً حديدياً سميكاً من خلفهم، وكانت الاتصالات الخارجية سواء بأجهزة التليفون أو بأجهزة الكمبيوتر قد فصلت عن القاعة التي فيها الخبراء، كما أسدلت الستائر بحيث لم يعد بإمكان أحد رؤية العالم الخارجيّ، وهكذا وفي عزلة تامة عن العالم الخارجيّ راح المجتمعون على مدى ليلة كاملة يمعنون النظر بفيض المعلومات المستقاة من المجالات المختلفة ويقارنون بعضها بالبعض الآخر، وكان هذا اللقاء الذي يذكر المرء بأساليب أجهزة المخابرات وبأفلام المافيا يتمحور حول سلاح من المحتمل أن يستخدم في سنوات معدودة من غير هوادة، إنَّه الاحتياطيّ العالميّ من الحبوب".

ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ حتى تصبح كل مكتسبات الشعوب في ثوراتها التي دفعت فيها أعزّ ما لديها من المهج والأرواح ثم بسطت الديمقراطية يمينها عليها وضمتها إليها وعَدَّتها كذباً وزوراً من ثمراتها؛ تصبح في مهب الرياح العاتية، فجميع الحريات وجميع الحقوق السياسية والمدنية، بل وحق الحياة، صارت كلها مهددة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية الحليف القديم الجديد للديمقراطية، فانظر كيف تراجعت في أمريكا حاملة لواء حقوق الإنسان جميع حقوق الإنسان؟! لقد قام جورج دبليو بوش (وعائلة بوش إحدى العائلات التي بينها وبين الشركات العملاقة عقود وعهود) بتجديد في سياسة أمريكا بل وقوانينها تجاه الإنسان و"تجسد التجديد الحقيقي الذي قامت به إدارة بوش في الاستعانة بمصادر تعذيب داخلية، مع خضوع السجناء للتعذيب على أيدي مواطنين أمريكيين في سجون تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، أو نقلهم المباشر من خلال عملية نقل استثنائية إلى بلدان العالم الثالث على متن طائرات أمريكية؛ هذا ما يجعل نظام جورج بوش مختلفاً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث تجرأ النظام على المطالبة بحق التعذيب بدون حياء؛ الأمر الذي جعل الإدارة عرضة للمقاضاة الجنائية، ... إنّ سلسلة الأحداث واضحة جداً، فقد عمد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بتفويض من جورج بوش إلى سن قانون يعتبر السجناء المأسورين في أفغانستان غير خاضعين لاتفاقية جنيف؛ باعتبارهم مقاتلين معادين".

قد يبدو للقارئ أنني أنتقد الرأسمالية بدلاً من الديمقراطية، وهو معذور في هذا، لكنني في الحقيقة أنتقد الديمقراطية من خلال هذا؛ لأكثر من سبب، أهم هذه الأسباب أن التحالف بين الأنظمة السياسية وبين الشركات العابرة للقارات تحت رعاية الديمقراطية واضح غاية الوضوح، وأمثلته على ذلك أكثر من أن تحصر، ولم يكن ريجان ولا مارغريت تاتشر اللذان سهّلا ويسّرا في ثمانينات القرن المنصرم وما بعده عملية التحول من الديمقراطية ذات المضامين الاجتماعية إلى النيوليبرالية والسوق الحرة ورفع يد الدولة تدريجياً عن الأنشطة الاقتصادية؛ لم يكونا أصحاب شركات عملاقة، وإنما كانا على قمة هرمي الحكم في أعتى دول الديمقراطية أمريكا وبريطانيا، ولقد صار مفضوحاً ما كان بين جورج دبليو بوش والرأسمالية من تعاون وتواطؤ لم يقف عند حدّ اختراع الحروب لتسويق السلاح حتى تعداه إلى الجذور؛ فلم يعد غريباً أن يقال: "ربما خسر جورج دبليو بوش في صندوق الانتخابات ولكنه ربح فيما يمكن الاعتماد عليه... سار الابن المحظوظ مباشرة نحو البيت الأبيض على خنزير محشو بما يقارب نصف مليار دولار... إنهم يدعونها انتخابات، ولا يبدو إلا أنها أكثر شبهاً بالمزاد".

إنَّها لعبة كبيرة وأكذوبة كبرى، فالذي يملك تمويل الأحزاب والانتخابات هو الرأسمال؛ فهو إذن من يعين الحكام ولو بدا في ظاهر الأمر أن الناس يختارونهم، والذي يموّل الإعلام الذي يصنع الرأي العام هو الرأسمالي؛ فهو إذن من يصنع القرار الذي يخرج به الحكام على الناس، وإن بدا الأمر على غير ذلك الوجهه، ولم يعد خافياً على أحد أنّ: "وسائل الإعلام الرأسمالي تقوم بدور هو عكس الدور الذي توجبه المصلحة العامَّة".

وإنَّ ما سعدت به الشعوب الأوربية من رفاه منغص وحريات مشوهة هو ما تبقى لها مما اكتسبته بثوراتها وبدماء الشهداء من أبنائها وظلت تحرسه طوال هذه العقود المتطاولة، وإنَّ التحالف بين الديمقراطية والرأسمالية هو في حقيقته الثورة المضادة التي ترخي مَوجها تارة وترفعه تارة أخرى لتفوت غضبة الشعوب وتسلم من شبح الثورات، أما الآن فالتحالف هذا على يقين من أن الشعوب لم تعد قادرة على أن تثور في وجه الدولة التي تغولت واحتكرت كل أدوات الإكراه الجبارة، ولعل التآمر على ثورات الربيع العربي جزء منه لمنع عدواها التي أوشكت أن تنتقل من القاهرة إلى قلب أمريكا حيث هتف الجمهور: "احتلوا وول استريت" على وزن: "اهدموا الباستيل".

وإننا وشعوب العالم كله لنقف في خندق واحد ضد الاستبداد الذي يعشش تحت عباءة الديمقراطية، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
‏٢٨‏/١٠‏/٢٠١٨ ٨:٣٧ م‏
القوة المفترى عليها د. مجدي شلش [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] أصبح اللفظ مقهوراً ومظلوماً من بعض أبناء القرآن والسنة، إذا ذُكر أمام البعض من أبناء الحركات الإسلامية فهو مرادف العنف والإرهاب، بل البعض يهدد من يستعمل اللفظ بالويل والثبور وعظائم الأمور. مصطلح قرآني ونبوي شِئنا أم أبينا، التنصل منه رغباً أو رهباً لن يهدمه أو يقلل من شأنه، سواء بمعناه الأخص وهو القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، أو الأعم وهو كل ما تعنيه كلمة القوة . الواقع الآن ظاهر أمام الكل، حيث لا سياسة ولا حرية ولا معارضة، ولا مصالحة، الكل مغلق أمام الكل، وبالرغم من ذلك ترى البعض يستخدم لفظ المعارضة، وترك لفظ الثورة، وأصبحت قنواتنا الفضائية قنوات معارضة، وكأن في مصر سياسة. بعض المتصدرين من السياسيين وغيرهم، نسي أو تناسى لفظ الثورة، وعبر عن نفسه بالمعارض، وكأن في مصر حرية ونظاماً منتخباً بطريقة شعبية، تقابله معارضة لبعض سياساته أو أهدافه، إنها الخديعة للذات، وتسمية الأشياء بغير معناها الحقيقي وهذا هو التدليس والتخريف بعينه. منتهى أمل الانقلابيين وقت عنفوان الثورة أن تتحول إلى جو سياسي شكلي تديره المخابرات من تحت المنضدة، ونجحوا في ذلك، من بداية التعديلات الدستورية حتى الانقلاب الخشن الذي أتى علي السياسة والثورة معاً. البديل هو العنف أو القتل أو نموذج سوريا او العراق أو اليمن! هذه مقولة البعض، ثنائية بغيضة إما أن تستسلم وتُقتل ونسميك بالشهيد ولك أجرك عند الله، وإما أن تُوصف بالعنف أو الإرهاب أو استحلال الدماء، عقول قاصرة، وقلوب جعلت من الأقزام جبالاً وكباراً، وخشيت الناس أشد خشية من الله. ينبت البقل والقُمَّل في جدار هذا الواقع الأليم، ويستخدم لفظ القوة بغير معناه الصحيح، لأن أصحاب العقل والرشد تخلوا عن معناه الصحيح، فأصبح اللفظ نهباً لكل ناعق، أو زاعق، وما داعش المصنوعة بأيدي الأعداء عنا ببعيد. العيب ليس في مصطلح القوة، إنما العيب لمن ترك الميدان تلعب فيه الغربان، وتشوه صورة المصطلح أمام الناس، حتى يكون محلاً للغربة والنفور والاشمئزاز. القوة التي أقصدها ليست محصورة في قوة الإيمان، وإن كانت هي الضابط والأساس لكل قوة تأتي بعدها، وليس قوة الوحدة والارتباط، وإن كانت فريضة وضرورة حتى لا يتصدع البنيان من داخله، وإنما قصدت بها كل مشتملاتها، والتي منها قوة الساعد والسلاح. بنيان فريضة القوة ليس متوقفاً على وجود عدو من الأصل، فهي مطلوبة حالة السلم والأمن أكثر من حالة الظلم والقهر، القوة أمان من غدر الخائن، وحقد الصائل، وكبر المستبد، إن لم تكن قوياً أكلك الضغفاء والحثالة من البشر، القوة في ذاتها تحدث حالة من توازن الخوف بين الأشقاء والأعداء سواء بسواء. نعم محاذير القوة كثيرة، لكن شبابنا الذي اتهم من أقرب الأقربين بالعنف والإرهاب، وبالتصفية من البغاة والخوارج من الانقلابيين المحتلين، أكثر وعياً وإدراكاً لحقيقة الصراع من كبار رضوا أن يكونوا مع الخوالف، وعيشاً ذليلاً تحت وطأة وأقدام الطغاة. السياسة هي الحل الأوحد مقولة في نظري أعطت الغطاء للبغاة أن يكونوا أشد بغياً وطغياناً، وللخوارج أن يكونوا أشد عبثاً بمقدرات الأمة وقتلاً لشبابها وعلمائها، وسجناً لشيوخها ورجالها ونسائها. "كن عبد الله المقتول يا أخي ولا تكن عبد الله القاتل"، مقولة تشبه كلام (المداخلة) الذين يعظمون الحكام من دون الله، تُلقى بغير وعي ولا فقه ولا علم، فهذه المقولة إن صحت في حالة إلا إنها ليست قانوناً عاماً في حكم الأفراد والمجتمعات والدول، وإلا لضاعت الحقوق، وترسخ الظلم باسم الدين، وهذا نتيجة الإفتاء بغير علم للتعميم في حالة التخصيص والعكس. "نفدي الأمة بدمائنا وأعراضنا وأموالنا حتى لو قتلنا جميعاً"، كلام ينسبه البعض للإمام البنا رحمه الله ورضى عنه، وكأننا نعيش ليقتلنا الطغاة والمستبدون، ونحيا لنذبح ونُسلخ على يد الجزارين الانقلابيين، كلام يؤدي معناه الظاهري إلى ترسيخ الاستبداد وعلو الطغاة، وأدبيات الأستاذ البنا رحمه الله كثيرة وواضحة في بنيان فريضة القوة كفريضة الأخوة. "القتال ما شُرع إلا لجهاد الكفار وهؤلاء عصاة لا يجوز قتالهم"، كلام لا يصدر إلا عن جاهل بالشريعة، الأصل في الجهاد أنه لم يشرع لحقيقة الكفر، وإلا كان كل كافر بالله وجب قتله وهذا باطل بيقين، إنما فكرة الجهاد أسست على الظلم والطغيان والاستبداد، وقع من الكفار أو من البغاة أو من الخوارج أو من الذين حاربوا الله ورسوله أو من صال ضد الأمن والأمان. حالة من التلبيس والتدليس تمرر في واقع صعب أليم باسم الدين والمصلحة أو اجتهاد البعض، وهو ليس من أهل الاجتهاد، نعم استعمال القوة بكل مفرداتها له زمنه ورجاله وإعداده، قد لا تكون موجودة الآن، وهذا من باب السياسة والمصلحة في اختيار الوقت المناسب والأشخاص الجديرة للمهمة، لكن لا تشوهوا المصطلح من أساسه، وتلغيه من قاموسك، فهذا عدوان عليه أو تفريغ لمضمونه. القوة ليس معناها استباحة الدماء لكل معارض أو مشاكس، إنما قوة الحماية التي تجعل عدوك وصديقك يحسب لكل ألف حساب عند العدوان عليك، أو على مقدرات الأمة، أو على اختيارها، أما أن تترك نفسك لأبناء اللقيطة والسقيطة لينالوا من شرفك وعرض ودمك فأنت مريض بالدنيا وهواها ودناياها. أعلم أن الأمر ليس هيناً وليس فيه دعوة للتهور إنما كل ما أقصده أن لا نفتري على الله الكذب بعلم أو جهل، فهذا من أكبر الكبائر، ونقول السياسة هي الحل الأوحد، نعم أنا معك لو كان هناك ثقب إبرة تحقن به الدماء لوجب علينا النفوذ منه للحل، أما وإن الطرق كلها قد سدت، فاجمع أهل الحل والعقد لحل آخر ولا تستبعد خياراً مشروعاً من دين وقانون وعقل ومنطق صحيح . "انتظار الفرج عبادة"، و"الصبر على البلاء أو الابتلاء فريضة، والنصر واقع لا محالة، كلها كلمات طيبة وصحيحة لكن مع الجد والعمل والأخذ بالأسباب، فليس هناك نصر لا يمهد له بحق وقوة، وليس هناك ثواب على صبر معناه الاستسلام والركون إلى الذين ظلموا واستجداء العيش معهم بأي حياة، والفرج يأتي مع النشاط وجمع الجهود وتأليف القلوب، لا مع التثبيط والتبريد. نعم دخول معارك غير محسوبة خلل وانحراف وتهور، وترك الميدان والاكتفاء بالكلام والسياسة خديعة وتدليس، خطابي للأمة كلها وقد شبت بالإسلام قوية، وقويت بالإيمان فتية، وتحرر كثير من أبنائها من عبادة الحكام والزعماء والأشخاص، وأصبح ميدان العمل واسعاً، وفرص النجاح مع الجهد والإخلاص قريبة، {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا}. استعمال القوة لا يحدده أفراد مهما كانوا، ولا بعض الجماعات حتى ولو بالأعداد قد كثروا، ولا بعض القادة وإن عقلوا وفهموا، إنما تحدده مؤسسات حقيقية شورية درست الواقع وأبعاده الداخلية والخارجية، لسنا في نزهة من الوقت، العدو لا ينام، وهو يألم كما نألم وأشد؛ لأنه لا يرجو من الله ما نرجوه ونحب.
القوة المفترى عليها

د. مجدي شلش

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

أصبح اللفظ مقهوراً ومظلوماً من بعض أبناء القرآن والسنة، إذا ذُكر أمام البعض من أبناء الحركات الإسلامية فهو مرادف العنف والإرهاب، بل البعض يهدد من يستعمل اللفظ بالويل والثبور وعظائم الأمور.

مصطلح قرآني ونبوي شِئنا أم أبينا، التنصل منه رغباً أو رهباً لن يهدمه أو يقلل من شأنه، سواء بمعناه الأخص وهو القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، أو الأعم وهو كل ما تعنيه كلمة القوة .

الواقع الآن ظاهر أمام الكل، حيث لا سياسة ولا حرية ولا معارضة، ولا مصالحة، الكل مغلق أمام الكل، وبالرغم من ذلك ترى البعض يستخدم لفظ المعارضة، وترك لفظ الثورة، وأصبحت قنواتنا الفضائية قنوات معارضة، وكأن في مصر سياسة.

بعض المتصدرين من السياسيين وغيرهم، نسي أو تناسى لفظ الثورة، وعبر عن نفسه بالمعارض، وكأن في مصر حرية ونظاماً منتخباً بطريقة شعبية، تقابله معارضة لبعض سياساته أو أهدافه، إنها الخديعة للذات، وتسمية الأشياء بغير معناها الحقيقي وهذا هو التدليس والتخريف بعينه.

منتهى أمل الانقلابيين وقت عنفوان الثورة أن تتحول إلى جو سياسي شكلي تديره المخابرات من تحت المنضدة، ونجحوا في ذلك، من بداية التعديلات الدستورية حتى الانقلاب الخشن الذي أتى علي السياسة والثورة معاً.

البديل هو العنف أو القتل أو نموذج سوريا او العراق أو اليمن! هذه مقولة البعض، ثنائية بغيضة إما أن تستسلم وتُقتل ونسميك بالشهيد ولك أجرك عند الله، وإما أن تُوصف بالعنف أو الإرهاب أو استحلال الدماء، عقول قاصرة، وقلوب جعلت من الأقزام جبالاً وكباراً، وخشيت الناس أشد خشية من الله.

ينبت البقل والقُمَّل في جدار هذا الواقع الأليم، ويستخدم لفظ القوة بغير معناه الصحيح، لأن أصحاب العقل والرشد تخلوا عن معناه الصحيح، فأصبح اللفظ نهباً لكل ناعق، أو زاعق، وما داعش المصنوعة بأيدي الأعداء عنا ببعيد.

العيب ليس في مصطلح القوة، إنما العيب لمن ترك الميدان تلعب فيه الغربان، وتشوه صورة المصطلح أمام الناس، حتى يكون محلاً للغربة والنفور والاشمئزاز.

القوة التي أقصدها ليست محصورة في قوة الإيمان، وإن كانت هي الضابط والأساس لكل قوة تأتي بعدها، وليس قوة الوحدة والارتباط، وإن كانت فريضة وضرورة حتى لا يتصدع البنيان من داخله، وإنما قصدت بها كل مشتملاتها، والتي منها قوة الساعد والسلاح.

بنيان فريضة القوة ليس متوقفاً على وجود عدو من الأصل، فهي مطلوبة حالة السلم والأمن أكثر من حالة الظلم والقهر، القوة أمان من غدر الخائن، وحقد الصائل، وكبر المستبد، إن لم تكن قوياً أكلك الضغفاء والحثالة من البشر، القوة في ذاتها تحدث حالة من توازن الخوف بين الأشقاء والأعداء سواء بسواء.

نعم محاذير القوة كثيرة، لكن شبابنا الذي اتهم من أقرب الأقربين بالعنف والإرهاب، وبالتصفية من البغاة والخوارج من الانقلابيين المحتلين، أكثر وعياً وإدراكاً لحقيقة الصراع من كبار رضوا أن يكونوا مع الخوالف، وعيشاً ذليلاً تحت وطأة وأقدام الطغاة.

السياسة هي الحل الأوحد مقولة في نظري أعطت الغطاء للبغاة أن يكونوا أشد بغياً وطغياناً، وللخوارج أن يكونوا أشد عبثاً بمقدرات الأمة وقتلاً لشبابها وعلمائها، وسجناً لشيوخها ورجالها ونسائها.

"كن عبد الله المقتول يا أخي ولا تكن عبد الله القاتل"، مقولة تشبه كلام (المداخلة) الذين يعظمون الحكام من دون الله، تُلقى بغير وعي ولا فقه ولا علم، فهذه المقولة إن صحت في حالة إلا إنها ليست قانوناً عاماً في حكم الأفراد والمجتمعات والدول، وإلا لضاعت الحقوق، وترسخ الظلم باسم الدين، وهذا نتيجة الإفتاء بغير علم للتعميم في حالة التخصيص والعكس.

"نفدي الأمة بدمائنا وأعراضنا وأموالنا حتى لو قتلنا جميعاً"، كلام ينسبه البعض للإمام البنا رحمه الله ورضى عنه، وكأننا نعيش ليقتلنا الطغاة والمستبدون، ونحيا لنذبح ونُسلخ على يد الجزارين الانقلابيين، كلام يؤدي معناه الظاهري إلى ترسيخ الاستبداد وعلو الطغاة، وأدبيات الأستاذ البنا رحمه الله كثيرة وواضحة في بنيان فريضة القوة كفريضة الأخوة.

"القتال ما شُرع إلا لجهاد الكفار وهؤلاء عصاة لا يجوز قتالهم"، كلام لا يصدر إلا عن جاهل بالشريعة، الأصل في الجهاد أنه لم يشرع لحقيقة الكفر، وإلا كان كل كافر بالله وجب قتله وهذا باطل بيقين، إنما فكرة الجهاد أسست على الظلم والطغيان والاستبداد، وقع من الكفار أو من البغاة أو من الخوارج أو من الذين حاربوا الله ورسوله أو من صال ضد الأمن والأمان.

حالة من التلبيس والتدليس تمرر في واقع صعب أليم باسم الدين والمصلحة أو اجتهاد البعض، وهو ليس من أهل الاجتهاد، نعم استعمال القوة بكل مفرداتها له زمنه ورجاله وإعداده، قد لا تكون موجودة الآن، وهذا من باب السياسة والمصلحة في اختيار الوقت المناسب والأشخاص الجديرة للمهمة، لكن لا تشوهوا المصطلح من أساسه، وتلغيه من قاموسك، فهذا عدوان عليه أو تفريغ لمضمونه.

القوة ليس معناها استباحة الدماء لكل معارض أو مشاكس، إنما قوة الحماية التي تجعل عدوك وصديقك يحسب لكل ألف حساب عند العدوان عليك، أو على مقدرات الأمة، أو على اختيارها، أما أن تترك نفسك لأبناء اللقيطة والسقيطة لينالوا من شرفك وعرض ودمك فأنت مريض بالدنيا وهواها ودناياها.

أعلم أن الأمر ليس هيناً وليس فيه دعوة للتهور إنما كل ما أقصده أن لا نفتري على الله الكذب بعلم أو جهل، فهذا من أكبر الكبائر، ونقول السياسة هي الحل الأوحد، نعم أنا معك لو كان هناك ثقب إبرة تحقن به الدماء لوجب علينا النفوذ منه للحل، أما وإن الطرق كلها قد سدت، فاجمع أهل الحل والعقد لحل آخر ولا تستبعد خياراً مشروعاً من دين وقانون وعقل ومنطق صحيح .

"انتظار الفرج عبادة"، و"الصبر على البلاء أو الابتلاء فريضة، والنصر واقع لا محالة، كلها كلمات طيبة وصحيحة لكن مع الجد والعمل والأخذ بالأسباب، فليس هناك نصر لا يمهد له بحق وقوة، وليس هناك ثواب على صبر معناه الاستسلام والركون إلى الذين ظلموا واستجداء العيش معهم بأي حياة، والفرج يأتي مع النشاط وجمع الجهود وتأليف القلوب، لا مع التثبيط والتبريد.

نعم دخول معارك غير محسوبة خلل وانحراف وتهور، وترك الميدان والاكتفاء بالكلام والسياسة خديعة وتدليس، خطابي للأمة كلها وقد شبت بالإسلام قوية، وقويت بالإيمان فتية، وتحرر كثير من أبنائها من عبادة الحكام والزعماء والأشخاص، وأصبح ميدان العمل واسعاً، وفرص النجاح مع الجهد والإخلاص قريبة، {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا}.

استعمال القوة لا يحدده أفراد مهما كانوا، ولا بعض الجماعات حتى ولو بالأعداد قد كثروا، ولا بعض القادة وإن عقلوا وفهموا، إنما تحدده مؤسسات حقيقية شورية درست الواقع وأبعاده الداخلية والخارجية، لسنا في نزهة من الوقت، العدو لا ينام، وهو يألم كما نألم وأشد؛ لأنه لا يرجو من الله ما نرجوه ونحب.
‏٢٦‏/١٠‏/٢٠١٨ ٧:١٩ م‏
أهمية العمل وترك العجز* د. محمد موسى الشريف (فك الله أسره) [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] إن العمل على رفعة دين الله والتمكين له في الأرض أمر جليل عظيم، وهو عمل الأنبياء والمرسلين والمصلحين، في قافلة نورانية طويلة من لدن آدم حتى تقوم الساعة، وإن الملتحق بهذه القافلةِ لحائز على شرف عظيم، والمتخلف عنهم قد فاته خير كثير. والله – تعالى – يكافئ العاملين مكافأة عظيمة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيثبتهم وينصرهم، ويربط على قلوبهم ويثبتهم، وينير دربهم، ويطرد وسواس الشيطان عنهم. قال تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). وأما في الآخرة فإن الدرجات العاليةَ مقصورة عليهم، ومرافقةَ الأنبياء مكافأة لهم، وتكرر النظر إلى وجه الله الكريم أعظم نعيم يتنعمون به في الجنة. وينبغي أن يُعلم أن العامل إنما يعمل لنفسه كسباً للحسنات ورفعة في الدرجات، والعاجز إنما جنى على نفسه تفريطاً في الحسنات ودنواً في الدرجات. قال الله – تعالى - : (ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون). والعامل يكافئه الله – تعالى – ويرى نتيجة عمله ويبشر بها في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). والعاجز يظل حياته بين كسل وملل، ووساوس وشبهات، واعتراضات وانتقادات حتى يدركه الموت وهو على ذلك. والعامل هو الذي يملي على التاريخ ما يسطره، ويرغمه أن يفسح صفحات من أسفاره لكتابة سيرته وتسطير مآثره، أما العاجز من الثقات فإنه يعيش على هامش التاريخ لا يعرف كيف يقرأ أحداثه ويستفيد منها بله أن يؤثر فيها، يظل قابعاً في مكانه حتى يأتيه الموت لا يعرفه أحد ولا تبكي عليه السموات والأرض. والناظر في أحداث التاريخ منذ آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى يومنا هذا فإنه يجزم أن لا مكان فيه للعاجز القابع، وأن الثقات العاملين في سباق وتنافس للوصول إلى الغاية العليا وهي رضى الله تبارك وتعالى. وسأذكر جوانب توضح مدى أهمية استغلال العمر الذي نعيشه في دنيانا، وأنه إن غفلنا وعجزنا عن استثماره فسيفوتنا خير كثير كثير. الناظر في أحوال المسلمين اليوم يقدر أن أكثر الصالحين العاملين لم يلتزم طريق الصلاح ويفقهه إلا في حدود سن العشرين، تقل قليلاً أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك أنه قد فات عليه ثلث عمره تقريباً فلم يستفد منه الاستفادة المرجوة، وهذا بناء على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين)). وهذا مشاهد ملحوظ، فلنفرض جدلاً أن رجلاً صالحاً من الناس سيعيش ستين سنة في هذه الدار، إذا لا يتبقى من عمره إلا أربعون، وهذه الأربعون تمضي كالتالي، وهو الغالب، ولكل ما ذكرته أو سأذكره في هذه الفقرة استثناءات لا تشوش على الأصل: أولاً: يمضي ثلثها في النوم، وهذا ديدن أكثر الناس، وهناك أناس ينامون اثنتي عشرة ساعة في اليوم – والعياذ بالله – أي نصف حياتهم، وهناك من ينام أقل من ثمان ساعات وهذا قليل. ومعنى هذا أنه قد نقص من الأربعين ثلاثة عشرة عاماً ونيف. ثانياً: يمضي ثلثها في العمل، وهذا للمعتدل أيضاً؛ إذ بعض الناس يعملون عملين أو أكثر، وعلى هذا – أي عَمَلُ ثلث الوقت – ينقص من الأربعين ثلاثة عشر عاماً أخرى ونيفاً. ثالثاً: وعلى هذا التفصيل السابق يتبقى للإنسان الذي يعيش ستين عاماً ثلاثة عشر عاماً تقريباً فقط يقضي فيها فرائضه الدينية وشؤونه الدنيوية من زواج ورعاية أولاد، وزيارة أقارب وأصدقاء، وطعام وشراب، وذهاب إلى أماكن النزه والأسواق ... إلخ. فكم يتبقى له للتنافس مع المتنافسين في شؤون الآخرة والتسابق إلى نعيمها؟ لهذا كان السلف يقلِّلون ساعات النوم والعمل وقضاء الحاجات حتى يتوفر لهم وقت أكبر بكثير مما ذكرته، والله أعلم. وسيرة الإمام النووي رحمه الله – تعالى – سيرة عطرة عظيمة تصلح للتمثيل على حال سلفنا في استغلال الزمان في الأعمال الصالحة وعلى تقليلهم الطعام والشراب والعمل والنوم حتى يتبقى لهم أوقات عظيمة يستثمرونها في طاعة الله تعالى. لما انتقل رحمه الله تعالى من بلدته نَوَى إلى دمشق اجتهد في مسابقة الزمان، حيث ظل سنتين كاملتين لم يضع جنبه على الأرض بل ينام متكئاً على كتبه، ولم يزل يشتغل بالعلم، ويتعبد العبادة العظيمة من صلاة ليل وصيام دهر مع الزهد والورع بل التزام دقائق الورع، وعدم إضاعة شيء من الأوقات، فقد كان يدرس كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا من غلبة، وضبط أوقاته. وكان يقول: ((إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه)). وقد قدم له رجل من أصحابه خيارة مقشرة فامتنع من أكلها وقال: ((أخشى أن ترطب جسمي فأنام)). ((وكان لا يأكل في اليوم والليلة سوى أكلة واحدة بعد عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر)). و ((كان يأكل من خبز يبعثه له أبوه من نوى يخبزونه له ويسيِّرون له ما يكفيه جمعة فيأكله، ولا يأكل معه سوى لون واحد، إما دبس وإما خل وإما زيت، وأما اللحم ففي كل شهر مرة، ولا يكاد يجمع بين لونين من إدام أبداً)). وبالجملة فقد كان عديم ((الرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك رعونات النفس... قليل الضحك، عديم اللعب، بل هو جدٌ صرف، يقول الحق وإن كان مراً، لا يخاف في الله لومة لائم)). أرأيت – أخي القارئ – كيف يستفيد الصالحون من زمانهم بل يسابقونه، مسابقة، وما ذاك إلا لأنهم عرفوا قيمة الزمان وقصره فاستفادوا منه أحسن استفادة. وقد اكتفيت ببعض سيرة الإمام النووي مثالاً لما أردت إيراده، وفي السلف عشرات من أصحاب الهمم أمثاله، رحمهم الله تعالى جميعاً. وأورد مثالاً قريباً منّا، وهو الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري، فقد عكف منذ بلغ السابعة على القرآن فحفظه، ثم حفظ كثيراً من المتون في الأصول والحديث، واللغة والبلاغة، ودواوين الشعر، وتصدر للأستاذية منذ بلوغه الرابعة عشر من عمره، وارتحل إلى مصر والحجاز وبلاد الشام واغترف من بحور علمائها، خاصة في المدينة المنورة حيث وضع دعائم جمعية علماء المسلمين الجزائريين هو والشيخ ابن باديس، وكان ذلك سنة 1913، ثم لم تنشأ إلا في سنة 1931 لتكون شوكة في حلوق الفرنسيين، وكان قد تصدر للتدريس في وهران إحدى مدن الجزائر الكبيرة حيث كان يلقي عشر دروس في اليوم الواحد من صلاة الفجر إلى العشاء، ثم ينقلب إلى بعض النوادي الجامعة بعد صلاة العشاء ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وبنى بهمته 400 مدرسة إسلامية ومائتي مسجد للصلوات والمحاضرات مما أفزع المستعمر فنفاه إلى الصحراء، ثم عاد من منفاه ليرأس جمعية العلماء بعد وفاة ابن باديس فحمل المهمة الضخمة، وواصل الليل بالنهار دون نوم في أحيان متعددة، وبعث الهمة في أبناء الجزائر، وبنى المعاهد والمدارس التي كانت تقدم جنود الاستقلال بعد ذلك، ورأى ثمرة جهاده استقلالاً للجزائر سنة 1962 ليحلق بربه راضياً سعيداً سنة 1965، رحمه الله تعالى. نعم قد يقال إن الإسلام دين شامل؛ فالعمل عبادة، والنوم بنية صالحة عبادة، وهذا صحيح لكني أردت في هذه الفقرة بيان قصر الزمان، وقلة المتبقي منه – بعد قضاء الحاجات الإنسانية من عمل ونوم – للتنافس على الدرجات العالية، وذلك لأن النية الصالحة قد يشترك فيها أكثر الناس، لكن الاستفادة الحقة من الأوقات قد يغفل عنها أكثر الثقات، والله المستعان. __________________________ * مقال مقتطف من كتاب عجز الثقات، ص21 وما بعدها، ط: دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة، 1998.
أهمية العمل وترك العجز*

د. محمد موسى الشريف (فك الله أسره)

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

إن العمل على رفعة دين الله والتمكين له في الأرض أمر جليل عظيم، وهو عمل الأنبياء والمرسلين والمصلحين، في قافلة نورانية طويلة من لدن آدم حتى تقوم الساعة، وإن الملتحق بهذه القافلةِ لحائز على شرف عظيم، والمتخلف عنهم قد فاته خير كثير.

والله – تعالى – يكافئ العاملين مكافأة عظيمة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيثبتهم وينصرهم، ويربط على قلوبهم ويثبتهم، وينير دربهم، ويطرد وسواس الشيطان عنهم.

قال تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).

وأما في الآخرة فإن الدرجات العاليةَ مقصورة عليهم، ومرافقةَ الأنبياء مكافأة لهم، وتكرر النظر إلى وجه الله الكريم أعظم نعيم يتنعمون به في الجنة.

وينبغي أن يُعلم أن العامل إنما يعمل لنفسه كسباً للحسنات ورفعة في الدرجات، والعاجز إنما جنى على نفسه تفريطاً في الحسنات ودنواً في الدرجات.

قال الله – تعالى - : (ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون).

والعامل يكافئه الله – تعالى – ويرى نتيجة عمله ويبشر بها في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

والعاجز يظل حياته بين كسل وملل، ووساوس وشبهات، واعتراضات وانتقادات حتى يدركه الموت وهو على ذلك.

والعامل هو الذي يملي على التاريخ ما يسطره، ويرغمه أن يفسح صفحات من أسفاره لكتابة سيرته وتسطير مآثره، أما العاجز من الثقات فإنه يعيش على هامش التاريخ لا يعرف كيف يقرأ أحداثه ويستفيد منها بله أن يؤثر فيها، يظل قابعاً في مكانه حتى يأتيه الموت لا يعرفه أحد ولا تبكي عليه السموات والأرض.

والناظر في أحداث التاريخ منذ آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى يومنا هذا فإنه يجزم أن لا مكان فيه للعاجز القابع، وأن الثقات العاملين في سباق وتنافس للوصول إلى الغاية العليا وهي رضى الله تبارك وتعالى.

وسأذكر جوانب توضح مدى أهمية استغلال العمر الذي نعيشه في دنيانا، وأنه إن غفلنا وعجزنا عن استثماره فسيفوتنا خير كثير كثير.

الناظر في أحوال المسلمين اليوم يقدر أن أكثر الصالحين العاملين لم يلتزم طريق الصلاح ويفقهه إلا في حدود سن العشرين، تقل قليلاً أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك أنه قد فات عليه ثلث عمره تقريباً فلم يستفد منه الاستفادة المرجوة، وهذا بناء على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين)).

وهذا مشاهد ملحوظ، فلنفرض جدلاً أن رجلاً صالحاً من الناس سيعيش ستين سنة في هذه الدار، إذا لا يتبقى من عمره إلا أربعون، وهذه الأربعون تمضي كالتالي، وهو الغالب، ولكل ما ذكرته أو سأذكره في هذه الفقرة استثناءات لا تشوش على الأصل:

أولاً: يمضي ثلثها في النوم، وهذا ديدن أكثر الناس، وهناك أناس ينامون اثنتي عشرة ساعة في اليوم – والعياذ بالله – أي نصف حياتهم، وهناك من ينام أقل من ثمان ساعات وهذا قليل.

ومعنى هذا أنه قد نقص من الأربعين ثلاثة عشرة عاماً ونيف.

ثانياً: يمضي ثلثها في العمل، وهذا للمعتدل أيضاً؛ إذ بعض الناس يعملون عملين أو أكثر، وعلى هذا – أي عَمَلُ ثلث الوقت – ينقص من الأربعين ثلاثة عشر عاماً أخرى ونيفاً.

ثالثاً: وعلى هذا التفصيل السابق يتبقى للإنسان الذي يعيش ستين عاماً ثلاثة عشر عاماً تقريباً فقط يقضي فيها فرائضه الدينية وشؤونه الدنيوية من زواج ورعاية أولاد، وزيارة أقارب وأصدقاء، وطعام وشراب، وذهاب إلى أماكن النزه والأسواق ... إلخ. فكم يتبقى له للتنافس مع المتنافسين في شؤون الآخرة والتسابق إلى نعيمها؟

لهذا كان السلف يقلِّلون ساعات النوم والعمل وقضاء الحاجات حتى يتوفر لهم وقت أكبر بكثير مما ذكرته، والله أعلم.

وسيرة الإمام النووي رحمه الله – تعالى – سيرة عطرة عظيمة تصلح للتمثيل على حال سلفنا في استغلال الزمان في الأعمال الصالحة وعلى تقليلهم الطعام والشراب والعمل والنوم حتى يتبقى لهم أوقات عظيمة يستثمرونها في طاعة الله تعالى.

لما انتقل رحمه الله تعالى من بلدته نَوَى إلى دمشق اجتهد في مسابقة الزمان، حيث ظل سنتين كاملتين لم يضع جنبه على الأرض بل ينام متكئاً على كتبه، ولم يزل يشتغل بالعلم، ويتعبد العبادة العظيمة من صلاة ليل وصيام دهر مع الزهد والورع بل التزام دقائق الورع، وعدم إضاعة شيء من الأوقات، فقد كان يدرس كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا من غلبة، وضبط أوقاته.

وكان يقول: ((إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه)).

وقد قدم له رجل من أصحابه خيارة مقشرة فامتنع من أكلها وقال: ((أخشى أن ترطب جسمي فأنام)).

((وكان لا يأكل في اليوم والليلة سوى أكلة واحدة بعد عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر)).

و ((كان يأكل من خبز يبعثه له أبوه من نوى يخبزونه له ويسيِّرون له ما يكفيه جمعة فيأكله، ولا يأكل معه سوى لون واحد، إما دبس وإما خل وإما زيت، وأما اللحم ففي كل شهر مرة، ولا يكاد يجمع بين لونين من إدام أبداً)).

وبالجملة فقد كان عديم ((الرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك رعونات النفس... قليل الضحك، عديم اللعب، بل هو جدٌ صرف، يقول الحق وإن كان مراً، لا يخاف في الله لومة لائم)).

أرأيت – أخي القارئ – كيف يستفيد الصالحون من زمانهم بل يسابقونه، مسابقة، وما ذاك إلا لأنهم عرفوا قيمة الزمان وقصره فاستفادوا منه أحسن استفادة.

وقد اكتفيت ببعض سيرة الإمام النووي مثالاً لما أردت إيراده، وفي السلف عشرات من أصحاب الهمم أمثاله، رحمهم الله تعالى جميعاً.

وأورد مثالاً قريباً منّا، وهو الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري، فقد عكف منذ بلغ السابعة على القرآن فحفظه، ثم حفظ كثيراً من المتون في الأصول والحديث، واللغة والبلاغة، ودواوين الشعر، وتصدر للأستاذية منذ بلوغه الرابعة عشر من عمره، وارتحل إلى مصر والحجاز وبلاد الشام واغترف من بحور علمائها، خاصة في المدينة المنورة حيث وضع دعائم جمعية علماء المسلمين الجزائريين هو والشيخ ابن باديس، وكان ذلك سنة 1913، ثم لم تنشأ إلا في سنة 1931 لتكون شوكة في حلوق الفرنسيين، وكان قد تصدر للتدريس في وهران إحدى مدن الجزائر الكبيرة حيث كان يلقي عشر دروس في اليوم الواحد من صلاة الفجر إلى العشاء، ثم ينقلب إلى بعض النوادي الجامعة بعد صلاة العشاء ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وبنى بهمته 400 مدرسة إسلامية ومائتي مسجد للصلوات والمحاضرات مما أفزع المستعمر فنفاه إلى الصحراء، ثم عاد من منفاه ليرأس جمعية العلماء بعد وفاة ابن باديس فحمل المهمة الضخمة، وواصل الليل بالنهار دون نوم في أحيان متعددة، وبعث الهمة في أبناء الجزائر، وبنى المعاهد والمدارس التي كانت تقدم جنود الاستقلال بعد ذلك، ورأى ثمرة جهاده استقلالاً للجزائر سنة 1962 ليحلق بربه راضياً سعيداً سنة 1965، رحمه الله تعالى.

نعم قد يقال إن الإسلام دين شامل؛ فالعمل عبادة، والنوم بنية صالحة عبادة، وهذا صحيح لكني أردت في هذه الفقرة بيان قصر الزمان، وقلة المتبقي منه – بعد قضاء الحاجات الإنسانية من عمل ونوم – للتنافس على الدرجات العالية، وذلك لأن النية الصالحة قد يشترك فيها أكثر الناس، لكن الاستفادة الحقة من الأوقات قد يغفل عنها أكثر الثقات، والله المستعان.

__________________________
* مقال مقتطف من كتاب عجز الثقات، ص21 وما بعدها، ط: دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة، 1998.
‏٢٤‏/١٠‏/٢٠١٨ ٧:٠٩ م‏
موالاة أعداء المسلمين خيانة للدين فضيلة الشيخ حسن مأمون [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] 2 جمادى الأولى 1367 - 5 ديسمبر 1956 م سئل : من السيد / مندوب مجلة التحرير قال ما حكم الشريعة الإسلامية فى المسلم الذى يخون وطنه فى هذه الوقت الحاضر. أجاب : إن الشريعة الإسلامية أوجبت على كل مسلم أن يشارك إخوانه فى دفع أى اعتداء يقع على وطنه، أو على أى وطن إسلامى آخر، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة. قال الله تعالى { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء 92 ، وكل بلد أغلب أهله مسلمون يعتبر بلدا لكل مسلم. فإذا وقع اعتداء من حكومة أجنبية على أى وطن إسلامى بقصد احتلاله، أو احتلال جزء منه أو بأى سبب آخر - فرض على مسلمى هذه البلد فرضا عينيا أن يجاهدوا وقاتلوا لدفع هذا العدوان، وعلى أهالى البلاد الإسلامية الأخرى مشاركتهم فى دفع هذا العدوان، ولا يجوز مطلقا الرضا إلا بجلاء المعتدى عن جميع الأراضى. وكل من قصر فى أداء هذا الواجب يعتبر خائنا لدينه ولوطنه وبالأولى كل من مالأ عدو المسلمين وأيده فى عدوانه بأى طريق من طرق التأييد يكون خائنا لدينه، فإن الإعتداء الذى يقع على أى بلد من البلاد الإسلامية اعتداء فى الواقع على جميع المسلمين. والخيانة للوطن من الجرائم البشعة التى لا تقرها الشريعة الإسلامية، والتى يترك فيها لولى الأمر أن يعاقب من يرتكبها بالعقوبة الزاجرة التى تردع صاحبها، وتمنع شره عن جماعة المسلمين وتكفى لزجر غيره. ولم تحدد الشريعة الإسلامية هذه العقوبة وتركت لولى الأمر تحديدها. شأنها فى ذلك شأن كل الجرائم السياسية. فقد جاء فى الجزء الثالث من ابن عابدين ما نصه والجهاد فرض عين إن هجم العدو. فيخرج الكل، أى أن دخل العدو بلدة بغتة. وهذه الحالة تسمى النفير العام، وهو أن يحتاج إلى جميع المسلمين. ولا أعلم مخالفا لذلك من المسلمين ونصت الآية الكريمة على وجوب قتال الكفار إذا قاتلوا المسلمين وبدـوهم بالعدوان، قال الله تعالى { وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة 190، 191، 192، 193 وقد نهى القرآن عن اتخاذ أعداء المسلمين أولياء. قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } الممتحنة 1 ، 2 وحكم هذه الآية كما ينطبق على المشركين الذين أخرجوا الرسول من بلده ينطبق على كل طائفة غير مسلمة تهاجم بجيوشها دارا من ديار الإسلام. والله أعلم.
موالاة أعداء المسلمين خيانة للدين
فضيلة الشيخ حسن مأمون

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

2 جمادى الأولى 1367 - 5 ديسمبر 1956 م

سئل : من السيد / مندوب مجلة التحرير قال ما حكم الشريعة الإسلامية فى المسلم الذى يخون وطنه فى هذه الوقت الحاضر.

أجاب :

إن الشريعة الإسلامية أوجبت على كل مسلم أن يشارك إخوانه فى دفع أى اعتداء يقع على وطنه، أو على أى وطن إسلامى آخر، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة.

قال الله تعالى { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } الأنبياء 92 ، وكل بلد أغلب أهله مسلمون يعتبر بلدا لكل مسلم.

فإذا وقع اعتداء من حكومة أجنبية على أى وطن إسلامى بقصد احتلاله، أو احتلال جزء منه أو بأى سبب آخر - فرض على مسلمى هذه البلد فرضا عينيا أن يجاهدوا وقاتلوا لدفع هذا العدوان، وعلى أهالى البلاد الإسلامية الأخرى مشاركتهم فى دفع هذا العدوان، ولا يجوز مطلقا الرضا إلا بجلاء المعتدى عن جميع الأراضى.

وكل من قصر فى أداء هذا الواجب يعتبر خائنا لدينه ولوطنه وبالأولى كل من مالأ عدو المسلمين وأيده فى عدوانه بأى طريق من طرق التأييد يكون خائنا لدينه، فإن الإعتداء الذى يقع على أى بلد من البلاد الإسلامية اعتداء فى الواقع على جميع المسلمين.

والخيانة للوطن من الجرائم البشعة التى لا تقرها الشريعة الإسلامية، والتى يترك فيها لولى الأمر أن يعاقب من يرتكبها بالعقوبة الزاجرة التى تردع صاحبها، وتمنع شره عن جماعة المسلمين وتكفى لزجر غيره.

ولم تحدد الشريعة الإسلامية هذه العقوبة وتركت لولى الأمر تحديدها. شأنها فى ذلك شأن كل الجرائم السياسية. فقد جاء فى الجزء الثالث من ابن عابدين ما نصه والجهاد فرض عين إن هجم العدو. فيخرج الكل، أى أن دخل العدو بلدة بغتة.

وهذه الحالة تسمى النفير العام، وهو أن يحتاج إلى جميع المسلمين. ولا أعلم مخالفا لذلك من المسلمين ونصت الآية الكريمة على وجوب قتال الكفار إذا قاتلوا المسلمين وبدـوهم بالعدوان، قال الله تعالى { وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة 190، 191، 192، 193

وقد نهى القرآن عن اتخاذ أعداء المسلمين أولياء. قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } الممتحنة 1 ، 2

وحكم هذه الآية كما ينطبق على المشركين الذين أخرجوا الرسول من بلده ينطبق على كل طائفة غير مسلمة تهاجم بجيوشها دارا من ديار الإسلام.

والله أعلم.
‏٢٣‏/١٠‏/٢٠١٨ ٧:٣٩ م‏
قصيدة عَظُم المصاب [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]
قصيدة عَظُم المصاب

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]
‏٢١‏/١٠‏/٢٠١٨ ٧:٤٢ م‏
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام (1) م. @[100002132986936:2048:مصطفى البدري] [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون، وبعد: يقول سيد قطب رحمه الله عن بعض المنتسبين للدعوة الإسلامية: ويقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدُون إلى هذا الدين جميلًا بتخليته عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها . ومن هذا المنطلق أحببت أن أفتتح كتاباتي في هذه المجلة الغراء بسلسلة ألخص فيها أحد الكتب المهمة التي أفادتني كثيرا خلال حياتي الدعوية ، وهو كتاب: أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية – علي بن نفيع العلياني – 1404هـ أصل هذا الكتاب عبارة عن رسالة نال بها صاحبها درجة الدكتوراه بتقدير عام ممتاز، وكانت بإشراف الشيخ الدكتور محمد قطب رحمه الله. وسأتناول في هذا المقال بعون الله ومدده وتوفيقه مقدمة الكتاب والباب الأول . المقدمة: أسباب اختيار الموضوع : 1- انحراف الأمة الداخلي؛ حيث غياب الدولة الإسلامية، وإهدار التحاكم إلى الشريعة، وترك الجهاد؛ مما أدى إلى انحرافات عقدية كبرى. 2- احتلال الكفار لبلاد المسلمين؛ وما ترتب عليه من فرض قوانينهم، ونشر ثقافاتهم، وتمييع عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، ووصل الأمر إلى أن الدعاة إلى الله تركوا الحديث عن الجهاد وأحكامه، وواكبوا الأفكار التغريبية الوافدة علينا، حتى انتشرت فكرة الدين الإنساني الجديد!! الباب الأول: منهج الدعوة إلى الله قبل تشريع الجهاد القتالي. وهو مقسم إلى خمسة مباحث: الأول: وصف موجز للجاهلية التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. - الجاهلية ليست فترة زمنية محدودة تنتهي ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل من رفض الاهتداء بوحي الله ورفض الحكم بما أنزل الله فهو في جاهلية. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. - الجاهلية طارئة على الفطرة البشرية، والأصل في الفطرة السوية الاستسلام لله سبحانه ومعرفته والخضوع والانقياد له ومحبته والخوف من سطوته. - الجاهلية التي بُعِثَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشنع الجاهليات، قال أبو الحسن الندوي: كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح عليه السلام من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي. ومن أهم مظاهر الجاهلية في القديم والحديث: - عدم الإيمان بوحدانية الله وخاصة في جانب العبادة. - الكفر باليوم الآخر، والسخرية من فكرة البعث والنشور والحساب. - ممارسة التشريع من دون الله، والاحتكام في التحليل والتحريم إلى الطاغوت والهوى والشيطان. وقد خلص الباحث إلى أن أهل الكتاب (باستثناء بعض أفراد) ليسوا بأحسن حالا من أهل الجاهلية، حيث التثليث والإشراك في العبادة والتشريع. الثاني: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسرار والجهر بالدعوة. وصور الإسرار ثلاثة: 1- الإسرار بالإسلام مع إظهار شيء من الكفر، مثلما فعل عمار بن ياسر، وهذا لا يكون إلا مع الإكراه كما هو نص الآية {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الثبات في هذه الحالة أفضل حتى لو أدَّت للقتل. 2- كتمان الإسلام مع عدم إظهار شيء من الكفر، كما كان حال كثير من الصحابة في أول الإسلام، وكما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الوافدين للإسلام. 3- إظهار الإسلام مع الإسرار بالدعوة والحركة، وهو أمر تكاد تطبق عليه كلمة علماء الأمة في القديم والحديث، بخلاف ما ظهر من بعض المعاصرين الذين ينكرون وجوده أصلا. ثم قال المصنف: وباستقراء نصوص السيرة ودعوة الأنبياء التي قصَّ الله تعالى في القرآن الكريم، يظهر لي أن الجهر بالدعوة حتى يسمعها القاصي والداني والقريب والبعيد، وحتى يعلو صوت الحق هو الأصل في الدعوة إلى الله. وإذا كان الجهر بالإسلام والدعوة إليه مرحلة حتمية في خط سير الحركة، فإن الأصل في إعداد العدة ورسم الخطط لإزالة الجاهلية أن يكون سِرًّا، إلا أن تقتضي المصلحة الشرعية غير ذلك. وبعد مناقشة طويلة لهذه النقطة.. خلص الباحث إلى: الحق الذي لا مرية فيه، أن الجهر أحيانا يكون محرَّمًا، وذلك إذا ترتبت عليه مفسدة محضة، كأن تُستأصلَ شأفة المسلمين بسببه، والإسرار أحيانا يكون محرَّمًا، وذلك إذا ترتبت عليه مفسدة محضة، كأن ينتشر الكفر وينخفض الإسلام. وبيّن الباحث أن بعض الناس أحيانًا لا تزيدهم الدعوة إلا فجورًا وجرأةً على الله، وهؤلاء لا يؤثّر فيهم إلا السيف، ونقل عن الإمام الشوكاني ما معناه: إن عامة الزنادقة لم تلجمهم كلمة الحق، بل ألجمتهم سيوف الإسلام. ورغم ما يجوز من إخفاء أمر الدعوة أحيانا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يداهن قريشًا ولم يعطها مرادها مرة واحدة في أمر السكوت عن هذه الدعوة المباركة، بل أعلن المفاصلة التامة مع الجاهلية، مستجيبا في ذلك لقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وقد ظهر هذا في رَدِّه عليه الصلاة والسلام على عتبة ابن ربيعة عندما جاء يفاوضه لما قرأ عليه طرفًا من سورة فُصِّلت. وهو نفس ما فعله الكبار (أبو بكر وعمر) فالأول ردّ جوار ابن الدّغنّة عندما طلب منه أن يستخفي بصلاته، والثاني أعلن لأهل مكة إسلامه حتى قاتلهم وقاتلوه. وفي هذا دلالة على أن مراغمة الجاهلية أمر متأصل في جنبات هذه الدعوة حتى في أوقات الاستضعاف. الثالث: تربية الرسول للرعيل الأول على تحمل أعباء الدعوة. وفي سبيل ذلك نزل القرآن المكِّي ليؤكد على ما يلي:- 1- ترسيخ العقيدة في قلوب المؤمنين، بداية من توحيد الله تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يشمله ذلك من أمور قلبية وقولية وعملية (ومنها إفراده تعالى بالحكم والتشريع)، مرورا بتفصيل أركان الإيمان السّتّة، وصولا للحديث عن قصة خلق آدم وخلق السماوات والأرض، وأن سبب خلق الإنس والجن هو عبادة الله وحده لا شريك له، مع بيان قبح الجاهلية وانحرافها عن الفطرة السوية التي فطر اللهُ الناسَ عليها. 2- تربية الرعيل الأول على مكارم الأخلاق وتنقية نفوسهم من الرذائل، حيث إن الأخلاق الحميدة جزء مهم من العقيدة الصحيحة، وسوء الخلق يعيق الروح أثناء سيرها إلى الله تعالى، وقد تربى الجيل الأول على الصدق والوفاء والأمانة والعفاف والكرم والصّلة وحفظ اللسان وغير ذلك مما تنزل به القرآن وتجسد عمليًّا في رسول الله عليه الصلاة والسلام. 3- تزكية النفوس بأنواع العبادات، وأهمها: الصلاة والذِّكر وقراءة القرآن والدعاء، وقد ظهر ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا... إلى آخر السورة}. 4- تربية الروح الجماعية والعمل المنظم لدى الرعيل الأول. وقد أسهب المصنف في الاستدلال لهذه النقطة، لأهميتها في توجيه شباب الحركة الإسلامية المعاصرة. وقد ذكر أمثلة كثيرة للتدليل على كون العمل الجماعي المنظم من أولى أبجديات الدعوة الإسلامية في عهد النبوة، حتى إنه استخرج من الهجرة وحدها ستة أدلة على ذلك، وقال في معرض استدلاله: كل هذه الأمور وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن القيام بالدين ونشره بين الناس وتطبيق أحكامه، يحتاج إلى اجتماع المؤمنين به تحت قيادة أحدهم ليرعى شؤونهم وينظم أمورهم على مقتضى تعاليم الإسلام... ولأجل هذا أجمع المسلمون الذين يُعتد بإجماعهم على وجوب نصب خليفة من المسلمين، يقوم بحراسة الدين ويسير المجتمع الإسلامي على أحكام الشرع، ولأهمية هذا الأمر فقد ربَّى رسولُ الله صحابته وهو في العهد المكي على العمل الجماعي المنظم الهادف إلى إزالة الجاهلية من الأرض وإحلال الإسلام محلها. ثم بيّن أن أصلا عظيما من أصول هذا الدين (وهو الشورى) لا يقوم إلا إذا كان هناك اجتماع منظم، إضافة إلا بعض العبادات كالجُمَع والجماعات، وكثير من أحكام الإسلام لا تتم إلا في وجود مجتمع منظم. الرابع: الفتنة والابتلاء. الخامس: الصبر والثبات . إن من الناس من يدخل في زمرة المؤمنين ويلبس لباسهم ويتكلم بلسانهم، فإذا أصابته فتنة أو محنة في سبيل دينه خارت قواه وانحلّت عُراه وبرئ مما كان يدعيه من قبل، وعن هذا النموذج من البشر يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} ويقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}. يقول سيد قطب رحمه الله : ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان، ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد والصبر على الأذى والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضًا -فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب ويتميز الصف وتستقيم الجماعة على الطريق وتمضي فيه راشدة صاعدة متوكلة على الله. حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولًا في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدًا وهو قاعد آمن سالم، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبدًا بغير هذه الوسيلة، ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته وبعاداته وطباعه وبانفعالاته واستجاباته ما لم يكن ليبلغه أبدًا بدون هذه التجربة الشاقة المريرة. وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته وعلى حقيقة غايته، ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها مدى احتمال كل لبنة ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام. وبإلقاء نظرة على سيرة رسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، تجد أنهم قد صبروا وثبتوا في العهد المكي لصنوف العذاب والابتلاء حتى صَلُب عودهم، واستطاعوا أن ينشروا الإسلام في مدة وجيزة في بقاع كثيرة. فصلى الله وسلم على محمد قائد الصابرين والثابتين، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار أهل الثبات والصبر، الذين لولا الله ثم ثباتهم وصبرهم، لما وصل إلينا هذا الدين الحنيف. وهذا الذي ذكرت في هذا الباب هو نهج الرسول عليه الصلاة والسلام في العهد المكي (بحسب فهمي للنصوص)، أما نهجه في الدعوة المقرونة بالجهاد القتالي في العهد المدني فهو موضوع الباب الثاني . والله من وراء القصد.
دور الجهاد في نشر رسالة الإسلام (1)

م. مصطفى البدري

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون، وبعد:

يقول سيد قطب رحمه الله عن بعض المنتسبين للدعوة الإسلامية: ويقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدُون إلى هذا الدين جميلًا بتخليته عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها .

ومن هذا المنطلق أحببت أن أفتتح كتاباتي في هذه المجلة الغراء بسلسلة ألخص فيها أحد الكتب المهمة التي أفادتني كثيرا خلال حياتي الدعوية ، وهو كتاب:
أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية – علي بن نفيع العلياني – 1404هـ
أصل هذا الكتاب عبارة عن رسالة نال بها صاحبها درجة الدكتوراه بتقدير عام ممتاز، وكانت بإشراف الشيخ الدكتور محمد قطب رحمه الله.

وسأتناول في هذا المقال بعون الله ومدده وتوفيقه مقدمة الكتاب والباب الأول .

المقدمة:

أسباب اختيار الموضوع :

1- انحراف الأمة الداخلي؛ حيث غياب الدولة الإسلامية، وإهدار التحاكم إلى الشريعة، وترك الجهاد؛ مما أدى إلى انحرافات عقدية كبرى.

2- احتلال الكفار لبلاد المسلمين؛ وما ترتب عليه من فرض قوانينهم، ونشر ثقافاتهم، وتمييع عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، ووصل الأمر إلى أن الدعاة إلى الله تركوا الحديث عن الجهاد وأحكامه، وواكبوا الأفكار التغريبية الوافدة علينا، حتى انتشرت فكرة الدين الإنساني الجديد!!

الباب الأول: منهج الدعوة إلى الله قبل تشريع الجهاد القتالي.

وهو مقسم إلى خمسة مباحث:

الأول: وصف موجز للجاهلية التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- الجاهلية ليست فترة زمنية محدودة تنتهي ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل من رفض الاهتداء بوحي الله ورفض الحكم بما أنزل الله فهو في جاهلية. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
- الجاهلية طارئة على الفطرة البشرية، والأصل في الفطرة السوية الاستسلام لله سبحانه ومعرفته والخضوع والانقياد له ومحبته والخوف من سطوته.
- الجاهلية التي بُعِثَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشنع الجاهليات، قال أبو الحسن الندوي: كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح عليه السلام من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي.

ومن أهم مظاهر الجاهلية في القديم والحديث:
- عدم الإيمان بوحدانية الله وخاصة في جانب العبادة.
- الكفر باليوم الآخر، والسخرية من فكرة البعث والنشور والحساب.
- ممارسة التشريع من دون الله، والاحتكام في التحليل والتحريم إلى الطاغوت والهوى والشيطان.
وقد خلص الباحث إلى أن أهل الكتاب (باستثناء بعض أفراد) ليسوا بأحسن حالا من أهل الجاهلية، حيث التثليث والإشراك في العبادة والتشريع.

الثاني: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسرار والجهر بالدعوة.
وصور الإسرار ثلاثة:
1- الإسرار بالإسلام مع إظهار شيء من الكفر، مثلما فعل عمار بن ياسر، وهذا لا يكون إلا مع الإكراه كما هو نص الآية {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الثبات في هذه الحالة أفضل حتى لو أدَّت للقتل.
2- كتمان الإسلام مع عدم إظهار شيء من الكفر، كما كان حال كثير من الصحابة في أول الإسلام، وكما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الوافدين للإسلام.
3- إظهار الإسلام مع الإسرار بالدعوة والحركة، وهو أمر تكاد تطبق عليه كلمة علماء الأمة في القديم والحديث، بخلاف ما ظهر من بعض المعاصرين الذين ينكرون وجوده أصلا.

ثم قال المصنف: وباستقراء نصوص السيرة ودعوة الأنبياء التي قصَّ الله تعالى في القرآن الكريم، يظهر لي أن الجهر بالدعوة حتى يسمعها القاصي والداني والقريب والبعيد، وحتى يعلو صوت الحق هو الأصل في الدعوة إلى الله.
وإذا كان الجهر بالإسلام والدعوة إليه مرحلة حتمية في خط سير الحركة، فإن الأصل في إعداد العدة ورسم الخطط لإزالة الجاهلية أن يكون سِرًّا، إلا أن تقتضي المصلحة الشرعية غير ذلك.

وبعد مناقشة طويلة لهذه النقطة.. خلص الباحث إلى:
الحق الذي لا مرية فيه، أن الجهر أحيانا يكون محرَّمًا، وذلك إذا ترتبت عليه مفسدة محضة، كأن تُستأصلَ شأفة المسلمين بسببه، والإسرار أحيانا يكون محرَّمًا، وذلك إذا ترتبت عليه مفسدة محضة، كأن ينتشر الكفر وينخفض الإسلام.
وبيّن الباحث أن بعض الناس أحيانًا لا تزيدهم الدعوة إلا فجورًا وجرأةً على الله، وهؤلاء لا يؤثّر فيهم إلا السيف، ونقل عن الإمام الشوكاني ما معناه: إن عامة الزنادقة لم تلجمهم كلمة الحق، بل ألجمتهم سيوف الإسلام.

ورغم ما يجوز من إخفاء أمر الدعوة أحيانا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يداهن قريشًا ولم يعطها مرادها مرة واحدة في أمر السكوت عن هذه الدعوة المباركة، بل أعلن المفاصلة التامة مع الجاهلية، مستجيبا في ذلك لقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وقد ظهر هذا في رَدِّه عليه الصلاة والسلام على عتبة ابن ربيعة عندما جاء يفاوضه لما قرأ عليه طرفًا من سورة فُصِّلت.
وهو نفس ما فعله الكبار (أبو بكر وعمر) فالأول ردّ جوار ابن الدّغنّة عندما طلب منه أن يستخفي بصلاته، والثاني أعلن لأهل مكة إسلامه حتى قاتلهم وقاتلوه.
وفي هذا دلالة على أن مراغمة الجاهلية أمر متأصل في جنبات هذه الدعوة حتى في أوقات الاستضعاف.

الثالث: تربية الرسول للرعيل الأول على تحمل أعباء الدعوة.
وفي سبيل ذلك نزل القرآن المكِّي ليؤكد على ما يلي:-
1- ترسيخ العقيدة في قلوب المؤمنين، بداية من توحيد الله تعالى، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يشمله ذلك من أمور قلبية وقولية وعملية (ومنها إفراده تعالى بالحكم والتشريع)، مرورا بتفصيل أركان الإيمان السّتّة، وصولا للحديث عن قصة خلق آدم وخلق السماوات والأرض، وأن سبب خلق الإنس والجن هو عبادة الله وحده لا شريك له، مع بيان قبح الجاهلية وانحرافها عن الفطرة السوية التي فطر اللهُ الناسَ عليها.
2- تربية الرعيل الأول على مكارم الأخلاق وتنقية نفوسهم من الرذائل، حيث إن الأخلاق الحميدة جزء مهم من العقيدة الصحيحة، وسوء الخلق يعيق الروح أثناء سيرها إلى الله تعالى، وقد تربى الجيل الأول على الصدق والوفاء والأمانة والعفاف والكرم والصّلة وحفظ اللسان وغير ذلك مما تنزل به القرآن وتجسد عمليًّا في رسول الله عليه الصلاة والسلام.
3- تزكية النفوس بأنواع العبادات، وأهمها: الصلاة والذِّكر وقراءة القرآن والدعاء، وقد ظهر ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا... إلى آخر السورة}.
4- تربية الروح الجماعية والعمل المنظم لدى الرعيل الأول.
وقد أسهب المصنف في الاستدلال لهذه النقطة، لأهميتها في توجيه شباب الحركة الإسلامية المعاصرة.
وقد ذكر أمثلة كثيرة للتدليل على كون العمل الجماعي المنظم من أولى أبجديات الدعوة الإسلامية في عهد النبوة، حتى إنه استخرج من الهجرة وحدها ستة أدلة على ذلك، وقال في معرض استدلاله: كل هذه الأمور وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن القيام بالدين ونشره بين الناس وتطبيق أحكامه، يحتاج إلى اجتماع المؤمنين به تحت قيادة أحدهم ليرعى شؤونهم وينظم أمورهم على مقتضى تعاليم الإسلام... ولأجل هذا أجمع المسلمون الذين يُعتد بإجماعهم على وجوب نصب خليفة من المسلمين، يقوم بحراسة الدين ويسير المجتمع الإسلامي على أحكام الشرع، ولأهمية هذا الأمر فقد ربَّى رسولُ الله صحابته وهو في العهد المكي على العمل الجماعي المنظم الهادف إلى إزالة الجاهلية من الأرض وإحلال الإسلام محلها.
ثم بيّن أن أصلا عظيما من أصول هذا الدين (وهو الشورى) لا يقوم إلا إذا كان هناك اجتماع منظم، إضافة إلا بعض العبادات كالجُمَع والجماعات، وكثير من أحكام الإسلام لا تتم إلا في وجود مجتمع منظم.

الرابع: الفتنة والابتلاء.
الخامس: الصبر والثبات .
إن من الناس من يدخل في زمرة المؤمنين ويلبس لباسهم ويتكلم بلسانهم، فإذا أصابته فتنة أو محنة في سبيل دينه خارت قواه وانحلّت عُراه وبرئ مما كان يدعيه من قبل، وعن هذا النموذج من البشر يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} ويقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}.

يقول سيد قطب رحمه الله : ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان، ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد والصبر على الأذى والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضًا -فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب ويتميز الصف وتستقيم الجماعة على الطريق وتمضي فيه راشدة صاعدة متوكلة على الله.
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولًا في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدًا وهو قاعد آمن سالم، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبدًا بغير هذه الوسيلة، ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته وبعاداته وطباعه وبانفعالاته واستجاباته ما لم يكن ليبلغه أبدًا بدون هذه التجربة الشاقة المريرة.
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته وعلى حقيقة غايته، ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها مدى احتمال كل لبنة ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام.

وبإلقاء نظرة على سيرة رسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، تجد أنهم قد صبروا وثبتوا في العهد المكي لصنوف العذاب والابتلاء حتى صَلُب عودهم، واستطاعوا أن ينشروا الإسلام في مدة وجيزة في بقاع كثيرة.
فصلى الله وسلم على محمد قائد الصابرين والثابتين، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار أهل الثبات والصبر، الذين لولا الله ثم ثباتهم وصبرهم، لما وصل إلينا هذا الدين الحنيف.
وهذا الذي ذكرت في هذا الباب هو نهج الرسول عليه الصلاة والسلام في العهد المكي (بحسب فهمي للنصوص)، أما نهجه في الدعوة المقرونة بالجهاد القتالي في العهد المدني فهو موضوع الباب الثاني .

والله من وراء القصد.
‏١٩‏/١٠‏/٢٠١٨ ٦:٥٣ م‏
الحرب الشعبية الممتدة الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد ترجمة مركز حازم [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] - يفضل المتمردون النزاعات الطويلة، ولا يمكن القول بأن هناك أي مقاربة تعمل على استغلال عدم التماثل أفضل من الحرب الشعبية الممتدة. وقد استخدم الشيوعيون الصينيون هذه المقاربة في هزيمة الحكومة الصينية بعد الحرب العالمية الثانية. واستخدمها الفيتناميون الشماليون والجزائريون عقب تعديلها بحيث تلائم واقعهم وظروفهم الخاصة. وقد اقترح بعض قادة تنظيم القاعدة استخدامها في كتاباتهم مؤخراً. وهذه المقاربة تتسم بالتعقيد، ويطبق برنامجها بشكل كامل عدد قليل من حركات التمرد المعاصرة، بينما يطبق الكثيرون أجزاء منه. لذا فعدا عن كونها شأن تاريخي، فالإلمام بها قد تمثل أداة مساعدة قوية تعين على فهم بعض التمردات. نظرية ماو تسي تونج عن الحرب الطويلة - نظرية ماو عن الحرب الطويلة تبين الإطار العام للنهج (السياسي- العسكري) الذي يتكون من ثلاث مراحل: • مرحلة الدفاع الاستراتيجي: تميل خلالها كفة القوة العسكرية لصالح الحكومة، بينما يركز المتمردون على البقاء وبناء الدعم. • مرحلة التوازن الاستراتيجي: تصل خلالها علاقات القوة إلى نوع من التوازن، وتصبح حرب العصابات هي النشاط الأكثر الأهمية. • مرحلة الهجوم الاستراتيجي المضاد: عندما يصبح لدى المتمردين تفوق في القوة، وقوات عسكرية كبيرة، فيلجأون حينئذ إلى العمليات القتالية التقليدية لتدمير القدرات العسكرية الحكومية. -المرحلة الأولى، مرحلة الدفاع الاستراتيجي، وهي فترة تشهد خمول في التمرد يسمح لعنصر الوقت باستنزاف قوة العدو في الوقت الذي يكتسب فيه التمرد الدعم ويعمل على بناء وإقامة القواعد. وخلال هذه المرحلة، يطور قادة المتمردين الحركة إلى تنظيم سري فعال. حيث يستخدم المتمردون مجموعة متنوعة من التكتيكات التآمرية من أجل تهيئة السكان نفسياً لمقاومة الحكومة أو أي قوة استعمارية محتلة. وهذه التكتيكات قد تشمل الدعاية، والمظاهرات، وحملات المقاطعة، والتخريب. وبالإضافة إلى ذلك، ينظم قادة الحركة أو يطوروا علاقات تعاونية مع المجموعات السياسية الشرعية، ومنظمات الشباب، والاتحادات العمالية، والتكتلات السياسية الأخرى. ومما لا شك فيه أن هذا يعمل على حشد الدعم الشعبي من أجل القيام لاحقاً بأنشطة سياسية وعسكرية. وخلال هذه المرحلة، يعمل قادة الحركة على: • تجنيد، وتنظيم، وتدريب الكوادر. • التغلغل في المؤسسات الحكومية الأساسية والمجموعات المدنية. • إقامة خلايا استخبارية، وعملياتية، وشبكات دعم. • جمع التبرعات والحصول على تمويل. • تطوير مصادر الدعم الخارجي. وعادة ما تُنفذ هذه الأنشطة الهدامة بشكل نموذجي منظم، مع تجنب الاشتباكات الرئيسية، ويتركز النشاط العسكري الرئيسي على الهجمات الإرهابية. والتي تُنفذ من أجل الحصول على الدعم الشعبي، والتأثير على الجماهير التي تحتقن غضباً، وتحطيم قوة العدو. أما في الخطوات المتقدمة من هذه المرحلة، فقد تقيم التنظيمات المتمردة كياناً مضاداً للدولة يوازي السلطة القائمة بالفعل. (هذا الكيان المضاد للدولة أو حكومة الظل) عبارة عن هيكل منافس تعمل الحركة على بنائه من أجل إحلاله مكان الحكومة. ويشمل الجوانب الإدارية والبيروقراطية للسلطة السياسية، ويؤدي هذا الهيكل الوظائف الطبيعية للحكومة. - المرحلة الثانية، التوازن الاستراتيجي، وتأخذ شكل حرب عصابات علنية تتجه فيها علاقات القوة إلى التوازن. ويرتكز التمرد عادة في الأرياف، وتعمل العصابات انطلاقاً من مناطق تمركز آمنة نسبياً تقام في أماكن يسيطر عليها المتمردون. أما حركات التمرد التي تتخذ المناطق الحضرية مركزاً لنشاطها، فإن العصابات تعمل فيها بشكل سري عبر خلايا منظمة. وعلى الصعيد السياسي، فإن الحركة تركز على تقويض الدعم الشعبي للحكومة، وتعمل على بسط وتوسعة نطاق سيطرتها. ويمكن أن تتخذ الأنشطة الهدامة شكل محطات بث إذاعية سرية، أو صحف، أو كتيبات تتحدي سيطرة وشرعية السلطة القائمة. ومتى فقد الشعب إيمانه بالسلطة القائمة، فقد يقرر أن يعمل على مقاومتها بكل همة. وخلال هذه المرحلة، قد تبدأ حكومة الظل في البزوغ لسد الثغرات في الإدارة الحكومية، والتي تمتنع حكومة الدولة المضيفة عن معالجتها أو لا تقدر على ذلك. وإن آخر مثاليين على هذا النموذج يتمثلان في تنظيم مقتدى الصدر بالعراق (جيش المهدي) وحزب الله في لبنان. إذ عمل جيش المهدي على توفير الأمن وخدمات أخرى في مناطق تخضع لسيطرة الصدر بجنوب العراق وفي بغداد. (في واقع الأمر، عمل جيش المهدي على خلق فجوات عبر تقويض الأمن والخدمات؛ ثم تحرك لحل المشكلة التي أوجدها ابتداء). أما حزب الله فإنه يوفر الخدمات والأمن ومساعدات إعادة الإعمار لمؤيديه. وكل منهما يمثل تجسيداً للهوية الشيعية التي تقف في وجه الحكومات ذات التعددية الحزبية والضعيفة نسبياً. - المرحلة الثالثة، هي مرحلة الهجوم الاستراتيجي المضاد، وتقع عندما يصبح التنظيم المتمرد أقوى من السلطة القائمة. وتنتقل خلالها القوات المتمردة من حرب العصابات إلى الحرب التقليدية. وتهدف القوات العسكرية المتمردة إلى تدمير القدرات العسكرية للأعداء. أما التحركات السياسية فإنها تهدف إلى إزاحة جميع السلطات الحكومية. فإن نجحت، تؤدي هذه المرحلة إلى انهيار الحكومة أو انسحاب القوة الاستعمارية. وبدون وجود أي تدخل أجنبي مباشر، يكتسب الهجوم الاستراتيجي سمات الحرب الأهلية واسعة النطاق. وبينما تعمل الحركة المتمردة على إخضاع أجزاء واسعة من الدولة لسيطرتها ونفوذها، تصبح مسؤولة عن السكان، والموارد، والمنطقة الخاضعة لسيطرتها. ومن أجل تدعيم مكاسبها والحفاظ عليها، تواصل حركة التمرد الفعالة أنشطة المرحلة الأولى المنصوص عليها سابقاً، بالإضافة إلى ما يلي: • إقامة إدارة مدنية فعالة. • إقامة تنظيم عسكري فعال. • تقديم تنمية اجتماعية واقتصادية متوازنة. • تعبئة السكان من أجل دعم تنظيم المتمردين. • حماية السكان من الأعمال العدائية. -إن التطبيق الفعال للاستراتيجية الماوية لا يتطلب تطبيق جميع المراحل الثلاث سالفة الذكر بصورة متسلسلة أو كاملة. إذ الهدف هو الاستيلاء على السلطة السياسية، ويكون أفضل بكثير إذا انهارت الإرادة والقدرات الحكومية مبكراً. أما إذا باءت تلك الاستراتيجية بالفشل في مرحلة متأخرة، فقد يرتد التمرد على عقبيه إلى المرحلة السابقة لها. وقد قام متمردون ظهروا لاحقاً بإضافة تعديلات جديدة على هذه الاستراتيجية مثل رفض الحاجة إلى التحول في نهاية الأمر إلى العمليات التقليدية واسعة النطاق، فعلى سبيل المثال، لم يحقق المتمردون الجزائريون نجاحاً عسكرياً من أي نوع، وإنما حازوا على دعم شعبي منقطع النظير من خلال مهارات تنظيمية عالية ودعاية ماهرة استغلت أخطاء الجانب الفرنسي. فكل هذا إلى جانب عوامل أخرى، مثل فقدان العزيمة في فرنسا أجبر الفرنسيين على الانسحاب في نهاية المطاف.
الحرب الشعبية الممتدة
الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد

ترجمة مركز حازم

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

- يفضل المتمردون النزاعات الطويلة، ولا يمكن القول بأن هناك أي مقاربة تعمل على استغلال عدم التماثل أفضل من الحرب الشعبية الممتدة. وقد استخدم الشيوعيون الصينيون هذه المقاربة في هزيمة الحكومة الصينية بعد الحرب العالمية الثانية. واستخدمها الفيتناميون الشماليون والجزائريون عقب تعديلها بحيث تلائم واقعهم وظروفهم الخاصة. وقد اقترح بعض قادة تنظيم القاعدة استخدامها في كتاباتهم مؤخراً. وهذه المقاربة تتسم بالتعقيد، ويطبق برنامجها بشكل كامل عدد قليل من حركات التمرد المعاصرة، بينما يطبق الكثيرون أجزاء منه. لذا فعدا عن كونها شأن تاريخي، فالإلمام بها قد تمثل أداة مساعدة قوية تعين على فهم بعض التمردات.

نظرية ماو تسي تونج عن الحرب الطويلة

- نظرية ماو عن الحرب الطويلة تبين الإطار العام للنهج (السياسي- العسكري) الذي يتكون من ثلاث مراحل:

• مرحلة الدفاع الاستراتيجي: تميل خلالها كفة القوة العسكرية لصالح الحكومة، بينما يركز المتمردون على البقاء وبناء الدعم.

• مرحلة التوازن الاستراتيجي: تصل خلالها علاقات القوة إلى نوع من التوازن، وتصبح حرب العصابات هي النشاط الأكثر الأهمية.

• مرحلة الهجوم الاستراتيجي المضاد: عندما يصبح لدى المتمردين تفوق في القوة، وقوات عسكرية كبيرة، فيلجأون حينئذ إلى العمليات القتالية التقليدية لتدمير القدرات العسكرية الحكومية.

-المرحلة الأولى، مرحلة الدفاع الاستراتيجي، وهي فترة تشهد خمول في التمرد يسمح لعنصر الوقت باستنزاف قوة العدو في الوقت الذي يكتسب فيه التمرد الدعم ويعمل على بناء وإقامة القواعد. وخلال هذه المرحلة، يطور قادة المتمردين الحركة إلى تنظيم سري فعال. حيث يستخدم المتمردون مجموعة متنوعة من التكتيكات التآمرية من أجل تهيئة السكان نفسياً لمقاومة الحكومة أو أي قوة استعمارية محتلة. وهذه التكتيكات قد تشمل الدعاية، والمظاهرات، وحملات المقاطعة، والتخريب. وبالإضافة إلى ذلك، ينظم قادة الحركة أو يطوروا علاقات تعاونية مع المجموعات السياسية الشرعية، ومنظمات الشباب، والاتحادات العمالية، والتكتلات السياسية الأخرى. ومما لا شك فيه أن هذا يعمل على حشد الدعم الشعبي من أجل القيام لاحقاً بأنشطة سياسية وعسكرية. وخلال هذه المرحلة، يعمل قادة الحركة على:

• تجنيد، وتنظيم، وتدريب الكوادر.

• التغلغل في المؤسسات الحكومية الأساسية والمجموعات المدنية.

• إقامة خلايا استخبارية، وعملياتية، وشبكات دعم.

• جمع التبرعات والحصول على تمويل.

• تطوير مصادر الدعم الخارجي.

وعادة ما تُنفذ هذه الأنشطة الهدامة بشكل نموذجي منظم، مع تجنب الاشتباكات الرئيسية، ويتركز النشاط العسكري الرئيسي على الهجمات الإرهابية. والتي تُنفذ من أجل الحصول على الدعم الشعبي، والتأثير على الجماهير التي تحتقن غضباً، وتحطيم قوة العدو. أما في الخطوات المتقدمة من هذه المرحلة، فقد تقيم التنظيمات المتمردة كياناً مضاداً للدولة يوازي السلطة القائمة بالفعل. (هذا الكيان المضاد للدولة أو حكومة الظل) عبارة عن هيكل منافس تعمل الحركة على بنائه من أجل إحلاله مكان الحكومة. ويشمل الجوانب الإدارية والبيروقراطية للسلطة السياسية، ويؤدي هذا الهيكل الوظائف الطبيعية للحكومة.

- المرحلة الثانية، التوازن الاستراتيجي، وتأخذ شكل حرب عصابات علنية تتجه فيها علاقات القوة إلى التوازن. ويرتكز التمرد عادة في الأرياف، وتعمل العصابات انطلاقاً من مناطق تمركز آمنة نسبياً تقام في أماكن يسيطر عليها المتمردون. أما حركات التمرد التي تتخذ المناطق الحضرية مركزاً لنشاطها، فإن العصابات تعمل فيها بشكل سري عبر خلايا منظمة. وعلى الصعيد السياسي، فإن الحركة تركز على تقويض الدعم الشعبي للحكومة، وتعمل على بسط وتوسعة نطاق سيطرتها. ويمكن أن تتخذ الأنشطة الهدامة شكل محطات بث إذاعية سرية، أو صحف، أو كتيبات تتحدي سيطرة وشرعية السلطة القائمة.

ومتى فقد الشعب إيمانه بالسلطة القائمة، فقد يقرر أن يعمل على مقاومتها بكل همة. وخلال هذه المرحلة، قد تبدأ حكومة الظل في البزوغ لسد الثغرات في الإدارة الحكومية، والتي تمتنع حكومة الدولة المضيفة عن معالجتها أو لا تقدر على ذلك.

وإن آخر مثاليين على هذا النموذج يتمثلان في تنظيم مقتدى الصدر بالعراق (جيش المهدي) وحزب الله في لبنان. إذ عمل جيش المهدي على توفير الأمن وخدمات أخرى في مناطق تخضع لسيطرة الصدر بجنوب العراق وفي بغداد. (في واقع الأمر، عمل جيش المهدي على خلق فجوات عبر تقويض الأمن والخدمات؛ ثم تحرك لحل المشكلة التي أوجدها ابتداء). أما حزب الله فإنه يوفر الخدمات والأمن ومساعدات إعادة الإعمار لمؤيديه. وكل منهما يمثل تجسيداً للهوية الشيعية التي تقف في وجه الحكومات ذات التعددية الحزبية والضعيفة نسبياً.

- المرحلة الثالثة، هي مرحلة الهجوم الاستراتيجي المضاد، وتقع عندما يصبح التنظيم المتمرد أقوى من السلطة القائمة. وتنتقل خلالها القوات المتمردة من حرب العصابات إلى الحرب التقليدية. وتهدف القوات العسكرية المتمردة إلى تدمير القدرات العسكرية للأعداء.

أما التحركات السياسية فإنها تهدف إلى إزاحة جميع السلطات الحكومية. فإن نجحت، تؤدي هذه المرحلة إلى انهيار الحكومة أو انسحاب القوة الاستعمارية. وبدون وجود أي تدخل أجنبي مباشر، يكتسب الهجوم الاستراتيجي سمات الحرب الأهلية واسعة النطاق. وبينما تعمل الحركة المتمردة على إخضاع أجزاء واسعة من الدولة لسيطرتها ونفوذها، تصبح مسؤولة عن السكان، والموارد، والمنطقة الخاضعة لسيطرتها. ومن أجل تدعيم مكاسبها والحفاظ عليها، تواصل حركة التمرد الفعالة أنشطة المرحلة الأولى المنصوص عليها سابقاً، بالإضافة إلى ما يلي:

• إقامة إدارة مدنية فعالة.

• إقامة تنظيم عسكري فعال.

• تقديم تنمية اجتماعية واقتصادية متوازنة.

• تعبئة السكان من أجل دعم تنظيم المتمردين.

• حماية السكان من الأعمال العدائية.

-إن التطبيق الفعال للاستراتيجية الماوية لا يتطلب تطبيق جميع المراحل الثلاث سالفة الذكر بصورة متسلسلة أو كاملة. إذ الهدف هو الاستيلاء على السلطة السياسية، ويكون أفضل بكثير إذا انهارت الإرادة والقدرات الحكومية مبكراً.

أما إذا باءت تلك الاستراتيجية بالفشل في مرحلة متأخرة، فقد يرتد التمرد على عقبيه إلى المرحلة السابقة لها. وقد قام متمردون ظهروا لاحقاً بإضافة تعديلات جديدة على هذه الاستراتيجية مثل رفض الحاجة إلى التحول في نهاية الأمر إلى العمليات التقليدية واسعة النطاق، فعلى سبيل المثال، لم يحقق المتمردون الجزائريون نجاحاً عسكرياً من أي نوع، وإنما حازوا على دعم شعبي منقطع النظير من خلال مهارات تنظيمية عالية ودعاية ماهرة استغلت أخطاء الجانب الفرنسي. فكل هذا إلى جانب عوامل أخرى، مثل فقدان العزيمة في فرنسا أجبر الفرنسيين على الانسحاب في نهاية المطاف.
‏١٥‏/١٠‏/٢٠١٨ ٩:٣٨ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (7) سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] بعد قصة التصوف هذه أعود الآن إلى خط الدراسة.. فقد كانت هذه الزيارة الأخيرة لأمن الدولة قد تركت أثرها عليّ، لقد صار يُنظَر إلي في المدرسة نظرة غير المرغوب فيه من الكثيرين، وقد أضيف إلى هذا أن المباحث العامة في مركز إدفو قد وضعت أعينها عليّ، وذلك أن ضابط المباحث في ذلك الحين كان هو زوج المُدَرِّسة "إكرام" التي ذكرتُ ما وقع بيني وبينها سابقاً حين ذكرت في الإذاعة حديث "صنفان من أهل النار لم أرهما" فأُبْلِغ في أمن الدولة أني أُعَرِّض بها، وذلك الضابط في أمن الدولة الذي فهمت منه نصف الحديث الثاني كان هو نفسه قد جاء إلى المدرسة وتحدث معي أكثر من مرة. لست أتذكر الآن ما إن كان مجيئه هذا قبل أم بعد الاستدعاء الثاني لأمن الدولة، وأغلب الظن أن ذلك كان بعدها، لكنه جلس معي ثلاث مرات أو أربع، كانت واحدة منها بسبب يعود أيضاً إلى زوجة ضابط المباحث: إكرام. كان الطلاب يلجؤون إلي لشهرتي بينهم لتفوقي ولطبيعة شخصيتي القيادية، ويتجاوزون رئيس اتحاد الطلاب نفسه، فإن كان ثمة شيء يطلبونه من المدرسة كنتُ أتولى الكلام فيه مع المدير والناظر، فإن استجابت إدارة المدرسة فبها ونعمت، وإلا حوَّلتُ طاقتي إلى تحريض الطلاب عليهم، وكنت أُحْسِن هذا، وقد وقعت الأزمة لأن هذه المُدَرِّسة كانت شديدة التبرج ومثيرة، وكان معنا في الفصل طالب تكرر رسوبه في الثانوية العامة حتى كان سنه أكبر منا جميعاً، فلربما كان في العشرين من عمره، أي أنه قريب من عُمْر المُدَرِّسة نفسها، وكانت عيون المراهقين تنهب هذا التبرج حتى كان ذات يوم ألقى فيه هذا الطالب عليها خلسة قطعة من الطباشير، يمكن أن نعتبر هذا نوعاً من التحرش أو نوعاً من الإهانة والتحدي والمعاقبة أو كل ذلك معاً، وكانت ردة فعلها بطبيعة الحال ساخطة، إذ صاحت فينا: من الذي فعل هذا؟! فلم يرد أحد.. ويمكن أن نعتبر هذا خوفاً من الطالب الكبير السن أو شهامة ومروءة كالتي يرى الطلاب أنها من الرجولة تجاه بعضهم ضد المدرسين (الذين يُمَثِّلون السلطة داخل الفصول، بينما الطلاب هم ممثلو الشعب والجماهير!)، وظلت تصيح بإصرار تريد معرفة الفاعل، وظل الطلاب ساكتين لا ينطقون، فخرجت من الفصل مسرعة إلى ناظر المدرسة الذي جاء هو الآخر مهرولاً، وفي هرولته دفاع عن قِيَم المدرسة وانحياز لإدارتها كما فيها قلق مبعثه أن زوجها ضابط المباحث!.. فصاح بدوره يسأل عن الفاعل، فلم يجب أحد.. وظل هذا هو الموقف حتى انتهى اليوم وذهبنا إلى البيوت! تصورنا أن المشكلة قد انتهت على هذا، إلا أننا فوجئنا في اليوم التالي أننا قد أوقفنا في ساحة المدرسة ولم يُسمح لنا بالصعود إلى الفصل الدراسي، وعاد الناظر يسأل مجدداً عن الفاعل الذي أهان مُدَرِّسَتَه، والطلاب من جهتهم يقولون: لا نعرف. فقال: إذن، لا دراسة، ولا صعود إلى الفصول، وعودوا إلى بيوتكم! غضب الطلاب واعترضوا ولكنهم في النهاية انصرفوا إلى البيوت ولم يبق إلا ثلاثة يتفاوضون مع الناظر على إنهاء هذا الأمر، وكنت من بينهم، وقد حاولنا مع الناظر وجادلناه خصوصاً ونحن في السنة الثالثة الثانوية وهي سنة فارقة ومهمة في تحديد مصائرنا الدراسية، وقلت له: لا يمكن أن يُعاقَب الفصل كله بذنب طالب واحد. قال: أنتم تعرفون من فعل هذا ويجب أن تُخبروا به. قلنا: نحن لا نشي ببعضنا حتى ولو كنا نعرفه بالفعل (وكان هذا ضد معنى الرجولة بيننا في ذلك الوقت)، فقال: ومع أني أعرفه لكنني لن أصفح عنكم ولن أرجعكم للدراسة إلا إذا اعترفتم أنتم به، فقلت له: إذن الموضوع متوقف عندك، حيث إنك تعرفه فلتعاقبه ولينته هذا الأمر، وطال بيننا الجدال وفشلنا في الوصول إلى نتيجة، فخرجنا من عنده لا إلى البيوت ولكن إلى فصل دراسي آخر كي لا تفوتنا الدراسة، ولم يعترض هو على ذلك. جاء الصباح التالي فتكرر نفس الموقف، لم يسمح لنا الناظر بالدخول إلى الفصل، ولكن هذه المرة لم يرجع الطلاب إلى بيوتهم بل بقينا في ساحة المدرسة، ثم عزمنا على أن نقسم أنفسنا ونتوزع على بقية الفصول فلا تفوتنا الدراسة، وبينما نحن كذلك إذ عملنا على تحريض الفصول الأخرى لتقف معنا (بمقتضى معنى الرجولة نفسه الذي منعنا من الاعتراف على زميلنا، والذي يقتضي عليهم التضامن معنا)، وهم من ناحيتهم أبدوا استعداداً لهذا، ووصلنا إلى اتفاق مع بقية الزملاء أن بداية الأسبوع القادم سيكون فاصلاً، إما أن يُسْمَح لفصلنا بالدخول أو أن تضرب المدرسة عن الدراسة، ولا مانع من تكسير المدرسة أيضاً! وعند بداية الأسبوع سارعت إلى الناظر قبل بدء الطابور وقلت له: الطلاب اليوم مصرون على دخول الفصل، وكلهم أبناؤك والأفضل أن يدخلوا إلى فصلهم. فقال لي بحزم: لن يدخل أحد الفصل! قلت له: إن ثلاثة أيام من العقاب كافية وكل هؤلاء الطلبة هم أبناؤك حتى ولو أخطؤوا، وأنت بمثابة الأب لهم جميعاً. فلم يُجْدِ كل هذا الكلام الحسن شيئاً، وأصر على موقفه، فقلت له: إني أعلم أن الطلاب قد عزموا أمرهم وأنهم إن لم يدخلوا إلى الفصل اليوم فلن يدخل بقية الطلاب إلى فصولهم تضامناً معهم أيضاً، فأبرق وأرعد وهددنا، فعدت مرة أخرى إلى الكلام اللين وأنه مثل الأب للجميع وأن الأمر لا يحتمل أن يستمر أكثر من ذلك. ولمرة أخرى لم ينفع هذا معه فقلت له في صيغة نصفها ودّ ونصفها تهديد: لقد قمت بما علي وأبلغتك بما يمكن أن يحدث إذا استمر هذا الوضع. توجس خيفة من هذا الوضع، ولكنه أصر على موقفه، فاتصل بجهاز الأمن. ومن جانبنا سارعنا بتوزيع أنفسنا على الفصول، فسارعت تلك الفصول للإضراب عن الدراسة ورفضوا أن يدخلوا إلى فصولهم، وفيما بعد اكتشف الصف الأول والثاني الثانوي أننا لم ندخل فعادوا من فصولهم بعد أن وصلوا إليها.. وبدأ التوتر يخيم على الموقف: المُدَرِّسون يحاولون سوق الطلاب إلى الفصول والطلاب يمتنعون، ثم انفجر الموقف حين أراد المُدَرِّس محمد سرور أن يستعمل القوة فصاح في الطلاب بعنف أن يدخلوا فردَّ عليه طالب طويل القامة قوي البنية واسمه عادل قائلاً: هذا ليس من شأنك يا أستاذ سرور. وجُنَّ المدرس الذي لم يتعود أن يخاطبه أحد من طلابه هكذا، فصفعه على وجهه، وما كان هذا الصفع يليق أيضاً على طالب يرى نفسه قد صار رجلاً أمام زملائه، فكانت هذه هي نقطة انفجار الموقف. انفلت الأمر، وتشتت الطلاب الغاضبون في كل جهة، وصعدوا إلى الفصول التي لم تنتبه بعد لما حصل، وأخرجوا الطلاب، وألقوا بالأدراج من الطوابق العليا، وسرت الفوضى التي لم يكن أحد قادراً على إيقافها مع غضبة الطلاب، بل هدم بعضهم شُرفتين من شُرَف المدرسة، وبدأ آخرون بملاحقة المدرسين ولم ينج منهم إلا من أغلق على نفسه بابًا واختفى من المشهد. كان الأمر أشبه بثورة شعبية مصغرة يطارد الشعب فيها ممثلي السلطة في لحظة قوتهم وضعفها ويُهدمون رمز المؤسسة السلطوية التي تحكمهم، وهي في حالتنا هذه: المدرسة. كانت مدرستنا بين مدارس أخرى، فما إن سرى خبر "الثورة" في مدرستنا، حتى انتقل منها بغير تدبير إلى المدرسة الثانوية الصناعية المجاورة، وإذا بها وبغير سبب ما يوقفون الدراسة ويُكسرون المدرسة ويطاردون الأساتذة ويهتفون "معكم يا ثانوية عامة"!! وكان هؤلاء الطلاب، لظروفهم المعروفة ، أقل رغبة في الدراسة وأكثر رغبة في التمرد وأطول خبرة في معاركة الحياة كذلك فكانوا أكثر جرأة وشجاعة وإقداماً.. سيطر الطلاب على المدرسة، ومطلبهم المعلن هو دخول فصلنا إلى صفه وانتظامه دراسياً، وعند هذه اللحظة حضر ضابط الأمن إلى المدرسة يحاول أن يفهم ما حدث، وفوجئ بهذا الوضع الجديد، فسارع إلى تهدئة الوضع وما إن استقر الأمر حتى دخل بنفسه إلى كل فصل وأخذ في سؤال الطلاب عن السبب والأزمة، فإذا به يسمع في كل فصل حادثة الطباشير وعقوبة المنع من الدراسة، ففهم أن الأمر لا يحمل معنى سياسياً وليس وراءه دافع من خارج المدرسة، فاتخذ لنفسه مهمة الوسيط بين الطلاب وبين إدارة المدرسة من أجل إنهاء الموقف. ساعتئذ كانت إدارة المدرسة قد وقعت في الحرج، لقد انفلت الموقف حتى تمرد الطلاب وكسروا بعض أجزائها وأصابوا المُدَرِّسين وكسروا هيبة الإدارة، فاستغاثوا بجهاز الأمن لتأديب الطلاب وجعل ما حدث عبرة لمن يعتبر فلا يزالون يهابون المدرسة وإدارتها، ولا يترددون في الطاعة ولا يفكرون في العصيان، ثم ها هو جهاز الأمن الذي استغاثوا به يتحول فجأة من موقع العصا والتأديب إلى موقع الذي يتوسط لحل المسألة وتهدئة الأمور!! إن الأمر لو استمر على هذا الحال فلن يبقى للمدرسة ولا ناظرها هيبة ولا طاعة، بل وسيسهل على الطلاب التمرد في كل وقت، طالما التمرد يحصد المكاسب ولا يجلب العقوبة!! لكن المأزق الأهم هنا أن أحداً منهم لا يملك أن يعارض رغبة جهاز الأمن الذي هو فوق كل جهاز، لقد صار الموقف معكوساً فبدلاً من أن يكون الطلاب والأمن في المواجهة صارت المواجهة الآن بين إدارة المدرسة التي تريد أن تعاقب وجهاز الأمن الذي يريد حل الموضوع! أراد الناظر الخروج من الأزمة ببعض حفظ ماء الوجه فاشترط فصل بعض الطلاب، الذين هم الزعماء المحرضون كما قال، فلم يجد إلا الطلاب الذين بقوا وتفاوضوا معه، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، إلا أن الأستاذ عيد الرافعي وقف معي وجادل عني وذكر كثيراً أنني لم أكن محرضاً وإنما كنت وسيطاً وإنما كان الطلاب يثقون بي ويُقَدِّمونني ولهذا كانوا يخبرونني عما ينوون فعله وكان دوري أن أخبر إدارة المدرسة وأحاول إنهاء الأمر لولا تعنت الناظر. وبعد مجهود وجدال استطاع أن يخرجني من بين الطلاب الذين سيقررون فصلهم. لكنهم وجدوا أن طالباً آخر من هؤلاء الخمسة هو ابن عمدة قرية قريبة، وكان الرجل كبيراً في قومه وصاحب نفوذ، ومسألة عقاب ابنه بالفصل من الدراسة قد يترتب عليه مشكلات فأخرجوه أيضاً، وبقي طالبان أو ثلاثة لم يكن لهم ظهير فقرروا أن يفصلوهم من الدراسة. ما إن بلغنا الخبر، ونحن كنا في لحظة انتصار وما بالك بنفسية المنتصر؟ وما بالك بلحظة الرومانسية الثورية التي تعقب النصر؟! فما إن بلغنا الخبر حتى كان موقفنا جازماً لا تردد فيه: لن نسمح بفصل أي طالب ولا حتى لساعة، ولو أُخرج طالب من فصله فلن تستقر المدرسة. وبالفعل وبفضل موقف الطلاب المتوحد ألغيت قرارات الفصل، وخرج الطلاب من هذه "الثورة" وقد حققوا كل مكاسبهم، وكانت إدارة المدرسة هي الخاسرة كل الخسارة. من بعد هذه الحادثة كان ضابط أمن الدولة يكثر الجلوس معي، اعتبرني زعيماً للطلاب ومحرضاً لهم، وكان يريد أن يفهم كيف أفكر، وممن أستلهم آرائي، وما هي علاقاتي.. ومن جهتي كنت أكرر دوماً أني من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وأني ابن البلد، ومن جيل الثورة، وأن لهذه الدولة والثورة الفضل علينا.. إلخ! كنت أعرف أنه من الضروري إقناعه أننا شباب صغير وليس بيننا وبين الدولة شيء! كان يقتنع بما أقول، على الأقل: يُظهر لي هذا الاقتناع، وفي الواقع لم يكن لديه ما قد يشككه فيما أقول، بينما كنتُ بالفعل قد كونتُ جماعة من زملائي بدأت بأحد عشر طالباً، ثم زاد عددها في الصف الثالث الثانوي إلى ثمانية عشر طالباً، كما كنتُ قد ذكرتُ سابقاً. ولكن الجديد الذي يجب قوله هنا ونحن في الصف الثالث الثانوي هو ذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا: أن ندخل جميعاً الكلية الحربية! كان هذا العهد فرع عن تصورنا الذي ذكرته من التفكير في انقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ودخول الكلية الحربية هو الخطوة الأولى منها، وتعاهدنا على ذلك والتزمنا سريته، وقد التزم الجميع بهذا العهد، وعند انتهاء الصف الثالث الثانوي قدموا جميعاً أوراقهم إلى الكلية الحربية، لكن حصل ما لم نحسب له حساباً: لم يقبل من هؤلاء جميعاً إلا طالب واحد فقط! ومع ذلك فقد بقيت لنا صلة به، وكان يتابع معنا حتى أصبح ضابطاً وحصل على رتبة ملازم أول، وحينها بدأ يتغير ويتخلص من هذا العهد الذي قطعناه معاً قديماً، كان يتعذر بأننا تأخرنا في الدراسة المدنية، وهذا صحيح وإن لم يكن عذراً، فقد توزعت مجموعتنا بين كليات الطب والهندسة والتجارة والعلوم، دخلتُ كلية التجارة وتأخرت فيها لظروف سأقصها فيما بعد، ومن دخلوا كلية الطب كانوا ينهون دراستهم بعد سبع سنوات، ومن دخلوا كلية الهندسة ينهون دراستهم بعد خمس سنوات، وهذا الذي قُبِل في الكلية الحربية كان يُفترض به أن يدخل كلية العلوم إلى جوار آخر من مجموعتنا، اسمه أحمد سالم، دخل العلوم بعدما لم يُقبل في الكلية الحربية وتدرج فيها حتى صار أستاذاً، وأحسب أن هذا الذي دخل الكلية الحربية لا يزال في صفوف القوات المسلحة وإن كانت قد انقطعت علاقته بنا من ذلك الوقت البعيد. غلب على هذه المجموعة الاتجاه الوطني وليس الإسلامي، وقد حصل لنا تحول آخر حين دخلنا الجامعة، إذ بقي الأغلب ضمن هذا الاتجاه الوطني ولم يتحول إلى الاتجاه الإسلامي سواي وآخرٌ معي. لكن لهذا حديث آخر.. ويجب أن يكون قبله حديثٌ عن انضمامي لصفوف الطلائع في الاتحاد الاشتراكي.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (7)

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

بعد قصة التصوف هذه أعود الآن إلى خط الدراسة.. فقد كانت هذه الزيارة الأخيرة لأمن الدولة قد تركت أثرها عليّ، لقد صار يُنظَر إلي في المدرسة نظرة غير المرغوب فيه من الكثيرين، وقد أضيف إلى هذا أن المباحث العامة في مركز إدفو قد وضعت أعينها عليّ، وذلك أن ضابط المباحث في ذلك الحين كان هو زوج المُدَرِّسة "إكرام" التي ذكرتُ ما وقع بيني وبينها سابقاً حين ذكرت في الإذاعة حديث "صنفان من أهل النار لم أرهما" فأُبْلِغ في أمن الدولة أني أُعَرِّض بها، وذلك الضابط في أمن الدولة الذي فهمت منه نصف الحديث الثاني كان هو نفسه قد جاء إلى المدرسة وتحدث معي أكثر من مرة.

لست أتذكر الآن ما إن كان مجيئه هذا قبل أم بعد الاستدعاء الثاني لأمن
الدولة، وأغلب الظن أن ذلك كان بعدها، لكنه جلس معي ثلاث مرات أو أربع، كانت واحدة منها بسبب يعود أيضاً إلى زوجة ضابط المباحث: إكرام.

كان الطلاب يلجؤون إلي لشهرتي بينهم لتفوقي ولطبيعة شخصيتي القيادية، ويتجاوزون رئيس اتحاد الطلاب نفسه، فإن كان ثمة شيء يطلبونه من المدرسة كنتُ أتولى الكلام فيه مع المدير والناظر، فإن استجابت إدارة المدرسة فبها ونعمت، وإلا حوَّلتُ طاقتي إلى تحريض الطلاب عليهم، وكنت أُحْسِن هذا، وقد وقعت الأزمة لأن هذه المُدَرِّسة كانت شديدة التبرج ومثيرة، وكان معنا في الفصل طالب تكرر رسوبه في الثانوية العامة حتى كان سنه أكبر منا جميعاً، فلربما كان في العشرين من عمره، أي أنه قريب من عُمْر المُدَرِّسة نفسها، وكانت عيون المراهقين تنهب هذا التبرج حتى كان ذات يوم ألقى فيه هذا الطالب عليها خلسة قطعة من الطباشير، يمكن أن نعتبر هذا نوعاً من التحرش أو نوعاً من الإهانة والتحدي والمعاقبة أو كل ذلك معاً، وكانت ردة فعلها بطبيعة الحال ساخطة، إذ صاحت فينا: من الذي فعل هذا؟! فلم يرد أحد.. ويمكن أن نعتبر هذا خوفاً من الطالب الكبير السن أو شهامة ومروءة كالتي يرى الطلاب أنها من الرجولة تجاه بعضهم ضد المدرسين (الذين يُمَثِّلون السلطة داخل الفصول، بينما الطلاب هم ممثلو الشعب والجماهير!)، وظلت تصيح بإصرار تريد معرفة الفاعل، وظل الطلاب ساكتين لا ينطقون، فخرجت من الفصل مسرعة إلى ناظر المدرسة الذي جاء هو الآخر مهرولاً، وفي هرولته دفاع عن قِيَم المدرسة وانحياز لإدارتها كما فيها قلق مبعثه أن زوجها ضابط المباحث!.. فصاح بدوره يسأل عن الفاعل، فلم يجب أحد.. وظل هذا هو الموقف حتى انتهى اليوم وذهبنا إلى البيوت!

تصورنا أن المشكلة قد انتهت على هذا، إلا أننا فوجئنا في اليوم التالي أننا قد أوقفنا في ساحة المدرسة ولم يُسمح لنا بالصعود إلى الفصل الدراسي، وعاد الناظر يسأل مجدداً عن الفاعل الذي أهان مُدَرِّسَتَه، والطلاب من جهتهم يقولون: لا نعرف. فقال: إذن، لا دراسة، ولا صعود إلى الفصول، وعودوا إلى بيوتكم!

غضب الطلاب واعترضوا ولكنهم في النهاية انصرفوا إلى البيوت ولم يبق إلا ثلاثة يتفاوضون مع الناظر على إنهاء هذا الأمر، وكنت من بينهم، وقد حاولنا مع الناظر وجادلناه خصوصاً ونحن في السنة الثالثة الثانوية وهي سنة فارقة ومهمة في تحديد مصائرنا الدراسية، وقلت له: لا يمكن أن يُعاقَب الفصل كله بذنب طالب واحد. قال: أنتم تعرفون من فعل هذا ويجب أن تُخبروا به. قلنا:

نحن لا نشي ببعضنا حتى ولو كنا نعرفه بالفعل (وكان هذا ضد معنى الرجولة بيننا في ذلك الوقت)، فقال: ومع أني أعرفه لكنني لن أصفح عنكم ولن أرجعكم للدراسة إلا إذا اعترفتم أنتم به، فقلت له: إذن الموضوع متوقف عندك، حيث إنك تعرفه فلتعاقبه ولينته هذا الأمر، وطال بيننا الجدال وفشلنا في الوصول إلى نتيجة، فخرجنا من عنده لا إلى البيوت ولكن إلى فصل دراسي آخر كي لا تفوتنا الدراسة، ولم يعترض هو على ذلك.

جاء الصباح التالي فتكرر نفس الموقف، لم يسمح لنا الناظر بالدخول إلى الفصل، ولكن هذه المرة لم يرجع الطلاب إلى بيوتهم بل بقينا في ساحة المدرسة، ثم عزمنا على أن نقسم أنفسنا ونتوزع على بقية الفصول فلا تفوتنا الدراسة، وبينما نحن كذلك إذ عملنا على تحريض الفصول الأخرى لتقف معنا (بمقتضى معنى الرجولة نفسه الذي منعنا من الاعتراف على زميلنا، والذي يقتضي عليهم التضامن معنا)، وهم من ناحيتهم أبدوا استعداداً لهذا، ووصلنا إلى اتفاق مع بقية الزملاء أن بداية الأسبوع القادم سيكون فاصلاً، إما أن يُسْمَح لفصلنا بالدخول أو أن تضرب المدرسة عن الدراسة، ولا مانع من تكسير المدرسة أيضاً!

وعند بداية الأسبوع سارعت إلى الناظر قبل بدء الطابور وقلت له: الطلاب اليوم مصرون على دخول الفصل، وكلهم أبناؤك والأفضل أن يدخلوا إلى فصلهم. فقال لي بحزم: لن يدخل أحد الفصل! قلت له: إن ثلاثة أيام من العقاب كافية وكل هؤلاء الطلبة هم أبناؤك حتى ولو أخطؤوا، وأنت بمثابة الأب لهم جميعاً. فلم يُجْدِ كل هذا الكلام الحسن شيئاً، وأصر على موقفه، فقلت له: إني أعلم أن الطلاب قد عزموا أمرهم وأنهم إن لم يدخلوا إلى الفصل اليوم فلن يدخل بقية الطلاب إلى فصولهم تضامناً معهم أيضاً، فأبرق وأرعد وهددنا، فعدت مرة أخرى إلى الكلام اللين وأنه مثل الأب للجميع وأن الأمر لا يحتمل أن يستمر أكثر من ذلك. ولمرة أخرى لم ينفع هذا معه فقلت له في صيغة نصفها ودّ ونصفها تهديد: لقد قمت بما علي وأبلغتك بما يمكن أن يحدث إذا استمر هذا الوضع.

توجس خيفة من هذا الوضع، ولكنه أصر على موقفه، فاتصل بجهاز الأمن.

ومن جانبنا سارعنا بتوزيع أنفسنا على الفصول، فسارعت تلك الفصول للإضراب عن الدراسة ورفضوا أن يدخلوا إلى فصولهم، وفيما بعد اكتشف الصف الأول والثاني الثانوي أننا لم ندخل فعادوا من فصولهم بعد أن وصلوا إليها.. وبدأ التوتر يخيم على الموقف: المُدَرِّسون يحاولون سوق الطلاب إلى الفصول والطلاب يمتنعون، ثم انفجر الموقف حين أراد المُدَرِّس محمد سرور أن يستعمل القوة فصاح في الطلاب بعنف أن يدخلوا فردَّ عليه طالب طويل القامة قوي البنية واسمه عادل قائلاً: هذا ليس من شأنك يا أستاذ سرور. وجُنَّ المدرس الذي لم يتعود أن يخاطبه أحد من طلابه هكذا، فصفعه على وجهه، وما كان هذا الصفع يليق أيضاً على طالب يرى نفسه قد صار رجلاً أمام زملائه، فكانت هذه هي نقطة انفجار الموقف.

انفلت الأمر، وتشتت الطلاب الغاضبون في كل جهة، وصعدوا إلى الفصول التي لم تنتبه بعد لما حصل، وأخرجوا الطلاب، وألقوا بالأدراج من الطوابق العليا، وسرت الفوضى التي لم يكن أحد قادراً على إيقافها مع غضبة الطلاب، بل هدم بعضهم شُرفتين من شُرَف المدرسة، وبدأ آخرون بملاحقة المدرسين ولم ينج منهم إلا من أغلق على نفسه بابًا واختفى من المشهد. كان الأمر أشبه بثورة شعبية مصغرة يطارد الشعب فيها ممثلي السلطة في لحظة قوتهم وضعفها ويُهدمون رمز المؤسسة السلطوية التي تحكمهم، وهي في حالتنا هذه: المدرسة.

كانت مدرستنا بين مدارس أخرى، فما إن سرى خبر "الثورة" في مدرستنا، حتى انتقل منها بغير تدبير إلى المدرسة الثانوية الصناعية المجاورة، وإذا بها وبغير سبب ما يوقفون الدراسة ويُكسرون المدرسة ويطاردون الأساتذة ويهتفون "معكم يا ثانوية عامة"!! وكان هؤلاء الطلاب، لظروفهم المعروفة ، أقل رغبة في الدراسة وأكثر رغبة في التمرد وأطول خبرة في معاركة الحياة كذلك فكانوا أكثر جرأة وشجاعة وإقداماً..

سيطر الطلاب على المدرسة، ومطلبهم المعلن هو دخول فصلنا إلى صفه وانتظامه دراسياً، وعند هذه اللحظة حضر ضابط الأمن إلى المدرسة يحاول أن يفهم ما حدث، وفوجئ بهذا الوضع الجديد، فسارع إلى تهدئة الوضع وما إن استقر الأمر حتى دخل بنفسه إلى كل فصل وأخذ في سؤال الطلاب عن السبب والأزمة، فإذا به يسمع في كل فصل حادثة الطباشير وعقوبة المنع من الدراسة، ففهم أن الأمر لا يحمل معنى سياسياً وليس وراءه دافع من خارج المدرسة، فاتخذ لنفسه مهمة الوسيط بين الطلاب وبين إدارة المدرسة من أجل إنهاء الموقف.

ساعتئذ كانت إدارة المدرسة قد وقعت في الحرج، لقد انفلت الموقف حتى تمرد الطلاب وكسروا بعض أجزائها وأصابوا المُدَرِّسين وكسروا هيبة الإدارة، فاستغاثوا بجهاز الأمن لتأديب الطلاب وجعل ما حدث عبرة لمن يعتبر فلا يزالون يهابون المدرسة وإدارتها، ولا يترددون في الطاعة ولا يفكرون في العصيان، ثم ها هو جهاز الأمن الذي استغاثوا به يتحول فجأة من موقع العصا والتأديب إلى موقع الذي يتوسط لحل المسألة وتهدئة الأمور!! إن الأمر لو استمر على هذا الحال فلن يبقى للمدرسة ولا ناظرها هيبة ولا طاعة، بل وسيسهل على الطلاب التمرد في كل وقت، طالما التمرد يحصد المكاسب ولا يجلب العقوبة!! لكن المأزق الأهم هنا أن أحداً منهم لا يملك أن يعارض رغبة جهاز الأمن الذي هو فوق كل جهاز، لقد صار الموقف معكوساً فبدلاً من أن يكون الطلاب والأمن في المواجهة صارت المواجهة الآن بين إدارة المدرسة التي تريد أن تعاقب وجهاز الأمن الذي يريد حل الموضوع!

أراد الناظر الخروج من الأزمة ببعض حفظ ماء الوجه فاشترط فصل بعض الطلاب، الذين هم الزعماء المحرضون كما قال، فلم يجد إلا الطلاب الذين بقوا وتفاوضوا معه، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، إلا أن الأستاذ عيد الرافعي وقف معي وجادل عني وذكر كثيراً أنني لم أكن محرضاً وإنما كنت وسيطاً وإنما كان الطلاب يثقون بي ويُقَدِّمونني ولهذا كانوا يخبرونني عما ينوون فعله وكان دوري أن أخبر إدارة المدرسة وأحاول إنهاء الأمر لولا تعنت الناظر.

وبعد مجهود وجدال استطاع أن يخرجني من بين الطلاب الذين سيقررون فصلهم. لكنهم وجدوا أن طالباً آخر من هؤلاء الخمسة هو ابن عمدة قرية قريبة، وكان الرجل كبيراً في قومه وصاحب نفوذ، ومسألة عقاب ابنه بالفصل من الدراسة قد يترتب عليه مشكلات فأخرجوه أيضاً، وبقي طالبان أو ثلاثة لم يكن لهم ظهير فقرروا أن يفصلوهم من الدراسة.

ما إن بلغنا الخبر، ونحن كنا في لحظة انتصار وما بالك بنفسية المنتصر؟ وما بالك بلحظة الرومانسية الثورية التي تعقب النصر؟! فما إن بلغنا الخبر حتى كان موقفنا جازماً لا تردد فيه: لن نسمح بفصل أي طالب ولا حتى لساعة، ولو أُخرج طالب من فصله فلن تستقر المدرسة. وبالفعل وبفضل موقف الطلاب المتوحد ألغيت قرارات الفصل، وخرج الطلاب من هذه "الثورة" وقد حققوا كل مكاسبهم، وكانت إدارة المدرسة هي الخاسرة كل الخسارة.

من بعد هذه الحادثة كان ضابط أمن الدولة يكثر الجلوس معي، اعتبرني زعيماً للطلاب ومحرضاً لهم، وكان يريد أن يفهم كيف أفكر، وممن أستلهم آرائي، وما هي علاقاتي.. ومن جهتي كنت أكرر دوماً أني من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وأني ابن البلد، ومن جيل الثورة، وأن لهذه الدولة والثورة الفضل علينا.. إلخ! كنت أعرف أنه من الضروري إقناعه أننا شباب صغير وليس بيننا وبين الدولة شيء!

كان يقتنع بما أقول، على الأقل: يُظهر لي هذا الاقتناع، وفي الواقع لم يكن لديه ما قد يشككه فيما أقول، بينما كنتُ بالفعل قد كونتُ جماعة من زملائي بدأت بأحد عشر طالباً، ثم زاد عددها في الصف الثالث الثانوي إلى ثمانية عشر طالباً، كما كنتُ قد ذكرتُ سابقاً. ولكن الجديد الذي يجب قوله هنا ونحن في الصف الثالث الثانوي هو ذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا: أن ندخل جميعاً الكلية الحربية!

كان هذا العهد فرع عن تصورنا الذي ذكرته من التفكير في انقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ودخول الكلية الحربية هو الخطوة الأولى منها، وتعاهدنا على ذلك والتزمنا سريته، وقد التزم الجميع بهذا العهد، وعند انتهاء الصف الثالث الثانوي قدموا جميعاً أوراقهم إلى الكلية الحربية، لكن حصل ما لم نحسب له حساباً: لم يقبل من هؤلاء جميعاً إلا طالب واحد فقط!

ومع ذلك فقد بقيت لنا صلة به، وكان يتابع معنا حتى أصبح ضابطاً وحصل على رتبة ملازم أول، وحينها بدأ يتغير ويتخلص من هذا العهد الذي قطعناه معاً قديماً، كان يتعذر بأننا تأخرنا في الدراسة المدنية، وهذا صحيح وإن لم يكن عذراً، فقد توزعت مجموعتنا بين كليات الطب والهندسة والتجارة والعلوم، دخلتُ كلية التجارة وتأخرت فيها لظروف سأقصها فيما بعد، ومن دخلوا كلية الطب كانوا ينهون دراستهم بعد سبع سنوات، ومن دخلوا كلية الهندسة ينهون دراستهم بعد خمس سنوات، وهذا الذي قُبِل في الكلية الحربية كان يُفترض به أن يدخل كلية العلوم إلى جوار آخر من مجموعتنا، اسمه أحمد سالم، دخل العلوم بعدما لم يُقبل في الكلية الحربية وتدرج فيها حتى صار أستاذاً، وأحسب أن هذا الذي دخل الكلية الحربية لا يزال في صفوف القوات المسلحة وإن كانت قد انقطعت علاقته بنا من ذلك الوقت البعيد.

غلب على هذه المجموعة الاتجاه الوطني وليس الإسلامي، وقد حصل لنا تحول آخر حين دخلنا الجامعة، إذ بقي الأغلب ضمن هذا الاتجاه الوطني ولم يتحول إلى الاتجاه الإسلامي سواي وآخرٌ معي.

لكن لهذا حديث آخر.. ويجب أن يكون قبله حديثٌ عن انضمامي لصفوف الطلائع في الاتحاد الاشتراكي.
‏١٣‏/١٠‏/٢٠١٨ ٨:٢٦ م‏
تحليل الشبكة الاجتماعية أحمد مولانا [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] رغم أن أميركا تعد أقوى دولة على مستوى العالم حالياً، إلا أنها تعتمد في التعامل مع الآخرين على تفهمهم جيداً، قبل أن تحدد الأسلوب الأمثل للتعامل معهم بالأسلوب الذي يتسق مع أهدافها ومصالحها. وفي سياق ما يسمى بمكافحة الإرهاب، يبرز تحليل الشبكة الاجتماعية كأحد أدوات التحليل التي تساعد أميركا على تقييم التهديد الذي تتعرض له من قِبل خصومها غير النظاميين، فهو يسمح للمحللين بتحديد وتصوير تفاصيل هيكل شبكة التمرد بما يوضح أسلوب عملها، وكيف يمكن أو لا يمكن لأعضائها التصرف بشكل مستقل، وأين تكمن قيادتهم أو كيف تتوزع القيادة بين الأعضاء. وسأستعرض أبرز معالم هذه الأداة التحليلية وفقاً لأدبيات وتعبيرات الجيش الأميركي المدونة في دليله الميداني لمكافحة التمرد. التمرد كشبكة اجتماعية ينظر الجيش الأميركي إلى المتمردين باعتبارهم شبكة اجتماعية، ولا يُقصد بالشبكة الاجتماعية أنها مجرد وصف لعناصر المنظمة المتمردة، إنما هي صورة للسكان، وكيفية تجمعهم، وتعاملهم معاً. فمثلاً أي مجتمع قبلي يمتلك بالفعل شبكات اجتماعية واقتصادية وعسكرية تابعة له تتكيف بسهولة مع أجواء الحرب. والطرق التي يستغل بها المتمردون أي شبكة قبلية لا تمثل شكلاً مطوراً من التمرد ولكنها تمثل تعبيراً عن الأعراف الثقافية والاجتماعية المتأصلة في المجتمع. فالشبكة القبلية التقليدية توفر للثوار والمتمردين بنية تحتية ثورية جاهزة يستلوا منها. ويمثل الرسم البياني للشبكة الاجتماعية حجر الأساس لتحليلها. ويتكون أي رسم بياني للشبكة الاجتماعية من الأفراد والصلات بينهم. ويطلق على الأفراد في الشبكة مصطلح "الفاعلون أو العُقد". ويطلق على الصلات الموجودة بين العقد اسم الروابط. والعنصر الأساسي لبيان الشبكة الاجتماعية هو الزوج. ويتكون أي زوج من عقدتين ورابط واحد بينهما. وفي أبسط صور الشبكات، تمثل العقدتان أشخاصاً ويمثل الرابط العلاقة بينهما. نموذج مبسط للشبكة الاجتماعية مستويات تحليل الشبكة الاجتماعية تتضمن مستويات تحليل الشبكة الاجتماعية مستويين، هما المستوى التنظيمي والمستوى الفردي. أ‌- تحليل الشبكة الاجتماعية على المستوى التنظيمي يوفر تحليل المستوى التنظيمي تبصراً عن شكل المنظمة المتمردة، وكفاءتها، وتماسكها. فقد يتكون التمرد الإقليمي من عدد كبير من المنظمات المتمردة التي لا يربط بينها رابط. ونتيجة لذلك يجب تحليل كل مجموعة وفقاً لقدراتها مقارنة بالمجموعات الأخرى. ويمكن وصف القدرات على المستوى التنظيمي من حيث كثافة الشبكة، وتماسكها، وكفاءتها، وعلاقة القلب بالأطراف. ويصف كل قياس سمة من سمات هيكل المنظمة الشبكية. ويمكن أن تدعم الهياكل الشبكية المختلفة قدرات المنظمة أو تعوقها. � والكثافة الشبكية هي نسبة الروابط في الشبكة بالنسبة للعدد الكلي الممكن. ومقارنة الكثافة الشبكية بين المجموعات الفرعية للمتمردين توفر للقادة مؤشراً على أي المجموعات أقدر على تنفيذ هجوم منسق وأي المجموعات هي الأصعب في التعطيل.(الشكل التالي يبين ثلاث شبكات لها كثافات مختلفة). مقارنة بين كثافة الشبكات تشير الزيادة في كثافة الشبكة إلى احتمال تنفيذ المجموعة المتمردة لهجمات منسقة. ويعني أي انخفاض في كثافة الشبكة أن المجموعة قد تراجعت إلي مستوى الهجمات المجزئة أو الفردية. وفي نهاية المطاف تواجه عملية مكافحة تمرد التي يجري تنفيذها على نحو جيد المجموعات الفرعية ذات الكثافة الشبكية المنخفضة. وهذا لأن المجموعات الفرعية ذات الكثافة الشبكية المرتفعة لا تحتاج سوى القبض على متمرد واحد له صلات كثيرة ليتم إلقاء القبض على بقية المجموعة. ولهذا فعلى الرغم من أن المجموعات ذات الكثافة الشبكية العالية هي الأكثر خطورة، فإنها كذلك هي الأسهل هزيمة وتمزيقاً. ولا تتعلق كثافة الشبكة بطريقة توزيع الاتصالات بين عقد الشبكة.. إذ يمكن لعدد قليل من العقد مع عدد كبير من الاتصالات أن يرفع كثافة شبكة المجموعة، حتى ولو كانت أغلبية عقد الأشخاص ترتبط بالمجموعة بشكل هامشي. وفي حالة الشبكة ذات المركزية العالية، والتي تسيطر عليها عقدة واحدة أو عدد قليل جداً من العقد المتصلة، فانه يمكن إزالة هذه العقد أو إتلافها لزيادة تجزئة المجموعة إلى مجموعات فرعية. ب‌- تحليل الشبكة الاجتماعية على المستوى الفردي يميز التحليل على المستوى الفردي سمات كل عضو في المنظمة ويحدد أعضائها الرئيسيين. والتحليل الفعال للشبكة الاجتماعية يسمح للمحللين بتحديد الأفراد المهمين من بين كتلة كبيرة من البيانات. فيصف الأفراد استناداً إلى موقعهم بالنسبة لموضع كل فرد آخر في الشبكة. وتوفر المركزية الفردية للشبكة نظرة ثاقبة لموقع كل فرد في الشبكة. ويمكن أن تكشف العلاقة بين مركزيات جميع العقد الكثير عن الهيكل العام للشبكة. منظمة شبكية ذات تواصلات عالية شبكة مفتتة وتسيطر عقدة واحدة أو عدد قليل جدا من العقد المركزية على أي شبكة ذات مركزية عالية. فإذا تم التخلص من هذه العقد أو إتلافها، فقد تتفتت الشبكة بسرعة إلى شبكات فرعية غير متصلة. والمحاور هي عقد ذات درجة عالية جداً من المركزية. وأي شبكة متمركزة حول محور متصل جيداً يمكن أن تنهار فجأة إذا تم تعطيل هذا المحور أو إزالته. ولا تملك الشبكة الأقل مركزية نقاط فشل واحدة. إذ تكون هذه الشبكة مرنة في مواجهة العديد من الهجمات المتعمدة أو الانهيارات العشوائية. ومن الممكن أن تنهار العديد من العقد أو الروابط بينما يُتاح للعقد المتبقية الوصول بعضها إلى بعض عبر مسارات شبكية أخرى. كما تصف مركزية الدرجة مدى نشاط الفرد في الشبكة. ويُقاس النشاط الشبكي لأي عقدة باستخدام مفهوم الدرجات، أي عدد الصلات المباشرة التي تمتلكها العقدة. فالعقد التي تمتلك أكثر الاتصالات مباشرة هي الأنشط في شبكاتها. وإذا كانت إحدى العقد تمتلك روابط كثيرة، فيقال غالباً أنها إما بارزة أو ذات نفوذ. وتشير المركزية البينية إلى موقع الفرد بين الأفراد الآخرين في الشبكة، ومدى قيامه بدور الوسيط أو المُتصِل أو الجسر. فأي عقدة ذات "بينية" عالية يكون لها تأثير كبير على التدفقات في الشبكة. واعتماداً على المكانة، فإن أي شخص ذو بينية عالية يلعب دور "الوسيط" في الشبكة. وتوجد فرصة كبيرة أمام قوات مكافحة التمرد إذا كان الشخص صاحب الدرجة العالية من المركزية البينية يمثل أيضاً أحد نقاط الانهيار التي إذا جري التخلص منها تتفتت المنظمة. وتحصل العقد الموجودة عند الأطراف على درجات مركزية منخفضة جداً. ومع ذلك، فالعقد الطرفية غالباً ما تكون متصلة بشبكات لم تتضح خريطتها بعد. وقد تتكون تلك العقد من جامعي الموارد أو أفراد لهم شبكاتهم الخاصة بعيداً عن إطار مجموعتهم المتمردة. وهذه الخصائص تجعل تلك العقد تمثل موارد مهمة للغاية للحصول على معلومات جديدة غير متوافرة داخل مجموعتهم المتمردة. كيفية رسم الأشكال البيانية للشبكات الاجتماعية لرسم صورة دقيقة للشبكة، يحتاج المحللون لتحديد الروابط بين أعضائها، وتتسم هذه الروابط بالصلات القوية التي تكونت بمرور الوقت بسبب الارتباط العائلي أو الصداقة أو الانتماء لنفس التنظيم. وتُجمع المعلومات عن هذه الروابط عبر تحليل الوثائق، والسجلات التاريخية، ومقابلة الأفراد، ودراسة الصور الفوتوغرافية والكتب. وهو عمل مضن، لكن لا يوجد بديل له عند محاولة تتبع شبكة لا تريد لأحد أن يتعرف عليها. فغالباً لا تتصرف الشبكات المتمردة مثل الشبكات الاجتماعية العادية. ومع ذلك، فمن الممكن أن يساعد تحليل الشبكة الاجتماعية المحللين على تحديد نوع الشبكة الاجتماعية للمنظمة المتمردة. وهذه المعرفة تساعد القادة في فهم شكل المنظمة، وكيفية ترابط أجزائها معاً، وأفضل طريقة لهزيمتها. هذا الاستعراض السابق والموجز لاستخدام الشبكة الاجتماعية كأداة تحليلية يكاد يكون غائباً لدى الكثير من الحركات الثورية والإسلامية، مما يجعلها تبدد الكثير من جهودها أثناء صراعاتها مع الأعداء، بينما تتلقى باستمرار ضربات في منتصف الرأس من قبل خصومها الذين لا يعتمدون في ممارساتهم على العشوائية سواء في الفهم أو العمل.
تحليل الشبكة الاجتماعية
أحمد مولانا

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

رغم أن أميركا تعد أقوى دولة على مستوى العالم حالياً، إلا أنها تعتمد في التعامل مع الآخرين على تفهمهم جيداً، قبل أن تحدد الأسلوب الأمثل للتعامل معهم بالأسلوب الذي يتسق مع أهدافها ومصالحها.

وفي سياق ما يسمى بمكافحة الإرهاب، يبرز تحليل الشبكة الاجتماعية كأحد أدوات التحليل التي تساعد أميركا على تقييم التهديد الذي تتعرض له من قِبل خصومها غير النظاميين، فهو يسمح للمحللين بتحديد وتصوير تفاصيل هيكل شبكة التمرد بما يوضح أسلوب عملها، وكيف يمكن أو لا يمكن لأعضائها التصرف بشكل مستقل، وأين تكمن قيادتهم أو كيف تتوزع القيادة بين الأعضاء. وسأستعرض أبرز معالم هذه الأداة التحليلية وفقاً لأدبيات وتعبيرات الجيش الأميركي المدونة في دليله الميداني لمكافحة التمرد.

التمرد كشبكة اجتماعية

ينظر الجيش الأميركي إلى المتمردين باعتبارهم شبكة اجتماعية، ولا يُقصد بالشبكة الاجتماعية أنها مجرد وصف لعناصر المنظمة المتمردة، إنما هي صورة للسكان، وكيفية تجمعهم، وتعاملهم معاً. فمثلاً أي مجتمع قبلي يمتلك بالفعل شبكات اجتماعية واقتصادية وعسكرية تابعة له تتكيف بسهولة مع أجواء الحرب. والطرق التي يستغل بها المتمردون أي شبكة قبلية لا تمثل شكلاً مطوراً من التمرد ولكنها تمثل تعبيراً عن الأعراف الثقافية والاجتماعية المتأصلة في المجتمع. فالشبكة القبلية التقليدية توفر للثوار والمتمردين بنية تحتية ثورية جاهزة يستلوا منها.

ويمثل الرسم البياني للشبكة الاجتماعية حجر الأساس لتحليلها. ويتكون أي رسم بياني للشبكة الاجتماعية من الأفراد والصلات بينهم. ويطلق على الأفراد في الشبكة مصطلح "الفاعلون أو العُقد". ويطلق على الصلات الموجودة بين العقد اسم الروابط. والعنصر الأساسي لبيان الشبكة الاجتماعية هو الزوج. ويتكون أي زوج من عقدتين ورابط واحد بينهما. وفي أبسط صور الشبكات، تمثل العقدتان أشخاصاً ويمثل الرابط العلاقة بينهما.


نموذج مبسط للشبكة الاجتماعية

مستويات تحليل الشبكة الاجتماعية

تتضمن مستويات تحليل الشبكة الاجتماعية مستويين، هما المستوى التنظيمي والمستوى الفردي.

أ‌- تحليل الشبكة الاجتماعية على المستوى التنظيمي

يوفر تحليل المستوى التنظيمي تبصراً عن شكل المنظمة المتمردة، وكفاءتها، وتماسكها. فقد يتكون التمرد الإقليمي من عدد كبير من المنظمات المتمردة التي لا يربط بينها رابط. ونتيجة لذلك يجب تحليل كل مجموعة وفقاً لقدراتها مقارنة بالمجموعات الأخرى. ويمكن وصف القدرات على المستوى التنظيمي من حيث كثافة الشبكة، وتماسكها، وكفاءتها، وعلاقة القلب بالأطراف. ويصف كل قياس سمة من سمات هيكل المنظمة الشبكية. ويمكن أن تدعم الهياكل الشبكية المختلفة قدرات المنظمة أو تعوقها.


والكثافة الشبكية هي نسبة الروابط في الشبكة بالنسبة للعدد الكلي الممكن. ومقارنة الكثافة الشبكية بين المجموعات الفرعية للمتمردين توفر للقادة مؤشراً على أي المجموعات أقدر على تنفيذ هجوم منسق وأي المجموعات هي الأصعب في التعطيل.(الشكل التالي يبين ثلاث شبكات لها كثافات مختلفة).


مقارنة بين كثافة الشبكات

تشير الزيادة في كثافة الشبكة إلى احتمال تنفيذ المجموعة المتمردة لهجمات منسقة. ويعني أي انخفاض في كثافة الشبكة أن المجموعة قد تراجعت إلي مستوى الهجمات المجزئة أو الفردية. وفي نهاية المطاف تواجه عملية مكافحة تمرد التي يجري تنفيذها على نحو جيد المجموعات الفرعية ذات الكثافة الشبكية المنخفضة. وهذا لأن المجموعات الفرعية ذات الكثافة الشبكية المرتفعة لا تحتاج سوى القبض على متمرد واحد له صلات كثيرة ليتم إلقاء القبض على بقية المجموعة. ولهذا فعلى الرغم من أن المجموعات ذات الكثافة الشبكية العالية هي الأكثر خطورة، فإنها كذلك هي الأسهل هزيمة وتمزيقاً.
ولا تتعلق كثافة الشبكة بطريقة توزيع الاتصالات بين عقد الشبكة.. إذ يمكن لعدد قليل من العقد مع عدد كبير من الاتصالات أن يرفع كثافة شبكة المجموعة، حتى ولو كانت أغلبية عقد الأشخاص ترتبط بالمجموعة بشكل هامشي. وفي حالة الشبكة ذات المركزية العالية، والتي تسيطر عليها عقدة واحدة أو عدد قليل جداً من العقد المتصلة، فانه يمكن إزالة هذه العقد أو إتلافها لزيادة تجزئة المجموعة إلى مجموعات فرعية.

ب‌- تحليل الشبكة الاجتماعية على المستوى الفردي

يميز التحليل على المستوى الفردي سمات كل عضو في المنظمة ويحدد أعضائها الرئيسيين. والتحليل الفعال للشبكة الاجتماعية يسمح للمحللين بتحديد الأفراد المهمين من بين كتلة كبيرة من البيانات. فيصف الأفراد استناداً إلى موقعهم بالنسبة لموضع كل فرد آخر في الشبكة. وتوفر المركزية الفردية للشبكة نظرة ثاقبة لموقع كل فرد في الشبكة. ويمكن أن تكشف العلاقة بين مركزيات جميع العقد الكثير عن الهيكل العام للشبكة.


منظمة شبكية ذات تواصلات عالية


شبكة مفتتة

وتسيطر عقدة واحدة أو عدد قليل جدا من العقد المركزية على أي شبكة ذات مركزية عالية. فإذا تم التخلص من هذه العقد أو إتلافها، فقد تتفتت الشبكة بسرعة إلى شبكات فرعية غير متصلة. والمحاور هي عقد ذات درجة عالية جداً من المركزية. وأي شبكة متمركزة حول محور متصل جيداً يمكن أن تنهار فجأة إذا تم تعطيل هذا المحور أو إزالته.

ولا تملك الشبكة الأقل مركزية نقاط فشل واحدة. إذ تكون هذه الشبكة مرنة في مواجهة العديد من الهجمات المتعمدة أو الانهيارات العشوائية. ومن الممكن أن تنهار العديد من العقد أو الروابط بينما يُتاح للعقد المتبقية الوصول بعضها إلى بعض عبر مسارات شبكية أخرى. كما تصف مركزية الدرجة مدى نشاط الفرد في الشبكة. ويُقاس النشاط الشبكي لأي عقدة باستخدام مفهوم الدرجات، أي عدد الصلات المباشرة التي تمتلكها العقدة. فالعقد التي تمتلك أكثر الاتصالات مباشرة هي الأنشط في شبكاتها. وإذا كانت إحدى العقد تمتلك روابط كثيرة، فيقال غالباً أنها إما بارزة أو ذات نفوذ.

وتشير المركزية البينية إلى موقع الفرد بين الأفراد الآخرين في الشبكة، ومدى قيامه بدور الوسيط أو المُتصِل أو الجسر. فأي عقدة ذات "بينية" عالية يكون لها تأثير كبير على التدفقات في الشبكة. واعتماداً على المكانة، فإن أي شخص ذو بينية عالية يلعب دور "الوسيط" في الشبكة. وتوجد فرصة كبيرة أمام قوات مكافحة التمرد إذا كان الشخص صاحب الدرجة العالية من المركزية البينية يمثل أيضاً أحد نقاط الانهيار التي إذا جري التخلص منها تتفتت المنظمة.

وتحصل العقد الموجودة عند الأطراف على درجات مركزية منخفضة جداً. ومع ذلك، فالعقد الطرفية غالباً ما تكون متصلة بشبكات لم تتضح خريطتها بعد. وقد تتكون تلك العقد من جامعي الموارد أو أفراد لهم شبكاتهم الخاصة بعيداً عن إطار مجموعتهم المتمردة. وهذه الخصائص تجعل تلك العقد تمثل موارد مهمة للغاية للحصول على معلومات جديدة غير متوافرة داخل مجموعتهم المتمردة.

كيفية رسم الأشكال البيانية للشبكات الاجتماعية

لرسم صورة دقيقة للشبكة، يحتاج المحللون لتحديد الروابط بين أعضائها، وتتسم هذه الروابط بالصلات القوية التي تكونت بمرور الوقت بسبب الارتباط العائلي أو الصداقة أو الانتماء لنفس التنظيم. وتُجمع المعلومات عن هذه الروابط عبر تحليل الوثائق، والسجلات التاريخية، ومقابلة الأفراد، ودراسة الصور الفوتوغرافية والكتب. وهو عمل مضن، لكن لا يوجد بديل له عند محاولة تتبع شبكة لا تريد لأحد أن يتعرف عليها. فغالباً لا تتصرف الشبكات المتمردة مثل الشبكات الاجتماعية العادية. ومع ذلك، فمن الممكن أن يساعد تحليل الشبكة الاجتماعية المحللين على تحديد نوع الشبكة الاجتماعية للمنظمة المتمردة. وهذه المعرفة تساعد القادة في فهم شكل المنظمة، وكيفية ترابط أجزائها معاً، وأفضل طريقة لهزيمتها.

هذا الاستعراض السابق والموجز لاستخدام الشبكة الاجتماعية كأداة تحليلية يكاد يكون غائباً لدى الكثير من الحركات الثورية والإسلامية، مما يجعلها تبدد الكثير من جهودها أثناء صراعاتها مع الأعداء، بينما تتلقى باستمرار ضربات في منتصف الرأس من قبل خصومها الذين لا يعتمدون في ممارساتهم على العشوائية سواء في الفهم أو العمل.
‏١٠‏/١٠‏/٢٠١٨ ٨:١٠ م‏
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية 2 الصغير @[100001613664823:2048:منير] [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] احتضان الشعب للثورة كان الذين فجروا ثورة التحرير لا يتجاوز عددهم ألفاً ونيفاً، موزعين على كل مناطق الجزائر، مع كثافة عددية واضحة في منطقة الأوراس والشرق القسنطيني، لأسباب موضوعية وسياقات تاريخية ليس هذا مجال التفصيل فيها. فاجأت الثورة النخبة من الأحزاب والجمعيات والأفراد، كما فاجأت الشعب الجزائري، وفاجأت قبلهما فرنسا التي كانت التقارير الأمنية لضباطها تشيد بالهدوء والاستقرار، وتستبعد أي فوضى أو اضطرابات. لم يندفع الشعب الجزائري إلى مناصرة الثورة واحتضان المجاهدين بين عشية وضحاها، ولكن الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحركة الإصلاح الديني والتأطير والوعي السياسي والثوري، الذي أسست له وقادته الحركة الوطنية ممثلةً في حزب الشعب الجزائري، كانت كلها قد هيأت الشعب بنسب متفاوتة وبحسب المناطق أن يقبل فكرة الثورة في البداية، ثم يتعاطف مع المجاهدين، ثم يدفع بأبنائه إلى الجبال وأرض المعركة. كانت قد نشأت على الأقل خمسة أجيال كاملة في ظل الاحتلال ولم تعرف غيره، وكانت الأجيال التي انتهى يأسها ونضالها وخبراتها ورصيدها الثوري إلى الجيل الذي فجر الثورة، تستبعد أن تخرج فرنسا يوماً ما من الجزائر؛ بل كان بعضهم لا يعرف إلا أن الفرنسيين هم أسياد الجزائر منذ القدم، وأحسنهم حالاً من كان يرى أي محاولة للثورة والتمرد إنما هي انتحار مباشر لا يجيزه شرع ولا عقل، هذا فضلاً عمن كان قد منح ولاءه وطاعته عن رضىً لفرنسا، وصار يفخر بخدمتها والوشاية ببني قومه والتنكيل بهم. وقد كانت الأحزاب السياسية المطالبة بالاندماج والحزب الشيوعي الجزائري في المدن والحواضر وخطاب بعض الطرق الصوفية ذات النفوذ والانتشار في القرى والأرياف والصحراء، سبباً آخر في إحجام الشعب وتردده لأشهر طويلة، كما كان عدم تصريح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأي خطاب أو هدف ثوري مسلح سبباً في تردد محبيها ومنسوبيها والمتأثرين بخطابها، رغم أنهم كانوا في الميدان من السباقين مقارنة بغيرهم وممن فصلوا أمر الانخراط في صفوف الثورة مبكرا، دون انتظار قرار أو توجيه مباشر من قيادة الجمعية أو فتوى من شيوخها في الداخل. على أن تردد أبناء الشعب لم يطل كثيراً فقد كان وضوح البيان الثوري وحسمه وحزمه ومفاصلته لفرنسا قوياً ومؤثراً وحماسياً محفزاً، كما كانت العمليات العسكرية النوعية والاغتيالات والكمائن تجوب أخبارها الأسواق والمجامع، ويتغنى بها الشعراء الشعبيون ويتناقلها الرواة، ثم جاء عنف المحتل الفرنسي في القمع والانتقام الأعمى ليدفع بالجزائريين إلى أحضان الثورة زرافات ووحداناً. ولقد كانت كلمة الشهيد العربي بن مهيدي: "ارموا بالثورة إلى الشارع وسوف يحتضنها الشعب"، صادقة ومبصرة وفعالة إلى أبعد الحدود؛ فقد انضم إلى الثورة وأصبح من قادتها في الأرياف والجبال والبوادي رجال مسلمون غير "مؤدلجين" -كما يقال في التعبير الشائع هذه الأيام- يعتبرون قتالهم جهاداً، وموتهم شهادة في سبيل الله، والغالبية المطلقة من هؤلاء لم تكن تعرف القتال قبل الثورة، ولا تملك سلاحاً إلا بنادق الصيد التي كان الجزائري يراها مفخرة حين تكون في بيته. ومع ذلك انتصر هؤلاء وتعلموا فنون الحرب والتخطيط لها، وأساليب القيادة والكر والفر، وأنواع الأكمنة والتمويه، وأتقنوا التواصل بينهم بالطرق التقليدية والحديثة المتوفرة آنذاك، واستطاعوا هزيمة ضباط فرنسيين مدربين على أعلى مستوى ومدعومين تقنياً ويساندهم الحلف الأطلسي عدداً وعدة. لم تكن ثورة الجزائر ثورة نخبة أيديولوجية تحتقر الشعب، أو تُسعّر به نار الحرب من أجل أن تساوم وتفاوض بتضحياته على طاولات المفاوضات؛ فقد كان الشعب يراها ثورته، وشارك فيها الشباب والكهول والشيوخ والأطفال والنساء، والمتعلمون والأميون، والأثرياء والفقراء، وسكان المدن وأبناء البادية والريف. ولا يكاد حتى يومنا هذا يخلو بيت أو أسرة من شهيد ما تزال ذكراه حية يفتخر بها الأبناء والأحفاد؛ بل هناك أسر وبيوتات قدمت عشرات من الشهداء والمجاهدين والأسرى والمفقودين. لا شك أن الثورة على مستوى القيادة العليا بعد سنة 1956 شابتها شوائب الاختراق والبحث عن الزعامة وأمجاد القيادة والسعي القاتل من أجل المناصب والمكاسب، ولكن المؤكد أيضاً أن الشعب البسيط كان بعيداً تماماً عما يحدث بين القيادات، ولا يسمع بها إلا نادراً جداً، ولا تؤثر خصوماتهم وعداواتهم فيما بينهم على زخم الثورة وعنفوانها. الخونة والعملاء إن انخراط الشعب الجزائري في الثورة ومئات الألاف من الجرحى والمعطوبين ومليوناً ونصفاً من الشهداء، لم يكن ليخفي ظاهرة الخيانة والعمالة التي انخرط فيها آلاف من الجزائريين. لم يكن هؤلاء الخونة والذين اصطلح الجزائريون إلى اليوم على تسميتهم الحَرْكَى والقُومِية صنفاً واحداً؛ فقد كان منهم من كان منخرطاً في خدمة فرنسا حتى قبل الثورة، واستمر على ذلك إلى ما بعد اندلاعها، وهؤلاء أكثرهم كانوا أصحاب نفوذ وجاه وامتيازات ومكاسب، من أغوات وباش أغوات وقِياد ومنتخبين في البرلمان أو رؤساء بلديات أو موظفين في الإدارة الفرنسية. وكان منهم ضعفاء النفوس وساقطو المروءة، من كان يرى هزيمة فرنسا ضرباً من المستحيل، وأن أمر القضاء على الثورة والثوار إنما هو قضية أشهر أو سنوات معدودات، واختار الاصطفاف مع القوي المتمكن الذي يرى انتصاره مضموناً. وكان منهم من أكره تحت التعذيب والتهديد والابتزاز فضعف ولم يثبت، وكان منهم من كان سبب خيانته وانقلابه على عقبيه أخطاء الثوار في الأعراض أو الأموال أو الدماء، وما خالط تصرفات بعض قادتهم وجنودهم من ظلم وجور وعدوان، حفظ لنا التاريخ المدون والشفهي كثيراً من قصصه. ومنهم من كان دافعه إلى ذلك حزازات وخصومات وعداوات بين القبائل والأعراش، فإذا انضم للثورة قبيلة ما، انضمت لفرنسا وتعاونت معها القبيلة التي تعاديها، ولقد كانت هذه العداوات نفسها من صنع الاحتلا،ل يغذيها وينفخ فيها، ثم يستثمرها ويستغلها بما يخدم أهدافه في السلم والحرب. لم يستفد هؤلاء الخونة شيئاً من فرنسا أكثر من وعود كاذبة أو امتيازات مادية تافهة أو محافظة على جاه أو منصب، ناله هذا الخائن أو ذاك قبل الثورة أو في بداياتها، ولقد قُتل من هؤلاء الخونة والعملاء آلاف مؤلفة، ولعلي لا أكون مبالغاً لو زعمت أن ما قتله المجاهدون منهم أكثر مما قتلوه من الجنود الفرنسيين، ولم أقرأ فيما قرأت عن دراسة إحصائية بهذا الشأن، ويكفي لتعرف عددهم أن مَن هاجر منهم إلى فرنسا بعد وقف إطلاق النار كانوا زهاء 150000 خائناً وعميلاً، فإذا أضيف إليهم مثل هذا العدد على الأقل ممن بقوا في الجزائر وصفحت عنهم الثورة أو كانوا متخفين لا يعلم بهم الناس أو غيروا مواطن سكناهم، فإن العدد الإجمالي لا يقل عن 500000، وهو عدد كبير جداً إذا قارناه بعدد سكان الجزائر الذي لم يكن يتجاوز 10 ملايين. وبرغم كل ما سببه هؤلاء الخونة والعملاء من أذى وضرر بالمجاهدين والسكان في الأنفس والأعراض والأموال والمآوي، إلا أن نهايتهم كانت مخزية مذلة مهينة، وبقي اسمهم ووصفهم سبة عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم، بل وعلى قبائلهم إلى يوم الناس هذا، ولم يمنع وجود هؤلاء مع الاحتلال أن ينتصر المجاهدون وأن تحقق الثورة أهدافها، وأن يبوء الخونة بالثبور والخزي. على أن عدداً من العملاء من ذوي المستوى الدراسي المرتفع والمكانة الاجتماعية المتميزة قبل الثورة ومن الأثرياء وأصحاب الأملاك، هيئت لهم فرنسا ولأبنائهم سبلاً أخرى لاختراق الدولة الجديدة ومؤسساتها والتحكم في مفاصلها، إما بغفلة وسذاجة من قادة الثورة، واما بوقوعهم ضحية لخطط استخبارية فرنسية معقدة لم يكونوا قادرين على التفطن لها ومواجهتها، كما كان اضطرار قادة الجزائر المستقلة إلى وجود مثقفين وإداريين ووزراء ومسؤولين يتقنون اللغة الفرنسية ويمتلكون خبرة في الإدارة والتسيير مدخلاً للقبول بهؤلاء وغض الطرف عنهم، خاصة وأن هذه الطبقة منهم لم تتورط في عمل مسلح مباشر ضد الثورة والشعب، وإنما كان ولاؤها وتعاطفها مع فرنسا، وكانت تحتقر الشعب الجزائري وتستعلي عليه، وتتصرف أثناء الثورة كأن المجاهدين لصوص وقطاع طرق، بينما كان الرعاع والسفلة منهم يقومون بالوشاية والتجسس والتسلط على بني جلدتهم بالأذى والبطش ونصب الكمائن للمجاهدين في مناطقهم. أما العسكريون من الجزائر في الجيش الفرنسي، فقد استطاع الاحتلال أن يسرب عدداً منهم إلى صفوف المجاهدين في السنوات الثلاث الأخيرة من الثورة؛ ليتدرج أكثرهم في خبث ومكر وتخطيط ويصل إلى مناصب قيادية عسكرية ومدنية وأمنية عُليا بعد الاستقلال، وكان من بين هؤلاء الجنرالات خالد نزار ومحمد العماري قنايزيه وغزيّل والعربي بلخير، وغيرهم ممن قادوا وخططوا وأشرفوا على انقلاب 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لم تكن أبداً الخيانة والعمالة تشكل خطراً وجودياً على الثورة الجزائرية وغيرها من الثورات وحركات التغيير، بقدر ما كانت سذاجة وطيبة وغفلة قيادة الثورة هي الخطر الوجودي والثغرة القاتلة، وبقدر ما كانت حاجة الثورة للطاقات والكفاءات مدخلاً لطالما تسلل منه الخونة والعملاء. وللحديث بقية..
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية 2
الصغير منير

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

احتضان الشعب للثورة

كان الذين فجروا ثورة التحرير لا يتجاوز عددهم ألفاً ونيفاً، موزعين على كل مناطق الجزائر، مع كثافة عددية واضحة في منطقة الأوراس والشرق القسنطيني، لأسباب موضوعية وسياقات تاريخية ليس هذا مجال التفصيل فيها.
فاجأت الثورة النخبة من الأحزاب والجمعيات والأفراد، كما فاجأت الشعب الجزائري، وفاجأت قبلهما فرنسا التي كانت التقارير الأمنية لضباطها تشيد بالهدوء والاستقرار، وتستبعد أي فوضى أو اضطرابات.

لم يندفع الشعب الجزائري إلى مناصرة الثورة واحتضان المجاهدين بين عشية وضحاها، ولكن الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحركة الإصلاح الديني والتأطير والوعي السياسي والثوري، الذي أسست له وقادته الحركة الوطنية ممثلةً في حزب الشعب الجزائري، كانت كلها قد هيأت الشعب بنسب متفاوتة وبحسب المناطق أن يقبل فكرة الثورة في البداية، ثم يتعاطف مع المجاهدين، ثم يدفع بأبنائه إلى الجبال وأرض المعركة.

كانت قد نشأت على الأقل خمسة أجيال كاملة في ظل الاحتلال ولم تعرف غيره، وكانت الأجيال التي انتهى يأسها ونضالها وخبراتها ورصيدها الثوري إلى الجيل الذي فجر الثورة، تستبعد أن تخرج فرنسا يوماً ما من الجزائر؛ بل كان بعضهم لا يعرف إلا أن الفرنسيين هم أسياد الجزائر منذ القدم، وأحسنهم حالاً من كان يرى أي محاولة للثورة والتمرد إنما هي انتحار مباشر لا يجيزه شرع ولا عقل، هذا فضلاً عمن كان قد منح ولاءه وطاعته عن رضىً لفرنسا، وصار يفخر بخدمتها والوشاية ببني قومه والتنكيل بهم.

وقد كانت الأحزاب السياسية المطالبة بالاندماج والحزب الشيوعي الجزائري في المدن والحواضر وخطاب بعض الطرق الصوفية ذات النفوذ والانتشار في القرى والأرياف والصحراء، سبباً آخر في إحجام الشعب وتردده لأشهر طويلة، كما كان عدم تصريح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأي خطاب أو هدف ثوري مسلح سبباً في تردد محبيها ومنسوبيها والمتأثرين بخطابها، رغم أنهم كانوا في الميدان من السباقين مقارنة بغيرهم وممن فصلوا أمر الانخراط في صفوف الثورة مبكرا، دون انتظار قرار أو توجيه مباشر من قيادة الجمعية أو فتوى من شيوخها في الداخل.

على أن تردد أبناء الشعب لم يطل كثيراً فقد كان وضوح البيان الثوري وحسمه وحزمه ومفاصلته لفرنسا قوياً ومؤثراً وحماسياً محفزاً، كما كانت العمليات العسكرية النوعية والاغتيالات والكمائن تجوب أخبارها الأسواق والمجامع، ويتغنى بها الشعراء الشعبيون ويتناقلها الرواة، ثم جاء عنف المحتل الفرنسي في القمع والانتقام الأعمى ليدفع بالجزائريين إلى أحضان الثورة زرافات ووحداناً.

ولقد كانت كلمة الشهيد العربي بن مهيدي: "ارموا بالثورة إلى الشارع وسوف يحتضنها الشعب"، صادقة ومبصرة وفعالة إلى أبعد الحدود؛ فقد انضم إلى الثورة وأصبح من قادتها في الأرياف والجبال والبوادي رجال مسلمون غير "مؤدلجين" -كما يقال في التعبير الشائع هذه الأيام- يعتبرون قتالهم جهاداً، وموتهم شهادة في سبيل الله، والغالبية المطلقة من هؤلاء لم تكن تعرف القتال قبل الثورة، ولا تملك سلاحاً إلا بنادق الصيد التي كان الجزائري يراها مفخرة حين تكون في بيته.

ومع ذلك انتصر هؤلاء وتعلموا فنون الحرب والتخطيط لها، وأساليب القيادة والكر والفر، وأنواع الأكمنة والتمويه، وأتقنوا التواصل بينهم بالطرق التقليدية والحديثة المتوفرة آنذاك، واستطاعوا هزيمة ضباط فرنسيين مدربين على أعلى مستوى ومدعومين تقنياً ويساندهم الحلف الأطلسي عدداً وعدة.

لم تكن ثورة الجزائر ثورة نخبة أيديولوجية تحتقر الشعب، أو تُسعّر به نار الحرب من أجل أن تساوم وتفاوض بتضحياته على طاولات المفاوضات؛ فقد كان الشعب يراها ثورته، وشارك فيها الشباب والكهول والشيوخ والأطفال والنساء، والمتعلمون والأميون، والأثرياء والفقراء، وسكان المدن وأبناء البادية والريف.

ولا يكاد حتى يومنا هذا يخلو بيت أو أسرة من شهيد ما تزال ذكراه حية يفتخر بها الأبناء والأحفاد؛ بل هناك أسر وبيوتات قدمت عشرات من الشهداء والمجاهدين والأسرى والمفقودين.

لا شك أن الثورة على مستوى القيادة العليا بعد سنة 1956 شابتها شوائب الاختراق والبحث عن الزعامة وأمجاد القيادة والسعي القاتل من أجل المناصب والمكاسب، ولكن المؤكد أيضاً أن الشعب البسيط كان بعيداً تماماً عما يحدث بين القيادات، ولا يسمع بها إلا نادراً جداً، ولا تؤثر خصوماتهم وعداواتهم فيما بينهم على زخم الثورة وعنفوانها.

الخونة والعملاء

إن انخراط الشعب الجزائري في الثورة ومئات الألاف من الجرحى والمعطوبين ومليوناً ونصفاً من الشهداء، لم يكن ليخفي ظاهرة الخيانة والعمالة التي انخرط فيها آلاف من الجزائريين.

لم يكن هؤلاء الخونة والذين اصطلح الجزائريون إلى اليوم على تسميتهم الحَرْكَى والقُومِية صنفاً واحداً؛ فقد كان منهم من كان منخرطاً في خدمة فرنسا حتى قبل الثورة، واستمر على ذلك إلى ما بعد اندلاعها، وهؤلاء أكثرهم كانوا أصحاب نفوذ وجاه وامتيازات ومكاسب، من أغوات وباش أغوات وقِياد ومنتخبين في البرلمان أو رؤساء بلديات أو موظفين في الإدارة الفرنسية.

وكان منهم ضعفاء النفوس وساقطو المروءة، من كان يرى هزيمة فرنسا ضرباً من المستحيل، وأن أمر القضاء على الثورة والثوار إنما هو قضية أشهر أو سنوات معدودات، واختار الاصطفاف مع القوي المتمكن الذي يرى انتصاره مضموناً.

وكان منهم من أكره تحت التعذيب والتهديد والابتزاز فضعف ولم يثبت، وكان منهم من كان سبب خيانته وانقلابه على عقبيه أخطاء الثوار في الأعراض أو الأموال أو الدماء، وما خالط تصرفات بعض قادتهم وجنودهم من ظلم وجور وعدوان، حفظ لنا التاريخ المدون والشفهي كثيراً من قصصه.

ومنهم من كان دافعه إلى ذلك حزازات وخصومات وعداوات بين القبائل والأعراش، فإذا انضم للثورة قبيلة ما، انضمت لفرنسا وتعاونت معها القبيلة التي تعاديها، ولقد كانت هذه العداوات نفسها من صنع الاحتلا،ل يغذيها وينفخ فيها، ثم يستثمرها ويستغلها بما يخدم أهدافه في السلم والحرب.

لم يستفد هؤلاء الخونة شيئاً من فرنسا أكثر من وعود كاذبة أو امتيازات مادية تافهة أو محافظة على جاه أو منصب، ناله هذا الخائن أو ذاك قبل الثورة أو في بداياتها، ولقد قُتل من هؤلاء الخونة والعملاء آلاف مؤلفة، ولعلي لا أكون مبالغاً لو زعمت أن ما قتله المجاهدون منهم أكثر مما قتلوه من الجنود الفرنسيين، ولم أقرأ فيما قرأت عن دراسة إحصائية بهذا الشأن، ويكفي لتعرف عددهم أن مَن هاجر منهم إلى فرنسا بعد وقف إطلاق النار كانوا زهاء 150000 خائناً وعميلاً، فإذا أضيف إليهم مثل هذا العدد على الأقل ممن بقوا في الجزائر وصفحت عنهم الثورة أو كانوا متخفين لا يعلم بهم الناس أو غيروا مواطن سكناهم، فإن العدد الإجمالي لا يقل عن 500000، وهو عدد كبير جداً إذا قارناه بعدد سكان الجزائر الذي لم يكن يتجاوز 10 ملايين.

وبرغم كل ما سببه هؤلاء الخونة والعملاء من أذى وضرر بالمجاهدين والسكان في الأنفس والأعراض والأموال والمآوي، إلا أن نهايتهم كانت مخزية مذلة مهينة، وبقي اسمهم ووصفهم سبة عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم، بل وعلى قبائلهم إلى يوم الناس هذا، ولم يمنع وجود هؤلاء مع الاحتلال أن ينتصر المجاهدون وأن تحقق الثورة أهدافها، وأن يبوء الخونة بالثبور والخزي.

على أن عدداً من العملاء من ذوي المستوى الدراسي المرتفع والمكانة الاجتماعية المتميزة قبل الثورة ومن الأثرياء وأصحاب الأملاك، هيئت لهم فرنسا ولأبنائهم سبلاً أخرى لاختراق الدولة الجديدة ومؤسساتها والتحكم في مفاصلها، إما بغفلة وسذاجة من قادة الثورة، واما بوقوعهم ضحية لخطط استخبارية فرنسية معقدة لم يكونوا قادرين على التفطن لها ومواجهتها، كما كان اضطرار قادة الجزائر المستقلة إلى وجود مثقفين وإداريين ووزراء ومسؤولين يتقنون اللغة الفرنسية ويمتلكون خبرة في الإدارة والتسيير مدخلاً للقبول بهؤلاء وغض الطرف عنهم، خاصة وأن هذه الطبقة منهم لم تتورط في عمل مسلح مباشر ضد الثورة والشعب، وإنما كان ولاؤها وتعاطفها مع فرنسا، وكانت تحتقر الشعب الجزائري وتستعلي عليه، وتتصرف أثناء الثورة كأن المجاهدين لصوص وقطاع طرق، بينما كان الرعاع والسفلة منهم يقومون بالوشاية والتجسس والتسلط على بني جلدتهم بالأذى والبطش ونصب الكمائن للمجاهدين في مناطقهم.

أما العسكريون من الجزائر في الجيش الفرنسي، فقد استطاع الاحتلال أن يسرب عدداً منهم إلى صفوف المجاهدين في السنوات الثلاث الأخيرة من الثورة؛ ليتدرج أكثرهم في خبث ومكر وتخطيط ويصل إلى مناصب قيادية عسكرية ومدنية وأمنية عُليا بعد الاستقلال، وكان من بين هؤلاء الجنرالات خالد نزار ومحمد العماري قنايزيه وغزيّل والعربي بلخير، وغيرهم ممن قادوا وخططوا وأشرفوا على انقلاب 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

لم تكن أبداً الخيانة والعمالة تشكل خطراً وجودياً على الثورة الجزائرية وغيرها من الثورات وحركات التغيير، بقدر ما كانت سذاجة وطيبة وغفلة قيادة الثورة هي الخطر الوجودي والثغرة القاتلة، وبقدر ما كانت حاجة الثورة للطاقات والكفاءات مدخلاً لطالما تسلل منه الخونة والعملاء.

وللحديث بقية..
‏٠٨‏/١٠‏/٢٠١٨ ٧:٤٩ م‏
- لتصلك أعداد المجلة فور صدورها أول كل شهر ميلادي، اشترك في قائمتنا البريدية على هذا الموقع، تجدها في أسفل الصفحة: https://klmtuhaq.blog/ - من نفس الموقع أيضاً تستطيع تحميل جميع الأعداد السابقة، والهدايا (الكُتيبات) التي صدرت. - وليصلك إشعار بكل منشور ننشره هنا على صفحتنا على فيسبوك، قم بتفعيل زر المتابعة (شاهد أولاً) كما هو مبين في الصورة.
- لتصلك أعداد المجلة فور صدورها أول كل شهر ميلادي، اشترك في قائمتنا البريدية على هذا الموقع، تجدها في أسفل الصفحة: https://klmtuhaq.blog/

- من نفس الموقع أيضاً تستطيع تحميل جميع الأعداد السابقة، والهدايا (الكُتيبات) التي صدرت.

- وليصلك إشعار بكل منشور ننشره هنا على صفحتنا على فيسبوك، قم بتفعيل زر المتابعة (شاهد أولاً) كما هو مبين في الصورة.
‏٠٨‏/١٠‏/٢٠١٨ ١٠:٥١ ص‏
مليونيات ومقاومة إدلب روح وواقعية الثورة تنتفض حية [حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn] كرم الحفيان مقدمة سبع سنوات ونصف من التدميرالممنهج للكثيرمن المدن والقرى السورية على رؤوس أصحابها وثوارها، وقتل ما مجموعه مليون نفس، وتهجيرما يربوعلى نصف الشعب داخلياً وخارجياً،على يد أحد أكثرالأنظمة وحشية: النظام السوري. هذا النظام كاد يسقط عسكرياً بهمّة الثوار بحلول سبتمبر 2015م (رغم استعانته بالأخطبوط الإقليمي ذي الطابع الطائفي: جمهورية إيران)، لولا أن العناية الروسية تداركته بسياسة الأرض المحروقة، التي سُلطت على الكثير من المناطق الثائرة، كالجزء المحرر من دمشق وغوطتيها، ومدينة حلب وأريافها الشمالية، وريف اللاذقية المحرر، فضلاً عن بعض المناطق في محافظات حماة وإدلب ودرعا وغيرها. يضاف إلى ما سبق عوامل أخرى داخلية كالاقتتالات البينية والحصار والهدن المناطقية المنفردة، وخارجية كتواطؤ المجتمع الدولي، وتراجع دور تركيا "ما بعد محاولة الانقلاب"، ناهيك عن توابع خطة خفض التصعيد في مسارأستانة. هذه المعطيات مجتمعة أدت إلى قضم جميع الجيوب المحاصرة، وتنشيط النظام لضفادعه النائمة في المناطق الثائرة، للقيام بدورها الخطير في: بث روح الهزيمة واليأس في المجتمع الثوري بالتزامن مع: القصف الهولوكوستي للطيران الروسي، ومحاولة استدراج بعض القوى الثورية والأوساط الشعبية إلى فخ "التسويات والمصالحات"، كما حصل في درعا والغوطة والقلمون وريف حمص الشمالي. بدأت الأنظار تتجه شطرالأراضي المحررة في الشمال السوري، في ظل حشد النظام عسكرياً وإعلامياً للمعركة الأخيرة والحاسمة بنظره، وكان تعويله في حسم المعركة (بعد الطيران الروسي والقوات الإيرانية) على: الضفادع وانهيارالإرادة الثورية عند الحاضنة الشعبية مع طول أمد الثورة وارتفاع تكلفتها البشرية، بيد أن الرد جاء منظماً ومفاجئاً للكثيرين. فبدايةً، اجتمعت جميع الفصائل العسكرية في غرفة عمليات موحدة ووُزعت المحاور القتالية على امتداد الجغرافية المحررة التي تضم: محافظة إدلب بمدنها وقراها، وأرياف حلب الجنوبية والغربية، وقسم كبير من ريف حماة، إضافة إلى مجموعة من البلدات والتلال الإستراتيجية في ريف اللاذقية . ثم بدأت أضخم حملة تحصين لخطوط التماس ونقاط الرباط، تحسباً للهجوم الشامل المتوقع من التحالف الروسي الإيراني النظامي، شارك في هذه الحملة الشاقة جموع من المدنيين المتطوعين بل وبعض كبار السن، وركزت على ما يعزز ثبات الثوار ويقلل الخسائر في صفوفهم كحفر شبكات من الأنفاق الجديدة، وشق أخاديد من الخنادق العميقة ، مما حدا بالبعض لوصف نقاط الرباط والمواجهة مع الأعداء بالقلاع والحصون . ومما ساعد في إتمام هذه الخطوة بأفضل صورة ممكنة، هو وجود الآلاف من خيرة الثوارالمهجَّرين من شتى أنحاء سورية بعد رفضهم للاستسلام، والذين اكتسبوا خبرات استثنائية متعددة في: التكيف والقتال والتحصين المتقن بأبسط الإمكانيات والآليات، وفي أقصى الظروف من حصارخانق وشح في أبسط مقومات الثبات من غذاء ودواء وذخيرة. والجدير بالذكر أيضاً أن غالب فصائل الشمال أصبحت ذات كفاءة قتالية احترافية عالية ولديها فرق وألوية من القوات الخاصة. ولأن تحصين الصف البشري الداخلي يظل هو الأصل والآكد من التحصين المادي الخارجي، شنت الفصائل الكبرى حملات أمنية مكثفة لكشف ومحاسبة أبرز الشخصيات التي تتواصل مع النظام وتروج للتسليم والمصالحة، وزجت بالعشرات منهم في السجون ، الأمرالذي أربك النظام وخلط حساباته. من ناحية أخرى سياسية، اقتنعت سائر الجماعات الكبيرة التي كانت تتبرأ وتستهجن عقد أي تحالف وتنسيق سياسي وعسكري علني مع أي دولة خارجية (خاصة تركيا) وتعده انحرافاً عقدياً، أيقنت هذه الجماعات بالضرورة الواقعية (على الأقل) لتحالف كهذا في خضم هذه الحرب الطاحنة، وهذا الكم الهائل من أعداء الثورة الإقليميين والدوليين. وفي نفس السياق، أدركت بعض الجماعات الجهادية كهيئة تحريرالشام (جبهة النصرة سابقاً) خطورة الخطاب الجهادي المعولم الذي كانت تتبناه سابقاً، وعدّلته ليصبح خطاباً ثورياً محلياً، يؤكد على فك الارتباط التنظيمي بأي جهة خارجية. ومع اقتراب ساعة الصفر لهجوم بريٍ شامل، كثّفت القوات الجوية الروسية ضرباتها وصبت حممها النارية الغزيرة على مناطق كثيرة في أرياف إدلب وحماة واللاذقية، تمهيداً لدخول القوات النظامية والطائفية. وكثر الحديث في الإعلام عن هجوم كيميائي وشيك على المناطق المحررة ، في حرب نفسية على الأهالي بغية دفعهم للتسليم. ردة الفعل الشعبية لأربعة ملايين مواطن سوري كانت في غاية الثورية الواقعية، وتُرجمت في مظاهرات مليونية عمت ال 15,000 كيلومتر مربع من الشمال المحرر (رغم احتمالية القصف الروسي) في مشهدٍ بدا وكأنّه صورة طبق الأصل من الحشود الشعبية الهائلة، والمتحمسة لإسقاط الأنظمة الطاغوتية الظالمة في بداية الثورات بال 2011م. وفي ظل المفاوضات الإقليمية والعالمية الجارية بخصوص مصير إدلب وما حولها، خرجت هذه التظاهرات الشعبية العارمة حاملةً عدة رسائل للداخل والخارج أبرزها: أولاً: خيارنا المقاومة ولا استسلام للنظام وحلفائه مهما كانت النتائج . ثانياً: دعم موقف الفصائل في استمرار قتال النظام والاحتلالين الروسي والإيراني. ثالثاً: رفض أي حلول سياسية تقبل بها شريحة من المعارضة، وتتضمن كتابة دستور وإعادة إعمار قبل سقوط نظام بشار بكآفة أركانه ومؤسساته. رابعاً: الترحيب بالوجود العسكري التركي في الشمال ورفع بعض الأعلام التركية. هيمن اللون الأخضر لعلم الثورة الجامع لقلوب غالب الثوارعلى الفعاليات المليونية ، وغابت تماماً الأعلام الفصائلية والحزبية إلا في حالات نادرة، لا تكاد تذكر، إذ أصر بعض أنصار هيئة تحرير الشام على رفع راياتهم في بؤر معدودة، وبعضها في مظاهرات منفردة . لعلم الثورة مكانة خاصة في قلوب أبناء الثورة لعدة أسباب: بدايةً: هو العلم الذي ارتضته جموع الثوار من البداية لتميزهم عن النظام ومؤيديه. ثم: للخلفية التاريخية النابعة من اختيار الثوار السوريين له شعاراً في حرب الاستقلال ضد فرنسا في القرن الماضي. وأيضاً: كونه يمثل المشروع الوطني النابع من الثورة والجامع لأهلها والمعبرعنهم، بعيداً عن أي رايات ترمز لمشاريع وافدة من الخارج وتجمع الأعداء. وأوضحت المشاركة الواسعة للأهالي النازحين والمهجّرين من حمص وحماة ودمشق وحلب واللاذقية ودير الزور ومختلف المدن السورية، أن الثورة ما زالت قضية شعب ولم تنحصر في أهل الشمال دون الجنوب والشرق والغرب. ونتيجة لهذا عادت للواجهة وبقوة الشعارات والأناشيد الأولى للثورة، التي تعبر بصورة ملحوظة عن: ثقافة الشعب "الإسلام العام" بعيداً عن التشنجات الحزبية والتعصبات المنهجية، وتدعو للمؤاخاة العملية بين أبناء المحافظات المختلفة وليس فقط الأخوة النظرية المجردة، وتركز على أهداف الثورة المرحلية من هدم السلطة المجرمة بتفكيك أجهزتها الأمنية ومؤسساتها العسكرية ونزع شرعيتها السياسية، وأضيف لها لاحقاً التحرر من الاحتلال الروسي والإيراني. جميع الخطوات السابقة الحاملة لروح الثورة وواقعيتها سواءً على الصعيد العسكري أو الشعبي المدني أو الأداء الإعلامي، أربكت حسابات الجميع، وأكدت: هزالة النظام عسكرياً، إذ لم يستطع أن يحشد سوى 25,000 عسكري لاجتياح الشمال (الذي يجتمع فيه ما يقارب ال 100,000 مجاهد ثائر) رغم أنها الجبهة الوحيدة الباقية له مع الثوار. كذلك فتحت المجال أمام التناقضات الدولية، وقوّت الموقف التركي الرافض لإعادة سيطرة النظام على الشمال المحرر. فإن كان أهل الشمال والمهجّرين إليهم لن يقبلوا بالمصالحة والمكوث تحت سلطة النظام، فاستخدام سياسة الأرض المحروقة، مؤداها موجة جديدة من ملايين اللاجئين المدنيين، وهو ما لا تريده أوروبا ولا تتحمله تركيا. أحجمت روسيا وتراجعت عن معركة إدلب بعد: رفض القوات الإيرانية المشاركة بالهجوم، وتعارض المصالح الغربية مع الحل السياسي الروسي إن نجحت في الحسم العسكري، وثبات الموقف التركي المعارض لأي إجتياح للشمال، وقبل كل هذا الثبات الثوري الشعبي، الذي لولاه ما كانت سائر المعطيات الأخرى لتحول دون سيطرة النظام بقوة الروس والإيرانيين على آخر معاقل الثورة. خاتمة أحيت الروح الثورية التي شهدتها المليونيات الأخيرة بإدلب وما حولها في أغسطس وسبتمبر 2018م آمال الكثيرين في العالم الإسلامي بالتمسك بمسار الثورات والمقاومة، طريقاً وحيداً للخلاص مما ابتليت به الأمة الإسلامية من احتلال صريح ومقنّع، ومن هدر لحرية وكرامة أبنائها. وأثبتت أنه ما زال هناك ملايين المسلمين الأحرار تبعثهم عزائمهم من تحت الركام، ليقفوا على أقدامهم من جديد، ويواصوا مقارعة الجبابرة والمحتلين حتى يفتح الله عليهم، وهم بالتأكيد يفضلون "نار" الثورة على "جنة" الذل والعبودية وضياع الدين والدنيا. وأكدت كذلك على ضرورة التحلي بالواقعية المطلوبة، فلا حرق مراحل، ولا مشاريع منعزلة عن المحيط الثوري وأولوياته، وعن موازين القوى في العالم، ولا تماهي وركون مطلق إلى قوى عالمية، نعلم يقيناً كيدها الكُبار لأمتنا وثوراتها.
مليونيات ومقاومة إدلب
روح وواقعية الثورة تنتفض حية

[حمّل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw حمّل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn]

كرم الحفيان

مقدمة

سبع سنوات ونصف من التدميرالممنهج للكثيرمن المدن والقرى السورية على رؤوس أصحابها وثوارها، وقتل ما مجموعه مليون نفس، وتهجيرما يربوعلى نصف الشعب داخلياً وخارجياً،على يد أحد أكثرالأنظمة وحشية: النظام السوري.

هذا النظام كاد يسقط عسكرياً بهمّة الثوار بحلول سبتمبر 2015م (رغم استعانته بالأخطبوط الإقليمي ذي الطابع الطائفي: جمهورية إيران)، لولا أن العناية الروسية تداركته بسياسة الأرض المحروقة، التي سُلطت على الكثير من المناطق الثائرة، كالجزء المحرر من دمشق وغوطتيها، ومدينة حلب وأريافها الشمالية، وريف اللاذقية المحرر، فضلاً عن بعض المناطق في محافظات حماة وإدلب ودرعا وغيرها.

يضاف إلى ما سبق عوامل أخرى داخلية كالاقتتالات البينية والحصار والهدن المناطقية المنفردة، وخارجية كتواطؤ المجتمع الدولي، وتراجع دور تركيا "ما بعد محاولة الانقلاب"، ناهيك عن توابع خطة خفض التصعيد في مسارأستانة.

هذه المعطيات مجتمعة أدت إلى قضم جميع الجيوب المحاصرة، وتنشيط النظام لضفادعه النائمة في المناطق الثائرة، للقيام بدورها الخطير في: بث روح الهزيمة واليأس في المجتمع الثوري بالتزامن مع: القصف الهولوكوستي للطيران الروسي، ومحاولة استدراج بعض القوى الثورية والأوساط الشعبية إلى فخ "التسويات والمصالحات"، كما حصل في درعا والغوطة والقلمون وريف حمص الشمالي.

بدأت الأنظار تتجه شطرالأراضي المحررة في الشمال السوري، في ظل حشد النظام عسكرياً وإعلامياً للمعركة الأخيرة والحاسمة بنظره، وكان تعويله في حسم المعركة (بعد الطيران الروسي والقوات الإيرانية) على: الضفادع وانهيارالإرادة الثورية عند الحاضنة الشعبية مع طول أمد الثورة وارتفاع تكلفتها البشرية، بيد أن الرد جاء منظماً ومفاجئاً للكثيرين.

فبدايةً، اجتمعت جميع الفصائل العسكرية في غرفة عمليات موحدة ووُزعت المحاور القتالية على امتداد الجغرافية المحررة التي تضم: محافظة إدلب بمدنها وقراها، وأرياف حلب الجنوبية والغربية، وقسم كبير من ريف حماة، إضافة إلى مجموعة من البلدات والتلال الإستراتيجية في ريف اللاذقية .

ثم بدأت أضخم حملة تحصين لخطوط التماس ونقاط الرباط، تحسباً للهجوم الشامل المتوقع من التحالف الروسي الإيراني النظامي، شارك في هذه الحملة الشاقة جموع من المدنيين المتطوعين بل وبعض كبار السن، وركزت على ما يعزز ثبات الثوار ويقلل الخسائر في صفوفهم كحفر شبكات من الأنفاق الجديدة، وشق أخاديد من الخنادق العميقة ، مما حدا بالبعض لوصف نقاط الرباط والمواجهة مع الأعداء بالقلاع والحصون .

ومما ساعد في إتمام هذه الخطوة بأفضل صورة ممكنة، هو وجود الآلاف من خيرة الثوارالمهجَّرين من شتى أنحاء سورية بعد رفضهم للاستسلام، والذين اكتسبوا خبرات استثنائية متعددة في: التكيف والقتال والتحصين المتقن بأبسط الإمكانيات والآليات، وفي أقصى الظروف من حصارخانق وشح في أبسط مقومات الثبات من غذاء ودواء وذخيرة. والجدير بالذكر أيضاً أن غالب فصائل الشمال أصبحت ذات كفاءة قتالية احترافية عالية ولديها فرق وألوية من القوات الخاصة.

ولأن تحصين الصف البشري الداخلي يظل هو الأصل والآكد من التحصين المادي الخارجي، شنت الفصائل الكبرى حملات أمنية مكثفة لكشف ومحاسبة أبرز الشخصيات التي تتواصل مع النظام وتروج للتسليم والمصالحة، وزجت بالعشرات منهم في السجون ، الأمرالذي أربك النظام وخلط حساباته.

من ناحية أخرى سياسية، اقتنعت سائر الجماعات الكبيرة التي كانت تتبرأ وتستهجن عقد أي تحالف وتنسيق سياسي وعسكري علني مع أي دولة خارجية (خاصة تركيا) وتعده انحرافاً عقدياً، أيقنت هذه الجماعات بالضرورة الواقعية (على الأقل) لتحالف كهذا في خضم هذه الحرب الطاحنة، وهذا الكم الهائل من أعداء الثورة الإقليميين والدوليين.

وفي نفس السياق، أدركت بعض الجماعات الجهادية كهيئة تحريرالشام (جبهة النصرة سابقاً) خطورة الخطاب الجهادي المعولم الذي كانت تتبناه سابقاً، وعدّلته ليصبح خطاباً ثورياً محلياً، يؤكد على فك الارتباط التنظيمي بأي جهة خارجية.

ومع اقتراب ساعة الصفر لهجوم بريٍ شامل، كثّفت القوات الجوية الروسية ضرباتها وصبت حممها النارية الغزيرة على مناطق كثيرة في أرياف إدلب وحماة واللاذقية، تمهيداً لدخول القوات النظامية والطائفية. وكثر الحديث في الإعلام عن هجوم كيميائي وشيك على المناطق المحررة ، في حرب نفسية على الأهالي بغية دفعهم للتسليم.

ردة الفعل الشعبية لأربعة ملايين مواطن سوري كانت في غاية الثورية الواقعية، وتُرجمت في مظاهرات مليونية عمت ال 15,000 كيلومتر مربع من الشمال المحرر (رغم احتمالية القصف الروسي) في مشهدٍ بدا وكأنّه صورة طبق الأصل من الحشود الشعبية الهائلة، والمتحمسة لإسقاط الأنظمة الطاغوتية الظالمة في بداية الثورات بال 2011م.

وفي ظل المفاوضات الإقليمية والعالمية الجارية بخصوص مصير إدلب وما حولها، خرجت هذه التظاهرات الشعبية العارمة حاملةً عدة رسائل للداخل والخارج أبرزها:

أولاً: خيارنا المقاومة ولا استسلام للنظام وحلفائه مهما كانت النتائج .
ثانياً: دعم موقف الفصائل في استمرار قتال النظام والاحتلالين الروسي والإيراني.

ثالثاً: رفض أي حلول سياسية تقبل بها شريحة من المعارضة، وتتضمن كتابة دستور وإعادة إعمار قبل سقوط نظام بشار بكآفة أركانه ومؤسساته.

رابعاً: الترحيب بالوجود العسكري التركي في الشمال ورفع بعض الأعلام التركية.

هيمن اللون الأخضر لعلم الثورة الجامع لقلوب غالب الثوارعلى الفعاليات المليونية ، وغابت تماماً الأعلام الفصائلية والحزبية إلا في حالات نادرة، لا تكاد تذكر، إذ أصر بعض أنصار هيئة تحرير الشام على رفع راياتهم في بؤر معدودة، وبعضها في مظاهرات منفردة .

لعلم الثورة مكانة خاصة في قلوب أبناء الثورة لعدة أسباب:

بدايةً: هو العلم الذي ارتضته جموع الثوار من البداية لتميزهم عن النظام ومؤيديه.

ثم: للخلفية التاريخية النابعة من اختيار الثوار السوريين له شعاراً في حرب الاستقلال ضد فرنسا في القرن الماضي.

وأيضاً: كونه يمثل المشروع الوطني النابع من الثورة والجامع لأهلها والمعبرعنهم، بعيداً عن أي رايات ترمز لمشاريع وافدة من الخارج وتجمع الأعداء.

وأوضحت المشاركة الواسعة للأهالي النازحين والمهجّرين من حمص وحماة ودمشق وحلب واللاذقية ودير الزور ومختلف المدن السورية، أن الثورة ما زالت قضية شعب ولم تنحصر في أهل الشمال دون الجنوب والشرق والغرب.

ونتيجة لهذا عادت للواجهة وبقوة الشعارات والأناشيد الأولى للثورة، التي تعبر بصورة ملحوظة عن: ثقافة الشعب "الإسلام العام" بعيداً عن التشنجات الحزبية والتعصبات المنهجية، وتدعو للمؤاخاة العملية بين أبناء المحافظات المختلفة وليس فقط الأخوة النظرية المجردة، وتركز على أهداف الثورة المرحلية من هدم السلطة المجرمة بتفكيك أجهزتها الأمنية ومؤسساتها العسكرية ونزع شرعيتها السياسية، وأضيف لها لاحقاً التحرر من الاحتلال الروسي والإيراني.

جميع الخطوات السابقة الحاملة لروح الثورة وواقعيتها سواءً على الصعيد العسكري أو الشعبي المدني أو الأداء الإعلامي، أربكت حسابات الجميع، وأكدت: هزالة النظام عسكرياً، إذ لم يستطع أن يحشد سوى 25,000 عسكري لاجتياح الشمال (الذي يجتمع فيه ما يقارب ال 100,000 مجاهد ثائر) رغم أنها الجبهة الوحيدة الباقية له مع الثوار. كذلك فتحت المجال أمام التناقضات الدولية، وقوّت الموقف التركي الرافض لإعادة سيطرة النظام على الشمال المحرر.

فإن كان أهل الشمال والمهجّرين إليهم لن يقبلوا بالمصالحة والمكوث تحت سلطة النظام، فاستخدام سياسة الأرض المحروقة، مؤداها موجة جديدة من ملايين اللاجئين المدنيين، وهو ما لا تريده أوروبا ولا تتحمله تركيا.

أحجمت روسيا وتراجعت عن معركة إدلب بعد: رفض القوات الإيرانية المشاركة بالهجوم، وتعارض المصالح الغربية مع الحل السياسي الروسي إن نجحت في الحسم العسكري، وثبات الموقف التركي المعارض لأي إجتياح للشمال، وقبل كل هذا الثبات الثوري الشعبي، الذي لولاه ما كانت سائر المعطيات الأخرى لتحول دون سيطرة النظام بقوة الروس والإيرانيين على آخر معاقل الثورة.

خاتمة

أحيت الروح الثورية التي شهدتها المليونيات الأخيرة بإدلب وما حولها في أغسطس وسبتمبر 2018م آمال الكثيرين في العالم الإسلامي بالتمسك بمسار الثورات والمقاومة، طريقاً وحيداً للخلاص مما ابتليت به الأمة الإسلامية من احتلال صريح ومقنّع، ومن هدر لحرية وكرامة أبنائها.

وأثبتت أنه ما زال هناك ملايين المسلمين الأحرار تبعثهم عزائمهم من تحت الركام، ليقفوا على أقدامهم من جديد، ويواصوا مقارعة الجبابرة والمحتلين حتى يفتح الله عليهم، وهم بالتأكيد يفضلون "نار" الثورة على "جنة" الذل والعبودية وضياع الدين والدنيا.

وأكدت كذلك على ضرورة التحلي بالواقعية المطلوبة، فلا حرق مراحل، ولا مشاريع منعزلة عن المحيط الثوري وأولوياته، وعن موازين القوى في العالم، ولا تماهي وركون مطلق إلى قوى عالمية، نعلم يقيناً كيدها الكُبار لأمتنا وثوراتها.
‏٠٦‏/١٠‏/٢٠١٨ ٩:١٦ م‏
الافتتاحية.. مصانع الخيانة! محمد إلهامي لتحميل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw لتحميل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn روى الدكتور وليد سيف في مذكراته أنه حين كان طالباً في لندن تعرف على عجوزٍ كان في شبابه جندياً بريطانياً خدم في فلسطين، يقول عنه: "صار بوسعه الآن بعد أن تحرر من التزامات الوظيفة أن يعبر عن تعاطفه مع الشعب الفلسطيني ويقر بدور بريطانيا في خلق نكباته ومآسيه... وإذ أجزم بصدق مشاعره في تلك اللحظات، فإني أجزم كذلك أنها ما كانت لتردعه أيام خدمته شاباً في فلسطين عن النهوض بواجبات وظيفته بإخلاص وإتقان، مهما تكن جائرة بحق الشعب الفلسطيني. فالإنجليزي يُحسن الفصل بين عواطفه ومواقفه الفردية الذاتية من جهة، وبين مقتضيات وظيفته مهما تكن متعارضة مع الأولى من جهة أخرى. فالإخلاص لدولته ولعمله فيها مُقَدَّم على أي اعتبار ذاتي. وحديث الضمير مؤجل إلى ما بعد إنجاز المهمة. وليس عليه أن يلوم نفسه فيما لا يدخل في نطاق إرادته ومسؤولياته وتخصصه. فسياسة الدولة وقرارات الحرب والسلم من عمل الزعماء والساسة. واحترام الاختصاص والتراتب الوظيفييْن من عقائد الدين المدني. وكل ذلك نتاج حداثة غربية اندمجت فيها مفاهيم العقلانية (أو الترشيد) بالبيروقراطية (ومعناها الأصلي: التجرد من الاعتبارات الشخصية وتحكيم اللوائح والنظم في العمل والإدارة. وذلك بخلاف ما آل إليه المعنى عندنا إذ يفيد التعقيدات الإدارية المفرطة)، والاحترافية، والتخصص الوظيفي المجتمعي. وبقدر ما أسهمت هذه المفاهيم مجتمعة في تقدم المجتمع الغربي وقوته، أسهمت كذلك في قسوته وجفوته ووحشته. فمطلب الكفاءة في الإنجاز يمكن أن يُضَحي أحياناً بالاعتبارات الإنسانية والأخلاقية التي تلابس المهمة" . هكذا طوَّرت "الحضارة" الغربية نظاماً يمكن فيه للجندي أن يرتكب المذابح بكل وحشية (أو: بكل كفاءة) ثم إذا بلغ سنّ المعاش سمح لنفسه أن يتعاطف مع مَن ذبحهم بكل إخلاص (أو: بكل إنسانية)!! *** هذه الصورة على بشاعتها وقبحها قد تبدو مفهومة في ميزان النظرة المادية المتجردة من كل اعتبار أخلاقي، لكن كيف يمكن أن يُقبل في أي ميزان أن يكون صاحب هذه المذابح رجل من أهل البلد نفسها، يعمل في خدمة المحتلين بكل وحشية (أو: بكل كفاءة؟!).. فلئن كان الإنجليزي يسمع ويطيع لحكومة هو انتخبها واختارها وهي تجعله في عافية ورفاهية وتؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، فما هي حجة وعذر من يفعلها من أبناء البلد المحتل؟!! ما هي حجة فلسطيني يفعلها خدمة للإنجليز؟ أو جزائري خدمة للفرنسيين؟ أو مغربي خدمة للإسبان؟! وأيضاً: ما هي حجة أي إنسان يفعلها خدمة لنظام جاء بالقهر والعنف والدبابة ومن ورائه جاء برغبة النفوذ الأجنبي المهيمن على بلادنا؟ ثم ما هي حجة أي إنسان يفعلها وهذا النظام لا يُؤَمِّن له ولا لأبنائه طعاماً نظيفاً ولا تعليماً مفيداً ولا طباً صحيحاً ولا حياة طبيعية؟! أحسب أني أعرف الإجابة: لقد فعلها هؤلاء جميعاً لأن "الدولة" استطاعت صناعة عقيدة غرستها في النفوس.. لا يخلو الأمر من مكاسب يتمتع بها الخونة على سائر الناس لكن مجرد المكاسب لا تفسر وحدها هذا الإخلاص وتلك الوحشية (أو: الكفاءة) في خدمة النظام المحتل أو النظام المستبد. لم يعد أولئك الذين يفعلون هذا يرون أنهم يخونون أو يظلمون، بل صاروا يحسبون أنهم يقومون بالواجب الوطني.. ومنهم من تفانى فيه حتى أهلك نفسه، وهو مقبل غير مدبر!! *** هذه الصورة رواها د. خليل حسن خليل في مذكراته الروائية، وقد سُجِن في عهد عبد الناصر من بعد ما كان يعطي المحاضرات لعناصر الاتحاد الاشتراكي بل ومن بعد ما كان منتدباً للعمل في رئاسة الجمهورية، فسجل حوارا ًبينه وبين ضابط السجن الذي كان تلميذاً له من قبل، سأله: - هل تشترك في تعذيب المعتقلين؟ بهت الضابط عند سماع السؤال. تردد في الإجابة. ثم قال بصوت لا انفعال فيه ولا حسرة: - طبعاً! -أنت؟! الإنسان الرقيق. التلميذ النجيب، ابن صديقي الحميم. لقد رباك أبوك تربية مهذبة طيبة. - كل هذا اختفى أثناء تدريبنا في الكلية. ثم تلاشى تماماً حينما وضعوا النجمة على كتفي! - هل لا يدمي ضميرك، هذا التعذيب البشع الذي تباشره على الإنسان؟ - وهل يتعذب ضمير عشماوي حين يقصف برقاب المحكوم عليهم بالإعدام؟ - عشماوي يعدم الذين قضت المحاكم بإعدامهم. - الفرق ليس كبيراً! - ألهذه الدرجة؟ - نحن ضباط، نأكل العيش والجاتوه من هذه الوظيفة، ونتيه بها على الخلق. ونؤمر بالتعذيب فنستجيب. - أتنفذون أوامر التعذيب بالضبط، أم تضيفون إليه؟ - أنا أنفذ العلاج الذي يضعه القادة بالضبط. أعطي للمريض الجرعة والحقن دون زيادة أو نقصان. -كم أنت عادل! - أنا أؤدي واجبي. - وزملاؤك؟ - لا شأن لي بهم. - علمت أن بعضهم ينهش لحم المعتقل، ويمصمص نخاعه، وكأنه وحش يستمتع بالوليمة. - لا أريد أن أتحدث عن غيري. إنما لأنك أستاذي، وكنت تعطيني دروساً خصوصية بالمنزل مجانية، بحكم صداقتك لوالدي، سأقول لك: التعذيب يثير في الإنسان غريزة غريبة. فبعض المعذِّبين يتشفى في المعتقل وكأنه عدوه، وكلما ألهب ظهره أو نفخ أحشاءه، تملكته هذه الغريزة الحيوانية، واقترب من حرفة الجزارة! بفارق واحد، أن الخروف أو العجل يذبح ثم لا يحس بتقطيع أعضائه. وتبلغ الوحشية ذروتها، إذا بدت من المعتقل إشارة أو احتجاج أو تأفف. هناك يعتبر المعذب أنه أهين إهانة شخصية! لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. فيتملكه سعار بربري، يصب أواره على المعتقل، وقد نفق كثير من المعتقلين بهذه الطريقة! - أنت تستخدم كلمة "نفق"؟ - في مثل هذه البيئة يستوي الحمار والإنسان . *** خطر لي مرة وأنا أقرأ التحقيقات مع الثائر البطل أحمد عرابي أن أفتح ملفاً لأحفظ فيه أسماء الخونة الذين حققوا معه، فقد كانوا يبذلون في التحقيق جهداً واضحاً في المحاصرة والتضييق وانتزاع الأقوال! فما أكملت لحظة حتى عرفت أن المهمة ثقيلة والأسماء طويلة وكثيرة. لقد صار الظلم والخيانة مؤسسة وجهازاً ودولة، منذ عهد الطاغية الجبار محمد علي، حتى صارت وظائف كالشرطة والعسكر والقضاء والمخابرات والإعلام هي بنفسها معاقل لتفريخ وإنتاج وتصنيع الخيانة والعمالة للاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي.. حتى إن النادر القليل منهم مَنْ لم يتلوث بالمشاركة في هذه الأوحال! وأندر منهم من استقال من تلك المؤسسات فنجا بنفسه، وأندر من كل هؤلاء من فكر في المقاومة والإصلاح. ذلك أن هذه الدولة وهذه المؤسسات جعلت الخيانة والعمالة والتعذيب والتزوير والبشاعة مدرسة فكرية، وجهة نظر، فلسفة ومنهجاً، ديناً متبوعاً.. لقد أنتجت هذه الدولة ومؤسساتها عقيدتها التي جعلت كل هذا ينتقل من معنى الخيانة والعمالة والظلم إلى معنى الواجب الوطني والنظام والشرف! نعم.. صارت مهمة ثقيلة طويلة أن نتتبع أسماء مَن قبضوا على الوطنيين ومَن حققوا معهم ومَن حاكموهم ومَن عذبوهم ومَن شوهوا صورتهم بالأشعار والأغاني والمقالات.. قائمة لا تكاد تحصى ولا تُحصر ولا تنتهي. وإن بعض العزاء أن التاريخ يصحح سيرته بعد سنين طويلة، كما قد أبقى اسم عرابي علماً على الثورة والجهاد، وأبقى اسم الخديوي توفيق علماً على الخيانة والعمالة! *** لقد أنشأ الاحتلال وما زرعه في بلادنا من أنظمة تابعة له، أنشأ أجيالاً تؤدي واجبها في حرب أبناء البلد دون هوادة، وبعض أولئك يقرأ الآن هذه السطور، لا بغرض التأمل في معانيها بل بغرض رصد وتحليل ما تحمله من أغراض ورسائل! ولقد ضرب الله مثلاً بكلماته وله المثل الأعلى فأخبرنا أن الآية نفسها يضل بها كثيراً ويهدي بها كثيراً، وأن القرآن ينزل على بعض الناس هداية ويزيد الآخرين كفراً وفجوراً. وما ذلك إلا لأن البعض نظر فيها يطلب منها الهداية والآخر نظر فيها يبحث عن مواضع الجدل ويلتمس النقص والعيب وإثارة الشبهات. في لحظة كتابة هذه السطور تشن حرب محلية على أبسط مظاهر الدين، أغلقت السلطات في موريتانيا جمعية (تكوين العلماء) التي أنشأها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهي جمعية تخرج من يتأصلون علمياً بحفظ القرآن والسنة ومتون العلم، وبعدها بساعات صدر قرار من الحكومة الليبية التي لم يستقر لها قرار ولا تملك توفير رواتب للناس بعدم استقبال طلاب الابتدائي لمدراس التعليم الديني، وقبل ذلك عصف محمد بن سلمان بسائر الأنشطة العلمية والدعوية في مساجد بلاد الحرمين.. وأنّى نظرت إلى بلد رأيت مثل هذا أو شيئاً منه. هذه الغارات العنيفة يقوم بها مَن يقولون بأنهم مسلمون، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، هذا مع أن سائر هذه الأنشطة والمؤسسات تبتعد تماماً عن كل ما قد يثير حساسية الأنظمة والحكومات وأوليائهم، بل هي لم تنشأ أصلاً إلا بموافقات وتصاريح أمنية ولم تمارس عملها إلا برقابة وتشديدات أمنية أيضاً، أي أنها أبعد ما تكون عن هذه التهمة. وعندئذ لا يبقى لنا إلا تفسير من اثنين: إما أن هؤلاء القوم (تذكّرْ دائما أنهم منتسبون للإسلام) يرون القرآن نفسه كتاب تطرف وإرهاب، وأنه مادة يجب مطاردتها وملاحقة تدريسها وتحفيظها. أو أنهم لا يفكرون في هذا أصلاً وإنما يقومون بعملهم (بكفاءة) كما أُمِروا به، وطالما أنهم يقومون بوظيفتهم بكفاءة فلا معنى لأن يفكروا في شيء، ومن كان ينوي التفكير فليؤجله إلى لحظة سن المعاش كي يتعاطف مع من سجنهم وضربهم وآذاهم! قبل أن ينشأ في بلادنا "صنم الدولة"، كان أهل العلم والفقه أصحاب مكانة وهيبة وتوقير، لا يجرؤ عليهم إلا من انخلع عامداً من الدين والأدب، ولا يتجاسر عليهم إلا مَن عرف مِن نفسه وعرف الناس منه السقوط والانحطاط.. أما وإذ جاء صنم الدولة وانتصب معبوداً فوق كل شيء، فلا ريب أن رغباته أوامر، وأن كل فرد في جهاز هذه الدولة إنما هو "عبد المأمور"! إن أمام المجاهدين عملاً طويلاً ثقيلاً لكسر هذا الصنم، وإعادة المرجعية العليا لتكون لله ورسوله، والعلماء هم أوائل المسؤولين عن إرجاع حجم "الدولة" لتكون خاضعة لله ولرسوله ولشريعته، وعليهم بذل المجهود كله في إفهام الناس أن كل ما خالف الدين هدر لا قيمة له ولا كرامة ولا احترام ولو صدر من الدولة، ولو قرره برلمانها ولو طبل له إعلامها. إن حقيقة الصراع في كونه صراعاً على السيادة، على المرجعية العليا، هل تكون لله أم لغير الله! وسيظل أهل العلم والدين والجهاد يتعرضون لإيذاء هذه الدولة مهما حاولوا الابتعاد عنها، فإنها تعرف أن عملهم في حقيقته هو تعظيم الدين ليكون مرجعية فوقها، ولتكون هي خاضعة له.. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطراً! وهذا هو حقيقة التحرر والتحرير، وحقيقة الإخلاص والتوحيد.. أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وألا يكون أحد من الناس عبداً لنظام أو ملك أو رئيس أو وظيفة، يضطر معها إلى إلغاء عقله وتجميد ضميره لتنفيذ الأوامر بكل كفاءة!! أو يضطر معها للإيمان بأفكار رؤسائه وابتلاع كلامهم كي لا يعيش تعذيب الضمير وإلغاء العقل إذ ينفذ أوامرهم بكل كفاءة!! حقيقة التوحيد والتحرر ألا يصرف الإنسان طاعته إلا لله.. وإعادة غرس هذا في الناس مهمة عظيمة بعد تضخم أجيال آمنت "بالدولة" حتى حاربت في سبيلها أخلص أبنائها وصفوة عقولها. *** لئن كان بعض العزاء أن التاريخ سيصحح مسيرته بعد تبدُّل القوى وتغيُّر الحال، إلا أن العزاء كله، وهذا هو ما يشفي الصدر حقاً، أن الحساب الأخير عند الله تعالى، الله الذي لا يغفل ولا ينام ولا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد ولا تغيب عنه هفوة.. فهذا هو العزاء حقاً.. وهذا هو شفاء الصدر حقاً.. وتلك هي الطمأنينة حقاً! فسبحان الله.. الحق العدل المبين.. سبحان الذي قال: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟} { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} { عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ألا إنه لولا الله ولولا الدار الآخرة لكان نعيم هذه الدنيا في الانتحار والخروج منها.. فلله الحمد الذي جعل لعباده آخرة وحساباً وميزاناً دقيقاً، فلا يفلت منه عقوبته ظالم ولا من عدله ورحمته مظلوم.
الافتتاحية.. مصانع الخيانة!
محمد إلهامي

لتحميل العدد الجديد bit.ly/2zJejSw لتحميل هدية العدد bit.ly/2Qo8SOn

روى الدكتور وليد سيف في مذكراته أنه حين كان طالباً في لندن تعرف على عجوزٍ كان في شبابه جندياً بريطانياً خدم في فلسطين، يقول عنه: "صار بوسعه الآن بعد أن تحرر من التزامات الوظيفة أن يعبر عن تعاطفه مع الشعب الفلسطيني ويقر بدور بريطانيا في خلق نكباته ومآسيه... وإذ أجزم بصدق مشاعره في تلك اللحظات، فإني أجزم كذلك أنها ما كانت لتردعه أيام خدمته شاباً في فلسطين عن النهوض بواجبات وظيفته بإخلاص وإتقان، مهما تكن جائرة بحق الشعب الفلسطيني. فالإنجليزي يُحسن الفصل بين عواطفه ومواقفه الفردية الذاتية من جهة، وبين مقتضيات وظيفته مهما تكن متعارضة مع الأولى من جهة أخرى. فالإخلاص لدولته ولعمله فيها مُقَدَّم على أي اعتبار ذاتي. وحديث الضمير مؤجل إلى ما بعد إنجاز المهمة. وليس عليه أن يلوم نفسه فيما لا يدخل في نطاق إرادته ومسؤولياته وتخصصه. فسياسة الدولة وقرارات الحرب والسلم من عمل الزعماء والساسة. واحترام الاختصاص والتراتب الوظيفييْن من عقائد الدين المدني. وكل ذلك نتاج حداثة غربية اندمجت فيها مفاهيم العقلانية (أو الترشيد) بالبيروقراطية (ومعناها الأصلي: التجرد من الاعتبارات الشخصية وتحكيم اللوائح والنظم في العمل والإدارة. وذلك بخلاف ما آل إليه المعنى عندنا إذ يفيد التعقيدات الإدارية المفرطة)، والاحترافية، والتخصص الوظيفي المجتمعي. وبقدر ما أسهمت هذه المفاهيم مجتمعة في تقدم المجتمع الغربي وقوته، أسهمت كذلك في قسوته وجفوته ووحشته. فمطلب الكفاءة في الإنجاز يمكن أن يُضَحي أحياناً بالاعتبارات الإنسانية والأخلاقية التي تلابس المهمة" .

هكذا طوَّرت "الحضارة" الغربية نظاماً يمكن فيه للجندي أن يرتكب المذابح بكل وحشية (أو: بكل كفاءة) ثم إذا بلغ سنّ المعاش سمح لنفسه أن يتعاطف مع مَن ذبحهم بكل إخلاص (أو: بكل إنسانية)!!
***

هذه الصورة على بشاعتها وقبحها قد تبدو مفهومة في ميزان النظرة المادية المتجردة من كل اعتبار أخلاقي، لكن كيف يمكن أن يُقبل في أي ميزان أن يكون صاحب هذه المذابح رجل من أهل البلد نفسها، يعمل في خدمة المحتلين بكل وحشية (أو: بكل كفاءة؟!).. فلئن كان الإنجليزي يسمع ويطيع لحكومة هو انتخبها واختارها وهي تجعله في عافية ورفاهية وتؤمن له مستقبله ومستقبل أولاده، فما هي حجة وعذر من يفعلها من أبناء البلد المحتل؟!!

ما هي حجة فلسطيني يفعلها خدمة للإنجليز؟ أو جزائري خدمة للفرنسيين؟ أو مغربي خدمة للإسبان؟! وأيضاً: ما هي حجة أي إنسان يفعلها خدمة لنظام جاء بالقهر والعنف والدبابة ومن ورائه جاء برغبة النفوذ الأجنبي المهيمن على بلادنا؟ ثم ما هي حجة أي إنسان يفعلها وهذا النظام لا يُؤَمِّن له ولا لأبنائه طعاماً نظيفاً ولا تعليماً مفيداً ولا طباً صحيحاً ولا حياة طبيعية؟!

أحسب أني أعرف الإجابة: لقد فعلها هؤلاء جميعاً لأن "الدولة" استطاعت صناعة عقيدة غرستها في النفوس.. لا يخلو الأمر من مكاسب يتمتع بها الخونة على سائر الناس لكن مجرد المكاسب لا تفسر وحدها هذا الإخلاص وتلك الوحشية (أو: الكفاءة) في خدمة النظام المحتل أو النظام المستبد.

لم يعد أولئك الذين يفعلون هذا يرون أنهم يخونون أو يظلمون، بل صاروا يحسبون أنهم يقومون بالواجب الوطني.. ومنهم من تفانى فيه حتى أهلك نفسه، وهو مقبل غير مدبر!!
***

هذه الصورة رواها د. خليل حسن خليل في مذكراته الروائية، وقد سُجِن في عهد عبد الناصر من بعد ما كان يعطي المحاضرات لعناصر الاتحاد الاشتراكي بل ومن بعد ما كان منتدباً للعمل في رئاسة الجمهورية، فسجل حوارا ًبينه وبين ضابط السجن الذي كان تلميذاً له من قبل، سأله:

- هل تشترك في تعذيب المعتقلين؟

بهت الضابط عند سماع السؤال. تردد في الإجابة. ثم قال بصوت لا انفعال فيه ولا حسرة:

- طبعاً!

-أنت؟! الإنسان الرقيق. التلميذ النجيب، ابن صديقي الحميم. لقد رباك أبوك تربية مهذبة طيبة.

- كل هذا اختفى أثناء تدريبنا في الكلية. ثم تلاشى تماماً حينما وضعوا النجمة على كتفي!

- هل لا يدمي ضميرك، هذا التعذيب البشع الذي تباشره على الإنسان؟

- وهل يتعذب ضمير عشماوي حين يقصف برقاب المحكوم عليهم بالإعدام؟

- عشماوي يعدم الذين قضت المحاكم بإعدامهم.

- الفرق ليس كبيراً!

- ألهذه الدرجة؟

- نحن ضباط، نأكل العيش والجاتوه من هذه الوظيفة، ونتيه بها على الخلق. ونؤمر بالتعذيب فنستجيب.

- أتنفذون أوامر التعذيب بالضبط، أم تضيفون إليه؟

- أنا أنفذ العلاج الذي يضعه القادة بالضبط. أعطي للمريض الجرعة والحقن دون زيادة أو نقصان.

-كم أنت عادل!

- أنا أؤدي واجبي.

- وزملاؤك؟

- لا شأن لي بهم.

- علمت أن بعضهم ينهش لحم المعتقل، ويمصمص نخاعه، وكأنه وحش يستمتع بالوليمة.

- لا أريد أن أتحدث عن غيري. إنما لأنك أستاذي، وكنت تعطيني دروساً خصوصية بالمنزل مجانية، بحكم صداقتك لوالدي، سأقول لك:

التعذيب يثير في الإنسان غريزة غريبة. فبعض المعذِّبين يتشفى في المعتقل وكأنه عدوه، وكلما ألهب ظهره أو نفخ أحشاءه، تملكته هذه الغريزة الحيوانية، واقترب من حرفة الجزارة! بفارق واحد، أن الخروف أو العجل يذبح ثم لا يحس بتقطيع أعضائه. وتبلغ الوحشية ذروتها، إذا بدت من المعتقل إشارة أو احتجاج أو تأفف. هناك يعتبر المعذب أنه أهين إهانة شخصية! لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. فيتملكه سعار بربري، يصب أواره على المعتقل، وقد نفق كثير من المعتقلين بهذه الطريقة!

- أنت تستخدم كلمة "نفق"؟

- في مثل هذه البيئة يستوي الحمار والإنسان .
***

خطر لي مرة وأنا أقرأ التحقيقات مع الثائر البطل أحمد عرابي أن أفتح ملفاً لأحفظ فيه أسماء الخونة الذين حققوا معه، فقد كانوا يبذلون في التحقيق جهداً واضحاً في المحاصرة والتضييق وانتزاع الأقوال! فما أكملت لحظة حتى عرفت أن المهمة ثقيلة والأسماء طويلة وكثيرة.

لقد صار الظلم والخيانة مؤسسة وجهازاً ودولة، منذ عهد الطاغية الجبار محمد علي، حتى صارت وظائف كالشرطة والعسكر والقضاء والمخابرات والإعلام هي بنفسها معاقل لتفريخ وإنتاج وتصنيع الخيانة والعمالة للاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي.. حتى إن النادر القليل منهم مَنْ لم يتلوث بالمشاركة في هذه الأوحال! وأندر منهم من استقال من تلك المؤسسات فنجا بنفسه، وأندر من كل هؤلاء من فكر في المقاومة والإصلاح.

ذلك أن هذه الدولة وهذه المؤسسات جعلت الخيانة والعمالة والتعذيب والتزوير والبشاعة مدرسة فكرية، وجهة نظر، فلسفة ومنهجاً، ديناً متبوعاً.. لقد أنتجت هذه الدولة ومؤسساتها عقيدتها التي جعلت كل هذا ينتقل من معنى الخيانة والعمالة والظلم إلى معنى الواجب الوطني والنظام والشرف!

نعم.. صارت مهمة ثقيلة طويلة أن نتتبع أسماء مَن قبضوا على الوطنيين ومَن حققوا معهم ومَن حاكموهم ومَن عذبوهم ومَن شوهوا صورتهم بالأشعار والأغاني والمقالات.. قائمة لا تكاد تحصى ولا تُحصر ولا تنتهي.

وإن بعض العزاء أن التاريخ يصحح سيرته بعد سنين طويلة، كما قد أبقى اسم عرابي علماً على الثورة والجهاد، وأبقى اسم الخديوي توفيق علماً على الخيانة والعمالة!
***

لقد أنشأ الاحتلال وما زرعه في بلادنا من أنظمة تابعة له، أنشأ أجيالاً تؤدي واجبها في حرب أبناء البلد دون هوادة، وبعض أولئك يقرأ الآن هذه السطور، لا بغرض التأمل في معانيها بل بغرض رصد وتحليل ما تحمله من أغراض ورسائل! ولقد ضرب الله مثلاً بكلماته وله المثل الأعلى فأخبرنا أن الآية نفسها يضل بها كثيراً ويهدي بها كثيراً، وأن القرآن ينزل على بعض الناس هداية ويزيد الآخرين كفراً وفجوراً. وما ذلك إلا لأن البعض نظر فيها يطلب منها الهداية والآخر نظر فيها يبحث عن مواضع الجدل ويلتمس النقص والعيب وإثارة الشبهات.

في لحظة كتابة هذه السطور تشن حرب محلية على أبسط مظاهر الدين، أغلقت السلطات في موريتانيا جمعية (تكوين العلماء) التي أنشأها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهي جمعية تخرج من يتأصلون علمياً بحفظ القرآن والسنة ومتون العلم، وبعدها بساعات صدر قرار من الحكومة الليبية التي لم يستقر لها قرار ولا تملك توفير رواتب للناس بعدم استقبال طلاب الابتدائي لمدراس التعليم الديني، وقبل ذلك عصف محمد بن سلمان بسائر الأنشطة العلمية والدعوية في مساجد بلاد الحرمين.. وأنّى نظرت إلى بلد رأيت مثل هذا أو شيئاً منه.

هذه الغارات العنيفة يقوم بها مَن يقولون بأنهم مسلمون، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، هذا مع أن سائر هذه الأنشطة والمؤسسات تبتعد تماماً عن كل ما قد يثير حساسية الأنظمة والحكومات وأوليائهم، بل هي لم تنشأ أصلاً إلا بموافقات وتصاريح أمنية ولم تمارس عملها إلا برقابة وتشديدات أمنية أيضاً، أي أنها أبعد ما تكون عن هذه التهمة. وعندئذ لا يبقى لنا إلا تفسير من اثنين: إما أن هؤلاء القوم (تذكّرْ دائما أنهم منتسبون للإسلام) يرون القرآن نفسه كتاب تطرف وإرهاب، وأنه مادة يجب مطاردتها وملاحقة تدريسها وتحفيظها. أو أنهم لا يفكرون في هذا أصلاً وإنما يقومون بعملهم (بكفاءة) كما أُمِروا به، وطالما أنهم يقومون بوظيفتهم بكفاءة فلا معنى لأن يفكروا في شيء، ومن كان ينوي التفكير فليؤجله إلى لحظة سن المعاش كي يتعاطف مع من سجنهم وضربهم وآذاهم!

قبل أن ينشأ في بلادنا "صنم الدولة"، كان أهل العلم والفقه أصحاب مكانة وهيبة وتوقير، لا يجرؤ عليهم إلا من انخلع عامداً من الدين والأدب، ولا يتجاسر عليهم إلا مَن عرف مِن نفسه وعرف الناس منه السقوط والانحطاط.. أما وإذ جاء صنم الدولة وانتصب معبوداً فوق كل شيء، فلا ريب أن رغباته أوامر، وأن كل فرد في جهاز هذه الدولة إنما هو "عبد المأمور"!
إن أمام المجاهدين عملاً طويلاً ثقيلاً لكسر هذا الصنم، وإعادة المرجعية العليا لتكون لله ورسوله، والعلماء هم أوائل المسؤولين عن إرجاع حجم "الدولة" لتكون خاضعة لله ولرسوله ولشريعته، وعليهم بذل المجهود كله في إفهام الناس أن كل ما خالف الدين هدر لا قيمة له ولا كرامة ولا احترام ولو صدر من الدولة، ولو قرره برلمانها ولو طبل له إعلامها.

إن حقيقة الصراع في كونه صراعاً على السيادة، على المرجعية العليا، هل تكون لله أم لغير الله! وسيظل أهل العلم والدين والجهاد يتعرضون لإيذاء هذه الدولة مهما حاولوا الابتعاد عنها، فإنها تعرف أن عملهم في حقيقته هو تعظيم الدين ليكون مرجعية فوقها، ولتكون هي خاضعة له.. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطراً!

وهذا هو حقيقة التحرر والتحرير، وحقيقة الإخلاص والتوحيد.. أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وألا يكون أحد من الناس عبداً لنظام أو ملك أو رئيس أو وظيفة، يضطر معها إلى إلغاء عقله وتجميد ضميره لتنفيذ الأوامر بكل كفاءة!! أو يضطر معها للإيمان بأفكار رؤسائه وابتلاع كلامهم كي لا يعيش تعذيب الضمير وإلغاء العقل إذ ينفذ أوامرهم بكل كفاءة!!
حقيقة التوحيد والتحرر ألا يصرف الإنسان طاعته إلا لله.. وإعادة غرس هذا في الناس مهمة عظيمة بعد تضخم أجيال آمنت "بالدولة" حتى حاربت في سبيلها أخلص أبنائها وصفوة عقولها.
***

لئن كان بعض العزاء أن التاريخ سيصحح مسيرته بعد تبدُّل القوى وتغيُّر الحال، إلا أن العزاء كله، وهذا هو ما يشفي الصدر حقاً، أن الحساب الأخير عند الله تعالى، الله الذي لا يغفل ولا ينام ولا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد ولا تغيب عنه هفوة.. فهذا هو العزاء حقاً.. وهذا هو شفاء الصدر حقاً.. وتلك هي الطمأنينة حقاً!

فسبحان الله.. الحق العدل المبين..

سبحان الذي قال:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟}

{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}

{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}

{ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

ألا إنه لولا الله ولولا الدار الآخرة لكان نعيم هذه الدنيا في الانتحار والخروج منها.. فلله الحمد الذي جعل لعباده آخرة وحساباً وميزاناً دقيقاً، فلا يفلت منه عقوبته ظالم ولا من عدله ورحمته مظلوم.
‏٠٤‏/١٠‏/٢٠١٨ ٩:٤٦ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 15، من مجلة (كلمة حق)، لشهر أكتوبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب: مختصر كتاب عقيدة الصدمة لـ(نعومي كلاين). لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2zJejSw لتحميل هدية العدد مختصر كتاب عقيدة الصدمة، اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2Qo8SOn نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام https://t.me/klmtuhaq المدونة klmtuhaq.blog
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 15، من مجلة (كلمة حق)، لشهر أكتوبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب: مختصر كتاب عقيدة الصدمة لـ(نعومي كلاين).

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2zJejSw

لتحميل هدية العدد مختصر كتاب عقيدة الصدمة، اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2Qo8SOn

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر
https://twitter.com/klmtuhaq

تيليجرام
https://t.me/klmtuhaq

المدونة
klmtuhaq.blog
‏٠١‏/١٠‏/٢٠١٨ ٨:٣١ م‏
سيد قطب.. لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟! د. @[710607845:2048:وصفي أبو زيد] [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] في فجر يوم 29 أغسطس من عام 1966م قبل اثنين وخمسين عاما، نُفذ حكم الإعدام على سيد قطب إبراهيم الشاذلي، أشهر مفسر للقرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، عن ستين عاما، بعد رحلة حافلة من العطاء الأدبي والجهاد الفكري والتربية الروحية ترك خلالها تراثا عظيما نهض به الفكر الإسلامي وتربت عليه أجيال ترفدها هذه الأدبيات الجديدة بالعلم والبصيرة حين تُستقى من القرآن الكريم مباشرة والسنة النبوية المطهرة. ولقد ترك الأستاذ سيد قطب أدبيات مبتكرة في مجالات شتى، منها: المجال الأدبي: شعرا ونثرا، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي، والمجال القرآني، والمجال التربوي، والمجال الفكري، ويعتبر الأخير هو أبرز المجالات التي أعطى فيها سيد قطب جهده ووجده، رغم أن عطاءاته في المجالات الأخرى فيها الإبداع والتجديد ماثلا وبارزا إذا قرئ في سياقه وملابساته، ووضع في إطار تاريخ العلوم التي كتب فيها: وحسبك أن تقرأ كتابيه: خصائص التصور الإسلامي، ومقومات التصور الإسلامي؛ إذ يُعد الأخير محطة تاريخية فارقة في موضوعه. ويبرز سؤال هنا له أهميته وحضوره: وهو لماذا يزعج سيد قطب الأنظمة الطاغية والحكام المستبدين؟ فيسلطون علماء سلطاتهم وعملاء شرطاتهم عليه: تجريحا، وتشويها، وعداءً، وافتراء في بعض الأحيان، ويبرز هذا في عصور الاستبداد والطغيان مما يعزز طرح هذا السؤال بشكل واضح؟! والجواب من وجهة نظري ومن خلال اهتمامي بسيد قطب وما تركه من تراث وأدبيات، وما روي عنه من مواقف وكلمات، يتمثل في عدد من الأسباب: أولها: أن سيد قطب لم يخضع لطاغية عصره، ولم يوافقه على ما أراده عليه، ولم ينثنِ أو يعطِ الدنية في دينه وفكره وعقيدته، بل وقف كالطود الشامخ والجبل الأشم في عزة وشموخ واستعلاء تليق بمثله وتليق أمام هؤلاء الزبانية، حتى قدم روحه رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل ما يحمل من إيمان وعمل وجهاد، وهذا يمثل نموذجا بطوليا يعشقه المسلمون لا سيما في عصور الاستضعاف والهزيمة والهوان .. وهذا لا شك يغيظ أنظمة الاستبداد، ويقض مضاجعهم، ويزعج نفوسهم، فيريدون أن يشوهوه أمام الأجيال حتى لا يتمدد أنموذجه وينشأ في الأجيال ما فيه منه مشابه. ثانيا: أن كتابات سيد قطب لها مذاق خاص، ولها جاذبية كبيرة، لم يقرأه أحد إلا تعلق به، ورأى في عبارته المتكاملة: أدبا وروحا وفكرا ونفسا ووجدانا، ما كان يبحث عنه ويرجو قراءته، فتستبد به كتبُه وتنفرد به دون سواها من المصنفات، وعلى رأسها الظلال، ذلكم الكتاب الذي لم يُؤلَّف في الإسلام مثله! ثالثا: أن كتب سيد قطب من أوسع الكتب انتشارا في العالم، ومن أكثرها ترجمة، فكتاب الظلال ترجم للغات الدنيا وأقبل الشيب والشبان عليه وعلى فكره وفقهه؛ نظرا لما في أدبياته الفكرية والقرآنية من تجديد واجتهاد فكري حقيقي، ولما تضمنته من أبعاد إنسانية شفافة ورقراقة في أدبه وشعره، وكذلك في نثره (أفراح الروح مثالا)، وما يحمله مشروعه الفكري من آفاق واسعة ومجالات رحبة جعلته مثار نظر المسلمين وغير المسلمين، ومنحت لإنتاجه مجالا رحبا للدراسات الأكاديمية والبحثية، وهذا ما يعطي لمشروعه الفكري أبعادا قوية تزيد من إزعاج الطغاة والمستبدين. رابعا: أن سيد قطب لم يمثل الممانعة في مواقفه فحسب بل فيما خطب وكتب، ففي عصره انتشرت التنظيمات الماركسية والناصرية والطليعية وتقدمت كتائب الزحف الأحمر (الشيوعية)، وشرقت وغربت بتنظيماتها العنقودية، ولمواجهة هذه التنظيمات آمن سيد قطب أن هذه التنظيمات لا تواجه بأعمال فردية، ومحاولات عشوائية، ولكن لابد من مواجهة جماعية بتنظيم عضوي حركي يفوق هذه التنظيمات أو يكون مماثلا لها على الأقل، وهذا هو صلب فكرة كتابه المظلوم (معالم في الطريق) الذي كان سببا من أسباب إعدامه .. ولا يخفى ما في هذا الفكر المقاوِم والمواجِه من خطورة على الأنظمة الطاغية والحكام الفسدة المستبدين. خامسا: أنه – يرحمه الله -قد ضاعف مشهدُ استشهاده قيمة فكره ومواقفه، فصبغ به العلم بالعمل، وأبرز مع العطاء الممتد التضحية النبيلة، وخلعت على كتابه مصداقية وتمثلا، وهذا له تأثيره النفسي الكبير بما يثمر انتشارا واسعا مما تعبر عنه مقولته التاريخية: (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة) ومن هنا يريد الطغاة أن يحولوا بين الناس وبين سعة انتشاره وعمق تأثيره فيُقْدِمُون من خلال سماسرتهم على تشويهه وشيطنته، وتحميله مسئولية فكر التطرف وتطرف الفكر، ومسالك التفجير والتكفير. لا شك أن سيد قطب بشر غير معصوم، لم يدَّع العصمة ولا ادعاها له أحد؛ فهو يصيب ويخطئ، ويؤخذ منه ويُترك، وقد ماتت العصمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من اجتماع الأمة بعده، فهي لا تجتمع على ضلالة، ومع ذلك فسيظل القطب سيد نجما في سماء الأدب والفكر والدعوة والتربية، وسيبقى يمثل ملحمة في التضحية النبيلة والثبات المبين، وستستمر الأنظمة المستبدة منزعجة منه ومن فكره وعمق تأثيره وسعة انتشاره، فيقومون بتسليط علمائهم (عملائهم) عليه تجريحا وشتما وتشويها وافتراء؛ إذ لا يزداد شهيدنا به إلا انتشاره وتأثيرا وتألقا.
سيد قطب.. لماذا يزعج الأنظمة الطاغية؟!

د. وصفي أبو زيد

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

في فجر يوم 29 أغسطس من عام 1966م قبل اثنين وخمسين عاما، نُفذ حكم الإعدام على سيد قطب إبراهيم الشاذلي، أشهر مفسر للقرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، عن ستين عاما، بعد رحلة حافلة من العطاء الأدبي والجهاد الفكري والتربية الروحية ترك خلالها تراثا عظيما نهض به الفكر الإسلامي وتربت عليه أجيال ترفدها هذه الأدبيات الجديدة بالعلم والبصيرة حين تُستقى من القرآن الكريم مباشرة والسنة النبوية المطهرة.

ولقد ترك الأستاذ سيد قطب أدبيات مبتكرة في مجالات شتى، منها: المجال الأدبي: شعرا ونثرا، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي، والمجال القرآني، والمجال التربوي، والمجال الفكري، ويعتبر الأخير هو أبرز المجالات التي أعطى فيها سيد قطب جهده ووجده، رغم أن عطاءاته في المجالات الأخرى فيها الإبداع والتجديد ماثلا وبارزا إذا قرئ في سياقه وملابساته، ووضع في إطار تاريخ العلوم التي كتب فيها: وحسبك أن تقرأ كتابيه: خصائص التصور الإسلامي، ومقومات التصور الإسلامي؛ إذ يُعد الأخير محطة تاريخية فارقة في موضوعه.

ويبرز سؤال هنا له أهميته وحضوره: وهو لماذا يزعج سيد قطب الأنظمة الطاغية والحكام المستبدين؟ فيسلطون علماء سلطاتهم وعملاء شرطاتهم عليه: تجريحا، وتشويها، وعداءً، وافتراء في بعض الأحيان، ويبرز هذا في عصور الاستبداد والطغيان مما يعزز طرح هذا السؤال بشكل واضح؟!

والجواب من وجهة نظري ومن خلال اهتمامي بسيد قطب وما تركه من تراث وأدبيات، وما روي عنه من مواقف وكلمات، يتمثل في عدد من الأسباب:

أولها: أن سيد قطب لم يخضع لطاغية عصره، ولم يوافقه على ما أراده عليه، ولم ينثنِ أو يعطِ الدنية في دينه وفكره وعقيدته، بل وقف كالطود الشامخ والجبل الأشم في عزة وشموخ واستعلاء تليق بمثله وتليق أمام هؤلاء الزبانية، حتى قدم روحه رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل ما يحمل من إيمان وعمل وجهاد، وهذا يمثل نموذجا بطوليا يعشقه المسلمون لا سيما في عصور الاستضعاف والهزيمة والهوان .. وهذا لا شك يغيظ أنظمة الاستبداد، ويقض مضاجعهم، ويزعج نفوسهم، فيريدون أن يشوهوه أمام الأجيال حتى لا يتمدد أنموذجه وينشأ في الأجيال ما فيه منه مشابه.

ثانيا: أن كتابات سيد قطب لها مذاق خاص، ولها جاذبية كبيرة، لم يقرأه أحد إلا تعلق به، ورأى في عبارته المتكاملة: أدبا وروحا وفكرا ونفسا ووجدانا، ما كان يبحث عنه ويرجو قراءته، فتستبد به كتبُه وتنفرد به دون سواها من المصنفات، وعلى رأسها الظلال، ذلكم الكتاب الذي لم يُؤلَّف في الإسلام مثله!

ثالثا: أن كتب سيد قطب من أوسع الكتب انتشارا في العالم، ومن أكثرها ترجمة، فكتاب الظلال ترجم للغات الدنيا وأقبل الشيب والشبان عليه وعلى فكره وفقهه؛ نظرا لما في أدبياته الفكرية والقرآنية من تجديد واجتهاد فكري حقيقي، ولما تضمنته من أبعاد إنسانية شفافة ورقراقة في أدبه وشعره، وكذلك في نثره (أفراح الروح مثالا)، وما يحمله مشروعه الفكري من آفاق واسعة ومجالات رحبة جعلته مثار نظر المسلمين وغير المسلمين، ومنحت لإنتاجه مجالا رحبا للدراسات الأكاديمية والبحثية، وهذا ما يعطي لمشروعه الفكري أبعادا قوية تزيد من إزعاج الطغاة والمستبدين.

رابعا: أن سيد قطب لم يمثل الممانعة في مواقفه فحسب بل فيما خطب وكتب، ففي عصره انتشرت التنظيمات الماركسية والناصرية والطليعية وتقدمت كتائب الزحف الأحمر (الشيوعية)، وشرقت وغربت بتنظيماتها العنقودية، ولمواجهة هذه التنظيمات آمن سيد قطب أن هذه التنظيمات لا تواجه بأعمال فردية، ومحاولات عشوائية، ولكن لابد من مواجهة جماعية بتنظيم عضوي حركي يفوق هذه التنظيمات أو يكون مماثلا لها على الأقل، وهذا هو صلب فكرة كتابه المظلوم (معالم في الطريق) الذي كان سببا من أسباب إعدامه .. ولا يخفى ما في هذا الفكر المقاوِم والمواجِه من خطورة على الأنظمة الطاغية والحكام الفسدة المستبدين.

خامسا: أنه – يرحمه الله -قد ضاعف مشهدُ استشهاده قيمة فكره ومواقفه، فصبغ به العلم بالعمل، وأبرز مع العطاء الممتد التضحية النبيلة، وخلعت على كتابه مصداقية وتمثلا، وهذا له تأثيره النفسي الكبير بما يثمر انتشارا واسعا مما تعبر عنه مقولته التاريخية: (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة) ومن هنا يريد الطغاة أن يحولوا بين الناس وبين سعة انتشاره وعمق تأثيره فيُقْدِمُون من خلال سماسرتهم على تشويهه وشيطنته، وتحميله مسئولية فكر التطرف وتطرف الفكر، ومسالك التفجير والتكفير.

لا شك أن سيد قطب بشر غير معصوم، لم يدَّع العصمة ولا ادعاها له أحد؛ فهو يصيب ويخطئ، ويؤخذ منه ويُترك، وقد ماتت العصمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من اجتماع الأمة بعده، فهي لا تجتمع على ضلالة، ومع ذلك فسيظل القطب سيد نجما في سماء الأدب والفكر والدعوة والتربية، وسيبقى يمثل ملحمة في التضحية النبيلة والثبات المبين، وستستمر الأنظمة المستبدة منزعجة منه ومن فكره وعمق تأثيره وسعة انتشاره، فيقومون بتسليط علمائهم (عملائهم) عليه تجريحا وشتما وتشويها وافتراء؛ إذ لا يزداد شهيدنا به إلا انتشاره وتأثيرا وتألقا.
‏٢٨‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:٠٣ م‏
أوهام القاعدين عن دعوة المسلمين* ناصر العمر (فك الله أسره) [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] من الأمور التي تستحق التأمل في واقع الأمة، ما نراه من إحجام كثير من الناس عن القيام بأنواع بعينها من أعمال الخير؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الانخراط في مشاريع دعوية، أو القيام بأنشطة تربوية وما أشبه ذلك، ولا يرجع هذا الإحجام لانعدام الخير أو قلته، فالقلوب والحمد لله مليئة بالخير عامرة بالإيمان، لا أدل على ذلك من إقدام الناس على حفظ القرآن والإنفاق على الفقراء أو كفالة الأيتام أو عمارة المساجد وما أشبه ذلك، لكن السر يكمن في أوهام منتشرة بين الناس تحول بينهم وبين هذه الأبواب من الخير. بعض الناس يحجم عن القيام بهذه الأعمال خشية وقوع أشياء يكرهونها؛ من سجن، أو فصل من وظيفة، أو إخراج من الأوطان، وهي خشية لا تكون في كثير من الأحيان في محلها، حيث نجد العاملين يعملون وتمر الأيام والسنوات دون أن يتعرضوا لشيء من ذلك، بل يحصل العكس، فيكرمهم الله بعلو القدر والمكانة، ورفعة المنزلة والكرامة. وهذا لا يعني أن أحداً ممن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك من المشاريع النافعة لا يتعرض للأذى، بل قد يقع شيء من المحذور لبعض الناس، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مانعاً لغيرهم من سلوك طريقهم، فضلاً عن أن يكون قاطعاً لهم عن مواصلة طريقهم. إن ما يحول بين بعض الأخيار، ومنهم طلاب علم بل علماء، وبين بعض الأعمال النافعة هو ظنهم أن السجن أو الفصل من الوظيفة أو الإخراج من الأوطان يمثل نهاية الدنيا، بحيث لا يمكن للمرء أن يعيش بعده أبداً، وهذا وهم كبير، فكم رأينا وسمعنا عن أناس ابتلوا وامتحنوا لكنهم صبروا واحتسبوا ومر الزمان واستدار فرفع الله عنهم البلاء ورفع قدرهم ومنزلتهم وعوضهم في الدنيا خيراً. وفي قصة أهل الكهف ما يبدد هذا الوهم الذي عشش في بعض القلوب، فإنهم لما خرجوا من ديارهم، وفارقوا أهلهم وأحبتهم ومساكنهم التي ألفوها إلى كهف منعزل لا يوجد فيه شيء من أسباب الرفاهية، بل لا يوجد فيه ما يكفل لهم البقاء على قيد الحياة، فلا طعام فيه ولا شراب، لم يقولوا: فأووا إلى الكهف واستعدوا للضيق والتحمل والصبر في ذات الله، بل قالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16]، وما ذاك إلا ليقينهم أن من سار في طريق الله يبتغي مرضاة الله آخذاً بالأسباب متوكلاً على رب الأسباب سيجعل له الله من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، وهذا نظر دقيق وفهم عميق رزقه الله هؤلاء الفتية صغار السن وحرمه كثيراً من طلاب العلم. وقد كان من أمر الفتية ما قالوه وزيادة؛ فنشر لهم ربهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقاً، ثم جعلهم للناس آية ورفع ذكرهم في العالمين. إن مما ينبغي أن يكون معلوماً للجميع أن هذه الدار دار ابتلاء وتعب ونصب، وأن الابتلاء سنة الله الماضية في خلقه. وقد ابتلي الأنبياء، وابتلي الصالحون، وابتلي الدعاة إلى الله منذ القدم، فما صدهم ما لاقوه من أذى عن دعوتهم، ولو أن كل من خشي على نفسه الأذى قعد عن الدعوة إلى الله، بل لو أن كل من أوذي في ذات الله قعد عن الدعوة إليه لما وصلنا من دين الله شيء البتة. فمن كان يظن أن طريق الجنة مفروش بالورود فهو واهم، ومن كان يظن أن الابتلاء بالسجن أو الطرد من الوظيفة أو الإخراج من الديار بل حتى القتل شر محض أو مفسدة راجحة فهو واهم، وها هو شيخ الإسلام رحمه الله ينافح عن الحق فيؤذى ويحارب ويبتلى ويسجن مرات بل يموت في السجن، وبرغم ذلك فقد أعلى الله ذكره وأخمل ذكر أعدائه، وقد كان رحمه الله يقول: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة)(1)! لكن هذا ليس لكل أحد، بل هو خالص لمن أخلص النية لله عز وجل، ثم أخذ بالأسباب، ورجع إلى أهل العلم فيما يأتي ويذر واستشار واستخار، ولم يتمن البلاء ولا حرص عليه لكن أتاه: وإذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً *** فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها! والمهم أن يصدر المرء في دعوته عن علم، وأن يصدر عن أقوال العلماء ولاسيما في المسائل ذات الخطر، وأن يخلص لله في عمله ويتحرى الصواب، فمن فعل ذلك وعرف طريقه وحدد منهجه فلا يلتفت بعد ذلك لشيء، بل ليمض في طريقه وإن أصابه ما أصابه، كما قال تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 65]. إن هذه الكلمات ليست دعوة كي يلقي الإنسان نفسه أمام المحنة، ويعرضها للابتلاء، فإن العافية لا يعدلها شيء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية"(2)، والفرار من مواطن الفتن مطلب شرعي، وكم رأينا من رجل كان يقول إنه لو ابتلي فسيصبر ويفعل ويفعل، فلما وقع البلاء لم يصبر، بل انتكس ورجع عما كان عليه من حمل هم هذا الدين والعياذ بالله. إن المقصود هو أن يقوم المرء بما يجب عليه قياماً منضبطاً بالمنهج الشرعي، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تهور يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، ولا قعود وانكفاء عن القيام بما يجب القيام به لأوهام لا حقيقة لها، أو حقيقتها لا تعدل مفسدة ما قعد عنه، وكم ممن يمنعه توهم ضرر محتمل أداء ما وجب عليه بيقين. وإذا أخذ المرء بالأسباب ثم وقع الابتلاء فعليه بالصبر على قدر الله، فإنه إن صبر على أذى ساعة يوشك أن يبدل الله عسره يسراً، ويوشك أن يجد عاقبة ذلك خيراً في الدنيا والآخرة. إن كثيراً من معاناة الأمة اليوم ترجع إلى أفعال بعض أبنائها ممن غاب عنهم المنهج الشرعي، فاندفعوا بوازع من الحماسة غير المنضبطة إلى أعمال خاطئة جرت عليهم وعلى مجتمعاتهم الويلات، وعلى الطرف الآخر تعاني الأمة من إحجام كثير من أهل الخير عن ما ينبغي لهم فعله، وكلاً من الفريقين فقد النظرة المعتدلة للأمور، وأجاب داعي الحماسة أو الخوف دون الرجوع إلى أهل العلم الربانيين المعتبرين ليصدر عن رأيهم. أما الحق فهو وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وصراط الله عز وجل صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وطريق الدعوة إلى الله طريق واضحة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، فمن صدق الله عز وجل وسلك هذه السبيل فليبشر بخيري الدنيا والآخرة، والله الموفق. ________________ * نُشر بموقع (المسلم)، 18 ربيع الثاني 1430. (1) الوابل الصيب - (ج 1 / ص 67). (2) صحيح البخاري 3/1082 (2804)، صحيح مسلم 3/1362 (1742).
أوهام القاعدين عن دعوة المسلمين*
ناصر العمر (فك الله أسره)

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

من الأمور التي تستحق التأمل في واقع الأمة، ما نراه من إحجام كثير من الناس عن القيام بأنواع بعينها من أعمال الخير؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الانخراط في مشاريع دعوية، أو القيام بأنشطة تربوية وما أشبه ذلك، ولا يرجع هذا الإحجام لانعدام الخير أو قلته، فالقلوب والحمد لله مليئة بالخير عامرة بالإيمان، لا أدل على ذلك من إقدام الناس على حفظ القرآن والإنفاق على الفقراء أو كفالة الأيتام أو عمارة المساجد وما أشبه ذلك، لكن السر يكمن في أوهام منتشرة بين الناس تحول بينهم وبين هذه الأبواب من الخير.

بعض الناس يحجم عن القيام بهذه الأعمال خشية وقوع أشياء يكرهونها؛ من سجن، أو فصل من وظيفة، أو إخراج من الأوطان، وهي خشية لا تكون في كثير من الأحيان في محلها، حيث نجد العاملين يعملون وتمر الأيام والسنوات دون أن يتعرضوا لشيء من ذلك، بل يحصل العكس، فيكرمهم الله بعلو القدر والمكانة، ورفعة المنزلة والكرامة.

وهذا لا يعني أن أحداً ممن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك من المشاريع النافعة لا يتعرض للأذى، بل قد يقع شيء من المحذور لبعض الناس، لكن هذا لا ينبغي أن يكون مانعاً لغيرهم من سلوك طريقهم، فضلاً عن أن يكون قاطعاً لهم عن مواصلة طريقهم.

إن ما يحول بين بعض الأخيار، ومنهم طلاب علم بل علماء، وبين بعض الأعمال النافعة هو ظنهم أن السجن أو الفصل من الوظيفة أو الإخراج من الأوطان يمثل نهاية الدنيا، بحيث لا يمكن للمرء أن يعيش بعده أبداً، وهذا وهم كبير، فكم رأينا وسمعنا عن أناس ابتلوا وامتحنوا لكنهم صبروا واحتسبوا ومر الزمان واستدار فرفع الله عنهم البلاء ورفع قدرهم ومنزلتهم وعوضهم في الدنيا خيراً.

وفي قصة أهل الكهف ما يبدد هذا الوهم الذي عشش في بعض القلوب، فإنهم لما خرجوا من ديارهم، وفارقوا أهلهم وأحبتهم ومساكنهم التي ألفوها إلى كهف منعزل لا يوجد فيه شيء من أسباب الرفاهية، بل لا يوجد فيه ما يكفل لهم البقاء على قيد الحياة، فلا طعام فيه ولا شراب، لم يقولوا: فأووا إلى الكهف واستعدوا للضيق والتحمل والصبر في ذات الله، بل قالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16]، وما ذاك إلا ليقينهم أن من سار في طريق الله يبتغي مرضاة الله آخذاً بالأسباب متوكلاً على رب الأسباب سيجعل له الله من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، وهذا نظر دقيق وفهم عميق رزقه الله هؤلاء الفتية صغار السن وحرمه كثيراً من طلاب العلم. وقد كان من أمر الفتية ما قالوه وزيادة؛ فنشر لهم ربهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقاً، ثم جعلهم للناس آية ورفع ذكرهم في العالمين.

إن مما ينبغي أن يكون معلوماً للجميع أن هذه الدار دار ابتلاء وتعب ونصب، وأن الابتلاء سنة الله الماضية في خلقه. وقد ابتلي الأنبياء، وابتلي الصالحون، وابتلي الدعاة إلى الله منذ القدم، فما صدهم ما لاقوه من أذى عن دعوتهم، ولو أن كل من خشي على نفسه الأذى قعد عن الدعوة إلى الله، بل لو أن كل من أوذي في ذات الله قعد عن الدعوة إليه لما وصلنا من دين الله شيء البتة.

فمن كان يظن أن طريق الجنة مفروش بالورود فهو واهم، ومن كان يظن أن الابتلاء بالسجن أو الطرد من الوظيفة أو الإخراج من الديار بل حتى القتل شر محض أو مفسدة راجحة فهو واهم، وها هو شيخ الإسلام رحمه الله ينافح عن الحق فيؤذى ويحارب ويبتلى ويسجن مرات بل يموت في السجن، وبرغم ذلك فقد أعلى الله ذكره وأخمل ذكر أعدائه، وقد كان رحمه الله يقول: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة)(1)! لكن هذا ليس لكل أحد، بل هو خالص لمن أخلص النية لله عز وجل، ثم أخذ بالأسباب، ورجع إلى أهل العلم فيما يأتي ويذر واستشار واستخار، ولم يتمن البلاء ولا حرص عليه لكن أتاه:

وإذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً *** فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها!

والمهم أن يصدر المرء في دعوته عن علم، وأن يصدر عن أقوال العلماء ولاسيما في المسائل ذات الخطر، وأن يخلص لله في عمله ويتحرى الصواب، فمن فعل ذلك وعرف طريقه وحدد منهجه فلا يلتفت بعد ذلك لشيء، بل ليمض في طريقه وإن أصابه ما أصابه، كما قال تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 65].

إن هذه الكلمات ليست دعوة كي يلقي الإنسان نفسه أمام المحنة، ويعرضها للابتلاء، فإن العافية لا يعدلها شيء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية"(2)، والفرار من مواطن الفتن مطلب شرعي، وكم رأينا من رجل كان يقول إنه لو ابتلي فسيصبر ويفعل ويفعل، فلما وقع البلاء لم يصبر، بل انتكس ورجع عما كان عليه من حمل هم هذا الدين والعياذ بالله.

إن المقصود هو أن يقوم المرء بما يجب عليه قياماً منضبطاً بالمنهج الشرعي، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تهور يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، ولا قعود وانكفاء عن القيام بما يجب القيام به لأوهام لا حقيقة لها، أو حقيقتها لا تعدل مفسدة ما قعد عنه، وكم ممن يمنعه توهم ضرر محتمل أداء ما وجب عليه بيقين.
وإذا أخذ المرء بالأسباب ثم وقع الابتلاء فعليه بالصبر على قدر الله، فإنه إن صبر على أذى ساعة يوشك أن يبدل الله عسره يسراً، ويوشك أن يجد عاقبة ذلك خيراً في الدنيا والآخرة.

إن كثيراً من معاناة الأمة اليوم ترجع إلى أفعال بعض أبنائها ممن غاب عنهم المنهج الشرعي، فاندفعوا بوازع من الحماسة غير المنضبطة إلى أعمال خاطئة جرت عليهم وعلى مجتمعاتهم الويلات، وعلى الطرف الآخر تعاني الأمة من إحجام كثير من أهل الخير عن ما ينبغي لهم فعله، وكلاً من الفريقين فقد النظرة المعتدلة للأمور، وأجاب داعي الحماسة أو الخوف دون الرجوع إلى أهل العلم الربانيين المعتبرين ليصدر عن رأيهم.

أما الحق فهو وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وصراط الله عز وجل صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وطريق الدعوة إلى الله طريق واضحة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، فمن صدق الله عز وجل وسلك هذه السبيل فليبشر بخيري الدنيا والآخرة، والله الموفق.
________________
* نُشر بموقع (المسلم)، 18 ربيع الثاني 1430.
(1) الوابل الصيب - (ج 1 / ص 67).
(2) صحيح البخاري 3/1082 (2804)، صحيح مسلم 3/1362 (1742).
‏٢٧‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٨:٢٠ م‏
دور المرأة في الجهاد والاستعانة بغير المسلم في الحروب فضيلة الشيخ حسن مأمون (شيخ الأزهر ومفتي مصر الأسبق) [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] المبادئ: 1 - لم يفرض الجهاد في سبيل الله على المرأة، وهذا لا يمنع من أن للنساء دوراً هاماً في الجهاد، وهو مداواة الجرحى والمرضى وخدمة المجاهدين. 2 - عدم فرض القتال على النساء لا يسلبهنّ حقهنّ في الدفاع عن أنفسهن وعن بيوتهن وبلادهن. 3 - يجوز الاستعانة بغير المسلمين في الحرب بشرط عدم تسلطهم وعدم تدخلهم، وأن يضمن المسلمون أنه ليس وراء هذه الاستعانة خيانة لهم وإضعاف لقوتهم. سُئل: من السيد مندوب روز اليوسف قال: 1 - ما رأى الشرع فيما قامت به المرأة في الفترة الأخيرة من حمل السلاح وتدريب على القتال؟ 2 - في الحرب هل يجوز أن نستعين بمن يخالفوننا في الدين والعقيدة؟ أجاب: عن السؤال الأول لم يفرض الله سبحانه وتعالى على النساء الجهاد في سبيله، أي حمل السلاح والقتال. وذلك لأن القتال في الحرب يحتاج إلى قوة بدنية وإلى مشقة لا تتوافران في المرأة. فقد روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "جهاد لا قتال فيه. الحج والعمرة". وقد بيّن (صاحب المغني) علة عدم وجوب الجهاد عليها بقوله: "لأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها". وقال (صاحب نيل الأوطار): "وإنما لم يكن الجهاد واجباً على النساء؛ لما فيه من مغايرة المطلوب منهنّ، من الستر ومجانبة الرجال، ولذلك كان الحج أفضل لهنّ من الجهاد". ولعل من عرف ما يحتاج إليه المجاهد أثناء القتال من قوة وصبر ومشقة، يُدرك تمام الحكمة في أن الله خفف عن النساء ولم يفرض عليهن الجهاد، بمعنى مقاتلة العدو بالأسلحة المختلفة. وهذا لا يمنع من أن للنساء دوراً هاماً في الجهاد، وهو مداواة الجرحى والمرضى، والقيام بخدمة المجاهدين وغير ذلك من الشئون التى يستعان بها على قهر العدو والتغلب عليه. ففي صحيح مسلم والبخارى وأحمد، أن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسقى القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة". وعن أم عطية الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمنى". فالأعمال التى كانت تقوم بها النساء في الغزوات والحروب التى وردت في هذين الحديثين، من الإعانة على الغزو، قد اعتُبرت غزواً، لأنهنّ ما أتين إلى ميادين القتال لسقى الجرحى ونحو ذلك إلا ذهبن عازمات على المدافعة عن أنفسهن. وقد ورد في صحيح مسلم أن أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين فقالت: "اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه". وهذا يدل على أنه وإن لم يُفرض القتال على النساء، إلا أن هذا لا يسلبهنّ حقهن في الدفاع عن أنفسهن، وعن بيوتهن وبلادهن، كما فعلت سيدات بور سعيد اللآتى اشتركن مع الرجال في الذود عن حياض الوطن. وعن السؤال الثاني، اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة في الجهاد بغير المسلمين. جاء في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه أنه "يجوز الاستعانة بالكفار والفساق؛ حيث يستقيمون على أوامر الحاكم المسلم ونواهيه". واستدلوا على هذا الحكم باستعانة الرسول صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود، وباستعانته بصفوان بن أمية يوم حنين، وعلل المخالفون من الفقهاء لهذا الحكم بالخوف من أن يتسلط غير المسلمين على المسلمين بسبب الاستعانة بهم، وأن يكون في ذلك جعل سبيل الكافر على المسلم، وهذا يخالف لقوله تعالى: { ولن يجعلَ اللهُ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلا } [النساء 141]. فإذا لم يترتب عليها شيء من ذلك، وضمن المسلمون أن يكون أمرهم بيدهم ينفذون به أحكام الله، ولا يتدخل في شئونهم أجنبي عنهم بسبب معاونته لهم في جهادهم، وأمنوا أن يكون من وراء هذه المعاونة خيانة لهم، أو إضعاف لقوتهم.. جازت الاستعانة بهم، وكانت في هذه الحالة متمشية مع مصلحة جماعة المسلمين. وكل ما يحقق مصلحة عامة للمسلمين لا يمتنع على الحاكم المسلم أن يفعله والله أعلم(1) . ـــــــــــــــــــ (1) فتاوى دار الإفتاء لمدة مائة عام، الباب: من أحكام الاستعانة بغير المؤمنين، الموضوع (1056)، تاريخ الفتوى: 6 جمادى الأولى 1376 - 8 ديسمبر 1956م.
دور المرأة في الجهاد والاستعانة بغير المسلم في الحروب

فضيلة الشيخ حسن مأمون
(شيخ الأزهر ومفتي مصر الأسبق)

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

المبادئ:
1 - لم يفرض الجهاد في سبيل الله على المرأة، وهذا لا يمنع من أن للنساء دوراً هاماً في الجهاد، وهو مداواة الجرحى والمرضى وخدمة المجاهدين.
2 - عدم فرض القتال على النساء لا يسلبهنّ حقهنّ في الدفاع عن أنفسهن وعن بيوتهن وبلادهن.
3 - يجوز الاستعانة بغير المسلمين في الحرب بشرط عدم تسلطهم وعدم تدخلهم، وأن يضمن المسلمون أنه ليس وراء هذه الاستعانة خيانة لهم وإضعاف لقوتهم.

سُئل: من السيد مندوب روز اليوسف قال:
1 - ما رأى الشرع فيما قامت به المرأة في الفترة الأخيرة من حمل السلاح وتدريب على القتال؟
2 - في الحرب هل يجوز أن نستعين بمن يخالفوننا في الدين والعقيدة؟

أجاب: عن السؤال الأول لم يفرض الله سبحانه وتعالى على النساء الجهاد في سبيله، أي حمل السلاح والقتال.

وذلك لأن القتال في الحرب يحتاج إلى قوة بدنية وإلى مشقة لا تتوافران في المرأة.

فقد روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "جهاد لا قتال فيه. الحج والعمرة".

وقد بيّن (صاحب المغني) علة عدم وجوب الجهاد عليها بقوله: "لأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها". وقال (صاحب نيل الأوطار): "وإنما لم يكن الجهاد واجباً على النساء؛ لما فيه من مغايرة المطلوب منهنّ، من الستر ومجانبة الرجال، ولذلك كان الحج أفضل لهنّ من الجهاد".

ولعل من عرف ما يحتاج إليه المجاهد أثناء القتال من قوة وصبر ومشقة، يُدرك تمام الحكمة في أن الله خفف عن النساء ولم يفرض عليهن الجهاد، بمعنى مقاتلة العدو بالأسلحة المختلفة.

وهذا لا يمنع من أن للنساء دوراً هاماً في الجهاد، وهو مداواة الجرحى والمرضى، والقيام بخدمة المجاهدين وغير ذلك من الشئون التى يستعان بها على قهر العدو والتغلب عليه.

ففي صحيح مسلم والبخارى وأحمد، أن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسقى القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة". وعن أم عطية الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمنى".

فالأعمال التى كانت تقوم بها النساء في الغزوات والحروب التى وردت في هذين الحديثين، من الإعانة على الغزو، قد اعتُبرت غزواً، لأنهنّ ما أتين إلى ميادين القتال لسقى الجرحى ونحو ذلك إلا ذهبن عازمات على المدافعة عن أنفسهن.
وقد ورد في صحيح مسلم أن أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين فقالت: "اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه".

وهذا يدل على أنه وإن لم يُفرض القتال على النساء، إلا أن هذا لا يسلبهنّ حقهن في الدفاع عن أنفسهن، وعن بيوتهن وبلادهن، كما فعلت سيدات بور سعيد اللآتى اشتركن مع الرجال في الذود عن حياض الوطن.

وعن السؤال الثاني، اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة في الجهاد بغير المسلمين. جاء في البحر عن أبي حنيفة وأصحابه أنه "يجوز الاستعانة بالكفار والفساق؛ حيث يستقيمون على أوامر الحاكم المسلم ونواهيه".

واستدلوا على هذا الحكم باستعانة الرسول صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود، وباستعانته بصفوان بن أمية يوم حنين، وعلل المخالفون من الفقهاء لهذا الحكم بالخوف من أن يتسلط غير المسلمين على المسلمين بسبب الاستعانة بهم، وأن يكون في ذلك جعل سبيل الكافر على المسلم، وهذا يخالف لقوله تعالى: { ولن يجعلَ اللهُ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلا } [النساء 141].

فإذا لم يترتب عليها شيء من ذلك، وضمن المسلمون أن يكون أمرهم بيدهم ينفذون به أحكام الله، ولا يتدخل في شئونهم أجنبي عنهم بسبب معاونته لهم في جهادهم، وأمنوا أن يكون من وراء هذه المعاونة خيانة لهم، أو إضعاف لقوتهم.. جازت الاستعانة بهم، وكانت في هذه الحالة متمشية مع مصلحة جماعة المسلمين.
وكل ما يحقق مصلحة عامة للمسلمين لا يمتنع على الحاكم المسلم أن يفعله والله أعلم(1) .

ـــــــــــــــــــ
(1) فتاوى دار الإفتاء لمدة مائة عام، الباب: من أحكام الاستعانة بغير المؤمنين، الموضوع (1056)، تاريخ الفتوى: 6 جمادى الأولى 1376 - 8 ديسمبر 1956م.
‏٢٥‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٩:٤٤ م‏
الثائر الأمين د.مجدي شلش [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] الثورة عقل وحكمة، وحركة وقوة، وإرادة وقدرة، وإدراك للحاضر ووعي للمستقبل، وقيمة ومبدأ، همها وطن سعيد، وإنسان رشيد، وعدل للجميع مديد، وكرامة للصغير والكبير، ورفعة للأمة، تهون في نصرتها الأموال والأولاد والنفوس، الحياة بلا ثورة ضد الطغيان مضرة، والعيشة بلا كرامة فيها حرمة، هي فريضة الوقت، وواجب اليوم، من احترمها وقدرها أعزته، ومن أهانها وانتقصها أذلته، ومن ابتغي غير طريقها خذلته، هي الآن لب الجهاد والكفاح والفلاح. الدين ليس فقرا مكتوبا، ولا صبرا مكتوفا، ولا ابتلاء موقوفا، إنما عزة وكرامة، وجهاد وأخوة، ومقارعة للباطل بكل قوة، ونصرة للمظلوم وأخذ على يد الظالم الباغي، الدين لبه تغيير واقتلاع، وعقله ثورة وكفاح، وجسمة نار تلظي على الذي استباح، لا تميتوا علينا ديننا باسم الصبر المباح، ولا تقتلوا فينا العزم والقوة والنخوة بالخوف من المناخ، إنها علل من عاش الدنيا وتنعم فيها واستراح، لا تتمسحوا بالدين بالفسحة فيه والمتاح، قتل امرأة في ديننا تنشب له المعارك في كل البطاح، وأسر رئيس أمين صالح تقوم من أجله في شرعنا المعارك الفساح، واغتصاب حرة تهتز لها الأرض والسماوات وتجتز فيها الرقاب، وأسر علماء أعزاء في ديننا جريمة لا تغتفر ولا تباح، وبيع وطن بثمن بخس دونه الموت والشهادة، من علمكم هذا الدين المستباح، ومن أقركم على الدنية فى الدين لاعقل له ولا فلاح، الحكمة معناها وضع الشيء في مكانه المتاح، ذللتم للظالم حتي قطف وقطع الرؤوس الملاح، يا أمة نامت عن دينها واستراحت بفهم الرعديد الجبان، المصلحة في العزة، والكرامة في القوة، ونحن لا نعرف الاستسلام أو الهزيمة، وإنما نصر أو شهادة ذلكم النجاح. الثائر الأمين هو الذي فى لب المعركة قائم، وفي وسطها مثابر، فاهم لطبيعة الصراع، وواع لحقيقة التدافع، ومدرك لخطورة التنازل، ترك الميدان موت للكرامة والأوطان، وفسحة للعملاء والخونة وأهل النذالة، لا تراجع عن الحق، ولا تهاون مع الباطل، هل نسينا دماء شهدائنا، واغتصاب فتياتنا، وأسررئيسنا وقادتنا وعلمائنا، المعركة الآن وجود أو عدم، تكون الأمة أو لا تكون، الذبح في انتظاركم إن سلمتم الراية، لا تحسبوا التراجع والتنازل صيانة، بل تقسيم للمقسم، وتفريط في المجمع، إنها الخيانة للأمة والديانة، ارفعوا صوتكم، وحصنوا ثورتكم، ووحدوا صفكم، الوقت ليس وقت معارضة مستأنسة تدور في الفلك، وتقتل تاريخها المجيد في محاربة الظلم وطغيان من ملك، الأمة في خطر، الاستخراب علامته ظاهرة، وأمارته واضحة، أنيابه في جسد الأمة ممزقة، وعملاؤه في أوصال الأمة مقطعة. علام تراهنون؟ على مؤسسات دولية فاسدة، ومنظمات عالمية ظالمة، وقمة عربية فارغة، الرهان الصحيح على الشعوب التي استيقظت، وعلى بغاتها ثارت، ومن أجل هويتها قامت، ولكرامتها وعزتها كافحت وناضلت، الشعوب تحتاج منكم مزيد وعي بحقيقة الصراع، ودفعة منكم لشحذ همتها وطاقتها، سترون العجب العجاب من شعوبكم المقهورة، ومن أمتكم المكلومة، من قال هلك الناس فهو أهلكهم، الأمة ما زال فيها الخير قائم، والعز في دمها ثائر، هي الآن مكشرة عن أنيابها، وتحد من أسنانها، حتي تمزق في الوقت المناسب قلب عدوها، وتمرغ في التراب أنف ظالمها، النصر قادم، والعدو زائل، والمعركة فاصلة، والكلمة ستكون للثائر الأمين الذي على العهد وفى، وللأمانة حفظ، وللدماء صان وما غدر، الثورة الآن أمانة الوقت، تركها خيانة، {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخون أماناتكم وأنتم تعلمون }. دماء الشهداء والقصاص لها ممن ذبحها أمانة، وتركه والتنازل عنه من البعض خيانة. حرية الشعوب وكفاحها ضد جلاديها أمانة، والاستسلام والعبودية للظالم خيانة. الدين والنفس والعِرض أمانة، وترك الحفاظ عليها وهدمها من العملاء خيانة. الوطن والأرض والأمة أمانة والتفريط فيها خسة ونذالة وخيانة. حق المعتقلين والمطاردين من المجرمين أمانة، وتركهم للبغاة ينهشون لحومهم ويمصون دماءهم خيانة. النظر في أحوال المحبوسين والمطاردين بدعمهم معنويا وماديا والاهتمام بشئون أولادهم وأزواجهم أمانة، ونسيانهم والتفريط في دعمهم خيانة. السيد الرئيس المجاهد الأستاذ الدكتور محمد مرسى عيسى العياط - فك الله أسره وجميع الثوار - أمانة، ليس لشخصه الكريم، وإنما هو قيمة ومبدأ، لأنه تعبير عن عقد واتفاق وحرية وإرادة شعب، التنازل عنه وبيعه تحت أي ظرف كان خيانة، بدونه تسقط أي شرعية بعد ذلك تحت أي مسمى، الله أمرنا أن نؤدى الأمانات الى أهلها بقوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...}، فالخروج عن شرعية الرئيس أداء للأمانة إلى غير أهلها، وهو عنوان الظلم والبغي من طائفة محسوبة على الثورة، كيف نسمح لأنفسنا أن نكون ظالمين لرئيس منتخب بإرادة حرة من شعب ذاق المرار من أعدائه؟ ثورة يناير 2011 م بكل أهدافها ومقاصدها أمانة، التنازل عنها وتركها والتفريط فيها حتى تنسى وتضيع خيانة، والله نهانا عن خيانة الأمانة {... وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. جاء في بعض الآثار أن " الأمانة غنى " وفي نظري المحدود أن الغنى هنا ليس المال وحده، لكن دلالة اللفظ تتسع لأكثر من ذلك، ولعل من معاني الغني التي يتولد عن الأمانة ما يلي: أولا: الثائر الأمين يحصل له الغنى بمن توافق معه، وآمن بثورته، وبذل فيها قدر استطاعته، وأما من بخل واستغني عن الثورة فلا يضر الثوار الحقيقيون من خذلهم، حتى ولوكانوا كثرة، لأن النصر ليس متوقفا عليهم، بل في أكثر الأحوال تكون القلة هى أهل النصر، لثباتها وصيانتها " كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله ..." ومعنى الحديث على ذلك: أن من عاش الأمانة بالرعاية والحفظ والصون ولم يخن فهو غني وإن خان البعض الذي كان يرجى منه النصر والتأييد، وعلى ذلك فالغنى هنا معنوي ومادي، وله شواهد كثيرة تؤيده من القرآن والسنة. ثانيا: الأمانة في حد ذاتها تملء نفس الأمين بالعفة والحفظ وترعاه من الذلة والانكسار أمام سطوة المال أو الخيانة في شتي صورها، فالثائر الأمين ذاته مملوءة بما آمن من قيمة الحفظ والصون، وبم استحفظ من مال أو عرض أو ثورة أو رئيس أو وطن أو أمة، نفسه الكريمة لا تفرط أبدا، سواء حافظ الناس على الأمانة أو ضيعوها، الثائر الأمين أمة وحده، إن شاركه الأمناء فهو خير، وأن وقف وحده فهو الأسد الذي لا يهاب الموت. ثالثا: يتسع اللفظ في دلالته اللغوية لمعنى آخر وهو أن من حافظ على الأمانة الله يتولاه بالغني فى قلبه، ويجلب له السرور في نفسه، فثمرة الأمانة عند الله عظيمة، وثوابها في الدنيا غني نفسى ومادي، فمن استعف عن شيء وحفظه ورعاه أبدله الله خيرا منه في الدنيا والآخرة، وشواهد ذلك من القرآن والسنة كثيرة. رابعا: الغني قد يكون آنيا وحاليا كما فى المعاني السابقة، لكنه قد يكون مستقبليا، بعض الناس تنظر إلى الثورة والثوار الأمناء على أنهم فقدوا كل شيء، وحل عليهم الدمار من كل جانب، فينظرون نظرة سلبية بحسب الواقع المشاهد، لكن الحديث يرد عليهم ويقول بأن من صان الأمانة وحفظها وثبت عليها رغم الأهوال الشديدة، والأمواج العالية فمستقبله الغنى، لأنه أدى ما عليه وصبر وشكر، فمآله في المستقبل الغني والنصر، من كان يظن أن الرسول - صلي الله عليه وسلم - وهو محاصر في الأحزاب أن دينه سيفتح بلاد فارس والروم، وتأتي كنوز كسرى وقيصر أمام الصحابة الكرام الذين أكلوا ورق الشجر، ومصوا مرارة الحجر، في حصار شعب أبي طالب، إنه المستقبل العظيم لكل من ثبت وجاهد وضحى. خامسا: "الأمانة غني" بمعني أن الأمين محبوب، فالغنى معناه الحب والتآلف، ومن أجل أمانته يلتف الناس حوله، فالأمانة كنز عظيم، والثائر الأمين هو الذي يجمع ولا يفرق، ويوحد الجهود، وينظم الصفوف، ويؤلف القلوب، يجمع بين المتخاصمين، ويوحد بين المختلفين، قلبه عامر بحب جميع الثوار، لا يفرق بين أحد منهم على أساس عقدي أو جغرافي أو مذهبي أو نفسي، الثائر الأمين يدعم الجميع، {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك...}، بعض أدعياء الثورة الكلمة عنده بحساب، والنظرة منه للثوار بكتاب، لا يظهر إلا في المناسبات، ولا يتكلم عن الثورة إلا بحسابات، بئس الثوار هم، ينظرون للناس بخفة واحتقار، ولا يبالون في إهانة الشباب الصغار، هَم بعضهم كرسي مريح، ومكتب فسيح، ومركب لطيف، نسوا الثورة وأهلها، هم للدنيا أقرب منهم للجهاد والكفاح، لكن الثائر الأمين ريحه عطرة، وقلبه واسع، وصدره منشرح، لا يضيق بالمخالف مهما تكلم، رأيت بعض أدعياء الثورة لا يتكلمون إلا عن ذواتهم، ولا يقربون إلا من وثق فيهم ووالاهم، فرقوا الجمع، وشتتوا الصف، وأوهنوا العظم، والثائر الأمين غني بالكل، ذاته تفنى في حب إخوانه، ومطالعة أحوالهم، ومعرفة حياتهم، مبتسم للجميع، وناصح للكبير قبل الصغير، اللهم املأ قلوبنا حبا للثوار، واحشرنا مع المجاهدين الأبرار.
الثائر الأمين

د.مجدي شلش

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

الثورة عقل وحكمة، وحركة وقوة، وإرادة وقدرة، وإدراك للحاضر ووعي للمستقبل، وقيمة ومبدأ، همها وطن سعيد، وإنسان رشيد، وعدل للجميع مديد، وكرامة للصغير والكبير، ورفعة للأمة، تهون في نصرتها الأموال والأولاد والنفوس، الحياة بلا ثورة ضد الطغيان مضرة، والعيشة بلا كرامة فيها حرمة، هي فريضة الوقت، وواجب اليوم، من احترمها وقدرها أعزته، ومن أهانها وانتقصها أذلته، ومن ابتغي غير طريقها خذلته، هي الآن لب الجهاد والكفاح والفلاح.

الدين ليس فقرا مكتوبا، ولا صبرا مكتوفا، ولا ابتلاء موقوفا، إنما عزة وكرامة، وجهاد وأخوة، ومقارعة للباطل بكل قوة، ونصرة للمظلوم وأخذ على يد الظالم الباغي، الدين لبه تغيير واقتلاع، وعقله ثورة وكفاح، وجسمة نار تلظي على الذي استباح، لا تميتوا علينا ديننا باسم الصبر المباح، ولا تقتلوا فينا العزم والقوة والنخوة بالخوف من المناخ، إنها علل من عاش الدنيا وتنعم فيها واستراح، لا تتمسحوا بالدين بالفسحة فيه والمتاح، قتل امرأة في ديننا تنشب له المعارك في كل البطاح، وأسر رئيس أمين صالح تقوم من أجله في شرعنا المعارك الفساح، واغتصاب حرة تهتز لها الأرض والسماوات وتجتز فيها الرقاب، وأسر علماء أعزاء في ديننا جريمة لا تغتفر ولا تباح، وبيع وطن بثمن بخس دونه الموت والشهادة، من علمكم هذا الدين المستباح، ومن أقركم على الدنية فى الدين لاعقل له ولا فلاح، الحكمة معناها وضع الشيء في مكانه المتاح، ذللتم للظالم حتي قطف وقطع الرؤوس الملاح، يا أمة نامت عن دينها واستراحت بفهم الرعديد الجبان، المصلحة في العزة، والكرامة في القوة، ونحن لا نعرف الاستسلام أو الهزيمة، وإنما نصر أو شهادة ذلكم النجاح.

الثائر الأمين هو الذي فى لب المعركة قائم، وفي وسطها مثابر، فاهم لطبيعة الصراع، وواع لحقيقة التدافع، ومدرك لخطورة التنازل، ترك الميدان موت للكرامة والأوطان، وفسحة للعملاء والخونة وأهل النذالة، لا تراجع عن الحق، ولا تهاون مع الباطل، هل نسينا دماء شهدائنا، واغتصاب فتياتنا، وأسررئيسنا وقادتنا وعلمائنا، المعركة الآن وجود أو عدم، تكون الأمة أو لا تكون، الذبح في انتظاركم إن سلمتم الراية، لا تحسبوا التراجع والتنازل صيانة، بل تقسيم للمقسم، وتفريط في المجمع، إنها الخيانة للأمة والديانة، ارفعوا صوتكم، وحصنوا ثورتكم، ووحدوا صفكم، الوقت ليس وقت معارضة مستأنسة تدور في الفلك، وتقتل تاريخها المجيد في محاربة الظلم وطغيان من ملك، الأمة في خطر، الاستخراب علامته ظاهرة، وأمارته واضحة، أنيابه في جسد الأمة ممزقة، وعملاؤه في أوصال الأمة مقطعة.

علام تراهنون؟ على مؤسسات دولية فاسدة، ومنظمات عالمية ظالمة، وقمة عربية فارغة، الرهان الصحيح على الشعوب التي استيقظت، وعلى بغاتها ثارت، ومن أجل هويتها قامت، ولكرامتها وعزتها كافحت وناضلت، الشعوب تحتاج منكم مزيد وعي بحقيقة الصراع، ودفعة منكم لشحذ همتها وطاقتها، سترون العجب العجاب من شعوبكم المقهورة، ومن أمتكم المكلومة، من قال هلك الناس فهو أهلكهم، الأمة ما زال فيها الخير قائم، والعز في دمها ثائر، هي الآن مكشرة عن أنيابها، وتحد من أسنانها، حتي تمزق في الوقت المناسب قلب عدوها، وتمرغ في التراب أنف ظالمها، النصر قادم، والعدو زائل، والمعركة فاصلة، والكلمة ستكون للثائر الأمين الذي على العهد وفى، وللأمانة حفظ، وللدماء صان وما غدر، الثورة الآن أمانة الوقت، تركها خيانة، {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخون أماناتكم وأنتم تعلمون }.

دماء الشهداء والقصاص لها ممن ذبحها أمانة، وتركه والتنازل عنه من البعض خيانة.

حرية الشعوب وكفاحها ضد جلاديها أمانة، والاستسلام والعبودية للظالم خيانة.

الدين والنفس والعِرض أمانة، وترك الحفاظ عليها وهدمها من العملاء خيانة.

الوطن والأرض والأمة أمانة والتفريط فيها خسة ونذالة وخيانة.

حق المعتقلين والمطاردين من المجرمين أمانة، وتركهم للبغاة ينهشون لحومهم ويمصون دماءهم خيانة.

النظر في أحوال المحبوسين والمطاردين بدعمهم معنويا وماديا والاهتمام بشئون أولادهم وأزواجهم أمانة، ونسيانهم والتفريط في دعمهم خيانة.

السيد الرئيس المجاهد الأستاذ الدكتور محمد مرسى عيسى العياط - فك الله أسره وجميع الثوار - أمانة، ليس لشخصه الكريم، وإنما هو قيمة ومبدأ، لأنه تعبير عن عقد واتفاق وحرية وإرادة شعب، التنازل عنه وبيعه تحت أي ظرف كان خيانة، بدونه تسقط أي شرعية بعد ذلك تحت أي مسمى، الله أمرنا أن نؤدى الأمانات الى أهلها بقوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...}، فالخروج عن شرعية الرئيس أداء للأمانة إلى غير أهلها، وهو عنوان الظلم والبغي من طائفة محسوبة على الثورة، كيف نسمح لأنفسنا أن نكون ظالمين لرئيس منتخب بإرادة حرة من شعب ذاق المرار من أعدائه؟

ثورة يناير 2011 م بكل أهدافها ومقاصدها أمانة، التنازل عنها وتركها والتفريط فيها حتى تنسى وتضيع خيانة، والله نهانا عن خيانة الأمانة {... وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.

جاء في بعض الآثار أن " الأمانة غنى " وفي نظري المحدود أن الغنى هنا ليس المال وحده، لكن دلالة اللفظ تتسع لأكثر من ذلك، ولعل من معاني الغني التي يتولد عن الأمانة ما يلي:

أولا: الثائر الأمين يحصل له الغنى بمن توافق معه، وآمن بثورته، وبذل فيها قدر استطاعته، وأما من بخل واستغني عن الثورة فلا يضر الثوار الحقيقيون من خذلهم، حتى ولوكانوا كثرة، لأن النصر ليس متوقفا عليهم، بل في أكثر الأحوال تكون القلة هى أهل النصر، لثباتها وصيانتها " كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله ..." ومعنى الحديث على ذلك: أن من عاش الأمانة بالرعاية والحفظ والصون ولم يخن فهو غني وإن خان البعض الذي كان يرجى منه النصر والتأييد، وعلى ذلك فالغنى هنا معنوي ومادي، وله شواهد كثيرة تؤيده من القرآن والسنة.

ثانيا: الأمانة في حد ذاتها تملء نفس الأمين بالعفة والحفظ وترعاه من الذلة والانكسار أمام سطوة المال أو الخيانة في شتي صورها، فالثائر الأمين ذاته مملوءة بما آمن من قيمة الحفظ والصون، وبم استحفظ من مال أو عرض أو ثورة أو رئيس أو وطن أو أمة، نفسه الكريمة لا تفرط أبدا، سواء حافظ الناس على الأمانة أو ضيعوها، الثائر الأمين أمة وحده، إن شاركه الأمناء فهو خير، وأن وقف وحده فهو الأسد الذي لا يهاب الموت.

ثالثا: يتسع اللفظ في دلالته اللغوية لمعنى آخر وهو أن من حافظ على الأمانة الله يتولاه بالغني فى قلبه، ويجلب له السرور في نفسه، فثمرة الأمانة عند الله عظيمة، وثوابها في الدنيا غني نفسى ومادي، فمن استعف عن شيء وحفظه ورعاه أبدله الله خيرا منه في الدنيا والآخرة، وشواهد ذلك من القرآن والسنة كثيرة.

رابعا: الغني قد يكون آنيا وحاليا كما فى المعاني السابقة، لكنه قد يكون مستقبليا، بعض الناس تنظر إلى الثورة والثوار الأمناء على أنهم فقدوا كل شيء، وحل عليهم الدمار من كل جانب، فينظرون نظرة سلبية بحسب الواقع المشاهد، لكن الحديث يرد عليهم ويقول بأن من صان الأمانة وحفظها وثبت عليها رغم الأهوال الشديدة، والأمواج العالية فمستقبله الغنى، لأنه أدى ما عليه وصبر وشكر، فمآله في المستقبل الغني والنصر، من كان يظن أن الرسول - صلي الله عليه وسلم - وهو محاصر في الأحزاب أن دينه سيفتح بلاد فارس والروم، وتأتي كنوز كسرى وقيصر أمام الصحابة الكرام الذين أكلوا ورق الشجر، ومصوا مرارة الحجر، في حصار شعب أبي طالب، إنه المستقبل العظيم لكل من ثبت وجاهد وضحى.

خامسا: "الأمانة غني" بمعني أن الأمين محبوب، فالغنى معناه الحب والتآلف، ومن أجل أمانته يلتف الناس حوله، فالأمانة كنز عظيم، والثائر الأمين هو الذي يجمع ولا يفرق، ويوحد الجهود، وينظم الصفوف، ويؤلف القلوب، يجمع بين المتخاصمين، ويوحد بين المختلفين، قلبه عامر بحب جميع الثوار، لا يفرق بين أحد منهم على أساس عقدي أو جغرافي أو مذهبي أو نفسي، الثائر الأمين يدعم الجميع، {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك...}، بعض أدعياء الثورة الكلمة عنده بحساب، والنظرة منه للثوار بكتاب، لا يظهر إلا في المناسبات، ولا يتكلم عن الثورة إلا بحسابات، بئس الثوار هم، ينظرون للناس بخفة واحتقار، ولا يبالون في إهانة الشباب الصغار، هَم بعضهم كرسي مريح، ومكتب فسيح، ومركب لطيف، نسوا الثورة وأهلها، هم للدنيا أقرب منهم للجهاد والكفاح، لكن الثائر الأمين ريحه عطرة، وقلبه واسع، وصدره منشرح، لا يضيق بالمخالف مهما تكلم، رأيت بعض أدعياء الثورة لا يتكلمون إلا عن ذواتهم، ولا يقربون إلا من وثق فيهم ووالاهم، فرقوا الجمع، وشتتوا الصف، وأوهنوا العظم، والثائر الأمين غني بالكل، ذاته تفنى في حب إخوانه، ومطالعة أحوالهم، ومعرفة حياتهم، مبتسم للجميع، وناصح للكبير قبل الصغير، اللهم املأ قلوبنا حبا للثوار، واحشرنا مع المجاهدين الأبرار.
‏٢٣‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٨:٠٢ م‏
ذروة سنام الإسلام د. عطية عدلان [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE ] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. بعيداً عن الممارسات المرتجلة والاجتهادات المختلف عليها؛ يبقى الجهاد فريضة محكمة وسنة متبعة وطبيعة لهذه الأمة راسخة راسية، فالجهاد ذروة سنام هذا الدين، وسنام الجمل أعلاه، وذروة كل شيء أعلاه؛ شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 101) فهو ذروة الذروة، على هذا نص حديث صحيح، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ ابن جبل رضي الله عنه: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ»؟ قال معاذ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» مسند أحمد ط الرسالة (36/ 345) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 12) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 214) = سنن ابن ماجه (2/ 1314). كيف لا وهو الذي يبرهن على صدق الإيمان وقوة اليقين؟! هذا بعض ما يستفاد من قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات 15)، كذلك هو أوضح شاهد على الحبّ والإخلاص، فليس شيء أدلَّ على حب العبد لربه وشدة إخلاصه له من بذل النفس في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لذلك كانت أكبر أمنيات رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه: « ... والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل»، وهكذا كل شهيد بعد أن يرى مقامه وما أعدّ الله له من الكرامة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» صحيح البخاري (4/ 22). فالذين يحبون الله ويحبهم الله هم هؤلاء الذين ينالون هذا الفضل: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة 54)، وقد قرن الله تعالى بين الحب والجهاد في سياق ينعى على الذين لا يقدمون حب الله ورسوله على حب من سواهما من الخلق ولا يقدمون الجهاد على ما سواه من المصالح؛ فقال عزَّ وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة 24)، ولأنَّهم أحبوا الله تعالى، وبرهنوا على صدق حبهم له بجهادهم في سبيله متراصين متماسكين كالبنيان المرصوص أحبهم الله تعالى وأحب أن يراهم في هذه الصورة الفذَّة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف 4). ولأنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام وجدناه سابقاً سامقاً لا يقارن بشيء، روى البخاريّ عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: «لا أجده» قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟، قال أبو هريرة: «إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات» صحيح البخاري (4/ 15)، وروى عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا: ثم من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره» صحيح البخاري (4/ 15)، وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله، بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة» صحيح البخاري (4/ 15). ولأنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام كان له هذه الفضائل التي تخطف قلوب الصادقين؛ فللمجاهدين - خاصة - مائة درجة من درجات الجنة، ورد هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق يدعو لعلو الهمَّة: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً (4/ 16)، كل هذه الدرجات بكل هذه السعة في جنة، حقيقتُها - إذا قورنت بنعيم الدنيا - تأتي على هذا النحو الذي يصوره رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق يعظم من شأن آلة من آلات القتال: «لقاب قوس في الجنة، خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب» صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعا (4/ 17)، وفي سياق آخر يتوسع في ذكر الآلات وفي ذكر الفضائل: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة، أو موضع قيده - يعني سوطه - خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» صحيح البخاري (4/ 17). هذا الفضل للمجاهد، أمَّا الشهيد فله فوق ذلك ما اختصه الله به من الفضل والذكر في قرآنه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)) (آل عمران 169-171)، وله كذلك ما أكرمه الله به مما جاءت به السنة الصحيحة، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ" رواه أحمد (17182) والترمذي (1663) والنسائي (1938) وابن ماجة (2799). بل إنَّ من يجرح في سبيل الله - حتى ولو لم ينل الشهادة - يكون له فضل يتيه به على العالمين يوم الدين: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك» صحيح البخاري (4/ 18)، ويصل الأمر إلى حدّ أنَّ المجاهد يؤجر على إعداد ركابه وكراعه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، ولعل الكلمة الجامعة الفاصلة المحيطة بالأمر هنا هي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى (4/ 22). لذا كانت أربح تجارة هي هذه التجارة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)) (الصف 10-13) (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 111)؛ فمن اتجر مع الله بهذه التجارة كانت له أربح تجارة، وكان القليل منه أربح من الكثير من غيرها: عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: أَتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: «أسلم، ثم قاتل»، فأسلم، ثم قاتل، فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلا وأجر كثيرا» صحيح البخاري (4/ 20). وما دام الجهاد ذروة سنام الإسلام؛ فلا بد أن يكون ماضيا مستمراً إلى يوم القيامة، لا يوقفه ولا يعطله شيء، ولا مفر من إمضائه ولو بطائفة من الأمَّة تجبر قلتها وغربتها بمضيّ عزمها؛ فلا يضرها خذلان القاعدين ولا تولي المعرضين؛ وهذه جملة من الأحاديث تدور حول هذا المعنى، يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا: قال البخاريّ: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، عن عروة بن الجعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، عن المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» صحيح البخاري (4/ 207)، وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: " فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ" صحيح مسلم (1/ 137)، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» صحيح مسلم (3/ 1523)، وعن مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» صحيح مسلم (3/ 1524)، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» سنن أبي داود (3/ 4)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» سنن ابن ماجه (1/ 5)، وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ نُفَيْلٍ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أسَمْتُ الْخَيْلَ، وَأَلْقَيْتُ السِّلَاحَ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، قُلْتُ: لَا قِتَالَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، يَزْيِغُ اللهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ؛ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " مسند أحمد ط الرسالة (28/ 164-166)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ، وَلَا تُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ " سنن سعيد بن منصور (2/ 176).
ذروة سنام الإسلام

د. عطية عدلان

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE ]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

بعيداً عن الممارسات المرتجلة والاجتهادات المختلف عليها؛ يبقى الجهاد فريضة محكمة وسنة متبعة وطبيعة لهذه الأمة راسخة راسية، فالجهاد ذروة سنام هذا الدين، وسنام الجمل أعلاه، وذروة كل شيء أعلاه؛ شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 101) فهو ذروة الذروة، على هذا نص حديث صحيح، وهو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ ابن جبل رضي الله عنه: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ»؟ قال معاذ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» مسند أحمد ط الرسالة (36/ 345) - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 12) - السنن الكبرى للنسائي (10/ 214) = سنن ابن ماجه (2/ 1314).

كيف لا وهو الذي يبرهن على صدق الإيمان وقوة اليقين؟! هذا بعض ما يستفاد من قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات 15)، كذلك هو أوضح شاهد على الحبّ والإخلاص، فليس شيء أدلَّ على حب العبد لربه وشدة إخلاصه له من بذل النفس في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لذلك كانت أكبر أمنيات رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هذه: « ... والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل»، وهكذا كل شهيد بعد أن يرى مقامه وما أعدّ الله له من الكرامة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» صحيح البخاري (4/ 22).

فالذين يحبون الله ويحبهم الله هم هؤلاء الذين ينالون هذا الفضل: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة 54)، وقد قرن الله تعالى بين الحب والجهاد في سياق ينعى على الذين لا يقدمون حب الله ورسوله على حب من سواهما من الخلق ولا يقدمون الجهاد على ما سواه من المصالح؛ فقال عزَّ وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة 24)، ولأنَّهم أحبوا الله تعالى، وبرهنوا على صدق حبهم له بجهادهم في سبيله متراصين متماسكين كالبنيان المرصوص أحبهم الله تعالى وأحب أن يراهم في هذه الصورة الفذَّة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف 4).

ولأنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام وجدناه سابقاً سامقاً لا يقارن بشيء، روى البخاريّ عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: «لا أجده» قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟، قال أبو هريرة: «إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات» صحيح البخاري (4/ 15)، وروى عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا: ثم من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره» صحيح البخاري (4/ 15)، وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله، بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة» صحيح البخاري (4/ 15).

ولأنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام كان له هذه الفضائل التي تخطف قلوب الصادقين؛ فللمجاهدين - خاصة - مائة درجة من درجات الجنة، ورد هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق يدعو لعلو الهمَّة: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً (4/ 16)، كل هذه الدرجات بكل هذه السعة في جنة، حقيقتُها - إذا قورنت بنعيم الدنيا - تأتي على هذا النحو الذي يصوره رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق يعظم من شأن آلة من آلات القتال: «لقاب قوس في الجنة، خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب» صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعا (4/ 17)، وفي سياق آخر يتوسع في ذكر الآلات وفي ذكر الفضائل: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة، أو موضع قيده - يعني سوطه - خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» صحيح البخاري (4/ 17).

هذا الفضل للمجاهد، أمَّا الشهيد فله فوق ذلك ما اختصه الله به من الفضل والذكر في قرآنه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)) (آل عمران 169-171)، وله كذلك ما أكرمه الله به مما جاءت به السنة الصحيحة، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ" رواه أحمد (17182) والترمذي (1663) والنسائي (1938) وابن ماجة (2799).

بل إنَّ من يجرح في سبيل الله - حتى ولو لم ينل الشهادة - يكون له فضل يتيه به على العالمين يوم الدين: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك» صحيح البخاري (4/ 18)، ويصل الأمر إلى حدّ أنَّ المجاهد يؤجر على إعداد ركابه وكراعه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، ولعل الكلمة الجامعة الفاصلة المحيطة بالأمر هنا هي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى (4/ 22).

لذا كانت أربح تجارة هي هذه التجارة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)) (الصف 10-13) (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 111)؛ فمن اتجر مع الله بهذه التجارة كانت له أربح تجارة، وكان القليل منه أربح من الكثير من غيرها: عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: أَتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: «أسلم، ثم قاتل»، فأسلم، ثم قاتل، فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلا وأجر كثيرا» صحيح البخاري (4/ 20).

وما دام الجهاد ذروة سنام الإسلام؛ فلا بد أن يكون ماضيا مستمراً إلى يوم القيامة، لا يوقفه ولا يعطله شيء، ولا مفر من إمضائه ولو بطائفة من الأمَّة تجبر قلتها وغربتها بمضيّ عزمها؛ فلا يضرها خذلان القاعدين ولا تولي المعرضين؛ وهذه جملة من الأحاديث تدور حول هذا المعنى، يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا: قال البخاريّ: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، عن عروة بن الجعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» صحيح البخاري (4/ 28)، عن المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» صحيح البخاري (4/ 207)، وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: " فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ" صحيح مسلم (1/ 137)، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» صحيح مسلم (3/ 1523)، وعن مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» صحيح مسلم (3/ 1524)، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» سنن أبي داود (3/ 4)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا» سنن ابن ماجه (1/ 5)، وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ نُفَيْلٍ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أسَمْتُ الْخَيْلَ، وَأَلْقَيْتُ السِّلَاحَ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، قُلْتُ: لَا قِتَالَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، يَزْيِغُ اللهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ؛ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " مسند أحمد ط الرسالة (28/ 164-166)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ، وَلَا تُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ " سنن سعيد بن منصور (2/ 176).
‏٢١‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:٤٨ م‏
وطـلحــة.. فــــي الجــنــة يُسرَى جلال [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] "لا أعرف سببًا لازدحام السوق هذا العام. حتى خان الدبس مزدحم على غير العادة.. طالعٌ طيب على أية حال.. علنا نتمكن من بيع تجارتنا والعودة إلى مكة قبل موسم الحج". استند الرجل حسن القسمات إلى جدار صومعة بعيدة عن السوق في بُصرى.. بدا عليه إرهاق السفر وأحمرّ وجهه القمحي، أغمض عينيه وأراح رأسه قبل أن يسمع نداءً من الصومعة: "يا أهل الموسم.. أفيكم أحد من أهل الحرم"؟ أجابه صاحبنا: "نعم"؛ فعاد وسأله: "هل ظهر أحمد بعد؟" صمت لهنيهة يحاول أن يتذكر إن كان مر عليه هذا الاسم الغريب من قبل لكنه أجاب: "من أحمد؟" فردّ الراهب: "ابن عبدالله بن عبدالمطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الآنبياء ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ.. فإياك أن تُسبق إليه". اتسعت حدقتا (طلحة بن عبيدالله) وسرى نشاط غريب في جسده المرهق وأسرّها في نفسه ولم يبدها لهم: "أيعني محمدًا؟ أقال ابن عبدالله بن عبدالمطلب"؟ أنهى (طلحة) معاملاته في بُصرى سريعًا قبل أن يسرع إلى مكة، ويسأل أهلها هل كان من حدث؟ فقالوا له: نعم (محمد بن عبدالله) الأمين تنبأ وتبعه (ابن أبي قحافة). صدق الراهب إذن. انطلق (طلحة) من فوره إلى (أبي بكر) يقصّ عليه حديث الراهب، فاصطحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سُر بما سمع من خبر الراهب، وعرض على (طلحة) الإسلام وقرأ عليه القرآن؛ ليكون أحد أول ثمانية دخولًا في الإسلام. مكانة (طلحة) في قريش لم تشفع له عند (نوفل بن خويلد) أسد قريش فقرنه مع (أبي بكر) في حبل واحد، ولم يمنعهما أحد من قومهما بني تميم.. إلا أن ذلك لم يدم طويلًا.. إذ لم ينل (طلحة) ما كان يتعرض له المسلمون من عذاب فلم يهاجر إلى الحبشة.. ****** انساب الماء في وادي الخرار بعد أن غادره رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في طريقهما إلى يثرب، وهناك التقى بهما (طلحة) عائدًا لتوه من رحلة الصيف إلى الشام، تهلل وجه (طلحة) إذ اكتحلت عيناه بالاطمئنان على رسول الله.. وكسا الرسول وصاحبه من ثياب الشام ليدخل الرسول وصاحبه إلى المدينة في حلة جديدة.. أما (طلحة) فقد أكمل السير إلى مكة ليصطحب آل أبي بكر إلى يثرب ثم يلحق برسول الله في يثرب.. ****** تبدد المسلمون في ساحة القتال. فرصة ذهبية لم يفوتها (خالد بن الوليد).. جبل أحد خالٍ من الرماة.. ظهور المسلمين مكشوفة ..استدار (خالد) مع فرسانه المائتين حتى وصل إلى مؤخرة جيش المسلمين وأباد عبدالله بن جبير والتسعة الذين لم يتركوا الجبل ليصيبوا من الغنيمة، ثم انقض على المسلمين من ظهورهم. وصار المسلمون بين شقي الرحى.. رفع المشركون لواءهم المطروح أرضًا منذ بداية المعركة والتفوا حوله ولاثوا به وتنادوا؛ لينقلبوا على المسلمين بعد أن تغير سير المعركة.. تناهى إلى سمع (طلحة) صياح المسلمين.. "قُتل رسول الله.. قُتل رسول الله" فارتاع قلبه، وانطلق يبحث عن رسول الله.. يركض لاهثًا بين الصفوف، وقد ألقى جماعة من المسلمين السلاح مستكينين، وسمع (أنس بن النضر) يصيح فيهم: ما تنتظرون؟ فردوا عليه: قُتل رسول الله؟ ثم ارتفع صوت أنس: ما تصنعون بالحياة من بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! كان قلبه يأبى أن يصدق ما سمعت أذناه، حتى سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط أرض المعركة: "هلموا إليّ.. أنا رسول الله". استجاب (طلحة) لنداء الرسول في سبعة من أصحابه وأحاطوا به، لكن عصبة الكفر سبقتهم إليه، فقد رماه (عتبة بن أبي وقاص) بالحجارة ليسقط أرضًا وتصاب رباعيته اليمنى.. وضربه (ابن قمئة) -أقمأه الله- على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة آلمت رسول الله، لكنها لم تنفذ إليه، إذ كان ظاهر بين درعين.. ثم عاد فضربه على وجنته حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته. انضم (طلحة) إلى (سعد أبن أبي وقاص) ليسددا الرمي على المشركين، ورسول الله يقول لسعد: "ارم فداك أبي وأمي(2). شكل (طلحة) مع (سعد ابن أبي وقاص) سياجًا لئلا يخلص المشركون إلى النبي، حتى إن الضربات كانت تنزل على رسول الله فيتلقاها (طلحة) بيده.. كان مشهدًا أسطوريًا لم تعتده دنيا البشر..حين توجه إليك ضربة تكون أنت أول من يتوقاها يعطيك جسمك إشارة إنعكاسية لتدفع الضربة الموجهة إليك.. ولكن أن يعطيك جسمك نفس الإشارة لتدفع الضرب الموجه إلى جسم آخر؟ كان ذلك من (طلحة) غريبًا.. لم تتحمل يد طلحة الضربات المتتابعة.. قُطعت أصابعه وشلت يده. كان يوم أحد كله لطلحة.. لم ينل يومها الشهادة كحمزة، ولكنه أصبح شهيدًا يمشي على الأرض. سقط صريعًا بين يدي رسول الله بعد أن تلقى بضعًا وسبعين ضربة، وأقبل عليه (أبو عبيدة بن الجراح) و(أبو بكر) يعالجانه بعد أن أثخنته الجراح.. وأوجب.. (أي وجبت له الجنة). كان يوم أحد كله لطلحة الخير. ******* بات (طلحة) على فراشه يتململ، لا تهنأ عينه بنوم، ولاحظت (أم كلثوم بنت الصديق) رضي الله عنهما قلق زوجها، فسألته: مالك؟ فأجابها:"ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك فإذا أصبحت، فادع بجفان وقصاع فقسمه"(3) التمعت عيناه فرحًا بعد أن أرقه المال الوفير الذي أتاه من حضرموت فقال لها: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق.. نام بعدها قرير العين وأصبح فقسم المال بين المهاجرين والأنصار. ***** مرَّ أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) بين صفوف المصلين ليطمئن أن لا خلل فيها، ثم تقدم ورفع صوته: "استووا".. وكبر لصلاة الفجر ثم صاح: "قتلني الكلب".. اضطربت صفوف المصلين الأمامية ولاذ (أبو لؤلؤة المجوسي) بالفرار حاملًا سكينًا ذا طرفين يطعن من يحاول الإمساك به، حتى ألقى عليه (عبد الرحمن بن عوف) برنسًا له وهنا أقدم القاتل على الانتحار.. وخرجت الكلمات واهنة من بين شفتي عمر: "وكان أمر الله قدرًا مقدورًا" ثم اُغشي عليه.. وحين أفاق سأل: أصلى الناس؟ "لا إسلام لمن ترك الصلاة". ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى وإن جرحه لينزف"(4). وانعقدت الشورى لأيام ثلاثة بعد دفن عمر رضي الله عنه، واجتمع الستة الذين أوصى عمر أن يختار الخليفة من بينهم.. الستة الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ اجتمعوا في بيت عائشة رضي الله عنها.. عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيدالله، الزبير بن العوام، عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.. وأعلن (طلحة) منذ البداية: "جعلت أمري إلى عثمان"؛ ليكون أول من بايع (عثمان) بالخلافة بعد استشهاد عمر رضي الله عنهم أجمعين.. ******** اشتد الحصار على دار (عثمان بن عفان)، وكان رضي الله عنه مصرًا على ألا تراق دماء المسلمين دفاعًا عنه، هاجم المتمردون دار (عثمان بن عفان) وقُتل رضي الله عنه والمصحف بين يديه، وقد خضبت دماؤه مصحفه الذي بين يديه وسقطت الدماء على قوله تعالى: "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" (البقرة:137) ******** أربعة أشهر مرت على مقتل (عثمان) رضي الله عنه، ولم يقتص لأمير المؤمنين.. فخرج (طلحة) و(الزبير) إلى مكة ليلتقيا بأم المؤمنين (عائشة) في طريق عودتها من الحج، واتفقوا على الخروج للبصرة ليستعينوا بمن فيها للقبض على قتلة عثمان، إلا أن رؤوس الفتنة كانت أسرع وأضرمت نار الحرب بين الفريقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ******** انطلق سهم غرب لا يعرف من رماه ليستقر في جسد (طلحة) وينزف دمه بغزارة، فيترك ساحة القتال يوم الجمل في بداية القتال ويدخل دارًا في البصرة ليعالج فيها، ثم يموت فيها شهيدًا، كما أخبره صاحبه صلى الله عليه وسلم: "وطلحة في الجنة"(5). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سير أعلام النبلاء، الجزء السادس والعشرون، ص111:115. (2) صحيح البخاري 1/407. (3) سير أعلام النبلاء- الجزء الأول. (4) الخلافة الإسلامية، 187. (5) صححه الألباني.
وطـلحــة.. فــــي الجــنــة

يُسرَى جلال

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

"لا أعرف سببًا لازدحام السوق هذا العام. حتى خان الدبس مزدحم على غير العادة.. طالعٌ طيب على أية حال.. علنا نتمكن من بيع تجارتنا والعودة إلى مكة قبل موسم الحج".

استند الرجل حسن القسمات إلى جدار صومعة بعيدة عن السوق في بُصرى.. بدا عليه إرهاق السفر وأحمرّ وجهه القمحي، أغمض عينيه وأراح رأسه قبل أن يسمع نداءً من الصومعة: "يا أهل الموسم.. أفيكم أحد من أهل الحرم"؟

أجابه صاحبنا: "نعم"؛ فعاد وسأله: "هل ظهر أحمد بعد؟" صمت لهنيهة يحاول أن يتذكر إن كان مر عليه هذا الاسم الغريب من قبل لكنه أجاب: "من أحمد؟" فردّ الراهب: "ابن عبدالله بن عبدالمطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الآنبياء ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ.. فإياك أن تُسبق إليه".

اتسعت حدقتا (طلحة بن عبيدالله) وسرى نشاط غريب في جسده المرهق وأسرّها في نفسه ولم يبدها لهم: "أيعني محمدًا؟ أقال ابن عبدالله بن عبدالمطلب"؟

أنهى (طلحة) معاملاته في بُصرى سريعًا قبل أن يسرع إلى مكة، ويسأل أهلها هل كان من حدث؟ فقالوا له: نعم (محمد بن عبدالله) الأمين تنبأ وتبعه (ابن أبي قحافة).
صدق الراهب إذن.

انطلق (طلحة) من فوره إلى (أبي بكر) يقصّ عليه حديث الراهب، فاصطحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سُر بما سمع من خبر الراهب، وعرض على (طلحة) الإسلام وقرأ عليه القرآن؛ ليكون أحد أول ثمانية دخولًا في الإسلام.

مكانة (طلحة) في قريش لم تشفع له عند (نوفل بن خويلد) أسد قريش فقرنه مع (أبي بكر) في حبل واحد، ولم يمنعهما أحد من قومهما بني تميم.. إلا أن ذلك لم يدم طويلًا.. إذ لم ينل (طلحة) ما كان يتعرض له المسلمون من عذاب فلم يهاجر إلى الحبشة..
******

انساب الماء في وادي الخرار بعد أن غادره رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في طريقهما إلى يثرب، وهناك التقى بهما (طلحة) عائدًا لتوه من رحلة الصيف إلى الشام، تهلل وجه (طلحة) إذ اكتحلت عيناه بالاطمئنان على رسول الله.. وكسا الرسول وصاحبه من ثياب الشام ليدخل الرسول وصاحبه إلى المدينة في حلة جديدة..

أما (طلحة) فقد أكمل السير إلى مكة ليصطحب آل أبي بكر إلى يثرب ثم يلحق برسول الله في يثرب..
******

تبدد المسلمون في ساحة القتال. فرصة ذهبية لم يفوتها (خالد بن الوليد).. جبل أحد خالٍ من الرماة.. ظهور المسلمين مكشوفة ..استدار (خالد) مع فرسانه المائتين حتى وصل إلى مؤخرة جيش المسلمين وأباد عبدالله بن جبير والتسعة الذين لم يتركوا الجبل ليصيبوا من الغنيمة، ثم انقض على المسلمين من ظهورهم.

وصار المسلمون بين شقي الرحى.. رفع المشركون لواءهم المطروح أرضًا منذ بداية المعركة والتفوا حوله ولاثوا به وتنادوا؛ لينقلبوا على المسلمين بعد أن تغير سير المعركة..

تناهى إلى سمع (طلحة) صياح المسلمين.. "قُتل رسول الله.. قُتل رسول الله" فارتاع قلبه، وانطلق يبحث عن رسول الله.. يركض لاهثًا بين الصفوف، وقد ألقى جماعة من المسلمين السلاح مستكينين، وسمع (أنس بن النضر) يصيح فيهم: ما تنتظرون؟ فردوا عليه: قُتل رسول الله؟ ثم ارتفع صوت أنس: ما تصنعون بالحياة من بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم!

كان قلبه يأبى أن يصدق ما سمعت أذناه، حتى سمع صوت الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط أرض المعركة: "هلموا إليّ.. أنا رسول الله". استجاب (طلحة) لنداء الرسول في سبعة من أصحابه وأحاطوا به، لكن عصبة الكفر سبقتهم إليه، فقد رماه (عتبة بن أبي وقاص) بالحجارة ليسقط أرضًا وتصاب رباعيته اليمنى.. وضربه (ابن قمئة) -أقمأه الله- على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة آلمت رسول الله، لكنها لم تنفذ إليه، إذ كان ظاهر بين درعين.. ثم عاد فضربه على وجنته حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.

انضم (طلحة) إلى (سعد أبن أبي وقاص) ليسددا الرمي على المشركين، ورسول الله يقول لسعد: "ارم فداك أبي وأمي(2).

شكل (طلحة) مع (سعد ابن أبي وقاص) سياجًا لئلا يخلص المشركون إلى النبي، حتى إن الضربات كانت تنزل على رسول الله فيتلقاها (طلحة) بيده.. كان مشهدًا أسطوريًا لم تعتده دنيا البشر..حين توجه إليك ضربة تكون أنت أول من يتوقاها يعطيك جسمك إشارة إنعكاسية لتدفع الضربة الموجهة إليك.. ولكن أن يعطيك جسمك نفس الإشارة لتدفع الضرب الموجه إلى جسم آخر؟ كان ذلك من (طلحة) غريبًا..

لم تتحمل يد طلحة الضربات المتتابعة.. قُطعت أصابعه وشلت يده.

كان يوم أحد كله لطلحة.. لم ينل يومها الشهادة كحمزة، ولكنه أصبح شهيدًا يمشي على الأرض. سقط صريعًا بين يدي رسول الله بعد أن تلقى بضعًا وسبعين ضربة، وأقبل عليه (أبو عبيدة بن الجراح) و(أبو بكر) يعالجانه بعد أن أثخنته الجراح.. وأوجب.. (أي وجبت له الجنة).

كان يوم أحد كله لطلحة الخير.
*******

بات (طلحة) على فراشه يتململ، لا تهنأ عينه بنوم، ولاحظت (أم كلثوم بنت الصديق) رضي الله عنهما قلق زوجها، فسألته: مالك؟ فأجابها:"ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك فإذا أصبحت، فادع بجفان وقصاع فقسمه"(3) التمعت عيناه فرحًا بعد أن أرقه المال الوفير الذي أتاه من حضرموت فقال لها: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق.. نام بعدها قرير العين وأصبح فقسم المال بين المهاجرين والأنصار.
*****

مرَّ أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) بين صفوف المصلين ليطمئن أن لا خلل فيها، ثم تقدم ورفع صوته: "استووا".. وكبر لصلاة الفجر ثم صاح: "قتلني الكلب".. اضطربت صفوف المصلين الأمامية ولاذ (أبو لؤلؤة المجوسي) بالفرار حاملًا سكينًا ذا طرفين يطعن من يحاول الإمساك به، حتى ألقى عليه (عبد الرحمن بن عوف) برنسًا له وهنا أقدم القاتل على الانتحار..

وخرجت الكلمات واهنة من بين شفتي عمر: "وكان أمر الله قدرًا مقدورًا" ثم اُغشي عليه.. وحين أفاق سأل: أصلى الناس؟ "لا إسلام لمن ترك الصلاة". ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى وإن جرحه لينزف"(4).

وانعقدت الشورى لأيام ثلاثة بعد دفن عمر رضي الله عنه، واجتمع الستة الذين أوصى عمر أن يختار الخليفة من بينهم.. الستة الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ اجتمعوا في بيت عائشة رضي الله عنها.. عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيدالله، الزبير بن العوام، عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.. وأعلن (طلحة) منذ البداية: "جعلت أمري إلى عثمان"؛ ليكون أول من بايع (عثمان) بالخلافة بعد استشهاد عمر رضي الله عنهم أجمعين..
********

اشتد الحصار على دار (عثمان بن عفان)، وكان رضي الله عنه مصرًا على ألا تراق دماء المسلمين دفاعًا عنه، هاجم المتمردون دار (عثمان بن عفان) وقُتل رضي الله عنه والمصحف بين يديه، وقد خضبت دماؤه مصحفه الذي بين يديه وسقطت الدماء على قوله تعالى: "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" (البقرة:137)
********

أربعة أشهر مرت على مقتل (عثمان) رضي الله عنه، ولم يقتص لأمير المؤمنين.. فخرج (طلحة) و(الزبير) إلى مكة ليلتقيا بأم المؤمنين (عائشة) في طريق عودتها من الحج، واتفقوا على الخروج للبصرة ليستعينوا بمن فيها للقبض على قتلة عثمان، إلا أن رؤوس الفتنة كانت أسرع وأضرمت نار الحرب بين الفريقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
********

انطلق سهم غرب لا يعرف من رماه ليستقر في جسد (طلحة) وينزف دمه بغزارة، فيترك ساحة القتال يوم الجمل في بداية القتال ويدخل دارًا في البصرة ليعالج فيها، ثم يموت فيها شهيدًا، كما أخبره صاحبه صلى الله عليه وسلم: "وطلحة في الجنة"(5).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سير أعلام النبلاء، الجزء السادس والعشرون، ص111:115.
(2) صحيح البخاري 1/407.
(3) سير أعلام النبلاء- الجزء الأول.
(4) الخلافة الإسلامية، 187.
(5) صححه الألباني.
‏١٩‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:١٣ م‏
مقدمة الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد* ترجمة: مركز حازم للدراسات hazeminstitute.com "إنها مباراة ذكاء وإرادة. لابد أن نتعلمها ونتكيف معها باستمرار كي نبقى على قيد الحياة" الجنرال بيتر شوميكر، الولايات المتحدة، 2004. [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] تمتلك القوات المسلحة في الولايات المتحدة تفوقاً تقليدياً ساحقاً. وقد دفعت هذه القدرة أعداء أميركا إلى محاربة قوات الولايات المتحدة بأساليب غير تقليدية، تُخلط فيها التقنية الحديثة بالأساليب القديمة للتمرد والإرهاب. ومن الواضح أن معظم القوى المعادية للولايات المتحدة لا تحاول هزيمتها عبر العمليات التقليدية، كما لا تقيد نفسها بدحرها عبر الوسائل العسكرية. وتعلم هذه القوى أنه ليس في استطاعتها التنافس في الميدان العسكري مع القوات المسلحة للولايات المتحدة وفق هذا المنوال. وبدلاً من ذلك، تحاول إنهاك الإرادة القومية للأمة، وتسعى للفوز عبر تقويض الدعم الوطني للولايات المتحدة، والتفوق عليه بالقدرة على الصمود. وإن هزيمة مثل هؤلاء الأعداء تمثل تحدياً ضخماً لوحدات الجيش وقوات مشاة البحرية الأمريكية، وتتطلب مواجهته بذل جهود إبداعية بواسطة كل جندي وعنصر مارينز. وطوال تاريخ القوات المسلحة الأمريكية كان عليها أن تعيد تعلم مبادئ مكافحة التمرد (COIN) بينما تدير العمليات ضد الأعداء من المتمردين القادرين على التكيف. ولقد حان الوقت لكي يجري تنظيم وتأطير معرفة الجيش الأمريكي ومشاة البحرية بهذا النوع من الصراع المستديم. وإن الغرض من هذا الدليل يتمثل في المساعدة على تهيئة قادة الجيش ومشاة البحرية لإدارة عمليات مكافحة التمرد في أي بقعة من العالم. كما يقدم الدليل مبادئ أساسية تحتاج للدراسة قبل انتشار القوات على مسرح العمليات. وربما يكون الأكثر أهمية، أنه يقدم أساليب تقنية مستحدثة مضاف إليها الدروس المستفادة المستخلصة من وجود قواتنا في الميدان وقيامها بالعمليات، وهو مطلب جوهري للنجاح في مقابل أعداء اليوم القادرين على التكيف. وباستخدام هذه التقنيات والأساليب يمكن أن تبقى القوات الأمريكية أكثر خفة وحركة وتكيفاً من أعدائها غير النظاميين. كما أن معرفة تاريخ ومبادئ التمرد وكيفية مكافحته، توفر أساساً متيناً يستطيع القادة المطلعون استخدامه لتقييم التمردات. ويمكن أيضاً لهذه المعرفة أن تساعدهم على اتخاذ القرارات الصائبة عبر توظيف جميع أدوات القوة الوطنية لمواجهة هذه التهديدات. وتختلف التمردات عن بعضها البعض، ومع ذلك توجد أمور تشكل أساس العوامل المحرضة للمتمردين عبر التاريخ. فمعظم التمردات تتبع مساراً متشابهاً في تطورها. كما أن التكتيكات المستخدمة لهزيمتها هي أيضاً متماثلة في معظم الحالات. وعلى نحو مماثل، يظهر التاريخ أن بعض التكتيكات التي تكون في الغالب ناجحة ضد الأعداء التقليديين قد لا تنجح ضد قوى متمردة أخرى. وهناك سمة مشتركة في عمليات التمرد، وهي أن الحكومة المستهدفة من قوى التمرد تأخذ بشكل عام فترة من الوقت لكي تدرك أن هناك تمرداً يقع ضدها. ويستفيد المتمردون من هذا الوقت لبناء القوة وجمع الدعم. وهكذا، فغالباً ما يتعين على قوات مكافحة التمرد أن "تأتي من الخلف" عندما تقاتل أحد التمردات. والسمة العامة الأخرى هي أن القوات التي تخوض عمليات مكافحة التمرد عادة ما تبدأ أعمالها بشكل ضعيف. كما أن جيوش العالم الغربي غالباً ما تهمل دراسة التمرد. وتتمسك بالاعتقاد الزائف بأن الجيوش المدربة على الفوز في الحروب التقليدية الضخمة ستكون جاهزة تلقائياً للفوز في الحروب الصغرى وغير التقليدية. وفي الواقع، فإن بعض القدرات المطلوبة من أجل النجاح التقليدي- مثل: القدرة على تنفيذ مناورة تعبوية واستخدام قوة نيران ضخمة- قد تكون ذات نفع محدود أو حتى معوقة في عمليات مكافحة التمرد. ورغم ذلك، فإن القوات التقليدية التي تبدأ عمليات مكافحة التمرد كثيراً ما تحاول استخدام هذه الإمكانيات لهزيمة المتمردين، ويمكن القول بأنها دائماً ما تفشل. إن القوات المسلحة التي تهزم حركات التمرد بنجاح هي في الغالب تلك القوات التي تستطيع التغلب على النزعة المؤسسية لشن حرب تقليدية ضد المتمردين. فهي تتعلم كيف تكافح التمرد وتطبق تلك المعرفة. ويمكن أن يساعد هذا الدليل في الضغط بهذا الاتجاه للتعلم. فهو أداة للمخططين والمدربين والقادة الميدانيين. ويساعد استخدامه القادة على بدء عملية التعلم بشكل أسرع، وبنائها على قاعدة معرفية واسعة. كما يؤدي التعلم الذي يجري قبل انتشار الوحدة العسكرية إلى فقد أرواح أقل، ويقلل أيضاً من إهدار الثروة القومية في إعادة تعلم الدروس السابقة أثناء القتال. وفي عمليات مكافحة التمرد، نرى بأن الجانب الذي يتعلم أسرع ويتأقلم بسرعة أكبر- التنظيم الأفضل تعلماً- عادة ما يفوز. لذا أطلقت تسمية (مسابقات التعلم) على عمليات مكافحة التمرد. ومن ثم يعرف هذا الدليل "التعلم والتكيف" كأمر أساسي في عمليات مكافحة التمرد الحديثة التي تواجه القوات الأمريكية. ولكن لا يستطيع الجنود ومشاة البحرية الانتظار حتى يُنذَروا بالانتشار للاستعداد لمهمة مكافحة تمرد معين. فتعلم إدارة عمليات مكافحة التمرد المعقدة أمر يبدأ بالدراسة مقدماً. ويُعد هذا الإصدار ميداناً جيداً للبدء. كما تبين قائمة المراجع والمصادر المذيلة عدداً آخر من المصادر. وهذه عينة فقط للمقدار الضخم من المعلومات المتاحة حول هذا الموضوع. وينبغي ملاحظة أن التكيف والمرونة لا يحدثان إلا عند تطبيق الجنود ومشاة البحرية لما تعلموه خلال الدراسة والخبرة، وعبر تقييم نتائج أعمالهم، واستمرارهم في التعلم أثناء العمليات. وكما في تعلم التنظيم، يحث الجيش ومشاة البحرية الجنود على الانتباه إلى المواقف المتغيرة بشكل سريع والتي تميز عمليات مكافحة التمرد. وفي بعض الأحيان، لا تحقق التكتيكات والأساليب والإجراءات المستخدمة النتائج المطلوبة. وعند حدوث ذلك، ينهمك القادة الناجحون في بحث موجه عن طرق أفضل لهزيمة العدو. وللفوز، يجب على الجيش ومشاة البحرية إيجاد إجماع مؤسسي على عقيدة جديدة بكل سرعة، ونشرها، ومراقبة تأثيرها على إنجاز المهمة بعناية. ويجب مواصلة تكرار دورة التعلم هذه بما أن قوات مكافحة التمرد الأمريكية تسعى إلى التعلم بشكل أسرع من العدو المتمرد. فالجانب الذي يتعلم أسرع ويتأقلم بسرعة أكبر هو الذي يفوز. ومثلما توجد أسس تاريخية تشكل الأساس للنجاح في مكافحة التمرد، فتوجد سمات تنظيمية تتشارك فيها أغلب الهيئات التعليمية الناجحة. وقامت الوحدات العسكرية التي تعلمت مكافحة التمرد بفاعلية بشكل عام بالتالي: • طورت عقيدة لمكافحة التمرد، ومارستها بشكل محلي. • أسست مراكز تدريب محلية أثناء عمليات مكافحة التمرد. • حدثت افتراضاتها بانتظام، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي. • تعلمت ما يتعلق بالعالم الأوسع خارج نطاق القوات المسلحة، وطلبت مساعدة خارجية لتفهم الأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية الأجنبية والأوضاع الأخرى فيما وراء نطاق خبراتهم. • طورت المقترحات التي وصلت إليها مباشرة من ميدان القتال. • شجعت تبادل الآراء و المعلومات بشكل منفتح بين الضباط الأعلى ومرؤوسيهم. • أقامت طرق سريعة لنشر الدروس المستفادة. • نسقت بشكل وثيق مع الشركاء الحكوميين وغير الحكوميين على جميع مستويات القيادة. • أثبتت انفتاحها على تلمس وتقييم النصائح المقدمة من السكان المحليين في منطقة الصراع. هذه الممارسات ليس من السهل على أي هيئة إقامتها. فتبنيها يمثل تحدياً بشكل خاص للقوات المنهمكة في القتال. ولكن هذه السمات ضرورية لأي قوات مسلحة تجابه عدو لا يقاتل باستخدام تكتيكات القتال التقليدية، وتريد أن تكيف نفسها على شن حرب غير نظامية. وإن في استطاعة الهيئات المتعلمة أن تهزم التمردات، ولكن المنظمات البيروقراطية لا تستطيع. وإن تعزيز التعلم وتطويره هو مسؤولية أساسية للقادة على جميع المستويات. وقد أنشأت القوات المسلحة الأمريكية (منظومات دروس مستفادة) ممتازة تسمح بجمع المعلومات من داخل الميدان، وسرعة نشرها. ولكن هذه النظم تعمل فقط عندما يعضد القادة استخدامها بالتوازي مع توفيرهم لمناخ قيادي يشجع التعلم من أسفل لأعلى. وغالباً ما ينشر صغار القادة في الميدان الدروس المستفادة المبنية على خبراتهم بشكل غير رسمي. ولكن دمج هذه المعلومات داخل الدروس المستفادة المؤسسية ثم في العقيدة العسكرية يتطلب من القادة تشجيع المرؤوسين على استخدام الدروس المكتسبة بشكل مؤسسي. وبشكل ساخر، تتحدى طبيعة مكافحة التمرد منظومات الدروس المكتسبة التقليدية، فالعديد من الأوجه غير العسكرية لمكافحة التمرد لا تساعد نفسها على التعلم التكتيكي السريع. وكما يشرح هذا الإصدار، فإن أداء الواجبات الكثيرة غير العسكرية في مكافحة التمرد يتطلب معرفة العديد من المواضيع المتنوعة والمعقدة، والتي تشمل الإدارة الحكومية، والتنمية الاقتصادية، والإدارة العامة، وتطبيق القانون. ويستطيع القادة الذين لديهم معرفة عميقة بهذه الموضوعات مساعدة مرؤوسيهم على تفهم بيئات التحدي غير المألوف، والتكيف بمزيد من السرعة مع تغير المواقف. وإن قراءة هذا الدليل تمثل وقفة أولى لتنمية هذه المعرفة. وغالبًا ما تكون حملات مكافحة التمرد طويلة وصعبة. وقد يكون التقدم والنجاح صعب القياس، وربما يبدو أن العدو يمتلك مزايا كثيرة. فالمتمردون الأكفاء يتكيفون سريعاً مع الظروف المتغيرة، إذ يستخدمون بمهارة أدوات الثورة المعلوماتية العالمية لتعظيم تأثير أعمالهم. وفي أغلب الأحيان يقومون بأعمال بربرية، ولا يحترمون معايير السلوك المقبولة. ولكن بالتركيز على جهود تحقيق الأمن ودعم السكان المحليين، ومن خلال تناغم الجهد للعمل بحق كهيئة تعليمية، يستطيع الجيش ومشاة البحرية هزيمة أعدائهم من المتمردين. ــــــــــــــــــــــــ * Army Field Manual 3-24: Counterinsurgency, Dec 2006.
مقدمة الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد*

ترجمة: مركز حازم للدراسات

hazeminstitute.com



"إنها مباراة ذكاء وإرادة. لابد أن نتعلمها ونتكيف معها باستمرار كي نبقى على قيد الحياة"

الجنرال بيتر شوميكر، الولايات المتحدة، 2004.

[حمل العدد الجديد
http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

تمتلك القوات المسلحة في الولايات المتحدة تفوقاً تقليدياً ساحقاً. وقد دفعت هذه القدرة أعداء أميركا إلى محاربة قوات الولايات المتحدة بأساليب غير تقليدية، تُخلط فيها التقنية الحديثة بالأساليب القديمة للتمرد والإرهاب. ومن الواضح أن معظم القوى المعادية للولايات المتحدة لا تحاول هزيمتها عبر العمليات التقليدية، كما لا تقيد نفسها بدحرها عبر الوسائل العسكرية. وتعلم هذه القوى أنه ليس في استطاعتها التنافس في الميدان العسكري مع القوات المسلحة للولايات المتحدة وفق هذا المنوال. وبدلاً من ذلك، تحاول إنهاك الإرادة القومية للأمة، وتسعى للفوز عبر تقويض الدعم الوطني للولايات المتحدة، والتفوق عليه بالقدرة على الصمود. وإن هزيمة مثل هؤلاء الأعداء تمثل تحدياً ضخماً لوحدات الجيش وقوات مشاة البحرية الأمريكية، وتتطلب مواجهته بذل جهود إبداعية بواسطة كل جندي وعنصر مارينز.

وطوال تاريخ القوات المسلحة الأمريكية كان عليها أن تعيد تعلم مبادئ مكافحة التمرد (COIN) بينما تدير العمليات ضد الأعداء من المتمردين القادرين على التكيف. ولقد حان الوقت لكي يجري تنظيم وتأطير معرفة الجيش الأمريكي ومشاة البحرية بهذا النوع من الصراع المستديم.

وإن الغرض من هذا الدليل يتمثل في المساعدة على تهيئة قادة الجيش ومشاة البحرية لإدارة عمليات مكافحة التمرد في أي بقعة من العالم. كما يقدم الدليل مبادئ أساسية تحتاج للدراسة قبل انتشار القوات على مسرح العمليات. وربما يكون الأكثر أهمية، أنه يقدم أساليب تقنية مستحدثة مضاف إليها الدروس المستفادة المستخلصة من وجود قواتنا في الميدان وقيامها بالعمليات، وهو مطلب جوهري للنجاح في مقابل أعداء اليوم القادرين على التكيف. وباستخدام هذه التقنيات والأساليب يمكن أن تبقى القوات الأمريكية أكثر خفة وحركة وتكيفاً من أعدائها غير النظاميين. كما أن معرفة تاريخ ومبادئ التمرد وكيفية مكافحته، توفر أساساً متيناً يستطيع القادة المطلعون استخدامه لتقييم التمردات. ويمكن أيضاً لهذه المعرفة أن تساعدهم على اتخاذ القرارات الصائبة عبر توظيف جميع أدوات القوة الوطنية لمواجهة هذه التهديدات.

وتختلف التمردات عن بعضها البعض، ومع ذلك توجد أمور تشكل أساس العوامل المحرضة للمتمردين عبر التاريخ. فمعظم التمردات تتبع مساراً متشابهاً في تطورها. كما أن التكتيكات المستخدمة لهزيمتها هي أيضاً متماثلة في معظم الحالات. وعلى نحو مماثل، يظهر التاريخ أن بعض التكتيكات التي تكون في الغالب ناجحة ضد الأعداء التقليديين قد لا تنجح ضد قوى متمردة أخرى.

وهناك سمة مشتركة في عمليات التمرد، وهي أن الحكومة المستهدفة من قوى التمرد تأخذ بشكل عام فترة من الوقت لكي تدرك أن هناك تمرداً يقع ضدها.

ويستفيد المتمردون من هذا الوقت لبناء القوة وجمع الدعم. وهكذا، فغالباً ما يتعين على قوات مكافحة التمرد أن "تأتي من الخلف" عندما تقاتل أحد التمردات. والسمة العامة الأخرى هي أن القوات التي تخوض عمليات مكافحة التمرد عادة ما تبدأ أعمالها بشكل ضعيف. كما أن جيوش العالم الغربي غالباً ما تهمل دراسة التمرد.

وتتمسك بالاعتقاد الزائف بأن الجيوش المدربة على الفوز في الحروب التقليدية الضخمة ستكون جاهزة تلقائياً للفوز في الحروب الصغرى وغير التقليدية.

وفي الواقع، فإن بعض القدرات المطلوبة من أجل النجاح التقليدي- مثل: القدرة على تنفيذ مناورة تعبوية واستخدام قوة نيران ضخمة- قد تكون ذات نفع محدود أو حتى معوقة في عمليات مكافحة التمرد. ورغم ذلك، فإن القوات التقليدية التي تبدأ عمليات مكافحة التمرد كثيراً ما تحاول استخدام هذه الإمكانيات لهزيمة المتمردين، ويمكن القول بأنها دائماً ما تفشل.

إن القوات المسلحة التي تهزم حركات التمرد بنجاح هي في الغالب تلك القوات التي تستطيع التغلب على النزعة المؤسسية لشن حرب تقليدية ضد المتمردين. فهي تتعلم كيف تكافح التمرد وتطبق تلك المعرفة. ويمكن أن يساعد هذا الدليل في الضغط بهذا الاتجاه للتعلم. فهو أداة للمخططين والمدربين والقادة الميدانيين. ويساعد استخدامه القادة على بدء عملية التعلم بشكل أسرع، وبنائها على قاعدة معرفية واسعة. كما يؤدي التعلم الذي يجري قبل انتشار الوحدة العسكرية إلى فقد أرواح أقل، ويقلل أيضاً من إهدار الثروة القومية في إعادة تعلم الدروس السابقة أثناء القتال.

وفي عمليات مكافحة التمرد، نرى بأن الجانب الذي يتعلم أسرع ويتأقلم بسرعة أكبر- التنظيم الأفضل تعلماً- عادة ما يفوز. لذا أطلقت تسمية (مسابقات التعلم) على عمليات مكافحة التمرد. ومن ثم يعرف هذا الدليل "التعلم والتكيف" كأمر أساسي في عمليات مكافحة التمرد الحديثة التي تواجه القوات الأمريكية. ولكن لا يستطيع الجنود ومشاة البحرية الانتظار حتى يُنذَروا بالانتشار للاستعداد لمهمة مكافحة تمرد معين. فتعلم إدارة عمليات مكافحة التمرد المعقدة أمر يبدأ بالدراسة مقدماً. ويُعد هذا الإصدار ميداناً جيداً للبدء. كما تبين قائمة المراجع والمصادر المذيلة عدداً آخر من المصادر. وهذه عينة فقط للمقدار الضخم من المعلومات المتاحة حول هذا الموضوع. وينبغي ملاحظة أن التكيف والمرونة لا يحدثان إلا عند تطبيق الجنود ومشاة البحرية لما تعلموه خلال الدراسة والخبرة، وعبر تقييم نتائج أعمالهم، واستمرارهم في التعلم أثناء العمليات.

وكما في تعلم التنظيم، يحث الجيش ومشاة البحرية الجنود على الانتباه إلى المواقف المتغيرة بشكل سريع والتي تميز عمليات مكافحة التمرد. وفي بعض الأحيان، لا تحقق التكتيكات والأساليب والإجراءات المستخدمة النتائج المطلوبة. وعند حدوث ذلك، ينهمك القادة الناجحون في بحث موجه عن طرق أفضل لهزيمة العدو.

وللفوز، يجب على الجيش ومشاة البحرية إيجاد إجماع مؤسسي على عقيدة جديدة بكل سرعة، ونشرها، ومراقبة تأثيرها على إنجاز المهمة بعناية. ويجب مواصلة تكرار دورة التعلم هذه بما أن قوات مكافحة التمرد الأمريكية تسعى إلى التعلم بشكل أسرع من العدو المتمرد. فالجانب الذي يتعلم أسرع ويتأقلم بسرعة أكبر هو الذي يفوز.

ومثلما توجد أسس تاريخية تشكل الأساس للنجاح في مكافحة التمرد، فتوجد سمات تنظيمية تتشارك فيها أغلب الهيئات التعليمية الناجحة. وقامت الوحدات العسكرية التي تعلمت مكافحة التمرد بفاعلية بشكل عام بالتالي:

• طورت عقيدة لمكافحة التمرد، ومارستها بشكل محلي.
• أسست مراكز تدريب محلية أثناء عمليات مكافحة التمرد.
• حدثت افتراضاتها بانتظام، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي.
• تعلمت ما يتعلق بالعالم الأوسع خارج نطاق القوات المسلحة، وطلبت مساعدة خارجية لتفهم الأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية الأجنبية والأوضاع الأخرى فيما وراء نطاق خبراتهم.
• طورت المقترحات التي وصلت إليها مباشرة من ميدان القتال.
• شجعت تبادل الآراء و المعلومات بشكل منفتح بين الضباط الأعلى ومرؤوسيهم.
• أقامت طرق سريعة لنشر الدروس المستفادة.
• نسقت بشكل وثيق مع الشركاء الحكوميين وغير الحكوميين على جميع مستويات القيادة.
• أثبتت انفتاحها على تلمس وتقييم النصائح المقدمة من السكان المحليين في منطقة الصراع.

هذه الممارسات ليس من السهل على أي هيئة إقامتها. فتبنيها يمثل تحدياً بشكل خاص للقوات المنهمكة في القتال. ولكن هذه السمات ضرورية لأي قوات مسلحة تجابه عدو لا يقاتل باستخدام تكتيكات القتال التقليدية، وتريد أن تكيف نفسها على شن حرب غير نظامية. وإن في استطاعة الهيئات المتعلمة أن تهزم التمردات، ولكن المنظمات البيروقراطية لا تستطيع.

وإن تعزيز التعلم وتطويره هو مسؤولية أساسية للقادة على جميع المستويات. وقد أنشأت القوات المسلحة الأمريكية (منظومات دروس مستفادة) ممتازة تسمح بجمع المعلومات من داخل الميدان، وسرعة نشرها. ولكن هذه النظم تعمل فقط عندما يعضد القادة استخدامها بالتوازي مع توفيرهم لمناخ قيادي يشجع التعلم من أسفل لأعلى. وغالباً ما ينشر صغار القادة في الميدان الدروس المستفادة المبنية على خبراتهم بشكل غير رسمي. ولكن دمج هذه المعلومات داخل الدروس المستفادة المؤسسية ثم في العقيدة العسكرية يتطلب من القادة تشجيع المرؤوسين على استخدام الدروس المكتسبة بشكل مؤسسي.

وبشكل ساخر، تتحدى طبيعة مكافحة التمرد منظومات الدروس المكتسبة التقليدية، فالعديد من الأوجه غير العسكرية لمكافحة التمرد لا تساعد نفسها على التعلم التكتيكي السريع. وكما يشرح هذا الإصدار، فإن أداء الواجبات الكثيرة غير العسكرية في مكافحة التمرد يتطلب معرفة العديد من المواضيع المتنوعة والمعقدة، والتي تشمل الإدارة الحكومية، والتنمية الاقتصادية، والإدارة العامة، وتطبيق القانون. ويستطيع القادة الذين لديهم معرفة عميقة بهذه الموضوعات مساعدة مرؤوسيهم على تفهم بيئات التحدي غير المألوف، والتكيف بمزيد من السرعة مع تغير المواقف. وإن قراءة هذا الدليل تمثل وقفة أولى لتنمية هذه المعرفة.

وغالبًا ما تكون حملات مكافحة التمرد طويلة وصعبة. وقد يكون التقدم والنجاح صعب القياس، وربما يبدو أن العدو يمتلك مزايا كثيرة. فالمتمردون الأكفاء يتكيفون سريعاً مع الظروف المتغيرة، إذ يستخدمون بمهارة أدوات الثورة المعلوماتية العالمية لتعظيم تأثير أعمالهم. وفي أغلب الأحيان يقومون بأعمال بربرية، ولا يحترمون معايير السلوك المقبولة. ولكن بالتركيز على جهود تحقيق الأمن ودعم السكان المحليين، ومن خلال تناغم الجهد للعمل بحق كهيئة تعليمية، يستطيع الجيش ومشاة البحرية هزيمة أعدائهم من المتمردين.

ــــــــــــــــــــــــ
* Army Field Manual 3-24: Counterinsurgency, Dec 2006.
‏١٧‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:٢٧ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (6) سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] ولم تنتهِ الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة. هذه المرة لم أكن وحدي، بل كنت مصحوباً بمخبر، ولما دخلت إلى المحقق، سألني: - ماذا تقصد بأن جمال عبد الناصر كان صنماً؟ ومن قال لك هذا التعبير؟ - لم يخبرني أحد، أنا أرى كل الناس تمدح عبد الناصر ولهذا أستشعر أنه صنم، وأنا عضو في منظمة الشباب الاشتراكي، ومسؤول تثقيف مركز ادفو. - "يخرب بيتك، يخرب بيتك ما احنا عارفين" - فقط أسمع المديح المديح المديح لعبد الناصر، لا يوجد أي شخص يقول شيئاً آخر.. ألا يخطئ عبد الناصر أبداً؟ بالتأكيد لقد أخطأ يوماً - أخطأ في ماذا مثلاً؟ - لا أدري.. أنا لا زلت صغيراً ولا أستطيع أن أعرف فيما أخطأ، لكنه أخطأ بالتأكيد! - أنت يا رفاعي شاب متميز، وتفكر، وتسأل، وأنا واثق أنه لم يخبرك أحد شيئاً سيئاً عن عبد الناصر، ومن الحسن أن تسأل مثل هذا السؤال. - فما تريدون مني الآن؟ - لا نريد منك شيئاً، فقط نريدك أن تحافظ على نفسك، أنت شاب جيد، ونحن نحب من هم مثلك من الشباب، وأنا قرأت ملفك، وعرفتُ أن زميلي قد أوصى بك، وترك لك رقم هاتفه.. وها هو أيضاً رقم هاتفي، كلمني إن احتجت إلى أي شيء، فأنت أخونا الصغير... إلخ! كان أهم ما يريدون معرفته هو "ماذا تقصد"؟ و"من قال لك هذا"، ولما تبينوا أنه ليس ثمة أحد يلقنني هذا الكلام استهانوا بالأمر. إلا أن هذه المقابلة أذهبت من نفسي الرهبة منهم، فمن بعد ما كنتُ خائفاً ارتحت واطمأننت، لقد تصورت أني سأدخل كهف العذاب الجهنمي من رؤيتي لوجه النظر وفزع الأستاذ عيد، رغم أني لما تحدثت مع المحقق كنت أتحدث بثقة أفضل مما توقعت. إلا أن أهم ما خرجت به من تلك المقابلة أن النظام في مصر صار يتسامح مع مثل ما أقول، أو حتى: يرحب بأن تنتشر هذه المقولات التي تخدم استراتيجية السادات، وقد تبناها فعلاً فيما بعد. أما في البيت فهيمن على أجوائه خوف أشد من خوف المرة الأولى. إن أبي –رحمه الله- رجل أميّ بسيط، يقرأ ويكتب بصعوبة، وأمي من جهتها أمّية، وهما كما هو حال الشعب المصري تلك الفترة يخافون جداً من التعرض لكل ما هو من شأن السلطة والدولة، كان أبي يقول لي: إن لم تكن تخشى على نفسك فاخشَ عليَّ، إني أريد أن أُرَبِّي إخوتك كما ربيتُك! كان كلامه يعكس الخوف الشديد، إلا أنني لم أكن أتأثر بهذا إطلاقاً، كان يملك عليّ نفسي أني على الحق وعلى الطريق الصحيح، وحيث إن الأمر كذلك فلا اعتبار لكل ما ألقى في سبيله، سواء في ذلك التهديدات أو الرجاءات! وأبعد من ذلك أني في هذه المرحلة لم أكن أشرك أحداً في تفكيري إطلاقاً، نعم.. أتحدث مع الأستاذ عيد الرافعي، وفي مرحلة لاحقة دخل على الخط أستاذ آخر اسمه سيد وكان يدرسنا اللغة العربية وكان صوفياً، وكذلك أستاذ آخر هو جمعة أبو زلازل.. كل هؤلاء كانوا يجلسون ويتحدثون معي، وكنت أستفيد منهم علمياً وشرعياً، إلا أنني لا أطلعهم على أفكاري ولا أحكي لهم مقصد جميعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنت أستشعر أن هذا عمل عظيم وأني أتفرد به، كنت أرى نفسي كمن يطوي جوانجه على السر الكبير الخطير، كأنما أنا زعيم الثورة المرتقب، مثلي مثل جمال عبد الناصر! لقد سيطرت عليَّ فكرة أنني سأصنع شيئاً، بل شعرت أحياناً أني قد أصبحت قريباً جداً من أكون رئيس مصر.. إنها خمر المراهقة التي تقرب الأحلام البعيدة من الأفق البعيد فتجعلها كأنها في متناول اليد وأنه ليس بيننا وبينها إلا هذه الخطوة.. وما تلك الخطوة؟ أني سأدخل الكلية العسكرية، ثم أنفذ انقلاباً.. وهكذا أصير رئيس مصر، أرأيت إلى المسألة كيف هي يسيرة؟! لا أتذكر أحداثاً أخرى مهمة في هذه السنة، الصف الثاني الثانوي، لكن هذه السنة شهدت إقبالي على المكتبة وكثرة القراءة فيها، وكان الأستاذ عبده قد دخل إلى عالمي.. وكان صوفياً! قبل ذلك بعام، كان خط آخر قد بدأ في حياتي.. ذلك هو خط الصوفية.. لقد كان أساتذة المدرسة متصوفة، لكنهم لم يكونوا ينتمون إلى طريقة بعينها، أما أنا ففي الصف الأول الثانوي التحقت بالطريقة الأحمدية النقشبندية.. وقصة ذلك أن لدينا جاراً يعمل في مصنع ادفو للسكر، اسمه محمد، وكان يراني شاباً متديناً أغدو إلى المسجد وأروح، فدعاني ذات يوم للذهاب معه إلى الزاوية، لم أمانع، ومن ساعتها كثر ترددي إلى هذه الزاوية. عرفت هناك أن طريقتهم هي الأحمدية النقشبندية، أو لعلها الأحمدية الشاذلية، لقد نسيت وتطاول العهد بهذا، وعلى كل حال دعاني جارنا هذا إلى الانضمام للطريقة على أن أكون "مريداً ثانياً"، لقد كان لديهم مراتب ودرجات، وكان المريد الأكبر عندهم شيخ اسمه الزرقاني. لم يكن عندهم علم بالشرع، وتصدق فيهم الانتقادات التي توجه للصوفية، كنا في تلك الزاوية نحفظ أحاديث بسيطة جداً، وكذلك في حفظ القرآن، ولقد رأيتني أحفظ أكثر منهم، فلربما كانوا يحفظون في جزء عم، بينما أنا في الجزء الخامس، وفي تلك الفترة كنت قد وصلت في حفظ القرآن إلى سورة الإسراء إلا أني نسيته لأني لم أكن أداوم على المراجعة، إلا أن هذا لم يخفض قدري بين أقراني أيضاً إذ كنت أحسن منهم حفظاً وكذلك استحضارا ًللآيات، فإذا فُتِح باب نقاش أو أردت فتح كلام فإن الآيات المتعلقة به تكون حاضرة في ذهني، والشاهد أنني كنت بين هؤلاء القوم من المنسبين لهذه الطريقة أحسنهم، فكنت أقرأ لهم القرآن، فإن غمض عليهم شيء شرحته وفسرته لهم، وما هو إلا أن بدأت في النقد والنقاش، أو قل: الجدال واللجاجة.. وهذا شيء لا تحبه الصوفية!! لا أتذكر الآن هل كنا نلتقي في تلك الزاوية كل أسبوع أو مرتين في الأسبوع الواحد، لكن الذي تنبغي الإشارة إليه هنا هو انتشار فكرة الحلول والاتحاد فيما بينهم.. لم يكونوا ينشرون هذه الفكرة من خلال الدروس، وإنما هي منتشرة في حكاياتهم. أذكرة مرة أنه قد حُكِيت أمامي أن رجلا قد سأل شيخه معترضاً على كيفية الخلق، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- يخلق بعض الخلق متشابهين مع كثرتهم وتعددهم، فقال الشيخ: تعالَ عندي اليوم بعد العصر لنشرب الشاي معاً. فحضر المريد في الموعد المضروب، فلما جلس بين يديه طرق الباب، فأمره الشيخ أن يفتح، فذهب ففتح فوجد نفس الشيخ أمامه، فصار يقلب بصره مندهشاً بين شيخ جالس في الدار وشبيهه الواقف على الباب، ثم ألجمته الدهشة حتى دخل الذي بالباب، وما إن جلس بين يدي الشيخ حتى طرق الباب مرة أخرى، فأمره أن يفتح، فذهب ففتح فتكررت القصة حتى دخل الدار أربعون رجلاً على نفس هيئة الشيخ الجالس في الدار. فهنا قال الشيخ لمريده صاحب السؤال: كنت قد سألتني سؤالاً في الحلقة وأنا أريد أن اجيبك عليه. فقال المريد له "لقد أجبت.. لقد أجبت.. لقد أجبت"، وهكذا أعطاه الشيخ درساً عملياً وأدبه تأديباً قوياً وعلمه ألا يسأل مثل هذه الأسئلة، فإن كان الشيخ الولي يستطيع أن يخلق أربعين نفساً على صورته فكيف بالله الواحد القهار!! ما إن سمعت هذه القصة حتى غضبت غضباً شديداً وانطلقت صائحاً: هذه القصة لا يمكن أن تكون صحيحة، هي بلا شك كذب! واندهش الشيخ من جرأتي وصاح بدوره: كيف تقول؟! هل تعني أنني كاذب؟ فقلت له وما زلت في غضبي: لا أدري هل أنت الكاذب أم غيرك، لعلك نقلتها من كتب ليست صحيحة، لكن اليقين أن هذه القصة كذب لا يمكن أن تصح. حتى ولو افترضنا أن هذا الشيخ قد استعمل قوة الجن وسخرهم لنفسه، فلن يمكن للجن أن يفعلوا هذا، تلك القصة في حكم المستحيل! كانت القصة في حكم المستحيل.. وكانت غضبتي هي الفراق بيني وبينهم! قررت ساعتها -وكنت في الصف الثالث الثانوي- ألا أذهب إليهم مرة أخرى. ومع هذا لم تنقطع علاقتي كلية بالصوفية، لقد كنت أعود في أسئلتي وفي مثل هذه الأمور إلى أساتذتي في المدرسة، لقد كانوا مع تصوفهم أكثر ثقافة ونضجاً من هؤلاء البسطاء، لا سيما الأستاذ عبده، لكم كان مثقفاً حقاً، وكان شديد التدين مشهوراً به في مركز إدفو، وكان له شيخ أكبر منه يعمل مفتشاً للغة العربية وقد بلغ سن المعاش، وكان هذا الشيخ أكثر تديناً منه وأشهر، ولقد كانت لي قصة معه لعلي أذكرها إن شاء الله.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (6)

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

ولم تنتهِ الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة. هذه المرة لم أكن وحدي، بل كنت مصحوباً بمخبر، ولما دخلت إلى المحقق، سألني:

- ماذا تقصد بأن جمال عبد الناصر كان صنماً؟ ومن قال لك هذا التعبير؟
- لم يخبرني أحد، أنا أرى كل الناس تمدح عبد الناصر ولهذا أستشعر أنه صنم، وأنا عضو في منظمة الشباب الاشتراكي، ومسؤول تثقيف مركز ادفو.
- "يخرب بيتك، يخرب بيتك ما احنا عارفين"
- فقط أسمع المديح المديح المديح لعبد الناصر، لا يوجد أي شخص يقول شيئاً آخر.. ألا يخطئ عبد الناصر أبداً؟ بالتأكيد لقد أخطأ يوماً
- أخطأ في ماذا مثلاً؟
- لا أدري.. أنا لا زلت صغيراً ولا أستطيع أن أعرف فيما أخطأ، لكنه أخطأ بالتأكيد!
- أنت يا رفاعي شاب متميز، وتفكر، وتسأل، وأنا واثق أنه لم يخبرك أحد شيئاً سيئاً عن عبد الناصر، ومن الحسن أن تسأل مثل هذا السؤال.
- فما تريدون مني الآن؟
- لا نريد منك شيئاً، فقط نريدك أن تحافظ على نفسك، أنت شاب جيد، ونحن نحب من هم مثلك من الشباب، وأنا قرأت ملفك، وعرفتُ أن زميلي قد أوصى بك، وترك لك رقم هاتفه.. وها هو أيضاً رقم هاتفي، كلمني إن احتجت إلى أي شيء، فأنت أخونا الصغير... إلخ!

كان أهم ما يريدون معرفته هو "ماذا تقصد"؟ و"من قال لك هذا"، ولما تبينوا أنه ليس ثمة أحد يلقنني هذا الكلام استهانوا بالأمر. إلا أن هذه المقابلة أذهبت من نفسي الرهبة منهم، فمن بعد ما كنتُ خائفاً ارتحت واطمأننت، لقد تصورت أني سأدخل كهف العذاب الجهنمي من رؤيتي لوجه النظر وفزع الأستاذ عيد، رغم أني لما تحدثت مع المحقق كنت أتحدث بثقة أفضل مما توقعت. إلا أن أهم ما خرجت به من تلك المقابلة أن النظام في مصر صار يتسامح مع مثل ما أقول، أو حتى: يرحب بأن تنتشر هذه المقولات التي تخدم استراتيجية السادات، وقد تبناها فعلاً فيما بعد.

أما في البيت فهيمن على أجوائه خوف أشد من خوف المرة الأولى. إن أبي –رحمه الله- رجل أميّ بسيط، يقرأ ويكتب بصعوبة، وأمي من جهتها أمّية، وهما كما هو حال الشعب المصري تلك الفترة يخافون جداً من التعرض لكل ما هو من شأن السلطة والدولة، كان أبي يقول لي: إن لم تكن تخشى على نفسك فاخشَ عليَّ، إني أريد أن أُرَبِّي إخوتك كما ربيتُك!

كان كلامه يعكس الخوف الشديد، إلا أنني لم أكن أتأثر بهذا إطلاقاً، كان يملك عليّ نفسي أني على الحق وعلى الطريق الصحيح، وحيث إن الأمر كذلك فلا اعتبار لكل ما ألقى في سبيله، سواء في ذلك التهديدات أو الرجاءات!

وأبعد من ذلك أني في هذه المرحلة لم أكن أشرك أحداً في تفكيري إطلاقاً، نعم.. أتحدث مع الأستاذ عيد الرافعي، وفي مرحلة لاحقة دخل على الخط أستاذ آخر اسمه سيد وكان يدرسنا اللغة العربية وكان صوفياً، وكذلك أستاذ آخر هو جمعة أبو زلازل.. كل هؤلاء كانوا يجلسون ويتحدثون معي، وكنت أستفيد منهم علمياً وشرعياً، إلا أنني لا أطلعهم على أفكاري ولا أحكي لهم مقصد جميعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنت أستشعر أن هذا عمل عظيم وأني أتفرد به، كنت أرى نفسي كمن يطوي جوانجه على السر الكبير الخطير، كأنما أنا زعيم الثورة المرتقب، مثلي مثل جمال عبد الناصر!

لقد سيطرت عليَّ فكرة أنني سأصنع شيئاً، بل شعرت أحياناً أني قد أصبحت قريباً جداً من أكون رئيس مصر.. إنها خمر المراهقة التي تقرب الأحلام البعيدة من الأفق البعيد فتجعلها كأنها في متناول اليد وأنه ليس بيننا وبينها إلا هذه الخطوة.. وما تلك الخطوة؟ أني سأدخل الكلية العسكرية، ثم أنفذ انقلاباً.. وهكذا أصير رئيس مصر، أرأيت إلى المسألة كيف هي يسيرة؟!

لا أتذكر أحداثاً أخرى مهمة في هذه السنة، الصف الثاني الثانوي، لكن هذه السنة شهدت إقبالي على المكتبة وكثرة القراءة فيها، وكان الأستاذ عبده قد دخل إلى عالمي.. وكان صوفياً!

قبل ذلك بعام، كان خط آخر قد بدأ في حياتي.. ذلك هو خط الصوفية..

لقد كان أساتذة المدرسة متصوفة، لكنهم لم يكونوا ينتمون إلى طريقة بعينها، أما أنا ففي الصف الأول الثانوي التحقت بالطريقة الأحمدية النقشبندية.. وقصة ذلك أن لدينا جاراً يعمل في مصنع ادفو للسكر، اسمه محمد، وكان يراني شاباً متديناً أغدو إلى المسجد وأروح، فدعاني ذات يوم للذهاب معه إلى الزاوية، لم أمانع، ومن ساعتها كثر ترددي إلى هذه الزاوية.

عرفت هناك أن طريقتهم هي الأحمدية النقشبندية، أو لعلها الأحمدية الشاذلية، لقد نسيت وتطاول العهد بهذا، وعلى كل حال دعاني جارنا هذا إلى الانضمام للطريقة على أن أكون "مريداً ثانياً"، لقد كان لديهم مراتب ودرجات، وكان المريد الأكبر عندهم شيخ اسمه الزرقاني.

لم يكن عندهم علم بالشرع، وتصدق فيهم الانتقادات التي توجه للصوفية، كنا في تلك الزاوية نحفظ أحاديث بسيطة جداً، وكذلك في حفظ القرآن، ولقد رأيتني أحفظ أكثر منهم، فلربما كانوا يحفظون في جزء عم، بينما أنا في الجزء الخامس، وفي تلك الفترة كنت قد وصلت في حفظ القرآن إلى سورة الإسراء إلا أني نسيته لأني لم أكن أداوم على المراجعة، إلا أن هذا لم يخفض قدري بين أقراني أيضاً إذ كنت أحسن منهم حفظاً وكذلك استحضارا ًللآيات، فإذا فُتِح باب نقاش أو أردت فتح كلام فإن الآيات المتعلقة به تكون حاضرة في ذهني، والشاهد أنني كنت بين هؤلاء القوم من المنسبين لهذه الطريقة أحسنهم، فكنت أقرأ لهم القرآن، فإن غمض عليهم شيء شرحته وفسرته لهم، وما هو إلا أن بدأت في النقد والنقاش، أو قل: الجدال واللجاجة.. وهذا شيء لا تحبه الصوفية!!

لا أتذكر الآن هل كنا نلتقي في تلك الزاوية كل أسبوع أو مرتين في الأسبوع الواحد، لكن الذي تنبغي الإشارة إليه هنا هو انتشار فكرة الحلول والاتحاد فيما بينهم.. لم يكونوا ينشرون هذه الفكرة من خلال الدروس، وإنما هي منتشرة في حكاياتهم.

أذكرة مرة أنه قد حُكِيت أمامي أن رجلا قد سأل شيخه معترضاً على كيفية الخلق، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- يخلق بعض الخلق متشابهين مع كثرتهم وتعددهم، فقال الشيخ: تعالَ عندي اليوم بعد العصر لنشرب الشاي معاً. فحضر المريد في الموعد المضروب، فلما جلس بين يديه طرق الباب، فأمره الشيخ أن يفتح، فذهب ففتح فوجد نفس الشيخ أمامه، فصار يقلب بصره مندهشاً بين شيخ جالس في الدار وشبيهه الواقف على الباب، ثم ألجمته الدهشة حتى دخل الذي بالباب، وما إن جلس بين يدي الشيخ حتى طرق الباب مرة أخرى، فأمره أن يفتح، فذهب ففتح فتكررت القصة حتى دخل الدار أربعون رجلاً على نفس هيئة الشيخ الجالس في الدار. فهنا قال الشيخ لمريده صاحب السؤال: كنت قد سألتني سؤالاً في الحلقة وأنا أريد أن اجيبك عليه. فقال المريد له "لقد أجبت.. لقد أجبت.. لقد أجبت"، وهكذا أعطاه الشيخ درساً عملياً وأدبه تأديباً قوياً وعلمه ألا يسأل مثل هذه الأسئلة، فإن كان الشيخ الولي يستطيع أن يخلق أربعين نفساً على صورته فكيف بالله الواحد القهار!!

ما إن سمعت هذه القصة حتى غضبت غضباً شديداً وانطلقت صائحاً: هذه القصة لا يمكن أن تكون صحيحة، هي بلا شك كذب!

واندهش الشيخ من جرأتي وصاح بدوره: كيف تقول؟! هل تعني أنني كاذب؟
فقلت له وما زلت في غضبي: لا أدري هل أنت الكاذب أم غيرك، لعلك نقلتها من كتب ليست صحيحة، لكن اليقين أن هذه القصة كذب لا يمكن أن تصح. حتى ولو افترضنا أن هذا الشيخ قد استعمل قوة الجن وسخرهم لنفسه، فلن يمكن للجن أن يفعلوا هذا، تلك القصة في حكم المستحيل!

كانت القصة في حكم المستحيل.. وكانت غضبتي هي الفراق بيني وبينهم! قررت ساعتها -وكنت في الصف الثالث الثانوي- ألا أذهب إليهم مرة أخرى.
ومع هذا لم تنقطع علاقتي كلية بالصوفية، لقد كنت أعود في أسئلتي وفي مثل هذه الأمور إلى أساتذتي في المدرسة، لقد كانوا مع تصوفهم أكثر ثقافة ونضجاً من هؤلاء البسطاء، لا سيما الأستاذ عبده، لكم كان مثقفاً حقاً، وكان شديد التدين مشهوراً به في مركز إدفو، وكان له شيخ أكبر منه يعمل مفتشاً للغة العربية وقد بلغ سن المعاش، وكان هذا الشيخ أكثر تديناً منه وأشهر، ولقد كانت لي قصة معه لعلي أذكرها إن شاء الله.
‏١٥‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:٣٤ م‏
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية (1) الصغير @[100001613664823:2048:منير] [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] لا يمكن أن تُحاكم ثورة أو حركة سياسية أو عسكرية إلى غير أهدافها المعلنة التي سطرها مؤسسوها، ولا يمكن أن تُحاكم ثورة أو حركة بمعايير عصر وسياقات تاريخية غير عصرها وسياقاتها التاريخية، وليس منهجاً صحيحاً أن يُطلب الكمال والنقاء والطهارة في الثورات والحركات السياسية خاصّة، لأنّ هذا لم يقع من قبل في التاريخ، أيّ تاريخ، ما عدا عصر النبوّة المشرق وسنوات من عصر الخلافة الراشدة، وحتى أثناء هاتين الفترتين كان البشر يخطؤون ويظلمون وينزلون عن المثل الأعلى ويسقطون فيما تلجئهم إليه طبيعتهم البشرية الغالبة. وليس هذا تبريراً للخطأ والظلم والانحراف ولكنه توصيف لواقع تنقله الروايات بالأسانيد الثابتة في السنّة والسيرة والتاريخ. أمّا بعد ذلك في عصر بني أمية وما تلاه من تاريخ الأمّة المسلمة بكل شعوبها وتنوعها وتحدياتها في صراعها مع أعدائها أو في سعيها لتمكين نموذجها الحضاري والسياسي الخاصّ بها، فقد كان الأمر أكثر وضوحاً وبروزاً، ولم يكتمه المؤرخون ولا يستطيعون ولو أرادوا، ولم يعدّه الفقهاء والعلماء سبباً يجيز لهم الدعوة إلى الانفضاض على الجهاد، أو الإصلاح السياسي، أو عدم الالتفاف حول القادة والمصلحين، أو حجّة للتخذيل والإرجاف وترك جهاد العدوّ الكافر المحتلّ الغازي، أو اعتزال الشأن العامّ وترك المفسدين يعيثون في الأرض بحجة انتشار الفساد وفشوّه. وقد حفلت كتب التاريخ والتراجم والسير بآلاف القصص والمواقف والفتاوى والأحداث التاريخية التي ترسّخ هذا المعنى وتبيّن كيف تعامل معه العلماء الربانيون والمصلحون والمجاهدون وعموم الأمة. إنّ القاعدة الكبرى في هذا الشأن أن الأمة فيها السابقون بالخيرات والمقتصدون والظالمون لأنفسهم، وفيها – وهم الغالب الأعمّ – الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، وفيها المطيعون والعصاة، والمجاهدون والقاعدون، ومرضى القلوب والمرجفون والمنافقون، وفيها ومن خيارها أحياناً مَن يريد عرَض الحياة الدنيا، والسمّاعون للمنافقين والمشيعون للفاحشة والذين يلمزون المطّوعين في الجهاد والعلم والصدقات وغيرها. لقد كانت هذه النماذج كلها في أطهر مجتمع عرفته البشرية، وتحدّث القرآن عنها وشرّحها حتى لم تخفَ منها خافية، وذكرت السيرة من أخبارهم ما أكثره مشتهر مستفيض. فليس من العدل إذن ولا من الواقعية إسقاط ثورة أو حركة بحجة وجود مثل هذه النماذج فيها قلّت أو كثرت، بل المنهج الحقّ هو النصح والترشيد والتقويم المستمرّ والإصلاح الذي لا ينقطع من داخل هذه الثورات والحركات أو من خارجها، وتقديم أكثرها أستقامة وأقربها من الحق الخالص ومدّ اليد إلى الضعيف منها لاستنقاذه والإنقاذ به ومعه، ومع ذلك كلّه سوف تبقى حظوظ الأنفس حاضرة وطبائعها غالبة والكمال عزيز جداً. أمّا على مستوى المحاكمات التاريخية والتقييم اللاحق فمن الإنصاف الواجب المتحتّم ألا نحاكم أيّ ثورة أو حركة بنموذج عصر النبوّة و الخلافة الراشدة فنظلمها، أو بتصورات ذهنية نظريّة نؤمن بها فنظلمها أيضاً، ومن الفقه أن يكون عصر النبوة والخلافة الراشدة نموذجاً نسعى إليه ونجهد في استلهامه والنسج على منواله ومعرفة قربنا أو بعدنا من الحقّ الخالص أو الغالب، لا أن نتّخذه سوطاً نجلد به العاملين والمجاهدين والمصلحين إذا أخطؤوا أو قصّروا أو ضعفوا. وثورة التحرير الجزائرية (1954 – 1962) نموذج لهذه الثورات التي يمكن تنزيل هذ الفَهم عليها، ابتداء بالتحضير لها، وانتهاء بتحقيقها للاستقلال أو الجلاء العسكري بعبارة أصحّ وأدقّ، مروراً بما حدث فيها من أحداث عظام لا يمكن فهمها إذا أصررنا على النقاء والطهرانية والصفاء المطلق الذي لا وجود له إلا في الأذهان. لقد كانت ثورة شعب مسلم ضد عدوّ محتلّ كافر، وكان الجزائريّون يسمّون الفرنسيّ مدنياً أو عسكرياً بـ(الروميّ)، واتّخذت الثورة لنفسها مصطلحات مثل الجهاد والمجاهدين والشهداء والمسبّلين(1) وغيرها، وكانت كلمة التكبير: (الله أكبر) حاضرة في كل معركة وكمين، وكانت كلمة السرّ ليلة انطلاق الثورة هي: عقبة/ خالد. ولو رحنا نسرد ونتتبّع هذه الجزئيات والتفاصيل لوجدنا منها ما يكفي للتدليل على إسلاميّة الثورة في عمقها الشعبي وبُعدها العقديّ، بعيداً عن أدبيّات الحركات الإسلاميّة ومصطلحات الجماعات الجهاديّة التي طُرحت بعد ذلك، والتي ليست مقياساً ولا مؤشّراً للحكم على ما سبقها من الثورات وحركات الجهاد. اختراق الثورة في أواسط عهدها، والمآلات التي انتهت إليها الجزائر بعد الجلاء العسكريّ الفرنسيّ -وأجد صعوبة في تقبّل أنّه كان استقلالاً حقّق السيادة والحريّة التي كان ينشدها الشعب الجزائريّ- وتحوّل الدولة الجديدة إلى دولة وظيفيّة تؤدّي وظيفة الاحتلال نيابة عنه وبخسائر أقلّ، وتلبيس وتدليس أكبر لا يؤثّر كثيراً في صدق المجاهدين والشهداء، ولا يطعن في تضحيات الشعب، وليس سبباً في التنكّر لما بذلوه، وهو شيء كبير جداً بمعايير ذلك الزمن وحتى الآن. وشهادات المجاهدين ومذكراتهم و مئات بل آلاف الأحداث والمواقف التي يعرفها كلّ جزائريّ عن الثورة، تُثبت أن ما حققته الثورة من نجاح وإنجاز عسكريّ (وسياسيّ في بعض جوانبه)، إنما كان ببركة وصدق واحتساب وإيمان أولئك البسطاء الصادقين، الذين لم يكونوا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، ولم يدخلوا في صراعات السلطة والزعامة والغنائم والمكاسب وما صاحبها من تصفيات وإعدامات واغتيالات، ولم يشاركوا في مفاوضات ولا جلسوا مع عتاة الاحتلال من ساسة وعسكريين. لقد كان ما تعرّضت له الثورة الجزائريّة ممّا لا يزال موضع أخذ وردّ هو نفسه ما تعرّضت له كل حركات التحرّر والحركات الجهاديّة لاحقاً، من اختراق، واغتيالات، وتوظيف، وتحكّم عن بعد، واستغلال للتمويل، وصراع بين الساسة والعسكريين، وبين مَن في الداخل ومَن في الخارج، وحالات المدّ والجزر في التأييد الشعبيّ، وضراوة وقسوة البطش والقمع والإرهاب والدمار النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه الاحتلال، ومناورات الأنظمة الإقليمية والدول الكبرى، وألاعيب أجهزة الاستخبارات، والصراع على القيادة، وغير ذلك مما عشنا طرفاً منه وما زلنا نراه ونسمعه ونقرؤه. وهذا التشابه يدلّ إلى حدّ كبير على نوع من وحدة القوانين أو السنن التي تحكم حركات التحرّر والجهاد والثورات التي عرفها ويعرفها العالم العربيّ والإسلاميّ، والتي تمكّن في الوقت ذاته من استنباط كمّ هائل من الدروس والعبر وقوانين الصراع والتدافع، لو خلصت النيّات وصدقت العزائم وتجرّدت الأنفس من حظوظها المدمّرة. ولعلّ هذا هو ما جعل الجيش الأمريكيّ يعيد عرض فيلم (معركة الجزائر)(2) على ضباطه بعد احتلاله للعراق ليوسّع مداركهم حول تقنيات حرب المدن. لم يكن الشعب الجزائري قبيل الثورة وأثناءها مؤدلجاً (كما يقال اليوم)، بل كان شعباً مسلماً على الفطرة، وكانت نسبة 90 في المئة منه أمّيين، وكان الفقر المدقع ينهشه في البوادي والأرياف والمدن، وكانت (أيديولوجيته) التي خاض بها الثورة في تحدّ وعزم وشجاعة منقطعة النظير بسيطة جداً وعميقة جدّاً: نحن مسلون والفرنسيون كفار، ونحن على أرضنا والفرنسيون محتلّون، وما نقوم به جهاد في سبيل الله، ومن مات منّا شهيد، ومن قُتل منهم ففي النار، وإذا انتصرنا فإنه نصر للإسلام والمسلمين. هكذا.. ولا شيء أكثر من ذلك. ولقد كانت واحدة من أشهر الأغاني التي غنّاها المطرب محمّد العنقى بعد الاستقلال مباشرة مطلعها: يا محمّد مبروك عليك ** والجزائر رجعت ليك ..وكان يقصد بمحمد النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، ورجوع الجزائر إليه هو رجوعها إلى دار الإسلام. وكان من أوّل ما فعله الجزائريّون بعد الاستقلال أيضاً هو نزع الصليب من فوق مئذنة مسجد كتشاوة في حيّ القصبة الشهير الذي بناه العثمانيّون، والذي حوّله الفرنسيّون إلى إسطبل ثمّ كنيسة بعد ذلك، ورُفع الأذان وأُقيمت أوّل جمعة فيه بعد الاستقلال أمّ فيها الحشود الشيخ الإمام محمّد البشير الإبراهيميّ بخطبة عصماء(3)، وهذه وغيرها أحداث فيها من الرمزيّة ما لا يشكّ في دلالته ومغزاه عاقل أو مؤرّخ. بعيداً عن السرد والاستطراد؛ نستطيع وضع مجموعة من العناوين لمحطّات أو ملامح مفصليّة في الثورة الجزائريّة، أراها ما زالت تصلح للدراسة والاستفادة والاعتبار والاستلهام منها بحسب ما تتطلبه ظروف وسياقات كل شعب وبلد، وما تتفتّق عنه قرائح القادة المبدعين. 1- الرصيد المتراكم لم تكن ثورة التحرير الجزائريّة طفرة تاريخيّة، معزولة عمّا سبقها، نسجت على غير مثال ولا نموذج سابق. ولم يكن قادتها ومجاهدوها ينطلقون من نقطة صفريّة يؤسّسون فيها للثورة في كلّ شيء. لقد عرف الجزائريون عدداً كبيراً جدّاً من الثورات في كلّ جهات ومناطق الجزائر، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً منذ الأشهر الأولى للاحتلال وعلى مدى يقارب 90 سنة، كانت بدايتها مع الأمير عبد القادر الجزائريّ عام 1832 م وآخرها مقاومة الطوارق الملثّمين عام 1919م. شملت هذه الثورات كل التراب الجزائريّ دون استثناء تقريباً. ولم تكن هناك أي استراحة أو انقطاع بينها تجاوز سنتين على الأكثر. وشارك فيها العرب والبربر من شاوية وقبائل وطوارق. ولقد كان من سمات هذه الثورات البارزة هي أن عمودها الفقري وموردها البشريّ كان سكّان الأرياف والبدو خاصّة، وقد يكون الأمر مفهوماً ومبرّراً إذا لاحظنا أن الحواضر والمدن الكبرى سقطت مبكّراً تحت سلطة الاحتلال، وأن سكّانها لم يكونوا مؤهّلين للمقاومة والجهاد بما يتطلبه من صبر ومطاردات وجوع وعطش وشظف ومعرفة بمسالك الأرض وجبالها وقدرة على التموّن من البوادي، بطريقة لا يمكن أن تحدث في الحواضر والمدن. وكان من سماتها أيضاً أن قادتها كانوا من شيوخ الطرق الصوفية وبالأخصّ الطريقة القادريّة الرحمانيّة، وأنّه لم يشُبها ذلك ولا أثّر في عطائها وفاعليتها، فقد كانت الزوايا والربط الصوفية آنذاك هي الجهة الوحيدة المنظمة، والتي تمتلك شبكة قوية ومعقّدة من العلاقات الاجتماعية، وتمتلك ولاء الأتباع وطاعتهم واستعدادهم للموت إذا أعلن الشيخ الجهاد أو سانده ودعمه. وقد حدث مثل ذلك في ليبيا مع الإمام السنوسي ثم عمر المختار، وحدث في المغرب مع القائد عبد الكريم الخطابي، وحدث في بلاد القوقاز مع الإمام شامل، الذي كانت تربطه علاقة صداقة قوية بالأمير عبد القادر. ومن سمات هذه الثورات هو حضور الانتماء القبلي فيها بقوّة، واستثمار حميّة وعصبيّة القبيلة من طرف القادة، للتجنيد والحشد والحثّ على الجهاد والنصرة والنفقة في سبيل الله، حتّى أن عدداً من هذه الثورات كانت تُنسب إلى قبائل وأعراش وتتسمّى بها أكثر ممّا تتسمّى بأسماء قادتها أو غيرهم. ونحن في هذه الفقرة نتحدّث عن الثورات الكبرى المسلّحة والمنظّمة والتي امتدّت جغرافيا لتشمل مساحات تعادل اليوم مساحات دول كاملة، وانخرط فيها آلاف المجاهدين، وبلغت قدراً من التنظيم والتراتبية يسمح بتصنيفها ثورات أو حركات جهاد وتحرّر، وقد بلغ عددها على الأقلّ 15 ثورة كبرى. أمّا عن حركات التمرّد التي كان يعلنها ويقودها متمرّدون وينضمّ إليها عشرات من الأفراد يزعجون الفرنسيين ويقتلون منهم وينصبون لهم الكمائن ويسلبونهم أموالهم ويحرقون مزارعهم ويغتالون من يواليهم من الجزائريين، فقد كانت لا تكاد تنقطع أبداً. وما مِن قبيلة ولا عرش إلا وفيه ثائر متمرّد من هذا النوع، وقد خلّد الشعر الشعبي مآثر هؤلاء واحتفظ التاريخ بأسماء العشرات منهم ما زالت أسماؤهم محفوظة ليومنا هذا. وقد بقي بعض هؤلاء المتمرّدين حتى أدركتهم ثورة التحرير عام 1954م فانضمّوا إليها ونكّلوا بالفرنسيين وأثخنوا فيهم وأبلوا البلاء الحسن واستشهد أكثرهم رحمهم الله تعالى. إن هذا الرصيد الكبير، والتجارب الغنيّة، وحجم الانتصارات والنكسات أيضاً، وما وقع في هذه الثورات من أخطاء كان كلّه زاداً نهل منه قادة الثورة واستفادوا منه بطريقة مباشرة وغير مباشرة وبقصد منهم وبغير قصد ولا وعي أحياناً. وأقلّ ذلك هو بقاء جذوة الثورة والرفض والتمرّد حيّة مشتعلة، وبقاء قدر من الغضب والحقد والحنق على المحتلّ في النفوس والمشاعر لم يختفِ، وتشكّل رصيد من التجارب والخبرة والمعرفة بنفسية وطبائع الشعب الجزائري وبأساليب المحتلّ واستراتيجياته استفادت منه الثورة أيّما استفادة، بَنَت وراكمت عليه وكانت تاجَه وخلاصته وثمرته الطيّبة. إنّ الشعوب التي تفتقد الرصيد الثوريّ والجهاديّ وتراكم خبراته من جيل إلى جيل سوف تجد بلا شكّ صعوبة كبيرة في التأسيس لثوراتها ضد المحتلّين والغزاة، وفي التعامل مع الحالة الثوريّة وإدماج الشعب في العمل الجهادي وهو الشعب الذي انقطعت صلته منذ أزمان بعيدة بأي حراك ثوريّ مسلّح، ولم يعد قادراً على تصوّر مقدّمات وسير ومآلات الثورة بسلبياتها وإيجابياتها، وسوف تبدو له أي دعوة إلى طرد المحتلّ والغازي مغامرة ومخاطرة وتغريراً ولا يردم هذه الفجوة إلا وضوح الفكرة وحرارة العقيدة. على أن الرصيد المتراكم من التجارب السلبيّة والانتكاسات والهزائم دون نكاية في العدوّ ولا إرهاق ولا استنزاف لقوته على الأرض سيكون أثره سيّئاً أيضاً ومحبطاً و(مفرملاً) لأي حراك ثوريّ، عندما تُستَحضَر الهزائم والتضحيات التي سبقت دون جدوى ولا فائدة منها. ولهذا فقد احتاج الجزائريّون أكثر من ثلاثة عقود ليرجعوا إلى مربّع الثورة والجهاد ويقتنعوا بضرورة التضحية بالدماء وبذل الأنفس رخيصة في سبيل الحرية، مع تطوير الأداء الثوريّ من خلال مراجعة وتقييم ودراسة التجارب السابقة. 2- الفكرة الواضحة لم يكن الرضوخ والاستسلام للمحتلّ الفرنسي وارداً عند قادة الثورات التي سبقت ثورة التحرير، إلا في حالة الضعف والعجز عن الاستمرار والمواصلة بسبب قوّة العدة أو ضعف التسلّح والتمويل أو انفضاض الناصر والمعين. ولكن بعد ما يقارب 90 سنة من القتال الضاري الذي فقد فيه الجزائريّون بحسب الإحصائيات ما متوسّطه 6 ملايين قتيل، وليس هذا العدد بمستبعد أبداً حين نتذكّر أن فرنسا قتلت من الجزائريين في ثلاثة أيام ما يفوق 45000 قتيلاً عام 1945، وحين نتذكّر مثلاً إبادة قبائل كاملة، مثل ما حدث لأولاد رياح في محرقة مغارة الفراشيح بدائرة عشعاشة في ولاية مستغانم(4) وما حدث في الأغواط من إبادة سكان المدينة كلّهم، وكتب ومذكّرات جنرالات وضباط الجيش الفرنسي حافلة بمشاهد بلغت من الوحشية أقسى ما يتصوّره خيال ممّا يجهله كثير من القرّاء والمثقفين العرب غير المتخصصين في التاريخ المعاصر، ولا غرو في ذلك ففرنسا كانت تحتذي بالنموذج الاستئصالي الاستيطاني الأمريكي وتحاول استنساخه في الجزائر لولا أنّ الله سلّم ببركة الجهاد والمجاهدين. بعد كل هذه التضحيات وهذا العدد المهول من القتلى والشهداء، وبعد الإعياء والإنهاك والاستنزاف البشري والنفسي والمادّي الذي أصاب الجزائريّين، بدا لعدد من النخب العلمية والسياسيّة أن يجرّبوا العمل السياسي من داخل منظومات المحتلّ الفرنسيّ السياسية والقانونيّة، فأسسوا أحزاباً وجمعيات وخاضوا في انتخابات تشريعية وبلدية صورية شكلية، ورفعوا مطالب واحتجاجات، وفاوضوا وتنازلوا، ونادى بعضهم بالإدماج والتجنيس لولا رفض الشعب الجزائريّ وفتاوى العلماء، وعلى رأسهم الشيخ ابن باديس الذي اعتبر التجنّس ردّة عن الإسلام، وقال في قصيدته المشهورة : شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب أو رام إدماجاً له *** رام المحال من الطلب وقال فيه الشاعر مفدي زكريا في نشيد حزب (نجم شمال إفريقيا) عام 1936 : فلسنا نرضى الامتزاجا ** ولسنا نرضى التجنيسا ولسنا نرضى الاندماجا ** ولا نرتدّ فرنسيسا رضينا بالإسلام تاجا ** كفى الجهال تدنيسا فكلّ من يبغي اعوجاجا ** رجمناه كإبليسا ولم يدُم الأمر أكثر من ثلاثة عقود حتى انتهت قناعات قطاع كبير من الجزائريين المهتمّين بالشأن العام من الساسة إلى أنهم يسيرون في طريق مسدود، وأن خيوط اللعبة كلّها في يد فرنسا، وأن ما يبذل من جهود هو استنزاف من نوع آخر. وكان على رأس هؤلاء السيّد مصالي الحاج رئيس وقائد حزب الشعب الجزائريّ، والذي كان أوّل من رفع مصطلح (الاستقلال) صريحاً واضحاً، وأوّل من نادى به سياسيّا ورفع به عقيرته، وصاغ خط حزبه واستراتيجيته السياسية والإعلامية على أساسه. وكانت بقيّة التنظيمات تتفاوت في وضوح فكرة الاستقلال والمطالبة به والإصرار عليه، بعيداً عن البقاء في فلك فرنسا أو فكرة الفيدرالية، أو مجرّد المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافيّة ضمن الفضاء الكولونيالي الفرنسيّ. ولعلّ جمعية العلماء كانت أقرب هذه التيّارات قرباً من طرح حزب الشعب برغم الخصومات والتنافس الذي كان بينهما، برغم أنها لم تكن حركة سياسيّة ولم تتبنّ النهج الثوريّ بل الإصلاحيّ التربويّ التثقيفيّ، وبرغم تأرجح خطابها بين التأكيد على إسلام الشعب الجزائري وعروبته وهويته الأصيلة والمطالبة بأن ينال حقوقه وحريته وسيادته مثل كل شعوب العالم، وبين ميل إلى المهادنة وحرص على عدم الصدام مع الإدارة الفرنسيّة واقتراب أحياناً من أطروحات فرحات عبّاس السياسيّة مع رفض صريح وحازم لمطالبه الاندماجيّة. وما أن حدثت مجازر عام 1945م بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية بعدد شهداء لا يقلّ عن 45000 جزائري، حتى بدا واضحاً جليّاً أن فرنسا لا يردعها إلا السلاح وأن الحديد لا يفلّه إلا الحديد، وأصبح لهذه الأطروحة أنصار ومؤيّدون، وانتشرت بين مناضلي (حزب الشعب) خصوصاً، وبقيت تتخمّر وتتفاعل في الإعلام والسياسة وداخل فئات المجتمع ونخبه السياسيّة لفترة تسع سنوات تقريباً، نضجت فيها واستوت وصارت قناعة راسخة عند مئات من الشباب المتسيّس لا يرون حلّاً ولا مخرجاً في غيرها، وأنّ كل ما سواها إنما هو استنزاف وتضييع للوقت والجهد والرجال والموارد. كانت ولادة هذه الفكرة: (أنّ الاستقلال لن يتأتّى بغير ثورة مسلّحة منظّمة) في حدّ ذاته تطوراً كبيراً في التعامل مع واقع الاحتلال. وكان هو الدافع لما جاء بعده من تنظيم سرّي وإعداد ثوريّ. ولولا وضوح هذه الفكرة ورواجها وتبنّيها ولو لمدّة تبدو طويلة، وما صاحبها من تجارب لما أمكن للثورة أن تشتعل شرارتها وأن يلتفّ حولها الجزائريّون. إنّ أي ثورة تحرير أو جهاد ضدّ الغزاة المحتلّين وعملائهم من الطغاة والمستبدّين لا يمكن أن تبدأ فضلاً أن تستمرّ وتنجح بدون (فكرة) ..ولن تنجح الفكرة بلا (عقيدة) يسترخص فيها المقاتل والثائر نفسه ويقبل على الموت ويدفع المغارم ويزهد في المغانم ويضحّي بطيبات الحياة واستقرار الأسرة والأمن والعافية. وإنّ الفكرة في الحالة الجزائريّة صاغها حزب الشعب قبل الثورة بقرابة عقد من الزمن، واشتغل عليها وأسّس لها وروّج وخطّط ونظّم وضربت قاعدته الشبابيّة وتمّ حلّه وطوردت قياداته وضيِّق عليه، ولكن الفكرة كانت قد وُلدت وغرست بذرتها في العقول والمشاعر، ثم كان عمل جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين ومدارسها وصحافتها ومحاضنها التربويّة كفيلة بصياغة البعد العقديّ، متمثلاً في إحياء سير السلف، وكتابة تاريخ الجزائر المسلمة، وتعليم القرآن وتفقيه الجزائريين بدينهم، وبعث الاعتزاز بالهويّة الإسلاميّة والحديث المستمرّ لشيوخها وشعرائها وكتّابها عن أمجاد المسلمين وانتصاراتهم وأزمان عزّتهم وقوّتهم. لم تكن الجمعية وحدها من تولّت هذا الجانب؛ فقد كان حزب الشعب حزباً وطنياً كلّ أعضائه مسلمون لا إشكال لديهم مع الإسلام وانتماء الشعب الجزائري العربي الإسلامي، ولا مع مفاهيم الجهاد والشهادة، ولا مع أحكام الإسلام في الشعائر والأحوال الشخصية والقضاء. كما أسهمت الجمعية في كتابات مؤرّخيها ومقالات وحاضرات شيوخها في قسط من ترويج وتأصيل فكرة الاستقلال والتحرّر من الاحتلال الفرنسي، وإن بحدّة أقلّ ومواجهة أكثر هدوء وأبعد عن الصدام. وللحديث بقيّة .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المسبّل: هو الجزائريّ الذي توكل إليه مهامّ مدنيّة قد يكون لها علاقة بالسياسة أو الإدارة لصالح جيش التحرير وسمّي بذلك لأنّه يقدّم نفسه في سبيل الله بسبب خطورة مهمته وتعرّضه للكشف والتعذيب والقتل في أي لحظة. (2) فيلم أنتج عام 1966 من إخراج المخرج الإيطالي الشهير جيلو بونتيكورفو، يروي أحداث معركة مدينة الجزائر الشهيرة، وإضراب الأيام الثمانية، وعُدّ توثيقاً مهما جدّاً لحرب المدن، وهو مصنّف من بين أفضل الأفلام السينمائية، ونال جوائز كثيرة جداً، وقد كان ممنوعاً من العرض في فرنسا لأكثر من 40 سنة، حتى عام 2004م، بينما عُرض في مقرّ وزارة الدفاع الأمريكيّة (بنتاغون) قبل بدء عرضه في دور السينيما الأمريكية. (3) هي خطبة عصماء بليغة راقية، ألقاها الشيخ يوم الجمعة 05 جمادى الثانية 1382، الموافق لـ 02 نوفمبر 1962م، وحضرها كل رجال الدولة والسفراء ووفود الدول العربية..من بين فقراتها: "يا معشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك". فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطرتم إليه، وما أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها". (4) مجزرة قام بها الجنرال بيليسي الفرنسي ضد قبيلة أولاد رياح، التي التجأت إلى المغارة فراراً من بطش جيش الاحتلال، فأحرق داخلها خنقاً بالدخان والنار 1200 شخصاً مع دوابّهم وأنعامهم عام 1845م.
ما لا تعرفه عن ثورة التحرير الجزائرية (1)
الصغير منير

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

لا يمكن أن تُحاكم ثورة أو حركة سياسية أو عسكرية إلى غير أهدافها المعلنة التي سطرها مؤسسوها، ولا يمكن أن تُحاكم ثورة أو حركة بمعايير عصر وسياقات تاريخية غير عصرها وسياقاتها التاريخية، وليس منهجاً صحيحاً أن يُطلب الكمال والنقاء والطهارة في الثورات والحركات السياسية خاصّة، لأنّ هذا لم يقع من قبل في التاريخ، أيّ تاريخ، ما عدا عصر النبوّة المشرق وسنوات من عصر الخلافة الراشدة، وحتى أثناء هاتين الفترتين كان البشر يخطؤون ويظلمون وينزلون عن المثل الأعلى ويسقطون فيما تلجئهم إليه طبيعتهم البشرية الغالبة. وليس هذا تبريراً للخطأ والظلم والانحراف ولكنه توصيف لواقع تنقله الروايات بالأسانيد الثابتة في السنّة والسيرة والتاريخ.

أمّا بعد ذلك في عصر بني أمية وما تلاه من تاريخ الأمّة المسلمة بكل شعوبها وتنوعها وتحدياتها في صراعها مع أعدائها أو في سعيها لتمكين نموذجها الحضاري والسياسي الخاصّ بها، فقد كان الأمر أكثر وضوحاً وبروزاً، ولم يكتمه المؤرخون ولا يستطيعون ولو أرادوا، ولم يعدّه الفقهاء والعلماء سبباً يجيز لهم الدعوة إلى الانفضاض على الجهاد، أو الإصلاح السياسي، أو عدم الالتفاف حول القادة والمصلحين، أو حجّة للتخذيل والإرجاف وترك جهاد العدوّ الكافر المحتلّ الغازي، أو اعتزال الشأن العامّ وترك المفسدين يعيثون في الأرض بحجة انتشار الفساد وفشوّه. وقد حفلت كتب التاريخ والتراجم والسير بآلاف القصص والمواقف والفتاوى والأحداث التاريخية التي ترسّخ هذا المعنى وتبيّن كيف تعامل معه العلماء الربانيون والمصلحون والمجاهدون وعموم الأمة.

إنّ القاعدة الكبرى في هذا الشأن أن الأمة فيها السابقون بالخيرات والمقتصدون والظالمون لأنفسهم، وفيها – وهم الغالب الأعمّ – الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، وفيها المطيعون والعصاة، والمجاهدون والقاعدون، ومرضى القلوب والمرجفون والمنافقون، وفيها ومن خيارها أحياناً مَن يريد عرَض الحياة الدنيا، والسمّاعون للمنافقين والمشيعون للفاحشة والذين يلمزون المطّوعين في الجهاد والعلم والصدقات وغيرها.

لقد كانت هذه النماذج كلها في أطهر مجتمع عرفته البشرية، وتحدّث القرآن عنها وشرّحها حتى لم تخفَ منها خافية، وذكرت السيرة من أخبارهم ما أكثره مشتهر مستفيض. فليس من العدل إذن ولا من الواقعية إسقاط ثورة أو حركة بحجة وجود مثل هذه النماذج فيها قلّت أو كثرت، بل المنهج الحقّ هو النصح والترشيد والتقويم المستمرّ والإصلاح الذي لا ينقطع من داخل هذه الثورات والحركات أو من خارجها، وتقديم أكثرها أستقامة وأقربها من الحق الخالص ومدّ اليد إلى الضعيف منها لاستنقاذه والإنقاذ به ومعه، ومع ذلك كلّه سوف تبقى حظوظ الأنفس حاضرة وطبائعها غالبة والكمال عزيز جداً. أمّا على مستوى المحاكمات التاريخية والتقييم اللاحق فمن الإنصاف الواجب المتحتّم ألا نحاكم أيّ ثورة أو حركة بنموذج عصر النبوّة و الخلافة الراشدة فنظلمها، أو بتصورات ذهنية نظريّة نؤمن بها فنظلمها أيضاً، ومن الفقه أن يكون عصر النبوة والخلافة الراشدة نموذجاً نسعى إليه ونجهد في استلهامه والنسج على منواله ومعرفة قربنا أو بعدنا من الحقّ الخالص أو الغالب، لا أن نتّخذه سوطاً نجلد به العاملين والمجاهدين والمصلحين إذا أخطؤوا أو قصّروا أو ضعفوا.

وثورة التحرير الجزائرية (1954 – 1962) نموذج لهذه الثورات التي يمكن تنزيل هذ الفَهم عليها، ابتداء بالتحضير لها، وانتهاء بتحقيقها للاستقلال أو الجلاء العسكري بعبارة أصحّ وأدقّ، مروراً بما حدث فيها من أحداث عظام لا يمكن فهمها إذا أصررنا على النقاء والطهرانية والصفاء المطلق الذي لا وجود له إلا في الأذهان.

لقد كانت ثورة شعب مسلم ضد عدوّ محتلّ كافر، وكان الجزائريّون يسمّون الفرنسيّ مدنياً أو عسكرياً بـ(الروميّ)، واتّخذت الثورة لنفسها مصطلحات مثل الجهاد والمجاهدين والشهداء والمسبّلين(1) وغيرها، وكانت كلمة التكبير: (الله أكبر) حاضرة في كل معركة وكمين، وكانت كلمة السرّ ليلة انطلاق الثورة هي: عقبة/ خالد. ولو رحنا نسرد ونتتبّع هذه الجزئيات والتفاصيل لوجدنا منها ما يكفي للتدليل على إسلاميّة الثورة في عمقها الشعبي وبُعدها العقديّ، بعيداً عن أدبيّات الحركات الإسلاميّة ومصطلحات الجماعات الجهاديّة التي طُرحت بعد ذلك، والتي ليست مقياساً ولا مؤشّراً للحكم على ما سبقها من الثورات وحركات الجهاد.
اختراق الثورة في أواسط عهدها، والمآلات التي انتهت إليها الجزائر بعد الجلاء العسكريّ الفرنسيّ -وأجد صعوبة في تقبّل أنّه كان استقلالاً حقّق السيادة والحريّة التي كان ينشدها الشعب الجزائريّ- وتحوّل الدولة الجديدة إلى دولة وظيفيّة تؤدّي وظيفة الاحتلال نيابة عنه وبخسائر أقلّ، وتلبيس وتدليس أكبر لا يؤثّر كثيراً في صدق المجاهدين والشهداء، ولا يطعن في تضحيات الشعب، وليس سبباً في التنكّر لما بذلوه، وهو شيء كبير جداً بمعايير ذلك الزمن وحتى الآن.

وشهادات المجاهدين ومذكراتهم و مئات بل آلاف الأحداث والمواقف التي يعرفها كلّ جزائريّ عن الثورة، تُثبت أن ما حققته الثورة من نجاح وإنجاز عسكريّ (وسياسيّ في بعض جوانبه)، إنما كان ببركة وصدق واحتساب وإيمان أولئك البسطاء الصادقين، الذين لم يكونوا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، ولم يدخلوا في صراعات السلطة والزعامة والغنائم والمكاسب وما صاحبها من تصفيات وإعدامات واغتيالات، ولم يشاركوا في مفاوضات ولا جلسوا مع عتاة الاحتلال من ساسة وعسكريين.

لقد كان ما تعرّضت له الثورة الجزائريّة ممّا لا يزال موضع أخذ وردّ هو نفسه ما تعرّضت له كل حركات التحرّر والحركات الجهاديّة لاحقاً، من اختراق، واغتيالات، وتوظيف، وتحكّم عن بعد، واستغلال للتمويل، وصراع بين الساسة والعسكريين، وبين مَن في الداخل ومَن في الخارج، وحالات المدّ والجزر في التأييد الشعبيّ، وضراوة وقسوة البطش والقمع والإرهاب والدمار النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه الاحتلال، ومناورات الأنظمة الإقليمية والدول الكبرى، وألاعيب أجهزة الاستخبارات، والصراع على القيادة، وغير ذلك مما عشنا طرفاً منه وما زلنا نراه ونسمعه ونقرؤه.

وهذا التشابه يدلّ إلى حدّ كبير على نوع من وحدة القوانين أو السنن التي تحكم حركات التحرّر والجهاد والثورات التي عرفها ويعرفها العالم العربيّ والإسلاميّ، والتي تمكّن في الوقت ذاته من استنباط كمّ هائل من الدروس والعبر وقوانين الصراع والتدافع، لو خلصت النيّات وصدقت العزائم وتجرّدت الأنفس من حظوظها المدمّرة. ولعلّ هذا هو ما جعل الجيش الأمريكيّ يعيد عرض فيلم (معركة الجزائر)(2) على ضباطه بعد احتلاله للعراق ليوسّع مداركهم حول تقنيات حرب المدن.

لم يكن الشعب الجزائري قبيل الثورة وأثناءها مؤدلجاً (كما يقال اليوم)، بل كان شعباً مسلماً على الفطرة، وكانت نسبة 90 في المئة منه أمّيين، وكان الفقر المدقع ينهشه في البوادي والأرياف والمدن، وكانت (أيديولوجيته) التي خاض بها الثورة في تحدّ وعزم وشجاعة منقطعة النظير بسيطة جداً وعميقة جدّاً: نحن مسلون والفرنسيون كفار، ونحن على أرضنا والفرنسيون محتلّون، وما نقوم به جهاد في سبيل الله، ومن مات منّا شهيد، ومن قُتل منهم ففي النار، وإذا انتصرنا فإنه نصر للإسلام والمسلمين. هكذا.. ولا شيء أكثر من ذلك.

ولقد كانت واحدة من أشهر الأغاني التي غنّاها المطرب محمّد العنقى بعد الاستقلال مباشرة مطلعها: يا محمّد مبروك عليك ** والجزائر رجعت ليك ..وكان يقصد بمحمد النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، ورجوع الجزائر إليه هو رجوعها إلى دار الإسلام. وكان من أوّل ما فعله الجزائريّون بعد الاستقلال أيضاً هو نزع الصليب من فوق مئذنة مسجد كتشاوة في حيّ القصبة الشهير الذي بناه العثمانيّون، والذي حوّله الفرنسيّون إلى إسطبل ثمّ كنيسة بعد ذلك، ورُفع الأذان وأُقيمت أوّل جمعة فيه بعد الاستقلال أمّ فيها الحشود الشيخ الإمام محمّد البشير الإبراهيميّ بخطبة عصماء(3)، وهذه وغيرها أحداث فيها من الرمزيّة ما لا يشكّ في دلالته ومغزاه عاقل أو مؤرّخ.

بعيداً عن السرد والاستطراد؛ نستطيع وضع مجموعة من العناوين لمحطّات أو ملامح مفصليّة في الثورة الجزائريّة، أراها ما زالت تصلح للدراسة والاستفادة والاعتبار والاستلهام منها بحسب ما تتطلبه ظروف وسياقات كل شعب وبلد، وما تتفتّق عنه قرائح القادة المبدعين.

1- الرصيد المتراكم
لم تكن ثورة التحرير الجزائريّة طفرة تاريخيّة، معزولة عمّا سبقها، نسجت على غير مثال ولا نموذج سابق. ولم يكن قادتها ومجاهدوها ينطلقون من نقطة صفريّة يؤسّسون فيها للثورة في كلّ شيء. لقد عرف الجزائريون عدداً كبيراً جدّاً من الثورات في كلّ جهات ومناطق الجزائر، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً منذ الأشهر الأولى للاحتلال وعلى مدى يقارب 90 سنة، كانت بدايتها مع الأمير عبد القادر الجزائريّ عام 1832 م وآخرها مقاومة الطوارق الملثّمين عام 1919م. شملت هذه الثورات كل التراب الجزائريّ دون استثناء تقريباً. ولم تكن هناك أي استراحة أو انقطاع بينها تجاوز سنتين على الأكثر. وشارك فيها العرب والبربر من شاوية وقبائل وطوارق.

ولقد كان من سمات هذه الثورات البارزة هي أن عمودها الفقري وموردها البشريّ كان سكّان الأرياف والبدو خاصّة، وقد يكون الأمر مفهوماً ومبرّراً إذا لاحظنا أن الحواضر والمدن الكبرى سقطت مبكّراً تحت سلطة الاحتلال، وأن سكّانها لم يكونوا مؤهّلين للمقاومة والجهاد بما يتطلبه من صبر ومطاردات وجوع وعطش وشظف ومعرفة بمسالك الأرض وجبالها وقدرة على التموّن من البوادي، بطريقة لا يمكن أن تحدث في الحواضر والمدن.

وكان من سماتها أيضاً أن قادتها كانوا من شيوخ الطرق الصوفية وبالأخصّ الطريقة القادريّة الرحمانيّة، وأنّه لم يشُبها ذلك ولا أثّر في عطائها وفاعليتها، فقد كانت الزوايا والربط الصوفية آنذاك هي الجهة الوحيدة المنظمة، والتي تمتلك شبكة قوية ومعقّدة من العلاقات الاجتماعية، وتمتلك ولاء الأتباع وطاعتهم واستعدادهم للموت إذا أعلن الشيخ الجهاد أو سانده ودعمه. وقد حدث مثل ذلك في ليبيا مع الإمام السنوسي ثم عمر المختار، وحدث في المغرب مع القائد عبد الكريم الخطابي، وحدث في بلاد القوقاز مع الإمام شامل، الذي كانت تربطه علاقة صداقة قوية بالأمير عبد القادر.

ومن سمات هذه الثورات هو حضور الانتماء القبلي فيها بقوّة، واستثمار حميّة وعصبيّة القبيلة من طرف القادة، للتجنيد والحشد والحثّ على الجهاد والنصرة والنفقة في سبيل الله، حتّى أن عدداً من هذه الثورات كانت تُنسب إلى قبائل وأعراش وتتسمّى بها أكثر ممّا تتسمّى بأسماء قادتها أو غيرهم.
ونحن في هذه الفقرة نتحدّث عن الثورات الكبرى المسلّحة والمنظّمة والتي امتدّت جغرافيا لتشمل مساحات تعادل اليوم مساحات دول كاملة، وانخرط فيها آلاف المجاهدين، وبلغت قدراً من التنظيم والتراتبية يسمح بتصنيفها ثورات أو حركات جهاد وتحرّر، وقد بلغ عددها على الأقلّ 15 ثورة كبرى. أمّا عن حركات التمرّد التي كان يعلنها ويقودها متمرّدون وينضمّ إليها عشرات من الأفراد يزعجون الفرنسيين ويقتلون منهم وينصبون لهم الكمائن ويسلبونهم أموالهم ويحرقون مزارعهم ويغتالون من يواليهم من الجزائريين، فقد كانت لا تكاد تنقطع أبداً. وما مِن قبيلة ولا عرش إلا وفيه ثائر متمرّد من هذا النوع، وقد خلّد الشعر الشعبي مآثر هؤلاء واحتفظ التاريخ بأسماء العشرات منهم ما زالت أسماؤهم محفوظة ليومنا هذا. وقد بقي بعض هؤلاء المتمرّدين حتى أدركتهم ثورة التحرير عام 1954م فانضمّوا إليها ونكّلوا بالفرنسيين وأثخنوا فيهم وأبلوا البلاء الحسن واستشهد أكثرهم رحمهم الله تعالى.

إن هذا الرصيد الكبير، والتجارب الغنيّة، وحجم الانتصارات والنكسات أيضاً، وما وقع في هذه الثورات من أخطاء كان كلّه زاداً نهل منه قادة الثورة واستفادوا منه بطريقة مباشرة وغير مباشرة وبقصد منهم وبغير قصد ولا وعي أحياناً. وأقلّ ذلك هو بقاء جذوة الثورة والرفض والتمرّد حيّة مشتعلة، وبقاء قدر من الغضب والحقد والحنق على المحتلّ في النفوس والمشاعر لم يختفِ، وتشكّل رصيد من التجارب والخبرة والمعرفة بنفسية وطبائع الشعب الجزائري وبأساليب المحتلّ واستراتيجياته استفادت منه الثورة أيّما استفادة، بَنَت وراكمت عليه وكانت تاجَه وخلاصته وثمرته الطيّبة.

إنّ الشعوب التي تفتقد الرصيد الثوريّ والجهاديّ وتراكم خبراته من جيل إلى جيل سوف تجد بلا شكّ صعوبة كبيرة في التأسيس لثوراتها ضد المحتلّين والغزاة، وفي التعامل مع الحالة الثوريّة وإدماج الشعب في العمل الجهادي وهو الشعب الذي انقطعت صلته منذ أزمان بعيدة بأي حراك ثوريّ مسلّح، ولم يعد قادراً على تصوّر مقدّمات وسير ومآلات الثورة بسلبياتها وإيجابياتها، وسوف تبدو له أي دعوة إلى طرد المحتلّ والغازي مغامرة ومخاطرة وتغريراً ولا يردم هذه الفجوة إلا وضوح الفكرة وحرارة العقيدة.

على أن الرصيد المتراكم من التجارب السلبيّة والانتكاسات والهزائم دون نكاية في العدوّ ولا إرهاق ولا استنزاف لقوته على الأرض سيكون أثره سيّئاً أيضاً ومحبطاً و(مفرملاً) لأي حراك ثوريّ، عندما تُستَحضَر الهزائم والتضحيات التي سبقت دون جدوى ولا فائدة منها. ولهذا فقد احتاج الجزائريّون أكثر من ثلاثة عقود ليرجعوا إلى مربّع الثورة والجهاد ويقتنعوا بضرورة التضحية بالدماء وبذل الأنفس رخيصة في سبيل الحرية، مع تطوير الأداء الثوريّ من خلال مراجعة وتقييم ودراسة التجارب السابقة.

2- الفكرة الواضحة
لم يكن الرضوخ والاستسلام للمحتلّ الفرنسي وارداً عند قادة الثورات التي سبقت ثورة التحرير، إلا في حالة الضعف والعجز عن الاستمرار والمواصلة بسبب قوّة العدة أو ضعف التسلّح والتمويل أو انفضاض الناصر والمعين. ولكن بعد ما يقارب 90 سنة من القتال الضاري الذي فقد فيه الجزائريّون بحسب الإحصائيات ما متوسّطه 6 ملايين قتيل، وليس هذا العدد بمستبعد أبداً حين نتذكّر أن فرنسا قتلت من الجزائريين في ثلاثة أيام ما يفوق 45000 قتيلاً عام 1945، وحين نتذكّر مثلاً إبادة قبائل كاملة، مثل ما حدث لأولاد رياح في محرقة مغارة الفراشيح بدائرة عشعاشة في ولاية مستغانم(4) وما حدث في الأغواط من إبادة سكان المدينة كلّهم، وكتب ومذكّرات جنرالات وضباط الجيش الفرنسي حافلة بمشاهد بلغت من الوحشية أقسى ما يتصوّره خيال ممّا يجهله كثير من القرّاء والمثقفين العرب غير المتخصصين في التاريخ المعاصر، ولا غرو في ذلك ففرنسا كانت تحتذي بالنموذج الاستئصالي الاستيطاني الأمريكي وتحاول استنساخه في الجزائر لولا أنّ الله سلّم ببركة الجهاد والمجاهدين.

بعد كل هذه التضحيات وهذا العدد المهول من القتلى والشهداء، وبعد الإعياء والإنهاك والاستنزاف البشري والنفسي والمادّي الذي أصاب الجزائريّين، بدا لعدد من النخب العلمية والسياسيّة أن يجرّبوا العمل السياسي من داخل منظومات المحتلّ الفرنسيّ السياسية والقانونيّة، فأسسوا أحزاباً وجمعيات وخاضوا في انتخابات تشريعية وبلدية صورية شكلية، ورفعوا مطالب واحتجاجات، وفاوضوا وتنازلوا، ونادى بعضهم بالإدماج والتجنيس لولا رفض الشعب الجزائريّ وفتاوى العلماء، وعلى رأسهم الشيخ ابن باديس الذي اعتبر التجنّس ردّة عن الإسلام، وقال في قصيدته المشهورة :

شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجاً له *** رام المحال من الطلب
وقال فيه الشاعر مفدي زكريا في نشيد حزب (نجم شمال إفريقيا) عام 1936 :
فلسنا نرضى الامتزاجا ** ولسنا نرضى التجنيسا
ولسنا نرضى الاندماجا ** ولا نرتدّ فرنسيسا
رضينا بالإسلام تاجا ** كفى الجهال تدنيسا
فكلّ من يبغي اعوجاجا ** رجمناه كإبليسا

ولم يدُم الأمر أكثر من ثلاثة عقود حتى انتهت قناعات قطاع كبير من الجزائريين المهتمّين بالشأن العام من الساسة إلى أنهم يسيرون في طريق مسدود، وأن خيوط اللعبة كلّها في يد فرنسا، وأن ما يبذل من جهود هو استنزاف من نوع آخر. وكان على رأس هؤلاء السيّد مصالي الحاج رئيس وقائد حزب الشعب الجزائريّ، والذي كان أوّل من رفع مصطلح (الاستقلال) صريحاً واضحاً، وأوّل من نادى به سياسيّا ورفع به عقيرته، وصاغ خط حزبه واستراتيجيته السياسية والإعلامية على أساسه.

وكانت بقيّة التنظيمات تتفاوت في وضوح فكرة الاستقلال والمطالبة به والإصرار عليه، بعيداً عن البقاء في فلك فرنسا أو فكرة الفيدرالية، أو مجرّد المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافيّة ضمن الفضاء الكولونيالي الفرنسيّ.

ولعلّ جمعية العلماء كانت أقرب هذه التيّارات قرباً من طرح حزب الشعب برغم الخصومات والتنافس الذي كان بينهما، برغم أنها لم تكن حركة سياسيّة ولم تتبنّ النهج الثوريّ بل الإصلاحيّ التربويّ التثقيفيّ، وبرغم تأرجح خطابها بين التأكيد على إسلام الشعب الجزائري وعروبته وهويته الأصيلة والمطالبة بأن ينال حقوقه وحريته وسيادته مثل كل شعوب العالم، وبين ميل إلى المهادنة وحرص على عدم الصدام مع الإدارة الفرنسيّة واقتراب أحياناً من أطروحات فرحات عبّاس السياسيّة مع رفض صريح وحازم لمطالبه الاندماجيّة.

وما أن حدثت مجازر عام 1945م بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية بعدد شهداء لا يقلّ عن 45000 جزائري، حتى بدا واضحاً جليّاً أن فرنسا لا يردعها إلا السلاح وأن الحديد لا يفلّه إلا الحديد، وأصبح لهذه الأطروحة أنصار ومؤيّدون، وانتشرت بين مناضلي (حزب الشعب) خصوصاً، وبقيت تتخمّر وتتفاعل في الإعلام والسياسة وداخل فئات المجتمع ونخبه السياسيّة لفترة تسع سنوات تقريباً، نضجت فيها واستوت وصارت قناعة راسخة عند مئات من الشباب المتسيّس لا يرون حلّاً ولا مخرجاً في غيرها، وأنّ كل ما سواها إنما هو استنزاف وتضييع للوقت والجهد والرجال والموارد.

كانت ولادة هذه الفكرة: (أنّ الاستقلال لن يتأتّى بغير ثورة مسلّحة منظّمة) في حدّ ذاته تطوراً كبيراً في التعامل مع واقع الاحتلال. وكان هو الدافع لما جاء بعده من تنظيم سرّي وإعداد ثوريّ. ولولا وضوح هذه الفكرة ورواجها وتبنّيها ولو لمدّة تبدو طويلة، وما صاحبها من تجارب لما أمكن للثورة أن تشتعل شرارتها وأن يلتفّ حولها الجزائريّون.

إنّ أي ثورة تحرير أو جهاد ضدّ الغزاة المحتلّين وعملائهم من الطغاة والمستبدّين لا يمكن أن تبدأ فضلاً أن تستمرّ وتنجح بدون (فكرة) ..ولن تنجح الفكرة بلا (عقيدة) يسترخص فيها المقاتل والثائر نفسه ويقبل على الموت ويدفع المغارم ويزهد في المغانم ويضحّي بطيبات الحياة واستقرار الأسرة والأمن والعافية. وإنّ الفكرة في الحالة الجزائريّة صاغها حزب الشعب قبل الثورة بقرابة عقد من الزمن، واشتغل عليها وأسّس لها وروّج وخطّط ونظّم وضربت قاعدته الشبابيّة وتمّ حلّه وطوردت قياداته وضيِّق عليه، ولكن الفكرة كانت قد وُلدت وغرست بذرتها في العقول والمشاعر، ثم كان عمل جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين ومدارسها وصحافتها ومحاضنها التربويّة كفيلة بصياغة البعد العقديّ، متمثلاً في إحياء سير السلف، وكتابة تاريخ الجزائر المسلمة، وتعليم القرآن وتفقيه الجزائريين بدينهم، وبعث الاعتزاز بالهويّة الإسلاميّة والحديث المستمرّ لشيوخها وشعرائها وكتّابها عن أمجاد المسلمين وانتصاراتهم وأزمان عزّتهم وقوّتهم. لم تكن الجمعية وحدها من تولّت هذا الجانب؛ فقد كان حزب الشعب حزباً وطنياً كلّ أعضائه مسلمون لا إشكال لديهم مع الإسلام وانتماء الشعب الجزائري العربي الإسلامي، ولا مع مفاهيم الجهاد والشهادة، ولا مع أحكام الإسلام في الشعائر والأحوال الشخصية والقضاء. كما أسهمت الجمعية في كتابات مؤرّخيها ومقالات وحاضرات شيوخها في قسط من ترويج وتأصيل فكرة الاستقلال والتحرّر من الاحتلال الفرنسي، وإن بحدّة أقلّ ومواجهة أكثر هدوء وأبعد عن الصدام.

وللحديث بقيّة ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسبّل: هو الجزائريّ الذي توكل إليه مهامّ مدنيّة قد يكون لها علاقة بالسياسة أو الإدارة لصالح جيش التحرير وسمّي بذلك لأنّه يقدّم نفسه في سبيل الله بسبب خطورة مهمته وتعرّضه للكشف والتعذيب والقتل في أي لحظة.
(2) فيلم أنتج عام 1966 من إخراج المخرج الإيطالي الشهير جيلو بونتيكورفو، يروي أحداث معركة مدينة الجزائر الشهيرة، وإضراب الأيام الثمانية، وعُدّ توثيقاً مهما جدّاً لحرب المدن، وهو مصنّف من بين أفضل الأفلام السينمائية، ونال جوائز كثيرة جداً، وقد كان ممنوعاً من العرض في فرنسا لأكثر من 40 سنة، حتى عام 2004م، بينما عُرض في مقرّ وزارة الدفاع الأمريكيّة (بنتاغون) قبل بدء عرضه في دور السينيما الأمريكية.
(3) هي خطبة عصماء بليغة راقية، ألقاها الشيخ يوم الجمعة 05 جمادى الثانية 1382، الموافق لـ 02 نوفمبر 1962م، وحضرها كل رجال الدولة والسفراء ووفود الدول العربية..من بين فقراتها: "يا معشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك". فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطرتم إليه، وما أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها".
(4) مجزرة قام بها الجنرال بيليسي الفرنسي ضد قبيلة أولاد رياح، التي التجأت إلى المغارة فراراً من بطش جيش الاحتلال، فأحرق داخلها خنقاً بالدخان والنار 1200 شخصاً مع دوابّهم وأنعامهم عام 1845م.
‏١٣‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٨:٤٠ م‏
رؤية للعمل م. أحمد مولانا [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] مع اشتداد موجة الثورات المضادة التي ضربت بلدان الربيع العربي، وتبجح الأنظمة الاستبدادية ببلاد العالم الإسلامي في ممارسة المزيد من تبديد الثروات، وتدمير المقدرات، والبطش بكل من يعترض على سياساتها. صار أبرز سؤال يطرحه المهتمون بأمر الأمة ما العمل؟ وماذا نفعل؟! وسبق في عدة مقالات أن تناولت مفردات تشكل رؤية للعمل في الواقع الحالي، وفي هذا المقال سأجمع المحاور الأساسية لتلك الرؤية بحيث تكون واضحة في ذهن القارئ، بينما يستطيع من يود قراءة المزيد من التفاصيل والأمثلة مراجعة المقالات السابقة . وتلك المحاور هي: 1- صناعة الوعي. 2- التطوير الذاتي والمبادرة الفردية. 3- تنسيق وتوحيد الجهود لا الجماعات. - صناعة الوعي في ظل أجواء التراجع والانكسار تروج أطروحات الاستسلام، فالبعض يرى شراسة الأعداء، والثمن الضخم الذي تدفعه الشعوب المسلمة طلباً للتحرر، فييأس من إمكانية التغيير، ويدعو للاستسلام باعتباره أخف الأضرار. بينما يطرح آخرون أطروحات انسحابية تتمثل في الدعوة للاهتمام بقضايا فلسفية وفكرية بعيدة عن لب المعركة، واعتزال أي صراع مع الأنظمة، فهذا أحفظ للأرواح، وأبعد عن استثارة الخصوم والأعداء. هذه الأطروحات في الحقيقة تهدر كافة مكتسبات حقبة الربيع العربي، والتي من ضمنها اتضاح خريطة الخصوم، ومكونات الصف الإسلامي نفسه، وواقع الأمة عموماً، وانحيازات كل طرف، وأهدافه الحقيقية. ولذا فمن المهم في هذه المرحلة دحض تلك الأطروحات، والحفاظ على الوعي الذي تكون بمشقة وثمن باهظ خلال الأحداث، وتغذيته دائماً، ومنع الردة للخلف إلى وضع كنا نثق فيه بخصومنا مثلما كان الموقف في مصر تجاه الجيش قبل الانقلاب، أو نرمز فيه رموزاً صُنعت على أعين الأعداء أو تقودنا فيه قيادات متكلسة. إن هذا الوعي يمكن أن نواصل صناعته سواء بأنفسنا عبر الكتابة والنقاشات واللقاءات المباشرة، وتشجيع الأصدقاء والمعارف على قراءة الكتب المفيدة التي تشرح لهم الواقع، وتبين تاريخه وخلفياته وتطوراته. أو عبر غيرنا من خلال دعم الشخصيات الجيدة والواعية، وذلك بحث الآخرين على القراءة لهم، والتعرف على أفكارهم. إذ نجد غالباً الشخصيات الانتهازية والمتمحورة حول ذاتها تعكف على التصدر وفرض نفسها، بينما الشخصيات الجيدة كثيراً ما تتوارى حرجاً وحياء، حتى تعوذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جلد الفاجر وعجز الثقة. - التطوير الذاتي والمبادرة الفردية إن العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى والدول القوية والجماعات الكبيرة بمفردهم، إنما دخل المشهد لاعبون جدد أصغر لهم القدرة على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفرض أمر واقع على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الإعلامية أو السياسية أو الأمنية والعسكرية. فنحن نعيش في ظل تطورات تقنية، وتراجع في سيطرة الأنظمة القمعية على المجال العام، مما يمكن الافراد من التأثير والفعل مهما كانت إمكاناتهم محدودة، طالما توافرت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار على تقديم شيء نافع. وهذا يتطلب من المرء أن يطور ذاته، وينمي مهاراته، ثم يختار بعض الثغور الشاغرة، ويسعى لسدها. وهذه الثغور تتنوع تنوعاً هائلاً مثلما يتنوع الأشخاص وتختلف مهاراتهم. (فهناك من يملك عقلية شمولية تؤهله للرؤية الكلية للمشهد ورسم الاستراتيجيات المحكمة، وهناك من يملك فهماً دقيقاً وذاكرة قوية تؤهله لأن يكون مشروع عالم في الشريعة يتصدر للإفتاء في النوازل والمستجدات، وهناك من يملك كاريزما وقدرة على الأداء الإعلامي المميز والتأثير في عموم الجماهير، وهناك من يملك سمات تؤهله لأن يكون مربياً ناجحاً يشرف على بناء الأفراد وتكوين الكوادر والارتقاء بهم، وهناك من يجيد لغات أجنبية تتيح له ترجمة مجالات لم تترجم للعربية حتى اليوم، مثل علوم الاستخبارات المتنوعة ومكافحة التمرد، وهناك من يملك شغفاً هندسياً وقدرة على الابتكار والاختراع لمعدات وأجهزة وبرامج تضيق الفجوة التقنية بيننا وبين الغرب.. وهناك من لا يملك أي ميزة ذاتية عقلية أو علمية، ولكنه يستطيع أن يفيد النماذج السابقة عبر أمواله أو دوائر علاقاته الواسعة التي تتيح فتح مسارات رعاية وعمل أمام الأصناف السابقة). - توحيد الجهود لا الجماعات. يبرهن الواقع الحالي على افتقاد أي إدارة مركزية تقدم رؤية وتصيغ حلولاً للأزمات. بينما الأعداء ينسقون جهودهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية ضمن غرف عمليات مشتركة. وهذه المفارقة يمكن حل معضلتها عبر مستويين: الأول: محور رأسي متعلق بالقيادات الإسلامية ذات الخط التغييري على الجملة، من خلال تنسيق أنشطتها، وتكميل بعضها لبعض، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متماسكة وجيدة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية وشعبية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وعسكرية ..إلخ. الثاني: محور أفقي متعلق بعموم الأفراد، ويجري خلاله تأسيس أعمال مشتركة بين عناصر التيار الإسلامي لا تعتمد على البعد الفئوي أو الانتماء التنظيمي، وتهدف لتحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة لمواجهة غياب المركزية. وبالتوازي مع العمل على بناء مركزيات داعمة، وتصدير رموز في مناطق الشتات المختلفة لمواجهة حملات الاستئصال، وتجفيف المنابع البشرية، وتصفية الرموز التي نتعرض لها بعنف منذ بدء موجة الثورات المضادة. وأحسب أن هذا سيربط بين محور صناعة الوعي، ومحور التطوير الذاتي والمبارد الفردية، لتقدم المحاور الثلاثة معاً رؤية يمكن العمل عبرها فضلاً عن تطويرها، للقضاء على حالة التيه والجمود التي تضرب جنبات التيارات الإسلامية حالياً.
رؤية للعمل
م. أحمد مولانا

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

مع اشتداد موجة الثورات المضادة التي ضربت بلدان الربيع العربي، وتبجح الأنظمة الاستبدادية ببلاد العالم الإسلامي في ممارسة المزيد من تبديد الثروات، وتدمير المقدرات، والبطش بكل من يعترض على سياساتها. صار أبرز سؤال يطرحه المهتمون بأمر الأمة ما العمل؟ وماذا نفعل؟!
وسبق في عدة مقالات أن تناولت مفردات تشكل رؤية للعمل في الواقع الحالي، وفي هذا المقال سأجمع المحاور الأساسية لتلك الرؤية بحيث تكون واضحة في ذهن القارئ، بينما يستطيع من يود قراءة المزيد من التفاصيل والأمثلة مراجعة المقالات السابقة . وتلك المحاور هي:
1- صناعة الوعي.
2- التطوير الذاتي والمبادرة الفردية.
3- تنسيق وتوحيد الجهود لا الجماعات.
- صناعة الوعي
في ظل أجواء التراجع والانكسار تروج أطروحات الاستسلام، فالبعض يرى شراسة الأعداء، والثمن الضخم الذي تدفعه الشعوب المسلمة طلباً للتحرر، فييأس من إمكانية التغيير، ويدعو للاستسلام باعتباره أخف الأضرار. بينما يطرح آخرون أطروحات انسحابية تتمثل في الدعوة للاهتمام بقضايا فلسفية وفكرية بعيدة عن لب المعركة، واعتزال أي صراع مع الأنظمة، فهذا أحفظ للأرواح، وأبعد عن استثارة الخصوم والأعداء.
هذه الأطروحات في الحقيقة تهدر كافة مكتسبات حقبة الربيع العربي، والتي من ضمنها اتضاح خريطة الخصوم، ومكونات الصف الإسلامي نفسه، وواقع الأمة عموماً، وانحيازات كل طرف، وأهدافه الحقيقية. ولذا فمن المهم في هذه المرحلة دحض تلك الأطروحات، والحفاظ على الوعي الذي تكون بمشقة وثمن باهظ خلال الأحداث، وتغذيته دائماً، ومنع الردة للخلف إلى وضع كنا نثق فيه بخصومنا مثلما كان الموقف في مصر تجاه الجيش قبل الانقلاب، أو نرمز فيه رموزاً صُنعت على أعين الأعداء أو تقودنا فيه قيادات متكلسة.
إن هذا الوعي يمكن أن نواصل صناعته سواء بأنفسنا عبر الكتابة والنقاشات واللقاءات المباشرة، وتشجيع الأصدقاء والمعارف على قراءة الكتب المفيدة التي تشرح لهم الواقع، وتبين تاريخه وخلفياته وتطوراته. أو عبر غيرنا من خلال دعم الشخصيات الجيدة والواعية، وذلك بحث الآخرين على القراءة لهم، والتعرف على أفكارهم. إذ نجد غالباً الشخصيات الانتهازية والمتمحورة حول ذاتها تعكف على التصدر وفرض نفسها، بينما الشخصيات الجيدة كثيراً ما تتوارى حرجاً وحياء، حتى تعوذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جلد الفاجر وعجز الثقة.
- التطوير الذاتي والمبادرة الفردية
إن العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى والدول القوية والجماعات الكبيرة بمفردهم، إنما دخل المشهد لاعبون جدد أصغر لهم القدرة على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفرض أمر واقع على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الإعلامية أو السياسية أو الأمنية والعسكرية. فنحن نعيش في ظل تطورات تقنية، وتراجع في سيطرة الأنظمة القمعية على المجال العام، مما يمكن الافراد من التأثير والفعل مهما كانت إمكاناتهم محدودة، طالما توافرت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار على تقديم شيء نافع.
وهذا يتطلب من المرء أن يطور ذاته، وينمي مهاراته، ثم يختار بعض الثغور الشاغرة، ويسعى لسدها. وهذه الثغور تتنوع تنوعاً هائلاً مثلما يتنوع الأشخاص وتختلف مهاراتهم. (فهناك من يملك عقلية شمولية تؤهله للرؤية الكلية للمشهد ورسم الاستراتيجيات المحكمة، وهناك من يملك فهماً دقيقاً وذاكرة قوية تؤهله لأن يكون مشروع عالم في الشريعة يتصدر للإفتاء في النوازل والمستجدات، وهناك من يملك كاريزما وقدرة على الأداء الإعلامي المميز والتأثير في عموم الجماهير، وهناك من يملك سمات تؤهله لأن يكون مربياً ناجحاً يشرف على بناء الأفراد وتكوين الكوادر والارتقاء بهم، وهناك من يجيد لغات أجنبية تتيح له ترجمة مجالات لم تترجم للعربية حتى اليوم، مثل علوم الاستخبارات المتنوعة ومكافحة التمرد، وهناك من يملك شغفاً هندسياً وقدرة على الابتكار والاختراع لمعدات وأجهزة وبرامج تضيق الفجوة التقنية بيننا وبين الغرب.. وهناك من لا يملك أي ميزة ذاتية عقلية أو علمية، ولكنه يستطيع أن يفيد النماذج السابقة عبر أمواله أو دوائر علاقاته الواسعة التي تتيح فتح مسارات رعاية وعمل أمام الأصناف السابقة).
- توحيد الجهود لا الجماعات.
يبرهن الواقع الحالي على افتقاد أي إدارة مركزية تقدم رؤية وتصيغ حلولاً للأزمات. بينما الأعداء ينسقون جهودهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية ضمن غرف عمليات مشتركة. وهذه المفارقة يمكن حل معضلتها عبر مستويين:

الأول: محور رأسي متعلق بالقيادات الإسلامية ذات الخط التغييري على الجملة، من خلال تنسيق أنشطتها، وتكميل بعضها لبعض، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متماسكة وجيدة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية وشعبية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وعسكرية ..إلخ.

الثاني: محور أفقي متعلق بعموم الأفراد، ويجري خلاله تأسيس أعمال مشتركة بين عناصر التيار الإسلامي لا تعتمد على البعد الفئوي أو الانتماء التنظيمي، وتهدف لتحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة لمواجهة غياب المركزية. وبالتوازي مع العمل على بناء مركزيات داعمة، وتصدير رموز في مناطق الشتات المختلفة لمواجهة حملات الاستئصال، وتجفيف المنابع البشرية، وتصفية الرموز التي نتعرض لها بعنف منذ بدء موجة الثورات المضادة.

وأحسب أن هذا سيربط بين محور صناعة الوعي، ومحور التطوير الذاتي والمبارد الفردية، لتقدم المحاور الثلاثة معاً رؤية يمكن العمل عبرها فضلاً عن تطويرها، للقضاء على حالة التيه والجمود التي تضرب جنبات التيارات الإسلامية حالياً.
‏١٢‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٢:١٠ ص‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
حمّل مجاناً: جميع ما صدر من أعداد مجلة كلمة حق، والهدايا التي نُشرت معها:

العدد الأول
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_01

العدد الثاني
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_02

العدد الثالث
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_03

العدد الرابع
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_04

العدد الخامس
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_05

العدد السادس
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_06

العدد السابع
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_07

العدد الثامن
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_08

العدد التاسع
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_09

العدد العاشر
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_10

العدد الحادي عشر
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_11

العدد الثاني عشر
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_12

العدد الثالث عشر
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_13

العدد الرابع عشر
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_14

هدية 1: ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_Book_01

هدية 2: مختصر كتاب تشريح الثورة
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_Book_02

هدية 3: مختصر كتاب في خضم المعركة
https://archive.org/details/KalimatHaqMagazine_Book_03
‏١٠‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٨:٣٨ م‏
ضَفدعة الأسود: الطعنة النجلاء في ظهر الثورة كرم الحفيان [حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE] مقدمة مع بداية العام 2018م، كثر الحديث عن ظاهرة "الضفادع" في الثورة السورية، والضفادع هم: دعاة التصالح أو العودة إلى سلطة النظام. وترجع التسمية للشيخ "بسام ضفدع"، أحد سكان بلدة كفربطنا (بالغوطة الشرقية بدمشق)، وصاحب الدور الخطير في ضعضعة صفوف الثوار، قبل سقوط الغوطة الشرقية بالكامل في أبريل 2018م. هذه الحادثة لم تكن الأولى ولا الأخيرة، فقد سبقتها مناطق بريف دمشق والقلمون، وتبعتها بؤر في ريف حمص الشمالي و درعا والقنيطرة. استخدم الضفدع مسارين متوازين، الأول: التشجيع على حتمية العودة إلى "حضن" النظام، مستغلاً حالة هلع الأهالي، والفوضى أثناء هولوكوست الطيران الروسي. والثاني: اختراق الثوار عبر تجنيد مقاتلين من داخل صفوفهم ليطعنوهم في الخاصرة، ويرشدوا قوات النظام أثناء دخولهم. ومع تعدد مقدمات الظهور "القوي "للضفادع في بعض المناطق، ك: اختراق النظام للفصائل، ووجود موالين للنظام في المجالس المحلية والمجتمعات، إضافةً إلى التجويع والحصار الخانق لبعض المناطق، ناهيك عن وحشية القصف الروسي الحارق للأخضر واليابس، وانتهاءً بحالة التفرق السائدة في العمل الثوري، إلا أن السبب الأكثر موضوعية لقفز الضفادع واستئسادهم هو: تخوين أو "ضفدعة أسود الثورة". والتخوين الذي نعنيه هنا، هو ذاك الذي ترتب عليه إطلاق نار كثيف (لا إطلاق ألسنة فقط) في معارك داخلية ملتهبة، امتدت لشهور، وبعضها لسنوات، داخل المدن والبلدات الحاضنة للثورة، وأدت لإضعاف القوة العسكرية للثورة، وتراجع شعبيتها، وانحسار دوائر الدعم السورية (داخلياً وخارجياً) والإسلامية، المادية منها والمعنوية. أما إطلاق الألسنة بتهم الخيانة والعمالة، تارة بحق، وتارات بالظنون والافتراءات، فمع الأسف، موجود بصورة ملفتة، في غالب الأجسام والأوساط الثورية . وهو من أكبر الأمراض المجتمعية، الناشئة عن البعد عن السلوك والروح والثقافة الإسلامية الأصيلة. الموجة الأولى للمصالحات بدأت في منتصف 2014م ، وجاءت بعد ستة أشهر من بدء أول اقتتال داخلي كبير، كان طرفاه: غالب فصائل الثورة في مواجهة تنظيم الدولة، ونتج عنه بعد شهور معدودة: - مقتل آلاف المقاتلين من الجانبين. - اعتزال الآلاف للقتال وخروجهم من سورية. - التحاق عشرات الآلاف بداعش من الداخل والخارج. - تقطيع أوصال الجغرافيا الثورية، بعد سيطرة داعش على البادية الشامية والشرق، وقطعها لطرق الإمداد البشرية والمادية، التي كانت تربط الشمال والشرق بالجنوب (قرابة 75% من الأرض السورية). - سلب أبرز الموارد الاقتصادية للثورة (حقول النفط في شرق سورية). ومنذ ذلك الحين لم تتعافَ الثورة، ولم ترجع كما كانت من قبل. بدايةً خُوّن الجيش الحر بأكمله، ثم اتُّهمت الجبهة الإسلامية بالعمالة للخارج، وفي النهاية رُميت جبهة النصرة بالكفر. سنتطرق لثلاثة فقط من أبرز وأكبر الفصائل التي "ضُفدعت" من داعش، ودخلت في مواجهات عنيفة معها، وجميعها كانت ضمن "الجبهة الإسلامية": لواء التوحيد وصقور الشام وأحرار الشام. لواء التوحيد: أكبر فصيل في الشمال وقتها، وهو من قام بتحرير أغلب محافظة حلب، مدينةً وريفاً، ومؤسسه عبد القادر الصالح (حجي مارع): أيقونة الثورة السورية، وآسر قلوب الثوار . أنفق كل ماله لتسليح الثورة، واشتهر بدعوته وتواضعه وحسن خلقه. وقد طالته سهام تكفير وتخوين داعش قبل موته ، وقبيل نشوب الفتن بفترة قصيرة. نجح لواء التوحيد في طرد داعش من حلب وريفها، إلا أنه استُنزف بشدة وضعف كثيراً، ولم يعد كما كان. ألوية صقور الشام: من أكبر الفصائل وقتها، ولها دور كبير في بدء الجهاد، وتحرير مناطق واسعة خاصة بمحافظة إدلب، وبالأخص منطقة جبل الزاوية، المكونة من سلسلة جبلية وعرة، وتعد (بقراها ال360) المأرز التاريخي، والحصن الحصين، لثوار سورية. وقائدها أبو عيسى الشيخ، من أسرة تعج بالمجاهدين، وتتوارث الجهاد. فهو: مجاهد ابن شهيد وأب وشهيد وأخٌ لأربعة شهداء ، وقريب لعشرات الشهداء. بالرغم من ذلك لم يسلم هو وجماعته من التخوين والضفدعة. وفي سيناريو شبيه لما حدث مع لواء التوحيد، أزاح الصقور داعش من كل مناطقهم، ولكن بعد أن فقدوا أغلب قوتهم، وكان قبلها قد انشق عنهم أحد أقوى ألويتهم: لواء داوود لينضم لداعش لاحقاً . حركة أحرار الشام: أول جماعة إسلامية مسلحة تعلن عن نفسها في الثورة، يونيو 2011م، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء الثورة. وهي من أكثر الفصائل مساهمةً في تحرير المناطق على كامل التراب السوري. وكان لها وجود قوي في أغلب المناطق. ورغم الخلفية الجهادية لأغلب عناصرها فإنها بعد تعديل مجموعة من أهم أفكارها أثناء الثورة، ومع استقطابها لأغلب الكوادر السورية المتعلمة والمثقفة، وانفتاحها على غيرها من الجماعات والعلماء والمفكرين، غيرت تموضعها من جماعة سلفية جهادية، إلى حركة إسلامية شعبية، وأصبح قادتها رموزا ثورية عامة، حتى خارج سورية. وقد دخلت في صراع عنيف مع داعش، قُتل على إثره مئات من عناصرها، وانشقت مجموعات كاملة تابعة لها لتلتحق بداعش. إذن، فالمسألة لم تكن مجرد اقتتال عابر، وإنما حرب مستعرة، نتج عنها اعتزال الكثيرين للقتال وتركهم للجهاد، وانشقاقات ثم إنضمام لداعش. قد لا يصدق البعض، أن إصداراً مرئياً واحداً مؤيداً لداعش، مدته أقل من نصف ساعة، أحدث بلبلة في صفوف المقاتلين وشكك البعض بقادتهم وجهادهم. هذا الإصدار: "الصارم الحسام في كشف ردة صحوات الشام" نُشر في بداية الاقتتال، وانتشر انتشار النار في الهشيم بين المجاهدين، وقد حوى تصريحات ومعلومات وأخباراً متفرقة ومقتطعة، تم جمعها بطريقة معينة للوصول لاستنتاج أن: جميع الفصائل التابعة للجبهة الإسلامية ولهيئة أركان الجيش الحر مرتدين وعملاء للدول الكافرة، وذلك لتلقيهم دعماً من بعض الدول، وإجرائهم للقاءات تطمينية مع وفود غربية، إضافة إلى رغبة بعضهم بقيام دولة مدنية ديمقراطية في سورية . ورغم نجاح الفصائل الثورية في الجولة الأولى من توجيه ضربات شبه قاتلة لداعش في ميدان القتال وفي مدة وجيزة جداً، فإن داعش استطاعت استيعاب الصدمة، وتجميع قواتها في مدينة الرقة شرق سورية، ثم شنت حملة إعلامية أمنية متزامنة، استطاعت من خلالها "ضفدعة" الكثير من قادة الثورة، وفي نفس الوقت، نفذت سلسلة كبيرة جداً من الاغتيالات والتفجيرات، ونجحت بقتل عدد كبير من القادة الميدانيين والشرعيين في شتى الفصائل. لا يخفى على المتابعين، أن الصف الأول لداعش يختلف عن سائر الفصائل الثورية. فقيادة داعش لم يكونوا أشخاصاً مدنيين عاديين حملوا السلاح في الثورة، ولا معتقلين إسلاميين سابقين، ولا حتى جهاديين عابرين للحدود، إنما كانوا "رجال دولة" بالمصطلح السياسي المعاصر، فغالب قادتها المتنفذين، كانوا ضباطاً (وبعضهم كبار) في جيش ومخابرات دولة البعث العراقي ، وهي دولة أمنية بوليسية شمولية من الطراز الأول، تجيد تشويه وتصفية خصومها. ورغم تعافي الثورة جزئياً، وخاصة في الشمال، بعد تشكيل تحالف جيش الفتح مارس 2015م، الذي فُتح عليه بمساحات لا بأس بها في محافظة إدلب، وبعض أرياف حماة، فإن التدخل الروسي في 30 سبتمبر من نفس العام، إضافة إلى آثار الطعنة الأولى والأكبر في الجسد الثوري، كانا أكبر من استعادة الثورة لتألقها. فبعد سيطرة داعش على البادية، بقي المدد مقطوعاً عن المناطق الوسطى والجنوبية، ودخل بعضها في حصار مميت (ثم تهجير للشمال)، والبعض الآخر في مصالحات مذلة. وشهد العام 2017 الموجة الثانية من "الضفدعة" النارية لأهم فصائل الثورة في الشمال من طرف هيئة تحرير الشام، فوقعت مواجهات دامية، واقتتالات متتالية، أدت (مع أسباب أخرى) لتقهقر الثورة وخسارتها لمئات القرى وعديد المناطق. خاتمة لطالما كانت إستراتيجية الدول وأجهزة الاستخبارات في القضاء على الثورات وحركات المقاومة، هي: التصفية الجسدية للأشخاص المؤثرين في قيادة العمل، ثم محاولة إيصال من زرعتهم في صفوف المقاومة إلى المفاصل والمناصب القيادية للعمل الثوري، لتستخدمهم في اتخاذ القرارات وتوجيه الأحداث بما يخدم مشروع إجهاض الثورات. أما الإستراتيجة الجديدة فتبدو أكثر تعقيداً، وتتمثل بالتركيز على تدمير شخصيات القادة البارزين للثورة، قبل القضاء المادي عليهم، كيما لا تبقى أي قدوة عملية للشباب المجاهد. وقد كُررت هذه العملية كثيراً خلال المحطات المتعاقبة للثورة السورية. واُستخدمت هذه الإستراتيجية بطريقة تدل على: إحاطة الدول المعادية للثورات وللأمة، بالتفاصيل الدقيقة لأنماط وآليات التفكير عند الكثير من التيارات "الجهادية المعاصرة" وعند بعض الناس. فمجرد نشر الأخبار والصور والتحليلات، المخونة لقادة وفصائل الثورة (مهما بلغت تضحياتهم)، كفيلٌ بإشعال محرقة داخل صفوف الثوار، تؤدي في نهاية المطاف، ليس فقط إلى ظهور الضفادع، بل إلى استئسادهم، ما لم تتغير هذه العقلية.
ضَفدعة الأسود: الطعنة النجلاء في ظهر الثورة

كرم الحفيان

[حمل العدد الجديد http://bit.ly/2C98QYC وهدية العدد http://bit.ly/2orVZXE]

مقدمة

مع بداية العام 2018م، كثر الحديث عن ظاهرة "الضفادع" في الثورة السورية، والضفادع هم: دعاة التصالح أو العودة إلى سلطة النظام. وترجع التسمية للشيخ "بسام ضفدع"، أحد سكان بلدة كفربطنا (بالغوطة الشرقية بدمشق)، وصاحب الدور الخطير في ضعضعة صفوف الثوار، قبل سقوط الغوطة الشرقية بالكامل في أبريل 2018م. هذه الحادثة لم تكن الأولى ولا الأخيرة، فقد سبقتها مناطق بريف دمشق والقلمون، وتبعتها بؤر في ريف حمص الشمالي و درعا والقنيطرة.

استخدم الضفدع مسارين متوازين، الأول: التشجيع على حتمية العودة إلى "حضن" النظام، مستغلاً حالة هلع الأهالي، والفوضى أثناء هولوكوست الطيران الروسي. والثاني: اختراق الثوار عبر تجنيد مقاتلين من داخل صفوفهم ليطعنوهم في الخاصرة، ويرشدوا قوات النظام أثناء دخولهم.

ومع تعدد مقدمات الظهور "القوي "للضفادع في بعض المناطق، ك: اختراق النظام للفصائل، ووجود موالين للنظام في المجالس المحلية والمجتمعات، إضافةً إلى التجويع والحصار الخانق لبعض المناطق، ناهيك عن وحشية القصف الروسي الحارق للأخضر واليابس، وانتهاءً بحالة التفرق السائدة في العمل الثوري، إلا أن السبب الأكثر موضوعية لقفز الضفادع واستئسادهم هو: تخوين أو "ضفدعة أسود الثورة".

والتخوين الذي نعنيه هنا، هو ذاك الذي ترتب عليه إطلاق نار كثيف (لا إطلاق ألسنة فقط) في معارك داخلية ملتهبة، امتدت لشهور، وبعضها لسنوات، داخل المدن والبلدات الحاضنة للثورة، وأدت لإضعاف القوة العسكرية للثورة، وتراجع شعبيتها، وانحسار دوائر الدعم السورية (داخلياً وخارجياً) والإسلامية، المادية منها والمعنوية.

أما إطلاق الألسنة بتهم الخيانة والعمالة، تارة بحق، وتارات بالظنون والافتراءات، فمع الأسف، موجود بصورة ملفتة، في غالب الأجسام والأوساط الثورية . وهو من أكبر الأمراض المجتمعية، الناشئة عن البعد عن السلوك والروح والثقافة الإسلامية الأصيلة.

الموجة الأولى للمصالحات بدأت في منتصف 2014م ، وجاءت بعد ستة أشهر من بدء أول اقتتال داخلي كبير، كان طرفاه: غالب فصائل الثورة في مواجهة تنظيم الدولة، ونتج عنه بعد شهور معدودة:

- مقتل آلاف المقاتلين من الجانبين.

- اعتزال الآلاف للقتال وخروجهم من سورية.

- التحاق عشرات الآلاف بداعش من الداخل والخارج.

- تقطيع أوصال الجغرافيا الثورية، بعد سيطرة داعش على البادية الشامية والشرق، وقطعها لطرق الإمداد البشرية والمادية، التي كانت تربط الشمال والشرق بالجنوب (قرابة 75% من الأرض السورية).

- سلب أبرز الموارد الاقتصادية للثورة (حقول النفط في شرق سورية).

ومنذ ذلك الحين لم تتعافَ الثورة، ولم ترجع كما كانت من قبل.

بدايةً خُوّن الجيش الحر بأكمله، ثم اتُّهمت الجبهة الإسلامية بالعمالة للخارج، وفي النهاية رُميت جبهة النصرة بالكفر.

سنتطرق لثلاثة فقط من أبرز وأكبر الفصائل التي "ضُفدعت" من داعش، ودخلت في مواجهات عنيفة معها، وجميعها كانت ضمن "الجبهة الإسلامية": لواء التوحيد وصقور الشام وأحرار الشام.

لواء التوحيد: أكبر فصيل في الشمال وقتها، وهو من قام بتحرير أغلب محافظة حلب، مدينةً وريفاً، ومؤسسه عبد القادر الصالح (حجي مارع): أيقونة الثورة السورية، وآسر قلوب الثوار . أنفق كل ماله لتسليح الثورة، واشتهر بدعوته وتواضعه وحسن خلقه. وقد طالته سهام تكفير وتخوين داعش قبل موته ، وقبيل نشوب الفتن بفترة قصيرة. نجح لواء التوحيد في طرد داعش من حلب وريفها، إلا أنه استُنزف بشدة وضعف كثيراً، ولم يعد كما كان.

ألوية صقور الشام: من أكبر الفصائل وقتها، ولها دور كبير في بدء الجهاد، وتحرير مناطق واسعة خاصة بمحافظة إدلب، وبالأخص منطقة جبل الزاوية، المكونة من سلسلة جبلية وعرة، وتعد (بقراها ال360) المأرز التاريخي، والحصن الحصين، لثوار سورية. وقائدها أبو عيسى الشيخ، من أسرة تعج بالمجاهدين، وتتوارث الجهاد. فهو: مجاهد ابن شهيد وأب وشهيد وأخٌ لأربعة شهداء ، وقريب لعشرات الشهداء. بالرغم من ذلك لم يسلم هو وجماعته من التخوين والضفدعة. وفي سيناريو شبيه لما حدث مع لواء التوحيد، أزاح الصقور داعش من كل مناطقهم، ولكن بعد أن فقدوا أغلب قوتهم، وكان قبلها قد انشق عنهم أحد أقوى ألويتهم: لواء داوود لينضم لداعش لاحقاً .

حركة أحرار الشام: أول جماعة إسلامية مسلحة تعلن عن نفسها في الثورة، يونيو 2011م، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء الثورة. وهي من أكثر الفصائل مساهمةً في تحرير المناطق على كامل التراب السوري. وكان لها وجود قوي في أغلب المناطق. ورغم الخلفية الجهادية لأغلب عناصرها فإنها بعد تعديل مجموعة من أهم أفكارها أثناء الثورة، ومع استقطابها لأغلب الكوادر السورية المتعلمة والمثقفة، وانفتاحها على غيرها من الجماعات والعلماء والمفكرين، غيرت تموضعها من جماعة سلفية جهادية، إلى حركة إسلامية شعبية، وأصبح قادتها رموزا ثورية عامة، حتى خارج سورية. وقد دخلت في صراع عنيف مع داعش، قُتل على إثره مئات من عناصرها، وانشقت مجموعات كاملة تابعة لها لتلتحق بداعش.

إذن، فالمسألة لم تكن مجرد اقتتال عابر، وإنما حرب مستعرة، نتج عنها اعتزال الكثيرين للقتال وتركهم للجهاد، وانشقاقات ثم إنضمام لداعش. قد لا يصدق البعض، أن إصداراً مرئياً واحداً مؤيداً لداعش، مدته أقل من نصف ساعة، أحدث بلبلة في صفوف المقاتلين وشكك البعض بقادتهم وجهادهم.

هذا الإصدار: "الصارم الحسام في كشف ردة صحوات الشام" نُشر في بداية الاقتتال، وانتشر انتشار النار في الهشيم بين المجاهدين، وقد حوى تصريحات ومعلومات وأخباراً متفرقة ومقتطعة، تم جمعها بطريقة معينة للوصول لاستنتاج أن: جميع الفصائل التابعة للجبهة الإسلامية ولهيئة أركان الجيش الحر مرتدين وعملاء للدول الكافرة، وذلك لتلقيهم دعماً من بعض الدول، وإجرائهم للقاءات تطمينية مع وفود غربية، إضافة إلى رغبة بعضهم بقيام دولة مدنية ديمقراطية في سورية .

ورغم نجاح الفصائل الثورية في الجولة الأولى من توجيه ضربات شبه قاتلة لداعش في ميدان القتال وفي مدة وجيزة جداً، فإن داعش استطاعت استيعاب الصدمة، وتجميع قواتها في مدينة الرقة شرق سورية، ثم شنت حملة إعلامية أمنية متزامنة، استطاعت من خلالها "ضفدعة" الكثير من قادة الثورة، وفي نفس الوقت، نفذت سلسلة كبيرة جداً من الاغتيالات والتفجيرات، ونجحت بقتل عدد كبير من القادة الميدانيين والشرعيين في شتى الفصائل.

لا يخفى على المتابعين، أن الصف الأول لداعش يختلف عن سائر الفصائل الثورية. فقيادة داعش لم يكونوا أشخاصاً مدنيين عاديين حملوا السلاح في الثورة، ولا معتقلين إسلاميين سابقين، ولا حتى جهاديين عابرين للحدود، إنما كانوا "رجال دولة" بالمصطلح السياسي المعاصر، فغالب قادتها المتنفذين، كانوا ضباطاً (وبعضهم كبار) في جيش ومخابرات دولة البعث العراقي ، وهي دولة أمنية بوليسية شمولية من الطراز الأول، تجيد تشويه وتصفية خصومها.

ورغم تعافي الثورة جزئياً، وخاصة في الشمال، بعد تشكيل تحالف جيش الفتح مارس 2015م، الذي فُتح عليه بمساحات لا بأس بها في محافظة إدلب، وبعض أرياف حماة، فإن التدخل الروسي في 30 سبتمبر من نفس العام، إضافة إلى آثار الطعنة الأولى والأكبر في الجسد الثوري، كانا أكبر من استعادة الثورة لتألقها. فبعد سيطرة داعش على البادية، بقي المدد مقطوعاً عن المناطق الوسطى والجنوبية، ودخل بعضها في حصار مميت (ثم تهجير للشمال)، والبعض الآخر في مصالحات مذلة.

وشهد العام 2017 الموجة الثانية من "الضفدعة" النارية لأهم فصائل الثورة في الشمال من طرف هيئة تحرير الشام، فوقعت مواجهات دامية، واقتتالات متتالية، أدت (مع أسباب أخرى) لتقهقر الثورة وخسارتها لمئات القرى وعديد المناطق.

خاتمة

لطالما كانت إستراتيجية الدول وأجهزة الاستخبارات في القضاء على الثورات وحركات المقاومة، هي: التصفية الجسدية للأشخاص المؤثرين في قيادة العمل، ثم محاولة إيصال من زرعتهم في صفوف المقاومة إلى المفاصل والمناصب القيادية للعمل الثوري، لتستخدمهم في اتخاذ القرارات وتوجيه الأحداث بما يخدم مشروع إجهاض الثورات.

أما الإستراتيجة الجديدة فتبدو أكثر تعقيداً، وتتمثل بالتركيز على تدمير شخصيات القادة البارزين للثورة، قبل القضاء المادي عليهم، كيما لا تبقى أي قدوة عملية للشباب المجاهد. وقد كُررت هذه العملية كثيراً خلال المحطات المتعاقبة للثورة السورية. واُستخدمت هذه الإستراتيجية بطريقة تدل على: إحاطة الدول المعادية للثورات وللأمة، بالتفاصيل الدقيقة لأنماط وآليات التفكير عند الكثير من التيارات "الجهادية المعاصرة" وعند بعض الناس. فمجرد نشر الأخبار والصور والتحليلات، المخونة لقادة وفصائل الثورة (مهما بلغت تضحياتهم)، كفيلٌ بإشعال محرقة داخل صفوف الثوار، تؤدي في نهاية المطاف، ليس فقط إلى ظهور الضفادع، بل إلى استئسادهم، ما لم تتغير هذه العقلية.
‏٠٩‏/٠٩‏/٢٠١٨ ١٠:٥٥ م‏
الافتتاحية.. العوائق الأربعة أمام عقل التحرر والمقاومة محمد إلهامي [لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: bit.ly/2C98QYC] نحن في صراع مع النظام العالمي الذي بناه الغرب، وهذا النظام أنتج أفكاره وقيمه ومعاييره وجعلها ثقافة عالمية غالبة، يرسخ لها بسلاحه ونفوذه السياسي كما يرسخ لها بقوته الإعلامية والفكرية، وبقدر ما تترسخ أفكاره بقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه، وبقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه بقدر ما تنتشر وتهيمن أفكاره. والمحنة التي يعانيها الفكر الإسلامي منذ مائتي سنة (التي هي عمر التفوق الغربي وهيمنته على بلادنا) هي محنته مع هذه الثقافة الغربية الغالبة، وانقسام المدارس الفكرية الإسلامية هو في الواقع انقسامها في استجابتها لهذا التحدي، فهناك من سعى للتوفيق والمصالحة وهناك من سعى للرفض والمواجهة، وفي كلٍّ درجات ومنازل وأطياف من الثبات ومن الانحراف. وإن أمر التحرر والمقاومة هو من صميم هذه المحنة العاتية.. فإن أقصى ما تريده الثقافة الغربية الغالبة أن يعتنقها أولئك المهزومون الضعفاء ليكونوا من أبنائها (أو بالأحرى: عبيدها)، ومن ثم فلن يفكروا في المقاومة أصلا بل سيعتبرون لحظة احتلالهم هي لحظة الفتح الغربي لبلادهم! كذلك فإن أقصى ما تريده الثقافة الإسلامية أن تعود الأمة إلى دينها الصافي الأول كما نزل على نبيها دون شوائب ودون تأثر بالمكونات الأجنبية الدخيلة التي جاءت من عصور التخلف والاحتلال.. لهذا كله فإن المقاومة والتحرر والثورة هي في النهاية علامة على مدى نجاح المعركة بين الثقافتين والحضارتين: الغالبة والمغلوبة، فما دامت الأمة تقاوم وتسعى للتحرر فهي لا تزال وفية لنفسها ودينها وتاريخها، أما حيث فقدت روح المقاومة والتحرر فإنها تعبر عن مرحلة احتضار مفزعة. لكن الأمر ليس دائما بهذا الوضوح، ليس المشهد منقسما بين متغربين يمارسون الدعوة للحضارة الغربية وإسلاميين يمارسون الكفاح والمقاومة والتحرر، لقد وُلِد من رحم المدرسة الفكرية التي سعت للإصلاح وبفعل أزمنة الاستضعاف ظواهر من دعاة ومفكرين ونخبة محسوبة على المدرسة الإسلامية لكنها تعتنق أصول الحضارة الغربية، بل وتمارس ما ترى أنه "تجديد" في الفقه والتراث الإسلامي، وهي في صف الثورات عموما، وفي صف المعارضة للأنظمة الحاكمة، لكن البديل الذي تدعو إليه والمجتمع الذي تنشده هو صورة من البديل والمجتمع والنظام الغربي. أولئك لا يرون مشكلة أمتنا في الاستضعاف والاحتلال وحكم العملاء بقدر ما يرونها في تراثنا الفقهي ومسيرتنا التاريخية وإنتاجنا الحضاري، وأشد ما يزعجهم ويسيطر على كتابتهم هي المسائل التي تمثل تناقضا بين الحضارتين كقضايا المرأة وأحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة والحدود (وبالذات: حد الردة وحد الرجم)، ويرون أن أصل المشكلات إنما هي ما فعله معاوية، وبعضهم يمدها إلى الحسن بن علي باعتباره أول من تخلى عن الشرعية السياسية تحت وطأة الضرورة (رغم أن النبي مدح فعل الحسن!!)، وبعضهم يمدها إلى سقيفة بني ساعدة، وبعضهم انصب تجديده على الأصول يحاول تفكيك المناهج الإسلامية المستقرة التي اجتمع عليها العلماء في الاستنباط والتعامل مع النصوص، وبعضهم يجدد اللغة لتفكيك معاني ومفاهيم المصطلحات القرآنية والنبوية المستقرة ليُخرجها من دلالاتها التي استقر عليها فهم المسلمين وبُنيت عليها الأحكام، وبعضهم يحاول التفلت برفع راية المقاصد التي لا تستنبط من الأحكام بل تهدر الأحكام وتخرقها، فكأن المقاصد فوق الأحكام وليست ثمرة لها! النقاش مع هؤلاء يطول في المجال الفكري، لأن لهم آثارا فكرية مريعة ومدمرة، وقد ذكرنا في مقال سابق (bit.do/elh1) كيف أن مهمتهم فاشلة، إلا أن الذي يهمنا الآن هو آثارهم المدمرة في باب المقاومة والتحرر والكفاح الذي تخوضه الأمة. أولئك يجمع بينهم القول بأن الأمة ضلت في باب السياسة منذ معاوية أو منذ الحسن أو حتى منذ أبي بكر، وهم بهذا لا تفصلهم عن العلمانيين المتغربين سوى خطوة فكرية واحدة، كما لا تفصلهم عن الشيعة سوى نصف خطوة، فالعلمانيون يقولون ليس في الإسلام نظام سياسي وهؤلاء يقولون فيه نظام سياسي لكن لم يُطبَّق أبدا أو لم يُطبَّق سوى خمس عشرة سنة! والشيعة يقولون: كفر الصحابة وغيروا وبدلوا وأولئك يقولون: لم يكفروا ولكن غيروا وبدلوا وانتصرت عليهم شهوات النفس ومطامع الدنيا.. كذلك يجمع بينهم التعامل مع الديمقراطية والمنتج السياسي الغربي باعتباره أرقى ما توصلت إليه البشرية في تطورها، فهو إن لم يكن الحكمة التي علينا طلبها من أي أحد فهي على الأقل الحكمة التي فاتت صحابتنا وفقهاءنا وتراثنا وفارقت تاريخنا منذ بدأ وحتى الآن!! وهذه النتيجة أفتك ما يصيب روح أمة وهي في مرحلة التحرر والكفاح والمقاومة، فليس يكافح إلا الذي ينطلق من إيمان جازم بأنه على حق وأنه يملك البديل الأحق لهذا الظلم الذي انطلق يواجهه، وحيث ليس لدينا نظام سياسي فإن غاية ما نفعله حتى لو انتصرنا أن نطبق النظام الغربي ونستورده. أي أن هذه المدرسة (وهي بالمناسبة أكثر المدارس "الإسلامية" تمتعا بالأموال والشهرة الإعلامية الآن) تضرب عقيدة المقاتل وثقته بنفسه ورؤيته لنفسه بأنه من خير أمة، ثم تأخذ به ليتلقى الدروس في مصانع الحكمة الغربية التي يواجهها! والمشكلة أن بعضا من حركات التحرر والمقاومة تتأثر بإنتاج هذه المدرسة لما ترى من رموزها من المواقف الثورية والمعارضة للواقع الحاضر، وإني أشهد فيما أراه على الانترنت وفيما أراه من الواقع كثيرا من الطاقات التي تعطلت، وبعضهم وصل الحال به إلى أن ارتد أو ألحد أو تشكك، وكان في يوم ما من الطاقات الثائرة الباسلة التي كادت تفقد حياتها في مواطن ثورية. كذلك أشهد خطابات لجهات وكيانات محسوبة على الثورات قد فقدت روحها الإسلامية الثائرة والمعتزة وصارت تميل إلى اللغة السياسية التي تكثر فيها الاستدراكات والاحترازات. وهذا ما يجعل الأمانة ثقيلة ثقيلة ثقيلة على من وهبهم الله شيئا في باب التفكير والتنظير ونشر الوعي لترشيد المقاومة، وفي محاولة مني لوضع خطة أمام هؤلاء الذين تحملوا هذه الأمانة للقيام بها في باب التحرر والمقاومة وجدت أن الأمر يتلخص في أربعة عوائق رئيسية: الأولى: معرفة حكم الإسلام في المسألة مع التخلص التام من ضغط الواقع وسطوة الثقافة الغالبة. الثانية: معرفة موقع هذا الحكم من المنظومة العامة للإسلام، وكيف سار تطبيقه في التاريخ الإسلامي، والمراحل التي مرَّ بها. الثالثة: معرفة رؤية الحضارة الغربية لهذه المسألة نفسها في كتابات المنظرين والمفكرين والفلاسفة، وموقعها ضمن المنظومة الفكرية الغربية العامة. الرابعة: معرفة التطبيق الغربي لهذه الفكرة في الواقع العملي، وهل جرى تطبيقها في نفس السياق الذي أراده الفلاسفة والمفكرون حين أنتجوها أم أن الفكرة المبهرة التي صيغت في الكتب لم يكن لها مجال واقعي، وظلت كاللعبة يُشار إليها للفت نظر الصبيان وتغرير المغفلين وإلهائهم؟! إذا اكتملت في العقل هذه الأمور الأربعة اتضح طريق الهداية والنور لحركة المقاومة والتحرر أولا، ثم لسائر الحركة الفكرية التي تقاوم في ثغور الكتابة والتنظير والتفكير. سنضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح الصورة، وسنختاره من أشهر الشبهات التي تروج في إنتاج هذه المدرسة، وسنختارها من الشبهات المتعلقة بالجهاد والمقاومة والثورة: [1] تُزَيَّن الديمقراطية الغربية باعتبارها النظام الذي منح الشعوب حقوق الاعتراض، ومنع السلطة من الظلم وغلَّ يدها عنه، في مقابل التراث الفقهي والنصوص التي شرعنت الظلم وشلَّت الأمة عن الاعتراض عليه، كما في الحديث "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". لتفكيك هذه الفكرة ينبغي تجاوز العوائق الأربعة: فهم حكم الإسلام في هذه الطاعة للأمير الظالم، ثم فهم كيف جرى تطبيق هذا الأمر في تاريخ المسلمين، ثم البحث عن رأي الفكر الغربي في هذه الطاعة، ثم البحث عن التطبيق العملي لهذه الفكرة في التاريخ الغربي الحديث. 1 . سنجد أولا أن علماء الحديث مختلفون في صحة هذه الزيادة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" فبعضهم يقول هي صحيحة، وبعضهم يقول: هي ضعيفة لا يؤخذ بها. سنمضي الآن مع من قالوا إنها صحيحة، فسنجد الفقهاء مختلفين في تنزيلها على قولين؛ الأول: أن الحاكم إذا ضرب ظهرك في عقوبة شرعية كحد الجلد في السرقة أو في الخمر وإذا أخذ مالك شرعا كالزكاة فتلك من حقوقه التي لا يجوز لك أن تخرج عليه بسببها بل تظل على الطاعة والولاء واحترام النظام، والثاني: أن الحاكم إذا ظلمك فضرب ظهرك وأخذ مالك فلا ينبغي أن يثور بك الغضب فلا تقدر عواقب الخروج عليه، بل إن كانت المصلحة في الصبر واحتمال الأذى منه أكبر من المفسدة المترتبة على الثورة والخروج عليه فاحتسب ذلك عند الله واصبر. وهكذا نجد معنى السمع والطاعة للأمير الظالم في أدنى حالاته يساوي معنى احتمال الأذى الخاص رعاية للمصلحة العامة. 2 . فإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، وكيف فهم المسلمون الأوائل هذا النص وعملوا به، وجدنا أنفسنا أمام طوفان من الثورات والتمردات، لا سيما في الصدر الأول، وهم خير القرون وهم كذلك أفقه الأمة، فلقد سعى الأكثرون في تغيير المنكر بالسيف وإن لم يتيقنوا من قدرتهم على تغييره، وأكثر الصحابة إما قاتل مع علي أو مع معاوية ومن اعتزل فإنما اعتزل لأنه لم يتبين له الحق، وسائر الأئمة الكبار تعرضوا لغضب السلاطين وكثير منهم أنشب ثورة أو شارك فيها أو حرض عليها أو أفتى بما يدعمها، وهذا أمر يطول استقصاؤه، حتى قال الشهرستاني بأن مسألة الإمامة (أي: أمر السياسة) هو أكثر ما سُلَّ فيه السيف في الإسلام. أي أنك أمام أمة ثائرة حتى إنه ليمكن تفسير الفقه المصلحي الداعي إلى السمع والطاعة في القرون المتأخرة بأنه رد فعل على نتائج الثورات التي لم ينجح أغلبها (كما هي سيرة كل ثورات البشر في كل تاريخ البشر) فكانوا أقرب إلى التهدئة، وهو ما يظهر في قول ابن حجر المشهور بأن الخروج "مذهب للسلف قديم". والمعنى الذي نريد قوله هنا إن المسلمون لم يتحولوا بهذا النص إلى عبيد لمن حكمهم وتغلب عليهم، ولعل دولة الأمويين هي الدولة التي واجهت أكبر عدد من الثورات في تاريخ الإسلام، وهي أول دولة ظهر فيها الحاكم المتغلب (عبد الملك بن مروان)، برغم إنجازاتها هائلة في الفتوح ونشر الإسلام ووحدة الأمة من الصين حتى فرنسا. 3 . فإذا حاولنا استطلاع وفهم هذه المسألة في الفكر القانوني الغربي، الذي يُعرض لنا كواحة للعدالة في مقابل تراثنا المظلم، وجدنا عجبا.. إن المدارس القانونية الغربية تُلْزِم بطاعة القوانين غير العادلة، لأن إتاحة الخروج عليها لكل من يرى أنها غير عادلة يساوي اختلال النظام واضطراب الدولة، أي أن الفكر القانوني الغربي يُنَظِّر ويُشَرْعِن لفكرة "تسمع وتطيع للنظام وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". هذا فضلا عن أن أصل نظرية السيادة في الفكر الغربي إنما تؤول عمليا إلى مراكز القوى (أي: المتغلب) في لحظة كتابة الدستور، أي أن المتغلب القوي هو الذي يصنع نظرية السيادة أولا ثم يصوغها في دستور ثم تتفرع عنه القوانين، التي تكون كلها ملزمة للشعوب ولا يجوز لهم خرقها ولو كان رأيهم أنها غير عادلة. ومن فضلك لا تنسَ أن المتغلب في التاريخ الإسلامي لم يكن يستطيع أن يغير المرجعية العليا الحاكمة (القرآن والسنة) ولا كان يستطيع –ولو توفرت له القدرة- أن يتغول على المساحات المجتمعية التي يتولاها العلماء والأعيان وغيرهم، لأنها محروسة أيضا بنصوص مقدسة. 4 . فإذا ذهبنا إلى متابعة الواقع الغربي في تطبيق هذه الفكرة، فسنجد أن التاريخ الغربي كان مخلصا في فرض القوانين بالقهر والقوة، وفي مقاتلة الخارجين عليها مهما كانت مبرراتهم أنها غير عادلة، بل ولما تغيرت الظروف وتغيرت هذه القوانين وحصل الاعتراف بأنها لم تكن عادلة لم يحصل ردُّ الاعتبار للقتلى ولا تعويض المضارين الذين ثاروا أساسا على هذه القوانين التي اتضح بالفعل أنها غير عادلة. (انظر تفصيل هذا في هذا المقال (bit.do/elh2) للشيخ الفذ الأسير: إبراهيم السكران، سجين آل سعود، فرج الله عنه.. ففيه طواف في المدارس القانونية والوقائع التاريخية الغربية). وهكذا مع تفكيك هذه العوائق الأربعة نصل بوضوح إلى أن الديمقراطية المعاصرة لا تتميز لا من حيث النظر ولا من حيث التطبيق على الشريعة الإسلامية، بل هي أدنى وأحط، لأن المستقر عندها "الخضوع للنظام ولقوانينه غير العادلة" هو المختلف فيه لدى الفقهاء، بل هو مساوٍ لأدني تفسيرتهم للطاعة رعاية للمصلحة العامة.. فضلا عن أمور أخرى كثيرة. [2] تُعْرض الديمقراطية المعاصرة في ثوبها اللطيف المُزَيَّن باعتبارها النظام الذي أنتج تداولا سلميا للسلطة، يذهب رئيس ويأتي رئيس، في حين ارتكست مسيرتنا الحضارية منذ لحظة تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة رعاية لمصلحة الأمة ففرط بهذا في الحق الذي معه تحت وطأة الضرورة، وهو ما أدى إلى استمرار التوريث الذي لا زال ينكبنا حتى هذه اللحظة. لنفكك هذا الكلام في ظل العوائق الأربعة التي ذكرناها: 1 . فمن حيث حكم الإسلام فنحن أمام اتفاق معروف بأن منصب الإمامة منوط باختيار الأمة، فتركه النبي ولم يُسَمِّ من بعده خليفة لكي لا يكون نصب الخليفة نصا شرعيا، وهكذا قال أبو بكر في أول خطبته، وهكذا سار العمل في زمن الراشدين.. ومنتهى القول في هذه المسألة أن مسألة التوريث هذه لم يقبلها الصحابة وكبار التابعين في زمن معاوية إلا تحت وطأة الاضطرار والخوف من وقوع الفتنة إذ يتعذر جمع الناس على خليفة يرضون به جميعا، فسَلَّموا بأن تحكم العصبة الأقوى المؤهلة لقيادة الأمة، مع بقاء الحكم الشرعي نفسه واضحا يردده الفقهاء منذ وُجِدوا إلى زماننا هذا. أي أن الإسلام لم يشرعن التوريث، لم يحض عليه، بل ولا يقبل به إلا في حالة الاضطرار والضرورة.. هذا من حيث حكم الإسلام نفسه.. وهذا في وقتٍ كانت كل أنظمة الدنيا ملكية وراثية من الصين حتى غرب أوروبا، فالإسلام لم يكن متأثرا بالواقع الأرضي بل كان متفوقا عليه ومبتكرا لنظام تختار فيه الأمة من يحكمها، وهي الفكرة التي كان مجرد طرحها في بلاط ملكي يثير الضحك ويلقي بصاحبها في الموت متهما بالجنون!! أما من حيث إن التوريث هو سبب نكبة الأمة الآن، ففي هذا اختلاف شديد جدا، ولا يُسَلَّم بهذا القول، فالأمة عاشت حضارتها التي ازدهرت وكانت قوة عظمى عالمية ألف سنة في ظل الملك العضوض والتوريث، ككل أمم الدنيا شرقا وغربا وككل حضارات الدنيا التي ازدهرت في ظل النظام الملكي الوراثي. وقد احتلنا الغرب ونهبنا وقهرنا منذ كانوا في نظامهم الملكي الوراثي بداية من إسبانيا الكاثوليكية التي افتتحت عصر الكشوف الجغرافية. ثم إن أمتنا منكوبة الآن على يد الملوك والعسكر الجمهوريين معا، فالنكبة تعم من ورثوا أولادهم ومن لم يورثوا. 2. العائق الثاني: كيف سار هذا الوضع في التاريخ الإسلامي؟ والإجابة: سار مسيرة الأمر الواقع الذي يسوق إليه الاضطرار، والذي لا يلقى استسلاما من بقية الأمة، بل سيرة الثورات والتمردات مستمرة، مع بقاء الضمير العام متطلعا إلى نظام الخلافة الراشدة، ومع استمرار المحاولات بقدر ما أتاحت الظروف والإمكانات، ومن وقف بجانب الملوك إنما وقف بجانب استقرار النظام وتقديم مصلحة الأمة. 3. فما هو موقع موضوع التوريث من الفكر الغربي؟ والإجابة: أنه لم تخرج فكرة التمرد على النظام الملكي نفسه وصناعة النظام الجمهوري ليحكم دولا كبيرة إلا قبل قرون قليلة (قرنان أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر)، وما قبل ذلك إنما كان الحكم الديمقراطي علامة على المدن الصغيرة سواء أكانت مدن اليونان قديما (والتي انتهت تحت جحافل الرومان) أو المدن الإيطالية في العصر الوسيط والتي انتهت أيضا تحت جحافل الملوك أو البابوات.. ولذلك ظلت فكرة الحكم الديمقراطي نفسها وإن نجحت في إدارة الشأن الداخلي إلا أنها عاجزة عن التوسع والتمدد والنجاح في دولة كبيرة بل وظلت عاجزة عن حماية نفسها من تغول الدول الكبيرة المجاورة. وهكذا ظل نظام التوريث الملكي هو النظام السائد في الفكر والتطبيق التاريخي في أوروبا إلى ما قبل عصر الثورات الجمهورية التي يؤرخ لها بالثورة الفرنسية (قبل حوالي قرنين فقط). على أنه يُنازَع أيضا، وبقوة، في أن مسألة رفض الملكية والتوريث كانت تطورا فكريا وارتقاء غربيا في مدارج الإنسانية، بل الأمر مزيج من عوامل اقتصادية وسياسية ودينية صنعت شكل الدولة الحديثة ضد الكنيسة والملكية والإقطاع (هذا المقال (bit.do/elh3) مجرد مثال يثبت أن المسألة لم تكن أفكارا). 4. فما هو موقع موضوع التوريث من التطبيق الغربي؟ والإجابة: أن هذا أيضا موضع شك كبير، ففي كثير جدا من المؤلفات الغربية حديث متكرر عن أن الديمقراطية وتداول السلطة هو مجرد مسرحية تدور أمام الشعوب بينما تتحكم بها مراكز القوى الحقيقية والخفية.. تلك هي مراكز الأموال الضخمة التي تملك تمويل وتسيير وإنتاج وإخراج المسرحية السياسية، يستدلون على ذلك بكثير من الشواهد منها: أن السياسة فعليا لا تتغير مع تبدل الرؤساء إلا كما يغير أحدهم ثوبه، وأن العائلات الغنية الكبرى لا تزال هي التي تتوارث المال منذ أربعة قرون فكأنها هي العائلات الملكية التي فضَّلت ألا تكون في واجهة المسرح وقدَّمت بدلا منها عرائس تحركها من الخلف. وحركة الإنتاج الفكري التي تتحدث عن السيطرة المالية الاقتصادية على السياسة كلها –تقريبا، وفيما أعلم- تؤول إلى الحديث عن مراكز القوى الحقيقية الخفية وشبكات المصالح والسيطرة التي لا تتغير بالانتخابات، ولا تُستدعى أمام البرلمان، ولا تحاكمها وسائل الإعلام.. بل كل هذه الأمور إنما هي وسائلها التي تتحكم بها في المشهد. إن الحديث أن الغرب بالديمقراطية المعاصرة تجاوز التوريث ووصل إلى تداول حقيقي للسلطة هو أمر مُتَنَازع فيه ومختلف فيه بقوة. وقد سجل صحافي أمريكي مشاهدات خطيرة في كتابه ذي العنوان الكاشف "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها". والمقصود من كل ما سبق: أن التوريث الذي يُعيروننا به لم يكن شرعا بل كان اضطرارا، وليس هو بنفسه سبب النكبة (إذ حضارات العالم القديم ازدهرت في ظل أنظمة ملكية وراثية)، كما أن الغرب لم يتخلص عمليا من التوريث، وهذا التداول في السلطة مشكوك في حقيقته من الغربيين أنفسهم. [3] وأختم بهذا المثال، ولن أطيل فيه فقد طال المقال: يُعيّروننا بأحكام الجهاد التي فيها جهاد الطلب، ويرون أنه اعتداء وعدوان على الأمم الأخرى ولو كانت مسالمة، بينما جاء النظام العالمي بسيادة الدول ومنع الآخرين من التدخل في شؤونها. 1. فأما حكم الإسلام في المسألة نفسها فهو متعلق بمسألة "هل الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى: السلم أم الحرب"، فالجمهور على أنه السلم وقال الشافعية بأنه الحرب، وفي المسألة تفاصيل كثيرة ليس هذا موضعها، لكنها جعلت بعض المعاصرين يجعلون المسألة على العكس فيقولون بأن الجمهور على أنها الحرب أو على أنها الدعوة.. ويُطلب الأمر في كتب الفقه لكن الذي نقصده الآن أن المسألة فيها خلاف بين الفقهاء. ومنبع هذا الخلاف –فيما أرى- أن وقائع السيرة والتاريخ تحتمل الرأيين، فمن طبائع الواقع أن الباطل لا يطيق وجود حق إلى جواره، فسرعان ما تنشب بينهما المعركة.. ومن ثم فإن غزوات النبي وفتوحات الراشدين حين تُحلَّل فقيها فإنها لا تخلو من سبب عدائي من الطرف الآخر، ويأتي الخلاف من تقدير الفقهاء: هل لو لم يقع هذا السبب العدائي كانت ستتحرك الجيوش للغزو والفتح أم لا. على كل حال هو نقاش نظري.. لكن المضمون العملي الكامن فيه هو: هل على الدولة الإسلامية مسؤولية أخلاقية لإنقاذ الشعوب الأخرى من الظلم والاضطهاد الواقع عليها من الأنظمة الباطشة؟ فيكون الفتح إنقاذا لها ولو لم يقع من هذا النظام الباطش بشعبه خطر على المسلمين والدولة الإسلامية؟ 2. العائق الثاني: كيف جرى تطبيق هذا في تاريخ الإسلام؟ والإجابة: سبقت خلاصتها في السطور السابقة.. فقد توسعت دولة الإسلام توسعا كبيرا وغزت جيوشها أطراف الصين وحتى جنوب فرنسا، ووصلت إلى موسكو شمالا وإلى وسط إفريقيا جنوبا.. وكانت –كما نرى ونعتقد- أوسع عملية تحرير للشعوب في تاريخ البشر، ونحن الفاتحون الذين أقاموا العواصم الحضارية في أقصى الشرق والشمال وفي أقصى الغرب والجنوب بينما قصص الاحتلال هي قصص امتصاص موارد البلاد ودماء الشعوب لتتضخم عواصم الإمبراطورية.. وفي عموم التاريخ الإسلامي كانت عواصم الشرق والغرب أزهى حضاريا من مكة والمدينة وأحيانا أيضا: بغداد ودمشق (وهي عواصم الدولة الإسلامية). 3. العائق الثالث: كيف يرى الغرب مسألة جهاد الطلب؟ والإجابة: وثائق المنظمات الأممية فضلا عن إنتاجات المفكرين حافلة بأن الغرب لديه مسؤولية أخلاقية في نشر ما يراه حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية. 4. العائق الرابع: كيف كان تطبيق جهاد الطلب عمليا في التاريخ الغربي؟ والإجابة: سل خمسة قرون تبدأ من الإسبان في عصر الكشوف الجغرافية وحتى لحظة قراءتك لهذا المقال: عن استعمار إفريقيا والأمريكتين واتخاذ ملايين البشر عبيدا وطواف السفن من ماجلان وكولومبوس حتى القواعد العسكرية البحرية في المحيطات والبحار حول العالم.. الجواب واضح. إنما المأساة هنا في أن ترى "مفكرا" ينادي على الغرب (يسميه: المجتمع الدولي) أن يتدخل لإنقاذ شعب من حاكمه الجلاد، كما في سوريا مثلا، ويرى في توجيه الضربات العسكرية للنظام ومساندة الثورة عليه عملا جليلا وإنسانيا ونبيلا.. ثم هو هو نفسه يريد أن "يجدد" الإسلام فيحذف جهاد الطلب لأنه لا يناسب المعايير المعاصرة والتقدم الإنساني الذي وصلت إليه البشرية!! لئن كنتَ ترى أن تدخل القوي لإنقاذ الضعيف واجب إنساني.. فما الذي جعله بردا وسلاما للأمريكان ووثائق المنظمات الدولية حرًّا ونارا على المسلمين وتراثهم الفقهي؟!! الخلاصة: أكثر تشغيبات الذين يريدون "تجديد" الإسلام وتنقيح تراثه الفقهي وتطويره بما يتلاءم مع العصر هم في الحقيقة منسحقون أمام الثقافة الغالبة، ومن شدة انسحاقهم تشوهت لديهم معرفة ثقافتهم ومعرفة الثقافة الغالبة معا.. وهذا أمر لا بد لا بد لا بد أن تتحرر منه حركات المقاومة والتحرر، فلا مقاومة ولا تحرر إلا بنفسية تؤمن بأنها الأصلح والأحق وأنها على الخير والهدى، وحتى يتحقق ذلك فالأمانة التي على واجب العلماء والفقهاء والمفكرين والكتاب أن يحللوا كل مسألة في ضوء هذه العوائق الأربعة لتتضح الصورة التي نؤمن بها أننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا جند الله وقدره الغالب ولو بعد حين!
الافتتاحية.. العوائق الأربعة أمام عقل التحرر والمقاومة
محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
bit.ly/2C98QYC]

نحن في صراع مع النظام العالمي الذي بناه الغرب، وهذا النظام أنتج أفكاره وقيمه ومعاييره وجعلها ثقافة عالمية غالبة، يرسخ لها بسلاحه ونفوذه السياسي كما يرسخ لها بقوته الإعلامية والفكرية، وبقدر ما تترسخ أفكاره بقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه، وبقدر ما يترسخ نفوذه وسلاحه بقدر ما تنتشر وتهيمن أفكاره.

والمحنة التي يعانيها الفكر الإسلامي منذ مائتي سنة (التي هي عمر التفوق الغربي وهيمنته على بلادنا) هي محنته مع هذه الثقافة الغربية الغالبة، وانقسام المدارس الفكرية الإسلامية هو في الواقع انقسامها في استجابتها لهذا التحدي، فهناك من سعى للتوفيق والمصالحة وهناك من سعى للرفض والمواجهة، وفي كلٍّ درجات ومنازل وأطياف من الثبات ومن الانحراف.

وإن أمر التحرر والمقاومة هو من صميم هذه المحنة العاتية.. فإن أقصى ما تريده الثقافة الغربية الغالبة أن يعتنقها أولئك المهزومون الضعفاء ليكونوا من أبنائها (أو بالأحرى: عبيدها)، ومن ثم فلن يفكروا في المقاومة أصلا بل سيعتبرون لحظة احتلالهم هي لحظة الفتح الغربي لبلادهم! كذلك فإن أقصى ما تريده الثقافة الإسلامية أن تعود الأمة إلى دينها الصافي الأول كما نزل على نبيها دون شوائب ودون تأثر بالمكونات الأجنبية الدخيلة التي جاءت من عصور التخلف والاحتلال..

لهذا كله فإن المقاومة والتحرر والثورة هي في النهاية علامة على مدى نجاح المعركة بين الثقافتين والحضارتين: الغالبة والمغلوبة، فما دامت الأمة تقاوم وتسعى للتحرر فهي لا تزال وفية لنفسها ودينها وتاريخها، أما حيث فقدت روح المقاومة والتحرر فإنها تعبر عن مرحلة احتضار مفزعة.

لكن الأمر ليس دائما بهذا الوضوح، ليس المشهد منقسما بين متغربين يمارسون الدعوة للحضارة الغربية وإسلاميين يمارسون الكفاح والمقاومة والتحرر، لقد وُلِد من رحم المدرسة الفكرية التي سعت للإصلاح وبفعل أزمنة الاستضعاف ظواهر من دعاة ومفكرين ونخبة محسوبة على المدرسة الإسلامية لكنها تعتنق أصول الحضارة الغربية، بل وتمارس ما ترى أنه "تجديد" في الفقه والتراث الإسلامي، وهي في صف الثورات عموما، وفي صف المعارضة للأنظمة الحاكمة، لكن البديل الذي تدعو إليه والمجتمع الذي تنشده هو صورة من البديل والمجتمع والنظام الغربي.

أولئك لا يرون مشكلة أمتنا في الاستضعاف والاحتلال وحكم العملاء بقدر ما يرونها في تراثنا الفقهي ومسيرتنا التاريخية وإنتاجنا الحضاري، وأشد ما يزعجهم ويسيطر على كتابتهم هي المسائل التي تمثل تناقضا بين الحضارتين كقضايا المرأة وأحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة والحدود (وبالذات: حد الردة وحد الرجم)، ويرون أن أصل المشكلات إنما هي ما فعله معاوية، وبعضهم يمدها إلى الحسن بن علي باعتباره أول من تخلى عن الشرعية السياسية تحت وطأة الضرورة (رغم أن النبي مدح فعل الحسن!!)، وبعضهم يمدها إلى سقيفة بني ساعدة، وبعضهم انصب تجديده على الأصول يحاول تفكيك المناهج الإسلامية المستقرة التي اجتمع عليها العلماء في الاستنباط والتعامل مع النصوص، وبعضهم يجدد اللغة لتفكيك معاني ومفاهيم المصطلحات القرآنية والنبوية المستقرة ليُخرجها من دلالاتها التي استقر عليها فهم المسلمين وبُنيت عليها الأحكام، وبعضهم يحاول التفلت برفع راية المقاصد التي لا تستنبط من الأحكام بل تهدر الأحكام وتخرقها، فكأن المقاصد فوق الأحكام وليست ثمرة لها!

النقاش مع هؤلاء يطول في المجال الفكري، لأن لهم آثارا فكرية مريعة ومدمرة، وقد ذكرنا في مقال سابق (
bit.do/elh1) كيف أن مهمتهم فاشلة، إلا أن الذي يهمنا الآن هو آثارهم المدمرة في باب المقاومة والتحرر والكفاح الذي تخوضه الأمة.

أولئك يجمع بينهم القول بأن الأمة ضلت في باب السياسة منذ معاوية أو منذ الحسن أو حتى منذ أبي بكر، وهم بهذا لا تفصلهم عن العلمانيين المتغربين سوى خطوة فكرية واحدة، كما لا تفصلهم عن الشيعة سوى نصف خطوة، فالعلمانيون يقولون ليس في الإسلام نظام سياسي وهؤلاء يقولون فيه نظام سياسي لكن لم يُطبَّق أبدا أو لم يُطبَّق سوى خمس عشرة سنة! والشيعة يقولون: كفر الصحابة وغيروا وبدلوا وأولئك يقولون: لم يكفروا ولكن غيروا وبدلوا وانتصرت عليهم شهوات النفس ومطامع الدنيا.. كذلك يجمع بينهم التعامل مع الديمقراطية والمنتج السياسي الغربي باعتباره أرقى ما توصلت إليه البشرية في تطورها، فهو إن لم يكن الحكمة التي علينا طلبها من أي أحد فهي على الأقل الحكمة التي فاتت صحابتنا وفقهاءنا وتراثنا وفارقت تاريخنا منذ بدأ وحتى الآن!!

وهذه النتيجة أفتك ما يصيب روح أمة وهي في مرحلة التحرر والكفاح والمقاومة، فليس يكافح إلا الذي ينطلق من إيمان جازم بأنه على حق وأنه يملك البديل الأحق لهذا الظلم الذي انطلق يواجهه، وحيث ليس لدينا نظام سياسي فإن غاية ما نفعله حتى لو انتصرنا أن نطبق النظام الغربي ونستورده. أي أن هذه المدرسة (وهي بالمناسبة أكثر المدارس "الإسلامية" تمتعا بالأموال والشهرة الإعلامية الآن) تضرب عقيدة المقاتل وثقته بنفسه ورؤيته لنفسه بأنه من خير أمة، ثم تأخذ به ليتلقى الدروس في مصانع الحكمة الغربية التي يواجهها!

والمشكلة أن بعضا من حركات التحرر والمقاومة تتأثر بإنتاج هذه المدرسة لما ترى من رموزها من المواقف الثورية والمعارضة للواقع الحاضر، وإني أشهد فيما أراه على الانترنت وفيما أراه من الواقع كثيرا من الطاقات التي تعطلت، وبعضهم وصل الحال به إلى أن ارتد أو ألحد أو تشكك، وكان في يوم ما من الطاقات الثائرة الباسلة التي كادت تفقد حياتها في مواطن ثورية. كذلك أشهد خطابات لجهات وكيانات محسوبة على الثورات قد فقدت روحها الإسلامية الثائرة والمعتزة وصارت تميل إلى اللغة السياسية التي تكثر فيها الاستدراكات والاحترازات.

وهذا ما يجعل الأمانة ثقيلة ثقيلة ثقيلة على من وهبهم الله شيئا في باب التفكير والتنظير ونشر الوعي لترشيد المقاومة، وفي محاولة مني لوضع خطة أمام هؤلاء الذين تحملوا هذه الأمانة للقيام بها في باب التحرر والمقاومة وجدت أن الأمر يتلخص في أربعة عوائق رئيسية:

الأولى: معرفة حكم الإسلام في المسألة مع التخلص التام من ضغط الواقع وسطوة الثقافة الغالبة.

الثانية: معرفة موقع هذا الحكم من المنظومة العامة للإسلام، وكيف سار تطبيقه في التاريخ الإسلامي، والمراحل التي مرَّ بها.

الثالثة: معرفة رؤية الحضارة الغربية لهذه المسألة نفسها في كتابات المنظرين والمفكرين والفلاسفة، وموقعها ضمن المنظومة الفكرية الغربية العامة.

الرابعة: معرفة التطبيق الغربي لهذه الفكرة في الواقع العملي، وهل جرى تطبيقها في نفس السياق الذي أراده الفلاسفة والمفكرون حين أنتجوها أم أن الفكرة المبهرة التي صيغت في الكتب لم يكن لها مجال واقعي، وظلت كاللعبة يُشار إليها للفت نظر الصبيان وتغرير المغفلين وإلهائهم؟!

إذا اكتملت في العقل هذه الأمور الأربعة اتضح طريق الهداية والنور لحركة المقاومة والتحرر أولا، ثم لسائر الحركة الفكرية التي تقاوم في ثغور الكتابة والتنظير والتفكير.

سنضرب هنا بعض الأمثلة لتوضيح الصورة، وسنختاره من أشهر الشبهات التي تروج في إنتاج هذه المدرسة، وسنختارها من الشبهات المتعلقة بالجهاد والمقاومة والثورة:

[1]

تُزَيَّن الديمقراطية الغربية باعتبارها النظام الذي منح الشعوب حقوق الاعتراض، ومنع السلطة من الظلم وغلَّ يدها عنه، في مقابل التراث الفقهي والنصوص التي شرعنت الظلم وشلَّت الأمة عن الاعتراض عليه، كما في الحديث "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك".

لتفكيك هذه الفكرة ينبغي تجاوز العوائق الأربعة: فهم حكم الإسلام في هذه الطاعة للأمير الظالم، ثم فهم كيف جرى تطبيق هذا الأمر في تاريخ المسلمين، ثم البحث عن رأي الفكر الغربي في هذه الطاعة، ثم البحث عن التطبيق العملي لهذه الفكرة في التاريخ الغربي الحديث.
1

. سنجد أولا أن علماء الحديث مختلفون في صحة هذه الزيادة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" فبعضهم يقول هي صحيحة، وبعضهم يقول: هي ضعيفة لا يؤخذ بها.

سنمضي الآن مع من قالوا إنها صحيحة، فسنجد الفقهاء مختلفين في تنزيلها على قولين؛ الأول: أن الحاكم إذا ضرب ظهرك في عقوبة شرعية كحد الجلد في السرقة أو في الخمر وإذا أخذ مالك شرعا كالزكاة فتلك من حقوقه التي لا يجوز لك أن تخرج عليه بسببها بل تظل على الطاعة والولاء واحترام النظام، والثاني: أن الحاكم إذا ظلمك فضرب ظهرك وأخذ مالك فلا ينبغي أن يثور بك الغضب فلا تقدر عواقب الخروج عليه، بل إن كانت المصلحة في الصبر واحتمال الأذى منه أكبر من المفسدة المترتبة على الثورة والخروج عليه فاحتسب ذلك عند الله واصبر.

وهكذا نجد معنى السمع والطاعة للأمير الظالم في أدنى حالاته يساوي معنى احتمال الأذى الخاص رعاية للمصلحة العامة.
2

. فإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي، وكيف فهم المسلمون الأوائل هذا النص وعملوا به، وجدنا أنفسنا أمام طوفان من الثورات والتمردات، لا سيما في الصدر الأول، وهم خير القرون وهم كذلك أفقه الأمة، فلقد سعى الأكثرون في تغيير المنكر بالسيف وإن لم يتيقنوا من قدرتهم على تغييره، وأكثر الصحابة إما قاتل مع علي أو مع معاوية ومن اعتزل فإنما اعتزل لأنه لم يتبين له الحق، وسائر الأئمة الكبار تعرضوا لغضب السلاطين وكثير منهم أنشب ثورة أو شارك فيها أو حرض عليها أو أفتى بما يدعمها، وهذا أمر يطول استقصاؤه، حتى قال الشهرستاني بأن مسألة الإمامة (أي: أمر السياسة) هو أكثر ما سُلَّ فيه السيف في الإسلام. أي أنك أمام أمة ثائرة حتى إنه ليمكن تفسير الفقه المصلحي الداعي إلى السمع والطاعة في القرون المتأخرة بأنه رد فعل على نتائج الثورات التي لم ينجح أغلبها (كما هي سيرة كل ثورات البشر في كل تاريخ البشر) فكانوا أقرب إلى التهدئة، وهو ما يظهر في قول ابن حجر المشهور بأن الخروج "مذهب للسلف قديم".

والمعنى الذي نريد قوله هنا إن المسلمون لم يتحولوا بهذا النص إلى عبيد لمن حكمهم وتغلب عليهم، ولعل دولة الأمويين هي الدولة التي واجهت أكبر عدد من الثورات في تاريخ الإسلام، وهي أول دولة ظهر فيها الحاكم المتغلب (عبد الملك بن مروان)، برغم إنجازاتها هائلة في الفتوح ونشر الإسلام ووحدة الأمة من الصين حتى فرنسا.
3

. فإذا حاولنا استطلاع وفهم هذه المسألة في الفكر القانوني الغربي، الذي يُعرض لنا كواحة للعدالة في مقابل تراثنا المظلم، وجدنا عجبا.. إن المدارس القانونية الغربية تُلْزِم بطاعة القوانين غير العادلة، لأن إتاحة الخروج عليها لكل من يرى أنها غير عادلة يساوي اختلال النظام واضطراب الدولة، أي أن الفكر القانوني الغربي يُنَظِّر ويُشَرْعِن لفكرة "تسمع وتطيع للنظام وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". هذا فضلا عن أن أصل نظرية السيادة في الفكر الغربي إنما تؤول عمليا إلى مراكز القوى (أي: المتغلب) في لحظة كتابة الدستور، أي أن المتغلب القوي هو الذي يصنع نظرية السيادة أولا ثم يصوغها في دستور ثم تتفرع عنه القوانين، التي تكون كلها ملزمة للشعوب ولا يجوز لهم خرقها ولو كان رأيهم أنها غير عادلة.

ومن فضلك لا تنسَ أن المتغلب في التاريخ الإسلامي لم يكن يستطيع أن يغير المرجعية العليا الحاكمة (القرآن والسنة) ولا كان يستطيع –ولو توفرت له القدرة- أن يتغول على المساحات المجتمعية التي يتولاها العلماء والأعيان وغيرهم، لأنها محروسة أيضا بنصوص مقدسة.
4

. فإذا ذهبنا إلى متابعة الواقع الغربي في تطبيق هذه الفكرة، فسنجد أن التاريخ الغربي كان مخلصا في فرض القوانين بالقهر والقوة، وفي مقاتلة الخارجين عليها مهما كانت مبرراتهم أنها غير عادلة، بل ولما تغيرت الظروف وتغيرت هذه القوانين وحصل الاعتراف بأنها لم تكن عادلة لم يحصل ردُّ الاعتبار للقتلى ولا تعويض المضارين الذين ثاروا أساسا على هذه القوانين التي اتضح بالفعل أنها غير عادلة. (انظر تفصيل هذا في هذا المقال (bit.do/elh2) للشيخ الفذ الأسير: إبراهيم السكران، سجين آل سعود، فرج الله عنه.. ففيه طواف في المدارس القانونية والوقائع التاريخية الغربية).

وهكذا مع تفكيك هذه العوائق الأربعة نصل بوضوح إلى أن الديمقراطية المعاصرة لا تتميز لا من حيث النظر ولا من حيث التطبيق على الشريعة الإسلامية، بل هي أدنى وأحط، لأن المستقر عندها "الخضوع للنظام ولقوانينه غير العادلة" هو المختلف فيه لدى الفقهاء، بل هو مساوٍ لأدني تفسيرتهم للطاعة رعاية للمصلحة العامة.. فضلا عن أمور أخرى كثيرة.

[2]

تُعْرض الديمقراطية المعاصرة في ثوبها اللطيف المُزَيَّن باعتبارها النظام الذي أنتج تداولا سلميا للسلطة، يذهب رئيس ويأتي رئيس، في حين ارتكست مسيرتنا الحضارية منذ لحظة تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة رعاية لمصلحة الأمة ففرط بهذا في الحق الذي معه تحت وطأة الضرورة، وهو ما أدى إلى استمرار التوريث الذي لا زال ينكبنا حتى هذه اللحظة.

لنفكك هذا الكلام في ظل العوائق الأربعة التي ذكرناها:
1

. فمن حيث حكم الإسلام فنحن أمام اتفاق معروف بأن منصب الإمامة منوط باختيار الأمة، فتركه النبي ولم يُسَمِّ من بعده خليفة لكي لا يكون نصب الخليفة نصا شرعيا، وهكذا قال أبو بكر في أول خطبته، وهكذا سار العمل في زمن الراشدين..

ومنتهى القول في هذه المسألة أن مسألة التوريث هذه لم يقبلها الصحابة وكبار التابعين في زمن معاوية إلا تحت وطأة الاضطرار والخوف من وقوع الفتنة إذ يتعذر جمع الناس على خليفة يرضون به جميعا، فسَلَّموا بأن تحكم العصبة الأقوى المؤهلة لقيادة الأمة، مع بقاء الحكم الشرعي نفسه واضحا يردده الفقهاء منذ وُجِدوا إلى زماننا هذا.

أي أن الإسلام لم يشرعن التوريث، لم يحض عليه، بل ولا يقبل به إلا في حالة الاضطرار والضرورة.. هذا من حيث حكم الإسلام نفسه.. وهذا في وقتٍ كانت كل أنظمة الدنيا ملكية وراثية من الصين حتى غرب أوروبا، فالإسلام لم يكن متأثرا بالواقع الأرضي بل كان متفوقا عليه ومبتكرا لنظام تختار فيه الأمة من يحكمها، وهي الفكرة التي كان مجرد طرحها في بلاط ملكي يثير الضحك ويلقي بصاحبها في الموت متهما بالجنون!!

أما من حيث إن التوريث هو سبب نكبة الأمة الآن، ففي هذا اختلاف شديد جدا، ولا يُسَلَّم بهذا القول، فالأمة عاشت حضارتها التي ازدهرت وكانت قوة عظمى عالمية ألف سنة في ظل الملك العضوض والتوريث، ككل أمم الدنيا شرقا وغربا وككل حضارات الدنيا التي ازدهرت في ظل النظام الملكي الوراثي. وقد احتلنا الغرب ونهبنا وقهرنا منذ كانوا في نظامهم الملكي الوراثي بداية من إسبانيا الكاثوليكية التي افتتحت عصر الكشوف الجغرافية. ثم إن أمتنا منكوبة الآن على يد الملوك والعسكر الجمهوريين معا، فالنكبة تعم من ورثوا أولادهم ومن لم يورثوا.

2. العائق الثاني: كيف سار هذا الوضع في التاريخ الإسلامي؟ والإجابة: سار مسيرة الأمر الواقع الذي يسوق إليه الاضطرار، والذي لا يلقى استسلاما من بقية الأمة، بل سيرة الثورات والتمردات مستمرة، مع بقاء الضمير العام متطلعا إلى نظام الخلافة الراشدة، ومع استمرار المحاولات بقدر ما أتاحت الظروف والإمكانات، ومن وقف بجانب الملوك إنما وقف بجانب استقرار النظام وتقديم مصلحة الأمة.

3. فما هو موقع موضوع التوريث من الفكر الغربي؟ والإجابة: أنه لم تخرج فكرة التمرد على النظام الملكي نفسه وصناعة النظام الجمهوري ليحكم دولا كبيرة إلا قبل قرون قليلة (قرنان أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر)، وما قبل ذلك إنما كان الحكم الديمقراطي علامة على المدن الصغيرة سواء أكانت مدن اليونان قديما (والتي انتهت تحت جحافل الرومان) أو المدن الإيطالية في العصر الوسيط والتي انتهت أيضا تحت جحافل الملوك أو البابوات.. ولذلك ظلت فكرة الحكم الديمقراطي نفسها وإن نجحت في إدارة الشأن الداخلي إلا أنها عاجزة عن التوسع والتمدد والنجاح في دولة كبيرة بل وظلت عاجزة عن حماية نفسها من تغول الدول الكبيرة المجاورة. وهكذا ظل نظام التوريث الملكي هو النظام السائد في الفكر والتطبيق التاريخي في أوروبا إلى ما قبل عصر الثورات الجمهورية التي يؤرخ لها بالثورة الفرنسية (قبل حوالي قرنين فقط).

على أنه يُنازَع أيضا، وبقوة، في أن مسألة رفض الملكية والتوريث كانت تطورا فكريا وارتقاء غربيا في مدارج الإنسانية، بل الأمر مزيج من عوامل اقتصادية وسياسية ودينية صنعت شكل الدولة الحديثة ضد الكنيسة والملكية والإقطاع (هذا المقال (bit.do/elh3) مجرد مثال يثبت أن المسألة لم تكن أفكارا).

4. فما هو موقع موضوع التوريث من التطبيق الغربي؟ والإجابة: أن هذا أيضا موضع شك كبير، ففي كثير جدا من المؤلفات الغربية حديث متكرر عن أن الديمقراطية وتداول السلطة هو مجرد مسرحية تدور أمام الشعوب بينما تتحكم بها مراكز القوى الحقيقية والخفية.. تلك هي مراكز الأموال الضخمة التي تملك تمويل وتسيير وإنتاج وإخراج المسرحية السياسية، يستدلون على ذلك بكثير من الشواهد منها: أن السياسة فعليا لا تتغير مع تبدل الرؤساء إلا كما يغير أحدهم ثوبه، وأن العائلات الغنية الكبرى لا تزال هي التي تتوارث المال منذ أربعة قرون فكأنها هي العائلات الملكية التي فضَّلت ألا تكون في واجهة المسرح وقدَّمت بدلا منها عرائس تحركها من الخلف. وحركة الإنتاج الفكري التي تتحدث عن السيطرة المالية الاقتصادية على السياسة كلها –تقريبا، وفيما أعلم- تؤول إلى الحديث عن مراكز القوى الحقيقية الخفية وشبكات المصالح والسيطرة التي لا تتغير بالانتخابات، ولا تُستدعى أمام البرلمان، ولا تحاكمها وسائل الإعلام.. بل كل هذه الأمور إنما هي وسائلها التي تتحكم بها في المشهد.

إن الحديث أن الغرب بالديمقراطية المعاصرة تجاوز التوريث ووصل إلى تداول حقيقي للسلطة هو أمر مُتَنَازع فيه ومختلف فيه بقوة. وقد سجل صحافي أمريكي مشاهدات خطيرة في كتابه ذي العنوان الكاشف "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها".

والمقصود من كل ما سبق: أن التوريث الذي يُعيروننا به لم يكن شرعا بل كان اضطرارا، وليس هو بنفسه سبب النكبة (إذ حضارات العالم القديم ازدهرت في ظل أنظمة ملكية وراثية)، كما أن الغرب لم يتخلص عمليا من التوريث، وهذا التداول في السلطة مشكوك في حقيقته من الغربيين أنفسهم.

[3]

وأختم بهذا المثال، ولن أطيل فيه فقد طال المقال:

يُعيّروننا بأحكام الجهاد التي فيها جهاد الطلب، ويرون أنه اعتداء وعدوان على الأمم الأخرى ولو كانت مسالمة، بينما جاء النظام العالمي بسيادة الدول ومنع الآخرين من التدخل في شؤونها.

1. فأما حكم الإسلام في المسألة نفسها فهو متعلق بمسألة "هل الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى: السلم أم الحرب"، فالجمهور على أنه السلم وقال الشافعية بأنه الحرب، وفي المسألة تفاصيل كثيرة ليس هذا موضعها، لكنها جعلت بعض المعاصرين يجعلون المسألة على العكس فيقولون بأن الجمهور على أنها الحرب أو على أنها الدعوة.. ويُطلب الأمر في كتب الفقه لكن الذي نقصده الآن أن المسألة فيها خلاف بين الفقهاء.

ومنبع هذا الخلاف –فيما أرى- أن وقائع السيرة والتاريخ تحتمل الرأيين، فمن طبائع الواقع أن الباطل لا يطيق وجود حق إلى جواره، فسرعان ما تنشب بينهما المعركة.. ومن ثم فإن غزوات النبي وفتوحات الراشدين حين تُحلَّل فقيها فإنها لا تخلو من سبب عدائي من الطرف الآخر، ويأتي الخلاف من تقدير الفقهاء: هل لو لم يقع هذا السبب العدائي كانت ستتحرك الجيوش للغزو والفتح أم لا.

على كل حال هو نقاش نظري.. لكن المضمون العملي الكامن فيه هو: هل على الدولة الإسلامية مسؤولية أخلاقية لإنقاذ الشعوب الأخرى من الظلم والاضطهاد الواقع عليها من الأنظمة الباطشة؟ فيكون الفتح إنقاذا لها ولو لم يقع من هذا النظام الباطش بشعبه خطر على المسلمين والدولة الإسلامية؟

2. العائق الثاني: كيف جرى تطبيق هذا في تاريخ الإسلام؟ والإجابة: سبقت خلاصتها في السطور السابقة.. فقد توسعت دولة الإسلام توسعا كبيرا وغزت جيوشها أطراف الصين وحتى جنوب فرنسا، ووصلت إلى موسكو شمالا وإلى وسط إفريقيا جنوبا.. وكانت –كما نرى ونعتقد- أوسع عملية تحرير للشعوب في تاريخ البشر، ونحن الفاتحون الذين أقاموا العواصم الحضارية في أقصى الشرق والشمال وفي أقصى الغرب والجنوب بينما قصص الاحتلال هي قصص امتصاص موارد البلاد ودماء الشعوب لتتضخم عواصم الإمبراطورية.. وفي عموم التاريخ الإسلامي كانت عواصم الشرق والغرب أزهى حضاريا من مكة والمدينة وأحيانا أيضا: بغداد ودمشق (وهي عواصم الدولة الإسلامية).

3. العائق الثالث: كيف يرى الغرب مسألة جهاد الطلب؟ والإجابة: وثائق المنظمات الأممية فضلا عن إنتاجات المفكرين حافلة بأن الغرب لديه مسؤولية أخلاقية في نشر ما يراه حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية.

4. العائق الرابع: كيف كان تطبيق جهاد الطلب عمليا في التاريخ الغربي؟ والإجابة: سل خمسة قرون تبدأ من الإسبان في عصر الكشوف الجغرافية وحتى لحظة قراءتك لهذا المقال: عن استعمار إفريقيا والأمريكتين واتخاذ ملايين البشر عبيدا وطواف السفن من ماجلان وكولومبوس حتى القواعد العسكرية البحرية في المحيطات والبحار حول العالم.. الجواب واضح.

إنما المأساة هنا في أن ترى "مفكرا" ينادي على الغرب (يسميه: المجتمع الدولي) أن يتدخل لإنقاذ شعب من حاكمه الجلاد، كما في سوريا مثلا، ويرى في توجيه الضربات العسكرية للنظام ومساندة الثورة عليه عملا جليلا وإنسانيا ونبيلا.. ثم هو هو نفسه يريد أن "يجدد" الإسلام فيحذف جهاد الطلب لأنه لا يناسب المعايير المعاصرة والتقدم الإنساني الذي وصلت إليه البشرية!!

لئن كنتَ ترى أن تدخل القوي لإنقاذ الضعيف واجب إنساني.. فما الذي جعله بردا وسلاما للأمريكان ووثائق المنظمات الدولية حرًّا ونارا على المسلمين وتراثهم الفقهي؟!!

الخلاصة:

أكثر تشغيبات الذين يريدون "تجديد" الإسلام وتنقيح تراثه الفقهي وتطويره بما يتلاءم مع العصر هم في الحقيقة منسحقون أمام الثقافة الغالبة، ومن شدة انسحاقهم تشوهت لديهم معرفة ثقافتهم ومعرفة الثقافة الغالبة معا.. وهذا أمر لا بد لا بد لا بد أن تتحرر منه حركات المقاومة والتحرر، فلا مقاومة ولا تحرر إلا بنفسية تؤمن بأنها الأصلح والأحق وأنها على الخير والهدى، وحتى يتحقق ذلك فالأمانة التي على واجب العلماء والفقهاء والمفكرين والكتاب أن يحللوا كل مسألة في ضوء هذه العوائق الأربعة لتتضح الصورة التي نؤمن بها أننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا جند الله وقدره الغالب ولو بعد حين!
‏٠٥‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٨:١٧ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 14، من مجلة (كلمة حق)، لشهر سبتمبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: مختصر كتاب في خضم المعركة لـ(عبد الله عزام) لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي bit.ly/2C98QYC لتحميل هدية العدد مختصر كتاب في خضم المعركة، اضغط على الرابط التالي bit.ly/2orVZXE نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام https://t.me/klmtuhaq
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 14، من مجلة (كلمة حق)، لشهر سبتمبر 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: مختصر كتاب في خضم المعركة لـ(عبد الله عزام)

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي
bit.ly/2C98QYC

لتحميل هدية العدد مختصر كتاب في خضم المعركة، اضغط على الرابط التالي
bit.ly/2orVZXE

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٩‏/٢٠١٨ ٩:٢٩ م‏
دروس من بلاد الأفغان (1) حامد عبد العظيم [لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ] "حان الوقت للتحدث مع طالبان". "ليس لدينا خيار". "لقد فشلت الحرب التي دامت 17 عامًا في أفغانستان على كل المستويات". هكذا يقول المحلل والضابط الأمريكي المخضرم دانيال ديفيس والذي أضاف في مقال له: إن تقارير قد ظهرت في الآونة الأخيرة بأن البيت الأبيض يُصدر تعليماته إلى كبار الدبلوماسيين بالبدء في البحث عن محادثات مباشرة مع طالبان، إنه إجراء لم يكن من الممكن تصوره في بداية حرب أفغانستان، لكن هذا اليوم قد طال انتظاره. على الرغم من الانتقادات التي أثارتها، فإن مثل هذه المحادثات تقدم أفضل فرصة لإنهاء أطول حرب في الولايات المتحدة وأكثرها عقمًا". وقال ديفيس الذي قاتل في أفغانستان بوضوح: "إنه في حين أن هناك اتفاقاً واسعاً على أن القادة الأمريكيين كان لديهم ما يبرر إطلاق العمليات العسكرية في أفغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، فإنه من الواضح بشكل مؤلم بعد 17 عاما أن لا أحد لديه أي فكرة عن كيفية إنهاء القتال بشروط عسكرية". وتوصل إلى الحل في نهاية مقاله بقوله إن "الحل الحقيقي لذلك هو سحب قواتنا بأسرع ما يمكن تحقيقه بأمان بدلاً من إلقاء المزيد منهم في صراع غير مثمر"[1]. الحقيقة أن ذلك ليس رأياً فردياً من محلل عسكري وضابط سابق بالجيش الأمريكي، بل هي القناعة التي وصلت إليها الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، فطالبان تقترب من السيطرة على نصف أفغانستان، وازداد نشاطها العسكري للغاية ضد الاحتلال الأمريكي وصنائعه منذ أن أطلقت "عملية الحندق" في شهر أبريل من العام الجاري (2018). وحربها في أفغانستان هي أطول حرب خاضتها أمريكا، أطول من الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية مجتمعة[2]. إنها ليست أطول حرب في أميركا فحسب، بل إنها تأتي أيضًا بتكلفة كبيرة في الدماء والاقتصاد. فقد قُتل ما يقرب من 2200 جندي أمريكي وأصيب أكثر من ذلك من الجرحى. وتقدر تكلفة الحرب بأكثر من تريليون دولار. وهذا وفق الإحصائيات الأمريكية[3]. بينما تقول تقديرات أخرى إن هذه الحرب قد تجاوزت تريليون دولار، وبلغ عدد قتلى القوات الأمريكية 2350 جندياً، إلى جانب 20092 من المصابين وأفراد أسرهم. ويعاني 320 لألف جندي سابق خدموا في العراق وأفغانستان من آثار الإصابة في الرأس، ومن أبرز تداعاياتها الاضطرابات الذهنية والشرود. ومن بين هؤلاء هناك 8237 ممن يعانون من إصابات شديدة في الدماغ إضافة إلى 1645 جندياً فقدوا جميع أو أحد الأطراف. وتشير الإحصاءات إلى أنه خلال عام 2016 أقدم 20 جندياً متقاعداً على الانتحار يومياً حسب إحصاءات المركز الوطني للجنود المتقاعدين. وتشير تقديرات الباحثة في جامعة هارفارد ليندا بلايم إلى أن نفقات الخدمات الطبية لقدماء الحرب ومعاقي الحرب خلال السنوات الأربعين المقبلة ستتجاوز تريليون دولار؛ إذ تدل التجربة أن هذه الكلفة تبلغ حدها الأقصى خلال 30 الى 40 سنة من انتهاء الحرب[4]. إن هذه القناعة التي وصلت إليها الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي تمثلت من عدة أيام في صورة لقاء في العاصمة القَطرية (الدوحة)، بين دبلوماسيين رسميين أمريكيين ومسؤولين من "الإمارة الإسلامية" أو من يصر الإعلام على وصفهم بأنهم مجرد "حركة" تُدعى طالبان. على الرغم من سيطرة "الإمارة الإسلامية" على 59 مقاطعة سيطرة كاملة وبإدارة كاملة منها في كل مرافق الحياة. وكان قد طلب البيت الأبيض رسمياً من الدبلوماسيين الأمريكيين -كما نشرت صحيفة نيوورك تايمز- فتح باب للتفاوض المباشر مع حركة طالبان. وعلقت الصحيفة بأن هذا التحول الكبير في السياسة الأمريكية قد حدث على أمل إنهاء حرب السبعة عشر عاماً[5]. وكانت الحكومة الأفغانية قد عرضت على حركة طالبان الجلوس على مائدة التفاوض، إلا أن طالبان رفضت وقالت للحكومة إننا تتفاوض فقط مع من تتبعون له، وتعني بذلك الولايات المتحدة. لقد كان التحول في السياسة الأمريكية تجاه طالبان مؤخراً بعد أن أدرك المسؤولون الأمريكان والأفغان أن حتى استراتيجية ترامب الجديدة لا تحدث فرقا جوهريا وأن طالبان تكسب على الأرض. فبعد فترة ليست طويلة من توليه منصبه، وافق ترامب على مضض على توفير المزيد من الموارد لقادته الميدانيين الذين يقاتلون حركة طالبان، مضيفا بضعة آلاف من القوات ليصبح مجموع القوات الأمريكية نحو 15000. ولكن بعد مرور عام، ما زالت طالبان تهاجم القوات الأمنية وتسبب خسائر فادحة في صفوفها وتسيطر على مدن جديدة كل يوم. وقد نجحت طالبان في فتح باب من التفاهم مع الحكومة الباكستانية مما أدى إلى زيادة الضغط الأمريكي على باكستان لوقف توفير الملاذ لقيادات طالبان. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، قام كبار المسؤولين الأميركيين بزيارة إلى أفغانستان وباكستان لوضع الأساس لمحادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وطالبان. وزار وزير الخارجية مايك بومبيو لفترة وجيزة العاصمة الأفغانية، كابول، الأسبوع الأول من الشهر الجاري يوليو ٢٠١٨، وأمضت أليس جي. ويلز ، كبيرة الدبلوماسيين في المنطقة، عدة أيام في إجراء محادثات مع اللاعبين الرئيسيين في أفغانستان وباكستان. وذلك قبل أن تلتقي في الدوحة مع مسؤولين في طالبان يوم ٢٦-٧-٢٠١٨. وقال وزير الخارجية بومبيو في تصريح خطير له: "إنه لن يكون هناك شرط مسبق للمحادثات، وأن كل شيء بما في ذلك وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو في أفغانستان، مطروح للمناقشة"[6]. تقول صحيفة نيويورك تايمز: "وقد نما توافق شبه الإجماع بين المسؤولين الأمريكيين والأفغان المشاركين في الجهود السابقة والحالية لإطلاق عملية سلام ، بأن السبيل الوحيد للخروج من الحرب هو أن تقوم الولايات المتحدة بدور أكثر مباشرة في المفاوضات. يعتمد هذا الإدراك على عدة حقائق: أن حركة طالبان هي تمرد عنيد ، وأنهم لن يتراجعوا عن مطلبهم بالتحدث مباشرة مع الأمريكيين... المسؤولون الأمريكان يتحركون بشعور من الإلحاح لأن ترامب أعرب عن إحباطه من الحرب ويريد أن يرى نهايتها... إن سبب فتح المحادثات الأخيرة وفقاً للمسؤولين المشاركين في محاولات المفاوضات السابقة، هو أن جيش الولايات المتحدة يبدو أنه سيكون على متن الطائرة قريباً"... في عام 2011، عندما تحولت إدارة أوباما لأول مرة إلى سياسة إنهاء الحرب من خلال المفاوضات، ظل القادة العسكريون يعتقدون أن بإمكانهم هزيمة طالبان. والآن يحددون هدفهم بشكل أكثر تواضعاً: إيقاف حركة طالبان عن النصر إلى أن يتوصلوا إلى تسوية سياسية. وقال سيث جونز، الذي يرأس مشروع التهديدات العابرة للحدود الوطنية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إن هناك أدلة قليلة على أن كبار قادة طالبان مهتمون بشكل جدي بشروط التسوية المقبولة للمسؤولين الأفغان والأميركيين، وقال: "معظم قادة طالبان يعتقدون أنهم يكسبون الحرب في أفغانستان وأن الوقت يقف إلى جانبهم"[7]. وتصر طالبان على انسحاب جميع القوات الأمريكية من البلاد كجزء من أي عملية مصالحة. في 16 يوليو 2018، أعلن مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، أن الحكومة الروسية ستدعو ممثلي طالبان إلى اجتماع في موسكو حول أفغانستان قبل نهاية الصيف. وبرر كابولوف قرار موسكو إجراء محادثات مع حركة طالبان بقوله إن طالبان تسيطر على "أكثر من نصف أراضي أفغانستان" ، وبالتالي، يجب أن تدرج في التسوية السلمية الأفغانية النهائية. وتتهم الولايات المتحدة روسيا بتسليح طالبان وكذلك يتهمها المسؤولين الأفغان. ففي 20 يونيو، أدانت مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية أليس ويلز استراتيجية روسيا بتسليح حركة طالبان ضد داعش، وحثت روسيا على دعم محادثات السلام التي عززت موقف الحكومة الشرعية في أفغانستان. وردت ماريا زخاروفوفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية بشكواها بشدة من ادعاءات ويلز. وعلى الرغم من إنكار زاخاروفا، صرح قائد الجيش الأمريكي في أفغانستان، الجنرال سكوت ميلر، على أكبر شبكة إعلامية في أفغانستان، وكالة خاما للأنباء، بأن روسيا تدعم مقاتلي طالبان، إلى جانب باكستان وإيران[8]. وقد نشر الرئيس الأفغاني أشرف غاني مقالاً يستجدي تعاطف "الإمارة الإسلامية" فيه، وذلك في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان (سأتفاوض مع طالبان في أي مكان)، وقال فيه: "سأجلس وأتفاوض مع زعيم طالبان، مولوي هبة الله أخوندزاده، في أي مكان يريد"[9]. ولكن السؤال الجدير بالاهتمام: لماذا صمدت طالبان وباتت على وشك هزيمة الاحتلال الأمريكي؟ - وضوح الهدف وثباته (إخراج المحتل وإقامة دولة إسلامية). - كسب الشعب (عدم تكفيره أو تبديعه أو احتقاره والحرص على إرضائه وحُسن إدارة المناطق المسيطرة عليها). - تجنب الخلاف قدر الإمكان. - وضوح العدو (الأمريكان وعملائهم من الجيش والشرطة الأفغانية). - عدم التفريط في امتلاك القوة والسلاح. - رفض جميع المصالحات إلا بشروط فرضوها على أرض الواقع فرضاً. - إنشاؤها مكتباً سياسياً يجيد التفاوض ويعرف مساحات المناورة والثوابت الحركية، وعدم الاقتصار على العمل المسلح فقط. - التوازن بين العمل الدعوي والسياسي والجهادي. - عمل إعلامي قوي ومميز (رغم عدم امتلاك القنوات الفضائية والصحف المشهورة، عن طريق الإنترنت وشبكة مراسلين واسعة، ومجلة إلكترونية، وغير ذلك من الوسائل الضعيفة لكنهم استخدموها استخداماً فعّالاً). - نسجت شبكة علاقات ندية قائمة على المصالح السياسية لها وللغير وفق فهم عميق لخريطة القوى، كما فعلت مع أطراف إقليمية (باكستان وإيران وحتى روسيا). - إجادة التعامل مع المشكلات والأزمات الداخلية في صمت وخكمة (موت أميرها الملا عمر وعدم بث ذلك إلا بعد 3 سنوات، مثالاً). - عمل مؤسسي لا يتوقف على شخص ما (مات الملا عمر، ثم الملا أختر منصور بعد عدة أشهر ولم يؤثر في شيء، بل زادت شراسة الإمارة يوماً بعد يوم). هذه أبرز العوامل التي جعلت من "الإمارة الإسلامية رقماً صعباً في المشهد الأفغاني، والتي من المتوقع أن تأخذ بناصيتها إلى فوز كاسح قريب على الاحتلال الأمريكي، يتبعه سيطرة حقيقية على كامل البلاد. وسنتوقف في المقال القادم مع بعض هذه العوامل بشيء من التفصيل إن شاء الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] DANIEL L. DAVIS, Time to Talk to the Taliban, July 24, 2018. [2] تسيطر الحكومة الأفغانية العميلة للولايات المتحدة على 229 من مناطق أفغانستان البالغ عددها 407، أما الطالبان فتسيطر على 59. وباقي المقاطعات ال١١٩ هي سجال بين طالبان والحكومة. [3] IAN PANNELL, Taliban insurgents pledge to continue fight in Afghanistan, Jul 14, 2018. [4] بي بي سي، الكلفة الفلكية للحرب الأمريكية في أفغانستان، 22-08-2017م. [5] Mujib Mashal and Eric Schmitt, White House Orders Direct Taliban Talks to Jump-Start Afghan Negotiations, July 15, 2018. [6] المصدر السابق. [7] السابق. [8] Samuel Ramani, Why Has Russia Invited the Taliban to Moscow? July 21, 2018. [9] Ashraf Ghani, I Will Negotiate With the Taliban Anywhere, June 27, 2018
دروس من بلاد الأفغان (1)

حامد عبد العظيم



[لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ]


"حان الوقت للتحدث مع طالبان".

"ليس لدينا خيار".

"لقد فشلت الحرب التي دامت 17 عامًا في أفغانستان على كل المستويات".

هكذا يقول المحلل والضابط الأمريكي المخضرم دانيال ديفيس والذي أضاف في مقال له: إن تقارير قد ظهرت في الآونة الأخيرة بأن البيت الأبيض يُصدر تعليماته إلى كبار الدبلوماسيين بالبدء في البحث عن محادثات مباشرة مع طالبان، إنه إجراء لم يكن من الممكن تصوره في بداية حرب أفغانستان، لكن هذا اليوم قد طال انتظاره. على الرغم من الانتقادات التي أثارتها، فإن مثل هذه المحادثات تقدم أفضل فرصة لإنهاء أطول حرب في الولايات المتحدة وأكثرها عقمًا".

وقال ديفيس الذي قاتل في أفغانستان بوضوح: "إنه في حين أن هناك اتفاقاً واسعاً على أن القادة الأمريكيين كان لديهم ما يبرر إطلاق العمليات العسكرية في أفغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، فإنه من الواضح بشكل مؤلم بعد 17 عاما أن لا أحد لديه أي فكرة عن كيفية إنهاء القتال بشروط عسكرية".
وتوصل إلى الحل في نهاية مقاله بقوله إن "الحل الحقيقي لذلك هو سحب قواتنا بأسرع ما يمكن تحقيقه بأمان بدلاً من إلقاء المزيد منهم في صراع غير مثمر"[1].

الحقيقة أن ذلك ليس رأياً فردياً من محلل عسكري وضابط سابق بالجيش الأمريكي، بل هي القناعة التي وصلت إليها الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، فطالبان تقترب من السيطرة على نصف أفغانستان، وازداد نشاطها العسكري للغاية ضد الاحتلال الأمريكي وصنائعه منذ أن أطلقت "عملية الحندق" في شهر أبريل من العام الجاري (2018). وحربها في أفغانستان هي أطول حرب خاضتها أمريكا، أطول من الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية مجتمعة[2].

إنها ليست أطول حرب في أميركا فحسب، بل إنها تأتي أيضًا بتكلفة كبيرة في الدماء والاقتصاد. فقد قُتل ما يقرب من 2200 جندي أمريكي وأصيب أكثر من ذلك من الجرحى. وتقدر تكلفة الحرب بأكثر من تريليون دولار. وهذا وفق الإحصائيات الأمريكية[3].

بينما تقول تقديرات أخرى إن هذه الحرب قد تجاوزت تريليون دولار، وبلغ عدد قتلى القوات الأمريكية 2350 جندياً، إلى جانب 20092 من المصابين وأفراد أسرهم. ويعاني 320 لألف جندي سابق خدموا في العراق وأفغانستان من آثار الإصابة في الرأس، ومن أبرز تداعاياتها الاضطرابات الذهنية والشرود. ومن بين هؤلاء هناك 8237 ممن يعانون من إصابات شديدة في الدماغ إضافة إلى 1645 جندياً فقدوا جميع أو أحد الأطراف. وتشير الإحصاءات إلى أنه خلال عام 2016 أقدم 20 جندياً متقاعداً على الانتحار يومياً حسب إحصاءات المركز الوطني للجنود المتقاعدين. وتشير تقديرات الباحثة في جامعة هارفارد ليندا بلايم إلى أن نفقات الخدمات الطبية لقدماء الحرب ومعاقي الحرب خلال السنوات الأربعين المقبلة ستتجاوز تريليون دولار؛ إذ تدل التجربة أن هذه الكلفة تبلغ حدها الأقصى خلال 30 الى 40 سنة من انتهاء الحرب[4].

إن هذه القناعة التي وصلت إليها الإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي تمثلت من عدة أيام في صورة لقاء في العاصمة القَطرية (الدوحة)، بين دبلوماسيين رسميين أمريكيين ومسؤولين من "الإمارة الإسلامية" أو من يصر الإعلام على وصفهم بأنهم مجرد "حركة" تُدعى طالبان. على الرغم من سيطرة "الإمارة الإسلامية" على 59 مقاطعة سيطرة كاملة وبإدارة كاملة منها في كل مرافق الحياة.

وكان قد طلب البيت الأبيض رسمياً من الدبلوماسيين الأمريكيين -كما نشرت صحيفة نيوورك تايمز- فتح باب للتفاوض المباشر مع حركة طالبان. وعلقت الصحيفة بأن هذا التحول الكبير في السياسة الأمريكية قد حدث على أمل إنهاء حرب السبعة عشر عاماً[5].

وكانت الحكومة الأفغانية قد عرضت على حركة طالبان الجلوس على مائدة التفاوض، إلا أن طالبان رفضت وقالت للحكومة إننا تتفاوض فقط مع من تتبعون له، وتعني بذلك الولايات المتحدة.

لقد كان التحول في السياسة الأمريكية تجاه طالبان مؤخراً بعد أن أدرك المسؤولون الأمريكان والأفغان أن حتى استراتيجية ترامب الجديدة لا تحدث فرقا جوهريا وأن طالبان تكسب على الأرض.

فبعد فترة ليست طويلة من توليه منصبه، وافق ترامب على مضض على توفير المزيد من الموارد لقادته الميدانيين الذين يقاتلون حركة طالبان، مضيفا بضعة آلاف من القوات ليصبح مجموع القوات الأمريكية نحو 15000. ولكن بعد مرور عام، ما زالت طالبان تهاجم القوات الأمنية وتسبب خسائر فادحة في صفوفها وتسيطر على مدن جديدة كل يوم.

وقد نجحت طالبان في فتح باب من التفاهم مع الحكومة الباكستانية مما أدى إلى زيادة الضغط الأمريكي على باكستان لوقف توفير الملاذ لقيادات طالبان.

وخلال الأسابيع القليلة الماضية، قام كبار المسؤولين الأميركيين بزيارة إلى أفغانستان وباكستان لوضع الأساس لمحادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وطالبان. وزار وزير الخارجية مايك بومبيو لفترة وجيزة العاصمة الأفغانية، كابول، الأسبوع الأول من الشهر الجاري يوليو ٢٠١٨، وأمضت أليس جي. ويلز ، كبيرة الدبلوماسيين في المنطقة، عدة أيام في إجراء محادثات مع اللاعبين الرئيسيين في أفغانستان وباكستان. وذلك قبل أن تلتقي في الدوحة مع مسؤولين في طالبان يوم ٢٦-٧-٢٠١٨.

وقال وزير الخارجية بومبيو في تصريح خطير له: "إنه لن يكون هناك شرط مسبق للمحادثات، وأن كل شيء بما في ذلك وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو في أفغانستان، مطروح للمناقشة"[6].

تقول صحيفة نيويورك تايمز: "وقد نما توافق شبه الإجماع بين المسؤولين الأمريكيين والأفغان المشاركين في الجهود السابقة والحالية لإطلاق عملية سلام ، بأن السبيل الوحيد للخروج من الحرب هو أن تقوم الولايات المتحدة بدور أكثر مباشرة في المفاوضات. يعتمد هذا الإدراك على عدة حقائق: أن حركة طالبان هي تمرد عنيد ، وأنهم لن يتراجعوا عن مطلبهم بالتحدث مباشرة مع الأمريكيين... المسؤولون الأمريكان يتحركون بشعور من الإلحاح لأن ترامب أعرب عن إحباطه من الحرب ويريد أن يرى نهايتها... إن سبب فتح المحادثات الأخيرة وفقاً للمسؤولين المشاركين في محاولات المفاوضات السابقة، هو أن جيش الولايات المتحدة يبدو أنه سيكون على متن الطائرة قريباً"...

في عام 2011، عندما تحولت إدارة أوباما لأول مرة إلى سياسة إنهاء الحرب من خلال المفاوضات، ظل القادة العسكريون يعتقدون أن بإمكانهم هزيمة طالبان. والآن يحددون هدفهم بشكل أكثر تواضعاً: إيقاف حركة طالبان عن النصر إلى أن يتوصلوا إلى تسوية سياسية.

وقال سيث جونز، الذي يرأس مشروع التهديدات العابرة للحدود الوطنية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إن هناك أدلة قليلة على أن كبار قادة طالبان مهتمون بشكل جدي بشروط التسوية المقبولة للمسؤولين الأفغان والأميركيين، وقال: "معظم قادة طالبان يعتقدون أنهم يكسبون الحرب في أفغانستان وأن الوقت يقف إلى جانبهم"[7].

وتصر طالبان على انسحاب جميع القوات الأمريكية من البلاد كجزء من أي عملية مصالحة.

في 16 يوليو 2018، أعلن مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، أن الحكومة الروسية ستدعو ممثلي طالبان إلى اجتماع في موسكو حول أفغانستان قبل نهاية الصيف. وبرر كابولوف قرار موسكو إجراء محادثات مع حركة طالبان بقوله إن طالبان تسيطر على "أكثر من نصف أراضي أفغانستان" ، وبالتالي، يجب أن تدرج في التسوية السلمية الأفغانية النهائية.

وتتهم الولايات المتحدة روسيا بتسليح طالبان وكذلك يتهمها المسؤولين الأفغان. ففي 20 يونيو، أدانت مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية أليس ويلز استراتيجية روسيا بتسليح حركة طالبان ضد داعش، وحثت روسيا على دعم محادثات السلام التي عززت موقف الحكومة الشرعية في أفغانستان. وردت ماريا زخاروفوفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية بشكواها بشدة من ادعاءات ويلز. وعلى الرغم من إنكار زاخاروفا، صرح قائد الجيش الأمريكي في أفغانستان، الجنرال سكوت ميلر، على أكبر شبكة إعلامية في أفغانستان، وكالة خاما للأنباء، بأن روسيا تدعم مقاتلي طالبان، إلى جانب باكستان وإيران[8].

وقد نشر الرئيس الأفغاني أشرف غاني مقالاً يستجدي تعاطف "الإمارة الإسلامية" فيه، وذلك في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان (سأتفاوض مع طالبان في أي مكان)، وقال فيه: "سأجلس وأتفاوض مع زعيم طالبان، مولوي هبة الله أخوندزاده، في أي مكان يريد"[9].

ولكن السؤال الجدير بالاهتمام: لماذا صمدت طالبان وباتت على وشك هزيمة الاحتلال الأمريكي؟

- وضوح الهدف وثباته (إخراج المحتل وإقامة دولة إسلامية).
- كسب الشعب (عدم تكفيره أو تبديعه أو احتقاره والحرص على إرضائه وحُسن إدارة المناطق المسيطرة عليها).
- تجنب الخلاف قدر الإمكان.
- وضوح العدو (الأمريكان وعملائهم من الجيش والشرطة الأفغانية).
- عدم التفريط في امتلاك القوة والسلاح.
- رفض جميع المصالحات إلا بشروط فرضوها على أرض الواقع فرضاً.
- إنشاؤها مكتباً سياسياً يجيد التفاوض ويعرف مساحات المناورة والثوابت الحركية، وعدم الاقتصار على العمل المسلح فقط.
- التوازن بين العمل الدعوي والسياسي والجهادي.
- عمل إعلامي قوي ومميز (رغم عدم امتلاك القنوات الفضائية والصحف المشهورة، عن طريق الإنترنت وشبكة مراسلين واسعة، ومجلة إلكترونية، وغير ذلك من الوسائل الضعيفة لكنهم استخدموها استخداماً فعّالاً).
- نسجت شبكة علاقات ندية قائمة على المصالح السياسية لها وللغير وفق فهم عميق لخريطة القوى، كما فعلت مع أطراف إقليمية (باكستان وإيران وحتى روسيا).
- إجادة التعامل مع المشكلات والأزمات الداخلية في صمت وخكمة (موت أميرها الملا عمر وعدم بث ذلك إلا بعد 3 سنوات، مثالاً).
- عمل مؤسسي لا يتوقف على شخص ما (مات الملا عمر، ثم الملا أختر منصور بعد عدة أشهر ولم يؤثر في شيء، بل زادت شراسة الإمارة يوماً بعد يوم).

هذه أبرز العوامل التي جعلت من "الإمارة الإسلامية رقماً صعباً في المشهد الأفغاني، والتي من المتوقع أن تأخذ بناصيتها إلى فوز كاسح قريب على الاحتلال الأمريكي، يتبعه سيطرة حقيقية على كامل البلاد.
وسنتوقف في المقال القادم مع بعض هذه العوامل بشيء من التفصيل إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] DANIEL L. DAVIS, Time to Talk to the Taliban, July 24, 2018.
[2] تسيطر الحكومة الأفغانية العميلة للولايات المتحدة على 229 من مناطق أفغانستان البالغ عددها 407، أما الطالبان فتسيطر على 59. وباقي المقاطعات ال١١٩ هي سجال بين طالبان والحكومة.
[3] IAN PANNELL, Taliban insurgents pledge to continue fight in Afghanistan, Jul 14, 2018.
[4] بي بي سي، الكلفة الفلكية للحرب الأمريكية في أفغانستان، 22-08-2017م.
[5] Mujib Mashal and Eric Schmitt, White House Orders Direct Taliban Talks to Jump-Start Afghan Negotiations, July 15, 2018.
[6] المصدر السابق.
[7] السابق.
[8] Samuel Ramani, Why Has Russia Invited the Taliban to Moscow? July 21, 2018.
[9] Ashraf Ghani, I Will Negotiate With the Taliban Anywhere, June 27, 2018
‏٣١‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١٠:٣٨ م‏
عن امرأة هزمت التعب ‏لمى خاطر،‏ فك الله أسرها [لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ] هي ليست شخصية ذائعة الصيت في أوساط الإعلام أو السياسة أو الفن، ولم تصنف يوماً ضمن لائحة النساء الأكثر تأثيراً في العالم، ولم تتناول الصحف الغربية اسمها كشخصية نسائية لامعة، ولم تكن أضواء الشهرة تلاحقها حيثما حلت، لكن مبعث نورها وعطر أثرها كانا مختلفين، وموردهما متصل بمعانٍ سماوية فذة، وسرّ حضورها كان مستمداً من وحي ما كابدت طيلة حياتها، ومع أبنائها التسعة، وبناتها الأربع، الذين كان لكل واحد منهم حكاية مع البطولة، جهاداً أو أسراً أو شهادة، ثم ما لبثت أن امتدت إلى الأحفاد. إنها الحاجة صبحية القواسمي (أم حسن)، من مدينة الخليل في فلسطين، التي توفيت قبل بضعة أيام، بعد اشتداد المرض عليها، بعد أن أمهلها حتى تمكنت من رؤية أحد أبنائها إذ تحرر من سجون الاحتلال، ثم فاضت روحها إلى بارئها في اليوم التالي لخروجه من السجن. حكاية عائلة أم حسن معروفة لدى أهل الجهاد وجمهور المقاومة في فلسطين، فهي تنتمي لعائلة عريقة في التضحية، أما أسرتها المكونة منها وزوجها وأبناؤها وبناتها، فلها نصيب وافر من العطاء والجهاد ومكابدة المحن المختلفة على مدى أعوام طويلة، فقد استشهد لها اثنان من الأبناء، وهدم بيتها وبعض بيوت أبنائها عدة مرات، ولها عدة أبناء في سجون الاحتلال، بعضهم يقضي أحكاماً عالية، ومرّ عليها وقت كان فيه أبناؤها التسعة داخل السجن، ولم يحدث أن اجتمعت بهم كلهم في وقت واحد، فيما هم موزعون بين الأسر والشهادة والإبعاد. لكن أم حسن لم تقابل أي محنة بالشكوى والتذمر ونفاد الصبر، وكنت كلما رأيتها أجدها مستبشرة وشاكرة الله وراضية بقدره، فقد اعتادت العطاء بقدر ما عظُمت في نفسها معاني الصبر والجلد والرضا، وهي على هذا الحال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني كان بعض بنيها في طليعة من يتقدم الدرب غير هياب من فداحة ضريبته، حتى بعد كل سنوات السجن التي أكلت من أعمارهم واستقرارهم. ليست أم حسن مثالاً وحيداً للعطاء، أو رمزاً منفرداً في رساليته العالية، فمثلها نماذج نسائية كثيرة في فلسطين، وبعضها لا يعلم إلا الله بصنيعها وحسن صبرها وإعدادها أبناءها ليكونوا مجاهدين، لكن كل واحدة منهن تحتاج احتفاءً خاصاً حين يدهمها خطب، أو حين تودّع الدنيا تاركة أثرها ودروس حياتها وبذلها وصمودها، فهؤلاء مصانع الرجال الأولى، وفيهن تتشكل معالم نفسيات الرجال، فإما أن يشبوا على الرجولة، أو يظلوا عبيداً راتعين في لجة المذلة واستطابة الهوان. وحين نفتش عن النساء اللاتي يقفن في محيط الرجال العظماء ستدهشنا نوعياتهن، وخصائص نفوسهن، ومدى إدراكهن لمتطلبات الغايات الرسالية، لذلك فإن أقل الواجب أن نسرج من حولهن القناديل، ليهتدي بنورهن الفياض رجال ونساء لم يفقهوا من معاني الحياة غير الدوران حول الذات وتحري السلامة الشخصية واستثقال التضحية والتهيب من الوقوف في بؤرة الفعل ومركز الإقدام. رحلت أم حسن، وكان رحيلها المحفوف بالرضا والصبر، والوصية بأن يلف نعشها في الراية ذاتها التي لف بها نعش ابنها الشهيد مراد، كان هذا الرحيل مدرسة، كما كانت حياتها في ظل راية لم تنكّس مدرسة أخرى، غير أن الرحيل يقول دائماً أشياء إضافية، غير ذلك الحزن الذي يظلل أهداب من تلمسوا بركة حضورها في حياتهم، منها أن التعب كله إلى زوال، والمشقة في الدنيا إلى انتهاء، وأن ما يبقى طيب الأثر والأجر الأخروي وعطر السيرة الناصعة التي كان عنوانها هزيمة التعب ومجالدة الألم والاستظلال الدائم بلواء التضحية.
عن امرأة هزمت التعب

‏لمى خاطر،‏ فك الله أسرها

[لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ]

هي ليست شخصية ذائعة الصيت في أوساط الإعلام أو السياسة أو الفن، ولم تصنف يوماً ضمن لائحة النساء الأكثر تأثيراً في العالم، ولم تتناول الصحف الغربية اسمها كشخصية نسائية لامعة، ولم تكن أضواء الشهرة تلاحقها حيثما حلت، لكن مبعث نورها وعطر أثرها كانا مختلفين، وموردهما متصل بمعانٍ سماوية فذة، وسرّ حضورها كان مستمداً من وحي ما كابدت طيلة حياتها، ومع أبنائها التسعة، وبناتها الأربع، الذين كان لكل واحد منهم حكاية مع البطولة، جهاداً أو أسراً أو شهادة، ثم ما لبثت أن امتدت إلى الأحفاد.



إنها الحاجة صبحية القواسمي (أم حسن)، من مدينة الخليل في فلسطين، التي توفيت قبل بضعة أيام، بعد اشتداد المرض عليها، بعد أن أمهلها حتى تمكنت من رؤية أحد أبنائها إذ تحرر من سجون الاحتلال، ثم فاضت روحها إلى بارئها في اليوم التالي لخروجه من السجن.

حكاية عائلة أم حسن معروفة لدى أهل الجهاد وجمهور المقاومة في فلسطين، فهي تنتمي لعائلة عريقة في التضحية، أما أسرتها المكونة منها وزوجها وأبناؤها وبناتها، فلها نصيب وافر من العطاء والجهاد ومكابدة المحن المختلفة على مدى أعوام طويلة، فقد استشهد لها اثنان من الأبناء، وهدم بيتها وبعض بيوت أبنائها عدة مرات، ولها عدة أبناء في سجون الاحتلال، بعضهم يقضي أحكاماً عالية، ومرّ عليها وقت كان فيه أبناؤها التسعة داخل السجن، ولم يحدث أن اجتمعت بهم كلهم في وقت واحد، فيما هم موزعون بين الأسر والشهادة والإبعاد.

لكن أم حسن لم تقابل أي محنة بالشكوى والتذمر ونفاد الصبر، وكنت كلما رأيتها أجدها مستبشرة وشاكرة الله وراضية بقدره، فقد اعتادت العطاء بقدر ما عظُمت في نفسها معاني الصبر والجلد والرضا، وهي على هذا الحال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني كان بعض بنيها في طليعة من يتقدم الدرب غير هياب من فداحة ضريبته، حتى بعد كل سنوات السجن التي أكلت من أعمارهم واستقرارهم.

ليست أم حسن مثالاً وحيداً للعطاء، أو رمزاً منفرداً في رساليته العالية، فمثلها نماذج نسائية كثيرة في فلسطين، وبعضها لا يعلم إلا الله بصنيعها وحسن صبرها وإعدادها أبناءها ليكونوا مجاهدين، لكن كل واحدة منهن تحتاج احتفاءً خاصاً حين يدهمها خطب، أو حين تودّع الدنيا تاركة أثرها ودروس حياتها وبذلها وصمودها، فهؤلاء مصانع الرجال الأولى، وفيهن تتشكل معالم نفسيات الرجال، فإما أن يشبوا على الرجولة، أو يظلوا عبيداً راتعين في لجة المذلة واستطابة الهوان.

وحين نفتش عن النساء اللاتي يقفن في محيط الرجال العظماء ستدهشنا نوعياتهن، وخصائص نفوسهن، ومدى إدراكهن لمتطلبات الغايات الرسالية، لذلك فإن أقل الواجب أن نسرج من حولهن القناديل، ليهتدي بنورهن الفياض رجال ونساء لم يفقهوا من معاني الحياة غير الدوران حول الذات وتحري السلامة الشخصية واستثقال التضحية والتهيب من الوقوف في بؤرة الفعل ومركز الإقدام.

رحلت أم حسن، وكان رحيلها المحفوف بالرضا والصبر، والوصية بأن يلف نعشها في الراية ذاتها التي لف بها نعش ابنها الشهيد مراد، كان هذا الرحيل مدرسة، كما كانت حياتها في ظل راية لم تنكّس مدرسة أخرى، غير أن الرحيل يقول دائماً أشياء إضافية، غير ذلك الحزن الذي يظلل أهداب من تلمسوا بركة حضورها في حياتهم، منها أن التعب كله إلى زوال، والمشقة في الدنيا إلى انتهاء، وأن ما يبقى طيب الأثر والأجر الأخروي وعطر السيرة الناصعة التي كان عنوانها هزيمة التعب ومجالدة الألم والاستظلال الدائم بلواء التضحية.
‏٣٠‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١١:٠٩ م‏
الأكذوبة الكبرى (2) د. عطية عدلان الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد .. الديمقراطية.. ما هي؟ وما حقيقتها؟ خيرٌ هي أم شرّ؟ نفعٌ هي أم ضُرّ؟ نظامٌ راشد ينبغي أن تفيء البشرية كلها إلى ظلاله الندية الوارفة؟ أم نظامٌ فاسد يتوجب على الخليقة جمعاء أن تفر من ناره المحرقة؟ أسئلة دائرة وحائرة، والإجابات عليها بين أمانيّ طائشة وأحكام جائرة. وقد تقدم في المقال السابق أنَّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام في أصل من الأصول وافترقت في أصل آخر، غير أنَّ الأصل الذي افترقت فيه عن الإسلام وهو (السيادة) يجعلها والإسلام على طرفي نقيض، فجعل السيادة لشريعة الله إسلام، وجعلها لغير الله ولو كان (الشعب) جاهلية، ومع ذلك فإنَّه ينبغي أن نفرق في الحكم بين حال الاختيار وحال الاضطرار، ففي الأول لا يجوز العمل بالديمقراطية وترك النظام الإسلاميّ، أمَّا في الثاني فيجوز العمل بالديمقراطية من باب اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين؛ فلا ريب أنَّها أفضل من النظم الشمولية؛ لأن النظم الشمولية تجمع إلى مفسدة جعل السيادة لغير شرع الله مفاسد أخرى ليست في الديمقراطية، ولأنَّه بالإمكان عند توافر شروط معينة الوصول إلى تحكيم كثير من أحكام الشريعة عن طريق تغليب أصوات المطالبين بالشريعة على أصوات غيرهم. غير أنّ هذا الطريق لتطبيق الشريعة افتراضيّ بحت، ومن العسير تطبيقه إن لم يكن من المستحيل، هذا ما أعتقده كأنني أراه رأي العين، فإن كنت مُكَذِّبي فاسأل التاريخ، فإن لم يسعفك - لكونك تتعجل النتائج - فاسأل الواقع؛ فهو أصدق شاهد، فإذا وجدت التحول الديمقراطي الذي جاء بكرزاي والمالكيّ وأمثالهما قد غمر أفغانستان والعراق وغيرهما بنعيم الديمقراطية، ثم تبين لك أنَّ نَبْتَة الديمقراطية في مصر بعد ثورتها قد تَعَهَّدها الاتحاد الأوربي بالرعاية والعناية؛ فأنت على حقٍّ وتستحقّ أن نوافقك في تفاؤلك وحسن ظنك، ثم تحامل على نفسك الطموحة التواقة للخير العاجل، واسأل كل الأنظمة المستبدة التي حكمتنا عقوداً بالوكالة عن الاستعمار مُتَغَنِّيةً كلها بمبادئ الديمقراطية، فإن عدت بعد طول البحث بخفي حنين فاعلم أنَّ للإسلام طريقه، فنقب عنه واعرفه واعتصم به، ولا تغرنك الزخارف. ولا يغرنك أنَّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام في الأصل الثاني، وهو أن الأمة مصدر الشرعية السياسية وصاحبة الأمر؛ فتظن أنَّ هذا الاتفاق النظريّ ييسر سبيل حصولك على (نسخة أصلية) من الديمقراطية تستطيع من خلالها أن تبلغ ما تريد من تحكيم الشرع؛ لأنّ الملاحظ المشاهد باستقراء الواقع والتاريخ المعاصر أنَّ المالك الحصريِّ للديمقراطية يُصِرُّ على أن يهبك منها ما يخالف شريعتك، ويحرمك مما يوافقها أو يقترب منها، لذلك فإنَّ جميع دساتيرنا تنص على أنَّ السيادة للشعب، وفي جميع بلادنا يطبق الدستور وكذلك جميع ما ينبني عليه من قوانين صدرت عن (صاحب السيادة!) برعاية السيد الكبير والمالك الوحيد للديمقراطية، أمَّا عندما تريد أن تختار أقدر الناس على أخذ بلادك إلى القمة الصاعدة، أعطاك - بنسبة لا تقل عن تسعين بالمائة – أقدر الناس على أخذ بلادك إلى الهاوية الهابطة. قد يقال إنَّ الديمقراطية لأهلها نعيم مقيم، وفي البلاد التي تستظل بظلها جنَّة عرضها كعرض القارات الخمس، وهذا القول إن صحَّ فإنَّ سببه أنّ الجهة المالكة للديمقراطية تستنزف ثروات القارات الخمس بما حوت؛ لترفيه شعوبها التي تضمن البقاء لها حاكمة جاثمة؛ لذلك قيل: "إنَّ ما صار واضحاً فوق كل شيء آخر في السنوات ما بين الحربين هو اعتماد الدول الديموقراطية على اقتصاديات التوسع؛ وبمجرد أن تصير هذه غير متيسرة فإنَّ التناقض بين دلالات الرأسمالية ودلالات الديمقراطية يصبح مما لا يمكن التغلب عليه"([1]). وحتى هذه الرفاهية يعتريها في بلادها مثالب، أولها أنَّها كانت مرحلة مؤقتة فرضتها تغيرات كبيرة في أشكال النشاط البشريّ، وأنَّ الرأسمالية (الجهة المالكة للديمقراطية والحاكم الفعلي للعالم) تخطط لإنهاء هذه الحالة، وقد تصايح الكثيرون من مفكريهم وتنادوا محذرين من هذا المخطط، فهاهم يجتهدون في رصد الظاهرة وتحليل الوقائع، "ويحلل العالم المختص بشئون المستقبل (جون نايزبت) واقع المجتمعات الصناعية، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشيّ مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي"([2])، وقد توصلوا من خلال رصد الواقع وتحليل الأحداث إلى أنَّ معتقد الاقتصاديين المؤثرين في القرار "أنّ النموذج الأوربيّ لدولة الرفاهية قد أكل عليه الدهر وشرب، وأنّه قد صار مشروعاً باهظ التكاليف، مقارنة بما هو سائد في بلدان العالم الأخرى"([3]). وفي سبيل تحرير السوق لصالح الطغمة الرأسمالية التي تحكم العالم يرتبون لتقييد دور الدولة (الديمقراطية!) بل والمؤسسات الدولية الكبرى، وقد نجحوا في هذا إلى حد كبير، "وهكذا صار عدم تدخل الدولة إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية أسلحة استراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق، وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيَّرة من قبل هذه الحكومات، والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ فقد غدت هذه المؤسسات الوسائل التي تحارب بها هذه الحكومات في معركتها الدائرة رحاها حتى الآن من أجل تحرير رأس المال"([4]). ثاني هذه المثالب أنَّها رفاهية على حساب انسحاق الشعوب الأخرى بسبب الإمبريالية التي يمارس من خلالها النظام الدوليّ قهر شعوب "العالم الثالث"، ومنها أنَّ الصورة ليست بهذه البشاشة التي تبدو لنا في الظاهر العام المترع زيفاً ورياءً، ومن أحب أن يتابع إحصائيات المقهورين في أمريكا نفسها فعليه الاطلاع على تقارير منظمات عديدة، والأهم من هذا وذاك أن هذه الرفاهية متضمنة إلهاء الشعوب عن الغاية التي خلقت من أجلها، وهي عبادة الله، فبرغم مناخ الحريات الذي يتنفسه الناس في الغرب إلا أنها كحرية القرود في السرك الكبير، وهذا أمر شرحه يطول، ولعلنا نفرد له مقالاً منضماً لهذه السلسلة أو منفصلاً عنها.. (يتبع) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) تأملات في ثورات العصر - هارولد لاسكي - ترجمة عبد الكريم أحمد - دار القلم القاهرة مصر - بدون تاريخ طبع - صــــــ 284 ([2]) فخ العولمة .. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية - تأليف: (هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان) - ترجمة: د. عدنان عباس علي - كتاب "عالم المعرفة" عدد 238 سنة 1990م صــــــــــ25 ([3]) فخ العولمة .. صــــ 27 ([4]) فخ العولمة .. صــــ 30
الأكذوبة الكبرى (2)
د. عطية عدلان

الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد ..

الديمقراطية.. ما هي؟ وما حقيقتها؟ خيرٌ هي أم شرّ؟ نفعٌ هي أم ضُرّ؟ نظامٌ راشد ينبغي أن تفيء البشرية كلها إلى ظلاله الندية الوارفة؟ أم نظامٌ فاسد يتوجب على الخليقة جمعاء أن تفر من ناره المحرقة؟ أسئلة دائرة وحائرة، والإجابات عليها بين أمانيّ طائشة وأحكام جائرة.

وقد تقدم في المقال السابق أنَّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام في أصل من الأصول وافترقت في أصل آخر، غير أنَّ الأصل الذي افترقت فيه عن الإسلام وهو (السيادة) يجعلها والإسلام على طرفي نقيض، فجعل السيادة لشريعة الله إسلام، وجعلها لغير الله ولو كان (الشعب) جاهلية، ومع ذلك فإنَّه ينبغي أن نفرق في الحكم بين حال الاختيار وحال الاضطرار، ففي الأول لا يجوز العمل بالديمقراطية وترك النظام الإسلاميّ، أمَّا في الثاني فيجوز العمل بالديمقراطية من باب اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين؛ فلا ريب أنَّها أفضل من النظم الشمولية؛ لأن النظم الشمولية تجمع إلى مفسدة جعل السيادة لغير شرع الله مفاسد أخرى ليست في الديمقراطية، ولأنَّه بالإمكان عند توافر شروط معينة الوصول إلى تحكيم كثير من أحكام الشريعة عن طريق تغليب أصوات المطالبين بالشريعة على أصوات غيرهم.

غير أنّ هذا الطريق لتطبيق الشريعة افتراضيّ بحت، ومن العسير تطبيقه إن لم يكن من المستحيل، هذا ما أعتقده كأنني أراه رأي العين، فإن كنت مُكَذِّبي فاسأل التاريخ، فإن لم يسعفك - لكونك تتعجل النتائج - فاسأل الواقع؛ فهو أصدق شاهد، فإذا وجدت التحول الديمقراطي الذي جاء بكرزاي والمالكيّ وأمثالهما قد غمر أفغانستان والعراق وغيرهما بنعيم الديمقراطية، ثم تبين لك أنَّ نَبْتَة الديمقراطية في مصر بعد ثورتها قد تَعَهَّدها الاتحاد الأوربي بالرعاية والعناية؛ فأنت على حقٍّ وتستحقّ أن نوافقك في تفاؤلك وحسن ظنك، ثم تحامل على نفسك الطموحة التواقة للخير العاجل، واسأل كل الأنظمة المستبدة التي حكمتنا عقوداً بالوكالة عن الاستعمار مُتَغَنِّيةً كلها بمبادئ الديمقراطية، فإن عدت بعد طول البحث بخفي حنين فاعلم أنَّ للإسلام طريقه، فنقب عنه واعرفه واعتصم به، ولا تغرنك الزخارف.

ولا يغرنك أنَّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام في الأصل الثاني، وهو أن الأمة مصدر الشرعية السياسية وصاحبة الأمر؛ فتظن أنَّ هذا الاتفاق النظريّ ييسر سبيل حصولك على (نسخة أصلية) من الديمقراطية تستطيع من خلالها أن تبلغ ما تريد من تحكيم الشرع؛ لأنّ الملاحظ المشاهد باستقراء الواقع والتاريخ المعاصر أنَّ المالك الحصريِّ للديمقراطية يُصِرُّ على أن يهبك منها ما يخالف شريعتك، ويحرمك مما يوافقها أو يقترب منها، لذلك فإنَّ جميع دساتيرنا تنص على أنَّ السيادة للشعب، وفي جميع بلادنا يطبق الدستور وكذلك جميع ما ينبني عليه من قوانين صدرت عن (صاحب السيادة!) برعاية السيد الكبير والمالك الوحيد للديمقراطية، أمَّا عندما تريد أن تختار أقدر الناس على أخذ بلادك إلى القمة الصاعدة، أعطاك - بنسبة لا تقل عن تسعين بالمائة – أقدر الناس على أخذ بلادك إلى الهاوية الهابطة.

قد يقال إنَّ الديمقراطية لأهلها نعيم مقيم، وفي البلاد التي تستظل بظلها جنَّة عرضها كعرض القارات الخمس، وهذا القول إن صحَّ فإنَّ سببه أنّ الجهة المالكة للديمقراطية تستنزف ثروات القارات الخمس بما حوت؛ لترفيه شعوبها التي تضمن البقاء لها حاكمة جاثمة؛ لذلك قيل: "إنَّ ما صار واضحاً فوق كل شيء آخر في السنوات ما بين الحربين هو اعتماد الدول الديموقراطية على اقتصاديات التوسع؛ وبمجرد أن تصير هذه غير متيسرة فإنَّ التناقض بين دلالات الرأسمالية ودلالات الديمقراطية يصبح مما لا يمكن التغلب عليه"([1]).

وحتى هذه الرفاهية يعتريها في بلادها مثالب، أولها أنَّها كانت مرحلة مؤقتة فرضتها تغيرات كبيرة في أشكال النشاط البشريّ، وأنَّ الرأسمالية (الجهة المالكة للديمقراطية والحاكم الفعلي للعالم) تخطط لإنهاء هذه الحالة، وقد تصايح الكثيرون من مفكريهم وتنادوا محذرين من هذا المخطط، فهاهم يجتهدون في رصد الظاهرة وتحليل الوقائع، "ويحلل العالم المختص بشئون المستقبل (جون نايزبت) واقع المجتمعات الصناعية، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه هذا العصر من مستوى معيشيّ مرتفع لجمهور المجتمع ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي"([2])، وقد توصلوا من خلال رصد الواقع وتحليل الأحداث إلى أنَّ معتقد الاقتصاديين المؤثرين في القرار "أنّ النموذج الأوربيّ لدولة الرفاهية قد أكل عليه الدهر وشرب، وأنّه قد صار مشروعاً باهظ التكاليف، مقارنة بما هو سائد في بلدان العالم الأخرى"([3]).

وفي سبيل تحرير السوق لصالح الطغمة الرأسمالية التي تحكم العالم يرتبون لتقييد دور الدولة (الديمقراطية!) بل والمؤسسات الدولية الكبرى، وقد نجحوا في هذا إلى حد كبير، "وهكذا صار عدم تدخل الدولة إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية أسلحة استراتيجية في ترسانة الحكومات المؤمنة بأداء السوق، وفي ترسانة المؤسسات والمنظمات الدولية المسيَّرة من قبل هذه الحكومات، والمتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ فقد غدت هذه المؤسسات الوسائل التي تحارب بها هذه الحكومات في معركتها الدائرة رحاها حتى الآن من أجل تحرير رأس المال"([4]).

ثاني هذه المثالب أنَّها رفاهية على حساب انسحاق الشعوب الأخرى بسبب الإمبريالية التي يمارس من خلالها النظام الدوليّ قهر شعوب "العالم الثالث"، ومنها أنَّ الصورة ليست بهذه البشاشة التي تبدو لنا في الظاهر العام المترع زيفاً ورياءً، ومن أحب أن يتابع إحصائيات المقهورين في أمريكا نفسها فعليه الاطلاع على تقارير منظمات عديدة، والأهم من هذا وذاك أن هذه الرفاهية متضمنة إلهاء الشعوب عن الغاية التي خلقت من أجلها، وهي عبادة الله، فبرغم مناخ الحريات الذي يتنفسه الناس في الغرب إلا أنها كحرية القرود في السرك الكبير، وهذا أمر شرحه يطول، ولعلنا نفرد له مقالاً منضماً لهذه السلسلة أو منفصلاً عنها.. (يتبع)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) تأملات في ثورات العصر - هارولد لاسكي - ترجمة عبد الكريم أحمد - دار القلم القاهرة مصر - بدون تاريخ طبع - صــــــ 284
([2]) فخ العولمة .. الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية - تأليف: (هانس بيتر مارتين ، هارالد شومان) - ترجمة: د. عدنان عباس علي - كتاب "عالم المعرفة" عدد 238 سنة 1990م صــــــــــ25
([3]) فخ العولمة .. صــــ 27
([4]) فخ العولمة .. صــــ 30
‏٢٨‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١١:٢٨ م‏
القوة في السياسة الشرعية 3/3 د. وصفي عاشور أبو زيد [لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ] المبحث الخامس: ضوابط القوة في السياسة الشرعية إذا استخدمت القوة في السياسة الشرعية من قبل الحكام والولاة دون أن تكون مضبوطة بضوابطها فإنها تصاب بالنزق، وتسيء من حيث أرادت الإحسان، وتفسد من حيث أرادت الإصلاح، وتهدم من حيث أرادت البناء، وتحطم حياة الناس من حيث أرادت الخير لهم في المعاش والمعاد. وإذا استخدمت من غير الحكام والولاة فهي صادرة من غير أهلها، وغالبا ما تكون في غير محلها، وفي هذا من الخطر على المجتمع وأمنه ما لا يخفى، والحديث هنا على المجتمعات ذات الحكم الرشيد، التي لا يحاربها حُكامها ولا يعملون ضدها لصالح أعدائها ولا يذيقونها الويلات والمذابح تلو المذابح، وإلا فإذا استخدمت فئة مظلومة القوة للدفاع عن نفسها ودفع الصائل المعتدي على العرض والدين والمال والنفس بما يراعي المصالح والمفاسد ومقاصد الشرع، فلا تكون ملامة شرعاً ولا عقلاً. ولهذا لابد من وضع ضوابط لاستخدام القوة في حالة المجتمعات الرشيدة، حتى تثمر ثمرتها، وتؤتي أكلها، وتفعل فعلها، وتحقق مقاصدها وأهدافها. ومن أهم هذه الضوابط: أولا: أن يكون استخدام القوة صادرًا من جهته المشروعة: من الضوابط المهمة التي يجب أن تنضبط بها القوة واستخدامها أن تكون صادرة من جهتها المنوطة بها، لا من أي جهة أخرى؛ إذ صدور القوة من غير جهتها المشروعة يهدد أمن المجتمع ويعرضه للفتن. وأعني بالجهة المشروعة هنا السلطة التي اختارتها الأمة، أو رضيت بها وبايعتها، ووكَّلتْها في حماية المجتمع من الأخطار، وفي حماية حدوده، وتوفير الأمن والأمان لأفراده وجماعاته. ولا يرضى الإسلام أن تقوم قوى أو جهات غير السلطة الشرعية المختارة بتشكيل عصابات إجرامية لزعزعة الاستقرار وتقويض أمن المجتمع، والقيام بالافتئات على الحاكم المختار الذي يسعى في أمته وفق العقد المبرم بينه وبينها بما يحقق مقاصد الشرع، ويراعي مصالح الخلق. ويأتي الخلل هنا من أمرين: الأول: ألا يقوم الحاكم بواجباته، أو أن يخل بالعقد الذي بينه وبين الأمة، فيظلم ويتجبر ويطغى، ويخالف محكمات الشرع، فيهدر مقاصد الخالق، ويقوض مصالح المخلوقين، ومن هنا تنشأ في المجتمعات الجماعات المسلحة، وجماعات السلاح التي ترى وجوب إزالة هذا الظلم فتستخدم القوة، وتستعمل السلاح، فتحدث الفتن والقتل والجراح. والثاني: عدم الفهم الصحيح للإسلام، وعدم تقدير الأمور حق قدرها، واعتناق الفكر المتشدد الذي لا ينقصه الإخلاص بقدر ما ينقصه حسن الفهم وعمق التجربة، وهؤلاء يحتاجون إلى الرحمة والشفقة، والحوار الفاعل والتواصل البناء. ثانيا: أن يكون استخدام القوة بحق: استخدام القوة بغير الحق مذموم ومنكور، ذمه القرآن الكريم وأنكره، وجعل على فاعليه السبيل، قال تعالى: "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ". سورة الشورى: 42. يقول الإمام الطبري: يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الطَّرِيقُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِأَنْ [ص:529] يُعَاقِبُوهُمْ بِظُلْمِهِمْ لَا عَلَى مِنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُونَ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْحَدَّ الَّذِي أَبَاحَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 91] يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، لَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ"([1]). واستخدام القوة من مصدرها المشروع يجب أن يكون بحق، لا ظلم فيه ولا بغي ، وإنما بالحق والقسط والعدل، وضابط هذا الحق الذي يضبطه ويحكمه هو المقصد من قيام الحكام والولاة، قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون: "ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم ... والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك، من بعد. والله الحكيم العليم"([2]). فهذا المقصد الكبير هو الضامن الحقيقي لكي يكون استخدام القوة بالحق، وكل استخدام للقوة لا يحقق هذا المقصد العظيم فهو استخدام بغير حق يجب أن يمتنع عنه الحاكم، ويجب على الأمة أن تأخذ على يد الحاكم لترده فيه إلى الحق. ثالثا: ألا يكون استخدام القوة متجاوزا لحده: لا ينفصل هذا الضابط عن الضابط قبله، فاستخدام القوة بحق والامتناع عن استخدامها بغير الحق، يؤدي بنا إلى عدم التجاوز في استخدام القوة، فهناك استخدام القوة بضوابطه، وهناك التعسف في استعمال الحق في استعمال القوة. ولهذا ضبطت الشريعة استخدام القوة حتى لا يكون مُفْرطًا، وكي لا يأتي بنتائج عكسية، وربما يستجلب غضب الله تعالى وغضب الناس. ومن هنا كان تطبيق الحاكم للحدود مثلا له ضوابطه المعروفة والمدونة في مطولات كتب الفقه حتى لا يتجاوز في استخدام القوة، ولا يتعسف فيها. وما أكثر ما أفرط الحكام والمحكومون في استخدام القوة باسم الإسلام، وباسم توفير الأمن، وباسم حفظ المجتمع، وباسم تحقيق مقاصد الشريعة، وهذا أدى ويؤدي دائما إلى زعزعة الأمن، واضطراب نظام الحكم، واستعداء الناس، وإلجاء الأمة إلى العنف واستخدام السلاح، بما يفضي في النهاية إلى عكس المقصود تماما. ومن هنا نؤكد على أن يكون استخدام الحكام والولاة ومن يقوم مقامهم للقوة في حدوده، ومضبوطا بضوابطه، حتى يؤدي دوره، ويحقق مقاصده. رابعا: ألا يترتب على استخدامها ضرر أكبر: ومن الضوابط المهمة هنا - وفي غير هنا - ألا يترتب على استخدام القوة ضرر أكبر، وهي قاعدة كبيرة في الإسلام، حاكمة على استخدام القوة وضابطة له، كما أنها حاكمة في أعظم فريضة في الإسلام وأوسعها في باب السياسة الشرعية، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد اتفق الفقهاء أنه إذا كانت إزالة المنكر ترتِّب عليه منكرا أكبر منه حرم الأمر والنهي، قال العلامة ابن القيم: "فإنكار المنكر أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة"([3]). ومما ذكره الإمام المحقق ابن قيم الجوزية عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم([4]). وهذا يدخل أيضا ضمن فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المقاصد، فهي منظومة مترابطة ومتكاملة يشد بعضها بعضا، ويرتبط بعضها ببعض. وتَرَتُّبُ المفاسد الكبرى على استخدام القوة أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويدخل ضمن تقدير الحاكم للأمور؛ إذ تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة، كما قرره الفقهاء. المبحث السادس مقاصد القوة في السياسة الشرعية إيجاد القوة بعناصرها وأنواعها، وضبط هذه القوة بضوابطها التي أسلفناها يثمر ثمراته ، ويؤدي نتائجه، ويحقق مقاصده، ومن هذه المقاصد: أولا: حماية الدين وحفظ نظام الأمة: حفظ نظام الأمة من مقاصد الشريعة الكبرى التي تسعى لتحقيقها عبر أحكامها المختلفة في أبوابها المتنوعة، يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: إذا نحن استقرينا موارد الشريعة استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيه، هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان([5]). ويقول في موضع آخر: إن مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال([6]). ولن تتم حماية الدين وحراسته إلا بسياسة قوية تستجمع لديها كل أسباب القوة وأنواعها، كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) } الأنفال. فالمسلمون إذن مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض، ولتكون كلمة الله هي العليا، لأن إظهار القوة يلقي الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض، الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ وآخرين ممن لا يعرفونهم ، ولم يجهروا لهم بالعداوة ، وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ، ولو لم تمتد بالفعل إليهم([7]). والأمة مطالبة بإعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن ، وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء الإِسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم... فيعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، ويستطيعون أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحدًا إلا الله عز وجل "([8]). وبهذه القوة تتحقق حماية الدين، ويحفظ نظام الأمة، فتعيش بعيدة عن الاضطرابات والانقسامات والتعصبات، وتعيش آمنة مطمئنة. ثانيا: تحقيق الريادة والقيادة للأمة: من المقاصد المهمة التي تحققها القوة بأنواعها وضوابطها أن تتحقق الريادة للأمة، فيمكّن الله لها دينها، ويبدلها من بعد الخوف أمنًا. يقول العلامة الشيخ السيد سابق: وقد كانت هذه القوى – يعني بأنواعها المختلفة التي أوردناها عنه سلفا - هي العامل الأساسي في نجاح الأمة في أول دور من أدوار حياتها التاريخية؛ فما كادت تجتمع لها هذه العناصر حتى آل إليها ميراث الأرض، ووضع في يدها قيادة الأمم، ووكل إليها إخراج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وباجتماع هذه العناصر أصبحت الأمة رفيعة البنيان، عظيمة السلطان، ثابتة الأركان، باذخة الذرى، وتم لها وعد الله الذي لا يتخلف: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". سورة النور: 55([9]). وهل تتحقق الريادة فضلا عن القيادة لأي أمة من الأمم إلا إذا امتلكت مقومات القوة جميعا؟ لَكَمْ ذاقت أمتنا مراراتٍ وإهاناتٍ وذلةً جراء عيشها تابعة منكسرة؛ حيث إنها لا تملك أيا من مقومات القوة التي تضمن لها الاستقلال والندية والكرامة والعزة، وإذا امتلكتها فهي لا تملك القرار والإرادة التي تصل بها إلى هذه المكانة؛ ولهذا كانت القوة من شعار الإسلام الذي يرفعه ويؤمن به ويدعو إليه. وأسباب القوة ليست في فوضى الأخلاق، ولا في التحلل من الآداب، ولا في التشكيك في المثل والقيم وثوابت الأمة، ولا في تقليد الشرق والغرب، ولا في استيراد المبادئ من هنا وهناك ، وإنما هي في الأصول الخالدة، والمبادئ الكريمة السائدة، التي جاء بها الإسلام([10]). ومن هنا وجب على أمتنا اليوم أن تستعيد عافيتها، وتسعى لامتلاك كل أسباب القوة الممكنة، فالعالم المعاصر أضحى لا يعرف إلا منطق القوة لا قوة المنطق، وبات لا يعترف بغير الأقوياء. ثالثا: تحقيق الرحمة بالمؤمنين والغلظة على المعتدين: ومن مقاصد وجود القوة بعناصرها وأنواعها وضوابطها أن يتحقق للأمة الرحمةُ بالمؤمنين؛ فترحمهم وتكفلهم وتنصرهم في أي مكان كانوا، ولا تُسْلمهم لعدو ولا معتدٍ، والغلظةُ على المعتدين الظالمين الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق؛ فتردعهم، وتلجمهم، وتلزمهم غرزهم، بما توفر لها من مقومات شاملة للقوة، والله تعالى يقول: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ". سورة الفتح: 29. قال الألوسي: "إن المؤمنين فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين، ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس، فمع كونهم أشداء على الأعداء، فهم رحماء على الإخوان، ونحوه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.." المائدة: 54. ومعنى كونهم أعزة على الكافرين، أنهم أشداء متغلبون عليهم([11]). وقال ابن كثير : "هذه صفات المؤمنين الكمَّل؛ أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه" ([12]) . قال عطاء رضي الله عنه: "للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته ([13]). ***** خاتمة توصيات هكذا تتضح لنا ضرورة توفير القوة للأمة المسلمة، بأنواعها وعناصرها ومجالاتها المختلفة، ويجب أن تضبط الأمةُ ممثلةً في حكامها وولاتها هذه القوة بضوابطها الشرعية التي وضحناها في هذا البحث، حتى تحقق مقاصدها، فتحمي الدين، وتحفظ الأمة، وتحقق لها القيادة والريادة، وتحقق الرحمة بالمؤمنين وتنصرتهم، والتصدي للمعتدين وتردعهم. وإذا كان هناك من توصيات فإن البحث يوصي بأن تحرص الأمة المسلمة عبر حكامها وقادة الرأي فيها على امتلاك كل أنواع القوة، ومن ذلك: 1. القوة في الإيمان الذي يحرر الضمير والوجدان من كل عبودية لغير الله . 2. القوة في الاستمساك بالحق ، مهما كانت قوة ضغوط الباطل . 3. القوة في العلم الصانع للشخصية المثلى للإنسان، المبني على أسس التقوى، المثمر بالعمل ، وبناء الإعلام النافذ إلى أعماق النفس . 4. القوة في بناء الاقتصاد لاستثمار الأرض وثرواتها، وحسن التصرف فيها ؛ لبناء الحاضر، وتأمين المستقبل. 5. القوة في إقامة المجتمع على أساس العدل الشامل، والتشريع السمح، والعمل الجاد. 6. القوة في الكشف عن الضعف النفسي في المجتمع، والتطهر منه؛ حتى تأخذ النفس طريقها إلى السمو الروحي، والعزة والكرامة. 7. القوة في تربية الأمة على حب الجهاد في سبيل الله ؛ حتى تتمكن من الذود عن حياض الدين والعرض والأرض والثروات . 8. القوة في إعداد الأمة ما تستطيع من قوة السلاح بمختلف أشكاله وصنوفه؛ حتى تستطيع مواجهة أعدائها بمثل ما يواجهونها به . 9. القوة في الاتحاد على أساس إيماني، وعدم التمزق مهما كانت التأويلات الداعية إلى التفرق ذات نية صادقة، والحض على طاعة أولياء الأمور في المعروف، والنصح والدعاء لهم، وتماسك المجتمع كله في السلم والأزمات. 10. القوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق الضوابط الشرعية، المبنية على التغيير المتدرج. والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 20/ 528-529. طبعة هجر. ([2]) مقدمة ابن خلدون: 1/ 365. الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة. تحقيق: عبد الله محمد الدرويش. دار يعرب. دمشق. الطبعة الأولى. 1425هـ. 2004م. ([3]) إعلام الموقعين: 3/ 12. دار الكتب العلمية. 1411هـ. ([4]) إعلام الموقعين: 3/ 13. ([5]) مقاصد الشريعة الإسلامية: 60. دار السلام. القاهرة. 2006م. ([6]) السابق: 134. ([7]) في ظلال القرآن: 2/ 1544. دار الشروق. القاهرة. ([8]) التفسير الوسيط : 6/ 141. محمد سيد طنطاوي. دار نهضة مصر. ([9]) عناصر القوة في الإسلام: 4. ([10]) السابق: 6. ([11]) روح المعاني: 13/ 267، و3/ 331. دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة: الأولى، 1415 هـ. ([12]) تفسير القرآن العظيم: 3/ 136. دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية 1420هـ - 1999 م. ([13]) مدارج السالكين لابن القيم: 2/ 311. دار الكتاب العربي – بيروت. الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996م.
القوة في السياسة الشرعية 3/3
د. وصفي عاشور أبو زيد

[لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ]


المبحث الخامس: ضوابط القوة في السياسة الشرعية
إذا استخدمت القوة في السياسة الشرعية من قبل الحكام والولاة دون أن تكون مضبوطة بضوابطها فإنها تصاب بالنزق، وتسيء من حيث أرادت الإحسان، وتفسد من حيث أرادت الإصلاح، وتهدم من حيث أرادت البناء، وتحطم حياة الناس من حيث أرادت الخير لهم في المعاش والمعاد.
وإذا استخدمت من غير الحكام والولاة فهي صادرة من غير أهلها، وغالبا ما تكون في غير محلها، وفي هذا من الخطر على المجتمع وأمنه ما لا يخفى، والحديث هنا على المجتمعات ذات الحكم الرشيد، التي لا يحاربها حُكامها ولا يعملون ضدها لصالح أعدائها ولا يذيقونها الويلات والمذابح تلو المذابح، وإلا فإذا استخدمت فئة مظلومة القوة للدفاع عن نفسها ودفع الصائل المعتدي على العرض والدين والمال والنفس بما يراعي المصالح والمفاسد ومقاصد الشرع، فلا تكون ملامة شرعاً ولا عقلاً.
ولهذا لابد من وضع ضوابط لاستخدام القوة في حالة المجتمعات الرشيدة، حتى تثمر ثمرتها، وتؤتي أكلها، وتفعل فعلها، وتحقق مقاصدها وأهدافها.
ومن أهم هذه الضوابط:
أولا: أن يكون استخدام القوة صادرًا من جهته المشروعة:
من الضوابط المهمة التي يجب أن تنضبط بها القوة واستخدامها أن تكون صادرة من جهتها المنوطة بها، لا من أي جهة أخرى؛ إذ صدور القوة من غير جهتها المشروعة يهدد أمن المجتمع ويعرضه للفتن.
وأعني بالجهة المشروعة هنا السلطة التي اختارتها الأمة، أو رضيت بها وبايعتها، ووكَّلتْها في حماية المجتمع من الأخطار، وفي حماية حدوده، وتوفير الأمن والأمان لأفراده وجماعاته.
ولا يرضى الإسلام أن تقوم قوى أو جهات غير السلطة الشرعية المختارة بتشكيل عصابات إجرامية لزعزعة الاستقرار وتقويض أمن المجتمع، والقيام بالافتئات على الحاكم المختار الذي يسعى في أمته وفق العقد المبرم بينه وبينها بما يحقق مقاصد الشرع، ويراعي مصالح الخلق.
ويأتي الخلل هنا من أمرين:
الأول: ألا يقوم الحاكم بواجباته، أو أن يخل بالعقد الذي بينه وبين الأمة، فيظلم ويتجبر ويطغى، ويخالف محكمات الشرع، فيهدر مقاصد الخالق، ويقوض مصالح المخلوقين، ومن هنا تنشأ في المجتمعات الجماعات المسلحة، وجماعات السلاح التي ترى وجوب إزالة هذا الظلم فتستخدم القوة، وتستعمل السلاح، فتحدث الفتن والقتل والجراح.
والثاني: عدم الفهم الصحيح للإسلام، وعدم تقدير الأمور حق قدرها، واعتناق الفكر المتشدد الذي لا ينقصه الإخلاص بقدر ما ينقصه حسن الفهم وعمق التجربة، وهؤلاء يحتاجون إلى الرحمة والشفقة، والحوار الفاعل والتواصل البناء.

ثانيا: أن يكون استخدام القوة بحق:
استخدام القوة بغير الحق مذموم ومنكور، ذمه القرآن الكريم وأنكره، وجعل على فاعليه السبيل، قال تعالى: "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ". سورة الشورى: 42.
يقول الإمام الطبري: يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الطَّرِيقُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الَّذِينَ يَتَعَدَّوْنَ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِأَنْ [ص:529] يُعَاقِبُوهُمْ بِظُلْمِهِمْ لَا عَلَى مِنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَقَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُونَ فِي أَرْضِ اللَّهِ الْحَدَّ الَّذِي أَبَاحَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إِلَى مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 91] يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، لَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ"([1]).
واستخدام القوة من مصدرها المشروع يجب أن يكون بحق، لا ظلم فيه ولا بغي ، وإنما بالحق والقسط والعدل، وضابط هذا الحق الذي يضبطه ويحكمه هو المقصد من قيام الحكام والولاة، قال العلامة عبد الرحمن بن خلدون: "ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم ... والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك، من بعد. والله الحكيم العليم"([2]).
فهذا المقصد الكبير هو الضامن الحقيقي لكي يكون استخدام القوة بالحق، وكل استخدام للقوة لا يحقق هذا المقصد العظيم فهو استخدام بغير حق يجب أن يمتنع عنه الحاكم، ويجب على الأمة أن تأخذ على يد الحاكم لترده فيه إلى الحق.

ثالثا: ألا يكون استخدام القوة متجاوزا لحده:
لا ينفصل هذا الضابط عن الضابط قبله، فاستخدام القوة بحق والامتناع عن استخدامها بغير الحق، يؤدي بنا إلى عدم التجاوز في استخدام القوة، فهناك استخدام القوة بضوابطه، وهناك التعسف في استعمال الحق في استعمال القوة.
ولهذا ضبطت الشريعة استخدام القوة حتى لا يكون مُفْرطًا، وكي لا يأتي بنتائج عكسية، وربما يستجلب غضب الله تعالى وغضب الناس. ومن هنا كان تطبيق الحاكم للحدود مثلا له ضوابطه المعروفة والمدونة في مطولات كتب الفقه حتى لا يتجاوز في استخدام القوة، ولا يتعسف فيها.
وما أكثر ما أفرط الحكام والمحكومون في استخدام القوة باسم الإسلام، وباسم توفير الأمن، وباسم حفظ المجتمع، وباسم تحقيق مقاصد الشريعة، وهذا أدى ويؤدي دائما إلى زعزعة الأمن، واضطراب نظام الحكم، واستعداء الناس، وإلجاء الأمة إلى العنف واستخدام السلاح، بما يفضي في النهاية إلى عكس المقصود تماما.
ومن هنا نؤكد على أن يكون استخدام الحكام والولاة ومن يقوم مقامهم للقوة في حدوده، ومضبوطا بضوابطه، حتى يؤدي دوره، ويحقق مقاصده.

رابعا: ألا يترتب على استخدامها ضرر أكبر:
ومن الضوابط المهمة هنا - وفي غير هنا - ألا يترتب على استخدام القوة ضرر أكبر، وهي قاعدة كبيرة في الإسلام، حاكمة على استخدام القوة وضابطة له، كما أنها حاكمة في أعظم فريضة في الإسلام وأوسعها في باب السياسة الشرعية، وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد اتفق الفقهاء أنه إذا كانت إزالة المنكر ترتِّب عليه منكرا أكبر منه حرم الأمر والنهي، قال العلامة ابن القيم: "فإنكار المنكر أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة"([3]).
ومما ذكره الإمام المحقق ابن قيم الجوزية عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم([4]).
وهذا يدخل أيضا ضمن فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه المقاصد، فهي منظومة مترابطة ومتكاملة يشد بعضها بعضا، ويرتبط بعضها ببعض.
وتَرَتُّبُ المفاسد الكبرى على استخدام القوة أمر يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويدخل ضمن تقدير الحاكم للأمور؛ إذ تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة، كما قرره الفقهاء.


المبحث السادس
مقاصد القوة في السياسة الشرعية
إيجاد القوة بعناصرها وأنواعها، وضبط هذه القوة بضوابطها التي أسلفناها يثمر ثمراته ، ويؤدي نتائجه، ويحقق مقاصده، ومن هذه المقاصد:

أولا: حماية الدين وحفظ نظام الأمة:
حفظ نظام الأمة من مقاصد الشريعة الكبرى التي تسعى لتحقيقها عبر أحكامها المختلفة في أبوابها المتنوعة، يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: إذا نحن استقرينا موارد الشريعة استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيه، هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان([5]).
ويقول في موضع آخر: إن مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال([6]).
ولن تتم حماية الدين وحراسته إلا بسياسة قوية تستجمع لديها كل أسباب القوة وأنواعها، كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) } الأنفال.
فالمسلمون إذن مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض، ولتكون كلمة الله هي العليا، لأن إظهار القوة يلقي الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض، الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ وآخرين ممن لا يعرفونهم ، ولم يجهروا لهم بالعداوة ، وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ، ولو لم تمتد بالفعل إليهم([7]).
والأمة مطالبة بإعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن ، وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء الإِسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم... فيعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، ويستطيعون أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحدًا إلا الله عز وجل "([8]).
وبهذه القوة تتحقق حماية الدين، ويحفظ نظام الأمة، فتعيش بعيدة عن الاضطرابات والانقسامات والتعصبات، وتعيش آمنة مطمئنة.

ثانيا: تحقيق الريادة والقيادة للأمة:
من المقاصد المهمة التي تحققها القوة بأنواعها وضوابطها أن تتحقق الريادة للأمة، فيمكّن الله لها دينها، ويبدلها من بعد الخوف أمنًا.
يقول العلامة الشيخ السيد سابق: وقد كانت هذه القوى – يعني بأنواعها المختلفة التي أوردناها عنه سلفا - هي العامل الأساسي في نجاح الأمة في أول دور من أدوار حياتها التاريخية؛ فما كادت تجتمع لها هذه العناصر حتى آل إليها ميراث الأرض، ووضع في يدها قيادة الأمم، ووكل إليها إخراج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله وحده، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، وباجتماع هذه العناصر أصبحت الأمة رفيعة البنيان، عظيمة السلطان، ثابتة الأركان، باذخة الذرى، وتم لها وعد الله الذي لا يتخلف: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". سورة النور: 55([9]).
وهل تتحقق الريادة فضلا عن القيادة لأي أمة من الأمم إلا إذا امتلكت مقومات القوة جميعا؟ لَكَمْ ذاقت أمتنا مراراتٍ وإهاناتٍ وذلةً جراء عيشها تابعة منكسرة؛ حيث إنها لا تملك أيا من مقومات القوة التي تضمن لها الاستقلال والندية والكرامة والعزة، وإذا امتلكتها فهي لا تملك القرار والإرادة التي تصل بها إلى هذه المكانة؛ ولهذا كانت القوة من شعار الإسلام الذي يرفعه ويؤمن به ويدعو إليه.
وأسباب القوة ليست في فوضى الأخلاق، ولا في التحلل من الآداب، ولا في التشكيك في المثل والقيم وثوابت الأمة، ولا في تقليد الشرق والغرب، ولا في استيراد المبادئ من هنا وهناك ، وإنما هي في الأصول الخالدة، والمبادئ الكريمة السائدة، التي جاء بها الإسلام([10]).

ومن هنا وجب على أمتنا اليوم أن تستعيد عافيتها، وتسعى لامتلاك كل أسباب القوة الممكنة، فالعالم المعاصر أضحى لا يعرف إلا منطق القوة لا قوة المنطق، وبات لا يعترف بغير الأقوياء.


ثالثا: تحقيق الرحمة بالمؤمنين والغلظة على المعتدين:
ومن مقاصد وجود القوة بعناصرها وأنواعها وضوابطها أن يتحقق للأمة الرحمةُ بالمؤمنين؛ فترحمهم وتكفلهم وتنصرهم في أي مكان كانوا، ولا تُسْلمهم لعدو ولا معتدٍ، والغلظةُ على المعتدين الظالمين الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق؛ فتردعهم، وتلجمهم، وتلزمهم غرزهم، بما توفر لها من مقومات شاملة للقوة، والله تعالى يقول: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ". سورة الفتح: 29.
قال الألوسي: "إن المؤمنين فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين، ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس، فمع كونهم أشداء على الأعداء، فهم رحماء على الإخوان، ونحوه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.." المائدة: 54. ومعنى كونهم أعزة على الكافرين، أنهم أشداء متغلبون عليهم([11]).
وقال ابن كثير : "هذه صفات المؤمنين الكمَّل؛ أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه، متعززا على خصمه وعدوه" ([12]) . قال عطاء رضي الله عنه: "للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته ([13]).

*****

خاتمة توصيات
هكذا تتضح لنا ضرورة توفير القوة للأمة المسلمة، بأنواعها وعناصرها ومجالاتها المختلفة، ويجب أن تضبط الأمةُ ممثلةً في حكامها وولاتها هذه القوة بضوابطها الشرعية التي وضحناها في هذا البحث، حتى تحقق مقاصدها، فتحمي الدين، وتحفظ الأمة، وتحقق لها القيادة والريادة، وتحقق الرحمة بالمؤمنين وتنصرتهم، والتصدي للمعتدين وتردعهم.
وإذا كان هناك من توصيات فإن البحث يوصي بأن تحرص الأمة المسلمة عبر حكامها وقادة الرأي فيها على امتلاك كل أنواع القوة، ومن ذلك:
1. القوة في الإيمان الذي يحرر الضمير والوجدان من كل عبودية لغير الله .
2. القوة في الاستمساك بالحق ، مهما كانت قوة ضغوط الباطل .
3. القوة في العلم الصانع للشخصية المثلى للإنسان، المبني على أسس التقوى، المثمر بالعمل ، وبناء الإعلام النافذ إلى أعماق النفس .
4. القوة في بناء الاقتصاد لاستثمار الأرض وثرواتها، وحسن التصرف فيها ؛ لبناء الحاضر، وتأمين المستقبل.
5. القوة في إقامة المجتمع على أساس العدل الشامل، والتشريع السمح، والعمل الجاد.
6. القوة في الكشف عن الضعف النفسي في المجتمع، والتطهر منه؛ حتى تأخذ النفس طريقها إلى السمو الروحي، والعزة والكرامة.
7. القوة في تربية الأمة على حب الجهاد في سبيل الله ؛ حتى تتمكن من الذود عن حياض الدين والعرض والأرض والثروات .
8. القوة في إعداد الأمة ما تستطيع من قوة السلاح بمختلف أشكاله وصنوفه؛ حتى تستطيع مواجهة أعدائها بمثل ما يواجهونها به .
9. القوة في الاتحاد على أساس إيماني، وعدم التمزق مهما كانت التأويلات الداعية إلى التفرق ذات نية صادقة، والحض على طاعة أولياء الأمور في المعروف، والنصح والدعاء لهم، وتماسك المجتمع كله في السلم والأزمات.
10. القوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق الضوابط الشرعية، المبنية على التغيير المتدرج.

والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 20/ 528-529. طبعة هجر.
([2]) مقدمة ابن خلدون: 1/ 365. الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة. تحقيق: عبد الله محمد الدرويش. دار يعرب. دمشق. الطبعة الأولى. 1425هـ. 2004م.
([3]) إعلام الموقعين: 3/ 12. دار الكتب العلمية. 1411هـ.
([4]) إعلام الموقعين: 3/ 13.
([5]) مقاصد الشريعة الإسلامية: 60. دار السلام. القاهرة. 2006م.
([6]) السابق: 134.
([7]) في ظلال القرآن: 2/ 1544. دار الشروق. القاهرة.
([8]) التفسير الوسيط : 6/ 141. محمد سيد طنطاوي. دار نهضة مصر.
([9]) عناصر القوة في الإسلام: 4.
([10]) السابق: 6.
([11]) روح المعاني: 13/ 267، و3/ 331. دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة: الأولى، 1415 هـ.
([12]) تفسير القرآن العظيم: 3/ 136. دار طيبة للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية 1420هـ - 1999 م.
([13]) مدارج السالكين لابن القيم: 2/ 311. دار الكتاب العربي – بيروت. الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996م.
‏٢٦‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١٠:٠٨ م‏
مفهوم الجهاد الشرعي د. سفر الحوالي فك الله أسره(1) [لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ] الجهاد هو بذل الجهد، ومن أنواعه القتال، ولما ذكر الله تعالى شراء الأنفس وبين فضل قتال الكفار، أعقب ذلك بقوله: ﴿لتَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : 112]. وليس الجهاد محصورا في قتال الكفار فقط، فكل من جاهد نفسه في طاعة الله فهو مجاهد، وكل من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر فهو كالمقاتل في سبيل الله وربما أعظم منه لأنه يحافظ على رأس المال الذي إذا ذهب لا ربح بعده. قال ابن كثير في تفسير آية الشراء المتقدمة من سورة التوبة: "هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم"، وقال: "وهم مع ذلك ينصحون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه عملا وانقياداً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق" اهـ. وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر كما ثبت في الحديث، ومن رحمته تعالى أن جعل الجمع بين أنواع من الجهاد ممكن، فما على فاعل ذلك من تبعة. والجهاد ليس فيه أكبر وأصغر وفق زعم بعض الصوفية، إذ يجعلون قتال الكفار أصغرا، وإنما فيه أفضل وفاضل كما في الحديث وكلاهما كبير. ومن قتال الكفار ما هو فرض عين ومنه ما هو تطوع، أما طاعة الله فهي فرض عين على كل مسلم حسب طاقته، كما أن الهجرة قبل فتح مكة كانت فرض عين وبعدما فتحت مكة أصبحت هجر ما نهي الله عنه، وقد يقتضي ذلك الانتقال من بلد لآخر. وعلماء الإسلام يجب عليهم الجهاد الأفضل ما استطاعوا إليه سبيلا، وإذا تخلّوا عنه أصبحوا كالحجر في الساقية، بل ربما من قطّاع الطريق إلى الله كما ذكر ابن القيم، ولا يجوز لهم تأويل كل ما يفعله الحكام، فإن الأصنام إنما عُبدت بالتأويلات ومن كان منهم عاجزا عن قول الحق فليعتزل ولا يقل الباطل، ولا يخدر الأمة بالثناء على من يعطيه الراتب! والجهاد في سبيل الله -بمعنى القتال- أجره عظيم وفضله كبير، يرفع الله به من شاء من خلقه، وهو المراد بالجهاد إذا أطلق. ووجوب الجهاد لا يعني تقحم المراحل أو إغفال بعض أنواعه التي لا يتم إلا بها ولا بد منها، فالله تعالى جعل لكل فريضة وقتها، ولا يقبل ممن صلى الظهر مثلا قبل الزوال، ولم يأذن للأنصار ليلة العقبة أن يميلوا بأسيافهم على أهل الموسم، وهكذا، فلكل شيء وقته ولكل مرحلة تعاملها. وعقيدة أهل السنة والجماعة متسقة مع العقل في كل شيء، ومن ذلك أن الناس كما يتفاوتون في الإيمان يتفاوتون في شُعبه، فليس كل أهل لا إله إلا الله سواء، وليس كل المصلين سواء، وليس كل الذاكرين سواء، وليس كل المستحين سواء، وليس كل مميطي الأذى عن الطريق سواء وهكذا. وهذا التفاوت وارد في القرآن، فليس من أنفق وقاتل قبل الفتح كمن أنفق وقاتل بعده، وليس الأعراب كالمهاجرين وإن كان ما لديهم من الإيمان يسمى إسلاماً. كما أنه ثابت بالسنة فليس من أسلم متأخراً مثل سيف الله خالد بن الوليد كالسابقين الأولين من مثل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، ولما اختلفا زجر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً. ولما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أين أنت من فلان إني لأراه مؤمناً، قال له النبي صلى الله عليه وسلم (أوْ مسلمًا). ولما جىء له صلى الله عليه وسلم بأحد الصحابة أقام عليه حدّ الشرب ولما قال أحدهم "لعنه الله كم يشرب"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله). وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم حكم أن بعض الناس لا يقبل الله منه عدلا ولا صرفًا، وقال: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم). وقال الله تعالى: (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) [النساء : 95] وأمثال ذلك كثير. وكلام الصحابة والتابعين وسائر السلف في ذلك لا يحصى. ومن مجموع هذه الأدلة نوقن أن بعض أنواع الجهاد أعلى من بعض، وأن المجاهدين متفاوتون فيه. ومن قاتل من أجل مُلْك أحد أو من أجل القومية أو الوطنية أو قاتل من أجل شيء وكله الله إليه. وقد قتل قزمان سبعة أو ثمانية من المشركين وقال الصحابة إنه شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو من أهل النار)، فلماذا ذهبوا إليه قال: إنما قاتلت عن أحساب قومي، فالقومية أضيق من الوطنية وتجعل من قاتل لأجلها غير شهيد. وكذا من قاتل ليقال شجاع أو قاتل لأجل الراتب، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أجد له إلا الدريهمات تلك)، ومثله من قاتل ليترقى في الرتب العسكرية. وقد روى صاحب الصحيح أن أبا برزة الأسلمي قال: (اللهم إني أحتسب عندك أني أصبحت ساخطا على كل هؤلاء)، ثم ذكرهم وقال: (إنهم يقاتلون على الدنيا). وقال الصحابة (رضى الله عنهم) عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة، "هنيئًا له الشهادة"، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلّها لتشتعل عليه نارًا). وقد روى قصته البخاري وفيها أنه من عبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يغل اليوم المليارات من بيت مال المسلمين؟ وليس له صحبة ولا صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. ونحن مأمورون بقول الحق والعدل مع الأفراد والجماعات والأحزاب والدول والحضارات، والعدل مع المسلمين أولى. فلا نغمط الإخوان المسلمين مثلا فضلهم وجهادهم ولا نبخسهم أشياءهم ولا نفضل السيسي عليهم، ولا نقول إنهم جماعة إرهابية ولا نسميهم الاخوان المفلسين، بل نذكر ما نعلمه عنهم من الصواب والخطأ، وسوف يسألنا الله عن كل قول قلناه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). والإخوان منهم المحافظون ومنهم دون ذلك، والحكم عليهم جميعا خطأ، وإنما كل امرئ بما كسب رهين. وأعظم مآثر (الإخوان المسلمين) مثلا هي جهادهم في حرب السويس، الذي كتب عنه كامل الشريف، وأكبر أخطائهم ترك الجهاد ومع ذلك لم يسلموا بل وصفوهم بأنهم إرهابيون وصنفوهم كذلك. يسلموا بل وصفوهم بأنهم إرهابيون وصنفوهم كذلك. وقد أسس الشيخ حسن البنا -رحمه الله وتقبله شهيدا- جماعة الإخوان المسلمين، لتكون حركة دعوية تجديدية، لا لتكون حزبا سياسيا معارضا يؤمن بالديمقراطية، وكتب الوصايا العشرين وغيرها لتكون مصدرا دعويا للإخوان، وكان الشيخ متأثرا بدعوة الإخوان في جزيرة العرب، وجعل الجهاد ركنا ركينا من دعوته، ولكن الإخوان المتأخرين انحرفوا عن دعوته، وأصبحت حزبا سياسيا ولا يكادون يذكرون الدعوة والمهمة الأساسية للحركة، ولا يذكرون الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ويقولونه في شعارهم المشهور "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، وكذا في نشيدهم: هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل واشتغلوا بالأعراض عن المرض نفسه كإلغاء فلان للديمقراطية، بل يقولون نحن سلميون، ولم يمنع ذلك أن يتهمهم أعداؤهم بالإرهاب!! ويقولون إن فلانا انقلب على خيار الشعب وعلى الديمقراطية، وفي عهده تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وهذا صحيح في ذاته، لكن ليس هو الداء، وصار أكبر همَّ بعضهم الحصول على حقيبة وزارية أو مقعد في البرلمان، بل إن بعضهم أصبح من ركائز الطواغيت، الذين قامت الحركة أساسا لتخليص الأمة منهم، وهكذا تداخلت الأهواء الشخصية مع الأهداف الدعوية وبعضهم يدعو إلى العلمانية وهو لا يشعر. وبعضهم ذهب لأبعد من ذلك فتحالف مع الشيوعيين أو الاشتراكيين أو غيرهم من المعارضين. وبعضهم يقول إنه حزب وطني محلّي، أي أنه يؤمن بالتقسيم الذي وضعه (سايكس وزميله بيكو)، واستدرجهم أهل الكتاب ليدخلوا اللعبة السياسية ففعلوا، وبعضهم يقول إن كون الدستور الفلاني فيه عبارة دين الدولة الإسلام كاف!! ولا حاجة للمطالبة بتطبيق الشريعة، وخير من الإخوان من جاهد وجهاد اليهود هو جهاد المرحلة. أما الجماعات الجهادية فأكبر أخطائها هو أنها حصرت الجهاد في أحد معانيه، وهو القتال، وأهملت الأنواع الأخرى وذمت أهلها وأهدرت دماءهم وجعلتهم مرتدين، مع أن الأنواع الأخرى مذكورة في القرآن والسنة ومنها: أ – الجهاد بالقرآن (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان : 52]، وهو الدعوة والمجادلة، ويدل عليه قوله تعالى عن الوالدين: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) [لقمان : 15]. ب – دهاد المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : 73]. ت – الصدع بالحق، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقال: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، ولذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها جهادا. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلا مجاهدا؟ وهل كان حين أرسل المهاجرين إلى الحبشة إلا مجاهدا؟ وهل كان في صبره على الأذى وتحمله لما يقوله عبدالله بن أبي وحزبه إلا مجاهدا؟ وهل كان حين همّ المنافقون باغتياله وهو قافل من تبوك إلا مجاهدا؟ وهل كان حين عقد صلح الحديبية إلا مجاهدا؟ وهل كان حين يستقبل وفود العرب إلا مجاهدا؟ وهل كان وهو ينذر عشيرته الأقربين، ويجادل الكفار، ويبلِّغ شرع الله لعامة الأمة إلا مجاهدا؟ وهل كانت مناظراته لليهود وذهابه لبيت المدراش إلا نوعا من الجهاد؟ وهل كانت مناظرته لنصارى نجران إلا نوعا من الجهاد؟ وهل كانت مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار وتكفله بالنفقة على أهل الصفة ويتامى بدر إلا جهادا؟ وهل كان بناؤه للمسجد إلا جهادا؟ وهل كانت إقامته للحدود إلا جهادا؟ وهل كان دعاؤه ربه إلا جهادا؟ وهل تواضعه للفقراء والعجائز إلا جهادا؟ وبالجملة كانت كل أعماله العسكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية جهادا، فجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه وهو عنه راض. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم)، وابحث بنفسك عن سبب النصر والتنمية الدائمة والرفاهية الحقيقية!! وهل ذلك يتحقق بالقتال وحده؟ وانظر أي خطأ يرتكبه الذين يحصرون الجهاد في بعض أنواعه، أو يجعلونه صراعا بين قوى شريرة وحشية ظالمة من جهة، وبين قوى خيرة أخلاقية عادلة من جهة أخرى كالغرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجهاد منه ما يكون باليد ومنه ما يكون بالقلب والحجة والبيان والدعوة واللسان والبذل والصناعة" أهـ، وفي زماننا هذا أصبح الإعلام من أخص أنواع الجهاد وأهمها، وأصبحت مواقع العدو الاليكترونية من أكبر أهداف المجاهدين! وأصبح اختراق مواقعهم أكثر تاثيرا من قتل قادتهم. ولا يصح حصر الجهاد في بعض أنواعه مهما كان عظيما، كما لا يصح حصر الرسالة في محمد صلى الله عليه وسلم، أو حصر ما أنزل الله في القرآن وحصر الإسلام فى هذه الأمة، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل، والقرآن هو أفضل الكتب، وهذه الأمة هي أفضل الأمم. والجهاد ليس فرض عين في كل الأحوال، بل حسب المصلحة الشرعية، وإنما يكون الجهاد فرض عين في ثلاثة مواضع: أ- إذا استنفر الإمام المسلمين كلهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم عام تبوك. ب - إذا دهمهم العدو وجاء إلى بلادهم، فيجب على أهل تلك البلاد الدفع عن أنفسهم ويجب على المسلمين نصرتهم وإمدادهم بالمال والدعاء وبأي وسيلة ممكنة. ت - إذا حضر المجاهد بين الصفين، لم يجز له الفرار من الزحف، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ..) [التوبة : 123]. وأكثر الفقهاء على أن حكمه العام فرض كفاية، قال ابن القيم: "وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد"، ورجح أن الجهاد بمعنى القتال فرض كفاية وكذا قال ابن كثير. وقال ابن القيم: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، على كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية". واستدل ابن كثير على أن القتال باليد فرض كفاية بأنه تعالى أمر المؤمنين أول الأمر بكف اليد. هذا ويجوز قول فلان شهيد لمن علم القائل أنه مات شهيدا أو غلب ذلك على ظنه، والدليل قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌۚ بَلْ أَحْيَاءٌ) [البقرة : 154]، وقول الصحابة رضى الله عنهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان شهيد، وفلان شهيد، وأقرهم على ذلك حتى قالوا "فلان شهيد"، فقال: (كلا والله إني رأيته في النار في بردة غلّها)، رواه مسلم. لكن لا يكون ذلك على سبيل الجزم، وإنما على سبيل الرجاء خروجا من الخلاف في المسألة. ولا شك أن قتال الكفار له في الدين مترلة عالية وفضل عظيم، ولكن غيره أهم منه وقد يقدَّم عليه في النصوص لا سيما الإيمان بالله. وإنما يكون فرض عين في حالات معينة تقدم ذكرها، وحتى في هذه الحالات لا يكون كل الناس حاملين للسلاح، بل كلٌّ يجاهد في ميدانه، فالإمام أحمد مثلا صبر على الأذى والجلد، ولو أنه ذهب إلى الثغر لما فعل من ذلك شيئا، ولربما فعل بعض العوام أكثر منه، وصبره هذا من أعلى أنواع الجهاد. قال شيخ الإسلام: "والواجب أن يعتد في أمر الجهاد برأي أهل الدين الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا"، فلا بد من الرأي ومن معرفة الواقع. والدعوة مقدمة على القتال حتى في حالة قتال العدو أو محاصرته. قال صلى الله عليه وسلم: (لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيهن أجابك فاقبل وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم..) الحديث. وقد يكون الجهاد فتحا سياسيا للدعاة يُسلم به كثير من الناس، وقد سمى الله تعالى صلح الحديبية فتحا مبينا مع أنه لم يكن فيه قتال بل رجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمر تلك السنة. وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم الانسحاب يوم مؤتة فتحا كما في الصحيح، مع اتفاق أهل السيرة على أن المسلمين إنما رجعوا، وجهز عليه الصلاة والسلام أسامة ليأخذ بثأر أبيه، وأخبر صلى الله عليه وسلم باستشهاد قادة المسلمين في ذلك اليوم: زيد وعبدالله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب. وعاد صلى الله عليه وسلم عن حصار الطائف، ونهى عن قتال الترك والحبشة، وقال: (جاهدوا المشركين بأيديكم وأموالكم وأنفسكم)، وجعل انتظار الصلاة إلى الصلاة رباطا. والدعوة عامة لكل الناس (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ : 28]، وليس القتال كذلك. ويجب البدء في الجهاد بأشد الناس عداوة للذين آمنوا وهم اليهود كما بين الله. ومن ترقى في درجات الإيمان، أعطى كل مترلة حقها وعرف أن الترتيب واجب، وأن الأهم مقدم على المهم، وأن واجب الوقت مقدَّم على غيره، وشرط ذلك كله هو الإخلاص لله، فمن قاتل فليكن قتاله لله، ومن دعا فلتكن دعوته إلى الله، ومن تعلم فليكن علمه لله ومن قرأ فلتكن قراءته لله، ومن تصدق فلتكن صدقته لله، وإن أعطى فلله، وإن منع فلله، وإن والى فلله، وإن عادى فلله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات، لما احتيج إلى القتال، فبيان الإسلام وآياته واجب مطلقا وجوبا أصليا، أما الجهاد فمشروع للضرورة، وإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا، فلأن يجب علينا بيان الإسلام وأعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه، فهو واجب بطريق الأولى" اهـ. ــــــــــــــــ (1) من كتاب "المسلمون والحضارة الغربية" ص: 2174 وما بعده.
مفهوم الجهاد الشرعي
د. سفر الحوالي فك الله أسره(1)

[لتحميل العدد الجديد http://bit.ly/2KnCNmM ]

الجهاد هو بذل الجهد، ومن أنواعه القتال، ولما ذكر الله تعالى شراء الأنفس وبين فضل قتال الكفار، أعقب ذلك بقوله: ﴿لتَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : 112].

وليس الجهاد محصورا في قتال الكفار فقط، فكل من جاهد نفسه في طاعة الله فهو مجاهد، وكل من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر فهو كالمقاتل في سبيل الله وربما أعظم منه لأنه يحافظ على رأس المال الذي إذا ذهب لا ربح بعده.
قال ابن كثير في تفسير آية الشراء المتقدمة من سورة التوبة: "هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم"، وقال: "وهم مع ذلك ينصحون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه عملا وانقياداً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق" اهـ.

وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر كما ثبت في الحديث، ومن رحمته تعالى أن جعل الجمع بين أنواع من الجهاد ممكن، فما على فاعل ذلك من تبعة.

والجهاد ليس فيه أكبر وأصغر وفق زعم بعض الصوفية، إذ يجعلون قتال الكفار أصغرا، وإنما فيه أفضل وفاضل كما في الحديث وكلاهما كبير.

ومن قتال الكفار ما هو فرض عين ومنه ما هو تطوع، أما طاعة الله فهي فرض عين على كل مسلم حسب طاقته، كما أن الهجرة قبل فتح مكة كانت فرض عين وبعدما فتحت مكة أصبحت هجر ما نهي الله عنه، وقد يقتضي ذلك الانتقال من بلد لآخر.

وعلماء الإسلام يجب عليهم الجهاد الأفضل ما استطاعوا إليه سبيلا، وإذا تخلّوا عنه أصبحوا كالحجر في الساقية، بل ربما من قطّاع الطريق إلى الله كما ذكر ابن القيم، ولا يجوز لهم تأويل كل ما يفعله الحكام، فإن الأصنام إنما عُبدت بالتأويلات ومن كان منهم عاجزا عن قول الحق فليعتزل ولا يقل الباطل، ولا يخدر الأمة بالثناء على من يعطيه الراتب!

والجهاد في سبيل الله -بمعنى القتال- أجره عظيم وفضله كبير، يرفع الله به من شاء من خلقه، وهو المراد بالجهاد إذا أطلق.

ووجوب الجهاد لا يعني تقحم المراحل أو إغفال بعض أنواعه التي لا يتم إلا بها ولا بد منها، فالله تعالى جعل لكل فريضة وقتها، ولا يقبل ممن صلى الظهر مثلا قبل الزوال، ولم يأذن للأنصار ليلة العقبة أن يميلوا بأسيافهم على أهل الموسم، وهكذا، فلكل شيء وقته ولكل مرحلة تعاملها.

وعقيدة أهل السنة والجماعة متسقة مع العقل في كل شيء، ومن ذلك أن الناس كما يتفاوتون في الإيمان يتفاوتون في شُعبه، فليس كل أهل لا إله إلا الله سواء، وليس كل المصلين سواء، وليس كل الذاكرين سواء، وليس كل المستحين سواء، وليس كل مميطي الأذى عن الطريق سواء وهكذا.

وهذا التفاوت وارد في القرآن، فليس من أنفق وقاتل قبل الفتح كمن أنفق وقاتل بعده، وليس الأعراب كالمهاجرين وإن كان ما لديهم من الإيمان يسمى إسلاماً.
كما أنه ثابت بالسنة فليس من أسلم متأخراً مثل سيف الله خالد بن الوليد كالسابقين الأولين من مثل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، ولما اختلفا زجر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً.

ولما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أين أنت من فلان إني لأراه مؤمناً، قال له النبي صلى الله عليه وسلم (أوْ مسلمًا).

ولما جىء له صلى الله عليه وسلم بأحد الصحابة أقام عليه حدّ الشرب ولما قال أحدهم "لعنه الله كم يشرب"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله).

وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم حكم أن بعض الناس لا يقبل الله منه عدلا ولا صرفًا، وقال: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).

وقال الله تعالى: (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) [النساء : 95] وأمثال ذلك كثير.

وكلام الصحابة والتابعين وسائر السلف في ذلك لا يحصى.

ومن مجموع هذه الأدلة نوقن أن بعض أنواع الجهاد أعلى من بعض، وأن المجاهدين متفاوتون فيه.

ومن قاتل من أجل مُلْك أحد أو من أجل القومية أو الوطنية أو قاتل من أجل شيء وكله الله إليه.

وقد قتل قزمان سبعة أو ثمانية من المشركين وقال الصحابة إنه شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو من أهل النار)، فلماذا ذهبوا إليه قال: إنما قاتلت عن أحساب قومي، فالقومية أضيق من الوطنية وتجعل من قاتل لأجلها غير شهيد.

وكذا من قاتل ليقال شجاع أو قاتل لأجل الراتب، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أجد له إلا الدريهمات تلك)، ومثله من قاتل ليترقى في الرتب العسكرية.

وقد روى صاحب الصحيح أن أبا برزة الأسلمي قال: (اللهم إني أحتسب عندك أني أصبحت ساخطا على كل هؤلاء)، ثم ذكرهم وقال: (إنهم يقاتلون على الدنيا).

وقال الصحابة (رضى الله عنهم) عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة، "هنيئًا له الشهادة"، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلّها لتشتعل عليه نارًا).

وقد روى قصته البخاري وفيها أنه من عبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يغل اليوم المليارات من بيت مال المسلمين؟ وليس له صحبة ولا صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ونحن مأمورون بقول الحق والعدل مع الأفراد والجماعات والأحزاب والدول والحضارات، والعدل مع المسلمين أولى.

فلا نغمط الإخوان المسلمين مثلا فضلهم وجهادهم ولا نبخسهم أشياءهم ولا نفضل السيسي عليهم، ولا نقول إنهم جماعة إرهابية ولا نسميهم الاخوان المفلسين، بل نذكر ما نعلمه عنهم من الصواب والخطأ، وسوف يسألنا الله عن كل قول قلناه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

والإخوان منهم المحافظون ومنهم دون ذلك، والحكم عليهم جميعا خطأ، وإنما كل امرئ بما كسب رهين.

وأعظم مآثر (الإخوان المسلمين) مثلا هي جهادهم في حرب السويس، الذي كتب عنه كامل الشريف، وأكبر أخطائهم ترك الجهاد ومع ذلك لم يسلموا بل وصفوهم بأنهم إرهابيون وصنفوهم كذلك.

يسلموا بل وصفوهم بأنهم إرهابيون وصنفوهم كذلك.

وقد أسس الشيخ حسن البنا -رحمه الله وتقبله شهيدا- جماعة الإخوان المسلمين، لتكون حركة دعوية تجديدية، لا لتكون حزبا سياسيا معارضا يؤمن بالديمقراطية، وكتب الوصايا العشرين وغيرها لتكون مصدرا دعويا للإخوان، وكان الشيخ متأثرا بدعوة الإخوان في جزيرة العرب، وجعل الجهاد ركنا ركينا من دعوته، ولكن الإخوان المتأخرين انحرفوا عن دعوته، وأصبحت حزبا سياسيا ولا يكادون يذكرون الدعوة والمهمة الأساسية للحركة، ولا يذكرون الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ويقولونه في شعارهم المشهور "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، وكذا في نشيدهم:

هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل

واشتغلوا بالأعراض عن المرض نفسه كإلغاء فلان للديمقراطية، بل يقولون نحن سلميون، ولم يمنع ذلك أن يتهمهم أعداؤهم بالإرهاب!! ويقولون إن فلانا انقلب على خيار الشعب وعلى الديمقراطية، وفي عهده تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وهذا صحيح في ذاته، لكن ليس هو الداء، وصار أكبر همَّ بعضهم الحصول على حقيبة وزارية أو مقعد في البرلمان، بل إن بعضهم أصبح من ركائز الطواغيت، الذين قامت الحركة أساسا لتخليص الأمة منهم، وهكذا تداخلت الأهواء الشخصية مع الأهداف الدعوية وبعضهم يدعو إلى العلمانية وهو لا يشعر.

وبعضهم ذهب لأبعد من ذلك فتحالف مع الشيوعيين أو الاشتراكيين أو غيرهم من المعارضين.

وبعضهم يقول إنه حزب وطني محلّي، أي أنه يؤمن بالتقسيم الذي وضعه (سايكس وزميله بيكو)، واستدرجهم أهل الكتاب ليدخلوا اللعبة السياسية ففعلوا، وبعضهم يقول إن كون الدستور الفلاني فيه عبارة دين الدولة الإسلام كاف!! ولا حاجة للمطالبة بتطبيق الشريعة، وخير من الإخوان من جاهد وجهاد اليهود هو جهاد المرحلة.

أما الجماعات الجهادية فأكبر أخطائها هو أنها حصرت الجهاد في أحد معانيه، وهو القتال، وأهملت الأنواع الأخرى وذمت أهلها وأهدرت دماءهم وجعلتهم مرتدين، مع أن الأنواع الأخرى مذكورة في القرآن والسنة ومنها:

أ – الجهاد بالقرآن (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان : 52]، وهو الدعوة والمجادلة، ويدل عليه قوله تعالى عن الوالدين: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) [لقمان : 15].

ب – دهاد المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : 73].

ت – الصدع بالحق، قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقال: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، ولذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها جهادا.

فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلا مجاهدا؟

وهل كان حين أرسل المهاجرين إلى الحبشة إلا مجاهدا؟

وهل كان في صبره على الأذى وتحمله لما يقوله عبدالله بن أبي وحزبه إلا مجاهدا؟

وهل كان حين همّ المنافقون باغتياله وهو قافل من تبوك إلا مجاهدا؟

وهل كان حين عقد صلح الحديبية إلا مجاهدا؟

وهل كان حين يستقبل وفود العرب إلا مجاهدا؟

وهل كان وهو ينذر عشيرته الأقربين، ويجادل الكفار، ويبلِّغ شرع الله لعامة الأمة إلا مجاهدا؟

وهل كانت مناظراته لليهود وذهابه لبيت المدراش إلا نوعا من الجهاد؟

وهل كانت مناظرته لنصارى نجران إلا نوعا من الجهاد؟

وهل كانت مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار وتكفله بالنفقة على أهل الصفة ويتامى بدر إلا جهادا؟

وهل كان بناؤه للمسجد إلا جهادا؟

وهل كانت إقامته للحدود إلا جهادا؟

وهل كان دعاؤه ربه إلا جهادا؟

وهل تواضعه للفقراء والعجائز إلا جهادا؟

وبالجملة كانت كل أعماله العسكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية جهادا، فجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه وهو عنه راض.

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم)، وابحث بنفسك عن سبب النصر والتنمية الدائمة والرفاهية الحقيقية!! وهل ذلك يتحقق بالقتال وحده؟

وانظر أي خطأ يرتكبه الذين يحصرون الجهاد في بعض أنواعه، أو يجعلونه صراعا بين قوى شريرة وحشية ظالمة من جهة، وبين قوى خيرة أخلاقية عادلة من جهة أخرى كالغرب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجهاد منه ما يكون باليد ومنه ما يكون بالقلب والحجة والبيان والدعوة واللسان والبذل والصناعة" أهـ، وفي زماننا هذا أصبح الإعلام من أخص أنواع الجهاد وأهمها، وأصبحت مواقع العدو الاليكترونية من أكبر أهداف المجاهدين! وأصبح اختراق مواقعهم أكثر تاثيرا من قتل قادتهم.
ولا يصح حصر الجهاد في بعض أنواعه مهما كان عظيما، كما لا يصح حصر الرسالة في محمد صلى الله عليه وسلم،
أو حصر ما أنزل الله في القرآن وحصر الإسلام فى هذه الأمة، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل، والقرآن هو أفضل الكتب، وهذه الأمة هي أفضل الأمم.
والجهاد ليس فرض عين في كل الأحوال، بل حسب المصلحة الشرعية، وإنما يكون الجهاد فرض عين في ثلاثة مواضع:
أ- إذا استنفر الإمام المسلمين كلهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم عام تبوك.
ب - إذا دهمهم العدو وجاء إلى بلادهم، فيجب على أهل تلك البلاد الدفع عن أنفسهم ويجب على المسلمين نصرتهم وإمدادهم بالمال والدعاء وبأي وسيلة ممكنة.
ت - إذا حضر المجاهد بين الصفين، لم يجز له الفرار من الزحف، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ..) [التوبة : 123].
وأكثر الفقهاء على أن حكمه العام فرض كفاية، قال ابن القيم: "وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد"، ورجح أن الجهاد بمعنى القتال فرض كفاية وكذا قال ابن كثير.
وقال ابن القيم: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، على كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية".
واستدل ابن كثير على أن القتال باليد فرض كفاية بأنه تعالى أمر المؤمنين أول الأمر بكف اليد.
هذا ويجوز قول فلان شهيد لمن علم القائل أنه مات شهيدا أو غلب ذلك على ظنه، والدليل قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌۚ بَلْ أَحْيَاءٌ) [البقرة : 154]، وقول الصحابة رضى الله عنهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان شهيد، وفلان شهيد، وأقرهم على ذلك حتى قالوا "فلان شهيد"، فقال: (كلا والله إني رأيته في النار في بردة غلّها)، رواه مسلم.
لكن لا يكون ذلك على سبيل الجزم، وإنما على سبيل الرجاء خروجا من الخلاف في المسألة.
ولا شك أن قتال الكفار له في الدين مترلة عالية وفضل عظيم، ولكن غيره أهم منه وقد يقدَّم عليه في النصوص لا سيما الإيمان بالله.
وإنما يكون فرض عين في حالات معينة تقدم ذكرها، وحتى في هذه الحالات لا يكون كل الناس حاملين للسلاح، بل كلٌّ يجاهد في ميدانه، فالإمام أحمد مثلا صبر على الأذى والجلد، ولو أنه ذهب إلى الثغر لما فعل من ذلك شيئا، ولربما فعل بعض العوام أكثر منه، وصبره هذا من أعلى أنواع الجهاد.
قال شيخ الإسلام: "والواجب أن يعتد في أمر الجهاد برأي أهل الدين الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا"، فلا بد من الرأي ومن معرفة الواقع.
والدعوة مقدمة على القتال حتى في حالة قتال العدو أو محاصرته.
قال صلى الله عليه وسلم: (لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيهن أجابك فاقبل وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم..) الحديث.
وقد يكون الجهاد فتحا سياسيا للدعاة يُسلم به كثير من الناس، وقد سمى الله تعالى صلح الحديبية فتحا مبينا مع أنه لم يكن فيه قتال بل رجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمر تلك السنة.
وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم الانسحاب يوم مؤتة فتحا كما في الصحيح، مع اتفاق أهل السيرة على أن المسلمين إنما رجعوا، وجهز عليه الصلاة والسلام أسامة ليأخذ بثأر أبيه، وأخبر صلى الله عليه وسلم باستشهاد قادة المسلمين في ذلك اليوم: زيد وعبدالله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب.
وعاد صلى الله عليه وسلم عن حصار الطائف، ونهى عن قتال الترك والحبشة، وقال: (جاهدوا المشركين بأيديكم وأموالكم وأنفسكم)، وجعل انتظار الصلاة إلى الصلاة رباطا.
والدعوة عامة لكل الناس (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ : 28]، وليس القتال كذلك.
ويجب البدء في الجهاد بأشد الناس عداوة للذين آمنوا وهم اليهود كما بين الله.
ومن ترقى في درجات الإيمان، أعطى كل مترلة حقها وعرف أن الترتيب واجب، وأن الأهم مقدم على المهم، وأن واجب الوقت مقدَّم على غيره، وشرط ذلك كله هو الإخلاص لله، فمن قاتل فليكن قتاله لله، ومن دعا فلتكن دعوته إلى الله، ومن تعلم فليكن علمه لله ومن قرأ فلتكن قراءته لله، ومن تصدق فلتكن صدقته لله، وإن أعطى فلله، وإن منع فلله، وإن والى فلله، وإن عادى فلله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات، لما احتيج إلى القتال، فبيان الإسلام وآياته واجب مطلقا وجوبا أصليا، أما الجهاد فمشروع للضرورة، وإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا، فلأن يجب علينا بيان الإسلام وأعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه، فهو واجب بطريق الأولى" اهـ.

ــــــــــــــــ
(1) من كتاب "المسلمون والحضارة الغربية" ص: 2174 وما بعده.
‏٢٤‏/٠٨‏/٢٠١٨ ٣:٢٨ م‏
كيف تبني تنظيماً ثورياً (1) د. عمرو عادل [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] مقدمة أصبحت على قناعة شبه محسومة أن هناك أربعة عناصر رئيسية لابد من توافرها مجتمعة لحدوث ثورة أو ثورة مضادة حقيقية، مهما كانت الدوافع والمقدمات والمرجعيات الفكرية، هذه العناصر الأربعة هي: 1- الأفكار الكلية (العقيدة أو الأيديولوجي)، وهناك فارق ما بينهما ليس هذا مجاله . 2- الجماهير الغاضبة (مهما كان سبب غضبها؛ حقيقياً كان أو زائفاً مصنوعاً). 3- القيادة (سواء كانت قيادة ثورية حقيقية من قلب الجماهير لبناء ثورة، أو مصنعة فوقية لبناء أو دعم ثورة مضادة). 4- التنظيم الثوري (تنظيماً جماهيرياً ثورياً، أو تنظيم الثورة المضادة). وقد قامت الثورة المضادة بإكمال تلك العناصر الأربعة قبل أن تتحرك سنتيمتر واحد في كل تجاربها لمواجهة الثورات العربية، صحيح أن غالب العناصر كانت مصنوعة وخادعة؛ إلا أنها التزمت بالنموذج، وربما نموذج مصر هو الأكثر وضوحاً. فقد بني نموذج من الأفكار يعتمد على فكرة الوطنية والدولة القومية، ولعدم قدرة ذلك فقط على تحقيق الهدف؛ صنعت الثورة المضادة عداء ضخماً للغاية ضد أيديولوجية ما (عقيدة)، واعتبرتها عدوا، واعتبرت وروجت أن هذا العداء هو فكر متكامل في حد ذاته، كما قام بكل ما يمكنه لتكوين كتلة من الجماهير الغاضبة بكل ما يمتلك من أدوات، وقام بترميز قيادة زائفة ممثلة في القوات المسلحة وقائدها، وعلى مستوى التنظيم؛ فالثورة المضادة تمتلك من التنظيمات الخاصة بالأمن والمعلومات والقوة المسلحة، ما تجعل دائماً تشكيلات مؤسسات الدولة تنظيماً جاهزاً للثورة المضادة، إذا كانت الثورة المضادة تمتلك التنظيم الجاهز وكانت تمتلك الأفكار المعادية للتيار الإسلامي أو أي تيار يمكن الشعب والجماهير من الموارد والسلطة، إلا أنها لم تتحرك قبل اكتمال العنصرين الآخرين (القيادة والجماهير الغاضبة)، واستمرت عامان ونصف في تجهيز هذين العنصرين، وعندما اكتمل مربع الثورة - إن جاز التعبير - تحركوا بكل قوة لاستعادة السلطة وسحق الثورة. ولذلك فإن الحرب تكون بين الجانبين على تفتيت هذه المحاور الأربعة أو أحداهما على الأقل، فالجماهير الغاضبة الحقيقية والأفكار دائماً جاهزة في مساحة الثورات، بينما القيادات "حتى لو زائفة" والتنظيم في الغالب جاهزة مع الثورة المضادة، ودائماً ما تقاتل الأنظمة في ترميز قادة لملء هذا الفراغ، بينما تستميت للقضاء على أي رمز أو تنظيم ينتمي لمساحة الثورة، وبالتالي فأحد أهم أهداف التنظيم الثوري هو تفتيت ما تملكه الثورة المضادة من تنظيم، وتشويه للقيادة الزائفة التي صنعتها الثورة المضادة. فقد تبدلت المواقع وأصبحت الثورة المضادة تمتلك زمام الأمور في مصر وغيرها، وأصبح من الحتمي على قوى الثورة – بالإضافة لتفتيت ما تملكه الثورة المضادة - بناء ما ينقصها من المحاور الأربعة حتى تستطيع الدفع بموجة ثورية قادمة حقيقية لا تعطي فرصة للثورة المضادة القدرة على استعادة زمام الأمور. في سلسلتين سابقتين تحدثنا عن إجراءات المقاومة للشعوب والتي ينبغي أن تفعلها، وكذلك الإجراءات اللازمة لتفكيك أدوات السلطة التي يمتلكها النظام، وهاتان النقطتان مرتبطتان بوجود قوى ما تدير عملية التنفيذ والعمل على الأرض، ومن المعروف ضمناً أن أي عمل كي يتم لابد من وجود "مؤسسة" ما لفعله، والعمل الثوري بالتأكيد يحتاج لمؤسسة أو مؤسسات ما لفعله، وهو ما سنطلق عليه التنظيم الثوري، وهو ليس مؤسسة نمطية نظراً للظروف المعقدة التي ينشأ بها التنظيم ولعظم الهدف الذي تسعى له. الآن نمتلك ضلعان من "مربع الثورة"، الجماهير الغاضبة وهي الأصعب والأكثر جهداً بالنسبة للثورة المضادة من الناحية التنفيذية للحصول عليها، وتحتاج لإمكانات كبيرة مادية وإعلامية للحصول عليها؛ أما الثورة الحقيقية فهي في الغالب تملأ الجماهير الغاضبة وتنتظر لحظة الخلاص، كما أن سياسيات الاحتلال بالوكالة والظلم والاستعباد أدت إلى وجود فائض في الغضب، ومن الواضح أن الثورة تمتلك من الأفكار المؤسسة "الأيديولوجيا" ما يكفي، وبقي ضلعان يحتاجان للتأسيس، التنظيم الثوري والقيادة، والسؤال المكرر أيهما ينبغي أن ينشأ أولاً؟ أرى أنه من الصعب الحسم بإجابة قاطعة في هذا المجال، وما يمكن قوله إن الظروف تحتم اتخاذ طريق ما، وأرى أن طبيعة الأمور في مصر ولصعوبة الوضع الأمني والتضارب في الرؤى وغياب القيادات الكبرى داخل معسكرات الرهائن وغياب التنظيمات التي يمكنها تبني بناء التنظيم الثوري نظراً لطبيعتها الفكرية والتنظيمية؛ تحتم على الثوار البدء في العمل التنظيمي لإنشاء تنظيماتهم الثورية، وأعتقد أن هذا المسار سينتج القيادات الثورية الحقيقية التي ستتمكن من قيادة العمل الثوري الميداني. لذلك فإن اكتمال مربع الثورة بالعنصرين المفقودين حتى الآن يبدأ ببناء التنظيم الثوري الذي سينتج الضلع الرابع والحاسم في المد الثوري. اتفقنا إذا –أو هكذا أظن -على أن إنشاء التنظيم الثوري هوي واجب الوقت لكل المؤمنين بضرورة التحرر من الاستعباد والاحتلال بالوكالة، والهدف الرئيسي هو خوض حرب التحرير، والمؤكد أن معارك اليوم هي أكثر شرفا من المعارك التي كنا نخوضها ضد الاستعمار المباشر. وأن بناء تلك التنظيمات "التنظيم" هو المسار الواجب للثوار. والتنظيم هو مؤسسة لتقوم بوظيفة أو مهمة ما، ولاستحالة بناء تنظيم واحد كبير" خاصة في البدايات"؛ فمن الأفضل في حالة الثورة أن تتكون عدة تنظيمات كثيرة وغير مترابطة ولكنها مؤمنة بهدف واحد وهو ضرورة خوض معركة التحرير، والتنظيم لا يعني بالضرورة أعدادا كبيرة، فربما يكون التنظيم كله فرد واحد. ويجب الانتباه أن آخر ما يحدث في الحروب هي المواجهة المسلحة، فهناك الكثير والكثير حتى تنتصر في الحرب الثورية التي قد تكون إحدى أدواتها الهامة هي القوة المسلحة. ومراحل تطور التنظيم الثوري يمكن تحديدها بثلاثة أطوار، ودائما ما تكون المرحلة الأولى هي الأخطر والأكثر صعوبة، وهي ما سأحاول مناقشته على مدى عدة مقالات متتابعة: 1- مرحلة التكوين والبناء 2- مرحلة الصدام 3- مرحلة المواجهة الشاملة وتعاني هذه المرحلة من عدة مشاكل تؤدي إلى تفتيت الأنوية الثورية الناشئة قبل اكتمال نموها: 1- التسرع في الدخول لمرحلة الصدام 2- عدم الاختيار الدقيق للعناصر في حالة تكوين أنوية مما يؤدي إلى الاختراقات 3- عدم الإلمام بالعناصر الرئيسية اللازمة لبناء تنظيم متماسك يصعب القضاء عليه نهائيا، وقادر على إعادة إنتاج نفسه. 4- الرغبة في تكبير حجم التنظيم دون الحاجة ربما لذلك وكذلك التسرع في الدمج بين الأنوية الثورية. ربما أصل كل المشاكل السابقة هو وجود قيادة فوقية غير منتجة من التفاعل الجماهيري، وهي في الغالب تكون من القيادات البرجوازية أو الحزبية القديمة والتي ترغب دائما في الوقوف بالمد الثوري عند نقطة ما لا تضر بمصالحهم الفكرية أو الاقتصادية، فوجود قيادة فوقية في الغالب يعني رغبتها – سواء بنية حسنة أو سيئة-بالإسراع في جني ثمار المقاومة وربما استخدامها للوصول لحل توافقي ما مع العدو، هذا النمط من التفكير يعتبر من أكبر أعداء الثورة بل هو المدمر الأكبر لها، وبالتالي فإن خروج القيادات من قلب الجماهير ونتيجة للاحتكاك والخبرات الجماهيرية المتراكمة هو السبيل الوحيد لبناء تنظيم جماهيري حقيقي قوي يستطيع الصمود. وبعد مناقشة خطورة التسرع في التحرك للمرحلة الثانية؛ لابد من تحديد عدة عوامل رئيسية يتحتم وجودها في أي تنظيم ثوري حتى لو كان التنظيم كله من شخص واحد كما سنرى لاحقا. 1- الأمن 2- المعلومات 3- أدوات القوة الخشنة والناعمة ليست القوة هي النقطة الأولى بل يسبقها الأمن، وهو الأمن الشخصي للتنظيم "فردا كان أم أكثر"، ويسبقها أيضا نظام معلوماتي للخلية أو التنظيم ككل، ولكن هناك نقطة مفصلية أن الرغبة في الوصول إلى اكتمال هذه العناصر قبل البدء هو خطأ بالغ ومدمر كما أن التسرع دون وجود حد أدنى هو أيضا مدمر، وهذه الأمور لا يمكن قياسها نظريا، ولكنها تعتمد بالأساس على القيادة الميدانية وطبيعة الظروف المعقدة التي تحيط بها والتي لا يمكن تثبيت تفاصيلها بين أي من الأنوية الثورية، فقط يجب الالتزام بوجود الحد الأدنى اللازم للمحاور الثلاثة. توجد العديد من الإصدارات حول كيفية بناء منظومات الأمن والحصول على المعلومات سنستعرض خطوطها العريضة لاحقا، كما أن أدوات القوة سنحاول توضيحها أيضا، ومن المهم في نهاية هذه المقدمة التأكيد على أن بناء التنظيم الثوري مهما كان حجمه ليست بالعملية السهلة وتحتاج لمهارات وقدرات ذاتية أو مكتسبة للقيادات والثوار، وكلما زاد حجم التنظيم كلما كانت الصعوبات والمخاطر أعلى وتحتاج لمساحات آمنه وهذا ربما غير متوافر في الوقت الراهن، ولذلك فالأفضل عدم التفكير في بناء تنظيمات كبيرة نسبيا في البدايات والاكتفاء بأنوية مبعثرة غير مترابطة تمتلك الحد الأدنى من المهارات المطلوبة للعمل. وكل المجتمع في كل الجغرافيا يمتلك من الكوادر القادرة على بناء الأنوية الثورية من عمال وفلاحين وموظفين وطلاب وغيرهم من قطاعات المجتمع، ومن الخطأ البالغ قصر مساحة التنظيم الثوري على المواجهة المباشرة مع النظام أو المحتل، ولكن حجم عمل التنظيم الثوري يشمل كل شيء من مساحات القوة الناعمة والخشنة التي يمكنها كما ذكرنا في البداية تفتيت سلطة النظام أو رفع كفاءة المقاومة للمجتمع، فالتعليم خارج المدارس والقضاء الموازي والإعلام البديل وتحطيم نفسية العدو بكل الوسائل كلها جزءا من عمل التنظيم الثوري، وكل من يقوم بذلك هو جزء من بنية التنظيم الكبير الذي لا نعرفه بعد، ولكنه لن يتكون إلا بهذه الأنوية الصغيرة حتى لو من فرد واحد، وهم في لحظة ما سيكونون الطليعة الثورية القادرة على بناء النظام الجديد. في المقال التالي قبل الحديث عن المحددات الأمنية ونظم المعلومات سنستفيض أكثر في مجالات العمل الثوري الواسع والمحاور الرئيسية له.
كيف تبني تنظيماً ثورياً (1)

د. عمرو عادل

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]

مقدمة

أصبحت على قناعة شبه محسومة أن هناك أربعة عناصر رئيسية لابد من توافرها مجتمعة لحدوث ثورة أو ثورة مضادة حقيقية، مهما كانت الدوافع والمقدمات والمرجعيات الفكرية، هذه العناصر الأربعة هي:

1- الأفكار الكلية (العقيدة أو الأيديولوجي)، وهناك فارق ما بينهما ليس هذا مجاله .
2- الجماهير الغاضبة (مهما كان سبب غضبها؛ حقيقياً كان أو زائفاً مصنوعاً).
3- القيادة (سواء كانت قيادة ثورية حقيقية من قلب الجماهير لبناء ثورة، أو مصنعة فوقية لبناء أو دعم ثورة مضادة).
4- التنظيم الثوري (تنظيماً جماهيرياً ثورياً، أو تنظيم الثورة المضادة).

وقد قامت الثورة المضادة بإكمال تلك العناصر الأربعة قبل أن تتحرك سنتيمتر واحد في كل تجاربها لمواجهة الثورات العربية، صحيح أن غالب العناصر كانت مصنوعة وخادعة؛ إلا أنها التزمت بالنموذج، وربما نموذج مصر هو الأكثر وضوحاً.

فقد بني نموذج من الأفكار يعتمد على فكرة الوطنية والدولة القومية، ولعدم قدرة ذلك فقط على تحقيق الهدف؛ صنعت الثورة المضادة عداء ضخماً للغاية ضد أيديولوجية ما (عقيدة)، واعتبرتها عدوا، واعتبرت وروجت أن هذا العداء هو فكر متكامل في حد ذاته، كما قام بكل ما يمكنه لتكوين كتلة من الجماهير الغاضبة بكل ما يمتلك من أدوات، وقام بترميز قيادة زائفة ممثلة في القوات المسلحة وقائدها، وعلى مستوى التنظيم؛ فالثورة المضادة تمتلك من التنظيمات الخاصة بالأمن والمعلومات والقوة المسلحة، ما تجعل دائماً تشكيلات مؤسسات الدولة تنظيماً جاهزاً للثورة المضادة، إذا كانت الثورة المضادة تمتلك التنظيم الجاهز وكانت تمتلك الأفكار المعادية للتيار الإسلامي أو أي تيار يمكن الشعب والجماهير من الموارد والسلطة، إلا أنها لم تتحرك قبل اكتمال العنصرين الآخرين (القيادة والجماهير الغاضبة)، واستمرت عامان ونصف في تجهيز هذين العنصرين، وعندما اكتمل مربع الثورة - إن جاز التعبير - تحركوا بكل قوة لاستعادة السلطة وسحق الثورة.

ولذلك فإن الحرب تكون بين الجانبين على تفتيت هذه المحاور الأربعة أو أحداهما على الأقل، فالجماهير الغاضبة الحقيقية والأفكار دائماً جاهزة في مساحة الثورات، بينما القيادات "حتى لو زائفة" والتنظيم في الغالب جاهزة مع الثورة المضادة، ودائماً ما تقاتل الأنظمة في ترميز قادة لملء هذا الفراغ، بينما تستميت للقضاء على أي رمز أو تنظيم ينتمي لمساحة الثورة، وبالتالي فأحد أهم أهداف التنظيم الثوري هو تفتيت ما تملكه الثورة المضادة من تنظيم، وتشويه للقيادة الزائفة التي صنعتها الثورة المضادة.

فقد تبدلت المواقع وأصبحت الثورة المضادة تمتلك زمام الأمور في مصر وغيرها، وأصبح من الحتمي على قوى الثورة – بالإضافة لتفتيت ما تملكه الثورة المضادة - بناء ما ينقصها من المحاور الأربعة حتى تستطيع الدفع بموجة ثورية قادمة حقيقية لا تعطي فرصة للثورة المضادة القدرة على استعادة زمام الأمور.

في سلسلتين سابقتين تحدثنا عن إجراءات المقاومة للشعوب والتي ينبغي أن تفعلها، وكذلك الإجراءات اللازمة لتفكيك أدوات السلطة التي يمتلكها النظام، وهاتان النقطتان مرتبطتان بوجود قوى ما تدير عملية التنفيذ والعمل على الأرض، ومن المعروف ضمناً أن أي عمل كي يتم لابد من وجود "مؤسسة" ما لفعله، والعمل الثوري بالتأكيد يحتاج لمؤسسة أو مؤسسات ما لفعله، وهو ما سنطلق عليه التنظيم الثوري، وهو ليس مؤسسة نمطية نظراً للظروف المعقدة التي ينشأ بها التنظيم ولعظم الهدف الذي تسعى له.

الآن نمتلك ضلعان من "مربع الثورة"، الجماهير الغاضبة وهي الأصعب والأكثر جهداً بالنسبة للثورة المضادة من الناحية التنفيذية للحصول عليها، وتحتاج لإمكانات كبيرة مادية وإعلامية للحصول عليها؛ أما الثورة الحقيقية فهي في الغالب تملأ الجماهير الغاضبة وتنتظر لحظة الخلاص، كما أن سياسيات الاحتلال بالوكالة والظلم والاستعباد أدت إلى وجود فائض في الغضب، ومن الواضح أن الثورة تمتلك من الأفكار المؤسسة "الأيديولوجيا" ما يكفي، وبقي ضلعان يحتاجان للتأسيس، التنظيم الثوري والقيادة، والسؤال المكرر أيهما ينبغي أن ينشأ أولاً؟

أرى أنه من الصعب الحسم بإجابة قاطعة في هذا المجال، وما يمكن قوله إن الظروف تحتم اتخاذ طريق ما، وأرى أن طبيعة الأمور في مصر ولصعوبة الوضع الأمني والتضارب في الرؤى وغياب القيادات الكبرى داخل معسكرات الرهائن وغياب التنظيمات التي يمكنها تبني بناء التنظيم الثوري نظراً لطبيعتها الفكرية والتنظيمية؛ تحتم على الثوار البدء في العمل التنظيمي لإنشاء تنظيماتهم الثورية، وأعتقد أن هذا المسار سينتج القيادات الثورية الحقيقية التي ستتمكن من قيادة العمل الثوري الميداني.

لذلك فإن اكتمال مربع الثورة بالعنصرين المفقودين حتى الآن يبدأ ببناء التنظيم الثوري الذي سينتج الضلع الرابع والحاسم في المد الثوري.

اتفقنا إذا –أو هكذا أظن -على أن إنشاء التنظيم الثوري هوي واجب الوقت لكل المؤمنين بضرورة التحرر من الاستعباد والاحتلال بالوكالة، والهدف الرئيسي هو خوض حرب التحرير، والمؤكد أن معارك اليوم هي أكثر شرفا من المعارك التي كنا نخوضها ضد الاستعمار المباشر. وأن بناء تلك التنظيمات "التنظيم" هو المسار الواجب للثوار.

والتنظيم هو مؤسسة لتقوم بوظيفة أو مهمة ما، ولاستحالة بناء تنظيم واحد كبير" خاصة في البدايات"؛ فمن الأفضل في حالة الثورة أن تتكون عدة تنظيمات كثيرة وغير مترابطة ولكنها مؤمنة بهدف واحد وهو ضرورة خوض معركة التحرير، والتنظيم لا يعني بالضرورة أعدادا كبيرة، فربما يكون التنظيم كله فرد واحد.

ويجب الانتباه أن آخر ما يحدث في الحروب هي المواجهة المسلحة، فهناك الكثير والكثير حتى تنتصر في الحرب الثورية التي قد تكون إحدى أدواتها الهامة هي القوة المسلحة.

ومراحل تطور التنظيم الثوري يمكن تحديدها بثلاثة أطوار، ودائما ما تكون المرحلة الأولى هي الأخطر والأكثر صعوبة، وهي ما سأحاول مناقشته على مدى عدة مقالات متتابعة:

1- مرحلة التكوين والبناء
2- مرحلة الصدام
3- مرحلة المواجهة الشاملة

وتعاني هذه المرحلة من عدة مشاكل تؤدي إلى تفتيت الأنوية الثورية الناشئة قبل اكتمال نموها:
1- التسرع في الدخول لمرحلة الصدام
2- عدم الاختيار الدقيق للعناصر في حالة تكوين أنوية مما يؤدي إلى الاختراقات
3- عدم الإلمام بالعناصر الرئيسية اللازمة لبناء تنظيم متماسك يصعب القضاء عليه نهائيا، وقادر على إعادة إنتاج نفسه.
4- الرغبة في تكبير حجم التنظيم دون الحاجة ربما لذلك وكذلك التسرع في الدمج بين الأنوية الثورية.

ربما أصل كل المشاكل السابقة هو وجود قيادة فوقية غير منتجة من التفاعل الجماهيري، وهي في الغالب تكون من القيادات البرجوازية أو الحزبية القديمة والتي ترغب دائما في الوقوف بالمد الثوري عند نقطة ما لا تضر بمصالحهم الفكرية أو الاقتصادية، فوجود قيادة فوقية في الغالب يعني رغبتها – سواء بنية حسنة أو سيئة-بالإسراع في جني ثمار المقاومة وربما استخدامها للوصول لحل توافقي ما مع العدو، هذا النمط من التفكير يعتبر من أكبر أعداء الثورة بل هو المدمر الأكبر لها، وبالتالي فإن خروج القيادات من قلب الجماهير ونتيجة للاحتكاك والخبرات الجماهيرية المتراكمة هو السبيل الوحيد لبناء تنظيم جماهيري حقيقي قوي يستطيع الصمود.

وبعد مناقشة خطورة التسرع في التحرك للمرحلة الثانية؛ لابد من تحديد عدة عوامل رئيسية يتحتم وجودها في أي تنظيم ثوري حتى لو كان التنظيم كله من شخص واحد كما سنرى لاحقا.

1- الأمن
2- المعلومات
3- أدوات القوة الخشنة والناعمة

ليست القوة هي النقطة الأولى بل يسبقها الأمن، وهو الأمن الشخصي للتنظيم "فردا كان أم أكثر"، ويسبقها أيضا نظام معلوماتي للخلية أو التنظيم ككل، ولكن هناك نقطة مفصلية أن الرغبة في الوصول إلى اكتمال هذه العناصر قبل البدء هو خطأ بالغ ومدمر كما أن التسرع دون وجود حد أدنى هو أيضا مدمر، وهذه الأمور لا يمكن قياسها نظريا، ولكنها تعتمد بالأساس على القيادة الميدانية وطبيعة الظروف المعقدة التي تحيط بها والتي لا يمكن تثبيت تفاصيلها بين أي من الأنوية الثورية، فقط يجب الالتزام بوجود الحد الأدنى اللازم للمحاور الثلاثة.

توجد العديد من الإصدارات حول كيفية بناء منظومات الأمن والحصول على المعلومات سنستعرض خطوطها العريضة لاحقا، كما أن أدوات القوة سنحاول توضيحها أيضا، ومن المهم في نهاية هذه المقدمة التأكيد على أن بناء التنظيم الثوري مهما كان حجمه ليست بالعملية السهلة وتحتاج لمهارات وقدرات ذاتية أو مكتسبة للقيادات والثوار، وكلما زاد حجم التنظيم كلما كانت الصعوبات والمخاطر أعلى وتحتاج لمساحات آمنه وهذا ربما غير متوافر في الوقت الراهن، ولذلك فالأفضل عدم التفكير في بناء تنظيمات كبيرة نسبيا في البدايات والاكتفاء بأنوية مبعثرة غير مترابطة تمتلك الحد الأدنى من المهارات المطلوبة للعمل.

وكل المجتمع في كل الجغرافيا يمتلك من الكوادر القادرة على بناء الأنوية الثورية من عمال وفلاحين وموظفين وطلاب وغيرهم من قطاعات المجتمع، ومن الخطأ البالغ قصر مساحة التنظيم الثوري على المواجهة المباشرة مع النظام أو المحتل، ولكن حجم عمل التنظيم الثوري يشمل كل شيء من مساحات القوة الناعمة والخشنة التي يمكنها كما ذكرنا في البداية تفتيت سلطة النظام أو رفع كفاءة المقاومة للمجتمع، فالتعليم خارج المدارس والقضاء الموازي والإعلام البديل وتحطيم نفسية العدو بكل الوسائل كلها جزءا من عمل التنظيم الثوري، وكل من يقوم بذلك هو جزء من بنية التنظيم الكبير الذي لا نعرفه بعد، ولكنه لن يتكون إلا بهذه الأنوية الصغيرة حتى لو من فرد واحد، وهم في لحظة ما سيكونون الطليعة الثورية القادرة على بناء النظام الجديد.

في المقال التالي قبل الحديث عن المحددات الأمنية ونظم المعلومات سنستفيض أكثر في مجالات العمل الثوري الواسع والمحاور الرئيسية له.
‏٢٠‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١٠:٢٠ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (5) [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] - هتفت في الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر: لقد مجدنا صنماً! - لما أُعدِم سيد قطب أحرق أستاذي كتاب "معالم في الطريق" وهو في الصومال - كان عصر عبد الناصر بوليسياً تتجسس فيه الزوجة على زوجها والابن على أبيه سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] عند نهاية الصف الأول الثانوي كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا، واسمه "جمعة"، قد كلفنا بكتابة موضوع تعبير عن "دولة العلم والإيمان"، لقد جاء السادات بهذا الشعار في أول عهده، وكتبتُ موضوعاً أهاجم فيه السادات، قلت فيه: إن السادات ينافق الشعب، وشعار "دولة العلم والإيمان" مجرد كلام خالٍ من المضمون، فليس في البلد لا علم ولا إيمان. تفاجأ الأستاذ جمعة حين قرأ موضوع التعبير هذا حتى أنه قرأه على بقية الطلاب، ثم هرع إلى الأستاذ عيد الرافعي فعرض عليه ما كتبت، ونصحه أن يتكلم معي لينصحني ألا أتهور كي لا أتعرض للسجن أو شيء من هذا، وجاء إليّ الأستاذ عيد فحمل لي مع نصيحته قصة أخرى كان يخفيها في طيات ذاكرته. حدثني أنه حين أُعْدِم سيد قطب (1966م) كان هو في مقديشيو (عاصمة الصومال)، وما إن سمع في الإذاعة خبر إعدامه حتى هرع إلى النسخة التي كانت معه من كتاب "معالم في الطريق" فأحرقها فوراً... أحرقها في الصومال من شدة الخوف والبطش. وختم قصته بالنصيحة: "يا بني، الجدار له أذان! ولا يغرنك أن عبد الناصر مات فنحن لا نزال في دولة الخوف". تداعى إلى ذهني كلام الأستاذ محمد الشاهد، ها هو نفس الكلام يتكرر، كأنما وجدتها فرصة لأستبين وأستوثق من الصدمة، سألته: - هل تعني أن عهد جمال عبد الناصر كان فيه بطش وظلم؟ - بالطبع يا بني، لقد كنا نخشى الحديث حتى مع زوجاتنا في البيوت، كان الواحد يتجسس على أبيه وزوجته وأخيه وأخته.. كل الناس كانوا يتجسسون، أنا لم أكن أضمن ولا أجرؤ أن أقول شيئاً في بيتنا! وطفق يحدثني عن العهد البوليسي الذي لم يأمن فيه أحد على نفسه، وأن الله قد رفع عن الشعب عبئاً ثقيلاً بموت عبد الناصر، وأنه يمكن حقاً أن يكون السادات صادقاً في شعاره "دولة العلم والإيمان" فما يظهر منه يدل على هذا، على الأقل صار المرء يستطيع أن يتكلم ويتنفس، وأخبرني في لهجة المتأثر: لو كنتَ كتبتَ موضوع تعبيرك هذا في عهد عبد الناصر لما كان أحد ليراك ثانية.. وعند تلك العبارة أخذ في البكاء. عند تلك اللحظة اجتمعت عندي الروايات، رواية الرجل البسيط: الشيخ محمود عسران، مع الأستاذ محمد الشاهد، مع الأستاذ عيد الرافعي. نعم.. نسيت أن أحكي ما قاله لي قديماً محمود عسران! لقد حدثني الشيخ عسران مرة فقال: يا بني، لقد كان الملك فاروق رجلاً صالحاً حتى إن الناس لقبوه بـ "الملك الصالح"، وإنما العسكر شوهوا صورته حتى يُقال للناس كان فاسداً ونحن أفضل منه. كان حديث الشيخ عسران حديث المتوجس الخائف، يحوم حول المعنى لا يريد أن يصرح به، لكن الصريح الواضح هي لهجته ومشاعره المنكِرة المستنكرة للعسكر وأفعالهم. أما أصرح الجميع فقد كان محمد الشاهد. وليس من شك في أن حقبة عبد الناصر كانت سوداء قاتمة خصوصاً على أهل العلم والفكر والمبدعين، إلا أن كثيراً من الشعب المصري لم يشعر بهذا لقوة الضغط الإعلامي وبريق الشعارات المرفوعة التي تعلن الانحياز للفقراء. ولقد استفاد كثير من الفلاحين والعمال في فترة جمال عبد الناصر، لا سيما من قانون الإصلاح الزراعي، فبعد أن كان هؤلاء من المعدمين أصبح لديهم فدادين من الأرض الزراعية، فكانت نقلة لهم، صحيحٌ أنه لم ينقلهم إلى مرحلة الرفاهية كما حدث في عهد السادات لكنهم استفادوا على الأقل: صاروا ملاكاً من بعد ما كانوا أُجَراء! وهكذا.. بدأت الحكاية بموضوع تعبير وانتهت إلى رسوخ فكرة سطوة وبطش وظلم عبد الناصر في عقلي وقلبي. جاءت الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1971م)، كنت في بداية الصف الثاني الثانوي، وكانت المدارس تبدأ في أول سبتمبر أو في منتصفه، وأقيم في المدرسة حفل تأبين لعبد الناصر استمرت لأسبوع! فظل الطلاب والأساتذة يتبارون في مديح عبد الناصر وتمجيده في كلماتهم وخطبهم. لم يكن السادات قد كشر عن أنيابه بعد لجمال عبد الناصر، كانت السياسة لا تزال تخطب وده وود إرثه. أزعم أني من أوائل من هاجموا جمال عبد الناصر، لقد بدأ حفل التأبين والتمجيد يوم الاثنين فيما أذكر، وكان الترتيب يضع كلمتي يوم السبت، فجاءني الأستاذ عيد الرافعي وقال: اكتب الكلمة التي ستلقيها واعرضها علي أولاً. قلت له: يا أستاذ عيد، إني سأرتجل الخطبة كعادتي، أشعر بالخجل إن قرأت كلمتي من ورقة، وأنت أستاذي وقد عودتني الثقة بالنفس، ولن تسمع مني إلا ما يسرك. لم تطمئنه كلماتي تلك، فلما جاء يوم السبت، وقف -دون أن أدري- من خلفي، وكان -كما أخبرني فيما بعد زميلي سيد محمود عبد الرحمن- قلقاً ومضطرباً، يحرك رجلاً ويضع أخرى. تقدمت خطيباً فقلت: "الحمد لله وكفى، وأصلي وأسلم على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فقد تقدم كثيرون وامتدحوا جمال عبد الناصر، لكن لي رأي آخر. نحن كشباب وكأبناء هذه البلاد بل وكأبناء لهذه الثورة، فكلنا وُلِد بعد 1952، وأنا قد وُلِدت 1954 وترعرت في ظل حكم جمال عبد الناصر، وأنا مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو لمنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي التابعة للاتحاد الاشتراكي، ومع ذلك يؤسفني أن أقول: كل هذا كذب.. كذب وافتراء! لقد مجَّدنا رجلا صنماً...". عندها انتفض الأستاذ عيد الرافعي واختطف مني الميكروفون، وصاح: "ابننا رفاعي لا يقصد هذا، لكن خانه التعبير.. هو قصد أن جمال عبد الناصر معبود الجماهير فكل الناس تحبه، ولا يعني أنه صنم بمعنى الصنم...". انتهى الطابور، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، "يا ابني انت مش عايز تجيبها البَرّ (لا تريد أن ينتهي الأمر على خير)، ويبدو أنك لن ترتاح إلا حين تُفصل من المدرسة.. لم تنتهِ كلمتك إلا واتصل بي جهاز الأمن يريدونك أن تذهب إليهم.. من أين تأتي بهذا الكلام؟ نحن لا نقوله هنا.. وإذا سألوك فقل لهم إنك لم تسمعه من أحد هنا.. أنت ولد طيب و"غلبان".. وأبوك رجل "غلبان".. أنت كده بتودي نفسك في داهية (تلقي بنفسك إلى التهلكة).. وهتودينا معاك كلنا في داهية.. والمفترض بي الآن أن أصدر قرار فصلك من المدرسة"! ظل الأستاذ عيد الرافعي يترجاه ويتوسل إليه ألا يتخذ قرار الفصل من المدرسه، طفق يقول: اعذره يا حضرة الناظر، إنه ابننا، مثل ابني علي، ومثل ابنك.. ورفاعي متفوق، ولا نريد أن يضيع مستقبله.. إلخ!. كان موقف الأستاذ رفاعي أبوياً وصادقاً، وكان من رجاءاته أن يؤجل أمر الفصل إلى حين نرى ما سيصنع في أمن الدولة، فلربما الأمر لن يستدعي. ولم تنتهِ الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (5)

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]

- هتفت في الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر: لقد مجدنا صنماً!
- لما أُعدِم سيد قطب أحرق أستاذي كتاب "معالم في الطريق" وهو في الصومال
- كان عصر عبد الناصر بوليسياً تتجسس فيه الزوجة على زوجها والابن على أبيه

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

عند نهاية الصف الأول الثانوي كان مدرس اللغة العربية في مدرستنا، واسمه "جمعة"، قد كلفنا بكتابة موضوع تعبير عن "دولة العلم والإيمان"، لقد جاء السادات بهذا الشعار في أول عهده، وكتبتُ موضوعاً أهاجم فيه السادات، قلت فيه: إن السادات ينافق الشعب، وشعار "دولة العلم والإيمان" مجرد كلام خالٍ من المضمون، فليس في البلد لا علم ولا إيمان.

تفاجأ الأستاذ جمعة حين قرأ موضوع التعبير هذا حتى أنه قرأه على بقية الطلاب، ثم هرع إلى الأستاذ عيد الرافعي فعرض عليه ما كتبت، ونصحه أن يتكلم معي لينصحني ألا أتهور كي لا أتعرض للسجن أو شيء من هذا، وجاء إليّ الأستاذ عيد فحمل لي مع نصيحته قصة أخرى كان يخفيها في طيات ذاكرته.

حدثني أنه حين أُعْدِم سيد قطب (1966م) كان هو في مقديشيو (عاصمة الصومال)، وما إن سمع في الإذاعة خبر إعدامه حتى هرع إلى النسخة التي كانت معه من كتاب "معالم في الطريق" فأحرقها فوراً... أحرقها في الصومال من شدة الخوف والبطش. وختم قصته بالنصيحة: "يا بني، الجدار له أذان! ولا يغرنك أن عبد الناصر مات فنحن لا نزال في دولة الخوف".

تداعى إلى ذهني كلام الأستاذ محمد الشاهد، ها هو نفس الكلام يتكرر، كأنما وجدتها فرصة لأستبين وأستوثق من الصدمة، سألته:

- هل تعني أن عهد جمال عبد الناصر كان فيه بطش وظلم؟
- بالطبع يا بني، لقد كنا نخشى الحديث حتى مع زوجاتنا في البيوت، كان الواحد يتجسس على أبيه وزوجته وأخيه وأخته.. كل الناس كانوا يتجسسون، أنا لم أكن أضمن ولا أجرؤ أن أقول شيئاً في بيتنا!

وطفق يحدثني عن العهد البوليسي الذي لم يأمن فيه أحد على نفسه، وأن الله قد رفع عن الشعب عبئاً ثقيلاً بموت عبد الناصر، وأنه يمكن حقاً أن يكون السادات صادقاً في شعاره "دولة العلم والإيمان" فما يظهر منه يدل على هذا، على الأقل صار المرء يستطيع أن يتكلم ويتنفس، وأخبرني في لهجة المتأثر: لو كنتَ كتبتَ موضوع تعبيرك هذا في عهد عبد الناصر لما كان أحد ليراك ثانية.. وعند تلك العبارة أخذ في البكاء.

عند تلك اللحظة اجتمعت عندي الروايات، رواية الرجل البسيط: الشيخ محمود عسران، مع الأستاذ محمد الشاهد، مع الأستاذ عيد الرافعي.

نعم.. نسيت أن أحكي ما قاله لي قديماً محمود عسران!

لقد حدثني الشيخ عسران مرة فقال: يا بني، لقد كان الملك فاروق رجلاً صالحاً حتى إن الناس لقبوه بـ "الملك الصالح"، وإنما العسكر شوهوا صورته حتى يُقال للناس كان فاسداً ونحن أفضل منه.

كان حديث الشيخ عسران حديث المتوجس الخائف، يحوم حول المعنى لا يريد أن يصرح به، لكن الصريح الواضح هي لهجته ومشاعره المنكِرة المستنكرة للعسكر وأفعالهم. أما أصرح الجميع فقد كان محمد الشاهد.

وليس من شك في أن حقبة عبد الناصر كانت سوداء قاتمة خصوصاً على أهل العلم والفكر والمبدعين، إلا أن كثيراً من الشعب المصري لم يشعر بهذا لقوة الضغط الإعلامي وبريق الشعارات المرفوعة التي تعلن الانحياز للفقراء. ولقد استفاد كثير من الفلاحين والعمال في فترة جمال عبد الناصر، لا سيما من قانون الإصلاح الزراعي، فبعد أن كان هؤلاء من المعدمين أصبح لديهم فدادين من الأرض الزراعية، فكانت نقلة لهم، صحيحٌ أنه لم ينقلهم إلى مرحلة الرفاهية كما حدث في عهد السادات لكنهم استفادوا على الأقل: صاروا ملاكاً من بعد ما كانوا أُجَراء!

وهكذا.. بدأت الحكاية بموضوع تعبير وانتهت إلى رسوخ فكرة سطوة وبطش وظلم
عبد الناصر في عقلي وقلبي.

جاءت الذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1971م)، كنت في بداية الصف الثاني الثانوي، وكانت المدارس تبدأ في أول سبتمبر أو في منتصفه، وأقيم في المدرسة حفل تأبين لعبد الناصر استمرت لأسبوع! فظل الطلاب والأساتذة يتبارون في مديح عبد الناصر وتمجيده في كلماتهم وخطبهم. لم يكن السادات قد كشر عن أنيابه بعد لجمال عبد الناصر، كانت السياسة لا تزال تخطب وده وود إرثه.

أزعم أني من أوائل من هاجموا جمال عبد الناصر، لقد بدأ حفل التأبين والتمجيد يوم الاثنين فيما أذكر، وكان الترتيب يضع كلمتي يوم السبت، فجاءني الأستاذ عيد الرافعي وقال: اكتب الكلمة التي ستلقيها واعرضها علي أولاً. قلت له: يا أستاذ عيد، إني سأرتجل الخطبة كعادتي، أشعر بالخجل إن قرأت كلمتي من ورقة، وأنت أستاذي وقد عودتني الثقة بالنفس، ولن تسمع مني إلا ما يسرك.

لم تطمئنه كلماتي تلك، فلما جاء يوم السبت، وقف -دون أن أدري- من خلفي، وكان -كما أخبرني فيما بعد زميلي سيد محمود عبد الرحمن- قلقاً ومضطرباً، يحرك رجلاً ويضع أخرى.

تقدمت خطيباً فقلت:

"الحمد لله وكفى، وأصلي وأسلم على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فقد تقدم كثيرون وامتدحوا جمال عبد الناصر، لكن لي رأي آخر. نحن كشباب وكأبناء هذه البلاد بل وكأبناء لهذه الثورة، فكلنا وُلِد بعد 1952، وأنا قد وُلِدت 1954 وترعرت في ظل حكم جمال عبد الناصر، وأنا مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو لمنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي التابعة للاتحاد الاشتراكي، ومع ذلك يؤسفني أن أقول: كل هذا كذب.. كذب وافتراء! لقد مجَّدنا رجلا صنماً...".

عندها انتفض الأستاذ عيد الرافعي واختطف مني الميكروفون، وصاح: "ابننا رفاعي لا يقصد هذا، لكن خانه التعبير.. هو قصد أن جمال عبد الناصر معبود الجماهير فكل الناس تحبه، ولا يعني أنه صنم بمعنى الصنم...".

انتهى الطابور، واستدعاني الناظر إلى مكتبه، "يا ابني انت مش عايز تجيبها البَرّ (لا تريد أن ينتهي الأمر على خير)، ويبدو أنك لن ترتاح إلا حين تُفصل من المدرسة.. لم تنتهِ كلمتك إلا واتصل بي جهاز الأمن يريدونك أن تذهب إليهم.. من أين تأتي بهذا الكلام؟ نحن لا نقوله هنا.. وإذا سألوك فقل لهم إنك لم تسمعه من أحد هنا.. أنت ولد طيب و"غلبان".. وأبوك رجل "غلبان".. أنت كده بتودي نفسك في داهية (تلقي بنفسك إلى التهلكة).. وهتودينا معاك كلنا في داهية.. والمفترض بي الآن أن أصدر قرار فصلك من المدرسة"!

ظل الأستاذ عيد الرافعي يترجاه ويتوسل إليه ألا يتخذ قرار الفصل من المدرسه، طفق يقول: اعذره يا حضرة الناظر، إنه ابننا، مثل ابني علي، ومثل ابنك.. ورفاعي متفوق، ولا نريد أن يضيع مستقبله.. إلخ!. كان موقف الأستاذ رفاعي أبوياً وصادقاً، وكان من رجاءاته أن يؤجل أمر الفصل إلى حين نرى ما سيصنع في أمن الدولة، فلربما الأمر لن يستدعي.

ولم تنتهِ الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة.
‏١٧‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١٠:٠٤ م‏
التوحيد القاتل للثورات كرم الحفيان [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] مقدمة لا يختلف عاقلان في أهمية القيادة الموحدة لأي نشاط بشري جماعي في كافة الأنشطة الحياتية، الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية وغيرها، ولا ينكر أحد الآثار السيئة للتفرق وتعدد الرؤوس على نجاعة وجودة أي عمل، لاسيما إن كان كبيراً كثورة شعبية أو حراك عسكري مسلح في وجه سلطة مستبدة أو احتلال غاشم. ولكن، في ضوء التجارب والدارسة لثلاثين سنة خلت في عالمنا الإسلامي، هل كانت مجمل محاولات توحيد الصفوف أثناء المقاومة خيراً من تفرقها؟ وهل الطرق التي سُلكت لتوحيدها كانت صحيحة وموفقة؟ دعونا في البداية نناقش أسباب الفرقة بإيجاز: أولاً: ضعف التربية الإسلامية السلوكية في الأمة عموماً وتقليل البعض من أهميتها، وما ترتب على ذلك من تراجع في الاعتناء بالأعمال القلبية؛ كالزهد في التصدر وتقلد المناصب، ولم تسلم من ذلك جُل التيارات الإسلامية. ثانياً: غياب ثقافة العمل الجماعي إلى حد كبير في مجتمعاتنا، نتيجة أنماط التعليم والعمل والوظائف المفروضة على الشعوب منذ عقود طويلة، والتي تصر أنظمة الحكم على تثبيتها وعدم تطويرها للحفاظ على هيمنتها وتسلطها. ثالثاً: التصلب الفكري عند بعض الجماعات والحركات، واعتقادها أن طريق النصر يمر من خلال أدبياتها فقط؛ فالبعض يحصر الفهم الصحيح للدين في تنظيمه ومنهجه، والبعض الآخرلديه قناعة أنه الوحيد المطّلع على حقائق السياسة الدولية ودهاليزها العميقة. رابعاً: العوامل والضغوط الخارجية والدولية التي تكرّس الفرقة، عبر استغلال حاجة الفصائل الثورية للدعم المادي والسلاح والذخيرة الضرورية لمواصلة قتالها. لا أحسب أنني سأجد معارضة كبيرة إن قلت أن هذه المعوّقات الأربعة بحاجة إلى جهود جبارة وصبر جميل في مدة زمنية ليست بالقليلة أثناء مدافعة العدو ومقاومته؛ كيما نستطيع التغلب عليها والارتقاء إلى مرحلة التوحد الكامل. إلا أن البعض ظن أن باستطاعته بالقوة فقط (مستخدماً بعض الفتاوي) توحيد جميع القوى العاملة على الأرض؛ فماذا كانت النتيجة؟ هذا إن سلمنا أن الدافع كان ذاتياً وأن الهدف كان مصلحة الجهاد والأمة، فإذا بدأنا بالجزائر في حقبة التسعينيات، لم يكن الصف الثوري المسلح (بعد انقلاب العسكر على جبهة الإنقاذ) منقسماً إلى جماعات وأحزاب كثيرة، إنما كان هناك طرفان كبيران وحسب: جبهة الإنقاذ المؤلفة من تيارات إسلامية متنوعة، والجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا)، التي أُنشئت كتنظيم سلفي جهادي، ودُعمت من بعض رموز التيار قبل يُتبرَأ منها لاحقاً. حققت الثورة المسلحة إنجازات كبيرة وسيطرت على أغلب الجزائر، وسط تأييد ومعاونة شرائح واسعة من الشعب، وطبقاً لشهادات كثيرة من الوسط الجهادي - على رأسهم أبو مصعب السوري وعطية الله الليبي - فإن النقطة المفصلية للتراجع الكبير كانت سلوك (الجيا) الإجرامي، وسعيها للتفرد واعتداءاتها على شركاء الثورة، بحجة أنها الجماعة الشرعية التي ستوحد الصف الجهادي، والنتيجة كانت انهيار الصف تماماً. تجربة أخرى وقعت بعدها، وكان ميدانها العراق، فصائل كثيرة من مشارب مختلفة بعضها كبير والبعض الآخر صغير، الجميع شارك في قتال الاحتلالين الأمريكي والإيراني، والإنجازات الميدانية من 2003 إلى 2006 ملفتة، بتحرير غالب المحافظات السنيّة في العراق وبخسائر كبيرة في الجانب الأمريكي والإيراني، ثم خرجت إحدى الجماعات الكبيرة الفعاّلة (القاعدة في بلاد الرافدين) في الساحة لتعلن مع جماعات أخرى صغيرة "دولة العراق الإسلامية"، وتفتي بوجوب بيعة أبي عمر البغدادي، غير المعروف لكبرى الفصائل ووجوه الشعب، وعقب رفض أغلب الجماعات، بدأ احتراب داخلي واسع النطاق، ضَعُف (مع عوامل أخرى كنشاط الخونة والجواسيس) بموجبه الصف المجاهد بشكل حاد، إلى أن أحكمت حكومة الاحتلال المركزية سيطرتها على كامل البلاد. التجربة السورية، الأحدث لا تزال ماثلة أمام العيان، فرغم تعدد الجماعات والفصائل المجاهدة، إلا أن التقدم باتجاه إسقاط النظام كان يسير بشكل جيد، وفرضت القوى الثورية سيطرتها على ثلاثة أرباع الجغرافيا السورية، بما فيها المناطق الحدودية مع دول الجوار، ومطارات حربية عديدة بحلول مارس 2013، ثم دخلت فكرة (داعش) على الخط، ومع نهاية عام 2013م وبداية 2014م دخلت الثورة في اقتتالٍ وخسائر لا تحصى بحجة توحيد الصف وإنهاء التشرذم، ورغم تعافيها نسبياً بتجربة جيش الفتح (غرفة عمليات ضمت 7 فصائل) الذي أعاد شيئاً من هيبة الثورة وحرر مناطق لا بأس بها، بل شكل خطراً حقيقياً على النظام دفعه للاستعانة بدولة عظمى كروسيا لتنقذه من السقوط، إلا أن نغمة توحيد الساحة بالقوة عادت مع بداية 2017، وتسببت بعد اتفاقية خفض التصعيد (أستانا) وتفاهمات القوى العظمى بتراجعٍ هائلٍ أدى لانحسار الثورة في الشمال السوري وتهديد وجودها بشكل كبير. النموذح الوحيد الناجح (نسبياً) كان الجهاد الأفغاني الأول، حين حُررت أفغانستان كاملةً من الاحتلال السوفيتي، على الرغم من وجود سبعة أحزاب أفغانية مجاهدة بسبع قيادات مختلفة، ربما لأنها عصمت في هذه المرحلة من الاقتتالات الكبيرة وتجارب التوحيد بالقوة، وإن كانت عانت منه لاحقاً بعد التحرير. خاتمة لا يفهم من كلامي السابق الدعوة إلى الفرقة أو تسويغها، وإنما محاولة معالجة الواقع على وفق المبدأ الشرعي (دفع الصائل) بالطريقة الأقل ضرراً، اهتداءً باستقراء الوقائع المعاصرة، وذلك عبر تقليل عوامل الفرقة (المذكورة في بداية المقال)، وتعزيز التوحدات الجزئية وترسيخها، وزيادة التنسيق والمآخآة بينها، ريثما ينضج العلاج الكامل الشافي. بلا شك، لن تحقق أي ثورة أو أمة أهدافها الكاملة في النهوض والاستقلال، وقيام الدولة القوية، مع غياب القيادة الموحدة والمشروع الواحد والهدف الواحد والإسهام الشعبي. ولكن الحل الوقتي أثناء مدافعة حشود من الصائلين لا يكون بأن يقتل بعضنا بعضاً، أو أن يسقط أحدنا الآخر، لاسيما مع عجز جميع الأطراف الفاعلة عن الحشد والحسم (إن جاز ذلك شرعاً)، كما حدث في بعض الأحداث تاريخياً. وما أجمل كلمات عبد الله عزام حين تساءل مستنكراً عن قدرة أي جماعة على إقامة دولة إسلامية بمفردها، واصفاً إسهامها بأنه نقطة في بحر حاجات المسلمين.
التوحيد القاتل للثورات
كرم الحفيان

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]



مقدمة
لا يختلف عاقلان في أهمية القيادة الموحدة لأي نشاط بشري جماعي في كافة الأنشطة الحياتية، الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية وغيرها، ولا ينكر أحد الآثار السيئة للتفرق وتعدد الرؤوس على نجاعة وجودة أي عمل، لاسيما إن كان كبيراً كثورة شعبية أو حراك عسكري مسلح في وجه سلطة مستبدة أو احتلال غاشم. ولكن، في ضوء التجارب والدارسة لثلاثين سنة خلت في عالمنا الإسلامي، هل كانت مجمل محاولات توحيد الصفوف أثناء المقاومة خيراً من تفرقها؟ وهل الطرق التي سُلكت لتوحيدها كانت صحيحة وموفقة؟

دعونا في البداية نناقش أسباب الفرقة بإيجاز:

أولاً: ضعف التربية الإسلامية السلوكية في الأمة عموماً وتقليل البعض من أهميتها، وما ترتب على ذلك من تراجع في الاعتناء بالأعمال القلبية؛ كالزهد في التصدر وتقلد المناصب، ولم تسلم من ذلك جُل التيارات الإسلامية.
ثانياً: غياب ثقافة العمل الجماعي إلى حد كبير في مجتمعاتنا، نتيجة أنماط التعليم والعمل والوظائف المفروضة على الشعوب منذ عقود طويلة، والتي تصر أنظمة الحكم على تثبيتها وعدم تطويرها للحفاظ على هيمنتها وتسلطها.
ثالثاً: التصلب الفكري عند بعض الجماعات والحركات، واعتقادها أن طريق النصر يمر من خلال أدبياتها فقط؛ فالبعض يحصر الفهم الصحيح للدين في تنظيمه ومنهجه، والبعض الآخرلديه قناعة أنه الوحيد المطّلع على حقائق السياسة الدولية ودهاليزها العميقة.
رابعاً: العوامل والضغوط الخارجية والدولية التي تكرّس الفرقة، عبر استغلال حاجة الفصائل الثورية للدعم المادي والسلاح والذخيرة الضرورية لمواصلة قتالها.
لا أحسب أنني سأجد معارضة كبيرة إن قلت أن هذه المعوّقات الأربعة بحاجة إلى جهود جبارة وصبر جميل في مدة زمنية ليست بالقليلة أثناء مدافعة العدو ومقاومته؛ كيما نستطيع التغلب عليها والارتقاء إلى مرحلة التوحد الكامل.
إلا أن البعض ظن أن باستطاعته بالقوة فقط (مستخدماً بعض الفتاوي) توحيد جميع القوى العاملة على الأرض؛ فماذا كانت النتيجة؟ هذا إن سلمنا أن الدافع كان ذاتياً وأن الهدف كان مصلحة الجهاد والأمة، فإذا بدأنا بالجزائر في حقبة التسعينيات، لم يكن الصف الثوري المسلح (بعد انقلاب العسكر على جبهة الإنقاذ) منقسماً إلى جماعات وأحزاب كثيرة، إنما كان هناك طرفان كبيران وحسب: جبهة الإنقاذ المؤلفة من تيارات إسلامية متنوعة، والجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا)، التي أُنشئت كتنظيم سلفي جهادي، ودُعمت من بعض رموز التيار قبل يُتبرَأ منها لاحقاً. حققت الثورة المسلحة إنجازات كبيرة وسيطرت على أغلب الجزائر، وسط تأييد ومعاونة شرائح واسعة من الشعب، وطبقاً لشهادات كثيرة من الوسط الجهادي - على رأسهم أبو مصعب السوري وعطية الله الليبي - فإن النقطة المفصلية للتراجع الكبير كانت سلوك (الجيا) الإجرامي، وسعيها للتفرد واعتداءاتها على شركاء الثورة، بحجة أنها الجماعة الشرعية التي ستوحد الصف الجهادي، والنتيجة كانت انهيار الصف تماماً.
تجربة أخرى وقعت بعدها، وكان ميدانها العراق، فصائل كثيرة من مشارب مختلفة بعضها كبير والبعض الآخر صغير، الجميع شارك في قتال الاحتلالين الأمريكي والإيراني، والإنجازات الميدانية من 2003 إلى 2006 ملفتة، بتحرير غالب المحافظات السنيّة في العراق وبخسائر كبيرة في الجانب الأمريكي والإيراني، ثم خرجت إحدى الجماعات الكبيرة الفعاّلة (القاعدة في بلاد الرافدين) في الساحة لتعلن مع جماعات أخرى صغيرة "دولة العراق الإسلامية"، وتفتي بوجوب بيعة أبي عمر البغدادي، غير المعروف لكبرى الفصائل ووجوه الشعب، وعقب رفض أغلب الجماعات، بدأ احتراب داخلي واسع النطاق، ضَعُف (مع عوامل أخرى كنشاط الخونة والجواسيس) بموجبه الصف المجاهد بشكل حاد، إلى أن أحكمت حكومة الاحتلال المركزية سيطرتها على كامل البلاد.
التجربة السورية، الأحدث لا تزال ماثلة أمام العيان، فرغم تعدد الجماعات والفصائل المجاهدة، إلا أن التقدم باتجاه إسقاط النظام كان يسير بشكل جيد، وفرضت القوى الثورية سيطرتها على ثلاثة أرباع الجغرافيا السورية، بما فيها المناطق الحدودية مع دول الجوار، ومطارات حربية عديدة بحلول مارس 2013، ثم دخلت فكرة (داعش) على الخط، ومع نهاية عام 2013م وبداية 2014م دخلت الثورة في اقتتالٍ وخسائر لا تحصى بحجة توحيد الصف وإنهاء التشرذم، ورغم تعافيها نسبياً بتجربة جيش الفتح (غرفة عمليات ضمت 7 فصائل) الذي أعاد شيئاً من هيبة الثورة وحرر مناطق لا بأس بها، بل شكل خطراً حقيقياً على النظام دفعه للاستعانة بدولة عظمى كروسيا لتنقذه من السقوط، إلا أن نغمة توحيد الساحة بالقوة عادت مع بداية 2017، وتسببت بعد اتفاقية خفض التصعيد (أستانا) وتفاهمات القوى العظمى بتراجعٍ هائلٍ أدى لانحسار الثورة في الشمال السوري وتهديد وجودها بشكل كبير.
النموذح الوحيد الناجح (نسبياً) كان الجهاد الأفغاني الأول، حين حُررت أفغانستان كاملةً من الاحتلال السوفيتي، على الرغم من وجود سبعة أحزاب أفغانية مجاهدة بسبع قيادات مختلفة، ربما لأنها عصمت في هذه المرحلة من الاقتتالات الكبيرة وتجارب التوحيد بالقوة، وإن كانت عانت منه لاحقاً بعد التحرير.

خاتمة
لا يفهم من كلامي السابق الدعوة إلى الفرقة أو تسويغها، وإنما محاولة معالجة الواقع على وفق المبدأ الشرعي (دفع الصائل) بالطريقة الأقل ضرراً، اهتداءً باستقراء الوقائع المعاصرة، وذلك عبر تقليل عوامل الفرقة (المذكورة في بداية المقال)، وتعزيز التوحدات الجزئية وترسيخها، وزيادة التنسيق والمآخآة بينها، ريثما ينضج العلاج الكامل الشافي.
بلا شك، لن تحقق أي ثورة أو أمة أهدافها الكاملة في النهوض والاستقلال، وقيام الدولة القوية، مع غياب القيادة الموحدة والمشروع الواحد والهدف الواحد والإسهام الشعبي. ولكن الحل الوقتي أثناء مدافعة حشود من الصائلين لا يكون بأن يقتل بعضنا بعضاً، أو أن يسقط أحدنا الآخر، لاسيما مع عجز جميع الأطراف الفاعلة عن الحشد والحسم (إن جاز ذلك شرعاً)، كما حدث في بعض الأحداث تاريخياً.
وما أجمل كلمات عبد الله عزام حين تساءل مستنكراً عن قدرة أي جماعة على إقامة دولة إسلامية بمفردها، واصفاً إسهامها بأنه نقطة في بحر حاجات المسلمين.
‏١٤‏/٠٨‏/٢٠١٨ ٨:٥٨ م‏
لماذا فشلت حملات مكافحة التمرد الأمريكية م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed] [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] “إن أي قائد يفكر في إرسال قوات أمريكية للمشاركة في حملة واسعة النطاق لمكافحة التمرد، يجب أن تُفحص قدراته العقلية“. بهذه الكلمات لخص وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت جيتس الدروس الأمريكية المستفادة من خوض أميركا لحربيها بالعراق وأفغانستان. فبعد ذيوع نهج مكافحة التمرد “COIN” في عهد الرئيس الأميركي بوش، إثر إصدار الجيش الأميركي لدليل ميداني مطول أصدره عام 2006 تحت إشراف قائد مركز الأسلحة المشتركة بالجيش الأميركي آنذاك الجنرال ديفيد بترايوس، ثم تطبيق بيترايوس لاحقاً لإرشادات هذا الدليل أثناء قيادته بنفسه للقوات الأمريكية في العراق ثم أفغانستان، تبين أن حملات مكافحة التمرد الأمريكية كللت بخسارة فادحة، سواء: - ميدانياً عبر استفحال خطر تنظيم الدولة بالعراق مجدداً منذ عام 2011، واستيلائه على مدينة الموصل عام 2014، أو عبر تمكن حركة طالبان من استعادة زمام المبادرة بأفغانستان، وسيطرتها مجدداً على مناطق شاسعة ومتزايدة. - اقتصادياً عبر استنزاف الاقتصاد الأميركي بنفقات هائلة لتغطية التكاليف العسكرية والأمنية، وأنشطة إعادة الإعمار المصاحبة للمغامرات الأمريكية بالخارج. وفي هذا المقال سأستعرض بعض أسباب فشل حملات مكافحة التمرد الأمريكية من واقع الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد “FM24-3”، الصادر عام 2006. فهذا الدليل من أفضل ما يشرح أسباب إخفاق الحملات الأمريكية، والتي أخفقت لعدم قدرتها على تطبيق الإرشادات الواردة في الدليل المذكور. لا لرداءة التوجيهات الواردة فيه. ما المقصود بحملات مكافحة التمرد؟ ينص الدليل على أن “حملة مكافحة التمرد، هي خليط من العمليات الهجومية والدفاعية، وعمليات الاستقرار التي تجري عبر خطوط متعددة من العمليات. وتتطلب إعداد جنود الجيش ومشاة البحرية الأمريكية للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات وقوات الأمن المحلية والبنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، والالتزام بالقدرة على تيسير إنشاء الحكم المحلي وتطبيق القانون؛ ويتطلب تنفيذ تلك المهام التنسيق والتعاون المكثف مع كثير من الوكالات المختلفة، والحكومات، والدولة المضيفة، والوكالات الدولية“ . ما هي أسباب الفشل؟ 1- الإخفاق في كسب السكان للصف الأميركي ينص دليل الميدان على أن “نجاح مكافحة التمرد يعتمد في المدى الطويل على السكان ومن يظنونه الأصلح لتولي مسؤولية شؤونهم العامة، ومن يقبلون بسلطته الحكومية” . وقد أخفقت أميركا في كسب قلوب وعقول السكان في العراق وأفغانستان، إذ نظروا إليها على أنها دولة احتلال تسعى لنهب مواردهم “بالأخص في العراق” أو للتدخل في خصوصياتهم القبلية ”بالأخص في أفغانستان”. كما عمل البعد العقدي الديني على تحفيز قطاعات من السكان على قتال الجيش الأميركي. وقد نبه الدليل الميداني إلى خطورة مشاركة أي قطاعات من السكان في التمردات مهما كان صغر حجم المشاركين، قائلا “إن الحفاظ على الأمن في بيئة غير مستقرة تعتريها الفوضى يتطلب حشد موارد هائلة، سواء من الدولة المضيفة أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو من أي دول أخرى متعددة الجنسيات. وعلى النقيض فإن حفنة صغيرة من المتمردين ممن تتوفر لديهم دوافع عالية، وبعض الأسلحة البسيطة، وأمن عملياتي جيد، وقابلية محدودة للحركة، يمكنها أن تقوض الأمن في مناطق شاسعة. ولذا فغالباً ما تتطلب عمليات مكافحة التمرد الناجحة نسبة عالية من قوات الأمن لتوفير الحماية للسكان، ولهذا السبب، فإنه يصعب تعزيز عمليات مكافحة التمرد طويلة المدى. إذ إن هذا الجهد يتطلب إرادة سياسية قوية، وصبراً طويلاً من جانب الحكومة والشعب والدول التي تقدم الدعم”. 2- دعم حكومات لا تحظى بشرعية أكد الدليل الميداني على أهمية حيازة حكومة الدولة المضيفة للشرعية قائلاً “إن الشرعية تيسر على الدولة تنفيذ وظائفها الضرورية. والتي تشمل سلطة تنظيم العلاقات الاجتماعية، واستخراج الموارد، واتخاذ الإجراءات اللازمة باسم الشعب” . ثم قدم ستة مؤشرات للشرعية قائلا: ”توجد ست مؤشرات محتملة للشرعية، ويمكن استخدامها في تحليل التهديدات الموجهة للاستقرار، وتشمل التالي: • القدرة على توفير الأمن للسكان “بما في ذلك الحماية من التهديدات الداخلية والخارجية”. • اختيار القادة دورياً بطريقة يعتبرها معظم السكان عادلة ونزيهة. • مستوى عالٍ من المشاركة الشعبية في الممارسات السياسية وفي دعمها. • حَدٌ مقبول من السكان للفساد الذي تتحكم فيه التقاليد الاجتماعية. • مستوى ومعدل مقبول للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. • مستوى عالٍ لقبول النظام الحاكم من قِبل المؤسسات الاجتماعية الرئيسية” . والمتأمل لواقع الحكومات التي أنشأتها أميركا بالعراق وأفغانستان يجد أنها حكومات مفتقدة للشرعية، سواء لتأسيسها على أسس طائفية، أو لتبعيتها الكاملة للإدارة الأمريكية. 3- الاستخدام المفرط للقوة أدى الاستخدام الأميركي المفرط للقوة ضد الشعوب إلى حدوث نقيض غرضها، وتأجيج العداء لها، رغم تشديد الدليل الميداني على خطورة ذلك بالقول: ”ينبغي على مكافحي التمرد أن يحسبوا بعناية نوع وكمية القوة التي يلزم استخدامها، ومن سوف يستخدمها ببراعة في أي عملية. فالعملية التي يُقتل فيها خمسة متمردين، ستأتي بنتائج عكسية تماماً في حالة ما إذا أدت الأضرار الشاملة التي نتجت عنها إلى استقطاب خمسين متمرداً أو أكثر” . 4- افتقاد الأسس الأخلاقية رغم تأكيد الدليل الميداني على وجوب ”عدم تعريض أي شخص محتجز أو تحت سيطرة وزارة الدفاع، بصرف النظر عن جنسيته أو موقع تواجده، للتعذيب أو العقاب أو المعاملة الوحشية أو غير الإنسانية المهينة” ، وعدم جواز “احتجاز أفراد أي أسرة أو رفقاء حميمين، لإجبار المتمردين المشتبه فيهم على الاستسلام أو الإدلاء بمعلومات.. والتشديد على اعتبار أن التعذيب والمعاملة الوحشية أو غير الآدمية أو المهينة أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية على الإطلاق، حتى ولو كان الحصول على هذه المعلومات يتوقف على أرواح آخرين” . فإن الحكومات الأمريكية المتعاقبة اعتمدت على التعذيب والممارسات غير الأخلاقية في تعاملها مع خصومها مثلما حدث في سجن أبي غريب ومعتقل جوانتامو وفي السجون السرية. والعجيب أن الدليل الميداني شدد على أن “جميع الجهود المبذولة لبناء حكومة شرعية باستخدام أفعال غير شرعية يُعد أمراً مدمراً للذات” ، ثم أورد فقرة كاملة تحت عنوان: ”فقدان الشرعية الأخلاقية تعني خسارة الحرب”، تناول فيها أسباب فشل فرنسا في حملتها الدموية بالجزائر قائلا: ”خلال حرب الاستقلال الجزائرية في الفترة ما بين 1954 و 1962 ، قرّرَ القادة الفرنسيون السماح بتعذيب المشتبه بهم من المتمردين. وعلى الرغم من أنهم كانوا على وعي تام بأن ذلك يخالف القانون العسكري وأخلاقيات الحرب، إلا أنهم استندوا على الحجج التالية: - أن هذا شكل جديد من أشكال الحرب، وأن القواعد والأعراف المتداولة للحرب لا تسري عليها. - أن الخطر الذي يمثله العدو والشيوعية كان شراً كبيراً يبرر استخدام وسائل وطرق استثنائية. - أن تطبيق التعذيب وتنفيذه ضد المتمردين يتم قياسه ولا يجري دون مبرر. وهذا التغاضي الرسمي عن التعذيب من ناحية قيادة الجيش الفرنسي كان له العديد من التبعات السلبية. إذ قوّض الشرعية الأخلاقية الفرنسية وأحدث انكساراً داخلياً معنوياً بين الضباط الذين كانوا في الخدمة، أدى إلى القيام بانقلاب عسكري فاشل في عام 1962. وفي النهاية، فقد أسهم الفشل في التقيد بالقيود القانونية والأخلاقية ضد التعذيب في تقويض الجهود الفرنسية بصورة خطيرة، كما أسهم في خسارة الحرب على الرغم من العديد من الانتصارات العسكرية الهامة التي تحققت”. النهج البديل “التدخلات المحدودة” بدلاً من استراتيجية مكافحة التمرد، اعتمدت إدارة أوباما على خيارات أقل كلفة أسمتها "مقاربة التدخلات المحدودة". وهذه المقاربة تؤكد على استخدام القوة الجوية وتقديم التزام محدود من قبل القوات البرية الأمريكية “عادة من قوات العمليات الخاصة” لتحقيق أهداف محددة بدقة، كإضعاف تنظيمات معينة عبر تصفية أو أسر قادتها. وهذه المقاربة لمكافحة التهديدات غير النظامية ظهرت للعيان في التدخلات العسكرية الأمريكية المحدودة في بلاد مثل الصومال واليمن وليبيا والعراق “مجدداً عقب تنامي خطر تنظيم الدولة الإسلامية”. وقد حازت "مقاربة التدخلات المحدودة" على قدر كبير من القبول داخل مجتمع الدفاع الأمريكي. ومع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، تعرضت لانتقادات من جانبين، الأول من يعتقدون بأن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتدخل على الإطلاق، والثاني من يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تستخدم القوة بشكل أقوى عندما تتخذ قراراً بالتدخل . ورغم ذلك ما زال ترامب حتى الآن ملتزماً بهذه المقاربة.
لماذا فشلت حملات مكافحة التمرد الأمريكية
م. أحمد مولانا Ahmed

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]

“إن أي قائد يفكر في إرسال قوات أمريكية للمشاركة في حملة واسعة النطاق لمكافحة التمرد، يجب أن تُفحص قدراته العقلية“. بهذه الكلمات لخص وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت جيتس الدروس الأمريكية المستفادة من خوض أميركا لحربيها بالعراق وأفغانستان.
فبعد ذيوع نهج مكافحة التمرد “COIN” في عهد الرئيس الأميركي بوش، إثر إصدار الجيش الأميركي لدليل ميداني مطول أصدره عام 2006 تحت إشراف قائد مركز الأسلحة المشتركة بالجيش الأميركي آنذاك الجنرال ديفيد بترايوس، ثم تطبيق بيترايوس لاحقاً لإرشادات هذا الدليل أثناء قيادته بنفسه للقوات الأمريكية في العراق ثم أفغانستان، تبين أن حملات مكافحة التمرد الأمريكية كللت بخسارة فادحة، سواء:
- ميدانياً عبر استفحال خطر تنظيم الدولة بالعراق مجدداً منذ عام 2011، واستيلائه على مدينة الموصل عام 2014، أو عبر تمكن حركة طالبان من استعادة زمام المبادرة بأفغانستان، وسيطرتها مجدداً على مناطق شاسعة ومتزايدة.
- اقتصادياً عبر استنزاف الاقتصاد الأميركي بنفقات هائلة لتغطية التكاليف العسكرية والأمنية، وأنشطة إعادة الإعمار المصاحبة للمغامرات الأمريكية بالخارج.
وفي هذا المقال سأستعرض بعض أسباب فشل حملات مكافحة التمرد الأمريكية من واقع الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد “FM24-3”، الصادر عام 2006. فهذا الدليل من أفضل ما يشرح أسباب إخفاق الحملات الأمريكية، والتي أخفقت لعدم قدرتها على تطبيق الإرشادات الواردة في الدليل المذكور. لا لرداءة التوجيهات الواردة فيه.
ما المقصود بحملات مكافحة التمرد؟
ينص الدليل على أن “حملة مكافحة التمرد، هي خليط من العمليات الهجومية والدفاعية، وعمليات الاستقرار التي تجري عبر خطوط متعددة من العمليات. وتتطلب إعداد جنود الجيش ومشاة البحرية الأمريكية للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات وقوات الأمن المحلية والبنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، والالتزام بالقدرة على تيسير إنشاء الحكم المحلي وتطبيق القانون؛ ويتطلب تنفيذ تلك المهام التنسيق والتعاون المكثف مع كثير من الوكالات المختلفة، والحكومات، والدولة المضيفة، والوكالات الدولية“ .
ما هي أسباب الفشل؟
1- الإخفاق في كسب السكان للصف الأميركي
ينص دليل الميدان على أن “نجاح مكافحة التمرد يعتمد في المدى الطويل على السكان ومن يظنونه الأصلح لتولي مسؤولية شؤونهم العامة، ومن يقبلون بسلطته الحكومية” .
وقد أخفقت أميركا في كسب قلوب وعقول السكان في العراق وأفغانستان، إذ نظروا إليها على أنها دولة احتلال تسعى لنهب مواردهم “بالأخص في العراق” أو للتدخل في خصوصياتهم القبلية ”بالأخص في أفغانستان”. كما عمل البعد العقدي الديني على تحفيز قطاعات من السكان على قتال الجيش الأميركي. وقد نبه الدليل الميداني إلى خطورة مشاركة أي قطاعات من السكان في التمردات مهما كان صغر حجم المشاركين، قائلا “إن الحفاظ على الأمن في بيئة غير مستقرة تعتريها الفوضى يتطلب حشد موارد هائلة، سواء من الدولة المضيفة أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو من أي دول أخرى متعددة الجنسيات. وعلى النقيض فإن حفنة صغيرة من المتمردين ممن تتوفر لديهم دوافع عالية، وبعض الأسلحة البسيطة، وأمن عملياتي جيد، وقابلية محدودة للحركة، يمكنها أن تقوض الأمن في مناطق شاسعة. ولذا فغالباً ما تتطلب عمليات مكافحة التمرد الناجحة نسبة عالية من قوات الأمن لتوفير الحماية للسكان، ولهذا السبب، فإنه يصعب تعزيز عمليات مكافحة التمرد طويلة المدى. إذ إن هذا الجهد يتطلب إرادة سياسية قوية، وصبراً طويلاً من جانب الحكومة والشعب والدول التي تقدم الدعم”.
2- دعم حكومات لا تحظى بشرعية
أكد الدليل الميداني على أهمية حيازة حكومة الدولة المضيفة للشرعية قائلاً “إن الشرعية تيسر على الدولة تنفيذ وظائفها الضرورية. والتي تشمل سلطة تنظيم العلاقات الاجتماعية، واستخراج الموارد، واتخاذ الإجراءات اللازمة باسم الشعب” . ثم قدم ستة مؤشرات للشرعية قائلا: ”توجد ست مؤشرات محتملة للشرعية، ويمكن استخدامها في تحليل التهديدات الموجهة للاستقرار، وتشمل التالي:
• القدرة على توفير الأمن للسكان “بما في ذلك الحماية من التهديدات الداخلية والخارجية”.
• اختيار القادة دورياً بطريقة يعتبرها معظم السكان عادلة ونزيهة.
• مستوى عالٍ من المشاركة الشعبية في الممارسات السياسية وفي دعمها.
• حَدٌ مقبول من السكان للفساد الذي تتحكم فيه التقاليد الاجتماعية.
• مستوى ومعدل مقبول للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
• مستوى عالٍ لقبول النظام الحاكم من قِبل المؤسسات الاجتماعية الرئيسية” .
والمتأمل لواقع الحكومات التي أنشأتها أميركا بالعراق وأفغانستان يجد أنها حكومات مفتقدة للشرعية، سواء لتأسيسها على أسس طائفية، أو لتبعيتها الكاملة للإدارة الأمريكية.
3- الاستخدام المفرط للقوة
أدى الاستخدام الأميركي المفرط للقوة ضد الشعوب إلى حدوث نقيض غرضها، وتأجيج العداء لها، رغم تشديد الدليل الميداني على خطورة ذلك بالقول: ”ينبغي على مكافحي التمرد أن يحسبوا بعناية نوع وكمية القوة التي يلزم استخدامها، ومن سوف يستخدمها ببراعة في أي عملية. فالعملية التي يُقتل فيها خمسة متمردين، ستأتي بنتائج عكسية تماماً في حالة ما إذا أدت الأضرار الشاملة التي نتجت عنها إلى استقطاب خمسين متمرداً أو أكثر” .
4- افتقاد الأسس الأخلاقية
رغم تأكيد الدليل الميداني على وجوب ”عدم تعريض أي شخص محتجز أو تحت سيطرة وزارة الدفاع، بصرف النظر عن جنسيته أو موقع تواجده، للتعذيب أو العقاب أو المعاملة الوحشية أو غير الإنسانية المهينة” ، وعدم جواز “احتجاز أفراد أي أسرة أو رفقاء حميمين، لإجبار المتمردين المشتبه فيهم على الاستسلام أو الإدلاء بمعلومات.. والتشديد على اعتبار أن التعذيب والمعاملة الوحشية أو غير الآدمية أو المهينة أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية على الإطلاق، حتى ولو كان الحصول على هذه المعلومات يتوقف على أرواح آخرين” . فإن الحكومات الأمريكية المتعاقبة اعتمدت على التعذيب والممارسات غير الأخلاقية في تعاملها مع خصومها مثلما حدث في سجن أبي غريب ومعتقل جوانتامو وفي السجون السرية.
والعجيب أن الدليل الميداني شدد على أن “جميع الجهود المبذولة لبناء حكومة شرعية باستخدام أفعال غير شرعية يُعد أمراً مدمراً للذات” ، ثم أورد فقرة كاملة تحت عنوان: ”فقدان الشرعية الأخلاقية تعني خسارة الحرب”، تناول فيها أسباب فشل فرنسا في حملتها الدموية بالجزائر قائلا: ”خلال حرب الاستقلال الجزائرية في الفترة ما بين 1954 و 1962 ، قرّرَ القادة الفرنسيون السماح بتعذيب المشتبه بهم من المتمردين. وعلى الرغم من أنهم كانوا على وعي تام بأن ذلك يخالف القانون العسكري وأخلاقيات الحرب، إلا أنهم استندوا على الحجج التالية:
- أن هذا شكل جديد من أشكال الحرب، وأن القواعد والأعراف المتداولة للحرب لا تسري عليها.
- أن الخطر الذي يمثله العدو والشيوعية كان شراً كبيراً يبرر استخدام وسائل وطرق استثنائية.
- أن تطبيق التعذيب وتنفيذه ضد المتمردين يتم قياسه ولا يجري دون مبرر.
وهذا التغاضي الرسمي عن التعذيب من ناحية قيادة الجيش الفرنسي كان له العديد من التبعات السلبية. إذ قوّض الشرعية الأخلاقية الفرنسية وأحدث انكساراً داخلياً معنوياً بين الضباط الذين كانوا في الخدمة، أدى إلى القيام بانقلاب عسكري فاشل في عام 1962. وفي النهاية، فقد أسهم الفشل في التقيد بالقيود القانونية والأخلاقية ضد التعذيب في تقويض الجهود الفرنسية بصورة خطيرة، كما أسهم في خسارة الحرب على الرغم من العديد من الانتصارات العسكرية الهامة التي تحققت”.
النهج البديل “التدخلات المحدودة”
بدلاً من استراتيجية مكافحة التمرد، اعتمدت إدارة أوباما على خيارات أقل كلفة أسمتها "مقاربة التدخلات المحدودة". وهذه المقاربة تؤكد على استخدام القوة الجوية وتقديم التزام محدود من قبل القوات البرية الأمريكية “عادة من قوات العمليات الخاصة” لتحقيق أهداف محددة بدقة، كإضعاف تنظيمات معينة عبر تصفية أو أسر قادتها. وهذه المقاربة لمكافحة التهديدات غير النظامية ظهرت للعيان في التدخلات العسكرية الأمريكية المحدودة في بلاد مثل الصومال واليمن وليبيا والعراق “مجدداً عقب تنامي خطر تنظيم الدولة الإسلامية”.
وقد حازت "مقاربة التدخلات المحدودة" على قدر كبير من القبول داخل مجتمع الدفاع الأمريكي. ومع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، تعرضت لانتقادات من جانبين، الأول من يعتقدون بأن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتدخل على الإطلاق، والثاني من يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تستخدم القوة بشكل أقوى عندما تتخذ قراراً بالتدخل . ورغم ذلك ما زال ترامب حتى الآن ملتزماً بهذه المقاربة.
‏١١‏/٠٨‏/٢٠١٨ ١١:١٨ م‏
خرافة خفض التصعيد عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] كتبنا في مقال سابق على صفحات هذه المجلة أن تصديق الثوار لأكذوبة خفض التوتر، والمناطق الآمنة أمر يدعو إلى الاستغراب والأسف أيضا، وقلنا إن ذلك يتعارض مع العقيدة القتالية للنظام الدولي؛ الذي يتربع القضاء على القوى الإسلامية الثورية على رأس قائمة أولوياتها مهما بالغت الجهات الضامنة في إقناع القوى الثورية بعكس ذلك، وشددنا على ضرورة البحث عن خيارات أخرى تعيد للفعل الثوري زخمه وتألقه وعنفوانه. لم تمض أسابيع على نشر المقال حتى توجهت جحافل الغزاة تحت غطاء جوي روسي إلى منطقة حوران بالجنوب السوري (المشمولة باتفاق خفض التصعيد) لتبدأ حملة عسكرية شرسة هناك، عارضة على الثوار والأهالي خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستسلام أو الموت. في الواقع لم تكن فكرة إقرار "مناطق خفض التصعيد" نابعة عن مسار سياسي تفاوض ندّي بين أطراف الصراع في الشام، وإنما كانت حاجة عسكرية تكتيكية بحتة، فرضها على الغزاة طبيعة الجغرافيا الممتدة وتوزع الجبهات الساخنة على محاور متباعدة يصعب تغطيتها وإدارتها كلها في وقت واحد، لأن ذلك ببساطة يتعارض مع أبسط مبادئ العسكرية الناجحة التي تحتفي بتركيز الجهد والاقتصاد في القوة. وسنتطرق في هذه الأسطر إلى خلفيات ما يسمى خطة خفض التصعيد المنبثقة عن جولة "أستانا4" والمكاسب التي حصدها النظام والاحتلال الروسي عبرها، وفداحة الخسائر التي لحقت بالثورة لأن قسماً من الثوار صدقوا في لحظة من اللحظات أن النظام الدولي يهتم حقاً بمأساتهم ويسعى جاداً لإيجاد حل لها. لابد أولاً أن نتذكر أن فكرة إقرار مناطق خفض التصعيد ليست فكرة روسية كما يعتقد الكثيرون، وإنما هي صيغة نهائية لمقترح أمريكي مطروح قبل سنوات بإقامة مناطق آمنة، واستكمال لمقترحات المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا القاضية بتجميد القتال في بعض المناطق لاسيما مدينة حلب . شرعنة الاحتلال نصت اتفاقيات خفض التصعيد على ضرورة نشر قوات الدول الضامنة الثلاث في المناطق المعنية بخفض التصعيد، لمراقبة تطبيق الاتفاق ومنع حصول اشتباكات بين الثوار وقوات النظام. المشكلة هنا لا تكمن فقط في اعتبار كل من روسيا وإيران جهتين ضامنتين؛ بل في اعتبار انتشار قواتهما على الأرض جزءاً من الحل المنشود؛ وهما الدولتان اللتان ارتكبتا أبشع الجرائم ضد أهل الشام، وعملياً لم يقاتل الثوار سوى هاتين الدولتين؛ إيران بميلشياتها على الأرض، وروسيا بإسنادها الجوي، أما جيش النظام فقد تفكك في السنوات الأولى من الثورة. الغريب أن يعلق بعض الثوار على التسويات التي تمت في عدة مناطق من سوريا معتبراً إياها إنجازات جديرة بالإشادة؛ لأنها -في اعتقاده- حالت دون دخول قوات النظام إلى تلك البلدات الموقعة على التسوية ودخلت بدلها الشرطة العسكرية الروسية! ليس من الخطأ أن تتراجع أو تنهزم حتى؛ وتنحاز إلى فئة لتعيد ترتيب وتنظيم صفوفك من جديد، لكن ليس من حقك أن تسمي الأمور بغير أسمائها وتغالط الأمة وتزيف الوقائع، الاحتلال يبقى احتلالاً مهما تلبس به من أسماء مضللة ومظاهر خادعة من قبيل: "مراقبة خفض التصعيد"، " نشر قوات الفصل"، أو "قوات حفظ السلام"، أو "التسويات والمصالحات"، إلى غيرها.. فالاستعمار الفرنسي دخل بلدان المغرب الإسلامي بموجب ما سمي آنذاك "معاهدات الحماية"، مثل معاهدة فاس 30/3/1912م التي احتلت بموجبها فرنسا المغرب الأقصى، ومعاهدة باردو في 12/05/1881م، التي احتلت بموجبها تونس، لكن فرنسا بقيت في وعي الشعوب والقبائل دولة مستعمرة ظلوا يقاومونها حتى خرجت من الديار. إذن فأول المكاسب التي جنتها قوات الاحتلال في سوريا (إيران وروسيا) من خلال اتفاق خفض التوتر أنهم بيضوا سجلاتهم السوداء وشرعنوا احتلالهم للبلد، ورسخوا حضورهم كجزء من حاضر ومستقبل الشام. ولا يقتصر الأمر على روسيا وإيران فقط بل جرى الحديث في عدة مناسبات عن استقدام قوات السيسي أيضاً، وقد دخلت مصر اتفاق خفض التصعيد كإحدى الدول الراعية له في الجزء المتعلق منه بالغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وقد أرسلت بعض الفصائل الثورية برقيات شكر حارة للسيسي في هذا السياق! الاستفراد بالجبهات لم يكد اتفاق خفض التصعيد يدخل شهره الثاني حتى ظهر للمتابعين والمهتمين حجم المنجزات التي حققتها قوات النظام على الصعيد الميداني، حيث أعلنت قوات النظام أنها سيطرت على عشرين ألف كيلومتر مربع في البادية السورية على حساب تنظيم الدولة الإسلامية؛ بشكل أساسي في محافظات حمص والسويداء وريف دمشق، وهي مساحة تعادل 90% من مساحة سوريا كاملة، وأمّنت وصولاً لقواتها نحو الحدود العراقية، والسيطرة على شبكة طرق هامة، كما تضم المناطق التي تقدمت فيها موارد اقتصادية هامة مثل النفط والغاز. كما تمكنت قوات النظام السوري من استعادة السيطرة على أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع في ريفي حلب الشرقي والرقة الغربي على حساب تنظيم الدولة أيضاً، بينها مدن ومواقع هامة كمسكنة ومطار الجراح العسكري، ومحطات ضخ مياه عملاقة على نهر الفرات. وتظهر الوقائع على الأرض أن النظام السوري سيطر على مناطق لم تكن مشمولة بالاتفاق، من أهمها أحياء برزة وتشرين والقابون شرقي دمشق، وحي الوعر في مدينة حمص . فالاتفاق في أساسه -كما قلنا- ذو خلفيات عسكرية أملته إكراهات ميدانية بحتة، ولم يكن جزءاً من مشروع تفاوضي يروم البحث عن حلول سياسية للأزمة كما يتوهم الموقعون عليه من جهة المعارضة. ويعتبر بمثابة الصيغة المقننة لتكتيكات الفرز والعزل والقضم التي اتبعها جيش النظام وحلفاؤه لاجتياح معاقل الثورة. وقد كتب ضابط سابق موالي للنظام السوري سارداً إيجابيات خفض التصعيد: "إنّ وقف العمليات القتالية في المناطق الأربع المحددة بالاتفاق ووضع آليات مراقبة وتنفيذ لها، سيسهم في تخفيض قوات الجيش السوري على حدود تلك المناطق بعد أن تُوضع نقاط مراقبة من الدول الضامنة، ويُتاح لاحتياطي معين من القوات التوجه إلى مناطق قتال لا تشملها الاتفاقية" . وعندما يُنتهى من المناطق غير الخاضعة للاتفاق لن تعدم روسيا سبباً للانتقال إلى المناطق الخاضعة للاتفاق، بحجة ضرب الإرهابيين والذين وقع الجميع بمن فيهم المعارضة على ضرورة محاربتهم، ومعلوم أن الإرهاب في القاموس الروسي والإيراني يشمل كل سني ثائر حمل السلاح. تسويق المصالحات وتأهيل جيش النظام قال الرئيس بشار الأسد تعليقاً على إقرار مناطق خفض التصعيد في عدة مناطق سورية بأن ذلك بمثابة "الفرصة لكل من يريد من المسلحين إجراء مصالحة مع الدولة كما حصل في مناطق أخرى؛ ليكون تخفيف الأعمال القتالية في هذه المناطق هو فرصة له ليقوم بتسوية وضعه مع الدولة وتسليم السلاح مقابل العفو" . وبالفعل اختارت عدة فصائل وبلدات مصالحة النظام والانخراط في "الواجب الوطني" المتمثل في القضاء على الإرهابيين، وتعددت صيغ وأشكال المصالحة التي أبرمها النظام مع مناطق كانت في السابق خارج سيطرته، لكن في صميمها كانت اتفاقيات استسلام بكل ما تحمله الكلمة من معاني الذل والهزيمة والانكسار. لم تكن المصالحات المزعومة مناسبة لإحلال الأمن والسلام في المناطق المعنية، ولم يكتفِ النظام بحل الفصائل الثورية التي قبلت مشروع المصالحة؛ بل قام بإعادة تدويرها وتوظيفها في ما تبقى له من معارك ضد الثوار. وقد أعلن النظام السوري عن تشكيل "الفيلق الخامس- اقتحام" بتمويل من روسيا ليستوعب جحافل "المصالحين"، ويزج بهم في مواجهة رفاق السلاح السابقين. فالنظام يريد أيضاً "للمكون السني" أن يكون مشاركاً فعالاً في الحرب على الإرهابيين، ولم يجد بعض قادة الفصائل الثورية حرجاً في التوقيع على اتفاقات تسوية تنص بنودها على تجنيد عناصر فصيله ضمن الفيلق الخامس كجزء من المصالحة مع النظام، كما فعل قائد فصيل شباب السنة في درعا. يريد النظام السوري من خلال تشكيله للفيلق الخامس أن يتجنب استنساخ النموذج العراقي في سوريا، حيث تنتشر ميلشيات شيعية موازية للجيش النظامي هناك وغير منضبطة في بعض الأحيان، ويسعى النظام لإعطاء انطباع زائف بأن الجيش السوري أكثر حداثة وتنوعاً، وقادر على استيعاب كل "الحساسيات" المذهبية والدينية والمناطقية، وقد وجد في المكونات الثورية المستقيلة خير رافد لمشروعه هذا، وانضم فعلاً آلاف من الثوار السابقين والمدنيين الذين كانوا يعيشون في المناطق المحررة إلى "الفيلق الخامس- اقتحام"، وشبه بعض المراقبين الفيلق الخامس بجيش الشرق الذي أسسه الاحتلال الفرنسي في سوريا. تثبيت المنجزات والمكاسب يتبع النظام السوري وحلفاؤه استراتيجيات فعالة في حربهم ضد الثوار، ولعل من أنجع هذه الاستراتيجيات تلك التي تستهدف تثبيت المنجزات والمكاسب الناجزة قبل الانتقال إلى الخطوات التالية، وقد كان مسار "أستانة" الذي تمخض عنه مشروع خفض التصعيد مظهراً من مظاهر هذه الاستراتيجية، إذ أُعلن عن انطلاق محادثاتها بعد أسابيع فقط من الانتصار الكبير الذي أحرزه النظام في مدينة حلب. ثم جاءت عشرات الاتفاقات والتسويات الأخرى لتؤدي المهمة ذاتها؛ وهي تثبيت المكاسب والمنجزات قبل استئناف المعارك مجدداً. يحرص النظام السوري حتى على صعيد المنطقة الواحدة أو البلدة الواحدة على تجزأة تحركاته باتفاقات تحفظ ما حققه من مكاسب في حي من أحيائها، قبل أن ينتقل إلى الأحياء الأخرى، أو يبرم تسوية مع فصيل ما دون الفصائل الأخرى وإن كانت هذه الفصائل تنشط في نطاق منطقة واحدة. فنجده مثلاً في الغوطة الشرقية قد قام بفرز وعزل مناطقها إلى عدة محاور أو أحياء قاضماً إياها منطقة منطقة، وفي كل مرحلة يقوم بتعزيز وتثبيت منجزه عبر الاتفاق مع كل حي أو فصيل على حدة. مستغلاً طبعاً مناخ عدم الثقة بين الفصائل الثورية وحالة التشرذم والانقسام التي عاشتها وما تزال تعيشها. لقد أبرم النظام اتفاقات مستقلة مع كل من "فيلق الرحمن" و"حركة أحرار الشام" و"جيش الإسلام" في الغوطة الشرقية. وأبرم اتفاقاً مستقلاً دون الفصائل الأخرى في ريف حمص مع "جيش التوحيد"، وفي حوران أبرم اتفاقاً مستقلاً مع فصيل "شباب السنة". لقد كتب الضابط عمر معربوني المؤيد للنظام مستشرفاً آفاقا اتفاقية خفض التصعيد بعد التوقيع عليها: "يمكن لهذا الاتفاق الذي تمّ بعد تواصل روسيا مع 27 جماعة مسلّحة، أن يزيد حدّة الشرخ بين الجماعات التي وافقت على الطرح الروسي وبين جبهة النصرة ومن يدور في فلكها من الجماعات، وهذا بحد ذاته سيكون إنجازًا هامًّا" . ومع كل الأسف هذا ما حصل.
خرافة خفض التصعيد

عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]

كتبنا في مقال سابق على صفحات هذه المجلة أن تصديق الثوار لأكذوبة خفض التوتر، والمناطق الآمنة أمر يدعو إلى الاستغراب والأسف أيضا، وقلنا إن ذلك يتعارض مع العقيدة القتالية للنظام الدولي؛ الذي يتربع القضاء على القوى الإسلامية الثورية على رأس قائمة أولوياتها مهما بالغت الجهات الضامنة في إقناع القوى الثورية بعكس ذلك، وشددنا على ضرورة البحث عن خيارات أخرى تعيد للفعل الثوري زخمه وتألقه وعنفوانه.

لم تمض أسابيع على نشر المقال حتى توجهت جحافل الغزاة تحت غطاء جوي روسي إلى منطقة حوران بالجنوب السوري (المشمولة باتفاق خفض التصعيد) لتبدأ حملة عسكرية شرسة هناك، عارضة على الثوار والأهالي خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستسلام أو الموت.

في الواقع لم تكن فكرة إقرار "مناطق خفض التصعيد" نابعة عن مسار سياسي تفاوض ندّي بين أطراف الصراع في الشام، وإنما كانت حاجة عسكرية تكتيكية بحتة، فرضها على الغزاة طبيعة الجغرافيا الممتدة وتوزع الجبهات الساخنة على محاور متباعدة يصعب تغطيتها وإدارتها كلها في وقت واحد، لأن ذلك ببساطة يتعارض مع أبسط مبادئ العسكرية الناجحة التي تحتفي بتركيز الجهد والاقتصاد في القوة. وسنتطرق في هذه الأسطر إلى خلفيات ما يسمى خطة خفض التصعيد المنبثقة عن جولة "أستانا4" والمكاسب التي حصدها النظام والاحتلال الروسي عبرها، وفداحة الخسائر التي لحقت بالثورة لأن قسماً من الثوار صدقوا في لحظة من اللحظات أن النظام الدولي يهتم حقاً بمأساتهم ويسعى جاداً لإيجاد حل لها.

لابد أولاً أن نتذكر أن فكرة إقرار مناطق خفض التصعيد ليست فكرة روسية كما يعتقد الكثيرون، وإنما هي صيغة نهائية لمقترح أمريكي مطروح قبل سنوات بإقامة مناطق آمنة، واستكمال لمقترحات المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا القاضية بتجميد القتال في بعض المناطق لاسيما مدينة حلب .

شرعنة الاحتلال

نصت اتفاقيات خفض التصعيد على ضرورة نشر قوات الدول الضامنة الثلاث في المناطق المعنية بخفض التصعيد، لمراقبة تطبيق الاتفاق ومنع حصول اشتباكات بين الثوار وقوات النظام. المشكلة هنا لا تكمن فقط في اعتبار كل من روسيا وإيران جهتين ضامنتين؛ بل في اعتبار انتشار قواتهما على الأرض جزءاً من الحل المنشود؛ وهما الدولتان اللتان ارتكبتا أبشع الجرائم ضد أهل الشام، وعملياً لم يقاتل الثوار سوى هاتين الدولتين؛ إيران بميلشياتها على الأرض، وروسيا بإسنادها الجوي، أما جيش النظام فقد تفكك في السنوات الأولى من الثورة.

الغريب أن يعلق بعض الثوار على التسويات التي تمت في عدة مناطق من سوريا معتبراً إياها إنجازات جديرة بالإشادة؛ لأنها -في اعتقاده- حالت دون دخول قوات النظام إلى تلك البلدات الموقعة على التسوية ودخلت بدلها الشرطة العسكرية الروسية!

ليس من الخطأ أن تتراجع أو تنهزم حتى؛ وتنحاز إلى فئة لتعيد ترتيب وتنظيم صفوفك من جديد، لكن ليس من حقك أن تسمي الأمور بغير أسمائها وتغالط الأمة وتزيف الوقائع، الاحتلال يبقى احتلالاً مهما تلبس به من أسماء مضللة ومظاهر خادعة من قبيل: "مراقبة خفض التصعيد"، " نشر قوات الفصل"، أو "قوات حفظ السلام"، أو "التسويات والمصالحات"، إلى غيرها.. فالاستعمار الفرنسي دخل بلدان المغرب الإسلامي بموجب ما سمي آنذاك "معاهدات الحماية"، مثل معاهدة فاس 30/3/1912م التي احتلت بموجبها فرنسا المغرب الأقصى، ومعاهدة باردو في 12/05/1881م، التي احتلت بموجبها تونس، لكن فرنسا بقيت في وعي الشعوب والقبائل دولة مستعمرة ظلوا يقاومونها حتى خرجت من الديار.

إذن فأول المكاسب التي جنتها قوات الاحتلال في سوريا (إيران وروسيا) من خلال اتفاق خفض التوتر أنهم بيضوا سجلاتهم السوداء وشرعنوا احتلالهم للبلد، ورسخوا حضورهم كجزء من حاضر ومستقبل الشام. ولا يقتصر الأمر على روسيا وإيران فقط بل جرى الحديث في عدة مناسبات عن استقدام قوات السيسي أيضاً، وقد دخلت مصر اتفاق خفض التصعيد كإحدى الدول الراعية له في الجزء المتعلق منه بالغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وقد أرسلت بعض الفصائل الثورية برقيات شكر حارة للسيسي في هذا السياق!

الاستفراد بالجبهات

لم يكد اتفاق خفض التصعيد يدخل شهره الثاني حتى ظهر للمتابعين والمهتمين حجم المنجزات التي حققتها قوات النظام على الصعيد الميداني، حيث أعلنت قوات النظام أنها سيطرت على عشرين ألف كيلومتر مربع في البادية السورية على حساب تنظيم الدولة الإسلامية؛ بشكل أساسي في محافظات حمص والسويداء وريف دمشق، وهي مساحة تعادل 90% من مساحة سوريا كاملة، وأمّنت وصولاً لقواتها نحو الحدود العراقية، والسيطرة على شبكة طرق هامة، كما تضم المناطق التي تقدمت فيها موارد اقتصادية هامة مثل النفط والغاز.

كما تمكنت قوات النظام السوري من استعادة السيطرة على أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع في ريفي حلب الشرقي والرقة الغربي على حساب تنظيم الدولة أيضاً، بينها مدن ومواقع هامة كمسكنة ومطار الجراح العسكري، ومحطات ضخ مياه عملاقة على نهر الفرات.

وتظهر الوقائع على الأرض أن النظام السوري سيطر على مناطق لم تكن مشمولة بالاتفاق، من أهمها أحياء برزة وتشرين والقابون شرقي دمشق، وحي الوعر في مدينة حمص .

فالاتفاق في أساسه -كما قلنا- ذو خلفيات عسكرية أملته إكراهات ميدانية بحتة، ولم يكن جزءاً من مشروع تفاوضي يروم البحث عن حلول سياسية للأزمة كما يتوهم الموقعون عليه من جهة المعارضة. ويعتبر بمثابة الصيغة المقننة لتكتيكات الفرز والعزل والقضم التي اتبعها جيش النظام وحلفاؤه لاجتياح معاقل الثورة.

وقد كتب ضابط سابق موالي للنظام السوري سارداً إيجابيات خفض التصعيد: "إنّ وقف العمليات القتالية في المناطق الأربع المحددة بالاتفاق ووضع آليات مراقبة وتنفيذ لها، سيسهم في تخفيض قوات الجيش السوري على حدود تلك المناطق بعد أن تُوضع نقاط مراقبة من الدول الضامنة، ويُتاح لاحتياطي معين من القوات التوجه إلى مناطق قتال لا تشملها الاتفاقية" .

وعندما يُنتهى من المناطق غير الخاضعة للاتفاق لن تعدم روسيا سبباً للانتقال إلى المناطق الخاضعة للاتفاق، بحجة ضرب الإرهابيين والذين وقع الجميع بمن فيهم المعارضة على ضرورة محاربتهم، ومعلوم أن الإرهاب في القاموس الروسي والإيراني يشمل كل سني ثائر حمل السلاح.

تسويق المصالحات وتأهيل جيش النظام

قال الرئيس بشار الأسد تعليقاً على إقرار مناطق خفض التصعيد في عدة مناطق سورية بأن ذلك بمثابة "الفرصة لكل من يريد من المسلحين إجراء مصالحة مع الدولة كما حصل في مناطق أخرى؛ ليكون تخفيف الأعمال القتالية في هذه المناطق هو فرصة له ليقوم بتسوية وضعه مع الدولة وتسليم السلاح مقابل العفو" .

وبالفعل اختارت عدة فصائل وبلدات مصالحة النظام والانخراط في "الواجب الوطني" المتمثل في القضاء على الإرهابيين، وتعددت صيغ وأشكال المصالحة التي أبرمها النظام مع مناطق كانت في السابق خارج سيطرته، لكن في صميمها كانت اتفاقيات استسلام بكل ما تحمله الكلمة من معاني الذل والهزيمة والانكسار.

لم تكن المصالحات المزعومة مناسبة لإحلال الأمن والسلام في المناطق المعنية، ولم يكتفِ النظام بحل الفصائل الثورية التي قبلت مشروع المصالحة؛ بل قام بإعادة تدويرها وتوظيفها في ما تبقى له من معارك ضد الثوار. وقد أعلن النظام السوري عن تشكيل "الفيلق الخامس- اقتحام" بتمويل من روسيا ليستوعب جحافل "المصالحين"، ويزج بهم في مواجهة رفاق السلاح السابقين.

فالنظام يريد أيضاً "للمكون السني" أن يكون مشاركاً فعالاً في الحرب على الإرهابيين، ولم يجد بعض قادة الفصائل الثورية حرجاً في التوقيع على اتفاقات تسوية تنص بنودها على تجنيد عناصر فصيله ضمن الفيلق الخامس كجزء من المصالحة مع النظام، كما فعل قائد فصيل شباب السنة في درعا.

يريد النظام السوري من خلال تشكيله للفيلق الخامس أن يتجنب استنساخ النموذج العراقي في سوريا، حيث تنتشر ميلشيات شيعية موازية للجيش النظامي هناك وغير منضبطة في بعض الأحيان، ويسعى النظام لإعطاء انطباع زائف بأن الجيش السوري أكثر حداثة وتنوعاً، وقادر على استيعاب كل "الحساسيات" المذهبية والدينية والمناطقية، وقد وجد في المكونات الثورية المستقيلة خير رافد لمشروعه هذا، وانضم فعلاً آلاف من الثوار السابقين والمدنيين الذين كانوا يعيشون في المناطق المحررة إلى "الفيلق الخامس- اقتحام"، وشبه بعض المراقبين الفيلق الخامس بجيش الشرق الذي أسسه الاحتلال الفرنسي في سوريا.

تثبيت المنجزات والمكاسب

يتبع النظام السوري وحلفاؤه استراتيجيات فعالة في حربهم ضد الثوار، ولعل من أنجع هذه الاستراتيجيات تلك التي تستهدف تثبيت المنجزات والمكاسب الناجزة قبل الانتقال إلى الخطوات التالية، وقد كان مسار "أستانة" الذي تمخض عنه مشروع خفض التصعيد مظهراً من مظاهر هذه الاستراتيجية، إذ أُعلن عن انطلاق محادثاتها بعد أسابيع فقط من الانتصار الكبير الذي أحرزه النظام في مدينة حلب. ثم جاءت عشرات الاتفاقات والتسويات الأخرى لتؤدي المهمة ذاتها؛ وهي تثبيت المكاسب والمنجزات قبل استئناف المعارك مجدداً.

يحرص النظام السوري حتى على صعيد المنطقة الواحدة أو البلدة الواحدة على تجزأة تحركاته باتفاقات تحفظ ما حققه من مكاسب في حي من أحيائها، قبل أن ينتقل إلى الأحياء الأخرى، أو يبرم تسوية مع فصيل ما دون الفصائل الأخرى وإن كانت هذه الفصائل تنشط في نطاق منطقة واحدة. فنجده مثلاً في الغوطة الشرقية قد قام بفرز وعزل مناطقها إلى عدة محاور أو أحياء قاضماً إياها منطقة منطقة، وفي كل مرحلة يقوم بتعزيز وتثبيت منجزه عبر الاتفاق مع كل حي أو فصيل على حدة. مستغلاً طبعاً مناخ عدم الثقة بين الفصائل الثورية وحالة التشرذم والانقسام التي عاشتها وما تزال تعيشها.

لقد أبرم النظام اتفاقات مستقلة مع كل من "فيلق الرحمن" و"حركة أحرار الشام" و"جيش الإسلام" في الغوطة الشرقية. وأبرم اتفاقاً مستقلاً دون الفصائل الأخرى في ريف حمص مع "جيش التوحيد"، وفي حوران أبرم اتفاقاً مستقلاً مع فصيل "شباب السنة".

لقد كتب الضابط عمر معربوني المؤيد للنظام مستشرفاً آفاقا اتفاقية خفض التصعيد بعد التوقيع عليها: "يمكن لهذا الاتفاق الذي تمّ بعد تواصل روسيا مع 27 جماعة مسلّحة، أن يزيد حدّة الشرخ بين الجماعات التي وافقت على الطرح الروسي وبين جبهة النصرة ومن يدور في فلكها من الجماعات، وهذا بحد ذاته سيكون إنجازًا هامًّا" .

ومع كل الأسف هذا ما حصل.
‏٠٨‏/٠٨‏/٢٠١٨ ٩:٥٥ م‏
الافتتاحية.. عزائم العظماء @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM] على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم هكذا قال المتنبي.. "لا أرى مغادرة هذه البلاد مهما لقيت من الأذى، وأرجو أن يصبرني االله عليه، ولست بأفضل ممن نُشروا بالمناشير، ومُشطوا بأمشاط الحديد، ومع أنني آخذ نفسي بالعزيمة، وأنصح بها كل قادر، ولا اعتبار عندي بما يقال أو يُكْتَب بالإكراه، لا أنكر على من أخذ نفسه بالرخصة... وأضرع إلى االله أن يثبتني على الحق دائما، ويعينني على نفسي وشيطاني". وهكذا قال الشيخ سفر الحوالي.. هكذا قاله في كتابه الأخير "المسلمون والحضارة الغربية" الذي طاشت له عقول آل سعود فاعتقلوا الشيخ وأولاده وإخوته، وبهذا الكتاب اتخذ الشيخ لنفسه موضعاً في سلسلة العظماء الآخذين بالعزيمة، فقال في كتابه هذا ما لا يجرؤ أغلب الناس أن يتفوه به من مأمنه خوفاً من بطش نظام السعودية، لم يمنعه من هذا أنه في الشيخوخة وأنه في المرض وأنه بين أيدي الطغاة المجرمين الذين لا يتورعون عن البطش بالساكتين فكيف يفعلون بالمتكلمين الذين يُسمعونهم ما يكرهون؟! وبمثل هذا العزم تأتي العزائم، فإن ثمن السيادة هجر الوسادة، وقد قال المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ... الجودُ يُفقر والإقدام قتَّال وتلك السلسلة الذهبية من الصادعين بالحق في وجه الطغاة، الطامحين لمنزلة سيد الشهداء، إنما هي سلسلة طويلة موغلة في أيام تاريخنا، انتظم فيها من نُشِروا بالمناشير وقُرِّضوا بالمقاريض وألقوا في الأخدود وافترستهم السياط ووسائل التعذيب حتى تبقى كلمة الله واضحة ساطعة كما نزلت من السماء، وتلك مهمة العلماء العدول الذين يحملون الأمانة حقاً، فينفون عن هذا العلم ما يُدخله فيه عُبَّاد السلاطين وأتباع الشهوات وأهل الضلالات. ولأنها مكانة سامقة فلا يحوزها إلا الأفذاذ النادرون، أولئك الذين ذاقوا مشقة تحصيل العلم أولاً، ومشقة فهم الواقع ثانياً، ثم مشقة مصادمة الجبارين ثالثاً.. فأما عامة المنتسبين إلى العلم فإما ارتضوا من هذا بمشقة أو مشقتيْن فسكتوا وتحايلوا وتجنبوا المشقة الثالثة التي هي ثمرة كل ما فات، وإما جعلوا علمهم في خدمة دنيا غيرهم، فحطُّوا بهذا من شأن أنفسهم ومن شأن العلم الذي حملوه، حتى قال فيهم أبو الحسن الجرجاني قصيدته السائرة الباهرة التي منها: يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهمُ هان عندهم ... ومن أكْرَمَتْه عزة النفس أُكْرِما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمعٌ، صيَّرْتُه لي سُلَّما ولم أبتذل في خدمة العلم مُهْجَتي ... لأخدمَ من لاقيتُ، لكن لأُخْدما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما ولكن أهانوه، فهان، ودنسُّوا ... مُحيَّاه بالأطماع حتى تجهما ولقد جاءني خبر اعتقال الشيخ سفر الحوالي فلاح لي وقتها خبر الشيخ محمد عليش، شيخ المالكية في مصر زمن الخديوي توفيق، وشيخ الثورة العرابية، وشيخ الأزهر على الحقيقة، وصاحب فتوى خلع الخديوي وعصيانه لتحالفه مع الإنجليز، وهو الرجل الذي ألهب الأزهر فأشعله وجعل شيوخه وطلبته في صفِّها، حتى ما اجترأ في ذلك الزمن أن يخالف أحدٌ منهم إلا أربعة ثم صاروا واحداً، وكان صاحب خطابة وفصاحة وهيبة وجلال، جدَّد موقف شيوخ الأزهر العظام من أهل الجهاد والتحريض عليه.. وقد وُصِف بأنه صنو الشوكاني باليمن وكنون بالمغرب، وله مؤلفات عديدة أشهرها عند المالكية شرحه "منح الجليل شرح مختصر خليل" وهو مطبوع في تسع مجلدات. أقول: ذكرني اعتقال الشيخ سفر على هذه الهيئة بالشيخ عليش رحمه الله وقدس روحه، وذلك أن الرجليْن تشابها في أمورهما، فلقد كان الشيخ عليش في كهولته وهو يجابه الخديوي الذي نزل لمناصرته الإنجليز بأساطيلهم وجيوشهم إذ كان في الثمانين من عمره، ثم إنهم حين احتلوا البلاد وانتصروا اعتقلوه من بيته محمولاً من شدة ما هو فيه من المرض، ثم إنهم اعتقلوا معه ولده عبد الرحمن أيضاً، ثم إنهم اعتقلوه في نفس هذه الأيام تقريباً، في مطلع شهر ذي القعدة (1299هـ). وقد قيل له: تملق الخديوي فأنشد يقول: الزم باب ربك ... واترك كل دون واسأله السلامة ... من دار الفتون لا تكثر لهمك ... ما قُدِّر يكون وخُتِم له بالحسنى إذ توفي في سجنه ليلة يوم عرفة، ومنع الإنجليز من حمل جثمانه إلى البيت نكاية فيه، ثم إنهم عاقبوا ولده عبد الرحمن بالنفي خمس سنوات خارج مصر . وإنا لنسأل الله السلامة والعافية والعمر المديد للشيخ سفر الحوالي، ونسأله أن يرى بعينه ما أمَّل من تغير الحال في بلاد الحرمين وزوال ملك الطغاة المتجبرين المجرمين. *** إن شأن المتنبي عجيب، ما إن يلتمس المرء معنى إلا ويجد منه في شعره شيئاً يكفيه.. ونحن الآن عند معناه الذي رثا به أم سيف الدولة الحمداني فقال بيته الشهير الذائع الصيت: ولو كان النساء كمن فقدنا .. لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخر للهلال وأفجع من فقدنا: من وجدنا ... قبيل الفقْد مفقود المثال ومناسبة هذا الكلام أنه في أثناء التحضيرات الأخيرة للمجلة طالعنا خبر اعتقال الأخت الكاتبة الفاضلة الباسلة أم أسامة @[553086086:2048:‏لمى خاطر‏]، بنت مدينة الخليل، على يد الاحتلال الصهيوني.. وفي لمى خاطر من سفر الحوالي شبه كبير.. إلا أنها امرأة، وهذا في ميزانها ومن دلائل سموّها.. هي قلمٌ يعرفه كل من يعرف قضية فلسطين، ولقد كنت أتابعها منذ أربعة عشر عاماً على الأقل، لقد كانت تكتب وهي تحت الاحتلاليْن –احتلال إسرائيل، واحتلال سلطة فتح- مقالات لا يجرؤ عليها أغلب الكاتبين وهم آمنون بعيداً.. ولم تفلح معها الضغوط والتهديدات والتحقيقات ومساومتها بالزوج والتحريض عليها، ولقد كانوا يحرضون عليها حيناً بالفاحش الساقط من القول والزعم، وحينا بدعوى الغيرة والرجولة التي تكبت النساء. وكانت لمى معدناً أصيلاً لا تزيده الضغوط إلا توهجاً ونوراً وصلابة.. وأتذكر أني طلبت منها بحثاً عن موضوع تتخصص فيه، فأرشدتني إلى غيرها، فسألتها: لم لا تقومين به أنتِ؟ فقالت: أرى أن الحديث في هذا الموضوع ضرره أكثر من نفعه أو لم يحِن وقته، لكن غيري يرى غير ذلك، فأنا أرشدك إليه.. فكان هذا الجواب منها جامعاً لعلم وأدب واتساع نظر وخلق حسن. وقد تشرفنا بمقال لها على صفحات مجلتنا "كلمة حق" في عدد سابق، وكان من سوء حظنا أن لم نتشرف بالمزيد.. *** مَثَل الشيخ سفر في شيخوخته ومرضه وضعفه وأنه تحت يد العدو، كَمَثَل لمى خاطر المرأة تحت الاحتلالين، كَمَثَل الشيخ أحمد ياسين في عجزه وضعفه وتعطل عدد من حواسِّه.. كمثل كثيرين بعرض الوجود وطول الخلود.. أولئك الذين يصنعون معنى الرمز والقدوة والمثل.. القدوة التي تثبت للناس أن الناس ما زال فيهم من يقول "كلمة الحق" ولو كان في ذلك هلاكه، وفيهم من يعمل للحق على سرير المرض وفوق كرسي العجز وتحت سلطة الاحتلال، مهما كان ضعيفاً أو مستضعفاً أو لا يملك سوى لسان وقلم.. تلك هي المعاني التي تتجسد بشراً فيحيي الله بها القلوب.. حين يرى المرء ذو الصحة والجلد، المقيم في أمن وسعة، المتمتع بالطيبات.. حين يرى المرء أمثال هؤلاء يعرف حقاً مقامه، ويعرف أنه يملك أن يفعل الكثير، تزول أعذاره التي يتعلل بها أمام نفسه، أو قل: تذوب أعذاره أمام شموس هؤلاء حين تشرق عليه.. بمثل هؤلاء نعرف أن تاريخنا لم ينقطع، فلقد كان في الجيل الأول من حرص على أن يجاهد فيطأ بعرجته الجنة، ومن حرص على أن يجاهد وهو أعمى ليكثر سواد المسلمين، ومن حرص على أن يجاهد وهو لا يملك مالاً ولا دابة، ومن سار مسيرة الجهاد لا يجد ما ينتعله حتى تقلعت وسقطت أظافره من السير فسمُّوا ذلك اليوم "غزوة ذات الرقاع".. فالحمد لله أن لا زال في أجيالنا من يجدد السيرة ويستكمل المسيرة.. والموعد الله! الموعد الله.. والجنة!
الافتتاحية.. عزائم العظماء

محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد bit.ly/2KnCNmM]

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم

هكذا قال المتنبي..

"لا أرى مغادرة هذه البلاد مهما لقيت من الأذى، وأرجو أن يصبرني االله عليه، ولست بأفضل ممن نُشروا بالمناشير، ومُشطوا بأمشاط الحديد، ومع أنني آخذ نفسي بالعزيمة، وأنصح بها كل قادر، ولا اعتبار عندي بما يقال أو يُكْتَب بالإكراه، لا أنكر على من أخذ نفسه بالرخصة... وأضرع إلى االله أن يثبتني على الحق دائما، ويعينني على نفسي وشيطاني".

وهكذا قال الشيخ سفر الحوالي..

هكذا قاله في كتابه الأخير "المسلمون والحضارة الغربية" الذي طاشت له عقول آل سعود فاعتقلوا الشيخ وأولاده وإخوته، وبهذا الكتاب اتخذ الشيخ لنفسه موضعاً في سلسلة العظماء الآخذين بالعزيمة، فقال في كتابه هذا ما لا يجرؤ أغلب الناس أن يتفوه به من مأمنه خوفاً من بطش نظام السعودية، لم يمنعه من هذا أنه في الشيخوخة وأنه في المرض وأنه بين أيدي الطغاة المجرمين الذين لا يتورعون عن البطش بالساكتين فكيف يفعلون بالمتكلمين الذين يُسمعونهم ما يكرهون؟!

وبمثل هذا العزم تأتي العزائم، فإن ثمن السيادة هجر الوسادة، وقد قال المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ... الجودُ يُفقر والإقدام قتَّال

وتلك السلسلة الذهبية من الصادعين بالحق في وجه الطغاة، الطامحين لمنزلة سيد الشهداء، إنما هي سلسلة طويلة موغلة في أيام تاريخنا، انتظم فيها من نُشِروا بالمناشير وقُرِّضوا بالمقاريض وألقوا في الأخدود وافترستهم السياط ووسائل التعذيب حتى تبقى كلمة الله واضحة ساطعة كما نزلت من السماء، وتلك مهمة العلماء العدول الذين يحملون الأمانة حقاً، فينفون عن هذا العلم ما يُدخله فيه عُبَّاد السلاطين وأتباع الشهوات وأهل الضلالات.

ولأنها مكانة سامقة فلا يحوزها إلا الأفذاذ النادرون، أولئك الذين ذاقوا مشقة تحصيل العلم أولاً، ومشقة فهم الواقع ثانياً، ثم مشقة مصادمة الجبارين ثالثاً.. فأما عامة المنتسبين إلى العلم فإما ارتضوا من هذا بمشقة أو مشقتيْن فسكتوا وتحايلوا وتجنبوا المشقة الثالثة التي هي ثمرة كل ما فات، وإما جعلوا علمهم في خدمة دنيا غيرهم، فحطُّوا بهذا من شأن أنفسهم ومن شأن العلم الذي حملوه، حتى قال فيهم أبو الحسن الجرجاني قصيدته السائرة الباهرة التي منها:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهمُ هان عندهم ... ومن أكْرَمَتْه عزة النفس أُكْرِما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمعٌ، صيَّرْتُه لي سُلَّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مُهْجَتي ... لأخدمَ من لاقيتُ، لكن لأُخْدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة ... إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه، فهان، ودنسُّوا ... مُحيَّاه بالأطماع حتى تجهما

ولقد جاءني خبر اعتقال الشيخ سفر الحوالي فلاح لي وقتها خبر الشيخ محمد عليش، شيخ المالكية في مصر زمن الخديوي توفيق، وشيخ الثورة العرابية، وشيخ الأزهر على الحقيقة، وصاحب فتوى خلع الخديوي وعصيانه لتحالفه مع الإنجليز، وهو الرجل الذي ألهب الأزهر فأشعله وجعل شيوخه وطلبته في صفِّها، حتى ما اجترأ في ذلك الزمن أن يخالف أحدٌ منهم إلا أربعة ثم صاروا واحداً، وكان صاحب خطابة وفصاحة وهيبة وجلال، جدَّد موقف شيوخ الأزهر العظام من أهل الجهاد والتحريض عليه.. وقد وُصِف بأنه صنو الشوكاني باليمن وكنون بالمغرب، وله مؤلفات عديدة أشهرها عند المالكية شرحه "منح الجليل شرح مختصر خليل" وهو مطبوع في تسع مجلدات.

أقول: ذكرني اعتقال الشيخ سفر على هذه الهيئة بالشيخ عليش رحمه الله وقدس روحه، وذلك أن الرجليْن تشابها في أمورهما، فلقد كان الشيخ عليش في كهولته وهو يجابه الخديوي الذي نزل لمناصرته الإنجليز بأساطيلهم وجيوشهم إذ كان في الثمانين من عمره، ثم إنهم حين احتلوا البلاد وانتصروا اعتقلوه من بيته محمولاً من شدة ما هو فيه من المرض، ثم إنهم اعتقلوا معه ولده عبد الرحمن أيضاً، ثم إنهم اعتقلوه في نفس هذه الأيام تقريباً، في مطلع شهر ذي القعدة (1299هـ).

وقد قيل له: تملق الخديوي فأنشد يقول:

الزم باب ربك ... واترك كل دون
واسأله السلامة ... من دار الفتون
لا تكثر لهمك ... ما قُدِّر يكون

وخُتِم له بالحسنى إذ توفي في سجنه ليلة يوم عرفة، ومنع الإنجليز من حمل جثمانه إلى البيت نكاية فيه، ثم إنهم عاقبوا ولده عبد الرحمن بالنفي خمس سنوات خارج مصر .

وإنا لنسأل الله السلامة والعافية والعمر المديد للشيخ سفر الحوالي، ونسأله أن يرى بعينه ما أمَّل من تغير الحال في بلاد الحرمين وزوال ملك الطغاة المتجبرين المجرمين.

***

إن شأن المتنبي عجيب، ما إن يلتمس المرء معنى إلا ويجد منه في شعره شيئاً يكفيه.. ونحن الآن عند معناه الذي رثا به أم سيف الدولة الحمداني فقال بيته الشهير الذائع الصيت:

ولو كان النساء كمن فقدنا .. لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخر للهلال
وأفجع من فقدنا: من وجدنا ... قبيل الفقْد مفقود المثال

ومناسبة هذا الكلام أنه في أثناء التحضيرات الأخيرة للمجلة طالعنا خبر اعتقال الأخت الكاتبة الفاضلة الباسلة أم أسامة ‏لمى خاطر‏، بنت مدينة الخليل، على يد الاحتلال الصهيوني..

وفي لمى خاطر من سفر الحوالي شبه كبير.. إلا أنها امرأة، وهذا في ميزانها ومن دلائل سموّها..

هي قلمٌ يعرفه كل من يعرف قضية فلسطين، ولقد كنت أتابعها منذ أربعة عشر عاماً على الأقل، لقد كانت تكتب وهي تحت الاحتلاليْن –احتلال إسرائيل، واحتلال سلطة فتح- مقالات لا يجرؤ عليها أغلب الكاتبين وهم آمنون بعيداً.. ولم تفلح معها الضغوط والتهديدات والتحقيقات ومساومتها بالزوج والتحريض عليها، ولقد كانوا يحرضون عليها حيناً بالفاحش الساقط من القول والزعم، وحينا بدعوى الغيرة والرجولة التي تكبت النساء.

وكانت لمى معدناً أصيلاً لا تزيده الضغوط إلا توهجاً ونوراً وصلابة..
وأتذكر أني طلبت منها بحثاً عن موضوع تتخصص فيه، فأرشدتني إلى غيرها، فسألتها: لم لا تقومين به أنتِ؟ فقالت: أرى أن الحديث في هذا الموضوع ضرره أكثر من نفعه أو لم يحِن وقته، لكن غيري يرى غير ذلك، فأنا أرشدك إليه.. فكان هذا الجواب منها جامعاً لعلم وأدب واتساع نظر وخلق حسن.

وقد تشرفنا بمقال لها على صفحات مجلتنا "كلمة حق" في عدد سابق، وكان من سوء حظنا أن لم نتشرف بالمزيد..
***

مَثَل الشيخ سفر في شيخوخته ومرضه وضعفه وأنه تحت يد العدو، كَمَثَل لمى خاطر المرأة تحت الاحتلالين، كَمَثَل الشيخ أحمد ياسين في عجزه وضعفه وتعطل عدد من حواسِّه.. كمثل كثيرين بعرض الوجود وطول الخلود..

أولئك الذين يصنعون معنى الرمز والقدوة والمثل..

القدوة التي تثبت للناس أن الناس ما زال فيهم من يقول "كلمة الحق" ولو كان في ذلك هلاكه، وفيهم من يعمل للحق على سرير المرض وفوق كرسي العجز وتحت سلطة الاحتلال، مهما كان ضعيفاً أو مستضعفاً أو لا يملك سوى لسان وقلم..

تلك هي المعاني التي تتجسد بشراً فيحيي الله بها القلوب..

حين يرى المرء ذو الصحة والجلد، المقيم في أمن وسعة، المتمتع بالطيبات.. حين يرى المرء أمثال هؤلاء يعرف حقاً مقامه، ويعرف أنه يملك أن يفعل الكثير، تزول أعذاره التي يتعلل بها أمام نفسه، أو قل: تذوب أعذاره أمام شموس هؤلاء حين تشرق عليه..

بمثل هؤلاء نعرف أن تاريخنا لم ينقطع، فلقد كان في الجيل الأول من حرص على أن يجاهد فيطأ بعرجته الجنة، ومن حرص على أن يجاهد وهو أعمى ليكثر سواد المسلمين، ومن حرص على أن يجاهد وهو لا يملك مالاً ولا دابة، ومن سار مسيرة الجهاد لا يجد ما ينتعله حتى تقلعت وسقطت أظافره من السير فسمُّوا ذلك اليوم "غزوة ذات الرقاع"..

فالحمد لله أن لا زال في أجيالنا من يجدد السيرة ويستكمل المسيرة.. والموعد الله!
الموعد الله.. والجنة!
‏٠٦‏/٠٨‏/٢٠١٨ ٧:٥٨ م‏
(( العدد الجديد )) العدد 13 من مجلة كلمة حق بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 13، من مجلة (كلمة حق)، لشهر أغسطس 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: مختصر كتاب تشريح الثورة، لـ(كرين برينتن). لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2KnCNmM لتحميل هدية العدد مختصر كتاب تشريح الثورة، لـ(كرين برينتن).، اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2AxcSsY نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
(( العدد الجديد ))

العدد 13 من مجلة كلمة حق

بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 13، من مجلة (كلمة حق)، لشهر أغسطس 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: مختصر كتاب تشريح الثورة، لـ(كرين برينتن).

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2KnCNmM

لتحميل هدية العدد مختصر كتاب تشريح الثورة، لـ(كرين برينتن).، اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2AxcSsY

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
المدونة:
https://klmtuhaq.blog/
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٨‏/٢٠١٨ ٩:٤٤ م‏
انتظرونا غدا والعدد الجديد من مجلة كلمة حق. جميع أعداد مجلة كلمة حق السابقة كاملة متاحة للتحميل على رابط واحد: https://archive.org/details/klmtuhaqy1
انتظرونا غدا والعدد الجديد من مجلة كلمة حق.

جميع أعداد مجلة كلمة حق السابقة كاملة متاحة للتحميل على رابط واحد:

https://archive.org/details/klmtuhaqy1
‏٣١‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١١:٣٩ م‏
الصلح مع اليهود والمعاهدات مع الدول المعادية فضيلة الشيخ الإمام/ حسن مأمون مفتي الديار المصرية الأسبق فتوى بتاريخ: 8 يناير 1956 م [لتحميل العدد الأخيرمن مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol ] سُئل: ما بيان الحكم الشرعى فى الصلح مع دولة اليهود المحتلة، وفى المحالفات مع الدول الاستعمارية والأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود فى عدوانهم؟ فأجاب: يظهر من السؤال أن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنا طويلا، فصارت جزءا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون، وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجرى عليها أحكامها، وأن اليهود اقتطعوا جزءا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية، وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية فى الصلح مع اليهود فى فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين، هل هو جائز أو غير جائز؟ وإذا كان غير جائز فما الذى يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان؟ إن هجوم العدو على بلد إسلامى لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدى عليها أي معتدٍ، وأما ما يجب على المسلمين فى حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها، يقول صاحب الـمُغْني: "يتعين الجهاد فى ثلاثة: - الأول إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، - الثاني إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، - الثالث إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير. ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم. قال الله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم}. [الأنفال 60]. فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع في بلادهم، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها. والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية - إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامى، أما إذا حصل الاعتداء فعلا على أي بلد إسلامي فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها. وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ ابن حجر، وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلّا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العد.، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه. وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود فى فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي، يتعين على أهله أن يردّوا هذا الاعتداء بالقوة، حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية، وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارا لكل مسلم، فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيا. لأنهم وإن لم يُعتدَ على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية. وبعد أن عرفنا حكم الشريعة فى الاعتداء على بلد إسلامى يمكننا أن تعرف حكم الشريعة فى الصلح مع المعتدي هل هو جائز أو غير جائز؟ والجواب أن الصلح إذا كان على أساس ردّ الجزء الذى اعتُدي عليه إلى أهله كان صلحا جائزا، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله. وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين؛ لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}. [الأنفال 61 ]، وقالوا إن الآية وإن كانت مُطْلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين فى ذلك بآية أخرى هو قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}. [محمد 35 ]. فأما إذا لم يكن فى الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع. ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التى سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين. ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين، أما هذه الشروط والقيود فلا تتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا. والجواب عن السؤال الثاني: أن الأحلاف والمعاهدات التى يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين. أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدية على فلسطين فإنه يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد منه هذا الجانب فى الاستمرار في اعتدائه، وربما فى التوسع فيه أيضا، وذلك غير جائز شرعا. ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم، وأن يعقدوا فيما بينهم عهودا وأحلافا تظهرهم قولا وعملا يدا واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي. وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق -التى لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء- السعى الحثيث بكل وسيلة ممكنة فى شراء الأسلحة من جميع الجهات التى تصنع الأسلحة، والمبادرة بصنع الأسلحة فى بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة.. فإن ذلك كله يكون أمرا واجبا وضروريا لضمان السلام الذى يسعى إليه المسلم، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية. ويظهر أن لليهود موقفا خاصا، فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحا ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهي موجودة بحكم سياسي هو الهدنة التى فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلا عادلا للمسألة، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفى على أحد. وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التى تمر ببلادهم عنهم. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة فى هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان: النوع الأول السلاح وما هو فى حكمه. الثانى الطعام ونحوه، وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق البيع السلاح، لأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا الكراع والحديد والخشب وكل ما يستفاد به في صنع الأسلحة، سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها، لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حربا علينا، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنا من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم. ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها. وأما النوع الثانى فقد قالوا إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم، إلا أنا عرفنا بالنص حكمه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه، وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبى صلة الرحم، ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم. وليس هذا حال اليهود في فلسطين. ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شىء إليهم أخذا بالقياس، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذى لا تبرره الشريعة. والله تعالى أعلم.
الصلح مع اليهود والمعاهدات مع الدول المعادية

فضيلة الشيخ الإمام/ حسن مأمون

مفتي الديار المصرية الأسبق

فتوى بتاريخ: 8 يناير 1956 م

[لتحميل العدد الأخيرمن مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol ]

سُئل: ما بيان الحكم الشرعى فى الصلح مع دولة اليهود المحتلة، وفى المحالفات مع الدول الاستعمارية والأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود فى عدوانهم؟

فأجاب: يظهر من السؤال أن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنا طويلا، فصارت جزءا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون، وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجرى عليها أحكامها، وأن اليهود اقتطعوا جزءا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية، وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية فى الصلح مع اليهود فى فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين، هل هو جائز أو غير جائز؟ وإذا كان غير جائز فما الذى يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان؟

إن هجوم العدو على بلد إسلامى لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدى عليها أي معتدٍ، وأما ما يجب على المسلمين فى حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها، يقول صاحب الـمُغْني: "يتعين الجهاد فى ثلاثة: - الأول إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، - الثاني إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، - الثالث إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير. ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم. قال الله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم}. [الأنفال 60].

فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع في بلادهم، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها.

والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية - إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامى، أما إذا حصل الاعتداء فعلا على أي بلد إسلامي فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها.

وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ ابن حجر، وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلّا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العد.، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه.

وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود فى فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي، يتعين على أهله أن يردّوا هذا الاعتداء بالقوة، حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية، وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين.

ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارا لكل مسلم، فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيا. لأنهم وإن لم يُعتدَ على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية.

وبعد أن عرفنا حكم الشريعة فى الاعتداء على بلد إسلامى يمكننا أن تعرف حكم الشريعة فى الصلح مع المعتدي هل هو جائز أو غير جائز؟ والجواب أن الصلح إذا كان على أساس ردّ الجزء الذى اعتُدي عليه إلى أهله كان صلحا جائزا، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله.

وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين؛ لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}. [الأنفال 61 ]، وقالوا إن الآية وإن كانت مُطْلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين فى ذلك بآية أخرى هو قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}. [محمد 35 ].

فأما إذا لم يكن فى الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع. ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التى سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين. ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين، أما هذه الشروط والقيود فلا تتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن الأحلاف والمعاهدات التى يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين. أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدية على فلسطين فإنه يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد منه هذا الجانب فى الاستمرار في اعتدائه، وربما فى التوسع فيه أيضا، وذلك غير جائز شرعا.

ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم، وأن يعقدوا فيما بينهم عهودا وأحلافا تظهرهم قولا وعملا يدا واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي.

وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق -التى لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء- السعى الحثيث بكل وسيلة ممكنة فى شراء الأسلحة من جميع الجهات التى تصنع الأسلحة، والمبادرة بصنع الأسلحة فى بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة.. فإن ذلك كله يكون أمرا واجبا وضروريا لضمان السلام الذى يسعى إليه المسلم، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية.

ويظهر أن لليهود موقفا خاصا، فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحا ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهي موجودة بحكم سياسي هو الهدنة التى فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلا عادلا للمسألة، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفى على أحد. وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التى تمر ببلادهم عنهم. ولأجل أن نعرف حكم الشريعة فى هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان: النوع الأول السلاح وما هو فى حكمه. الثانى الطعام ونحوه، وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق البيع السلاح، لأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا الكراع والحديد والخشب وكل ما يستفاد به في صنع الأسلحة، سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها، لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حربا علينا، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنا من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم. ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها.

وأما النوع الثانى فقد قالوا إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم، إلا أنا عرفنا بالنص حكمه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه، وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبى صلة الرحم، ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم. وليس هذا حال اليهود في فلسطين.

ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شىء إليهم أخذا بالقياس، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذى لا تبرره الشريعة.

والله تعالى أعلم.
‏٣٠‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٣٣ م‏
فكرة السلم المطلق إبراهيم السكران* [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol ] بعض غلاة المدنية يردد فكرة السلم المطلق، ويدعو إلى مواجهة مشروعات الاحتلال العسكري الصريحة بلغة الحب ورحابة الصدر الأعزل، ونحو ذلك من الأفكار الحالمة المستلهمة من نموذج الحكيم الهندي المعروف "المهاتما غاندي"، وبعضهم يبالغ في تبجيل غاندي وعرضه كمخلص. والحقيقة أن شريعة الله سبحانه وتعالى أرقى وأحكم من شريعة غاندي، وهذا الموضع موضع خطير على الإيمان لتضمنه المعارضة العملية لمحكمات الوحي، فإن الله سبحانه وتعالى شرع البر للمسالم والإثخان للمعتدي، وقد أمرنا الله بذلك كما في قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد : 4] وفي موضعين من كتاب الله تعالى في سورتي التوبة والتحريم أمرنا سبحانه أمرًا صريحًا بالغلظة على المعتدين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 73]، [التحريم : 9]. وأمرنا بالإثخان في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} [الأنفال : 67]. وأمر سبحانه الملائكة بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وأمر بالتشريد للمعتدين، فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]. بل أن الله سبحانه وتعالى نهانا إذا نشبت المعركة مع المعتدي أن نبدأ الدعوة للسلام وإنهاء الحرب إذا كنا نحن الطرف الأقوى؛ فقال تعالى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد : 35]، وهذا توجيه إلهي صريح لا تستطيع كل تعسفات النظرية السلمية أن تفرغه من محتواه. فإذا كان جبار السموات والأرض -كما في الآيات السابقة- يحثنا على مواجهة المحتل والمعتدي بالإثخان، والغلظة، وضرب الرقاب، والتشريد في الأرض، وعدم البدء بالدعوة للسلام، ويحببنا في هذه الأعمال الشريفة ويثيبنا عليها، فكيف يتجرأ عاقل ويستدرك على الله جل جلاله ويرى أن رأي رجل هندوسي وثني أحكم وأرقى؟! والله لو امتلأ القلب بتوقير الله وقدره حق قدره لامتنع أصلًا أن يزاحم حكم الله بحكم رجل هندوسي، ولا يرتاب عاقل أن هذا الموطن الذي يقدم فيه حكم غير الله أن فيه شعبة من شعب النفاق التي حذر الله المسلم من الوقوع فيها، كما في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور : 63]. هذا طبعًا من حيث علاقة فكرة السلم المطلق بنصوص الوحي، أما علاقتها بالواقع فهي فكرة رومانسية طريفة، ذلك أنَّ جمهور الأمم المعاصرة اليوم تمجد أبطالها القوميين ذوي البسالة في المعارك الكبرى، وترفعهم بحسب عبقريتهم في إزهاق الأعداء، وصناعة الانتصارات القتالية الحاسمة، وتبني لهم النصب التذكارية في مراكز المدن، وهذا أمر مشاهد معلوم. بل من الظريف حقًّا أن صورة غاندي السلمية التي تروّج في خطاب اللَّا عنف، ويُشغَّب بها على آيات الجهاد فى كتاب الله؛ أنَّها أصلًّا صورة غير دقيقة علميًا، بل هي صورة منقوصة، فغاندي نفسه تزلزل فى التمسك بفكرة السلمية المطلقة، فكل شعاراته عن اللا عنف تبخّرت لما شنت بريطانيا الاستعمارية الحرب على البويريين عام (1899م) لإخضاعهم لاستعمارها، وخشي غاندي أنه إن رفض المشاركة مع البريطانيين فى حرب البويريين أن تتضرر قضيته فى الهند! فدخل فى "العنف" لأجل مصلحته القومية! بل عبَّأ الهنود لدعم العنف البريطاني الاستعماري، وأضخم أمر لافت فى ذلك الحدث أنه كان يعتقد بعدالة قضية البويريين أصلًا، ولكنه قبِل بممارسة العنف المسلح ضدهم لأجل مصلحة قومه، وقد شرح غاندي بشيء من الخجل موقفه هذا، إذ يقول فى سيرنه الذاتية: "عندما أُعلنت الحرب كانت عواطفي الشخصية كلها مع البوير... إن ولائي للحكم البريطاني قادني إلى المشاركة مع البريطانيين فى تلك الحرب... ولقد كنت أعتقد آنذاك أن الهند لا تستطيع أن تحقق تحررها الكامل إلا ضمن الإمبراطورية البريطانية ومن خلالها... وهكذا حشدت أكبر عدد ممكن من أصدقائي... والواقع أن الصلات التي نشأت بيننا وبين البيض، خلال الحرب، كانت من أحلى الصلات، فقد احتككنا بآلاف من الجنود البريطانيين، لقد كانوا وديين معنا، شاكرين لنا وجودنا هناك لخدمتهم" [غاندي، "قصة تجاربي مع الحقيقة"، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، (1981م): (251 – 253).]. حسنًا.. لنسجل هاهنا هذه المعطيات: إن غاندي كان يؤمن بعدالة قضية البويريين، ولكنه لأجل مصلحته القومية دعم الحرب البريطانية الاستعمارية المسلحة ضد البويريين، وحشد الهنود لدعم العنف البريطاني الاستعماري، وحكى ذكرياته الجميلة مع الجنود البريطانيين فى حربهم المسلحة العنيفة. ومن الحجج التي أصّل فيها غاندي المساحة التي يجوز فيها العنف مقارنته التي قال فيها: "أنا أعتقد فعلًا أنه إذا كان الخيار فقط بين الخَوَر والعنف، فإني سوف أوصي بالعنف" Atack، Nonviolence in Political Theory، Edinburgh University Press، P. 161. كما أنَّ غاندي بدأ يُظهر اللِّين مع الدفاع عن النفس بـ "السلاح" حين انفجر الصراع الإسلامي الهندوسي حيث قال غاندي: "كان الناس سابقًا ينصتون لي حين كنت أعلمهم كيف يواجهون البريطانيين المسلحين بدون أسلحة، ولكن هذه الأيام بلغني أن فكرتي عن اللا عنف يمكن أن تكون غير مجدية فى مواجهة هذا الجنون الاجتماعي، ولذلك، فإن الناس يجب أن يسلحوا أنفسهم للدفاع عن النفس". [Pyarelal، Mahatma Gandhi: The Last Phase، Navajivan Publishing House، 1956، Vol. II، P. 326.]. كما أنَّ غاندي نفسه أطلق عبارة جدلية ذهب الباحثون فى تفسيرها كل مذهب، حيث قال: "لو كان معنا قنبلة ذرية، لاستعملناها فى مواجهة الإنجليز" [Ibid.]. ومن المستغرب أن غاندي كان له لقاء معروف بموسوليني، ومراسلات، وأبدى إعجابه به. وكل هذه المواقف ونظائرها حاول محبو غاندي لاحقًّا تأويلها لتفريغها من دلالتها على تأييد أي شكل من أشكال العنف، وهي شواهد يستعملها نقاد غاندي لرفض أيقنته كنموذج للسلمية المطلقة. وبسبب كون الدولة الغربية دولة لا تفهم السلمية المطلقة أصلًا، بل هي دولة منغمسة في العنف حتى القاع، وتتنافس الدول الغربية في امتلاك السلاح الأفتك والأكثر إبادة بجيوشها الجرارة، سواء في الحروب العالمية بين الغربيين أنفسهم، أو في حروب الاستعمار بين الغربيين والشرق المسلم، ولذلك؛ فإن الصحافة الغربية حين ألقى غاندي بعض محاضراته فى أوروبا عن اللا عنف أمطرته بوابل من التهكم والسخرية، وخصوصًا حين نصح البريطانيين أن يواجهوا الغزو النازي باللا عنف، فانفجر عليه النقد البريطاني، ووصفوا كلامه بأقذع العبارات، حتى أن غاندي نفسه أبدى امتعاضه ونسب للصحافة الغربية أنها حرفت كلامه! وممن نقل نماذج طريفة من تهكم الصحافة الغربية بمحاضرة غاندي أستاذ الفلسفة الفرنسي جان مولر، وهو شخص متخصص فى اللا عنف ومهتم بشخصية غاندي [جان – ماري مولر، "غاندي المتمرد: ملحمة مسيرة الملح"، ترجمة: محمد عبد الجليل، دار معابر، (2011م).]. ومن الثغرات المظلمة فى شخصية غاندي، موقفه المساند للنظام الطبقي Caste system، حتى قال بعض الباحثين: "لماذا ساند غاندي النظام الطبقي على الرغم من بنيته التقسيمية؟ يعزو أمبدكار ذلك إلى الحسابات السياسية الضيقة لغاندي" [Chakrabarty، Social and Political Thought of Mahatma Gandhi، Routledge، 2006، P. 110.]. وهناك بعض اليساريين يفسرون موقف غاندي فى دعم العنف البريطاني ضد البوير، وموقف غاندي فى مساندة النظام الطبقي، أن ذلك كله بسبب علاقة غاندي التمويلية بالطبقة البرجوازية الهندوسية، وأنَّها بسبب كونها تموله فهي بالتالي تتحكم فى دائرة خياراته السياسية، وهذا تفسير مطروح على كل حال، لا يعنينا فى شيء، وإنّ ما يعنينا هو الوقائع ذاتها. ومن المواقف الخرقاء لغاندي أنه تبعًا لاعتقاداته النباتية الخرافية في منع أكل اللحم كاد أن يهلك زوجته، حين منع الطبيب من إطعام زوجته المريضة بشيء من منتجات اللحوم؛ حيث يقول غاندي: "اجتمعت إلى الطبيب الذي أدلى إلي، فى هدوء، بهذا النبأ: "كنت قد أعطيت زوجتك السيدة غاندي مرق لحم البقر عندما هاتفتك"، فقلت: "لا، أيها الطبيب، أنا أدعو هذا خيانة" ..". ثم قال غاندي للطبيب: "أنا لن أسمح لزوجتي بأن تعطى اللحم، أو لحم البقر، حتى ولو كان هذا الرفض معناه موتها، إلَّا إذا رغبت بذلك". وكانت زوجة غاندي غير قادرة على الحديث، ومع ذلك ذهب غاندي واستشار زوجته المريضة، فصادقت على رأى غاندي بالامتناع عن أكل اللحم، فقال الطبيب لغاندي: "يا لك من رجل غليظ القلب! كان ينبغي أن تخجل من مباحثتها بهذه المسألة وهي فى حالتها الحاضرة" [غاندي، "قصة تجاربي مع الحقيقة"، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، (1981م): (374 – 375).]. والحقيقة: أن الدراسات والمقالات الحديثة كشفت أوجهًا لغاندي يجهلها كثير من دعاة المدنية المادية، نظرًا لاعتمادهم على الكتب المناقبية السطحية. والمراد أن الفكرة المنسوبة نظريًا لغاندي عن "اللا عنف" أنَّها فكرة خيالية لا يوجد دولة اليوم فى الغرب أو الشرق تأخذ بها. فكل الدول الغربية والشرقية تتنافس فى جيوشها وأسلحتها، كما أنَّ غاندي نفسه تخلى عن اللا عنف فى الأوقات التي رأى حينها مصلحته فى سلوك طريق العنف! باختصار هذا جزء من الصورة المظلمة المغيبة لغاندي، الذي يرفع فى مواجهة آيات الجهاد فى كتاب الله! وأتمنى أن لا يفوتنا فى مثل هذا الموضع التنبيه إلى أن مواجهة المحتل بالإثخان والتشريد ونحوها لا تعني الإخلال بأخلاقيات الجهاد الشرعي، كاستهداف أمن البلدان الإسلامية، أو انتهاك فريضة الله في المعاهَد والمستأمَن ومن له شبهة أمان، فهذا انحراف عن الجهاد الشرعي الشريف لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام المتقدمون أو المعاصرون ولله الحمد، وإنما الموفق من أخذ الكتاب كله ولم يقع في تبعيضه، فعمل بشريعة الإثخان والتشريد وراعى حقوق معصومي الدماء من المسلمين والمعاهدين والمستأمنين ومن لهم شبهة أمان، فإن التحرز في الدماء عنوان الديانة. بل ما أقرب أن يُقال – والعلم عند الله - إنه ما استطال أهل الأهواء اليوم على الدعوة إلا بشؤم معصية الله في انتهاك أخلاقيات الجهاد الشرعي، فبعد أن كان أهل الدعوة في منعة لا يرقى إليهم الشَّكُّ أصبح الكثير منهم اليوم موضع الارتياب والرقابة، وتسلط عليهم كثير من أهل الباطل بالتعيير والتشنيع، وما أكثر ما تتسبب معصية فردية في ابتلاء عام يطول الأخيار وأفاضل الناس، ولذلك لما عصى الرماة هدي الله في الجهاد سلط الله الكفار حتى نالوا من رسول الله وكبار أصحابه، فكسرت رَبَاعِيتُه وشُجَّ في وجهه (صلى الله عليه وسلم)، ودخل في وجنته الشريفة حلقتان من حلق المغفر، كما قال تعالى: {وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 152]. وفي وقعة حُنين لما تسربت معصية العجب إلى بعض الأفراد ابتلى الله المسلمين أفاضلهم ومَن دونهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة : 25]. فهذه العمليات المنحرفة التي استهدفت أمن البلدان الإسلامية واستهانت بضوابط الشريعة في عصمة الدماء، تسببت في تشويه الجهاد الملتزم بأخلاقيات الجهاد الشرعي وقيمه السامية، حتى أصبحت لا تكاد ترى من ينبس باسمه خوفًا من أن يجر بتهمة الإرهاب، وجرَّأت كثيرًا من السفهاء على أن يستهينوا بشيء من مضامين الوحي ما كانوا يتجرؤون على الإعلان بمثلها، فأي شؤم لتلك العمليات أكثر من ذلك؟! فهذه سُنة كونية لآثار المعاصي على الدعوات لا يستوعبها العقل المادي وإنما يعقلها من امتلأ قلبه يقينًا بالآثار الغيبية، نسأل الله الكريم أن يتوب علينا جميعًا بواسع مغفرته ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *مقال مقتطف للباحث الأسير/ إبراهيم السكران، من كتابه مآلات الخطاب المدني، ص227-234
فكرة السلم المطلق
إبراهيم السكران*

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol ]

بعض غلاة المدنية يردد فكرة السلم المطلق، ويدعو إلى مواجهة مشروعات الاحتلال العسكري الصريحة بلغة الحب ورحابة الصدر الأعزل، ونحو ذلك من الأفكار الحالمة المستلهمة من نموذج الحكيم الهندي المعروف "المهاتما غاندي"، وبعضهم يبالغ في تبجيل غاندي وعرضه كمخلص.

والحقيقة أن شريعة الله سبحانه وتعالى أرقى وأحكم من شريعة غاندي، وهذا الموضع موضع خطير على الإيمان لتضمنه المعارضة العملية لمحكمات الوحي، فإن الله سبحانه وتعالى شرع البر للمسالم والإثخان للمعتدي، وقد أمرنا الله بذلك كما في قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد : 4]

وفي موضعين من كتاب الله تعالى في سورتي التوبة والتحريم أمرنا سبحانه أمرًا صريحًا بالغلظة على المعتدين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة : 73]، [التحريم : 9].

وأمرنا بالإثخان في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} [الأنفال : 67].

وأمر سبحانه الملائكة بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].

وأمر بالتشريد للمعتدين، فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57].

بل أن الله سبحانه وتعالى نهانا إذا نشبت المعركة مع المعتدي أن نبدأ الدعوة للسلام وإنهاء الحرب إذا كنا نحن الطرف الأقوى؛ فقال تعالى {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد : 35]، وهذا توجيه إلهي صريح لا تستطيع كل تعسفات النظرية السلمية أن تفرغه من محتواه.

فإذا كان جبار السموات والأرض -كما في الآيات السابقة- يحثنا على مواجهة المحتل والمعتدي بالإثخان، والغلظة، وضرب الرقاب، والتشريد في الأرض، وعدم البدء بالدعوة للسلام، ويحببنا في هذه الأعمال الشريفة ويثيبنا عليها، فكيف يتجرأ عاقل ويستدرك على الله جل جلاله ويرى أن رأي رجل هندوسي وثني أحكم وأرقى؟!
والله لو امتلأ القلب بتوقير الله وقدره حق قدره لامتنع أصلًا أن يزاحم حكم الله بحكم رجل هندوسي، ولا يرتاب عاقل أن هذا الموطن الذي يقدم فيه حكم غير الله أن فيه شعبة من شعب النفاق التي حذر الله المسلم من الوقوع فيها، كما في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور : 63].

هذا طبعًا من حيث علاقة فكرة السلم المطلق بنصوص الوحي، أما علاقتها بالواقع فهي فكرة رومانسية طريفة، ذلك أنَّ جمهور الأمم المعاصرة اليوم تمجد أبطالها القوميين ذوي البسالة في المعارك الكبرى، وترفعهم بحسب عبقريتهم في إزهاق الأعداء، وصناعة الانتصارات القتالية الحاسمة، وتبني لهم النصب التذكارية في مراكز المدن، وهذا أمر مشاهد معلوم.

بل من الظريف حقًّا أن صورة غاندي السلمية التي تروّج في خطاب اللَّا عنف، ويُشغَّب بها على آيات الجهاد فى كتاب الله؛ أنَّها أصلًّا صورة غير دقيقة علميًا، بل هي صورة منقوصة، فغاندي نفسه تزلزل فى التمسك بفكرة السلمية المطلقة، فكل شعاراته عن اللا عنف تبخّرت لما شنت بريطانيا الاستعمارية الحرب على البويريين عام (1899م) لإخضاعهم لاستعمارها، وخشي غاندي أنه إن رفض المشاركة مع البريطانيين فى حرب البويريين أن تتضرر قضيته فى الهند! فدخل فى "العنف" لأجل مصلحته القومية! بل عبَّأ الهنود لدعم العنف البريطاني الاستعماري، وأضخم أمر لافت فى ذلك الحدث أنه كان يعتقد بعدالة قضية البويريين أصلًا، ولكنه قبِل بممارسة العنف المسلح ضدهم لأجل مصلحة قومه، وقد شرح غاندي بشيء من الخجل موقفه هذا، إذ يقول فى سيرنه الذاتية:

"عندما أُعلنت الحرب كانت عواطفي الشخصية كلها مع البوير... إن ولائي للحكم البريطاني قادني إلى المشاركة مع البريطانيين فى تلك الحرب... ولقد كنت أعتقد آنذاك أن الهند لا تستطيع أن تحقق تحررها الكامل إلا ضمن الإمبراطورية البريطانية ومن خلالها... وهكذا حشدت أكبر عدد ممكن من أصدقائي... والواقع أن الصلات التي نشأت بيننا وبين البيض، خلال الحرب، كانت من أحلى الصلات، فقد احتككنا بآلاف من الجنود البريطانيين، لقد كانوا وديين معنا، شاكرين لنا وجودنا هناك لخدمتهم" [غاندي، "قصة تجاربي مع الحقيقة"، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، (1981م): (251 – 253).].

حسنًا.. لنسجل هاهنا هذه المعطيات: إن غاندي كان يؤمن بعدالة قضية البويريين، ولكنه لأجل مصلحته القومية دعم الحرب البريطانية الاستعمارية المسلحة ضد البويريين، وحشد الهنود لدعم العنف البريطاني الاستعماري، وحكى ذكرياته الجميلة مع الجنود البريطانيين فى حربهم المسلحة العنيفة.

ومن الحجج التي أصّل فيها غاندي المساحة التي يجوز فيها العنف مقارنته التي قال فيها: "أنا أعتقد فعلًا أنه إذا كان الخيار فقط بين الخَوَر والعنف، فإني سوف أوصي بالعنف"
Atack، Nonviolence in Political Theory، Edinburgh University Press، P. 161.

كما أنَّ غاندي بدأ يُظهر اللِّين مع الدفاع عن النفس بـ "السلاح" حين انفجر الصراع الإسلامي الهندوسي حيث قال غاندي: "كان الناس سابقًا ينصتون لي حين كنت أعلمهم كيف يواجهون البريطانيين المسلحين بدون أسلحة، ولكن هذه الأيام بلغني أن فكرتي عن اللا عنف يمكن أن تكون غير مجدية فى مواجهة هذا الجنون الاجتماعي، ولذلك، فإن الناس يجب أن يسلحوا أنفسهم للدفاع عن النفس".
[Pyarelal، Mahatma Gandhi: The Last Phase، Navajivan Publishing House، 1956، Vol. II، P. 326.].

كما أنَّ غاندي نفسه أطلق عبارة جدلية ذهب الباحثون فى تفسيرها كل مذهب، حيث قال: "لو كان معنا قنبلة ذرية، لاستعملناها فى مواجهة الإنجليز" [Ibid.].

ومن المستغرب أن غاندي كان له لقاء معروف بموسوليني، ومراسلات، وأبدى إعجابه به.

وكل هذه المواقف ونظائرها حاول محبو غاندي لاحقًّا تأويلها لتفريغها من دلالتها على تأييد أي شكل من أشكال العنف، وهي شواهد يستعملها نقاد غاندي لرفض أيقنته كنموذج للسلمية المطلقة.

وبسبب كون الدولة الغربية دولة لا تفهم السلمية المطلقة أصلًا، بل هي دولة منغمسة في العنف حتى القاع، وتتنافس الدول الغربية في امتلاك السلاح الأفتك والأكثر إبادة بجيوشها الجرارة، سواء في الحروب العالمية بين الغربيين أنفسهم، أو في حروب الاستعمار بين الغربيين والشرق المسلم، ولذلك؛ فإن الصحافة الغربية حين ألقى غاندي بعض محاضراته فى أوروبا عن اللا عنف أمطرته بوابل من التهكم والسخرية، وخصوصًا حين نصح البريطانيين أن يواجهوا الغزو النازي باللا عنف، فانفجر عليه النقد البريطاني، ووصفوا كلامه بأقذع العبارات، حتى أن غاندي نفسه أبدى امتعاضه ونسب للصحافة الغربية أنها حرفت كلامه! وممن نقل نماذج طريفة من تهكم الصحافة الغربية بمحاضرة غاندي أستاذ الفلسفة الفرنسي جان مولر، وهو شخص متخصص فى اللا عنف ومهتم بشخصية غاندي [جان – ماري مولر، "غاندي المتمرد: ملحمة مسيرة الملح"، ترجمة: محمد عبد الجليل، دار معابر، (2011م).].

ومن الثغرات المظلمة فى شخصية غاندي، موقفه المساند للنظام الطبقي Caste system، حتى قال بعض الباحثين: "لماذا ساند غاندي النظام الطبقي على الرغم من بنيته التقسيمية؟ يعزو أمبدكار ذلك إلى الحسابات السياسية الضيقة لغاندي" [Chakrabarty، Social and Political Thought of Mahatma Gandhi، Routledge، 2006، P. 110.].

وهناك بعض اليساريين يفسرون موقف غاندي فى دعم العنف البريطاني ضد البوير، وموقف غاندي فى مساندة النظام الطبقي، أن ذلك كله بسبب علاقة غاندي التمويلية بالطبقة البرجوازية الهندوسية، وأنَّها بسبب كونها تموله فهي بالتالي تتحكم فى دائرة خياراته السياسية، وهذا تفسير مطروح على كل حال، لا يعنينا فى شيء، وإنّ ما يعنينا هو الوقائع ذاتها.

ومن المواقف الخرقاء لغاندي أنه تبعًا لاعتقاداته النباتية الخرافية في منع أكل اللحم كاد أن يهلك زوجته، حين منع الطبيب من إطعام زوجته المريضة بشيء من منتجات اللحوم؛ حيث يقول غاندي:

"اجتمعت إلى الطبيب الذي أدلى إلي، فى هدوء، بهذا النبأ: "كنت قد أعطيت زوجتك السيدة غاندي مرق لحم البقر عندما هاتفتك"، فقلت: "لا، أيها الطبيب، أنا أدعو هذا خيانة" ..".

ثم قال غاندي للطبيب: "أنا لن أسمح لزوجتي بأن تعطى اللحم، أو لحم البقر، حتى ولو كان هذا الرفض معناه موتها، إلَّا إذا رغبت بذلك".

وكانت زوجة غاندي غير قادرة على الحديث، ومع ذلك ذهب غاندي واستشار زوجته المريضة، فصادقت على رأى غاندي بالامتناع عن أكل اللحم، فقال الطبيب لغاندي: "يا لك من رجل غليظ القلب! كان ينبغي أن تخجل من مباحثتها بهذه المسألة وهي فى حالتها الحاضرة" [غاندي، "قصة تجاربي مع الحقيقة"، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، (1981م): (374 – 375).].

والحقيقة: أن الدراسات والمقالات الحديثة كشفت أوجهًا لغاندي يجهلها كثير من دعاة المدنية المادية، نظرًا لاعتمادهم على الكتب المناقبية السطحية.

والمراد أن الفكرة المنسوبة نظريًا لغاندي عن "اللا عنف" أنَّها فكرة خيالية لا يوجد دولة اليوم فى الغرب أو الشرق تأخذ بها. فكل الدول الغربية والشرقية تتنافس فى جيوشها وأسلحتها، كما أنَّ غاندي نفسه تخلى عن اللا عنف فى الأوقات التي رأى حينها مصلحته فى سلوك طريق العنف!

باختصار هذا جزء من الصورة المظلمة المغيبة لغاندي، الذي يرفع فى مواجهة آيات الجهاد فى كتاب الله!

وأتمنى أن لا يفوتنا فى مثل هذا الموضع التنبيه إلى أن مواجهة المحتل بالإثخان والتشريد ونحوها لا تعني الإخلال بأخلاقيات الجهاد الشرعي، كاستهداف أمن البلدان الإسلامية، أو انتهاك فريضة الله في المعاهَد والمستأمَن ومن له شبهة أمان، فهذا انحراف عن الجهاد الشرعي الشريف لا يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام المتقدمون أو المعاصرون ولله الحمد، وإنما الموفق من أخذ الكتاب كله ولم يقع في تبعيضه، فعمل بشريعة الإثخان والتشريد وراعى حقوق معصومي الدماء من المسلمين والمعاهدين والمستأمنين ومن لهم شبهة أمان، فإن التحرز في الدماء عنوان الديانة.

بل ما أقرب أن يُقال – والعلم عند الله - إنه ما استطال أهل الأهواء اليوم على الدعوة إلا بشؤم معصية الله في انتهاك أخلاقيات الجهاد الشرعي، فبعد أن كان أهل الدعوة في منعة لا يرقى إليهم الشَّكُّ أصبح الكثير منهم اليوم موضع الارتياب والرقابة، وتسلط عليهم كثير من أهل الباطل بالتعيير والتشنيع، وما أكثر ما تتسبب معصية فردية في ابتلاء عام يطول الأخيار وأفاضل الناس، ولذلك لما عصى الرماة هدي الله في الجهاد سلط الله الكفار حتى نالوا من رسول الله وكبار أصحابه، فكسرت رَبَاعِيتُه وشُجَّ في وجهه (صلى الله عليه وسلم)، ودخل في وجنته الشريفة حلقتان من حلق المغفر، كما قال تعالى: {وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 152].

وفي وقعة حُنين لما تسربت معصية العجب إلى بعض الأفراد ابتلى الله المسلمين أفاضلهم ومَن دونهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة : 25].
فهذه العمليات المنحرفة التي استهدفت أمن البلدان الإسلامية واستهانت بضوابط الشريعة في عصمة الدماء، تسببت في تشويه الجهاد الملتزم بأخلاقيات الجهاد الشرعي وقيمه السامية، حتى أصبحت لا تكاد ترى من ينبس باسمه خوفًا من أن يجر بتهمة الإرهاب، وجرَّأت كثيرًا من السفهاء على أن يستهينوا بشيء من مضامين الوحي ما كانوا يتجرؤون على الإعلان بمثلها، فأي شؤم لتلك العمليات أكثر من ذلك؟!
فهذه سُنة كونية لآثار المعاصي على الدعوات لا يستوعبها العقل المادي وإنما يعقلها من امتلأ قلبه يقينًا بالآثار الغيبية، نسأل الله الكريم أن يتوب علينا جميعًا بواسع مغفرته ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقال مقتطف للباحث الأسير/ إبراهيم السكران، من كتابه مآلات الخطاب المدني، ص227-234
‏٢٧‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١١:٠٩ م‏
الأكذوبة الكبرى (1) د. عطية عدلان [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol ] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. الديمقراطية .. ما هي ؟ وما حقيقتها ؟ خيرٌ هي أم شرّ ؟ نفعٌ هي أم ضُرّ ؟ نظامٌ راشد ينبغي أن تفيء البشرية كلها إلى ظلاله الندية الوارفة ؟ أم نظامٌ فاسد يتوجب على الخليقة جمعاء أن تفر من ناره المحرقة ؟ أسئلة دائرة وحائرة، والإجابات عليها بين أمانيّ طائشة وأحكام جائرة. بداية .. لا يصح - ونحن نتعرض للحكم على نظام كهذا تعايشت معه الإنسانية دهراً فنعمت بخيراته وتعست بويلاته - أن نطلق الأحكام أو نلقي الأقوال جزافاً؛ فنحن مأمورون بالعدل في القول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام 152)، ومن الصعب إصابة العدل إلا بالدراسة الموضوعية التي تبرز الإيجابيات تجاه السلبيات، وتظهر نقاط الاتفاق في مقابلة خطوط الافتراق؛ ولقد علمنا القرآن هذا المنهج العلميّ ولقننا هذا التجرد الخلقيّ في أكثر من موضع، كقول الله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (آل عمران 75). والنظرة الموضوعية تقضي بأنّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام وافترقت عنه، اتفقت معه في (مبدأ الشرعية السياسية) أي حق الأمّة في اختيار من يحكمها، وافترقت عنه في مبدأ (السيادة) أي: "التفرد بالحق في إنشاء الخطاب الملزم" ففي النظام الإسلاميّ لا تكون السيادة إلا للشرع وحده، وفي الديمقراطية لا تكون السيادة إلا للشعب وحده، وهذا الاتفاق والافتراق هو سرَّ تميز النظام الإسلاميّ وتفوقه على الديمقراطية، وما عدا هذين المبدأين يدور بين مباديء إنسانية عامَّة لا علاقة لها بأصل النظرية كالعدل والحريات وحقوق الإنسان، وبين آليات وأدوات وأمور فنية وتقنية، فأمَّا الأولى فقد سبق الإسلام إليها وتميز بحسن الضبط وعمق التأصيل وعراقة التطبيق، وأمَّا الثانية فهي متروكة للاجتهاد البشريّ توسعةً من الله على عباده؛ فلا يُثَرّب فيها على مبتكر أو مُقْتبس، كما لا يثرب في الفروع الاجتهادية الدائرة حول المباديء على مجتهد أو مقلد. كل هذا الذي أقدمنا على إجماله وأحجمنا عن تفصيله ليس سوى مقدمة احترازية بين يدي موضوعنا؛ لئلا يذهب القراء في فهم المراد مذاهب بعيدة، أمَّا المراد فهو الحكم على الواقع العمليّ للديمقراطية، وللعدل والإنصاف فإنَّ أيّ نظام للحياة لا يُحكم عليه حكماً نهائياً بمجرد النَّظر إلى النماذج التطبيقية السيئة؛ فإنَّ النظام الإسلاميّ ذاته على عظمته وسموه قد أُسيء إليه بسبب النماذج التطبيقية الناقصة على مدى التاريخ فيما بعد عصر الراشدين، اللهم إلا إذا كان الحكم مبنياً على النظرة الكلية للنتائج الواقعية؛ ففي النهاية: البعر يدل على البعير. فلو أننا لم نعلم من أدلة تميز النظام الإسلامي وتفوقه إلا ذلك الأثر الرائع على المسلمين خاصة وعلى البشرية كافة، لكان هذا الدليل كافياً للتسليم بعظمة هذا النظام وسلامته من العيوب والأخطاء. فلقد انطلقت أمة الإسلام في ظل هذا النظام البديع في فجاج الأرض، انطلقت تحمل كل المبادئ التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، واندفعت في البشرية اندفاع عصارة الحياة في الشجرة الجرداء، فإذا بالأرض تهتز خضراً بعدل الإسلام ورحمته وسماحته، وإذا بشمس الحرية تشرق على هذا الكوكب الذي لفه ظلام الاستبداد أمداً طويلاً، وإذا بالشعوب تستقبل الفتح الإسلامي استقبال الأرض الجدباء لغيث السماء. فعرف الإنسان قيمته، وتحققت له إنسانيته، وأدرك دوره في هذه الحياة أحسن الإدراك، وتحرك للقيام به أقوم التحرك، وتحرر من قيد العبودية للشهوات والأهواء، وأحس بعظمة هذه الحياة عندما تظللها شريعة الله، وعندما يكون الإنسان فيها متخلصاً من داعية هواه تابعاً لشرع مولاه. ولم تعرف البشرية في تاريخها كله حقبة من الزمان تحققت فيها المثل العليا في واقع الأرض مثلما تحققت في صدر الإسلام، يوم أن كان المسلمون مستظلين بالحكم الإسلامي الرشيد، ولم يبتعد المسلمون عن هذه المثل ولم يهبطوا من هذه القمة السامقة إلا يوم أن خرجوا من تحت مظلة ذلك النظام العبقري الفريد. وفي المقابل: لو أننا لم ندرك من أدلة فساد الديموقراطية وإخفاقها إلا ذلك الأثر السيئ على الإنسانية، لكان هذا الدليل كافياً للتسليم بزيف الديموقراطية وبطلان ما بنيت عليه، وإذا كان كل إناء ينضح بما فيه، فإنه بقدر ما نضحت أمة الإسلام على البشرية خيراً وبلاً نضحت أمم الديمقراطية على البشرية شراً ووبالاً؛ فماذا حققت أوربا للإنسانية، وما الذي قدمته للبشرية، في ظل الديموقراطية وفي ظل شعارات الإخاء والحرية والمساواة؟ إن التاريخ الذي لا يكذب والواقع الذي لا يزيف ليشهد بأن أوربا التي بشرت بالديموقراطية واندفعت في ظلها تحمل الراية وتقود البشرية نحو عهد جديد وعصر وليد قد خذلت الإنسانية وأذاقت البشرية الويلات، فما كادت الثورة الفرنسية ترفع شعار الديموقراطية وما كاد مجلس الثورة يصدر وثيقة حقوق الإنسان حتى فوجئ المجتمع الإنساني بفرنسا تتقدم أوربا نحو حروب توسعية وحركات استعمارية نتج عنها ويلاتٍ كثيرة، إلى حد أن بلدًا واحداً كالجزائر تناقص عدد سكانه في سبع سنوات من أربعة ملايين إلى ثلاثة؛ بفعل الحرب التي شنتها على الجزائر ظلما وعدوانا. وما كادت أوربا تتجاوب مع زئير الثورة الفرنسية وتتغنى في الأفاق بأنشودة الديموقراطية والإنسانية حتى فوجئ بنو الإنسان بجحافل الاستعمار الأوربي تدوس كرامة الإنسان وتنتهك حرمته، وتضرم الأرض من تحته ناراً متأججه، ولم تستفق أوربا من دفعتها المحمومة تلك إلا على الآثار المروعة للحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان أول من اصطلي بنار أوربا الديموقراطية أمريكا التي اصطلت البشرية بنارها بعد أن تولت قيادة العالم الديموقراطي، يقول مارتين دودج: «وهكذا كانت انجلترا مهداً للديمقراطية، غير أنها لم تمنح مستعمراتها الأمريكية مثل هذا الامتياز، وظلت تعامل سكانها كقطيع من السائمة، وألهبت القيود التي فرضت على المستعمرات من قوة الكفاح في سبيل الحرية، بدلاً من أن تقضي عليها وكان هذا، كما نعرف جميعاً السبب الذي شبت من أجله نار الثورة الأمريكية التي أسفرت عن قيام أقوى دولة في العالم الحديث هي: الولايات المتحدة الأمريكية». ويوم أن قامت أمريكا وتولت زعامة العالم الديموقراطي، وقالت للناس إنها الراعية للديمقراطية، والمبشرة بها، كان شأنها مع الإنسانية عجيب ومريب، وكانت قصتها مع الأسرة البشرية دامية ومبكية، وإن الذي ابتلى به سكان هذا الكوكب على يد راعية الديموقراطية لم يكن ليقع عليهم بهذه القسوة لو أنهم تعرضوا لغزو من كوكب خارجي من مثل ما تصوره لنا السينما الأمريكية. لقد بدأت (بركات!) هذا النظام تهطل على السكان الأصليين للقارة الأمريكية (الهنود الحمر) من الضيوف الديموقراطيين جدًا، بدأت بكتاب العملاق ليوردجاك 1664م الذي يشرع فيه الإبادة الجماعية لأصحاب الأرض، واستمرت على مدى قرن أو يزيد، فما أقلعت حتى آل أمر أمة من البشر بأكملها إلى ما يشبه الفناء التام. وبعدها دفعت رياح الديموقراطية بسحائب الويلات إلى القارة الأفريقية فأمطرتها على مدى الثلاث مائة سنة من 1600 إلى 1900م، فكانت حصيلة الضحايا الأفارقة أكثر من مائة مليون ما بين مستعبد بكل ما تحمله الكلمة من معنى وقتيل في معارك الاصطياد أو في أقبية السفن أو تحت سياط التعذيب أو بفعل الرحلة الشاقة عبر الأطلس إلى غرب أوربا وإلى أمريكا. ثم أسلمت أمريكا زمام أمرها لذلك الجهاز اللعين الـ(cia) الذي نشأ في تربة الديموقراطية، والذي توسع في مفهوم الأمن القومي الأمريكي حتى أفقد البشرية أمنها وسلبها كرامتها: «فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن هناك 75 حربا وتدخلا عسكرياً ودعماً لا نقلاب عسكري، وكلها لا علاقة لها بالدفاع عن النفس وإنما للتوسع والسيطرة». ولقد خاضت أمريكا حروباً دامية ضد بلاد لم تطرف لها عين، وكانت نتائج كل هذه الحروب مروعة، حتى إنه بلغ العدد النهائي لضحايا الحرب الفيتنامية 3.6 مليونا، وكانت الخسة وانعدام الإنسانية هي الصبغة الغالبة في هذه الحروب، يقول نعوم تشومسكي: «لم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها في نيكارجوا أو السفادور أو جواتميالا، ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي»، ويعترف (وليمام مولمي)، المشرف علي برنامج فينيكس في فيتنام بأن الذين استجوبوا بأساليب مرعبة من دق الخوابير الخشبية في أدمغتهم وإدخال المناظير المكهربة في إستهم وقطع الأصابع والآذان ثم الإلقاء من الطائرات كانوا نحو 29 ألفا. وأخيراً جاءت أمريكا الديموقراطية بجحافلها لتدمر العراق على أهلها وتحرق الأخضر واليابس في بلاد الرافدين؛ لمجرد هواجس - بل مزاعم - أن العراق بها أسلحة دمار شامل، ولما خربت الديار وقف أحد المفتشين الدوليين على أطلالها قائلاً: «إن إعلان البيت الأبيض في الشهر الماضي عن إغلاق ملف البحث عن الأسلحة العراقية وضع نهاية لأفدح حالة من الخداع الدول في العصور الحديثة». أما عن التعذيب في جوانتانامو وأبو غريب، وعن الخطف والتسفير إلى سجون سرية في أوربا يتم فيها التحقيق بأبشع الوسائل التي لم تخطر ببال بشر فحدث ولا حرج، ويكفي بريطانيا التي تتيه بالديمقراطية فخراً أن الطائرات التي كانت تحمل المختطفين استعملت مطارات بريطانية أكثر من 210 مرة منها مطار بريستوك. هذه الانتهاكات الخطيرة لا يمكن أن ترضاها شعوب وأمم اختارت لنفسها نظاماً إنسانياً قائماً على القيم والمثل العليا، فإن كانت هذه الشعوب قد تم إقناعها بشرعية ما يحدث فهذا برهان على ممارسة الديموقراطية التزييف لإرادة الشعوب، وإن كانت هذه الشعوب غير مقتنعة بما يجري فهذا برهان على ممارسة الديموقراطية القهر لإرادة الشعوب، وعلى الحالين - الَّذين لا ثالث لهما - ليس لإرادة الشعوب دخل حقيقي في صناعة القرار الكبير؛ فأين - إذاً - هو حكم الشعب؟ وأين - إذاً - هي رقابته؟ وأين هي الديمقراطية؟!! ولقد سيرت أوربا وأمريكا جحافلها للفتح الديموقراطي؛ فهل سعد العالم بما جاءته به؟ إن الدول الفاتحة، ظلت تتغنى بشعارات الديموقراطية، وتدعي أنها تحتل لتمدن وترقي، إلا أن تجربة حوالي مائتي عام، أثبتت ما يلي: 1- أن الاحتلال لم يرق بلدا، ولا مدَّن قطرا، وأن خروج قوات الاحتلال من هذا القطر أو ذاك، كشف آثار التدمير والنهب وتشوية البني الذي تركه الغازي المحتل. 2- أن كل تعلق طلائع الشعوب المقهورة بأطروحات الديمقراطية الغربية، لم يؤد إلى قيام نظام ديموقراطي في أي قطر من أقطار العالم التابعة، سواء خلال وجود الاحتلال، أو بعد رحيله. ولا يشك عاقل ولا سفيه في أرض الله كلها سهلها ووعرها - عدا أمريكا - في أن الشعب الأمريكي لو يعلم ويقدر لكان وضع السياسة الخارجية الأمريكية على عكس ما يجري، لو يعلم كم هي تضر بمصالحه، وكم هي ضد أمنه ورفاهيته، وكم هي غاشمة في عدوانها على البشرية وسافلة ومنحدرة في إهانتها للإنسانية، ولو يعلم كم هي حجم الخسائر البشرية في صفوف الأمريكان، وكم هي التداعيات الاقتصادية التي تسببها هذه الحروب لأمريكا، لو يعلم الشعب الأمريكي ذلك كله علماً نافياً للجهل، ويقدر على الوقوف في وجه هذه السياسة الراعنة قدرة مسقطة للعذر، لو يعلم ويقدر لما كان هذا الذي جرى ويجرى . ولكنه إما أنه لا يعلم، فهو يتابع عن طواعية واختيار، وإما أنه لا يقدر فهو يتابع عن قهر وإجبار، فإرادته إما مزورة وإما مقهورة، فأين -إذاً - حكم الشعب؟ وأين -إذاً - حريته وإرادته؟ وأين - إذاً - ديمقراطيته التي يتغنى بها ؟ وما ينطبق على الشعب الأمريكي ينطبق على الشعب الانجليزي، وعلى غيره من الشعوب التي تنعم بالديمقراطية. إن الإنسان في ظل الدكتاتورية أبكم لا ينطق، وفي ظل الديموقراطية يثغو أو يموء، وما الديموقراطية إلا صورة ناعمة من صور الديكتاتورية، حيث تمضي في نفس الدرب وقد حصرت السلطة في أيدي عصابة ظاهرة أو خفية، تصوغ القرارات وراء الكواليس، ثم تدفعها إلى الساحة باسم الشعب والشعب منها براء، وعنها جفاء. (يتبع)
الأكذوبة الكبرى (1)

د. عطية عدلان

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol ]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

الديمقراطية .. ما هي ؟ وما حقيقتها ؟ خيرٌ هي أم شرّ ؟ نفعٌ هي أم ضُرّ ؟ نظامٌ راشد ينبغي أن تفيء البشرية كلها إلى ظلاله الندية الوارفة ؟ أم نظامٌ فاسد يتوجب على الخليقة جمعاء أن تفر من ناره المحرقة ؟ أسئلة دائرة وحائرة، والإجابات عليها بين أمانيّ طائشة وأحكام جائرة.

بداية .. لا يصح - ونحن نتعرض للحكم على نظام كهذا تعايشت معه الإنسانية دهراً فنعمت بخيراته وتعست بويلاته - أن نطلق الأحكام أو نلقي الأقوال جزافاً؛ فنحن مأمورون بالعدل في القول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام 152)، ومن الصعب إصابة العدل إلا بالدراسة الموضوعية التي تبرز الإيجابيات تجاه السلبيات، وتظهر نقاط الاتفاق في مقابلة خطوط الافتراق؛ ولقد علمنا القرآن هذا المنهج العلميّ ولقننا هذا التجرد الخلقيّ في أكثر من موضع، كقول الله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (آل عمران 75).

والنظرة الموضوعية تقضي بأنّ الديمقراطية اتفقت مع الإسلام وافترقت عنه، اتفقت معه في (مبدأ الشرعية السياسية) أي حق الأمّة في اختيار من يحكمها، وافترقت عنه في مبدأ (السيادة) أي: "التفرد بالحق في إنشاء الخطاب الملزم" ففي النظام الإسلاميّ لا تكون السيادة إلا للشرع وحده، وفي الديمقراطية لا تكون السيادة إلا للشعب وحده، وهذا الاتفاق والافتراق هو سرَّ تميز النظام الإسلاميّ وتفوقه على الديمقراطية، وما عدا هذين المبدأين يدور بين مباديء إنسانية عامَّة لا علاقة لها بأصل النظرية كالعدل والحريات وحقوق الإنسان، وبين آليات وأدوات وأمور فنية وتقنية، فأمَّا الأولى فقد سبق الإسلام إليها وتميز بحسن الضبط وعمق التأصيل وعراقة التطبيق، وأمَّا الثانية فهي متروكة للاجتهاد البشريّ توسعةً من الله على عباده؛ فلا يُثَرّب فيها على مبتكر أو مُقْتبس، كما لا يثرب في الفروع الاجتهادية الدائرة حول المباديء على مجتهد أو مقلد.

كل هذا الذي أقدمنا على إجماله وأحجمنا عن تفصيله ليس سوى مقدمة احترازية بين يدي موضوعنا؛ لئلا يذهب القراء في فهم المراد مذاهب بعيدة، أمَّا المراد فهو الحكم على الواقع العمليّ للديمقراطية، وللعدل والإنصاف فإنَّ أيّ نظام للحياة لا يُحكم عليه حكماً نهائياً بمجرد النَّظر إلى النماذج التطبيقية السيئة؛ فإنَّ النظام الإسلاميّ ذاته على عظمته وسموه قد أُسيء إليه بسبب النماذج التطبيقية الناقصة على مدى التاريخ فيما بعد عصر الراشدين، اللهم إلا إذا كان الحكم مبنياً على النظرة الكلية للنتائج الواقعية؛ ففي النهاية: البعر يدل على البعير.

فلو أننا لم نعلم من أدلة تميز النظام الإسلامي وتفوقه إلا ذلك الأثر الرائع على المسلمين خاصة وعلى البشرية كافة، لكان هذا الدليل كافياً للتسليم بعظمة هذا النظام وسلامته من العيوب والأخطاء.

فلقد انطلقت أمة الإسلام في ظل هذا النظام البديع في فجاج الأرض، انطلقت تحمل كل المبادئ التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، واندفعت في البشرية اندفاع عصارة الحياة في الشجرة الجرداء، فإذا بالأرض تهتز خضراً بعدل الإسلام ورحمته وسماحته، وإذا بشمس الحرية تشرق على هذا الكوكب الذي لفه ظلام الاستبداد أمداً طويلاً، وإذا بالشعوب تستقبل الفتح الإسلامي استقبال الأرض الجدباء لغيث السماء.

فعرف الإنسان قيمته، وتحققت له إنسانيته، وأدرك دوره في هذه الحياة أحسن الإدراك، وتحرك للقيام به أقوم التحرك، وتحرر من قيد العبودية للشهوات والأهواء، وأحس بعظمة هذه الحياة عندما تظللها شريعة الله، وعندما يكون الإنسان فيها متخلصاً من داعية هواه تابعاً لشرع مولاه.

ولم تعرف البشرية في تاريخها كله حقبة من الزمان تحققت فيها المثل العليا في واقع الأرض مثلما تحققت في صدر الإسلام، يوم أن كان المسلمون مستظلين بالحكم الإسلامي الرشيد، ولم يبتعد المسلمون عن هذه المثل ولم يهبطوا من هذه القمة السامقة إلا يوم أن خرجوا من تحت مظلة ذلك النظام العبقري الفريد.

وفي المقابل: لو أننا لم ندرك من أدلة فساد الديموقراطية وإخفاقها إلا ذلك الأثر السيئ على الإنسانية، لكان هذا الدليل كافياً للتسليم بزيف الديموقراطية وبطلان ما بنيت عليه، وإذا كان كل إناء ينضح بما فيه، فإنه بقدر ما نضحت أمة الإسلام على البشرية خيراً وبلاً نضحت أمم الديمقراطية على البشرية شراً ووبالاً؛ فماذا حققت أوربا للإنسانية، وما الذي قدمته للبشرية، في ظل الديموقراطية وفي ظل شعارات الإخاء والحرية والمساواة؟

إن التاريخ الذي لا يكذب والواقع الذي لا يزيف ليشهد بأن أوربا التي بشرت بالديموقراطية واندفعت في ظلها تحمل الراية وتقود البشرية نحو عهد جديد وعصر وليد قد خذلت الإنسانية وأذاقت البشرية الويلات، فما كادت الثورة الفرنسية ترفع شعار الديموقراطية وما كاد مجلس الثورة يصدر وثيقة حقوق الإنسان حتى فوجئ المجتمع الإنساني بفرنسا تتقدم أوربا نحو حروب توسعية وحركات استعمارية نتج عنها ويلاتٍ كثيرة، إلى حد أن بلدًا واحداً كالجزائر تناقص عدد سكانه في سبع سنوات من أربعة ملايين إلى ثلاثة؛ بفعل الحرب التي شنتها على الجزائر ظلما وعدوانا.

وما كادت أوربا تتجاوب مع زئير الثورة الفرنسية وتتغنى في الأفاق بأنشودة الديموقراطية والإنسانية حتى فوجئ بنو الإنسان بجحافل الاستعمار الأوربي تدوس كرامة الإنسان وتنتهك حرمته، وتضرم الأرض من تحته ناراً متأججه، ولم تستفق أوربا من دفعتها المحمومة تلك إلا على الآثار المروعة للحربين العالميتين الأولى والثانية.

وكان أول من اصطلي بنار أوربا الديموقراطية أمريكا التي اصطلت البشرية بنارها بعد أن تولت قيادة العالم الديموقراطي، يقول مارتين دودج: «وهكذا كانت انجلترا مهداً للديمقراطية، غير أنها لم تمنح مستعمراتها الأمريكية مثل هذا الامتياز، وظلت تعامل سكانها كقطيع من السائمة، وألهبت القيود التي فرضت على المستعمرات من قوة الكفاح في سبيل الحرية، بدلاً من أن تقضي عليها وكان هذا، كما نعرف جميعاً السبب الذي شبت من أجله نار الثورة الأمريكية التي أسفرت عن قيام أقوى دولة في العالم الحديث هي: الولايات المتحدة الأمريكية».

ويوم أن قامت أمريكا وتولت زعامة العالم الديموقراطي، وقالت للناس إنها الراعية للديمقراطية، والمبشرة بها، كان شأنها مع الإنسانية عجيب ومريب، وكانت قصتها مع الأسرة البشرية دامية ومبكية، وإن الذي ابتلى به سكان هذا الكوكب على يد راعية الديموقراطية لم يكن ليقع عليهم بهذه القسوة لو أنهم تعرضوا لغزو من كوكب خارجي من مثل ما تصوره لنا السينما الأمريكية.

لقد بدأت (بركات!) هذا النظام تهطل على السكان الأصليين للقارة الأمريكية (الهنود الحمر) من الضيوف الديموقراطيين جدًا، بدأت بكتاب العملاق ليوردجاك 1664م الذي يشرع فيه الإبادة الجماعية لأصحاب الأرض، واستمرت على مدى قرن أو يزيد، فما أقلعت حتى آل أمر أمة من البشر بأكملها إلى ما يشبه الفناء التام.

وبعدها دفعت رياح الديموقراطية بسحائب الويلات إلى القارة الأفريقية فأمطرتها على مدى الثلاث مائة سنة من 1600 إلى 1900م، فكانت حصيلة الضحايا الأفارقة أكثر من مائة مليون ما بين مستعبد بكل ما تحمله الكلمة من معنى وقتيل في معارك الاصطياد أو في أقبية السفن أو تحت سياط التعذيب أو بفعل الرحلة الشاقة عبر الأطلس إلى غرب أوربا وإلى أمريكا.

ثم أسلمت أمريكا زمام أمرها لذلك الجهاز اللعين الـ(cia) الذي نشأ في تربة الديموقراطية، والذي توسع في مفهوم الأمن القومي الأمريكي حتى أفقد البشرية أمنها وسلبها كرامتها: «فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن هناك 75 حربا وتدخلا عسكرياً ودعماً لا نقلاب عسكري، وكلها لا علاقة لها بالدفاع عن النفس وإنما للتوسع والسيطرة».

ولقد خاضت أمريكا حروباً دامية ضد بلاد لم تطرف لها عين، وكانت نتائج كل هذه الحروب مروعة، حتى إنه بلغ العدد النهائي لضحايا الحرب الفيتنامية 3.6 مليونا، وكانت الخسة وانعدام الإنسانية هي الصبغة الغالبة في هذه الحروب، يقول نعوم تشومسكي: «لم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها في نيكارجوا أو السفادور أو جواتميالا، ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي»، ويعترف (وليمام مولمي)، المشرف علي برنامج فينيكس في فيتنام بأن الذين استجوبوا بأساليب مرعبة من دق الخوابير الخشبية في أدمغتهم وإدخال المناظير المكهربة في إستهم وقطع الأصابع والآذان ثم الإلقاء من الطائرات كانوا نحو 29 ألفا.

وأخيراً جاءت أمريكا الديموقراطية بجحافلها لتدمر العراق على أهلها وتحرق الأخضر واليابس في بلاد الرافدين؛ لمجرد هواجس - بل مزاعم - أن العراق بها أسلحة دمار شامل، ولما خربت الديار وقف أحد المفتشين الدوليين على أطلالها قائلاً: «إن إعلان البيت الأبيض في الشهر الماضي عن إغلاق ملف البحث عن الأسلحة العراقية وضع نهاية لأفدح حالة من الخداع الدول في العصور الحديثة».

أما عن التعذيب في جوانتانامو وأبو غريب، وعن الخطف والتسفير إلى سجون سرية في أوربا يتم فيها التحقيق بأبشع الوسائل التي لم تخطر ببال بشر فحدث ولا حرج، ويكفي بريطانيا التي تتيه بالديمقراطية فخراً أن الطائرات التي كانت تحمل المختطفين استعملت مطارات بريطانية أكثر من 210 مرة منها مطار بريستوك.

هذه الانتهاكات الخطيرة لا يمكن أن ترضاها شعوب وأمم اختارت لنفسها نظاماً إنسانياً قائماً على القيم والمثل العليا، فإن كانت هذه الشعوب قد تم إقناعها بشرعية ما يحدث فهذا برهان على ممارسة الديموقراطية التزييف لإرادة الشعوب، وإن كانت هذه الشعوب غير مقتنعة بما يجري فهذا برهان على ممارسة الديموقراطية القهر لإرادة الشعوب، وعلى الحالين - الَّذين لا ثالث لهما - ليس لإرادة الشعوب دخل حقيقي في صناعة القرار الكبير؛ فأين - إذاً - هو حكم الشعب؟ وأين - إذاً - هي رقابته؟ وأين هي الديمقراطية؟!!

ولقد سيرت أوربا وأمريكا جحافلها للفتح الديموقراطي؛ فهل سعد العالم بما جاءته به؟ إن الدول الفاتحة، ظلت تتغنى بشعارات الديموقراطية، وتدعي أنها تحتل لتمدن وترقي، إلا أن تجربة حوالي مائتي عام، أثبتت ما يلي:

1- أن الاحتلال لم يرق بلدا، ولا مدَّن قطرا، وأن خروج قوات الاحتلال من هذا القطر أو ذاك، كشف آثار التدمير والنهب وتشوية البني الذي تركه الغازي المحتل.

2- أن كل تعلق طلائع الشعوب المقهورة بأطروحات الديمقراطية الغربية، لم يؤد إلى قيام نظام ديموقراطي في أي قطر من أقطار العالم التابعة، سواء خلال وجود الاحتلال، أو بعد رحيله.

ولا يشك عاقل ولا سفيه في أرض الله كلها سهلها ووعرها - عدا أمريكا - في أن الشعب الأمريكي لو يعلم ويقدر لكان وضع السياسة الخارجية الأمريكية على عكس ما يجري، لو يعلم كم هي تضر بمصالحه، وكم هي ضد أمنه ورفاهيته، وكم هي غاشمة في عدوانها على البشرية وسافلة ومنحدرة في إهانتها للإنسانية، ولو يعلم كم هي حجم الخسائر البشرية في صفوف الأمريكان، وكم هي التداعيات الاقتصادية التي تسببها هذه الحروب لأمريكا، لو يعلم الشعب الأمريكي ذلك كله علماً نافياً للجهل، ويقدر على الوقوف في وجه هذه السياسة الراعنة قدرة مسقطة للعذر، لو يعلم ويقدر لما كان هذا الذي جرى ويجرى .

ولكنه إما أنه لا يعلم، فهو يتابع عن طواعية واختيار، وإما أنه لا يقدر فهو يتابع عن قهر وإجبار، فإرادته إما مزورة وإما مقهورة، فأين -إذاً - حكم الشعب؟ وأين -إذاً - حريته وإرادته؟ وأين - إذاً - ديمقراطيته التي يتغنى بها ؟ وما ينطبق على الشعب الأمريكي ينطبق على الشعب الانجليزي، وعلى غيره من الشعوب التي تنعم بالديمقراطية.

إن الإنسان في ظل الدكتاتورية أبكم لا ينطق، وفي ظل الديموقراطية يثغو أو يموء، وما الديموقراطية إلا صورة ناعمة من صور الديكتاتورية، حيث تمضي في نفس الدرب وقد حصرت السلطة في أيدي عصابة ظاهرة أو خفية، تصوغ القرارات وراء الكواليس، ثم تدفعها إلى الساحة باسم الشعب والشعب منها براء، وعنها جفاء. (يتبع)
‏٢٤‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٢٨ م‏
القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ 2 د. وصفي عاشور أبو زيد [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] المبحث الثالث القوة في القرآن الكريم والسنة النبوية: مما لا شك فيه أن القوة من خصائص الإسلام؛ حيث إنه دين قوي متين { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ}. سورة الحديد: 25. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ } فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف"([1]). وفي السطور الآتية نحاول استكشاف رؤية القرآن الكريم والسنة النبوية عن القوة. أولا: القوة في القرآن الكريم: وردت كلمة "قوة" في القرآن الكريم بمعان مختلفة وفي مواضع وسياقات متنوعة، نورد ما استطعنا الوقوف عليه في الكتاب العزيز فيما يلي: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) }. البقرة. {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145) } الأعراف. {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171) } الأعراف. {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد } الكهف. {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15) } مريم. {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) } الأنفال. {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) } التوبة. {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) } . هود. {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80) } لوط. {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } (92). النحل. {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) }. الكهف. {قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33)}. النمل. {قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78) } . القصص. {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) } . الروم. {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54) }. الروم. {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) } . فاطر. {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) }. غافر. {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) }. غافر {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) }. فصلت. {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13)}. محمد. {إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) }. التكوير. {يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) }. الطارق. وقفة تأملية في الآيات الكريمة: ما سبق إيراده هو آيات كريمة جاءت فيها لفظة "قوة" نصًّا، وإذا تأملنا القوة بمعانيها المختلفة ومرادفاتها وجدنا الأمر ذا سعة في القرآن الكريم، واقتصرنا هنا على مواضع ورود لفظتها فقط، وهي مواضع كافية لإبراز معاني القوة في القرآن من خلال مواضعها وسياقاتها، وهي مواضع كثيرة تدلنا على أهمية موضوعها، فمن أمارات أهمية موضوع ما وروده في القرآن الكريم كثيرا، فإن القرآن العظيم لا يُولِي موضوعا ما بمساحة واسعة إلا كان تعبيرا عن أهميته الكبيرة. ولا يسعنا في هذا المقام أن نتجاوز ما بينه الراغب الأصفهاني في كتابه العظيم مفردات القرآن، وهو يتحدث عن معاني القوة في القرآن، قال: القوة تستعمل تارة في معنى القدرة، نحو قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة/63]، وتارة للتهيؤ الموجود في الشي، نحو أن يقال: النوى بالقوة نخل (أي: يمكنه أن يصير نخلا)، أي: متهيئ ومترشح أن يكون منه ذلك، ويستعمل ذلك في البدن تارة، وفي القلب أخرى، وفي المعاون من خارج تارة، وفي القدرة الإلهية تارة. ففي البدن نحو قوله: {وقالوا من أشد منا قوة} [فصلت/15]، {فأعينوني بقوة} [الكهف/95] فالقوة ههنا قوة البدن بدلالة أنه رغب عن القوة الخارجة، فقال: {ما مكني فيه ربي خير} [الكهف/ 95]، وفي القلب نحو قوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم/12] أي: بقوة قلب. وفي المعاون من خارج نحو قوله: {لو أن لي بكم قوة} [هود/80] قيل: معناه: من أتقوى به من الجند، وما أتقوى به من المال، ونحو قوله: {قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد} [النمل/33]، وفي القدرة الإلهية نحو قوله: {إن الله قوي عزيز} [المجادلة/21]، {وكان الله قويا عزيزا} [الأحزاب/25] وقوله: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات/58] فعام فيما اختص الله تعالى به من القدرة وما جعله للخلق. وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود/52] فقد ضمن تعالى أن يعطي كل واحد منهم من أنواع القوى قدر ما يستحقه، وقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير/20] يعني به جبريل عليه السلام، ووصفه بالقوة عند ذي العرش، وأفرد اللفظ ونكره فقال: {ذي قوة} تنبيها أنه إذا اعتبر بالملإ الأعلى فقوته إلى حد ما، وقوله فيه: {علمه شديد القوى} [النجم/5] فإنه وصف القوة بلفظ الجمع، وعرفها تعريف الجنس تنبيها أنه إذا اعتبر بهذا العالم، وبالذين يعلمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة. والقوة التي تستعمل للتهيؤ أكثر من يستعملها الفلاسفة، ويقولونها على وجهين: أحدهما: أن يقال لما كان موجودا ولكن ليس يستعمل، فيقال فلان كاتب بالقوة. أي: معه المعرفة بالكتابة لكنه ليس يستعمل، والثاني: يقال فلان كاتب بالقوة، وليس يعني به أن معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أن يتعلم الكتابة. وسميت المفازة قواء، وأقوى الرجل: صار في قواء (قال الخليل: أرض قواء: لا أهل فيها. العين 5/237)، أي: قفر، وتصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: أقوى فلان، أي: افتقر، كقولهم: أرمل وأترب. قال الله تعالى: {ومتاعا للمقوين} [الواقعة/73]([2]). هكذا يبين لنا الراغب معاني القوة في القرآن، أو يقررها ويستشهد لها من القرآن، وقد حصر من معانيها: القدرة، والتهيؤ الموجود في الشيء، سواء استعمل في البدن أو القلب أو المعاون من خارج، والقدرة الإلهية، وجبريل عليه السلام، والافتقار والحاجة، ومع مزيد التأمل في أنواع القوة الموجودة يتبين لنا أن فيها قوة سياسية وقوة اقتصادية وقوة اجتماعية وقوة عسكرية، وغيرها من أنواع القوة. ثانيا: القوة في السنة النبوية: أما السنة النبوية فسنقتصر كذلك على إيراد ما نقف عليه فيها مما ورد بنص الكلمة "قوة"، ومن ذلك: ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([3]). قال النووي في الشرح: (المؤمن القوي خير) المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها، ونحو ذلك. (وفي كل خير) معناه في كل من القوي والضعيف خيرٌ لاشتراكهما في الإيمان([4]). وما جاء عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ "([5]). قال النووي في الشرح: "هذا تصريح بتفسيرها وردّ لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا، وفيه وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى وكذلك المشاجعة وسائر أنواع استعمال السلاح وكذا المسابقة بالخيل وغيرها كما سبق في بابه والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك"([6]). ففي حديث أبي هريرة تحدث عن القوة بشمولها ومختلف أنواعها، فالمؤمن القوي خير؛ حيث أطلق الحديث وصف الخيرية ولم يقيده بنوع من القوة، وفي حديث عامر خصصها بالقوة الحربية العسكرية التي تعين على القتال، وتثمر هزيمة العدو، وتحقق مقاصد الجهاد. بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة, واسمع ما كان يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه، ويعلمه أصحابه، و يناجي به ربه: (اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال)([7]), ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن, وضعف الإنتاج بالعجز والكسل, وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل, وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟ فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء, شعاره القوة في كل شيء ؟([8]). وعن مكحول أن عمر بن الخطاب كتب إلى أهل الشام أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية([9]). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها"([10]). كل هذه النصوص من السنة النبوية وأقوال العلماء في شروحها وبيانها تشير إلى أهمية القوة ومكانتها وضرورتها، وبيان آثار وجودها على مستويات الفرد والمجتمع والأمة. المبحث الرابع عناصر القوة ومجالاتها تحدث بعض علمائنا قديما عن القوة وأنواعها ومفاهيمها ومجالاتها؛ فهذا الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يرحمه الله، يقول: والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمْي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك، كما قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية : [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم. والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام ، ولأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة] رواه أهل السنن. والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو ظاهر ([11]). وتحدث الأستاذ الشيخ حسن البنا عن أنواعها ودرجاتها فقال: أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان, ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط, ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح([12]). ويتنوع الحديث عن أنواع القوة وعناصرها ومجالاتها بحسب الوجهة التي نتجه إليها، أو الزاوية التي ننظر منها، أو المنطلق الذي ننطلق منه. أولا: فهي بالنظر إلى الفردية والجماعية، تنقسم إلى: قوة الفرد وقوة الأمة: فقوة الفرد هي قوة تتصل بالفرد وتكوينه المتنوع، تشمل قوة العقل وقوة النفس وقوة البدن، فقوة العقل تعني تحصيل العلم الدائم وتنمية العقل بمهاراته المختلفة، والحفاظ على هذا بالتعرف الدائم إلى الحقائق، وإلى إثبات القضايا والأفكار وفق قول الله تعالى: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" . البقرة : 111. وقوله: وقوله: "قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا". سورة الأنعام: 148. وقوة النفس أو الروح تعني تقويتها بالعبادات المتنوعة والشعائر المؤثرة التي جعلها الله وسائل لتنمية الروح وتزكية النفس وترقيق القلب، فقوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه ، كما أنها تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة بما لا نظير له في ثمار قوة أخرى. وقوة البدن تشمل تقويته بما شرعه الله تعالى حتى يتأهل ليقوم بفرائض الله ويؤدي واجبات الشرع ويحقق المقاصد المشروعة من خلقه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في بيان قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال في سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها, فاختار الله لها زعيما قوي الفكر وقوي الخلق, وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه, فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل في تزكيته طالوت : (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247) . ولقد شرح رسول الله هذا المعنى في كثير من أحاديثه , وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم , كما حثهم على قوة أرواحهم , فالحديث الصحيح يقول : (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف)([13]) ويقول (إن لبدنك عليك حقا)([14]) . ولقد بين رسول الله للأمة كثيرا من قواعد الصحة العامة وبخاصة في علم الوقاية , وهو أفضل شطري الطب فقوله صلى الله عليه وسلم : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)([15]) وتحريه فيما يشرب من ماء , وفي الحديث: (كان يستعذب الماء)([16]), ونهيه عن البول والتبرز في المياه الراكدة , وإعلانه الحجر الصحي على البلد المطعون وأهله , فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم , وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم , وأخيرا عنايته بكثير من فروع رياضة البدن كالرمي والسباحة والفروسية والعدو , وحث أمته عليها وعلى العناية بها. وقد وضع الشرع تدابير لهذا كله بما يوجد العقل الراشد، والنفس الزاكية، والبدن القوي، وما يعمل على حفظها واستمرارها محفوظة قوية باقية. *** وأما قوة الأمة فالمقصود بها أن تصير مرهوبة الجانب قوية الشكيمة، عندها من موارد القوة ومصادرها، ومظاهرها ومنابعها ما يُرْهب أي عدو خارجي أو داخلي، ويمنعه من إيقاع أي عدوان أو ظلم؛ تحقيقا لقول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ". سورة الأنفال: 60. ثانيا: وهي بالنظر إلى مجالاتها تنقسم إلى: قوة العقيدة - قوة الخلق - قوة العلم - قوة الاقتصاد - قوة التماسك الاجتماعي - قوة الجهاد . وقد ألف الشيخ السيد سابق – يرحمه الله – كتابا كاملا عنوانه: "عناصر القوة في الإسلام"، تحدث فيه عن هذه الأنواع من القوة، ورأى أن هذه هي العناصر التي تضمن للإسلام قوته وبقاءه واستمراره. وحسبنا أن ننقل هنا ما جاء في مقدمته؛ حيث قال: "دور الأمة الإسلامية دور إمامة وزعامة، وقد أمدها الإسلام بالعناصر التي تؤهلها لهذا المنصب الخطير.. ومن هذا المنصب الخطير تتألف القوة الحقيقية التي تصل بالأمة إلى غايتها، من العزة و المتعة، والمجد و السؤدد، والسيادة والقيادة، والتمكين في الأرض .. وليست هذه العناصر مقصورة على جانب دون جانب، وإنما تتناول جوانب الحياة جميعا فهي تتمثل: * في الايمان بالله إيمانا يحرر الضمير والوجدان . * وفي الاعتصام، بالحق استعصاما يزهق أمامه الباطل ويندحر. * وفي معرفة الضعف النفسي، و التطهر منه، حتى تأخذ النفس طريقها إلى العزة والسمو. * وفي العلم المقوم لشخصية الإنسان، والكاشف عن حقائق الوجود المادي، وما وراء هذا الوجود من عالم ما وراء الطبيعة. * وفي الثروة ، وتعمير الأرض، و استثمار قوى الكون والانتفاع بما في الطبيعة، من بركات الله وخيراته، وتوزيعها على أفراد الأسرة الإنسانية بالكفاية والعدل. * وفي إقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة، والمساواة والتشريع السمح، والعمل الجاد، والمعاشرة الحسنة، والحكم الصالح التي تكون فيه السيادة للأمة. * وفي السلام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه. * وفي احترام العهود والحفاظ على المواثيق . * وفي التضحية النبيلة والاستشهاد في سبيل الحق ومن أجل الحياة الحرة الكريمة. هذه هي عناصر القوة في الاسلام، وهي ليست مثل القوة التي اصطلح الناس عليها، فهي قوة في العقيدة، وقوة الخلق، وقوة في العلم، وقوة في المال، وقوة في التماسك الاجتماعي، وقوة في التنظيم السلمي، وقوة في الاستعداد الحربي، وسيادة الأمة وقيادتها منوطة بتوفر هذه القوى مجتمعة"([17]). وقد توسع الشيخ – رحمه الله تعالى - في التأصيل والاستشهاد من نصوص القرآن والسنة لكل قوة من هذه القوى بما يجلي حقيقتها ويوضح مكانتها ويبين أثرها على الفرد والأمة. ثالثا: وهي بالنظر إلى الداخل والخارج تنقسم إلى: قوة داخلية وقوة خارجية: وتتمثل القوة الداخلية في : 1- أن يكون المجتمع قويا متماسكا، من خلال الأسر القوية، التي تعتبر الوحدة الأولى في بناء المجتمع القوي المتماسك، ولا غرو أن يتحدث القرآن الكريم عن الأسرة كما يتحدث عن الدولة! 2- يحتاج الحاكم هنا إلى رعاية الأئمة والخطباء الذين سيرسخون هذا التماسك الاجتماعي، ويحققون الأمن الثقافي والفكري بلا طغيان ولا إخسار، ولا إفراط ولا تفريط، فالدعاة والعلماء هم الضمانة الحقيقية لتحقيق هذا التماسك الداخلي وإيجاد الأمن الفكري، ومن هنا وجب على الدولة أو الحاكم رعايتهم ودعمهم. 3- كذلك لتحقيق القوة الداخلية يجب على الحاكم أن يأخذ على أيدي المجرمين، ويجفف منابع الجريمة، ويقضي على الفكر المتطرف بالحوار الهادئ والنقاش البناء، كما فعل عبد الله بن عباس وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم. 4- أن تتحقق الواجبات الكفائية في المجتمع، من طب وهندسة وتصنيع وتجارة وزراعة وإنتاج، وتوفير مختصين في علوم مختلفة، وبهذا تتحقق للمجتمع الكفاية الذاتية، وهو الطريق البارزة لجعل المجتمع قويا حرا، لا يرهبه تهديد معتدٍ، ولا يرغِّبه ترغيب مرغِّب. أما القوة الخارجية فتتمثل في: 1- كل نقاط القوة الداخلية تسهم إسهاما واضحا في القدرة على التعامل الخارجي، وتهيء الفرصة لبناء سياسات خارجية راشدة. 2- أن تتعامل الأمة مع نظائرها من الأمم بندية وعزة وقدرة، لا أن تستخذى وتذل كما نراه في كثير من التعامل اليوم. 3- الإسهام في بناء اتحادات وتكتلات قوية تستطيع من خلالها إحداث التوازن العالمي للأمة المسلمة مع غيرها من الأمم؛ فقد أصبحت الاتحادات والهيئات هي لغة العصر الذي لم يعد يعرف الأفراد ولا العمل الفردي. 4- أن تعمل على تبادل المصالح المشتركة بين الأمم لتحقيق التعاون الإنساني العالمي والتعارف الأممي والتكامل البشري؛ عملا بقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...". سورة الحجرات: 13. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 37. لشيخ الإسلام ابن تيمية . طبعة دار المعرفة. ([2]) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني: 2/ 274-275. دار القلم. دمشق. ([3]) صحيح مسلم: كتاب القدر. باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله. ([4]) شرح النووي على مسلم: 16/ 215. دار إحياء التراث العربي. الطبعة الثانية. 1392هـ. ([5])صحيح مسلم: كتاب الإمارة. باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه. ([6]) شرح النووي على مسلم: 13: 64. ([7]) صحيح البخاري: كتاب الدعوات. بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ. ([8]) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس. ([9]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 4/ 467. رقم (11386). مؤسسة الرسالة. الطبعة الخامسة. 1401هـ. ([10]) قال الهيثمي: رواه البزار، والطبراني في الصغير والأوسط، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات". مجمع الزوائد: 5/ 323. دار الفكر. بيروت. 1412هـ. ([11])السياسة الشرعية: 25. ([12])مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس. ([13]) سبق تخريجه، وهذه الفقرة منقولة من المرجع السابق. ([14])مجمع الزوائد: كتاب الفتن - أعاذنا الله منها. أبواب في وقعتي الجمل وصفين. باب فيما كان بينهم يوم صفين - رضي الله عنهم. ([15]) لم أقف عليه. ([16]) لم أقف عليه. ([17]) عناصر القوة في الإسلام: 3-4. السيد سابق. دار الفتح للإعلام العربي. القاهرة. الطبعة الثانية. 2006م.
القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ 2
د. وصفي عاشور أبو زيد

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

المبحث الثالث
القوة في القرآن الكريم والسنة النبوية:

مما لا شك فيه أن القوة من خصائص الإسلام؛ حيث إنه دين قوي متين { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ}. سورة الحديد: 25. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ } فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف"([1]).

وفي السطور الآتية نحاول استكشاف رؤية القرآن الكريم والسنة النبوية عن القوة.


أولا: القوة في القرآن الكريم:

وردت كلمة "قوة" في القرآن الكريم بمعان مختلفة وفي مواضع وسياقات متنوعة، نورد ما استطعنا الوقوف عليه في الكتاب العزيز فيما يلي:
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) }. البقرة.
{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145) } الأعراف.
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171) } الأعراف.
{قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد } الكهف.
{يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15) } مريم.
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60) } الأنفال.
{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) } التوبة.
{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) } . هود.
{قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80) } لوط.
{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } (92). النحل.
{ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39) }. الكهف.
{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33)}. النمل.
{قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (78) } . القصص.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) } . الروم.
{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54) }. الروم.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) } . فاطر.
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) }. غافر.
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) }. غافر
{فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) }. فصلت.
{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13)}. محمد.
{إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) }. التكوير.
{يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) }. الطارق.


وقفة تأملية في الآيات الكريمة:

ما سبق إيراده هو آيات كريمة جاءت فيها لفظة "قوة" نصًّا، وإذا تأملنا القوة بمعانيها المختلفة ومرادفاتها وجدنا الأمر ذا سعة في القرآن الكريم، واقتصرنا هنا على مواضع ورود لفظتها فقط، وهي مواضع كافية لإبراز معاني القوة في القرآن من خلال مواضعها وسياقاتها، وهي مواضع كثيرة تدلنا على أهمية موضوعها، فمن أمارات أهمية موضوع ما وروده في القرآن الكريم كثيرا، فإن القرآن العظيم لا يُولِي موضوعا ما بمساحة واسعة إلا كان تعبيرا عن أهميته الكبيرة.

ولا يسعنا في هذا المقام أن نتجاوز ما بينه الراغب الأصفهاني في كتابه العظيم مفردات القرآن، وهو يتحدث عن معاني القوة في القرآن، قال: القوة تستعمل تارة في معنى القدرة، نحو قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة/63]، وتارة للتهيؤ الموجود في الشي، نحو أن يقال: النوى بالقوة نخل (أي: يمكنه أن يصير نخلا)، أي: متهيئ ومترشح أن يكون منه ذلك، ويستعمل ذلك في البدن تارة، وفي القلب أخرى، وفي المعاون من خارج تارة، وفي القدرة الإلهية تارة. ففي البدن نحو قوله: {وقالوا من أشد منا قوة} [فصلت/15]، {فأعينوني بقوة} [الكهف/95] فالقوة ههنا قوة البدن بدلالة أنه رغب عن القوة الخارجة، فقال: {ما مكني فيه ربي خير} [الكهف/ 95]، وفي القلب نحو قوله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم/12] أي: بقوة قلب. وفي المعاون من خارج نحو قوله: {لو أن لي بكم قوة} [هود/80] قيل: معناه: من أتقوى به من الجند، وما أتقوى به من المال، ونحو قوله: {قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد} [النمل/33]، وفي القدرة الإلهية نحو قوله: {إن الله قوي عزيز} [المجادلة/21]، {وكان الله قويا عزيزا} [الأحزاب/25] وقوله: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات/58] فعام فيما اختص الله تعالى به من القدرة وما جعله للخلق. وقوله: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود/52] فقد ضمن تعالى أن يعطي كل واحد منهم من أنواع القوى قدر ما يستحقه، وقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير/20] يعني به جبريل عليه السلام، ووصفه بالقوة عند ذي العرش، وأفرد اللفظ ونكره فقال: {ذي قوة} تنبيها أنه إذا اعتبر بالملإ الأعلى فقوته إلى حد ما، وقوله فيه: {علمه شديد القوى} [النجم/5] فإنه وصف القوة بلفظ الجمع، وعرفها تعريف الجنس تنبيها أنه إذا اعتبر بهذا العالم، وبالذين يعلمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة. والقوة التي تستعمل للتهيؤ أكثر من يستعملها الفلاسفة، ويقولونها على وجهين: أحدهما: أن يقال لما كان موجودا ولكن ليس يستعمل، فيقال فلان كاتب بالقوة. أي: معه المعرفة بالكتابة لكنه ليس يستعمل، والثاني: يقال فلان كاتب بالقوة، وليس يعني به أن معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أن يتعلم الكتابة. وسميت المفازة قواء، وأقوى الرجل: صار في قواء (قال الخليل: أرض قواء: لا أهل فيها. العين 5/237)، أي: قفر، وتصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل: أقوى فلان، أي: افتقر، كقولهم: أرمل وأترب. قال الله تعالى: {ومتاعا للمقوين} [الواقعة/73]([2]).

هكذا يبين لنا الراغب معاني القوة في القرآن، أو يقررها ويستشهد لها من القرآن، وقد حصر من معانيها: القدرة، والتهيؤ الموجود في الشيء، سواء استعمل في البدن أو القلب أو المعاون من خارج، والقدرة الإلهية، وجبريل عليه السلام، والافتقار والحاجة، ومع مزيد التأمل في أنواع القوة الموجودة يتبين لنا أن فيها قوة سياسية وقوة اقتصادية وقوة اجتماعية وقوة عسكرية، وغيرها من أنواع القوة.


ثانيا: القوة في السنة النبوية:

أما السنة النبوية فسنقتصر كذلك على إيراد ما نقف عليه فيها مما ورد بنص الكلمة "قوة"، ومن ذلك:

ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([3]).

قال النووي في الشرح: (المؤمن القوي خير) المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها، ونحو ذلك. (وفي كل خير) معناه في كل من القوي والضعيف خيرٌ لاشتراكهما في الإيمان([4]).

وما جاء عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ "([5]).
قال النووي في الشرح: "هذا تصريح بتفسيرها وردّ لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا، وفيه وفي الأحاديث بعده فضيلة الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى وكذلك المشاجعة وسائر أنواع استعمال السلاح وكذا المسابقة بالخيل وغيرها كما سبق في بابه والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك"([6]).

ففي حديث أبي هريرة تحدث عن القوة بشمولها ومختلف أنواعها، فالمؤمن القوي خير؛ حيث أطلق الحديث وصف الخيرية ولم يقيده بنوع من القوة، وفي حديث عامر خصصها بالقوة الحربية العسكرية التي تعين على القتال، وتثمر هزيمة العدو، وتحقق مقاصد الجهاد.

بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة, واسمع ما كان يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه، ويعلمه أصحابه، و يناجي به ربه: (اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال)([7]), ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: ضعف الإرادة بالهم والحزن, وضعف الإنتاج بالعجز والكسل, وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل, وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر؟ فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء, شعاره القوة في كل شيء ؟([8]).

وعن مكحول أن عمر بن الخطاب كتب إلى أهل الشام أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية([9]).

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها"([10]).

كل هذه النصوص من السنة النبوية وأقوال العلماء في شروحها وبيانها تشير إلى أهمية القوة ومكانتها وضرورتها، وبيان آثار وجودها على مستويات الفرد والمجتمع والأمة.

المبحث الرابع
عناصر القوة ومجالاتها

تحدث بعض علمائنا قديما عن القوة وأنواعها ومفاهيمها ومجالاتها؛ فهذا الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية يرحمه الله، يقول: والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمْي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك، كما قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية : [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم.

والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام ، ولأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة] رواه أهل السنن. والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو ظاهر ([11]).

وتحدث الأستاذ الشيخ حسن البنا عن أنواعها ودرجاتها فقال: أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان, ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط, ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح([12]).

ويتنوع الحديث عن أنواع القوة وعناصرها ومجالاتها بحسب الوجهة التي نتجه إليها، أو الزاوية التي ننظر منها، أو المنطلق الذي ننطلق منه.


أولا: فهي بالنظر إلى الفردية والجماعية، تنقسم إلى:

قوة الفرد وقوة الأمة:

فقوة الفرد هي قوة تتصل بالفرد وتكوينه المتنوع، تشمل قوة العقل وقوة النفس وقوة البدن، فقوة العقل تعني تحصيل العلم الدائم وتنمية العقل بمهاراته المختلفة، والحفاظ على هذا بالتعرف الدائم إلى الحقائق، وإلى إثبات القضايا والأفكار وفق قول الله تعالى: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" . البقرة : 111. وقوله: وقوله: "قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا". سورة الأنعام: 148.

وقوة النفس أو الروح تعني تقويتها بالعبادات المتنوعة والشعائر المؤثرة التي جعلها الله وسائل لتنمية الروح وتزكية النفس وترقيق القلب، فقوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه ، كما أنها تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة بما لا نظير له في ثمار قوة أخرى.

وقوة البدن تشمل تقويته بما شرعه الله تعالى حتى يتأهل ليقوم بفرائض الله ويؤدي واجبات الشرع ويحقق المقاصد المشروعة من خلقه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في بيان قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال في سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها, فاختار الله لها زعيما قوي الفكر وقوي الخلق, وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه, فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل في تزكيته طالوت : (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247) .
ولقد شرح رسول الله هذا المعنى في كثير من أحاديثه , وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم , كما حثهم على قوة أرواحهم , فالحديث الصحيح يقول : (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف)([13]) ويقول (إن لبدنك عليك حقا)([14]) . ولقد بين رسول الله للأمة كثيرا من قواعد الصحة العامة وبخاصة في علم الوقاية , وهو أفضل شطري الطب فقوله صلى الله عليه وسلم : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)([15]) وتحريه فيما يشرب من ماء , وفي الحديث: (كان يستعذب الماء)([16]), ونهيه عن البول والتبرز في المياه الراكدة , وإعلانه الحجر الصحي على البلد المطعون وأهله , فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم , وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم , وأخيرا عنايته بكثير من فروع رياضة البدن كالرمي والسباحة والفروسية والعدو , وحث أمته عليها وعلى العناية بها.

وقد وضع الشرع تدابير لهذا كله بما يوجد العقل الراشد، والنفس الزاكية، والبدن القوي، وما يعمل على حفظها واستمرارها محفوظة قوية باقية.
***

وأما قوة الأمة فالمقصود بها أن تصير مرهوبة الجانب قوية الشكيمة، عندها من موارد القوة ومصادرها، ومظاهرها ومنابعها ما يُرْهب أي عدو خارجي أو داخلي، ويمنعه من إيقاع أي عدوان أو ظلم؛ تحقيقا لقول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ". سورة الأنفال: 60.


ثانيا: وهي بالنظر إلى مجالاتها تنقسم إلى:

قوة العقيدة - قوة الخلق - قوة العلم - قوة الاقتصاد - قوة التماسك الاجتماعي - قوة الجهاد .

وقد ألف الشيخ السيد سابق – يرحمه الله – كتابا كاملا عنوانه: "عناصر القوة في الإسلام"، تحدث فيه عن هذه الأنواع من القوة، ورأى أن هذه هي العناصر التي تضمن للإسلام قوته وبقاءه واستمراره.

وحسبنا أن ننقل هنا ما جاء في مقدمته؛ حيث قال:

"دور الأمة الإسلامية دور إمامة وزعامة، وقد أمدها الإسلام بالعناصر التي تؤهلها لهذا المنصب الخطير.. ومن هذا المنصب الخطير تتألف القوة الحقيقية التي تصل بالأمة إلى غايتها، من العزة و المتعة، والمجد و السؤدد، والسيادة والقيادة، والتمكين في الأرض .. وليست هذه العناصر مقصورة على جانب دون جانب، وإنما تتناول جوانب الحياة جميعا فهي تتمثل:

* في الايمان بالله إيمانا يحرر الضمير والوجدان .
* وفي الاعتصام، بالحق استعصاما يزهق أمامه الباطل ويندحر.
* وفي معرفة الضعف النفسي، و التطهر منه، حتى تأخذ النفس طريقها إلى العزة والسمو.
* وفي العلم المقوم لشخصية الإنسان، والكاشف عن حقائق الوجود المادي، وما وراء هذا الوجود من عالم ما وراء الطبيعة.
* وفي الثروة ، وتعمير الأرض، و استثمار قوى الكون والانتفاع بما في الطبيعة، من بركات الله وخيراته، وتوزيعها على أفراد الأسرة الإنسانية بالكفاية والعدل.
* وفي إقامة المجتمع على أساس من الحرية والعدالة، والمساواة والتشريع السمح، والعمل الجاد، والمعاشرة الحسنة، والحكم الصالح التي تكون فيه السيادة للأمة.
* وفي السلام القائم على احترام الإنسان وكفالة حقوقه.
* وفي احترام العهود والحفاظ على المواثيق .
* وفي التضحية النبيلة والاستشهاد في سبيل الحق ومن أجل الحياة الحرة الكريمة.

هذه هي عناصر القوة في الاسلام، وهي ليست مثل القوة التي اصطلح الناس عليها، فهي قوة في العقيدة، وقوة الخلق، وقوة في العلم، وقوة في المال، وقوة في التماسك الاجتماعي، وقوة في التنظيم السلمي، وقوة في الاستعداد الحربي، وسيادة الأمة وقيادتها منوطة بتوفر هذه القوى مجتمعة"([17]).

وقد توسع الشيخ – رحمه الله تعالى - في التأصيل والاستشهاد من نصوص القرآن والسنة لكل قوة من هذه القوى بما يجلي حقيقتها ويوضح مكانتها ويبين أثرها على الفرد والأمة.


ثالثا: وهي بالنظر إلى الداخل والخارج تنقسم إلى:

قوة داخلية وقوة خارجية:

وتتمثل القوة الداخلية في :

1- أن يكون المجتمع قويا متماسكا، من خلال الأسر القوية، التي تعتبر الوحدة الأولى في بناء المجتمع القوي المتماسك، ولا غرو أن يتحدث القرآن الكريم عن الأسرة كما يتحدث عن الدولة!

2- يحتاج الحاكم هنا إلى رعاية الأئمة والخطباء الذين سيرسخون هذا التماسك الاجتماعي، ويحققون الأمن الثقافي والفكري بلا طغيان ولا إخسار، ولا إفراط ولا تفريط، فالدعاة والعلماء هم الضمانة الحقيقية لتحقيق هذا التماسك الداخلي وإيجاد الأمن الفكري، ومن هنا وجب على الدولة أو الحاكم رعايتهم ودعمهم.

3- كذلك لتحقيق القوة الداخلية يجب على الحاكم أن يأخذ على أيدي المجرمين، ويجفف منابع الجريمة، ويقضي على الفكر المتطرف بالحوار الهادئ والنقاش البناء، كما فعل عبد الله بن عباس وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.

4- أن تتحقق الواجبات الكفائية في المجتمع، من طب وهندسة وتصنيع وتجارة وزراعة وإنتاج، وتوفير مختصين في علوم مختلفة، وبهذا تتحقق للمجتمع الكفاية الذاتية، وهو الطريق البارزة لجعل المجتمع قويا حرا، لا يرهبه تهديد معتدٍ، ولا يرغِّبه ترغيب مرغِّب.



أما القوة الخارجية فتتمثل في:

1- كل نقاط القوة الداخلية تسهم إسهاما واضحا في القدرة على التعامل الخارجي، وتهيء الفرصة لبناء سياسات خارجية راشدة.

2- أن تتعامل الأمة مع نظائرها من الأمم بندية وعزة وقدرة، لا أن تستخذى وتذل كما نراه في كثير من التعامل اليوم.

3- الإسهام في بناء اتحادات وتكتلات قوية تستطيع من خلالها إحداث التوازن العالمي للأمة المسلمة مع غيرها من الأمم؛ فقد أصبحت الاتحادات والهيئات هي لغة العصر الذي لم يعد يعرف الأفراد ولا العمل الفردي.

4- أن تعمل على تبادل المصالح المشتركة بين الأمم لتحقيق التعاون الإنساني العالمي والتعارف الأممي والتكامل البشري؛ عملا بقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...". سورة الحجرات: 13.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 37. لشيخ الإسلام ابن تيمية . طبعة دار المعرفة.
([2]) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني: 2/ 274-275. دار القلم. دمشق.
([3]) صحيح مسلم: كتاب القدر. باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله.
([4]) شرح النووي على مسلم: 16/ 215. دار إحياء التراث العربي. الطبعة الثانية. 1392هـ.
([5])صحيح مسلم: كتاب الإمارة. باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه.
([6]) شرح النووي على مسلم: 13: 64.
([7]) صحيح البخاري: كتاب الدعوات. بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ.
([8]) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس.
([9]) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 4/ 467. رقم (11386). مؤسسة الرسالة. الطبعة الخامسة. 1401هـ.
([10]) قال الهيثمي: رواه البزار، والطبراني في الصغير والأوسط، وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات". مجمع الزوائد: 5/ 323. دار الفكر. بيروت. 1412هـ.
([11])السياسة الشرعية: 25.
([12])مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا: من رسالة المؤتمر الخامس.
([13]) سبق تخريجه، وهذه الفقرة منقولة من المرجع السابق.
([14])مجمع الزوائد: كتاب الفتن - أعاذنا الله منها. أبواب في وقعتي الجمل وصفين. باب فيما كان بينهم يوم صفين - رضي الله عنهم.
([15]) لم أقف عليه.
([16]) لم أقف عليه.
([17]) عناصر القوة في الإسلام: 3-4. السيد سابق. دار الفتح للإعلام العربي. القاهرة. الطبعة الثانية. 2006م.
‏٢٢‏/٠٧‏/٢٠١٨ ٩:٠٧ م‏
سيرة شهيد محسن صالح [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] ولد المهندس عمر رفاعي سرور في يناير ١٩٧٦ بمدينة القاهرة. ختم القرآن وحفظ الأربعين النووية في العاشرة من عمره. بدأت أولى مرات اعتقاله وهو فى الصف الثاني الإعدادي، بتهمة الكلام مع المدرسين عن تحكيم الشريعة، أخلي سبيله حينها بعد أسبوعين ليعاد اعتقاله في المرحلة الثانوية عدة مرات بنفس التهمة . بجوار تلمذته على علم أبيه الشيخ رفاعي سرور رحمه الله، حرص على تعلم العلوم الشرعية وحضور مجالس العلم في العقيدة والحديث وغيرها، لكثير من الشيوخ؛ كالشيخ فوزي السعيد والشيخ سيد العربي وغيرهما. التحق بعد الثانوية الأزهرية بكلية الهندسة جامعة الأزهر، وحصل على بكالوريوس الهندسة سنة عام ٢٠٠٣ م. كان حريصا رحمه الله على ربط شباب المنطقة بالمسجد للصلاة، ونشر الوعي بينهم وتحبيب العبادات إليهم، حتى كانت أيام الاعتكاف والتهجد تحت إشرافه من أجمل أيام العمر، كما حكى بعض إخوانه فيما بعد. ليلة زفافه كان مطلوبا من الأمن بعد مناظرة مع أحد مدعي السلفية حول حقيقة الإرجاء وتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله؛ فاضطر أهله لتهريبه هو وعروسه، لكن سرعان ما ضُبط واعتقل حينها شهرا بقسم حدائق القبة . مع احتلال الأمريكان للعراق، ومع انتشار فكرة سفر الشباب للجهاد ودفع الصائل، اعتُقل عمر بتهمة التجهيز للسفر للعراق وتحريض الشباب على السفر للجهاد، كان حينها يبلغ من العمر ٢٦ عاما، اعتقل على هذه الخلفية ٩ سنوات، قضاها ما بين سجن طُرة، وسجن أبي زعبل، وسجن الوادى الجديد. خلال مدة اعتقاله، التحق بكلية أصول الدين، لشغفه بدراسة علم التفسير؛ ليحصل على الليسانس داخل السجن، وبعد ثورة يناير خرج كغيره من المعتقلين من السجن ليكمل مسيرة الدعوة بين الشباب، إلا أنه ركز خلال تلك الفترة على التوعية بخطورة الديمقراطية على الشعوب. إبان الانقلاب العسكري على الشعب المصري، كان عمر على قائمة المطلوبين أمنيا وظل مطاردا لعدة أشهر حتى قرر السفر إلى ليبيا عام ٢٠١٣م. خلال وجوده بليبيا، حرص على جمع الكلمة وتأليف القلوب بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، من خلال جلسات ومناظرات، نجح خلالها بفضل الله في رد كثير من شباب تنظيم الدولة عن الفكر التكفيري، مما أثار حفيظة قادة التنظيم ضده، حتى أصدروا منشورا بتكفيره وإباحة دمه . بعد سيطرة ثوار ليبيا على مدينة درنة سيطرة كاملة، وسحبها من يد حفتر، عيّنه ثوار ليبيا القاضي الشرعي للمدينة، وفورا أسس عمر مجلس شورى المجاهدين بدرنة؛ ليسهل تنظيم وترشيد العمل الجهادي وتدبير أمر المجاهدين. في شهر أبريل ٢٠١٨، اشتد حصار التحالف الصليبي بمعاونة حفتر على مدينة درنة، واشتدت عمليات القصف على المدنيين، فقام عمر وإخوانه بالدفاع عن المدينة رافضين الاستسلام وتسليم المدينة، حتى حكت بعض المواقع الليبية عن عمر قائلةً: "عمر رفاعي يحث الناس في الشوارع على الصمود والثبات في دفع الصائل"! حتى قضى الله لعمر الارتقاء إلى ربه إليه في الاشتباكات، في العاشر من شهر يونيو ٢٠١٨، في ليلة الخامس والعشرين من رمضان.
سيرة شهيد

محسن صالح

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

ولد المهندس عمر رفاعي سرور في يناير ١٩٧٦ بمدينة القاهرة. ختم القرآن وحفظ الأربعين النووية في العاشرة من عمره. بدأت أولى مرات اعتقاله وهو فى الصف الثاني الإعدادي، بتهمة الكلام مع المدرسين عن تحكيم الشريعة، أخلي سبيله حينها بعد أسبوعين ليعاد اعتقاله في المرحلة الثانوية عدة مرات بنفس التهمة .

بجوار تلمذته على علم أبيه الشيخ رفاعي سرور رحمه الله، حرص على تعلم العلوم الشرعية وحضور مجالس العلم في العقيدة والحديث وغيرها، لكثير من الشيوخ؛ كالشيخ فوزي السعيد والشيخ سيد العربي وغيرهما. التحق بعد الثانوية الأزهرية بكلية الهندسة جامعة الأزهر، وحصل على بكالوريوس الهندسة سنة عام ٢٠٠٣ م.

كان حريصا رحمه الله على ربط شباب المنطقة بالمسجد للصلاة، ونشر الوعي بينهم وتحبيب العبادات إليهم، حتى كانت أيام الاعتكاف والتهجد تحت إشرافه من أجمل أيام العمر، كما حكى بعض إخوانه فيما بعد. ليلة زفافه كان مطلوبا من الأمن بعد مناظرة مع أحد مدعي السلفية حول حقيقة الإرجاء وتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله؛ فاضطر أهله لتهريبه هو وعروسه، لكن سرعان ما ضُبط واعتقل حينها شهرا بقسم حدائق القبة .

مع احتلال الأمريكان للعراق، ومع انتشار فكرة سفر الشباب للجهاد ودفع الصائل، اعتُقل عمر بتهمة التجهيز للسفر للعراق وتحريض الشباب على السفر للجهاد، كان حينها يبلغ من العمر ٢٦ عاما، اعتقل على هذه الخلفية ٩ سنوات، قضاها ما بين سجن طُرة، وسجن أبي زعبل، وسجن الوادى الجديد.

خلال مدة اعتقاله، التحق بكلية أصول الدين، لشغفه بدراسة علم التفسير؛ ليحصل على الليسانس داخل السجن، وبعد ثورة يناير خرج كغيره من المعتقلين من السجن ليكمل مسيرة الدعوة بين الشباب، إلا أنه ركز خلال تلك الفترة على التوعية بخطورة الديمقراطية على الشعوب.

إبان الانقلاب العسكري على الشعب المصري، كان عمر على قائمة المطلوبين أمنيا وظل مطاردا لعدة أشهر حتى قرر السفر إلى ليبيا عام ٢٠١٣م.

خلال وجوده بليبيا، حرص على جمع الكلمة وتأليف القلوب بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، من خلال جلسات ومناظرات، نجح خلالها بفضل الله في رد كثير من شباب تنظيم الدولة عن الفكر التكفيري، مما أثار حفيظة قادة التنظيم ضده، حتى أصدروا منشورا بتكفيره وإباحة دمه .

بعد سيطرة ثوار ليبيا على مدينة درنة سيطرة كاملة، وسحبها من يد حفتر، عيّنه ثوار ليبيا القاضي الشرعي للمدينة، وفورا أسس عمر مجلس شورى المجاهدين بدرنة؛ ليسهل تنظيم وترشيد العمل الجهادي وتدبير أمر المجاهدين.

في شهر أبريل ٢٠١٨، اشتد حصار التحالف الصليبي بمعاونة حفتر على مدينة درنة، واشتدت عمليات القصف على المدنيين، فقام عمر وإخوانه بالدفاع عن المدينة رافضين الاستسلام وتسليم المدينة، حتى حكت بعض المواقع الليبية عن عمر قائلةً: "عمر رفاعي يحث الناس في الشوارع على الصمود والثبات في دفع الصائل"! حتى قضى الله لعمر الارتقاء إلى ربه إليه في الاشتباكات، في العاشر من شهر يونيو ٢٠١٨، في ليلة الخامس والعشرين من رمضان.
‏٢٠‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٣٩ م‏
قطع رأس القيادة باتريك جونستون ترجمة مركز حازم [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] أجادل بأن قطع رأس القيادة فعال. ويمكن ربط قطع رأس القيادة ونجاح مكافحة التمرد بأربعة طرق: أولا: إن قتل أو القبض على الزعيم الكاريزمي للمتمردين يمكن أن يكسر الروح المعنوية، أو يضعف عزيمة أتباعه على مواصلة القتال. وتشدد الأدبيات الخاصة بتجنيد المتمردين على مشكلة العمل الجماعي في توليد المشاركة بالعصيان. فعلى الرغم من وجود العديد من الطرق التي يمكن بها التغلب على مشاكل العمل الجماعي، فان الزعيم الكاريزمي الذي يمكنه أن يستجيب للمعايير الاجتماعية والشبكات، يُعد واحد منها. كما أن التخلص من القادة المؤثرين يمكن أن يقوض المشاركة الجماعية في التمرد. حيث يحفز وجود الزعيم الرغبة لدى أتباعه في إرضائه وطاعته، وإزالة الزعيم يمكن أن تضعف التمرد؛ فالمسلحون في دار الإسلام في إندونيسيا، على سبيل المثال، وثقوا في الصفات السحرية لزعيمهم كارتوسويريو . وبعد مقتله، سرعان ما انهار التمرد. وبالمثل، أُخمد التمرد في بورما بعد أن أُعدم زعيم المتمردين البورميين "سايا سان" ، وهو طبيب وساحر، كان قد استقطب دعما شخصيا للتمرد عبر ترويج التكهنات المرتبطة بالألفية والممارسات الشعائرية، وأُعدم في نوفمبر 1931. ثانيا: قتل أو القبض على قادة التمرد يمكن أن يؤدي إلى القضاء على الأصوليين ويترك المجموعة في أيدي قادة أكثر اعتدالا. فإن تمكين المعتدلين على حساب القادة كان دائما استراتيجية تقليدية لمكافحي التمرد والإرهاب. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاستراتيجية غالبا ما يُسعى إليها عبر التفاوض مع المعتدلين وليس قتل المتطرفين، فإن الفائدة المتوقعة لكل منها تتشابه تحليليا. ويمكن أن يؤدي تغيير قيادة الجماعة من المتطرفين إلى المعتدلين، إلى قيام المسلحين بإلقاء أسلحتهم. وقد ساعد قطع رأس الزعيم المتطرف على هدوء بورما خلال الحرب الأنجلو البورمية الثانية عام ١٨٥٠ . إذ ساعد البريطانيون الوريث البورمي على العرش "ميندون مين" على الإطاحة بأخيه الشقيق الملك "باغان مين"، وقد طلب ميندون السلام، وقبِل الحكم البريطاني مقابل السلطة المحلية. ثالثا: إن قتل أو القبض على قيادة التمرد يمكن أن يعيق القدرات العملياتية لحركة التمرد وخاصة التخطيط والتنسيق. وإزالة قيادة التمرد يعرقل التخطيط والعمليات، ويحد من خبرة المجموعة ودرايتها، ويضعف قدرتها على تنسيق الهجمات. فعلى سبيل المثال عندما اعتقل الجيش السريلانكي زعيم متمردي "جبهة التحرير الشعبي" روهانا ويجويرا" في أبريل 1971 تعثرت حملة حرب العصابات التي كان يقودها وينظمها. والواقع أن العديد من الهجمات التي خطط لها ويجيويرا لم تنفذ. وأدى عدم الاتساق التنظيمي لجبهة التحرير الشعبي بعد اعتقال ويجيويرا إلى ترك التمرد عرضة للتدابير الحكومية المضادة، وقد هزمت جبهة التحرير الشعبي بعد فترة وجيزة من القبض على زعيمها. رابعا: عندما يُقبض على قادة التمردات، فإنهم يقبلون أحيانا "الدعوة لعقد تسوية" ويتعهدون بذلك لمكافحي التمرد، ويشجعون أتباعهم على وقف العصيان. وهذا يمكن أن يؤدي بمتمردين آخرين إلى الاستسلام، ويضعف التمرد، ويزيد من احتمال الانتصار المتحتم. وفي الواقع، كانت هذه العملية حاسمة في هزيمة المتمردين الفلبينيين خلال الحرب الفلبينية الأمريكية عام 1902، وفي تهميش حزب العمال الكردي (PKK) بعد اعتقال زعيم الحزب عبد الله أوجلان عام 1998.
قطع رأس القيادة
باتريك جونستون

ترجمة مركز حازم

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

أجادل بأن قطع رأس القيادة فعال. ويمكن ربط قطع رأس القيادة ونجاح مكافحة التمرد بأربعة طرق:

أولا: إن قتل أو القبض على الزعيم الكاريزمي للمتمردين يمكن أن يكسر الروح المعنوية، أو يضعف عزيمة أتباعه على مواصلة القتال. وتشدد الأدبيات الخاصة بتجنيد المتمردين على مشكلة العمل الجماعي في توليد المشاركة بالعصيان. فعلى الرغم من وجود العديد من الطرق التي يمكن بها التغلب على مشاكل العمل الجماعي، فان الزعيم الكاريزمي الذي يمكنه أن يستجيب للمعايير الاجتماعية والشبكات، يُعد واحد منها.

كما أن التخلص من القادة المؤثرين يمكن أن يقوض المشاركة الجماعية في التمرد. حيث يحفز وجود الزعيم الرغبة لدى أتباعه في إرضائه وطاعته، وإزالة الزعيم يمكن أن تضعف التمرد؛ فالمسلحون في دار الإسلام في إندونيسيا، على سبيل المثال، وثقوا في الصفات السحرية لزعيمهم كارتوسويريو . وبعد مقتله، سرعان ما انهار التمرد. وبالمثل، أُخمد التمرد في بورما بعد أن أُعدم زعيم المتمردين البورميين "سايا سان" ، وهو طبيب وساحر، كان قد استقطب دعما شخصيا للتمرد عبر ترويج التكهنات المرتبطة بالألفية والممارسات الشعائرية، وأُعدم في نوفمبر 1931.

ثانيا: قتل أو القبض على قادة التمرد يمكن أن يؤدي إلى القضاء على الأصوليين ويترك المجموعة في أيدي قادة أكثر اعتدالا. فإن تمكين المعتدلين على حساب القادة كان دائما استراتيجية تقليدية لمكافحي التمرد والإرهاب. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاستراتيجية غالبا ما يُسعى إليها عبر التفاوض مع المعتدلين وليس قتل المتطرفين، فإن الفائدة المتوقعة لكل منها تتشابه تحليليا. ويمكن أن يؤدي تغيير قيادة الجماعة من المتطرفين إلى المعتدلين، إلى قيام المسلحين بإلقاء أسلحتهم. وقد ساعد قطع رأس الزعيم المتطرف على هدوء بورما خلال الحرب الأنجلو البورمية الثانية عام ١٨٥٠ . إذ ساعد البريطانيون الوريث البورمي على العرش "ميندون مين" على الإطاحة بأخيه الشقيق الملك "باغان مين"، وقد طلب ميندون السلام، وقبِل الحكم البريطاني مقابل السلطة المحلية.

ثالثا: إن قتل أو القبض على قيادة التمرد يمكن أن يعيق القدرات العملياتية لحركة التمرد وخاصة التخطيط والتنسيق. وإزالة قيادة التمرد يعرقل التخطيط والعمليات، ويحد من خبرة المجموعة ودرايتها، ويضعف قدرتها على تنسيق الهجمات. فعلى سبيل المثال عندما اعتقل الجيش السريلانكي زعيم متمردي "جبهة التحرير الشعبي" روهانا ويجويرا" في أبريل 1971 تعثرت حملة حرب العصابات التي كان يقودها وينظمها. والواقع أن العديد من الهجمات التي خطط لها ويجيويرا لم تنفذ. وأدى عدم الاتساق التنظيمي لجبهة التحرير الشعبي بعد اعتقال ويجيويرا إلى ترك التمرد عرضة للتدابير الحكومية المضادة، وقد هزمت جبهة التحرير الشعبي بعد فترة وجيزة من القبض على زعيمها.

رابعا: عندما يُقبض على قادة التمردات، فإنهم يقبلون أحيانا "الدعوة لعقد تسوية" ويتعهدون بذلك لمكافحي التمرد، ويشجعون أتباعهم على وقف العصيان. وهذا يمكن أن يؤدي بمتمردين آخرين إلى الاستسلام، ويضعف التمرد، ويزيد من احتمال الانتصار المتحتم. وفي الواقع، كانت هذه العملية حاسمة في هزيمة المتمردين الفلبينيين خلال الحرب الفلبينية الأمريكية عام 1902، وفي تهميش حزب العمال الكردي (PKK) بعد اعتقال زعيم الحزب عبد الله أوجلان عام 1998.
‏١٨‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٤٨ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (4) سجلها عنه وحررها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] - أول تحقيق في أمن الدولة حين كنت بالصف الأول الثانوي - عندما فهمت معنى الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] كان مقياسُ الدولة الإسلامية عندي مُنحصرا في ثياب النساء وفي الرِّشوة وفي المحسوبية، ففي تلك المدة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا، فلا يمكن أن تقضي حاجةً لك دون أن تدفع رِشوة، أو تكون لك واسطة. كان تقديري حينذاك أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حفظت خمسة عشر جزءًا من القرآن خلال التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في صحيح مسلم. يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسًا أوَّلًا للغة العربية، وكان حافظاً لكتاب الله، ولاحظ أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي، فكنا -أنا وهو- نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاثَ فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة، نشرة أخبار. في كل يوم سبت أُجهِّز بَرنامج الإذاعة، أختار الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأُعدُّ الكلمة. كانت لدى الأستاذ عيد نسخةٌ من صحيح مسلم، وكان يُعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يُحفِّظني إياها أحيانا، وربما طلب مني أن أختار حديثا ثم أقرأَه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن هنا صارت لدي ثروةُ أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكَّر وأتدبَّر وتتشكَّل عندي من حصيلتها رؤيةٌ وأفكار. ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة: "سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اِخترت لحديث الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصفه الذي يَنْهَى عن التبرج لكن لم أفهم نصفه الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، إذ كانت كُلُّ نساء المدرسة متبرجات. غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام. كانت إكرام مُدرِّسةَ الدراسات الاجتماعية لصفِّنا "الأول الثانوي"! وكانت مُغرَقةً في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجةَ ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها المقصودة به. ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في اليوم نفسه وشهدتْ اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت أثناء الشرح بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا: - أعتقد -يا أستاذة- أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام. - من قال لك هذا الكلام؟ - لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه. ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثَمَّ ترسَّخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يُقوِّمُه. في اليوم التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!! حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي "عايزينك في كوم إمبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز إدفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الله رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء. تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك مدة طويلة، طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول إن كانت على غلام يافع صغير لم يَخبُر من الدنيا مَخُوفاتِها! ثم أدخلوني إلى التحقيق: - من قال لك حديث فرعونَ الذي كان على مجلة الحائط؟ وماذا تقصد به؟ - لا أتذكَّر أين قرأته ولكنَّه أعجبني. - وماذا تقصد به؟ - لم أقصد به شيئا معيَّنا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم إذا لم يعترض عليه أحد يكون فرعون. - كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟ - لا تحتاج إلى من يُعرِّفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني أتماسك وأكابر). - وحديث النساء العاريات؟! - هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع، وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن! - هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟! أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون الجريمة ويحمون البلد من السرقة. - لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!! شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يُؤثِّر عليَّ أو يوجِّهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرَّف على الحياة ويستقبلها بفطرته السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما تيقَّن من هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي. رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور بالأمان. صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل عليَّ الناظرُ فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني، أنت متفوق، وأنت ابننا، ونحن نحبك، لا تُدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وانتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة. في المدرسة الثانوية شكَّلت مجموعة من الطلاب، كنا أحد عشر طالبا وكنت زعيمَهم رغمَ أني في الصف الأول الثانوي وبينهم مَن هو في الصف الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعُهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة كرياض الصالحين، وأتذكر كتابا أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة الإسلامية المنشودة. لم يعرف أحد نيتنا هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إليَّ ابنه عليًّا لأذهب إليه ببيته، وقال لي بأني أُعرِّض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف أن يتقدَّم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة مدرسية" يكون هو مُقرِّرَها، واقترح أن نُسمِّيَها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهكذا تُسبغ على المجموعة صفةٌ شرعية رسمية وتكون مندرجةً ضمن نظام الأسر المدرسية بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحَّبتُ لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على بال، ولم أُطلعه على غرضنا منها، دخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة". ....
مذكرات الشيخ رفاعي طه (4)

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

- أول تحقيق في أمن الدولة حين كنت بالصف الأول الثانوي

- عندما فهمت معنى الحديث النبوي من ضابط أمن الدولة

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

كان مقياسُ الدولة الإسلامية عندي مُنحصرا في ثياب النساء وفي الرِّشوة وفي المحسوبية، ففي تلك المدة كانت هذه الثلاثة شائعات جدا، فلا يمكن أن تقضي حاجةً لك دون أن تدفع رِشوة، أو تكون لك واسطة. كان تقديري حينذاك أن الدولة الإسلامية ستقضي على هذه الأمور، وقد كنت حفظت خمسة عشر جزءًا من القرآن خلال التزامي بالكُتَّاب، وكنت أقرأ كذلك في كتب الحديث، وأتذكر قراءتي في صحيح مسلم.

يرجع الفضل في قراءتي كتب الحديث المختصرة إلى الأستاذ عيد الرافعي، كان مدرسًا أوَّلًا للغة العربية، وكان حافظاً لكتاب الله، ولاحظ أنني شاب متدين فكأنه كان يتبناني، وكان لي زميل في المدرسة الثانوية اسمه علي، فكنا -أنا وهو- نجلس كثيرا إلى الأستاذ عيد الرافعي، وكان يطلب مني تحضير حديث الصباح في الإذاعة المدرسية، ولم تكن حينها إلا ثلاثَ فقرات: حديث شريف، كلمة قصيرة، نشرة أخبار.

في كل يوم سبت أُجهِّز بَرنامج الإذاعة، أختار الطالب الذي سيلقي نشرة الأخبار، وأختار الحديث، وأُعدُّ الكلمة. كانت لدى الأستاذ عيد نسخةٌ من صحيح مسلم، وكان يُعطيني منها بعض الأحاديث لأحفظها، أو يُحفِّظني إياها أحيانا، وربما طلب مني أن أختار حديثا ثم أقرأَه عليه كي يصحح لي فلا أخطئ فيه، ومن هنا صارت لدي ثروةُ أحاديث في مرحلة يمكن فيها أن أتفكَّر وأتدبَّر وتتشكَّل عندي من حصيلتها رؤيةٌ وأفكار.

ذات يوم وقعت عيني على الحكمة القائلة: "سُئل فرعون: من فرعنك؟ قال: حين لم أجد من يردني ويصدني"، فأعجبتني للغاية فوضعتها من فوري على مجلة حائط المدرسة. وفي اليوم التالي اِخترت لحديث الصباح حديثا لم أكن أفهم إلا نصفه فقط، ولم يكن الأستاذ عيد يعلم أني سأقوله، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة.. الحديث". كنت أفهم نصفه الذي يَنْهَى عن التبرج لكن لم أفهم نصفه الأول، وقد كان غرضي من إلقائه هو مسألة التبرج، إذ كانت كُلُّ نساء المدرسة متبرجات.

غير أن كلامي أصاب منهن واحدة بعينها دون أن أقصد.. تلك هي: الأستاذة إكرام.
كانت إكرام مُدرِّسةَ الدراسات الاجتماعية لصفِّنا "الأول الثانوي"! وكانت مُغرَقةً في التبرج، والأهم من ذلك أنها كانت زوجةَ ضابط مباحث قسم الشرطة في المركز، فإذا بها تُنْزل كلامي على نفسها، وتحسب أنها المقصودة به.

ومن عجائب اليوم أن حصتها علينا كانت في اليوم نفسه وشهدتْ اشتباكا بيننا لم أقصده ولم يخطر ببالي أيضا، لقد قالت أثناء الشرح بأن اللغة العربية هي المسؤولة عن نشر الإسلام في الوطن العربي، فلفت نظري ما تقول، ولم أكن قرأت شيئا في الموضوع من قبل، لكن وجدتني أرد عليها قائلا:

- أعتقد -يا أستاذة- أن الإسلام هو سبب نشر اللغة العربية وليس العكس فالعرب أنفسهم لم يكونوا معروفين قبل الإسلام.
- من قال لك هذا الكلام؟
- لم يقله لي أحد، ولكن هذا ما أفهمه.

ظلت تجادلني وأجادلها في الموضوع، فتأكد لديها أنني أتقصدها وأشاكسها، ومن ثَمَّ ترسَّخ عندها أني أقصدها بالحديث الذي ألقيته عن التبرج صباح اليوم. ثم لا أدري إن كانت هي أم غيرها من ربط هذا بالحكمة التي كتبتها في مجلة الحائط عن الفرعون الذي لم يجد من يرده ولا من يُقوِّمُه. في اليوم التالي وجدتني مطلوبا لأمن الدولة!!
حضر إلى المدرسة المخبر سيد وقال لي "عايزينك في كوم إمبو"، حيث مقر أمن الدولة إذ لم يكن لهم مقر في مركز إدفو، فتفجر في صدري خوف شديد، لماذا أنا؟ ماذا فعلت؟ وما الذي حصل؟.. ثم إني ذهبت.. ذهبت وحدي، فقد كان أبي -رحمه الله رحمة واسعة- يتخوف من تلك الأشياء.

تركوني أربع ساعات منتظرا، وتلك مدة طويلة، طويلة على المنْتَظِر، وهي أطول منها على المنتظر الخائف المترقب، وهي أطول وأطول إن كانت على غلام يافع صغير لم يَخبُر من الدنيا مَخُوفاتِها! ثم أدخلوني إلى التحقيق:

- من قال لك حديث فرعونَ الذي كان على مجلة الحائط؟ وماذا تقصد به؟
- لا أتذكَّر أين قرأته ولكنَّه أعجبني.
- وماذا تقصد به؟
- لم أقصد به شيئا معيَّنا، فقط أعجبتني الفكرة: الحاكم إذا لم يعترض عليه أحد يكون فرعون.
- كيف تعرف أنت هذه الأمور؟ من قال لك هذا الكلام؟
- لا تحتاج إلى من يُعرِّفني، أي حاكم إذا لم نعترض عليه يكون مثل فرعون! (كنت خائفا، لكني أتماسك وأكابر).
- وحديث النساء العاريات؟!
- هذا حديث عن البنات التي تمشي متبرجة في الشارع، وسبحان الله، لقد وصف النبي حالهن تماما كأنه معنا الآن!
- هل قصدت به أستاذة إكرام زوجة ضابط المباحث؟! أنت لا تحترم أستاذتك، ولا تحترم الرجل الذي يجتهد لحماية البلد.. ضباط المباحث يقاومون الجريمة ويحمون البلد من السرقة.
- لم أقصد هذا المعنى أبدا.. لكن الحقيقة أنك الآن شرحت لي النصف الذي لم أفهمه من الحديث، سبحان الله! حقا ضباط المباحث هم كما وصف النبي بيدهم سياط كأذناب البقر ويضربون بها الناس!!

شعر الضابط من التحقيق أنني أتكلم من تلقاء نفسي، وأنه ليس ثمة أحد يُؤثِّر عليَّ أو يوجِّهني، وأنني غير مندرج في أي نشاط جماعي أو ما شابه.. كنت أتحدث معه ببراءة الغلام الذي يتعرَّف على الحياة ويستقبلها بفطرته السليمة، ويتفهم ما فيها من المعاني والأحداث بنفسه رويدا رويدا. عندما تيقَّن من هذا قال لي: أنت طيب يا رفاعي، وهذا رقم هاتفي، وإذا أردت أي شيء اتصل بي.

رجعت إلى البيت، ولم أهتم بما قال، لكن المهم أن الخوف المهيمن على أجواء الأسرة انقشع حين وصلتُ، وبدأ يتسرب إليها من جديد الشعور بالأمان.

صباح اليوم التالي في المدرسة أقبل عليَّ الناظرُ فسألني: ماذا فعلوا معك بالأمس؟ فقصصت عليه ما كان، فقال لي: يا بني، أنت متفوق، وأنت ابننا، ونحن نحبك، لا تُدخل نفسك في مثل هذه الأمور. فقلت له: لم يحدث شيء، فقط سألوني من أين جئت بهذا الحديث وأجبته وانتهى الأمر. ولقد كان اللافت للنظر أن الأستاذ عيد الرافعي لم يمنعني من الحديث في الإذاعة.

في المدرسة الثانوية شكَّلت مجموعة من الطلاب، كنا أحد عشر طالبا وكنت زعيمَهم رغمَ أني في الصف الأول الثانوي وبينهم مَن هو في الصف الثاني والثالث الثانوي، فكنت أجمعُهم في وقت الراحة بين الحصص الدراسية ونجلس في المسجد لنقرأ ما نجده مفيدا من كتب في مكتبة المدرسة كرياض الصالحين، وأتذكر كتابا أعجبني للغاية وقتها هو "المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، فكنت أقرأ منه على المجموعة. لكن الغرض الخفي الذي جَمَعَنا واتفقنا عليه هو أننا سندخل الكلية العسكرية لنكون ضباطا في الجيش، وننفذ انقلابا عسكريا نقيم به الدولة الإسلامية المنشودة.

لم يعرف أحد نيتنا هذه، لكن الأستاذ عيد الرافعي خشي علينا من مجرد الاجتماع والقراءة في كتب دينية، فأرسل إليَّ ابنه عليًّا لأذهب إليه ببيته، وقال لي بأني أُعرِّض نفسي للمشكلات بمثل هذه الطريقة، واقترح إنقاذا للموقف أن يتقدَّم هو بصفته مدرس اللغة العربية للمدرسة لتحويل تلك المجموعة إلى "أسرة مدرسية" يكون هو مُقرِّرَها، واقترح أن نُسمِّيَها "مجموعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فهكذا تُسبغ على المجموعة صفةٌ شرعية رسمية وتكون مندرجةً ضمن نظام الأسر المدرسية بإشراف مدرس وبإذن الناظر، ورحَّبتُ لا شك بالفكرة والاقتراح التي لم تخطر لي على بال، ولم أُطلعه على غرضنا منها، دخول الكلية الحربية.. وهكذا صار لنا غرض معلن وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المدرسة".

....
‏١٥‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١١:٣٢ م‏
الأنفاق السورية المفخخة: أحدث صيحات المقاومة كرم الحفيان [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] مقدمة مع الفجوة الحضارية الكبيرة بين الأمة الإسلامية وأعدائها الدوليين، ومع الحظر المفروض على شعوب الأمة في مجال التطور العلمي والتكنولوجي وانعكاساته على مسار الصراعات العسكرية مع قوات الاحتلال الخارجي، وأدواته من الأنظمة المحلية الموالية له والمخولة بقمع أي ثورة أو حركة تغيير، برزت إشكالية كبيرة في ميادين الجهاد والثورة تتمثل في كيفية إبداع وابتكارأسلحة نوعية وتكتيكات قتالية تحقق شيئاً من التوازن في الرعب وتحاكي القوة التدميرية الهائلة المستخدمة من العدو (خاصة الطيران) لتسهم في معركة التحرير. كانت البداية الحقيقية من فلسطين في تسعينيات القرن الماضي عبر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، عن طريق استخدام الأحزمة الناسفة والعربات المفخخة في العمق الإسرائيلي، أو ما عُرف لاحقاً "بالعمليات الاستشهادية"، ثم تبعتها التنظيمات الجهادية وطورت هذه الآلية واستخدمتها بكثرة خاصة في العراق، وفيما بعد ونتيجة لتراكم الخبرات لمعت حماس في الكر والفر والمراوغة وتحييد سلاح الجو في المعارك، عبر إدارة "حرب الأنفاق" بطريقة مذهلة في ثلاثة حروب متتالية مع إسرائيل، من 2008م إلى 2014م، مجهضةً كل محاولات اقتحام غزة واحتلالها. أما الجديد الذي قدمته الثورة السورية في هذا المجال وبشكل غير مسبوق كماً وكيفاً: تحويل ما تحفره من أنفاق ضخمة إلى زلازل وبراكين متفجرة مقتلعةً معسكرات كاملة لجيش النظام وحلفائه، ومسهمةً في حسم معارك هامة ومحررةً بمجرد التلويح بهذا السلاح (أحياناً)، ما استعصى حتى على أثقل الأسلحة وأجرأ العمليات الاستشهادية! في خضم الانتصارات الكبيرة للثورة في الشمال السوري عام 2015م، وبعد تحرير أغلب مدينة جسر الشغوربمحافظة إدلب في أبريل بأقل من 72 ساعة، انحاز 300 من كبار ضباط وعساكر النظام إلى المشفى الوطني في المدينة وتحصنوا به بشكل جيد، ولم تفلح جميع محاولات الاقتحام المتكررة خلال 25 يوماً رغم الاستعانة بالسلاح الثقيل والاستشهاديين. وواكبت التطورات الأخيرة حملة إعلامية ضخمة من قبل النظام وصلت لحد تعهد بشار الأسد بفك حصارجنوده ، إلا أن أبو عيسى الشيخ (أحد أهم قادة الثورة) كان له رأي آخر صاغه في تغريدة على حسابه التويتري مبشراً الثوار بزيارة أبي مصعب شنان "وزيرالأنفاق" لتفقد المنطقة والإشراف على حفر نفق وتفجيره في الضباط والجنود المحاصرين ، الأمر الذي أثار رعب عساكر النظام ودفعهم للفرار في عدة اتجاهات ليُصاد أكثرهم (من وُثقّوا بالاسم 208 ) في كمائن أعدها المجاهدون سلفاً، منهم لواء و11عميداً و11عقيداً و9 رواد وغيرهم من مختلف الرتب، إضافة إلى أسر ما يربو عن الأربعين . أحال أبو مصعب شنان وفريق عمله العديد من معسكرات وحصون النظام أثراً بعد عين، في مقدمتها حاجز الصحابة (المؤلف من ثلاثة مراكز عسكرية) في معسكر وادي الضيف بإدلب. استغرقت العملية خمسين يوماً من العمل المتواصل لستين مجاهداً قاموا بحفر نفقٍ وحشوه بأربعين طناً من المتفجرات ليقتلوا العشرات من جنود النظام ويزيلوا الحاجز بشكل كامل في صورة أشبه بزلزال أرضي عنيف . في محافظة إدلب أيضاً، تكفّل 150 مجاهداً (بقيادة وإشراف أبي مصعب) بعد 11 شهراً من الحفر والعمل الدؤوب بنسف معسكر الفنار بجبل الأربعين لتتحرر بعدها معسكرات وحواجز أخرى، وصولاً إلى السيطرة على مدينة أريحا. لم يختلف الوضع كثيراً في مدينة حلب التي شهدت أحياؤها القديمة جملة من الهجمات المتتابعة بأنفاق الثورة المتفجرة، أشهرها عملية فندق الكارلتون (بعد أن حوله جيش النظام لقاعدة له)، إضافةً إلى إزالة مبنى القيادة قرب كتيبة الصواريخ في "خان طومان" بريف حلب، وغيرها من العمليات الحاسمة في معارك الثورة الكبري. الملفت للنظر هو التطورالسريع في قدرات وإنجازات الثوار في مجال الأنفاق الحربية، فبعد أن كانت البداية بدائية بنفق طوله 75 متراً فقط، استطاع الثوار وفي فترة وجيزة الارتقاء بالعمل ليستطيعوا حفر ما طوله ثلاثة كيلومترات في باطن الأرض، إضافة إلى إدخال الاتصالات والأوكسجين اللازم لمواصلة العمل في النفق على مدار الساعة. ولا يخفى على المراقبين لشؤون الثورة العسكرية أن حركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام كانا من أهم أسباب هذه النقلة الكبيرة، سواءً في الشمال كما ذكر أبو مصعب شنان في عدة لقاءات تلفزيونية (وإن لم يسمهم واكتفى بقول: إخوتنا في غزة)، وذلك بتقديم الاستشارات عن بعد ، أو في الجنوب وتحديداً في بعض الأحياء الدمشقية التي يقطنها فلسطينيون بينهم مقاتلون من كتائب القسام (من قبل الثورة) أسهموا في تدريب الثوار السوريين (بعد الثورة)، وباستخدام خبرتهم في حفر أنفاق تُوصل الثوار إلى مركز العاصمة دمشق . وتجدر الإشارة هنا إلى نقطتين هامتين: الأولى: ضرورة نقل الخبرات العسكرية إلى الثوار والمجاهدين في مختلف بلاد الإسلام؛ لتوفير وقت ودماء المسلمين وللإسهام في رفع مستوى الجميع، وهو ما فعلته حماس والقسام رغم حصارها جغرافياً وسياسياً ومالياً. الثانية: التعويل على الأفعال أكثر من الأقوال، فأحياناً قد تصدر تصريحات سياسية (تحت ضغط الأعداء الكثر وقلة الحلفاء والحصار) لحركة إسلامية تبدو في غاية السوء كمدح بعض الأنظمة المجرمة، إلا أن الأفعال تبقى هي المعيار الأهم والميزان الأكثرعدلاً وأهميةً في تقييم أداء هذه الحركات ومشروعها. وبالانتقال إلى حي جوبر الدمشقي أحد أساطير الثبات والإبداع في الثورة، فقد تمكن مجاهدوه المثابرون من إنشاء شبكة ضخمة متصلة من الأنفاق دفعت بعض الإعلاميين لوصفها بالمدينة تحت الأرض، وأدت لتحييد الطيران الروسي بعد اقتناعه بعدم جدوى قصف المنطقة . هذا الأمر أعطى قوة وقيمة إضافية وأريحية بالتحرك لثوارجوبر، استغلوها أحسن ما يكون عبر نصب الكثير من الكمائن في هيئة أنفاق متفجرة واستدراج قوات النظام لها ، مما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوف النظام وكسر إرادة القتال عند جنوده ، ولم يستطع النظام طوال سنوات الحرب تحقيق أي تقدم ملموس على الحي الواقع داخل العاصمة، والذي لم يسقط إلا من فترة قريبة جداً بعد انهيار جميع مناطق الغوطة الشرقية التي كانت تشكل امتداده وعمقه . أحد الكمائن المتفجرة التي استهدفت النظام بحي جوبر الدمشقي، 2018م ولتوضيح مستوى الدمار الهائل الذي تستطيع أن تحدثه الأنفاق المتفجرة في الحروب وتأثيرها على الأعداء في بعض الأحيان، لا يسعنا إلا أن نستذكر مقتل 10,000 جندي ألماني في ليلة واحدة بتفجير19 نفقاً مفخخاً من قبل الجيش البريطاني مساء 7 يونيو 1917م أثناء الحرب العالمية الأولى. استغرق التحضير لهذه العملية الجبارة سنتين من العمل الشاق والحفر والتجهيز وصُنفت على أنها الانفجار الأعنف في العالم إذا استثنينا القنابل النووية، بل إن بعض الدول ظنت المسألة زلزالاً وكارثة طبيعية !. خاتمة تنوعت أهداف وأدوار الأنفاق المتفجرة في الثورة السورية، فمن ناحية أسهمت في صنع حالة من التوازن في الرعب مع النظام وحلفائه على الأرض، من خلال قدرتها التدميرية الهائلة، ومن ناحية أخرى كان لها دور فعال وجبار في المعارك الهجومية والدفاعية، وكانت سبباً مباشراً في تحرير مناطق والحفاظ على مناطق أخرى، غير أن النقطة الأهم والأبرز مع وجود أو فقدان ما سبق (نتيجة سياسة الأرض المحروقة التي تخوضها القوى العالمية ضدنا، عندما تعجز الأنظمة المحلية الموالية لها، ونتيجة ضعف الجانب السياسي عند مجمل الثوار وأسباب أخرى) هي ترسيخ ثقافة التوكل على الله والاعتماد على النفس وبذل أقصى الجهد في التطوير المستمر للذات والقدرات، أثناء المعارك الحالية التي تخوضها بعض الشعوب الإسلامية لتحرير الأرض والإنسان، دون اتكال على الآخر وبلا رفض للمساعدة إن وجدت.
الأنفاق السورية المفخخة: أحدث صيحات المقاومة

كرم الحفيان

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

مقدمة

مع الفجوة الحضارية الكبيرة بين الأمة الإسلامية وأعدائها الدوليين، ومع الحظر المفروض على شعوب الأمة في مجال التطور العلمي والتكنولوجي وانعكاساته على مسار الصراعات العسكرية مع قوات الاحتلال الخارجي، وأدواته من الأنظمة المحلية الموالية له والمخولة بقمع أي ثورة أو حركة تغيير، برزت إشكالية كبيرة في ميادين الجهاد والثورة تتمثل في كيفية إبداع وابتكارأسلحة نوعية وتكتيكات قتالية تحقق شيئاً من التوازن في الرعب وتحاكي القوة التدميرية الهائلة المستخدمة من العدو (خاصة الطيران) لتسهم في معركة التحرير.

كانت البداية الحقيقية من فلسطين في تسعينيات القرن الماضي عبر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، عن طريق استخدام الأحزمة الناسفة والعربات المفخخة في العمق الإسرائيلي، أو ما عُرف لاحقاً "بالعمليات الاستشهادية"، ثم تبعتها التنظيمات الجهادية وطورت هذه الآلية واستخدمتها بكثرة خاصة في العراق، وفيما بعد ونتيجة لتراكم الخبرات لمعت حماس في الكر والفر والمراوغة وتحييد سلاح الجو في المعارك، عبر إدارة "حرب الأنفاق" بطريقة مذهلة في ثلاثة حروب متتالية مع إسرائيل، من 2008م إلى 2014م، مجهضةً كل محاولات اقتحام غزة واحتلالها.


أما الجديد الذي قدمته الثورة السورية في هذا المجال وبشكل غير مسبوق كماً وكيفاً: تحويل ما تحفره من أنفاق ضخمة إلى زلازل وبراكين متفجرة مقتلعةً معسكرات كاملة لجيش النظام وحلفائه، ومسهمةً في حسم معارك هامة ومحررةً بمجرد التلويح بهذا السلاح (أحياناً)، ما استعصى حتى على أثقل الأسلحة وأجرأ العمليات الاستشهادية!

في خضم الانتصارات الكبيرة للثورة في الشمال السوري عام 2015م، وبعد تحرير أغلب مدينة جسر الشغوربمحافظة إدلب في أبريل بأقل من 72 ساعة، انحاز 300 من كبار ضباط وعساكر النظام إلى المشفى الوطني في المدينة وتحصنوا به بشكل جيد، ولم تفلح جميع محاولات الاقتحام المتكررة خلال 25 يوماً رغم الاستعانة بالسلاح الثقيل والاستشهاديين.

وواكبت التطورات الأخيرة حملة إعلامية ضخمة من قبل النظام وصلت لحد تعهد بشار الأسد بفك حصارجنوده ، إلا أن أبو عيسى الشيخ (أحد أهم قادة الثورة) كان له رأي آخر صاغه في تغريدة على حسابه التويتري مبشراً الثوار بزيارة أبي مصعب شنان "وزيرالأنفاق" لتفقد المنطقة والإشراف على حفر نفق وتفجيره في الضباط والجنود المحاصرين ، الأمر الذي أثار رعب عساكر النظام ودفعهم للفرار في عدة اتجاهات ليُصاد أكثرهم (من وُثقّوا بالاسم 208 ) في كمائن أعدها المجاهدون سلفاً، منهم لواء و11عميداً و11عقيداً و9 رواد وغيرهم من مختلف الرتب، إضافة إلى أسر ما يربو عن الأربعين .


أحال أبو مصعب شنان وفريق عمله العديد من معسكرات وحصون النظام أثراً بعد عين، في مقدمتها حاجز الصحابة (المؤلف من ثلاثة مراكز عسكرية) في معسكر وادي الضيف بإدلب. استغرقت العملية خمسين يوماً من العمل المتواصل لستين مجاهداً قاموا بحفر نفقٍ وحشوه بأربعين طناً من المتفجرات ليقتلوا العشرات من جنود النظام ويزيلوا الحاجز بشكل كامل في صورة أشبه بزلزال أرضي عنيف .


في محافظة إدلب أيضاً، تكفّل 150 مجاهداً (بقيادة وإشراف أبي مصعب) بعد 11 شهراً من الحفر والعمل الدؤوب بنسف معسكر الفنار بجبل الأربعين لتتحرر بعدها معسكرات وحواجز أخرى، وصولاً إلى السيطرة على مدينة أريحا.

لم يختلف الوضع كثيراً في مدينة حلب التي شهدت أحياؤها القديمة جملة من الهجمات المتتابعة بأنفاق الثورة المتفجرة، أشهرها عملية فندق الكارلتون (بعد أن حوله جيش النظام لقاعدة له)، إضافةً إلى إزالة مبنى القيادة قرب كتيبة الصواريخ في "خان طومان" بريف حلب، وغيرها من العمليات الحاسمة في معارك الثورة الكبري.

الملفت للنظر هو التطورالسريع في قدرات وإنجازات الثوار في مجال الأنفاق الحربية، فبعد أن كانت البداية بدائية بنفق طوله 75 متراً فقط، استطاع الثوار وفي فترة وجيزة الارتقاء بالعمل ليستطيعوا حفر ما طوله ثلاثة كيلومترات في باطن الأرض، إضافة إلى إدخال الاتصالات والأوكسجين اللازم لمواصلة العمل في النفق على مدار الساعة.

ولا يخفى على المراقبين لشؤون الثورة العسكرية أن حركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام كانا من أهم أسباب هذه النقلة الكبيرة، سواءً في الشمال كما ذكر أبو مصعب شنان في عدة لقاءات تلفزيونية (وإن لم يسمهم واكتفى بقول: إخوتنا في غزة)، وذلك بتقديم الاستشارات عن بعد ، أو في الجنوب وتحديداً في بعض الأحياء الدمشقية التي يقطنها فلسطينيون بينهم مقاتلون من كتائب القسام (من قبل الثورة) أسهموا في تدريب الثوار السوريين (بعد الثورة)، وباستخدام خبرتهم في حفر أنفاق تُوصل الثوار إلى مركز العاصمة دمشق .

وتجدر الإشارة هنا إلى نقطتين هامتين:

الأولى: ضرورة نقل الخبرات العسكرية إلى الثوار والمجاهدين في مختلف بلاد الإسلام؛ لتوفير وقت ودماء المسلمين وللإسهام في رفع مستوى الجميع، وهو ما فعلته حماس والقسام رغم حصارها جغرافياً وسياسياً ومالياً.

الثانية: التعويل على الأفعال أكثر من الأقوال، فأحياناً قد تصدر تصريحات سياسية (تحت ضغط الأعداء الكثر وقلة الحلفاء والحصار) لحركة إسلامية تبدو في غاية السوء كمدح بعض الأنظمة المجرمة، إلا أن الأفعال تبقى هي المعيار الأهم والميزان الأكثرعدلاً وأهميةً في تقييم أداء هذه الحركات ومشروعها.

وبالانتقال إلى حي جوبر الدمشقي أحد أساطير الثبات والإبداع في الثورة، فقد تمكن مجاهدوه المثابرون من إنشاء شبكة ضخمة متصلة من الأنفاق دفعت بعض الإعلاميين لوصفها بالمدينة تحت الأرض، وأدت لتحييد الطيران الروسي بعد اقتناعه بعدم جدوى قصف المنطقة .

هذا الأمر أعطى قوة وقيمة إضافية وأريحية بالتحرك لثوارجوبر، استغلوها أحسن ما يكون عبر نصب الكثير من الكمائن في هيئة أنفاق متفجرة واستدراج قوات النظام لها ، مما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوف النظام وكسر إرادة القتال عند جنوده ، ولم يستطع النظام طوال سنوات الحرب تحقيق أي تقدم ملموس على الحي الواقع داخل العاصمة، والذي لم يسقط إلا من فترة قريبة جداً بعد انهيار جميع مناطق الغوطة الشرقية التي كانت تشكل امتداده وعمقه .


أحد الكمائن المتفجرة التي استهدفت النظام بحي جوبر الدمشقي، 2018م
ولتوضيح مستوى الدمار الهائل الذي تستطيع أن تحدثه الأنفاق المتفجرة في الحروب وتأثيرها على الأعداء في بعض الأحيان، لا يسعنا إلا أن نستذكر مقتل 10,000 جندي ألماني في ليلة واحدة بتفجير19 نفقاً مفخخاً من قبل الجيش البريطاني مساء 7 يونيو 1917م أثناء الحرب العالمية الأولى. استغرق التحضير لهذه العملية الجبارة سنتين من العمل الشاق والحفر والتجهيز وصُنفت على أنها الانفجار الأعنف في العالم إذا استثنينا القنابل النووية، بل إن بعض الدول ظنت المسألة زلزالاً وكارثة طبيعية !.

خاتمة

تنوعت أهداف وأدوار الأنفاق المتفجرة في الثورة السورية، فمن ناحية أسهمت في صنع حالة من التوازن في الرعب مع النظام وحلفائه على الأرض، من خلال قدرتها التدميرية الهائلة، ومن ناحية أخرى كان لها دور فعال وجبار في المعارك الهجومية والدفاعية، وكانت سبباً مباشراً في تحرير مناطق والحفاظ على مناطق أخرى، غير أن النقطة الأهم والأبرز مع وجود أو فقدان ما سبق (نتيجة سياسة الأرض المحروقة التي تخوضها القوى العالمية ضدنا، عندما تعجز الأنظمة المحلية الموالية لها، ونتيجة ضعف الجانب السياسي عند مجمل الثوار وأسباب أخرى) هي ترسيخ ثقافة التوكل على الله والاعتماد على النفس وبذل أقصى الجهد في التطوير المستمر للذات والقدرات، أثناء المعارك الحالية التي تخوضها بعض الشعوب الإسلامية لتحرير الأرض والإنسان، دون اتكال على الآخر وبلا رفض للمساعدة إن وجدت.
‏١٣‏/٠٧‏/٢٠١٨ ٨:٣١ م‏
كنتُ معهم (4) شاهد على اعتقالات الإسلاميّين بالجزائر الصغير منير [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] كان تاريخ السجون عبر كل الأزمنة وفي جميع الدول مرتبطا بمحاولات الفرار التي لا يملّ منها المساجين، والتي كانت تنجح مرة وتفشل مرّات، وقد أنتجت السينما الغربية عشرات الأفلام عن قصص فرار جماعيّة وفردية من السجون، نفّذها سياسيون وعسكريون ومجرمون. ولم تكن السجون الجزائريّة فترة التسعينيات بعيدة عن محاولات المساجين السياسيين المتكررة للفرار؛ نجح القليل منها وباء أكثرها بالفشل. كان طبيعيا جدّا أن يسعى المساجين للفرار، فذاك ردّ فعل طبيعيّ من رجال سُلبت حرّيتهم. ولم تكن الظروف القاسية وحدها سببا في محاولات الفرار، فقد حدث بعضها في سجون كانت هادئة إلى حدّ كبير، وكانت حال المساجين فيها غير سيّئة. ولعلّ من أكبر أسباب محاولات الفرار هو سخونة الوضع العسكري في الجبال وكثافة العمليات العسكريّة في المدن والأرياف والرغبة الجامحة للشباب في الالتحاق بالجماعات الجهادية للمشاركة في (الجهاد). ولم تكن هذه الظاهرة غريبة على الجزائريين، فقد شهد تاريخ الحركة الوطنية والمنظمة الخاصة (OS) قبل ثورة التحرير الجزائريّة، كما شهدت فترة الثورة نفسها، عشرات المحاولات الناجحة للفرار فرادى وجماعات لمجاهدين وسياسيين، كانت مدوّنة وموثّقة ويعرضها التلفزيون الجزائري في كل مناسبة وطنية، وليس مستبعدا أبدا أن مخيّلة كثير جدّا من الشباب كانت تستحضر تلك القصص والمحاولات وتستلهمها، وتعتبرها نموذجا يمكن أن يتكرّر. ولأنّ من يفكّر بالفرار من السجن لا يطمع البتّة أن يعيش حياة طبيعية في حال فراره، وإمكانيّة هجرته خارج الجزائر صعبة جدّا وقد توقعه في يد أجهزة الأمن مرّة أخرى، فقد كان الملاذ الوحيد لكلّ من يفرّ هو التحاقه بالجمات الجهاديّة في الجبال والمدن. ومن أجل ذلك كان واضحا ومفهوما أن كلّ المشاركين في هذه العمليات هم من الشباب أو الكهول دون الخمسين، على قلّتهم بين المحاولين. وقد كانت أكثر تلك الجماعات استقطابا للشباب الفارّين هي (الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA)، فقد كانت أكثر انتشارا وأكبر قوة وتسليحا، وأحكم تنظيما وأكثر فعالية وعمليات في الميدان، وأنجح في الدعاية لنفسها والترويج لعملياتها. ولم يكن الفرار من السجون الجزائرية سهلا على الإطلاق، فقد كانت كلها تقريبا سجونا بناها الاحتلال الفرنسي، وتقع داخل المدن أو قريبا منها جدّا، ومحصّنة بإحكام، وقريبة من الثكنات العسكريّة، أو انتُدبت فرق حراسة من الجيش أو الدرك أو الشرطة لترابط قريبا منها. كان بعض هذه العمليات يتمّ بالتنسيق بين المساجين وقيادات محلّية للجماعات المسلّحة في الولاية التي يقع فيها السجن، وبعضها كان المساجين يتحملون فيه مخاطرة الفرار ثمّ التفكير لاحقا في التواصل مع الجماعات المسلّحة بعد النجاح في الفرار والأمن على الأنفس. ولعلّي لو أحصيت المحاولات الناجحة لكانت أربعاً: 1- الفرار من سجن المرسى الكبير العسكري بولاية وهران: حدث في صيف 93، ونجح في الفرار منه 42 سجينا، أكثر من ثلثيهم عسكريّون كان يقودهم الملازم عبد الحقّ المستاري رحمه الله، وكان العسكريون هم الذين خططوا للعملية ونفّذوها وفتحوا أبواب الزنزانات أو بعضها للمدنيين، ففرّ من فرّ، وبقي وأحجم الآخرون. وقد قُتل أكثر السجناء المدنيين غير بعيد عن وهران في اليوم نفسه أو بعده بقليل، فلم يكن لديهم خطّة ولا تنسيق مسبق ولا قدرة على تدبير أمورهم بطريقة تمكّنهم من بلوغ مأمنهم، وكان على رأس هؤلاء ممّن أذكرهم لأنني أمضيت معهم بضعة أشهر: الأستاذ الفاضل عبد المجيد من تلمسان، والشيخ الإمام الفاضل عبد الحميد من سعيدة. بينما نجح العسكريّون في الوصول إلى المناطق الآمنة في الجبال بمنطقة سيدي بلعباس وسعيدة وما جاورها؛ ليكون لهم مسار آخر في العمل المسلّح. 2- الفرار من سجن تيارت: حدث في شهر سبتمبر من عام 1993، وكان عدد الفارّين منه خمسة أشخاص، وهو عدد قليل لأن سجن تيارت نفسه كان سجنا صغيرا لا مركزيا. وكان الفارّون كلّهم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم 22 سنة، ولفرارهم قصّة تستحقّ أن تُكتب عنها رواية أو يُخرج عنها فيلم توثيقي مثلها مثل قصص الفرار الأخرى بصرف النظر عن دوافعها ومآلاتها وخلفياتها. ولقد قُتل هؤلاء الشباب لاحقا بعد التحاقهم بالجماعات المسلّحة. 3- الفرار الكبير من سجن تازولت (لامبيز) الشهير بولاية باتنة: حدث يوم 29 رمضان 1994الموافق 10 مارس، وكانت نتيجته فرار 1300 سجين والاستيلاء على أسلحة خفيفة ومتوسطة ليست بالقليلة، وقد تمّت العمليّة بمساعدة اثنين من حرّاس السجن وبتنسيق مع نبيل صحراوي قائد المنطقة المعروف بعبد الرزّاق البارا. حدث اقتحام السجن واقتلاع أبوابه وقت الإفطار تماما، بعد أن حفر خنادق حول السجن وفي الطرقات المؤدية إليه، وقد كان أحد المنسّقين مع الجماعة التي يقودها نبيل صحراوي، الشيخ سعيد قاري، أحد مؤسسي (الجيا) وقدماء الأفغان الجزائريين. ولعلّ هذه العمليّة هي الأكثر غموضا واشتباها ويصنّفها كثير من المتابعين للأحداث يومها والمعايشين لها عن قرب أنّها كانت عمليّة مدبّرة من أولها لآخرها، من أجل ضخّ أكبر عدد من العملاء في صفوف الجماعات المسلّحة لاختراقها والتحكّم فيها لاحقا، بعد أن استقدم هؤلاء السجناء المشبوهون قبل الفرار بفترة قصيرة، وإن كان هذا لا يعني أن كلّ من فرّ عميل ولا كلّ من نسّق أو شارك في العملية، ولكن هؤلاء جميعا كانت الخطّة أكبر منهم وتتجاوز مداركهم ومواردهم، وهو احتمال و شكّ يمكن الاستدلال عليه بكثير من المعطيات والتفاصيل، ومع ذلك يبقى الغموض سيّد الموقف كما يقال، إلى أن يكشف التاريخ والوثائق والشهادات والأرشيف عن أسرار هذه العملية التي تعدّ من أكبر عمليات الفرار في تاريخ السجون في العالم كلّه. 4- محاولة الفرار من سجن البرواقية بولاية المديّة: حدثت في شهر نوفمبر من عام 1994، وقد كانت محاولة فرار ساذجة لم يخطّط لها بإحكام؛ بل أن كثيرا ممّن عايشها يراها محاولة مخترقة أو موجّهة لتبرير ما حدث بعدها من القتل، بصرف النظر عن فضل ودين وصدق من قُتل فيها. وهي محاولة لم ينجح أيّ سجين في الفرار أثناءها، وكانت نتيجتها اقتحام قوات الدرك والأمن للسجن وقاعاته وزنزاناته وقتل ما يقارب 60 شخصا بطريقة بشعة قاسية، بلغت أن أُحرِق فيها عدد من السجناء أحياء في زنزاناتهم. وقد كتب حولها النقيب أحمد شوشان في مذكّراته بشيء من التفصيل يجلّي غوامضها وملابساتها بحكم معايشته لها، لأنه كان موجودا في سجن البرواقية يومئذ، ولا أعلم أحدا من السجناء الأحياء وهم كثير، أعرف شخصيا العشرات، منهم من كتب أو دوّن مشاهداته حول ما حدث أو نشرها، وهذا أمر سأتحدّث عنه لاحقا. 5- محاولة الفرار من سجن سركاجي: حدث في شهر فيفري عام 1995 ، وقُتل فيها ما يقارب أو يفوق 100 سجين، وقد كان السجن لا يبعد أكثر من 200 متر عن وزارة الدفاع ومثلها عن قيادة أركان الدرك الوطني، ممّا يجعل التفكير في الفرار محاولة للانتحار ويصعب جدّا تصديق أنّها كانت كذلك فعلا، فقد كانت حدثا أقرب إلى المكيدة و اللعبة القذرة، بعد سُرّب السلاح إلى عدد من السجناء وأُوهموا بإمكانية الفرار؛ ليجدوا أنفسهم محاصرين بعد قتل أربعة من السجناء، ثمّ قامت أجهزة الأمن باستغلال الحدث لتصفية عدد كبير من الرموز والقيادات في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجماعات المسلّحة، من أبرزها الشيخ يخلف شرّاطي عضو المكتب الوطني ومسؤول الدعوة والإرشاد في الجبهة، وأحمد الودّ، وقاسم تاجوري، وغيرهم كثير. وكان في السجن يومها الشيخ عبد القادر حشاني رحمه الله، وقام بدور الوسيط في التفاوض أو الحوار بين أجهزة الدرك والجيش والمخابرات وبين المساجين، وقد كان من المشاركين في المفاوضات عباس غزيّل قائد الدرك، والجنرال الشريف فضيل، والجنرال خالد نزّار وزير الدفاع السابق، رغم انّه كان متقاعدا، وبرغم ذلك انتهى الأمر بمجزرة مروّعة. وما زلتُ أذكر للتاريخ أني زرت الشيخ حشاني في بيته عام 1999 رفقة الأخ الطبيب حسين قريني، وبتنا عنده، وحدثنا يومها أنّه كتب كتابا ضمّنه تفاصيل ما حدث في سركاجي، وأنّه أمّن الكتاب في أكثر من نسخة، وحدث أن اغتيل الشيخ حشّاني بعد زياتنا له بأقلّ من أسبوعين، ومن يومها وأنا أسأل كلّ من عرفه عن هذا الكتاب دون أن أعثر له على أثر. إن هذ العرض المختصر جدّا لبعض ما حدث في المحاولات الخمس ليس تأريخا لها ولا توثيقا لتفاصيل أحداثها، وإنما إشارة لظاهرة محاولات الفرار المتكرّرة في السجون الجزائرية خلال فترة التسعينيات والتي لم تكن وحدها، بل كانت هناك عشرات المحاولات في كلّ السجون تقريبا، بعضها توقّف قبل أن يبدأ، وبعضها كُشف وعوقب المشاركون فيه، وبعضها توقّف بعد أن تقدّم المشاركون فيه خطوات لأسباب كثيرة يطول شرحها وذكر تفاصيلها. ومثل كلّ أحداث التسعينيات في الجزائر وبرغم خطورة ما حدث وما ترتّب على المحاولات الخمس الكبرى للفرار الآنف ذكرها وبرغم مئات القتلى والجرحى والفارّين، فإن الشهادات والتحقيقات والتغطيات الصحفيّة والمذكّرات والأرشيف المتعلّق بها يكاد يكون منعدما، وسوف تُطوى هذه الأحداث ويلفّها النسيان وينجو المجرمون الذين شاركوا فيها إذا استمرّ هذا الصمت والخوف من الحديث والشهادة على الأحداث؛ بل إن المتورّطين وحلفاءهم من الصحفيين والمؤرّخين والكتاب من التيّار اللائكي (العلماني) خاصّة ومن بعض النفعيين المتملّقين لن يتورّعوا أن يزيفوا الوقائع ويزوّروا الأحداث ويتّهموا البريء ويبرئوا المجرم، ومن تتبّع الصحافة اللائكية والاستئصاليّة سيجد بوادر ذلك واضحة جليّة. وإنّني لأستغرب هذا العزوف الشديد ممّن عايشوا الأحداث أو شاركوا فيها عن الشهادة والتوثيق والكتابة، إذ أصبحت الكتابة حول هذه الأحداث الكبرى مغامرة أو محاولة لن يجد من يقتحمها إلا نتفا هنا وهناك، لا تسمح حتى برسم كرونولجيا الأحداث، فضلا عن تتبّع خلفياتها ودوافعها وتعقيداتها والمشاركين فيها وآثارها ونتائجها والمستفيدين منها. وقد كانت الإضرابات والاحتجاجات لا تتوقّف في السجون ولأسباب كثيرة، وترتّب على كثير منها قمع رهيب وعقوبات قاسية تعرّض لها السجناء ونتائج سياسية وحقوقية، ومع ذلك لم يوثّقها أحد بكتابة ولا صوت ولا صورة. لقد كان غياب التوثيق والشهادات والأرشفة والكتابة عن هذه الأحداث في السجون وخارجها سواء في العمل السياسيّ أو المسلّح داخل الجزائر وخارجها، فرصة ذهبيّة استغلّها النظام الانقلابي وورثته إلى اليوم في تلميع صورته وتصوير خصومه وأعدائه مجرمين قتلة قادمين من ظلمات التاريخ القديم، لا هدف لهم ولا غاية ولا رؤية، سوى القتل والدمار والإجرام، وغابت كلّ آثار الانقلابيين في الأحداث واختراق العمل السياسيّ والمسلّح وتعفين الأوضاع والتأسيس لمحرقة ثانية بعد محرقة الاستعمار، وإعادة هندسة الشعب الجزائريّ وتغيير جيناته الاجتماعية وإخضاعه لأبشع أنواع الصدمات النفسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، من أجل التحكّم فيه وكسر تمرّده وإذلاله وضمان رضوخه وعدم ثورته مرّة أخرى. إنّني أدعو في ختام هذه السلسلة كما دعوت في مقالات سابقة إلى ضرورة المسارعة في توثيق الأحداث والشهادات والأرشفة العلمية لكل ما نُشر وقيل حولها؛ لتكون أجيال الشباب الجديدة على بيّنة من أمرها ولا تقع في الأخطاء نفسها وتكررّها بغباء أو سذاجة، ولتكون التجارب معروضة أمام الشباب حتى لا تتلاعب بها أجهزة الأمن والاستخبارات وتوظّفه بنذالة وقذارة هي من صميم دورها، أو على الأقلّ حتى لا يصيب هذا التوظيف والاختراق أيّ حراك جديد واعد في مقتل، يكرّس اليأس ويعمّق الانتكاسة ويطيل عمر الهزيمة. ليس ما كتبتُه تأريخا، بل رصدا لملامحَ وخطوطٍ كبرى عاشها عشرات الآلاف من المساجين والمعتقلين في فترة من أعنف وأقسى ما عاشه الشعب الجزائريّ منذ الاستقلال المزعوم والمصادَر؛ لعلّ ذلك يفتح شهيّة الكتابة ممّن كانوا أقرب للحدث منّي وأدرى بتفاصيله .
كنتُ معهم (4)

شاهد على اعتقالات الإسلاميّين بالجزائر

الصغير منير

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

كان تاريخ السجون عبر كل الأزمنة وفي جميع الدول مرتبطا بمحاولات الفرار التي لا يملّ منها المساجين، والتي كانت تنجح مرة وتفشل مرّات، وقد أنتجت السينما الغربية عشرات الأفلام عن قصص فرار جماعيّة وفردية من السجون، نفّذها سياسيون وعسكريون ومجرمون.

ولم تكن السجون الجزائريّة فترة التسعينيات بعيدة عن محاولات المساجين السياسيين المتكررة للفرار؛ نجح القليل منها وباء أكثرها بالفشل.

كان طبيعيا جدّا أن يسعى المساجين للفرار، فذاك ردّ فعل طبيعيّ من رجال سُلبت حرّيتهم. ولم تكن الظروف القاسية وحدها سببا في محاولات الفرار، فقد حدث بعضها في سجون كانت هادئة إلى حدّ كبير، وكانت حال المساجين فيها غير سيّئة. ولعلّ من أكبر أسباب محاولات الفرار هو سخونة الوضع العسكري في الجبال وكثافة العمليات العسكريّة في المدن والأرياف والرغبة الجامحة للشباب في الالتحاق بالجماعات الجهادية للمشاركة في (الجهاد).

ولم تكن هذه الظاهرة غريبة على الجزائريين، فقد شهد تاريخ الحركة الوطنية والمنظمة الخاصة (OS) قبل ثورة التحرير الجزائريّة، كما شهدت فترة الثورة نفسها، عشرات المحاولات الناجحة للفرار فرادى وجماعات لمجاهدين وسياسيين، كانت مدوّنة وموثّقة ويعرضها التلفزيون الجزائري في كل مناسبة وطنية، وليس مستبعدا أبدا أن مخيّلة كثير جدّا من الشباب كانت تستحضر تلك القصص والمحاولات وتستلهمها، وتعتبرها نموذجا يمكن أن يتكرّر.

ولأنّ من يفكّر بالفرار من السجن لا يطمع البتّة أن يعيش حياة طبيعية في حال فراره، وإمكانيّة هجرته خارج الجزائر صعبة جدّا وقد توقعه في يد أجهزة الأمن مرّة أخرى، فقد كان الملاذ الوحيد لكلّ من يفرّ هو التحاقه بالجمات الجهاديّة في الجبال والمدن. ومن أجل ذلك كان واضحا ومفهوما أن كلّ المشاركين في هذه العمليات هم من الشباب أو الكهول دون الخمسين، على قلّتهم بين المحاولين.

وقد كانت أكثر تلك الجماعات استقطابا للشباب الفارّين هي (الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA)، فقد كانت أكثر انتشارا وأكبر قوة وتسليحا، وأحكم تنظيما وأكثر فعالية وعمليات في الميدان، وأنجح في الدعاية لنفسها والترويج لعملياتها.

ولم يكن الفرار من السجون الجزائرية سهلا على الإطلاق، فقد كانت كلها تقريبا سجونا بناها الاحتلال الفرنسي، وتقع داخل المدن أو قريبا منها جدّا، ومحصّنة بإحكام، وقريبة من الثكنات العسكريّة، أو انتُدبت فرق حراسة من الجيش أو الدرك أو الشرطة لترابط قريبا منها.

كان بعض هذه العمليات يتمّ بالتنسيق بين المساجين وقيادات محلّية للجماعات المسلّحة في الولاية التي يقع فيها السجن، وبعضها كان المساجين يتحملون فيه مخاطرة الفرار ثمّ التفكير لاحقا في التواصل مع الجماعات المسلّحة بعد النجاح في الفرار والأمن على الأنفس.

ولعلّي لو أحصيت المحاولات الناجحة لكانت أربعاً:

1- الفرار من سجن المرسى الكبير العسكري بولاية وهران: حدث في صيف 93، ونجح في الفرار منه 42 سجينا، أكثر من ثلثيهم عسكريّون كان يقودهم الملازم عبد الحقّ المستاري رحمه الله، وكان العسكريون هم الذين خططوا للعملية ونفّذوها وفتحوا أبواب الزنزانات أو بعضها للمدنيين، ففرّ من فرّ، وبقي وأحجم الآخرون. وقد قُتل أكثر السجناء المدنيين غير بعيد عن وهران في اليوم نفسه أو بعده بقليل، فلم يكن لديهم خطّة ولا تنسيق مسبق ولا قدرة على تدبير أمورهم بطريقة تمكّنهم من بلوغ مأمنهم، وكان على رأس هؤلاء ممّن أذكرهم لأنني أمضيت معهم بضعة أشهر:

الأستاذ الفاضل عبد المجيد من تلمسان، والشيخ الإمام الفاضل عبد الحميد من سعيدة. بينما نجح العسكريّون في الوصول إلى المناطق الآمنة في الجبال بمنطقة سيدي بلعباس وسعيدة وما جاورها؛ ليكون لهم مسار آخر في العمل المسلّح.

2- الفرار من سجن تيارت: حدث في شهر سبتمبر من عام 1993، وكان عدد الفارّين منه خمسة أشخاص، وهو عدد قليل لأن سجن تيارت نفسه كان سجنا صغيرا لا مركزيا. وكان الفارّون كلّهم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم 22 سنة، ولفرارهم قصّة تستحقّ أن تُكتب عنها رواية أو يُخرج عنها فيلم توثيقي مثلها مثل قصص الفرار الأخرى بصرف النظر عن دوافعها ومآلاتها وخلفياتها. ولقد قُتل هؤلاء الشباب لاحقا بعد التحاقهم بالجماعات المسلّحة.

3- الفرار الكبير من سجن تازولت (لامبيز) الشهير بولاية باتنة: حدث يوم 29 رمضان 1994الموافق 10 مارس، وكانت نتيجته فرار 1300 سجين والاستيلاء على أسلحة خفيفة ومتوسطة ليست بالقليلة، وقد تمّت العمليّة بمساعدة اثنين من حرّاس السجن وبتنسيق مع نبيل صحراوي قائد المنطقة المعروف بعبد الرزّاق البارا. حدث اقتحام السجن واقتلاع أبوابه وقت الإفطار تماما، بعد أن حفر خنادق حول السجن وفي الطرقات المؤدية إليه، وقد كان أحد المنسّقين مع الجماعة التي يقودها نبيل صحراوي، الشيخ سعيد قاري، أحد مؤسسي (الجيا) وقدماء الأفغان الجزائريين.

ولعلّ هذه العمليّة هي الأكثر غموضا واشتباها ويصنّفها كثير من المتابعين للأحداث يومها والمعايشين لها عن قرب أنّها كانت عمليّة مدبّرة من أولها لآخرها، من أجل ضخّ أكبر عدد من العملاء في صفوف الجماعات المسلّحة لاختراقها والتحكّم فيها لاحقا، بعد أن استقدم هؤلاء السجناء المشبوهون قبل الفرار بفترة قصيرة، وإن كان هذا لا يعني أن كلّ من فرّ عميل ولا كلّ من نسّق أو شارك في العملية، ولكن هؤلاء جميعا كانت الخطّة أكبر منهم وتتجاوز مداركهم ومواردهم، وهو احتمال و شكّ يمكن الاستدلال عليه بكثير من المعطيات والتفاصيل، ومع ذلك يبقى الغموض سيّد الموقف كما يقال، إلى أن يكشف التاريخ والوثائق والشهادات والأرشيف عن أسرار هذه العملية التي تعدّ من أكبر عمليات الفرار في تاريخ السجون في العالم كلّه.

4- محاولة الفرار من سجن البرواقية بولاية المديّة: حدثت في شهر نوفمبر من عام 1994، وقد كانت محاولة فرار ساذجة لم يخطّط لها بإحكام؛ بل أن كثيرا ممّن عايشها يراها محاولة مخترقة أو موجّهة لتبرير ما حدث بعدها من القتل، بصرف النظر عن فضل ودين وصدق من قُتل فيها. وهي محاولة لم ينجح أيّ سجين في الفرار أثناءها، وكانت نتيجتها اقتحام قوات الدرك والأمن للسجن وقاعاته وزنزاناته وقتل ما يقارب 60 شخصا بطريقة بشعة قاسية، بلغت أن أُحرِق فيها عدد من السجناء أحياء في زنزاناتهم. وقد كتب حولها النقيب أحمد شوشان في مذكّراته بشيء من التفصيل يجلّي غوامضها وملابساتها بحكم معايشته لها، لأنه كان موجودا في سجن البرواقية يومئذ، ولا أعلم أحدا من السجناء الأحياء وهم كثير، أعرف شخصيا العشرات، منهم من كتب أو دوّن مشاهداته حول ما حدث أو نشرها، وهذا أمر سأتحدّث عنه لاحقا.

5- محاولة الفرار من سجن سركاجي: حدث في شهر فيفري عام 1995 ، وقُتل فيها ما يقارب أو يفوق 100 سجين، وقد كان السجن لا يبعد أكثر من 200 متر عن وزارة الدفاع ومثلها عن قيادة أركان الدرك الوطني، ممّا يجعل التفكير في الفرار محاولة للانتحار ويصعب جدّا تصديق أنّها كانت كذلك فعلا، فقد كانت حدثا أقرب إلى المكيدة و اللعبة القذرة، بعد سُرّب السلاح إلى عدد من السجناء وأُوهموا بإمكانية الفرار؛ ليجدوا أنفسهم محاصرين بعد قتل أربعة من السجناء، ثمّ قامت أجهزة الأمن باستغلال الحدث لتصفية عدد كبير من الرموز والقيادات في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجماعات المسلّحة، من أبرزها الشيخ يخلف شرّاطي عضو المكتب الوطني ومسؤول الدعوة والإرشاد في الجبهة، وأحمد الودّ، وقاسم تاجوري، وغيرهم كثير.

وكان في السجن يومها الشيخ عبد القادر حشاني رحمه الله، وقام بدور الوسيط في التفاوض أو الحوار بين أجهزة الدرك والجيش والمخابرات وبين المساجين، وقد كان من المشاركين في المفاوضات عباس غزيّل قائد الدرك، والجنرال الشريف فضيل، والجنرال خالد نزّار وزير الدفاع السابق، رغم انّه كان متقاعدا، وبرغم ذلك انتهى الأمر بمجزرة مروّعة.

وما زلتُ أذكر للتاريخ أني زرت الشيخ حشاني في بيته عام 1999 رفقة الأخ الطبيب حسين قريني، وبتنا عنده، وحدثنا يومها أنّه كتب كتابا ضمّنه تفاصيل ما حدث في سركاجي، وأنّه أمّن الكتاب في أكثر من نسخة، وحدث أن اغتيل الشيخ حشّاني بعد زياتنا له بأقلّ من أسبوعين، ومن يومها وأنا أسأل كلّ من عرفه عن هذا الكتاب دون أن أعثر له على أثر.

إن هذ العرض المختصر جدّا لبعض ما حدث في المحاولات الخمس ليس تأريخا لها ولا توثيقا لتفاصيل أحداثها، وإنما إشارة لظاهرة محاولات الفرار المتكرّرة في السجون الجزائرية خلال فترة التسعينيات والتي لم تكن وحدها، بل كانت هناك عشرات المحاولات في كلّ السجون تقريبا، بعضها توقّف قبل أن يبدأ، وبعضها كُشف وعوقب المشاركون فيه، وبعضها توقّف بعد أن تقدّم المشاركون فيه خطوات لأسباب كثيرة يطول شرحها وذكر تفاصيلها.

ومثل كلّ أحداث التسعينيات في الجزائر وبرغم خطورة ما حدث وما ترتّب على المحاولات الخمس الكبرى للفرار الآنف ذكرها وبرغم مئات القتلى والجرحى والفارّين، فإن الشهادات والتحقيقات والتغطيات الصحفيّة والمذكّرات والأرشيف المتعلّق بها يكاد يكون منعدما، وسوف تُطوى هذه الأحداث ويلفّها النسيان وينجو المجرمون الذين شاركوا فيها إذا استمرّ هذا الصمت والخوف من الحديث والشهادة على الأحداث؛ بل إن المتورّطين وحلفاءهم من الصحفيين والمؤرّخين والكتاب من التيّار اللائكي (العلماني) خاصّة ومن بعض النفعيين المتملّقين لن يتورّعوا أن يزيفوا الوقائع ويزوّروا الأحداث ويتّهموا البريء ويبرئوا المجرم، ومن تتبّع الصحافة اللائكية والاستئصاليّة سيجد بوادر ذلك واضحة جليّة.

وإنّني لأستغرب هذا العزوف الشديد ممّن عايشوا الأحداث أو شاركوا فيها عن الشهادة والتوثيق والكتابة، إذ أصبحت الكتابة حول هذه الأحداث الكبرى مغامرة أو محاولة لن يجد من يقتحمها إلا نتفا هنا وهناك، لا تسمح حتى برسم كرونولجيا الأحداث، فضلا عن تتبّع خلفياتها ودوافعها وتعقيداتها والمشاركين فيها وآثارها ونتائجها والمستفيدين منها.

وقد كانت الإضرابات والاحتجاجات لا تتوقّف في السجون ولأسباب كثيرة، وترتّب على كثير منها قمع رهيب وعقوبات قاسية تعرّض لها السجناء ونتائج سياسية وحقوقية، ومع ذلك لم يوثّقها أحد بكتابة ولا صوت ولا صورة.

لقد كان غياب التوثيق والشهادات والأرشفة والكتابة عن هذه الأحداث في السجون وخارجها سواء في العمل السياسيّ أو المسلّح داخل الجزائر وخارجها، فرصة ذهبيّة استغلّها النظام الانقلابي وورثته إلى اليوم في تلميع صورته وتصوير خصومه وأعدائه مجرمين قتلة قادمين من ظلمات التاريخ القديم، لا هدف لهم ولا غاية ولا رؤية، سوى القتل والدمار والإجرام، وغابت كلّ آثار الانقلابيين في الأحداث واختراق العمل السياسيّ والمسلّح وتعفين الأوضاع والتأسيس لمحرقة ثانية بعد محرقة الاستعمار، وإعادة هندسة الشعب الجزائريّ وتغيير جيناته الاجتماعية وإخضاعه لأبشع أنواع الصدمات النفسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، من أجل التحكّم فيه وكسر تمرّده وإذلاله وضمان رضوخه وعدم ثورته مرّة أخرى.

إنّني أدعو في ختام هذه السلسلة كما دعوت في مقالات سابقة إلى ضرورة المسارعة في توثيق الأحداث والشهادات والأرشفة العلمية لكل ما نُشر وقيل حولها؛ لتكون أجيال الشباب الجديدة على بيّنة من أمرها ولا تقع في الأخطاء نفسها وتكررّها بغباء أو سذاجة، ولتكون التجارب معروضة أمام الشباب حتى لا تتلاعب بها أجهزة الأمن والاستخبارات وتوظّفه بنذالة وقذارة هي من صميم دورها، أو على الأقلّ حتى لا يصيب هذا التوظيف والاختراق أيّ حراك جديد واعد في مقتل، يكرّس اليأس ويعمّق الانتكاسة ويطيل عمر الهزيمة.

ليس ما كتبتُه تأريخا، بل رصدا لملامحَ وخطوطٍ كبرى عاشها عشرات الآلاف من المساجين والمعتقلين في فترة من أعنف وأقسى ما عاشه الشعب الجزائريّ منذ الاستقلال المزعوم والمصادَر؛ لعلّ ذلك يفتح شهيّة الكتابة ممّن كانوا أقرب للحدث منّي وأدرى بتفاصيله .
‏١١‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٢٧ م‏
وقفة للمراجعة م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] تركت الأحداث منذ اندلاع ثورات الربيع العربي حتى اليوم بصمتها على واقع الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها، ورغم حجم الآلام وشدة المعاناة، إلا أن مساحة الوعي لدى مختلف أجيال الإسلاميين اتسعت وزادت، بما في ذلك الوعي بطبيعة مكونات الصف الإسلامي نفسه، إذ انكشف كثير من أدعياء السلفية بانحيازهم إلى صف الطغاة. كما برز صف الغلاة وانفصل عن بقية مكونات التيار الإسلامي وعاداهم. أما القيادات المتكلسة التي تعاني من: غياب الرؤية، وهلامية المنهج، والاستبداد بالمناصب التنظيمية رغم فشلهم المدقع، فقد صاروا محل تندر القريب منهم قبل البعيد. ورغم تلك المكتسبات، فهناك عدد من التحديات الجوهرية التي تفرض نفسها على المشهد، مثل وجود حالة من الحيرة والتيه على المستوى الفكري والسياسي، في ظل غياب إدارة مركزية تقدم رؤية وتصيغ حلولا للأزمات. وقبل مناقشة كيفية التعامل مع تلك التحديات لابد من التشديد على أن الوضع السياسي الحالي في المنطقة يصعب أن يستمر لمدة طويلة، لأنه لا يمكن إفناء كتلة بشرية هائلة ذات امتداد فكري واسع وعميق كالحركة الإسلامية. وهو ما ينبغي أن يستنفر العقول لصياغة تصورات لكيفية التعامل مع هذه المرحلة الآنية وما يتلوها لاحقا. ضرورة تنسيق الجهود إن الخصوم ينسقون فيما بينهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية ضمن غرف عمليات مشتركة، بينما الحركات الإسلامية تتعامل بشكل عشوائي ومجزأ، حتى وصل الحال إلى أن نشاهد في ليبيا تحالفا بين حفتر والتيار المدخلي يحظى بدعم مصري إماراتي سعودي فرنسي، بينما الطرف المقابل يتحرك بشكل جهوي دون استراتيجية متكاملة، فحفتر خاض معركة بنغازي لفترة طويلة وتكبد فيها خسائر جسيمة، بينما ظل الثوار في بقية المدن يتابعون معركة بنغازي عن بعد، ثم عقب أن استعاد حفتر عافيته، انطلق بعد ذلك ليهاجم درنة ويستفرد بها، وبالتالي فإن النتيجة الطبيعية أن ينتصر الطرف الذي يتحرك وفق استراتيجية متكاملة، ويحظى بدعم متنوع. وهذا السيناريو تقريبا تكرر على الجبهات المختلفة بالشام أيضا، فالنظام وداعموه هاجموا حلب واستولوا عليها بينما كانت معظم الجبهات خاملة، تشاهد ما يحدث كأنه يجري بعيدا عنهم، ثم بعد ذلك سيطر النظام على الغوطة الشرقية وغيرها. وكذلك على المستوى الإقليمي، تصاعدت الهجمة المضادة للثورات عقب الانقلاب في مصر، فتم تشديد الحصار على غزة، وبزغ نجم حفتر بليبيا، وتدهور الوضع بالشام مع غياب روافد سنية تدعم الثورة السورية في مواجهة التمدد الشيعي والتدخل الروسي والغربي. وتعرضت الأنظمة المحسوبة على محور دعم الثورات ولو بنسب مختلفة، لتحديات وجودية، مثلما حدث في محاولة الانقلاب بتركيا، وحصار قطر، مما أجبر البلدين على تغيير حساباتهما. إن مشكلة غياب أو ضعف التكامل بين الإسلاميين في البلاد المختلفة فضلا عن القطر الواحد، مشكلة كبيرة يمكن العمل على مواجهتها من خلال العمل على محورين: - الأول: محور رأسي متعلق بالقيادات الإسلامية ذات الخط التغييري على الجملة، فلابد أن ينسقوا تحركاتهم، ويكمل بعضهم بعضا، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متماسكة وجيدة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية وشعبية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وعسكرية ..إلخ. وهذه الفئات تحتاج للتنسيق والتكامل، بدلا من أن نجد: - كوادر عسكرية متميزة تخوض صراعات مهلكة لن تغير كثيرا من معادلات الواقع، بينما يمكنهم عبر التحرك في إطار استراتيجي مدروس تحقيق نتائج كبيرة بثمن أقل. - فئات لديها إمكانات مالية جيدة، تنفقها على عقد مؤتمرات وندوات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تتحرك وفق أي رؤية استراتيجية جدية لتظل تراوح مكانها منذ عقود. - شخصيات تملك رؤية استراتيجية، ولكنها لا تملك مقومات ميدانية تمكنها من تحويل رؤيتها إلى واقع. ومن ثم فإن التنسيق والابتعاد عن العمل في جزر منعزلة، هو واجب المرحلة بدلا من هذه الفسيفساء التي نتحرك عبرها، وأؤكد أني لا أقصد بذلك كافة المحسوبين على الإسلاميين، فهذه قد تكون أمنية غير واقعية، إنما أقصد الإسلاميين من أصحاب الخط التغييري وممن تحركهم أرضية مشتركة. فمثلا المشاكل في غزة وليبيا لن تحل غالبا سوى بإحداث تغيير جوهري في مصر، بينما معظم القطاعات المصرية التي تحركت ضد الانقلاب تحركت دون رؤية استراتيجية، فأثخنتها الجراح، واستتب الأمر للنظام، مما انعكس على المحيط الإقليمي بالسلب. وحاليا فإن تغيير الأوضاع بمصر يحتاج لرؤية استراتيجية حقيقية يشارك في صياغتها وتنفيذها أصحاب العقول والكفاءات والمهارات المتنوعة من المصريين وغير المصريين . -الثاني: محور أفقي متعلق بعموم الأفراد: أحسب أن الوضع الحالي الذي يتسم بالانكسار والتراجع، كسر الطموحات الزائفة للكثيرين، وأضعف حزازيات الماضي، وحجم من المعارك الوهمية. ومن ثم توجد حاليا أرضية مشتركة بين الأجيال الأصغر سنا (جيل الثلاثينات وما دونه) تسمح بتأسيس أعمال مشتركة لمواجهة الهجمة الشرسة من الخصوم. وفي هذه المرحلة من المهم : -تحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة لمواجهة غياب أو بمعنى أدق ضعف المركزية. -العمل على بناء مركزيات داعمة، وتصدير رموز في مناطق الشتات المختلفة لمواجهة حملات الاستئصال وتجفيف المنابع البشرية وتصفية الرموز التي نتعرض لها بعنف منذ بدء موجد الثورات المضادة. وفي الختام إن هذا المقال إنما يمثل رؤوس عناوين لما أحسب أنه سيفيد في دفع المسيرة للأمام، ولكنه يحتاج كي يؤتي أكله لنقاش جماعي لإثرائه وتحويله إلى مشروع يمكن تبنيه واقعيا.
وقفة للمراجعة

م. أحمد مولانا Mawlana

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

تركت الأحداث منذ اندلاع ثورات الربيع العربي حتى اليوم بصمتها على واقع الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها، ورغم حجم الآلام وشدة المعاناة، إلا أن مساحة الوعي لدى مختلف أجيال الإسلاميين اتسعت وزادت، بما في ذلك الوعي بطبيعة مكونات الصف الإسلامي نفسه، إذ انكشف كثير من أدعياء السلفية بانحيازهم إلى صف الطغاة. كما برز صف الغلاة وانفصل عن بقية مكونات التيار الإسلامي وعاداهم. أما القيادات المتكلسة التي تعاني من: غياب الرؤية، وهلامية المنهج، والاستبداد بالمناصب التنظيمية رغم فشلهم المدقع، فقد صاروا محل تندر القريب منهم قبل البعيد.

ورغم تلك المكتسبات، فهناك عدد من التحديات الجوهرية التي تفرض نفسها على المشهد، مثل وجود حالة من الحيرة والتيه على المستوى الفكري والسياسي، في ظل غياب إدارة مركزية تقدم رؤية وتصيغ حلولا للأزمات.

وقبل مناقشة كيفية التعامل مع تلك التحديات لابد من التشديد على أن الوضع السياسي الحالي في المنطقة يصعب أن يستمر لمدة طويلة، لأنه لا يمكن إفناء كتلة بشرية هائلة ذات امتداد فكري واسع وعميق كالحركة الإسلامية. وهو ما ينبغي أن يستنفر العقول لصياغة تصورات لكيفية التعامل مع هذه المرحلة الآنية وما يتلوها لاحقا.

ضرورة تنسيق الجهود

إن الخصوم ينسقون فيما بينهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية ضمن غرف عمليات مشتركة، بينما الحركات الإسلامية تتعامل بشكل عشوائي ومجزأ، حتى وصل الحال إلى أن نشاهد في ليبيا تحالفا بين حفتر والتيار المدخلي يحظى بدعم مصري إماراتي سعودي فرنسي، بينما الطرف المقابل يتحرك بشكل جهوي دون استراتيجية متكاملة، فحفتر خاض معركة بنغازي لفترة طويلة وتكبد فيها خسائر جسيمة، بينما ظل الثوار في بقية المدن يتابعون معركة بنغازي عن بعد، ثم عقب أن استعاد حفتر عافيته، انطلق بعد ذلك ليهاجم درنة ويستفرد بها، وبالتالي فإن النتيجة الطبيعية أن ينتصر الطرف الذي يتحرك وفق استراتيجية متكاملة، ويحظى بدعم متنوع.

وهذا السيناريو تقريبا تكرر على الجبهات المختلفة بالشام أيضا، فالنظام وداعموه هاجموا حلب واستولوا عليها بينما كانت معظم الجبهات خاملة، تشاهد ما يحدث كأنه يجري بعيدا عنهم، ثم بعد ذلك سيطر النظام على الغوطة الشرقية وغيرها.

وكذلك على المستوى الإقليمي، تصاعدت الهجمة المضادة للثورات عقب الانقلاب في مصر، فتم تشديد الحصار على غزة، وبزغ نجم حفتر بليبيا، وتدهور الوضع بالشام مع غياب روافد سنية تدعم الثورة السورية في مواجهة التمدد الشيعي والتدخل الروسي والغربي. وتعرضت الأنظمة المحسوبة على محور دعم الثورات ولو بنسب مختلفة، لتحديات وجودية، مثلما حدث في محاولة الانقلاب بتركيا، وحصار قطر، مما أجبر البلدين على تغيير حساباتهما.

إن مشكلة غياب أو ضعف التكامل بين الإسلاميين في البلاد المختلفة فضلا عن القطر الواحد، مشكلة كبيرة يمكن العمل على مواجهتها من خلال العمل على محورين:

- الأول: محور رأسي متعلق بالقيادات الإسلامية ذات الخط التغييري على الجملة، فلابد أن ينسقوا تحركاتهم، ويكمل بعضهم بعضا، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متماسكة وجيدة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية وشعبية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وعسكرية ..إلخ. وهذه الفئات تحتاج للتنسيق والتكامل، بدلا من أن نجد:

- كوادر عسكرية متميزة تخوض صراعات مهلكة لن تغير كثيرا من معادلات الواقع، بينما يمكنهم عبر التحرك في إطار استراتيجي مدروس تحقيق نتائج كبيرة بثمن أقل.

- فئات لديها إمكانات مالية جيدة، تنفقها على عقد مؤتمرات وندوات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تتحرك وفق أي رؤية استراتيجية جدية لتظل تراوح مكانها منذ عقود.

- شخصيات تملك رؤية استراتيجية، ولكنها لا تملك مقومات ميدانية تمكنها من تحويل رؤيتها إلى واقع.

ومن ثم فإن التنسيق والابتعاد عن العمل في جزر منعزلة، هو واجب المرحلة بدلا من هذه الفسيفساء التي نتحرك عبرها، وأؤكد أني لا أقصد بذلك كافة المحسوبين على الإسلاميين، فهذه قد تكون أمنية غير واقعية، إنما أقصد الإسلاميين من أصحاب الخط التغييري وممن تحركهم أرضية مشتركة.

فمثلا المشاكل في غزة وليبيا لن تحل غالبا سوى بإحداث تغيير جوهري في مصر، بينما معظم القطاعات المصرية التي تحركت ضد الانقلاب تحركت دون رؤية استراتيجية، فأثخنتها الجراح، واستتب الأمر للنظام، مما انعكس على المحيط الإقليمي بالسلب. وحاليا فإن تغيير الأوضاع بمصر يحتاج لرؤية استراتيجية حقيقية يشارك في صياغتها وتنفيذها أصحاب العقول والكفاءات والمهارات المتنوعة من المصريين وغير المصريين .

-الثاني: محور أفقي متعلق بعموم الأفراد: أحسب أن الوضع الحالي الذي يتسم بالانكسار والتراجع، كسر الطموحات الزائفة للكثيرين، وأضعف حزازيات الماضي، وحجم من المعارك الوهمية. ومن ثم توجد حاليا أرضية مشتركة بين الأجيال الأصغر سنا (جيل الثلاثينات وما دونه) تسمح بتأسيس أعمال مشتركة لمواجهة الهجمة الشرسة من الخصوم. وفي هذه المرحلة من المهم :

-تحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة لمواجهة غياب أو بمعنى أدق ضعف المركزية.

-العمل على بناء مركزيات داعمة، وتصدير رموز في مناطق الشتات المختلفة لمواجهة حملات الاستئصال وتجفيف المنابع البشرية وتصفية الرموز التي نتعرض لها بعنف منذ بدء موجد الثورات المضادة.

وفي الختام إن هذا المقال إنما يمثل رؤوس عناوين لما أحسب أنه سيفيد في دفع المسيرة للأمام، ولكنه يحتاج كي يؤتي أكله لنقاش جماعي لإثرائه وتحويله إلى مشروع يمكن تبنيه واقعيا.
‏٠٩‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٠:٥٧ م‏
لماذا يجب أن تُطلِق مُدوَّنَةً خاصة؟ عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق: http://bit.ly/2KyDVol] في 28/4/2018 توقف فجأة تطبيق تيليجرام عن العمل لعدة ساعات، وقد تزامن التوقف الذي أربك ملايين المستخدمين حول العالم مع حديث متصاعد عن ضغوط شديدة تتعرض لها الشركة من أجل تمكين المؤسسات الاستخباراتية الدولية من مفاتيح التشفير التي تعتمدها، والكف أيضا عن جعل التطبيق ملاذا مريحا للأفكار المتطرفة. في غضون عدة ساعات عاد التطبيق إلى العمل مجددا، لكن بعد أسابيع من هذه الحادثة شرعت الشركة في حذف عدد كبير من القنوات والحسابات من على منصتها، وكان لحسابات الناشطين والثوار في سوريَة وغيرها نصيبُ الأسد من هذه الحملة، حيث حذفت الشركة عشرات القنوات الرسمية وغير الرسمية مبددة بذلك أرشيفا ثوريا لا يُعوَّض. قد لا تكون السياسة الجديدة لشركة تيليجرام مثيرة للقلق بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسابات بديلة على مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، ويجعلون من نشاطهم على التيليجرام ترفا إلكترونيا فرضته الموضة الرقمية المتجددة، لكن بالنسبة لمن انحاز إلى جبهة التيليجرام بعدما أنهكته حملات الحذف والتوقيف على جبهات تويتر وفيسبوك فالمسالة عنده تبدو في منتهى الجدية، إنه يواجه خطر الحرمان من الوجود على شبكة الإنترنت إضافة إلى مأساة فقدان أرشيفه الذي ظل يتعهَّده لمدة طويلة، وفقدان الأرشيف التوثيقي في هذه الحقبة الحساسة من تاريخ الأمة يعني أن خصومها عندهم امتياز إضافي لكتابة التاريخ كما يحلو لهم. بعد حملات الحذف المذكورة عاد قسم من الناشطين إلى تويتر وفيسبوك مجددا لعل هذه المواقع العملاقة تنسى الثارات السابقة أو تنشغل عنهم بما حل بساحتها من أزمات كثيرة على خلفية رعايتها للأخبار الزائفة ومساهمتها الفعالة في تضليل الرأي العام في بلاد العم سام. ولم يكد أولئك الناشطون يكتبون أُولى كلماتهم حتى وجدوا أنفسهم مجددا في مرمى الحذف والحظر والتوقيف. يا لتهافت هذه الحضارة المدججة بملايين المؤسسات الدعائية العملاقة وهي تخشى من حساب على تويتر كتب صاحبه أولى كلماته عليه " بسم الله نبدأ". كتبنا سابقا عن ضرورة العودة إلى التدوين، ولفتنا القراء إلى ظاهرة خطيرة وهي اختفاء أرشيف الثورة من شبكة الإنترنت، وقلنا أن البحث مثلا في غوغل عن تفاصيل لمعركة أطلقها الثوار وبالاسم الذي اختاروه لها يُظهِر المواقع الإيرانية والأسدية في صدارة نتائج البحث في حين ستعاني وأنت تبحث عن مادة كتبها الثوار أو الناشطين الذين عايشوا الحدث ودوَّنوا تفاصيل بشأنه. وانتقال كُتَّاب الثورة وناشطيها إلى تطبيق تيليجرام أزاد المشكلة لكون ما يُنشر على التطبيق لا يخضع للأرشفة ولا يمكن العثور عليه بواسطة محركات البحث، وقابل للحذف من طرف الشركة لسبب أو لآخر وبالتالي فكل ما يُنشر على التطبيق لن يعمر طويلا وسيختفي فجأة كفقاعة صابون. بشكل عام وفي ظل سيطرة الشركات التكنولوجية النافذة على حركة تدفق المعلومات في الفضاء المعلوماتي سيكون من الصعب حجز مكان آمن ومستقر في ذلك الفضاء. لكنْ ثمة دائما حلولٌ وبدائلُ مبتكرةٌ نرجو أن تُبدع العقول المتمردة والحرة في خلقها وإيجادها، تماما كما كافح المجرمون ورجال المافيا والقتلة المأجورون وتجار الدعارة حتى أمنَّوا لأنفسهم مكانا على الشبكة فأصبحت بضاعتهم رائجة في ما يسمى بالإنترنت العميق أو المظلم، إذ ستجد هناك قاتلا مأجورا يعرض خدماته ونماذج من أعماله السابقة، بإمكانك حجزه في أي وقت، وتاجرا يوصل لك مع البريد جرعاتك المطلوبة من الكوكايين إلى باب منزلك، وتُحُفا فنية مسروقة وأسلحة متنوعة، ووثائق رسمية مزورة، وبإمكانك أن تدفع بإحدى العُمْلات الرقمية المشفرة حيث يتعذر معرفة من باع ومن اشترى. تطبيق تيليجرام ومواقع التواصل الاجتماعي هي في أحسن أحوالها أدوات للتواصل، ولهذه الغاية أُنشئت، وليست مكانا يمكن الاعتماد عليه في أرشفة أحداث الثورة وتوثيق أيامها. لا بد من ثورة تدوين جديدة، لقد أحدثت مواقع التواصل الاجتماعي تغييرا سلبيا في طريقة تعاطينا مع المعلومات والأفكار واستهلاكنا لها أيضا. لقد أحسن المدون الإيراني المعارض حسين درخشان في تحليل هذه التغييرات في مقال جميل وعميق تحت عنوان "موت الإنترنت: عن الشبكة التي يجب علينا إنقاذها" وفطن المدون لهذه التغييرات لأنه سُجن عام 2008 الزمن الذهبي للمدونات وأُطلق سراحه بعد ست سنوات ليجد التيليجرام وقد هوت إليه أفئدة المُبْحرين من الناس . في هذا المقال أريد أن أبين أن إنشاء مدونة إلكترونية سيكون أفضلَ حلٍّ ممكن لحملات الحذف والتوقيف التي تتعرض لها حسابات الناشطين وكُتَّاب الثورة. ووسيلة سهلة لحفظ أرشيف الثورة المكتوب، وطريقة لتوثيق أيام الثورة وجعلها في متناول الباحثين والمهتمين والأجيال القادمة أيضا. يمكن للكاتب أو الناشط أن يمتلك مدونة إلكترونية أنيقة والبقاء في الوقت نفسه محتفظا بحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بل وعلى وتيرة نشاطه عليها كذلك. من منطلق تجربة في التدوين امتدت لأكثر من عشر سنوات فإن أفضل موقع لإنشاء مدونة إلكترونية مجانية خالية من الإعلانات وسهلة الإدارة هو موقع blogger التابع لغوغل. الأمر لا يتطلب سوى بريد إلكتروني وعشر دقائق لإطلاق مدونة إلكترونية وإذا أنفقتَ بعضَ الساعات الأخرى عليها فستتحول إلى موقع إلكتروني احترافي . أن تمتلك مدونة إلكترونية يعني أن بإمكان قُرَّائك أن يظلوا على اطلاع على آرائك وأفكارك ومواقفك حتى وإن تعرَّضتْ حساباتُك على مواقع التواصل الاجتماعي للحذف، فشركة غوغل لا تحذف المدونات الإلكترونية خصوصا إن كان ما ينشر عليها مادةً مكتوبة وصورًا أو مقاطعَ فيديو لا تحتوي مشاهدَ عنف وقتل. كما أن تنزيل المواد المنشورة على المدونات سهل ويسير جدا وبعدة صيغ. وعندما يتَّبع المدون بعض الإجراءات السهلة وهو بصدد نشر تدوينته فهناك إمكانية كبيرة لجعل موادها تتصدر نتائج محركات البحث، وهي الإجراءات والتقنيات المعروفة في عالم التدوين ب seo . توجد عشرات الآلاف من القوالب الجاهزة التي تجمع بين الأناقة والسهولة والاحترافية ، وهي عبارة عن "إستايلات" مجانية يستغرق تركيبها بضع ثوان لتظهر المدونة في شكل مناسب بحسَب ذوق المدون واختياره . وهناك أيضا عشراتُ الإضافات الأخرى التي يمكن إلحاقها بالمدونة "كالسلايدر شو" الذي يتيح عرض المواضيع المهمة على شكل صور بارزة ومتحركة في واجهة المدونة. أو شريط إخباري متحرك بآخر الأخبار، والقائمة البريدية التي تُوصل المواضيع الجديدة للمتابعين على بريدهم الإلكتروني فور نشرها على المدونة... قامتblogger بإطلاق تطبيق خاص بمدوناتها يتوافق مع أنظمة الهواتف الذكية، وهو تطبيق بواجهة سهلة خالية من التعقيد، يمكن التعامل معه بالمرونة ذاتها التي يُتعامل بها مع منصات التواصل الاجتماعي، حيث يمكن نشر المواد بواسطته وتحرير المواضيع والتعديل عليها وإضافة الصور والروابط إليها . وعندما يكون التطبيق موجودا في هاتفك فكل ما عليك فعله عند نشر موضوع ما على قناتك في التيليجرام أو حسابك على الفيسبوك أو موقع justpaste هو القيام بنسخ الموضوع ولصقه في تطبيق المدونة في عملية قد لا تستغرق أكثر من دقيقة. وسيكون الكاتب بذلك قد احتفظ بنسخة من مجهوده قابلة للأرشفة والتنزيل ويمكن أن تكون في يوم من الأيام مرجعا للمهتمين والأجيال القادمة والباحثين عن الحقيقة في هذه العالم الذي أرخى عليه ليلُ التضليل سُدُولَه.
لماذا يجب أن تُطلِق مُدوَّنَةً خاصة؟

عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق:
http://bit.ly/2KyDVol]

في 28/4/2018 توقف فجأة تطبيق تيليجرام عن العمل لعدة ساعات، وقد تزامن التوقف الذي أربك ملايين المستخدمين حول العالم مع حديث متصاعد عن ضغوط شديدة تتعرض لها الشركة من أجل تمكين المؤسسات الاستخباراتية الدولية من مفاتيح التشفير التي تعتمدها، والكف أيضا عن جعل التطبيق ملاذا مريحا للأفكار المتطرفة. في غضون عدة ساعات عاد التطبيق إلى العمل مجددا، لكن بعد أسابيع من هذه الحادثة شرعت الشركة في حذف عدد كبير من القنوات والحسابات من على منصتها، وكان لحسابات الناشطين والثوار في سوريَة وغيرها نصيبُ الأسد من هذه الحملة، حيث حذفت الشركة عشرات القنوات الرسمية وغير الرسمية مبددة بذلك أرشيفا ثوريا لا يُعوَّض.

قد لا تكون السياسة الجديدة لشركة تيليجرام مثيرة للقلق بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسابات بديلة على مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، ويجعلون من نشاطهم على التيليجرام ترفا إلكترونيا فرضته الموضة الرقمية المتجددة، لكن بالنسبة لمن انحاز إلى جبهة التيليجرام بعدما أنهكته حملات الحذف والتوقيف على جبهات تويتر وفيسبوك فالمسالة عنده تبدو في منتهى الجدية، إنه يواجه خطر الحرمان من الوجود على شبكة الإنترنت إضافة إلى مأساة فقدان أرشيفه الذي ظل يتعهَّده لمدة طويلة، وفقدان الأرشيف التوثيقي في هذه الحقبة الحساسة من تاريخ الأمة يعني أن خصومها عندهم امتياز إضافي لكتابة التاريخ كما يحلو لهم.

بعد حملات الحذف المذكورة عاد قسم من الناشطين إلى تويتر وفيسبوك مجددا لعل هذه المواقع العملاقة تنسى الثارات السابقة أو تنشغل عنهم بما حل بساحتها من أزمات كثيرة على خلفية رعايتها للأخبار الزائفة ومساهمتها الفعالة في تضليل الرأي العام في بلاد العم سام. ولم يكد أولئك الناشطون يكتبون أُولى كلماتهم حتى وجدوا أنفسهم مجددا في مرمى الحذف والحظر والتوقيف. يا لتهافت هذه الحضارة المدججة بملايين المؤسسات الدعائية العملاقة وهي تخشى من حساب على تويتر كتب صاحبه أولى كلماته عليه " بسم الله نبدأ".

كتبنا سابقا عن ضرورة العودة إلى التدوين، ولفتنا القراء إلى ظاهرة خطيرة وهي اختفاء أرشيف الثورة من شبكة الإنترنت، وقلنا أن البحث مثلا في غوغل عن تفاصيل لمعركة أطلقها الثوار وبالاسم الذي اختاروه لها يُظهِر المواقع الإيرانية والأسدية في صدارة نتائج البحث في حين ستعاني وأنت تبحث عن مادة كتبها الثوار أو الناشطين الذين عايشوا الحدث ودوَّنوا تفاصيل بشأنه. وانتقال كُتَّاب الثورة وناشطيها إلى تطبيق تيليجرام أزاد المشكلة لكون ما يُنشر على التطبيق لا يخضع للأرشفة ولا يمكن العثور عليه بواسطة محركات البحث، وقابل للحذف من طرف الشركة لسبب أو لآخر وبالتالي فكل ما يُنشر على التطبيق لن يعمر طويلا وسيختفي فجأة كفقاعة صابون.

بشكل عام وفي ظل سيطرة الشركات التكنولوجية النافذة على حركة تدفق المعلومات في الفضاء المعلوماتي سيكون من الصعب حجز مكان آمن ومستقر في ذلك الفضاء. لكنْ ثمة دائما حلولٌ وبدائلُ مبتكرةٌ نرجو أن تُبدع العقول المتمردة والحرة في خلقها وإيجادها، تماما كما كافح المجرمون ورجال المافيا والقتلة المأجورون وتجار الدعارة حتى أمنَّوا لأنفسهم مكانا على الشبكة فأصبحت بضاعتهم رائجة في ما يسمى بالإنترنت العميق أو المظلم، إذ ستجد هناك قاتلا مأجورا يعرض خدماته ونماذج من أعماله السابقة، بإمكانك حجزه في أي وقت، وتاجرا يوصل لك مع البريد جرعاتك المطلوبة من الكوكايين إلى باب منزلك، وتُحُفا فنية مسروقة وأسلحة متنوعة، ووثائق رسمية مزورة، وبإمكانك أن تدفع بإحدى العُمْلات الرقمية المشفرة حيث يتعذر معرفة من باع ومن اشترى.

تطبيق تيليجرام ومواقع التواصل الاجتماعي هي في أحسن أحوالها أدوات للتواصل، ولهذه الغاية أُنشئت، وليست مكانا يمكن الاعتماد عليه في أرشفة أحداث الثورة وتوثيق أيامها. لا بد من ثورة تدوين جديدة، لقد أحدثت مواقع التواصل الاجتماعي تغييرا سلبيا في طريقة تعاطينا مع المعلومات والأفكار واستهلاكنا لها أيضا. لقد أحسن المدون الإيراني المعارض حسين درخشان في تحليل هذه التغييرات في مقال جميل وعميق تحت عنوان "موت الإنترنت: عن الشبكة التي يجب علينا إنقاذها" وفطن المدون لهذه التغييرات لأنه سُجن عام 2008 الزمن الذهبي للمدونات وأُطلق سراحه بعد ست سنوات ليجد التيليجرام وقد هوت إليه أفئدة المُبْحرين من الناس .

في هذا المقال أريد أن أبين أن إنشاء مدونة إلكترونية سيكون أفضلَ حلٍّ ممكن لحملات الحذف والتوقيف التي تتعرض لها حسابات الناشطين وكُتَّاب الثورة. ووسيلة سهلة لحفظ أرشيف الثورة المكتوب، وطريقة لتوثيق أيام الثورة وجعلها في متناول الباحثين والمهتمين والأجيال القادمة أيضا. يمكن للكاتب أو الناشط أن يمتلك مدونة إلكترونية أنيقة والبقاء في الوقت نفسه محتفظا بحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بل وعلى وتيرة نشاطه عليها كذلك.

من منطلق تجربة في التدوين امتدت لأكثر من عشر سنوات فإن أفضل موقع لإنشاء مدونة إلكترونية مجانية خالية من الإعلانات وسهلة الإدارة هو موقع blogger التابع لغوغل. الأمر لا يتطلب سوى بريد إلكتروني وعشر دقائق لإطلاق مدونة إلكترونية وإذا أنفقتَ بعضَ الساعات الأخرى عليها فستتحول إلى موقع إلكتروني احترافي . أن تمتلك مدونة إلكترونية يعني أن بإمكان قُرَّائك أن يظلوا على اطلاع على آرائك وأفكارك ومواقفك حتى وإن تعرَّضتْ حساباتُك على مواقع التواصل الاجتماعي للحذف، فشركة غوغل لا تحذف المدونات الإلكترونية خصوصا إن كان ما ينشر عليها مادةً مكتوبة وصورًا أو مقاطعَ فيديو لا تحتوي مشاهدَ عنف وقتل. كما أن تنزيل المواد المنشورة على المدونات سهل ويسير جدا وبعدة صيغ.

وعندما يتَّبع المدون بعض الإجراءات السهلة وهو بصدد نشر تدوينته فهناك إمكانية كبيرة لجعل موادها تتصدر نتائج محركات البحث، وهي الإجراءات والتقنيات المعروفة في عالم التدوين ب seo .

توجد عشرات الآلاف من القوالب الجاهزة التي تجمع بين الأناقة والسهولة والاحترافية ، وهي عبارة عن "إستايلات" مجانية يستغرق تركيبها بضع ثوان لتظهر المدونة في شكل مناسب بحسَب ذوق المدون واختياره . وهناك أيضا عشراتُ الإضافات الأخرى التي يمكن إلحاقها بالمدونة "كالسلايدر شو" الذي يتيح عرض المواضيع المهمة على شكل صور بارزة ومتحركة في واجهة المدونة. أو شريط إخباري متحرك بآخر الأخبار، والقائمة البريدية التي تُوصل المواضيع الجديدة للمتابعين على بريدهم الإلكتروني فور نشرها على المدونة...

قامتblogger بإطلاق تطبيق خاص بمدوناتها يتوافق مع أنظمة الهواتف الذكية، وهو تطبيق بواجهة سهلة خالية من التعقيد، يمكن التعامل معه بالمرونة ذاتها التي يُتعامل بها مع منصات التواصل الاجتماعي، حيث يمكن نشر المواد بواسطته وتحرير المواضيع والتعديل عليها وإضافة الصور والروابط إليها . وعندما يكون التطبيق موجودا في هاتفك فكل ما عليك فعله عند نشر موضوع ما على قناتك في التيليجرام أو حسابك على الفيسبوك أو موقع justpaste هو القيام بنسخ الموضوع ولصقه في تطبيق المدونة في عملية قد لا تستغرق أكثر من دقيقة. وسيكون الكاتب بذلك قد احتفظ بنسخة من مجهوده قابلة للأرشفة والتنزيل ويمكن أن تكون في يوم من الأيام مرجعا للمهتمين والأجيال القادمة والباحثين عن الحقيقة في هذه العالم الذي أرخى عليه ليلُ التضليل سُدُولَه.
‏٠٨‏/٠٧‏/٢٠١٨ ٩:٠٨ م‏
جميع أعداد مجلة كلمة حق للتحميل على رابط واحد. حمل أعداد السنة الأولى من مجلة كلمة حق من هذا الرابط: https://archive.org/details/klmtuhaqy1
جميع أعداد مجلة كلمة حق للتحميل على رابط واحد.

حمل أعداد السنة الأولى من مجلة كلمة حق من هذا الرابط:
https://archive.org/details/klmtuhaqy1
‏٠٧‏/٠٧‏/٢٠١٨ ٥:٥٢ م‏
كتاب يُنشر لأول مرة، للأستاذ حازم أبو إسماعيل رابط مباشر لكتاب "ما لا نعرفه عن رسول الله"، للأستاذ @[19524666343:274:حازم صلاح أبو إسماعيل]، تحرير @[520036614:2048:محمد إلهامي] وهو هدية العدد السنوي الأول لمجلة كلمة حق. لتحميل الكتاب: http://bit.ly/2NdUwiY ولتحميل العدد السنوي: http://bit.ly/2KyDVol
كتاب يُنشر لأول مرة، للأستاذ حازم أبو إسماعيل

رابط مباشر لكتاب "ما لا نعرفه عن رسول الله"، للأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل، تحرير محمد إلهامي

وهو هدية العدد السنوي الأول لمجلة كلمة حق.

لتحميل الكتاب:
http://bit.ly/2NdUwiY

ولتحميل العدد السنوي:
http://bit.ly/2KyDVol
‏٠٦‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١٢:١٧ م‏
عام على (كلمة حق) @[520036614:2048:محمد إلهامي] بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. هذا هو العدد الثاني عشر من مجلة "كلمة حق"، أي أن المجلة الوليدة قد أكملت من عمرها عاماً، وهذا بالنسبة لعمل تطوعي علامة من علامات الإنجاز، إذ الأعمال التطوعية بطبيعتها مهددة دائماً. كما أنه بالنسبة لعمل مُقاوِم علامة إنجاز أخرى؛ إذ المقاومة التي تنتمي للأمة جريمة في ميزان الفرعونية العالمية والفرعونية الإقليمية، وهذا العالم في هذه اللحظة يكاد أن يكون كله منظومة فرعونية قاهرة! وأدل شيء على هذا أن المجلة ما كادت تصدر إلا وكُتِب عنها بعد ساعات تقريرٌ على موقع إخباري تابع لجهات الأمنية، وعلى كل حال فإنهم لم يُقَصِّروا في المتابعة الدقيقة للمجلة، وهي متابعة فاقت توقعاتنا حقاً.. ولئن كنا نسأل الله لهم الهداية –كما أسلم سحرة فرعون من بعد ما كانوا يبذلون المجهود لتحصيل القرب منه- فإننا نخشى أن يطمس الله على قلوبهم فيكونوا كجنود فرعون: عذبوا السحرة الذين أسلموا مع أنهم رأوا نفس المعجزة، وخاضوا البحر وراء فرعونهم رغم أنهم رأوا بأعينهم معجزة انشقاقه لموسى! وهكذا ما أبعد ما بين الخاتمتين رغم أن المعجزة واحدة والمشهد واحد! فالأمر ليس متوقفاً على عظمة المعجزة بل على استقبال القلب لها، ولقد سمع القرآن عمر بن الخطاب وسمعه كذلك أبو جهل، فأسلم هذا وصار فاروق الأمة وكفر هذا وصار فرعون الأمة، ولقد وصف الله قرآنه فقال {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. وهذه فرصة نوجِّه فيها الكلام لأولئك الذين يعملون في جهاز الطغيان، إن أقصى ما يبلغه أحدكم أن يكون رئيسا كعبد الناصر أو السادات أو مبارك، فإما مات مسموما أو مقتولا أو خُلع، بل ولو أنه مات في السلطة لما أغنى عنه هذا من عذاب الله شيئا.. على أن هذا المنصب لا يصل إليه إلا النادر القليل، لقد اجتهد أن يصل إليه الأكثرون فماتوا دون ذلك، ماتوا بعد عزل وقهر أو نحر (سُمِّي انتحارا أو حادثة سير) فما بلغوا حظهم من الدنيا ولا نالوا نصيبا من الآخرة، خسروا الدنيا والآخرة.. ولقد كانوا مثلكم لا يتعظون بمصير الذين من قبلهم، فهم -كما وصفهم الله- {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. كانت فكرة المجلة بسيطة واضحة في أذهاننا وقد اجتهدنا أن تكون تطبيقاً لها. إن القنوات والصحف ومواقع الانترنت والحسابات تفيض وتسيل بالكلام في كل اتجاه، ولا تشكو الأمة من قلة الكُتَّاب والمتحدثين ومن يتصدرون لموقع الفكر والتنظير والتوجيه، على أن الواقع أن أقل القليل وأندر النادر من أولئك الناس من إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ لم نحصل منهم على شيء ذي قيمة.. إغراق في التنظير وانشغال بالقيود الأكاديمية للكتابة، ودفق متصل من البلاغيات والزخارف والكلام الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقترب من الأسئلة الحرجة.. وهذا حال من يتصدرون موقع التفكير والتنظير للثورات، وهم أنفسهم قلة وسط من انشغلوا بالمناطق الفكرية الآمنة: كدقائق الفلسفة وغرائب الفقه وعجائب العلوم وطرائف الحياة.. إلخ! فكانت الفكرة بسيطة: يا معشر الذين تنصحون وتوجهون الثوار والمقاومين والمجاهدين: اكتبوا كلامًا إذا قرأه الثائر أو من يخطط لثورة استفاد منه، اكتبوا كلاما يمكن أن ينبني عليه عمل، اعتبروا أنكم تخططون لمن آمنوا بأهمية الرؤية والرسالة والتخطيط والعلم وقولوا لهم كلاما بعد تحقق هذا الإيمان! وهذا مجال واسع وفسيح أيضا لكنه يعاني ندرة المتكلمين فيه.. إنه لا قيمة لعلم ولا لتخصص إن لم يكن صاحبه يستطيع أن يصوغه في كلام مفيد ينبني عليه عمل، فلا فائدة لمن درس الإعلام إن لم يكن يستطيع أن ينصح ويوجه ويكتب كلاما مفيداً وعملياً في "كيف ينبغي أن يكون إعلام المقاومة"، ولا فائدة لمن درس السياسة إن لم يستطع أن يكتب كلاماً عملياً يحدد بها سياسة الثورة والمقاومة ويُشرح بها سياسة الخصوم والحلفاء وكيفية بناء العلاقة مع الأطياف المختلفة، لا فائدة للقانوني الذي لا يستطيع أن يحدد خطوات حركة المقاومة في لحظات إدارة الفراغ وإدارة النزاع أو في لحظات النصر الأولى... وهكذا في كل مجال، ومن المؤسف أن الثغور جميعاً تعاني الندرة والفراغ! لذلك كتبنا في العدد الأول وكررنا في الثاني أن المجلة تستقبل المقالات من جميع القراء إذا اجتمعت فيها ثلاثة شروط: أن تكون علمية عاقلة لا عاطفية حماسية فإن الحماسة لا تنصر الحق ولا تفيد في بناء الوعي، وأن تكون في باب الثورة إذ هي قضية الأمة الراهنة وواجب الوقت، وأن تكون مفيدة لمن أراد العمل. وشرط رابع فني: أن ينشر باسم صاحبه لا باسم مجهول إلا إذا رغب كاتبها في الكتابة باسم مستعار وهو معروف لدينا بعينه، وأخيراً ألا تكون منشورة من قبل. وبكل صراحة وشفافية نقول: إن العثور على مثل هؤلاء لم يكن سهلاً، كثير من المقالات التي جاءتنا لم تكن تنسجم مع هذا الخط، فإما غلب عليها الإغراق في التنظير أو اقتصرت على الدعوة للاهتمام بالتخطيط أو كانت تحلق بعيداً في مشارب لمعرفية أخرى، فضلاً عما رددناه من المقالات لأسباب فنية كأن يكون مقالاً مسروقاً أو ضعيفاً أو نشره صاحبه من قبل أو غير ذلك. كذلك فإن بعض المقالات قد دارت حولها نقاشات ساخنة بين فريق المجلة: هل تقع ضمن هذا الخط أم لا.. وكان رأي الشورى غالباً! ونكرر الدعوة لكل صاحب قلم مميز أن يشاركنا بمقالاته ويراسلنا على بريد المجلة بها klmtuhaq@gmail.com، فالمجلة ليست حكراً على أحد، وهي تركز في نشرها للمقالات على مناسبة الموضوع لخط المجلة آنف الذكر لا على اسم الكاتب وشهرته. هنا أنتهز الفرصة لأشكر أخي الحبيب معتز زاهر، مدير التحرير، ومحرك المجلة ورجلها النشيط.. كما أشكر من يقف وراء هذا المجهود الراقي في تصميم المجلة ويتحمل سيل طلبات التعديل والتصحيح والاقتراحات، ثم الشكر الوافر للكتاب الأكارم الذين اقتطعوا من وقتهم وجهدهم ما لو صرفوه في الكتابة لغيرنا لعادت عليهم أموالاً وأجوراً فجعلوا أجرهم عند الله، وأخص بالذكر منهم من تابعوا الكتابة معنا حتى الآن: المهندس أحمد مولانا وهو من فرسان القلم وذوي اليقظة والنباهة والرشد، والدكتور عمرو عادل وقد عرفته مخلصاً غيوراً كان السجن والفصل من الجيش أهون عليه من كتم الحق الذي يعرفه ويؤمن به، والأستاذ الصغير منير من أحبابنا في الجزائر وهو صاحب تجربة كفاح قديمة وقد جمعتنا الأقدار في إسطنبول، والأستاذ عبد الغني مزوز الفتى الصغير الكبير وصاحب النشاط الوافر والمتابعة الجادة، والأستاذة يسرا جلال الأديبة ذات القلم الرشيق التي تحول المادة الجافة إلى قصة عذبة.. وآخرون انقطعوا عنا انقطاعاً نسأل الله أن يكون مؤقتاً، ولا تثريب عليهم فكل جهد في خير سيصب في نهر الأمة الكبير نهاية المطاف. وبقي شكر خاص وافر لأساتذتنا ومشايخنا من أهل العلم والدين، أولئك الذين أفردنا لهم قسماً خاصا بالمجلة نستمتع فيه بجهادهم بالقرآن تحت شعار "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، فهم روح المجلة وريحانها ومستراحها، وفي واحتهم وظل دوحتهم نرى ونسمع من ديننا ما يطمسه علماء السلطة، نخص منهم بالذكر من استمروا معنا طول الوقت: أستاذي الدكتور عطية عدلان المتخصص بفقه السياسة الشرعية وصاحب المؤلفات المشهورة، وهو الرجل الطيب الرقيق الذي لا يجد في دينه ما يتحرج منه (وما أندر هؤلاء في باب السياسة الشرعية)، والشيخ الكريم الدكتور وصفي أبو زيد المتخصص بمقاصد الشريعة وصاحب الجهد المشكور المذكور في بيانها وتلمس تنزيلها على واقع الثورة والمقاومة. ولقد خصصنا في كل عدد مختصر كتاب مفيد نشرناه على حلقات، فنشرنا أربعة كتب في الأعداد السابقة، ثم خصصنا في باب العلماء مقالاً لعالم أو داعية أو كاتب أسير.. ثم فتح الله علينا أن نجعل مع كل عدد هدية منفصلة: مختصر كتاب مفيد، وافتتحنا هذا الأمر بكتيب للشيخ الأسير البصير، حازم صلاح أبو إسماعيل، زينة مصر ومن مهَّد فيها للمشروع الإسلامي وعظمته تمهيداً عظيماً، اقتبسنا مادته من مقدمة سلسلته الصوتية في السيرة النبوية وجعلنا عنوانه: "ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، عازمين إن شاء الله أن يكون هذا عادة مع كل عدد قادم. ثم قد بقي الشكر الكبير للقراء الكرام، من لا نستطيع أن نوفيهم شكراً يليق بهم، فإن القارئ نعمة الله على الكاتب، وهو باب دخوله الجنة إن أخلص وقال حقاً، فكيف يستطيع كاتب أن يشكر من كان باباً له إلى الجنة؟! هذا أمر فوق الطاقة ولا تسعه العبارة.. ولقد عوضنا الله من قلة الكُتَّاب كثرة القراء والحمد لله، وبلغت المجلة انتشارا لم نتوقعه كذلك.. وقد وصلتنا الرسائل بأن المجلة التي تصدر إلكترونية تُطبع في عدد من الأنحاء، كما أخبرنا الموقع وصفحة الفيس بوك أن المجلة لها قراء في روسيا وإندونيسيا وكذلك في أمريكا وكندا وما بينهما.. فالحمد لله رب العالمين. في هذه المجلة عايشتُ حقاً معنى لم أعرفه من قبل، وهو معنى أن يكون العدد الحالي هو العدد الأخير، ولقد وجدتني حين أتخيل انقطاعها راضياً عما قدَّمتْ، إذ لم أدخر جهداً في خروجها على أفضل ما استطعت في ظل الظروف المحيطة، ولقد كنت كثيراً ما أشعر بتوفيق الله يظلل صدورها.. فالحق المحض أنها محض فضل من الله ونعمة، وما كان فيها من توفيق فمن الله وحده: كم ذلل لها سبلاً وفتح لها قلوباً، وما كان فيها من قصور وتقصير فمن أنفسنا ومن الشيطان ولا يزال عمل البشر دليل نقصانهم وقصورهم! ونسأل الله تعالى أن يشرفنا بخدمته والعمل له، وأن يجعلنا ممن يستعملهم لنصرة دينه، وأن يجعل هذه الأقلام في سبيله، وأن يعصمنا من فتنة الذهب والسيف، فإن أراد بقومنا فتنة قبضنا إليه غير مفتونين.
عام على (كلمة حق)
محمد إلهامي

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك..

هذا هو العدد الثاني عشر من مجلة "كلمة حق"، أي أن المجلة الوليدة قد أكملت من عمرها عاماً، وهذا بالنسبة لعمل تطوعي علامة من علامات الإنجاز، إذ الأعمال التطوعية بطبيعتها مهددة دائماً. كما أنه بالنسبة لعمل مُقاوِم علامة إنجاز أخرى؛ إذ المقاومة التي تنتمي للأمة جريمة في ميزان الفرعونية العالمية والفرعونية الإقليمية، وهذا العالم في هذه اللحظة يكاد أن يكون كله منظومة فرعونية قاهرة!

وأدل شيء على هذا أن المجلة ما كادت تصدر إلا وكُتِب عنها بعد ساعات تقريرٌ على موقع إخباري تابع لجهات الأمنية، وعلى كل حال فإنهم لم يُقَصِّروا في المتابعة الدقيقة للمجلة، وهي متابعة فاقت توقعاتنا حقاً.. ولئن كنا نسأل الله لهم الهداية –كما أسلم سحرة فرعون من بعد ما كانوا يبذلون المجهود لتحصيل القرب منه- فإننا نخشى أن يطمس الله على قلوبهم فيكونوا كجنود فرعون: عذبوا السحرة الذين أسلموا مع أنهم رأوا نفس المعجزة، وخاضوا البحر وراء فرعونهم رغم أنهم رأوا بأعينهم معجزة انشقاقه لموسى!

وهكذا ما أبعد ما بين الخاتمتين رغم أن المعجزة واحدة والمشهد واحد! فالأمر ليس متوقفاً على عظمة المعجزة بل على استقبال القلب لها، ولقد سمع القرآن عمر بن الخطاب وسمعه كذلك أبو جهل، فأسلم هذا وصار فاروق الأمة وكفر هذا وصار فرعون الأمة، ولقد وصف الله قرآنه فقال {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

وهذه فرصة نوجِّه فيها الكلام لأولئك الذين يعملون في جهاز الطغيان، إن أقصى ما يبلغه أحدكم أن يكون رئيسا كعبد الناصر أو السادات أو مبارك، فإما مات مسموما أو مقتولا أو خُلع، بل ولو أنه مات في السلطة لما أغنى عنه هذا من عذاب الله شيئا..

على أن هذا المنصب لا يصل إليه إلا النادر القليل، لقد اجتهد أن يصل إليه الأكثرون فماتوا دون ذلك، ماتوا بعد عزل وقهر أو نحر (سُمِّي انتحارا أو حادثة سير) فما بلغوا حظهم من الدنيا ولا نالوا نصيبا من الآخرة، خسروا الدنيا والآخرة.. ولقد كانوا مثلكم لا يتعظون بمصير الذين من قبلهم، فهم -كما وصفهم الله- {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

كانت فكرة المجلة بسيطة واضحة في أذهاننا وقد اجتهدنا أن تكون تطبيقاً لها.

إن القنوات والصحف ومواقع الانترنت والحسابات تفيض وتسيل بالكلام في كل اتجاه، ولا تشكو الأمة من قلة الكُتَّاب والمتحدثين ومن يتصدرون لموقع الفكر والتنظير والتوجيه، على أن الواقع أن أقل القليل وأندر النادر من أولئك الناس من إذا سُئِلوا: ماذا نفعل؟ لم نحصل منهم على شيء ذي قيمة.. إغراق في التنظير وانشغال بالقيود الأكاديمية للكتابة، ودفق متصل من البلاغيات والزخارف والكلام الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقترب من الأسئلة الحرجة.. وهذا حال من يتصدرون موقع التفكير والتنظير للثورات، وهم أنفسهم قلة وسط من انشغلوا بالمناطق الفكرية الآمنة: كدقائق الفلسفة وغرائب الفقه وعجائب العلوم وطرائف الحياة.. إلخ!

فكانت الفكرة بسيطة: يا معشر الذين تنصحون وتوجهون الثوار والمقاومين والمجاهدين: اكتبوا كلامًا إذا قرأه الثائر أو من يخطط لثورة استفاد منه، اكتبوا كلاما يمكن أن ينبني عليه عمل، اعتبروا أنكم تخططون لمن آمنوا بأهمية الرؤية والرسالة والتخطيط والعلم وقولوا لهم كلاما بعد تحقق هذا الإيمان! وهذا مجال واسع وفسيح أيضا لكنه يعاني ندرة المتكلمين فيه.. إنه لا قيمة لعلم ولا لتخصص إن لم يكن صاحبه يستطيع أن يصوغه في كلام مفيد ينبني عليه عمل، فلا فائدة لمن درس الإعلام إن لم يكن يستطيع أن ينصح ويوجه ويكتب كلاما مفيداً وعملياً في "كيف ينبغي أن يكون إعلام المقاومة"، ولا فائدة لمن درس السياسة إن لم يستطع أن يكتب كلاماً عملياً يحدد بها سياسة الثورة والمقاومة ويُشرح بها سياسة الخصوم والحلفاء وكيفية بناء العلاقة مع الأطياف المختلفة، لا فائدة للقانوني الذي لا يستطيع أن يحدد خطوات حركة المقاومة في لحظات إدارة الفراغ وإدارة النزاع أو في لحظات النصر الأولى... وهكذا في كل مجال، ومن المؤسف أن الثغور جميعاً تعاني الندرة والفراغ!

لذلك كتبنا في العدد الأول وكررنا في الثاني أن المجلة تستقبل المقالات من جميع القراء إذا اجتمعت فيها ثلاثة شروط: أن تكون علمية عاقلة لا عاطفية حماسية فإن الحماسة لا تنصر الحق ولا تفيد في بناء الوعي، وأن تكون في باب الثورة إذ هي قضية الأمة الراهنة وواجب الوقت، وأن تكون مفيدة لمن أراد العمل. وشرط رابع فني: أن ينشر باسم صاحبه لا باسم مجهول إلا إذا رغب كاتبها في الكتابة باسم مستعار وهو معروف لدينا بعينه، وأخيراً ألا تكون منشورة من قبل.

وبكل صراحة وشفافية نقول: إن العثور على مثل هؤلاء لم يكن سهلاً، كثير من المقالات التي جاءتنا لم تكن تنسجم مع هذا الخط، فإما غلب عليها الإغراق في التنظير أو اقتصرت على الدعوة للاهتمام بالتخطيط أو كانت تحلق بعيداً في مشارب لمعرفية أخرى، فضلاً عما رددناه من المقالات لأسباب فنية كأن يكون مقالاً مسروقاً أو ضعيفاً أو نشره صاحبه من قبل أو غير ذلك. كذلك فإن بعض المقالات قد دارت حولها نقاشات ساخنة بين فريق المجلة: هل تقع ضمن هذا الخط أم لا.. وكان رأي الشورى غالباً!

ونكرر الدعوة لكل صاحب قلم مميز أن يشاركنا بمقالاته ويراسلنا على بريد المجلة بها klmtuhaq@gmail.com، فالمجلة ليست حكراً على أحد، وهي تركز في نشرها للمقالات على مناسبة الموضوع لخط المجلة آنف الذكر لا على اسم الكاتب وشهرته.

هنا أنتهز الفرصة لأشكر أخي الحبيب معتز زاهر، مدير التحرير، ومحرك المجلة ورجلها النشيط.. كما أشكر من يقف وراء هذا المجهود الراقي في تصميم المجلة ويتحمل سيل طلبات التعديل والتصحيح والاقتراحات، ثم الشكر الوافر للكتاب الأكارم الذين اقتطعوا من وقتهم وجهدهم ما لو صرفوه في الكتابة لغيرنا لعادت عليهم أموالاً وأجوراً فجعلوا أجرهم عند الله، وأخص بالذكر منهم من تابعوا الكتابة معنا حتى الآن: المهندس أحمد مولانا وهو من فرسان القلم وذوي اليقظة والنباهة والرشد، والدكتور عمرو عادل وقد عرفته مخلصاً غيوراً كان السجن والفصل من الجيش أهون عليه من كتم الحق الذي يعرفه ويؤمن به، والأستاذ الصغير منير من أحبابنا في الجزائر وهو صاحب تجربة كفاح قديمة وقد جمعتنا الأقدار في إسطنبول، والأستاذ عبد الغني مزوز الفتى الصغير الكبير وصاحب النشاط الوافر والمتابعة الجادة، والأستاذة يسرا جلال الأديبة ذات القلم الرشيق التي تحول المادة الجافة إلى قصة عذبة.. وآخرون انقطعوا عنا انقطاعاً نسأل الله أن يكون مؤقتاً، ولا تثريب عليهم فكل جهد في خير سيصب في نهر الأمة الكبير نهاية المطاف.

وبقي شكر خاص وافر لأساتذتنا ومشايخنا من أهل العلم والدين، أولئك الذين أفردنا لهم قسماً خاصا بالمجلة نستمتع فيه بجهادهم بالقرآن تحت شعار "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، فهم روح المجلة وريحانها ومستراحها، وفي واحتهم وظل دوحتهم نرى ونسمع من ديننا ما يطمسه علماء السلطة، نخص منهم بالذكر من استمروا معنا طول الوقت: أستاذي الدكتور عطية عدلان المتخصص بفقه السياسة الشرعية وصاحب المؤلفات المشهورة، وهو الرجل الطيب الرقيق الذي لا يجد في دينه ما يتحرج منه (وما أندر هؤلاء في باب السياسة الشرعية)، والشيخ الكريم الدكتور وصفي أبو زيد المتخصص بمقاصد الشريعة وصاحب الجهد المشكور المذكور في بيانها وتلمس تنزيلها على واقع الثورة والمقاومة.

ولقد خصصنا في كل عدد مختصر كتاب مفيد نشرناه على حلقات، فنشرنا أربعة كتب في الأعداد السابقة، ثم خصصنا في باب العلماء مقالاً لعالم أو داعية أو كاتب أسير.. ثم فتح الله علينا أن نجعل مع كل عدد هدية منفصلة: مختصر كتاب مفيد، وافتتحنا هذا الأمر بكتيب للشيخ الأسير البصير، حازم صلاح أبو إسماعيل، زينة مصر ومن مهَّد فيها للمشروع الإسلامي وعظمته تمهيداً عظيماً، اقتبسنا مادته من مقدمة سلسلته الصوتية في السيرة النبوية وجعلنا عنوانه: "ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، عازمين إن شاء الله أن يكون هذا عادة مع كل عدد قادم.

ثم قد بقي الشكر الكبير للقراء الكرام، من لا نستطيع أن نوفيهم شكراً يليق بهم، فإن القارئ نعمة الله على الكاتب، وهو باب دخوله الجنة إن أخلص وقال حقاً، فكيف يستطيع كاتب أن يشكر من كان باباً له إلى الجنة؟! هذا أمر فوق الطاقة ولا تسعه العبارة.. ولقد عوضنا الله من قلة الكُتَّاب كثرة القراء والحمد لله، وبلغت المجلة انتشارا لم نتوقعه كذلك.. وقد وصلتنا الرسائل بأن المجلة التي تصدر إلكترونية تُطبع في عدد من الأنحاء، كما أخبرنا الموقع وصفحة الفيس بوك أن المجلة لها قراء في روسيا وإندونيسيا وكذلك في أمريكا وكندا وما بينهما.. فالحمد لله رب العالمين.

في هذه المجلة عايشتُ حقاً معنى لم أعرفه من قبل، وهو معنى أن يكون العدد الحالي هو العدد الأخير، ولقد وجدتني حين أتخيل انقطاعها راضياً عما قدَّمتْ، إذ لم أدخر جهداً في خروجها على أفضل ما استطعت في ظل الظروف المحيطة، ولقد كنت كثيراً ما أشعر بتوفيق الله يظلل صدورها.. فالحق المحض أنها محض فضل من الله ونعمة، وما كان فيها من توفيق فمن الله وحده: كم ذلل لها سبلاً وفتح لها قلوباً، وما كان فيها من قصور وتقصير فمن أنفسنا ومن الشيطان ولا يزال عمل البشر دليل نقصانهم وقصورهم!

ونسأل الله تعالى أن يشرفنا بخدمته والعمل له، وأن يجعلنا ممن يستعملهم لنصرة دينه، وأن يجعل هذه الأقلام في سبيله، وأن يعصمنا من فتنة الذهب والسيف، فإن أراد بقومنا فتنة قبضنا إليه غير مفتونين.
‏٠٤‏/٠٧‏/٢٠١٨ ١١:٤١ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، وهو العدد السنوي الأول، عدد 12، من مجلة (كلمة حق)، لشهر يوليو 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: ما لا نعرفه عن رسول الله، للأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل، تحرير محمد إلهامي. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2KyDVol لتحميل هدية العدد كتيب ما لا نعرفه عن رسول الله، اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2NdUwiY نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة مجلة كلمة حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، وهو العدد السنوي الأول، عدد 12، من مجلة (كلمة حق)، لشهر يوليو 2018، ومع العدد هدية خاصة، كُتيب بعنوان: ما لا نعرفه عن رسول الله، للأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل، تحرير محمد إلهامي.


لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.


لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2KyDVol

لتحميل هدية العدد كتيب ما لا نعرفه عن رسول الله، اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2NdUwiY

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة مجلة كلمة حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
المدونة:
https://klmtuhaq.blog/
‏٠١‏/٠٧‏/٢٠١٨ ٩:١٤ م‏
تم بث فيديو مباشر من ‏مجلة كلمة حق‏.
بث مباشر مع المشرف العام على مجلة كلمة حق، م. محمد إلهامي، نرحب باقتراحاتكم واستفساراتكم.
بث مباشر مع المشرف العام على مجلة كلمة حق، م. محمد إلهامي، نرحب باقتراحاتكم واستفساراتكم.
‏٣٠‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٢:٠٥ م‏
(( لقاء مباشر مع المشرف العام على المجلة )) غداً إن شاء الله الساعة الثانية بتوقيت مكة المكرمة، وبمناسبة مرور عام على انطلاق مجلتكم، موعدكم مع بث مباشر للمشرف العام على @[196164480909426:274:مجلة كلمة حق]، م. @[520036614:2048:محمد إلهامي]، في حديث عن المجلة ومسيرتها خلال العام الفائت، وما ينتظرها في الأيام المقبلة. ويسعدنا تلقي أسئلتكم واقتراحاتكم، سواء قبل البث أو خلاله.
(( لقاء مباشر مع المشرف العام على المجلة ))

غداً إن شاء الله الساعة الثانية بتوقيت مكة المكرمة، وبمناسبة مرور عام على انطلاق مجلتكم، موعدكم مع بث مباشر للمشرف العام على مجلة كلمة حق، م. محمد إلهامي، في حديث عن المجلة ومسيرتها خلال العام الفائت، وما ينتظرها في الأيام المقبلة.

ويسعدنا تلقي أسئلتكم واقتراحاتكم، سواء قبل البث أو خلاله.
‏٢٩‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٩:٥٧ م‏
لا يضرهم من خذلهم د. أحمد عبد الرحمن الصويان (فك الله أسره) لتحميل العدد كاملاً: http://bit.ly/2J1Avxy] مشاريع التهويد لمدينة القدس تتصاعد بصورة متسارعة وغير مسبوقة. الأنفاق والحفريات اليهودية مستمرة بشكل يهدد بنيان المسجد الأقصى. المغتصبون والمتطرفون اليهود يقتحمون المسجد الأقصى ويتطاولون على حرمته بشكل متكرر، ويصادرون أجزاء منه. الكنس اليهودية تحيط بالمسجد الأقصى، وتطوقه من كل جانب. الكنيست الصهيوني يناقش مقترحاً لقانون يقضي بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً. هدم المنازل والمزارع، وتهجير السكان، ومصادرة الهويات المقدسية، وتصاعد حركة الاغتصاب في محيط مدينة القدس؛ لم تتوقف منذ بداية الاحتلال. هذه بعض العناوين الكبيرة للمشهد المقدسي، وهي غيض من فيض.. وكل عنوان منها يقتضي غضبة حقيقية من الأمة، لنصرة الأرض المباركة واستنقاذها من مخالب اليهود. لكن ما الذي يحدث على الأرض؟! لم تعد هذه الأخبار تلفت الانتباه أو تحرّك ساكناً في السياسات العربية.. ولم تعد هذه الأخبار على واجهة الإعلام العربي، بل لا في حاشية كثير من منابره! ولم تعد قضية القدس حاضرة في مناهج التعليم والتربية، بل لم تعد – مع الأسف الشديد – حاضرة في كثير من منابر الجمعة ومناهج الدعوة! أما منظمة التعاون الإسلامي.. جامعة الدول العربية.. السلطة الفلسطينية.. الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية.. رابطة العالم الإسلامي.. اللجان والصناديق الرسمية المخصصة لفلسطين.. فجميعها غائبة عن ذلك المشهد، تجتر عجزها وهوانها، صامتة لا تسمع لها ركزاً، وكأنَّ القضية لا تعنيها! الحاضر الرئيس في قلب الحدث: هم أولئك الأبطال والمرابطون في بيت المقدس وأكنافه، الثابتون في ظلال القدس وأروقة الأقصى ومصاطب العلم؛ فهؤلاء وحدهم من يواجه مشاريع التهويد والهدم والتطاول على المقدسات. إنَّ ثمة حقيقة لا ريب فيها، وهي أن هؤلاء المقادسة ابتلوا بخذلان وتثبيط كثير من إخوانهم، بل رأينا من يدفعهم دفعاً للاستسلام والرضوخ لليهود، بحجة الواقعية السياسية وتوجّهات المجتمع الدولي! وأرجو أن يكون لهم نصيب وافر من قول الله – تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: ١٧٣، ١٧٤]. كما أرجو أن يكون هؤلاء المرابطون من الطائفة المنصورة التي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم: (على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك). وفي بعض روايات الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين هم؟ قال: (في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)[1]، وفي رواية أخرى: (يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها)[2]. ومن تأمَّل هذه الأحاديث يدرك أن ذلك الخذلان والإعراض لن يثني المرابطين عن ثباتهم واستبسالهم في الذبِّ عن حُرمة الأقصى، ففي بعض روايات الحديث: (لا يضرهم من خذلهم)[3]، (لا يبالون من يخالفهم)[4]، خاصة إذا استشعر هؤلاء المرابطون أن ثباتهم على أرضهم خير لهم من الدنيا وما فيها؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه؛ ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه – يعني: حبل فرسه – من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خير له من الدنيا جميعاً). قال: أو قال: (خير من الدنيا وما فيها)[5]. فإذا كانت المرابطة في أرض يرى منها بيت المقدس فيها هذا الأجر العظيم، فكيف يكون أجر المرابطة في بيت المقدس نفسه؟! ولا يكفي ها هنا أن نلوم الأنظمة والحكومات على تفريطها وخذلانها، بل يجب أن نلوم أنفسنا، ونلوم العلماء والدعاة والخطباء والمؤسسات الإسلامية؛ فالوهن الذي أصاب الأمة في كثير من مفاصلها أعاق كثيراً من مشاريع نُصرة الأقصى! إنَّ تغييب الوعي بقضية المسجد الأقصى أزمة كبيرة يتحمَّل تبعاتها أطراف متعددة؛ لذا فإن إحياء وتجديد الاهتمام بها من الأولويات التي يجب أن توظف لها الطاقات، وتتنوّع فيها المشاريع، وتأتلف عليها الجهود المؤسسية والفردية. ويحسن التأكيد ها هنا على ضرورة استثمار المشاعر الجياشة التي تعمر قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في إبداع مشاريع عملية حيوية وجامعة، تتنوَّع بتنوّع البيئات وتستقطب شتى الطاقات والإمكانات. وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال: (ائتوه فصلوا فيه – وكانت البلاد إذ ذاك حرباً - فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)[6]. إنَّ نصرة المسجد الأقصى ينبغي أن تكون مشروعاً للأمة بمجموعها، ومشروعاً شخصياً لكل مسلم، وحديثُ القناديل لم يترك عذراً لأحد ولو كان بشيء يسير كبعث زيت لإسراجها، وأحسب أن المقصود في إسراج قناديله: إحياء المسجد وتكريمه وعمارته والعناية به، والذبُّ عن حرمته، حتى لا يُهجر وينقطع عنه المصلون. ولعل من أعظم قناديله التي ينبغي أن تسرج: المرابطون في أكنافه، وقراؤه، وعبَّاده، وحراسه، وعمَّار مصاطب العلم وحلقات تحفيظ القرآن؛ فهم النور الذي يتلألأ، وحقهم علينا: دعمهم، وتثبيتهم، وتعزيز صمودهم، ونصرتهم بكل ألوان النصرة، ودعم قضيتهم في كل أنحاء العالم. فاللهم اجعلنا من أنصار الأقصى وعمَّاره. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] أخرجه: أحمد في مسنده رقم (22320)، والطبراني في الكبير (8/171) رقم (7643)، وذكره ابن الجوزي في فضائل القدس (ص 93). وحديث الطائفة المنصورة له روايات كثيرة، عدّها جمع من أهل العلم متواترة، منهم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/69)، والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة رقم (81)، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة (ص 68). [2] أخرجه: أبو يعلى في مسنده رقم (6417)، والطبراني في المعجم الأوسط رقم (47). [3] أخرجه مسلم (3/1523) رقم (1921). [4] أخرجه سعيد بن منصور (2/178) رقم (2376)، تحقيق الأعظمي. [5] أخرجه: الحاكم (4/509)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/103)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/10): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/954). [6] أخرجه: أبو داود رقم (457)، وأحمد رقم (27626)، وابن ماجه رقم (1407)، وأبو يعلى رقم (7088)، والطبراني في الأوسط رقم (8445). واختلف في هذا الحديث، فصحَّحه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/250)، ومغلطاي في شرح ابن ماجه (3/198)، وحسنه النووي في المجموع (8/278)، وصححه من المعاصرين: الأرناؤوط في تحقيق شرح مشكل الآثار رقم (610)، والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (2/219)، ومحقق مسند أبي يعلى. وأعلَّه ابن القطان في الوهم والإيهام (5/531)، والذهبي في الميزان (2/90)، والألباني في ضعيف سنن أبي داود، والأرناؤوط في تحقيق المسند.
لا يضرهم من خذلهم

د. أحمد عبد الرحمن الصويان (فك الله أسره)

لتحميل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2J1Avxy]

مشاريع التهويد لمدينة القدس تتصاعد بصورة متسارعة وغير مسبوقة.

الأنفاق والحفريات اليهودية مستمرة بشكل يهدد بنيان المسجد الأقصى.

المغتصبون والمتطرفون اليهود يقتحمون المسجد الأقصى ويتطاولون على حرمته بشكل متكرر، ويصادرون أجزاء منه.

الكنس اليهودية تحيط بالمسجد الأقصى، وتطوقه من كل جانب.

الكنيست الصهيوني يناقش مقترحاً لقانون يقضي بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً.

هدم المنازل والمزارع، وتهجير السكان، ومصادرة الهويات المقدسية، وتصاعد حركة الاغتصاب في محيط مدينة القدس؛ لم تتوقف منذ بداية الاحتلال.

هذه بعض العناوين الكبيرة للمشهد المقدسي، وهي غيض من فيض.. وكل عنوان منها يقتضي غضبة حقيقية من الأمة، لنصرة الأرض المباركة واستنقاذها من مخالب اليهود.

لكن ما الذي يحدث على الأرض؟!

لم تعد هذه الأخبار تلفت الانتباه أو تحرّك ساكناً في السياسات العربية.. ولم تعد هذه الأخبار على واجهة الإعلام العربي، بل لا في حاشية كثير من منابره!

ولم تعد قضية القدس حاضرة في مناهج التعليم والتربية، بل لم تعد – مع الأسف الشديد – حاضرة في كثير من منابر الجمعة ومناهج الدعوة!

أما منظمة التعاون الإسلامي.. جامعة الدول العربية.. السلطة الفلسطينية.. الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية.. رابطة العالم الإسلامي.. اللجان والصناديق الرسمية المخصصة لفلسطين.. فجميعها غائبة عن ذلك المشهد، تجتر عجزها وهوانها، صامتة لا تسمع لها ركزاً، وكأنَّ القضية لا تعنيها!

الحاضر الرئيس في قلب الحدث: هم أولئك الأبطال والمرابطون في بيت المقدس وأكنافه، الثابتون في ظلال القدس وأروقة الأقصى ومصاطب العلم؛ فهؤلاء وحدهم من يواجه مشاريع التهويد والهدم والتطاول على المقدسات.

إنَّ ثمة حقيقة لا ريب فيها، وهي أن هؤلاء المقادسة ابتلوا بخذلان وتثبيط كثير من إخوانهم، بل رأينا من يدفعهم دفعاً للاستسلام والرضوخ لليهود، بحجة الواقعية السياسية وتوجّهات المجتمع الدولي! وأرجو أن يكون لهم نصيب وافر من قول الله – تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: ١٧٣، ١٧٤].

كما أرجو أن يكون هؤلاء المرابطون من الطائفة المنصورة التي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم: (على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك).

وفي بعض روايات الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين هم؟ قال: (في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)[1]، وفي رواية أخرى: (يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها)[2].

ومن تأمَّل هذه الأحاديث يدرك أن ذلك الخذلان والإعراض لن يثني المرابطين عن ثباتهم واستبسالهم في الذبِّ عن حُرمة الأقصى، ففي بعض روايات الحديث: (لا يضرهم من خذلهم)[3]، (لا يبالون من يخالفهم)[4]، خاصة إذا استشعر هؤلاء المرابطون أن ثباتهم على أرضهم خير لهم من الدنيا وما فيها؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه؛ ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه – يعني: حبل فرسه – من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خير له من الدنيا جميعاً). قال: أو قال: (خير من الدنيا وما فيها)[5].

فإذا كانت المرابطة في أرض يرى منها بيت المقدس فيها هذا الأجر العظيم، فكيف يكون أجر المرابطة في بيت المقدس نفسه؟!

ولا يكفي ها هنا أن نلوم الأنظمة والحكومات على تفريطها وخذلانها، بل يجب أن نلوم أنفسنا، ونلوم العلماء والدعاة والخطباء والمؤسسات الإسلامية؛ فالوهن الذي أصاب الأمة في كثير من مفاصلها أعاق كثيراً من مشاريع نُصرة الأقصى!

إنَّ تغييب الوعي بقضية المسجد الأقصى أزمة كبيرة يتحمَّل تبعاتها أطراف متعددة؛ لذا فإن إحياء وتجديد الاهتمام بها من الأولويات التي يجب أن توظف لها الطاقات، وتتنوّع فيها المشاريع، وتأتلف عليها الجهود المؤسسية والفردية. ويحسن التأكيد ها هنا على ضرورة استثمار المشاعر الجياشة التي تعمر قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في إبداع مشاريع عملية حيوية وجامعة، تتنوَّع بتنوّع البيئات وتستقطب شتى الطاقات والإمكانات.

وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال: (ائتوه فصلوا فيه – وكانت البلاد إذ ذاك حرباً - فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)[6].

إنَّ نصرة المسجد الأقصى ينبغي أن تكون مشروعاً للأمة بمجموعها، ومشروعاً شخصياً لكل مسلم، وحديثُ القناديل لم يترك عذراً لأحد ولو كان بشيء يسير كبعث زيت لإسراجها، وأحسب أن المقصود في إسراج قناديله: إحياء المسجد وتكريمه وعمارته والعناية به، والذبُّ عن حرمته، حتى لا يُهجر وينقطع عنه المصلون.

ولعل من أعظم قناديله التي ينبغي أن تسرج: المرابطون في أكنافه، وقراؤه، وعبَّاده، وحراسه، وعمَّار مصاطب العلم وحلقات تحفيظ القرآن؛ فهم النور الذي يتلألأ، وحقهم علينا: دعمهم، وتثبيتهم، وتعزيز صمودهم، ونصرتهم بكل ألوان النصرة، ودعم قضيتهم في كل أنحاء العالم.

فاللهم اجعلنا من أنصار الأقصى وعمَّاره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه: أحمد في مسنده رقم (22320)، والطبراني في الكبير (8/171) رقم (7643)، وذكره ابن الجوزي في فضائل القدس (ص 93).

وحديث الطائفة المنصورة له روايات كثيرة، عدّها جمع من أهل العلم متواترة، منهم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/69)، والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة رقم (81)، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة (ص 68).

[2] أخرجه: أبو يعلى في مسنده رقم (6417)، والطبراني في المعجم الأوسط رقم (47).

[3] أخرجه مسلم (3/1523) رقم (1921).

[4] أخرجه سعيد بن منصور (2/178) رقم (2376)، تحقيق الأعظمي.

[5] أخرجه: الحاكم (4/509)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/103)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/10): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/954).

[6] أخرجه: أبو داود رقم (457)، وأحمد رقم (27626)، وابن ماجه رقم (1407)، وأبو يعلى رقم (7088)، والطبراني في الأوسط رقم (8445).

واختلف في هذا الحديث، فصحَّحه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/250)، ومغلطاي في شرح ابن ماجه (3/198)، وحسنه النووي في المجموع (8/278)، وصححه من المعاصرين: الأرناؤوط في تحقيق شرح مشكل الآثار رقم (610)، والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (2/219)، ومحقق مسند أبي يعلى. وأعلَّه ابن القطان في الوهم والإيهام (5/531)، والذهبي في الميزان (2/90)، والألباني في ضعيف سنن أبي داود، والأرناؤوط في تحقيق المسند.
‏٢٩‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٩:٣٧ م‏
القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ / 1 د. وصفي عاشور أبو زيد(1 ) لتحميل العدد كاملاً: http://bit.ly/2J1Avxy] مقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتبع هداه، وبعد. فإن الإسلام هو الدين القيم، والدين الحق، ولابد للحق من قوة تحميه، فلا يثبت حق دون قوة، ولا تستقيم قوة دون حق؛ إذ الحق من دون قوة سيذهب هدرًا، ولن يستطيع أتباعه إقامته في واقع الناس، فالضامن لإقامة هذا الحق وترسيخه إنما هي القوة، والقوة من دون حق تكون قوة طائشة باغية طاغية، تبطش بالناس وتوقع بهم الظلم والقهر، فالعاصم لهذه القوة من الطيش والنزق أن تنطلق محفوفة بالحق الذي يحجزها عن الانحراف والضلال. وما أحوج ديننا اليوم إلى دولة تملك مقومات القوة الشاملة لتقوم بحمايته والذب عنه وإبرازه للإنسانية بما يحمله من مقومات، وما يتمتع به من خصائص، وما جاء به من مشتركات إنسانية تصلح أن يتلاقى عليها البشر؛ ليتعارفوا، ويتآلفوا، ويقدم بعضهم لبعض ما ينفعهم، ويتجنبوا ما يضرهم ولا ينفعهم. وقد أصبح عالمنا اليوم مليئا بالصراعات والحروب والقتل والتدمير؛ لأن كثيرا من الأمم يصدر عن القوة دون حق، وهذا هو الطرف الباغي، وأمم تحمل الحق من دون قوة، ومن هنا تحدث المفارقة وتقع المشكلات؛ إذ يضعف الحق عن القيام بمقتضياته، وتنزق القوة إلى طريق الضلال والانحراف. وما أحوج الأمم جميعا على وجه العموم، والأمة المسلمة على وجه الخصوص، أن تقيم هذه الموازنة بين الحق والقوة؛ فهذا وحده هو الضامن لأمنها، والحافظ لمقوماتها ومقدراتها، والناهض بأن تعاملها الأمم بندية وتقدير دون طغيان ولا إخسار. والإسلام العظيم - بعقيدته وشريعته - يحمل في تصوراته وتشريعاته من الرحمة والسماحة ما لم يوجد في دين سماوي، ولا قانون أرضي؛ فليست القوة – كما سيأتي – تعني القسوة أو البطش أو السيف كما يريد البعض أن يسجنها في غياهب الماديات والقتل والتدمير، وإنما لها في اللغة والشرع معانٍ كثيرة تتنوع لتتناسب مع كل حال، وتستوعب كل واقع وجديد. ومما لا شك فيه أن أرحب المجالات لإبراز القوة ووجودها هو مجال السياسة الشرعية بأنواعها، سواء كانت سياسة داخلية بين أفراد المجتمع وطبقاته، أم سياسة خارجية على المستويين: الإقليمي، والدولي؛ إذ القوة بالحق والحق بالقوة هي التي تسوس الناس، وتُنْفِذُ التشريعاتِ والأحكامَ والآداب. من أجل هذا أردنا أن نتعرض في هذا البحث لموضوع مهم، وهو: "القوة في السياسة الشرعية: عناصرها وضوابطها ومقاصدها"، وقد اقتضى أن يكون على النحو الآتي: المبحث الأول: معنى القوة لغة واصطلاحا. المبحث الثاني: العلاقة بين السياسة الشرعية والقوة. المبحث الثالث: القوة في القرآن الكريم والسنة النبوية. المبحث الرابع: عناصر القوة ومجالاتها. المبحث الخامس: ضوابط القوة في السياسة الشرعية. المبحث السادس: مقاصد القوة في السياسة الشرعية. والله تعالى أسأل أن يحقق لأمتنا الأمن والأمان والسلم والسلام بالقوة والحق معا، وأن يقيم لها أمر رشد تتعاون به مع البشرية على الخير والحق والعدل، إنه ولي ذلك والقادر عليه .. وهو السميع المجيب. المبحث الأول: معنى القوة لغة واصطلاحا تدور معاني مادة (ق و ي) في اللغة حول الطاقة والقدرة والجد والجوع والفقر والاحتباس والخلاء، جاء في المصباح المنير: قَوِيَ يَقْوَى فَهُوَ قَوِيٌّ، وَالْجَمْعُ أَقْوِيَاءُ، وَالِاسْمُ الْقُوَّةُ، وَالْجَمْعُ: الْقُوَى مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَقَوِيٌّ عَلَى الْأَمْرِ، وَلَيْسَ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ أَيْ طَاقَةٌ، وَالْقَوَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْقَفْرُ، وَأَقْوَى صَارَ بِالْقَوَاءِ، وَأَقْوَتْ الدَّارُ خَلَتْ ( 2). وقال ابن منظور: القوّة من تأْليف ق و ي ولكنها حملت على فُعْلة فأُدغمت الياء في الواو كراهية تغير الضمة والفِعالةُ منها قِوايةٌ .. ونقل عن ابن سيده: القُوَّةُ نقيض الضعف، والجمع: قُوًى وقِوًى، وقوله عز وجل: "يا يحيى خُذِ الكتاب بقُوَّةٍ" أَي بِجِدّ وعَوْن من الله تعالى ... وقد قَوِيَ الرجل والضَّعيف يَقْوَى قُوَّة فهو قَوِيٌّ وقَوَّيْتُه أَنا تَقْوِيةً وقاوَيْتُه فَقَوَيْتُه أَي غَلَبْته (3 ). أما الزمخشري فيذكر معانيَ جديدةً من اشتقاقات الجذر وتعديته بطرق تعدية الفعل، فيقول: هو قويّ مقوٍ: قويّ الأصحاب والإبل. وقويَ على الأمر، وقوّاه الله، وتقوّى بفلان، وهو شديد القوّة والقوَى ... وقاوى شريكه المتاع، وتقاووه بينهم وهو أن يشتروا شيئا رخيصًا ثم يتزايدوا حتى يبلّغوه غاية ثمنه فإذا استخلصه أحدهم لنفسه قيل: قد اقتواه. .. وتقاوينا الدّلو تقاويا إذا جمعوا شفاههم على شفتها فشرب كلّ واحد ما أمكنه. .. واقتوى شيئا بشيء: تبدّله به. .. وأقوى القوم: فني زادهم، وباتوا على القوى، وقويَ: جاع جوعاً شديداً، وإبل قاويات، وتقاوى فلان: بات قاويًا ... وأقووا: نزلوا بالقفر. وأقوت الدار من أهلها. ونزلوا بالقواء والقيّ: بالقفر، وبات فلان القواء. وأقوى في شعره إقواءً( 4). وفي المعجم الوسيط وردت معاني الطاقة والتحمل، ثم جاء فيه: وقوى جاع جوعا شديدا، والمطر احتبس، والحبل والوتر كان بعض قواه أغلظ من بعض فهو قو، والدار قوى وقواء وقواية خلت .. ( أقوى ) الرجل افتقر ونزل بالقفر ونفد طعامه وفني زاده وجاع فلم يكن معه شيء... ( قاويت ) فلانا غالبته في القوة فقويته غلبته. ( قوَّى ) الرجل أو الشيء أبدله مكان الضعف قوة. ( اقتوى ) كان ذا قوة أو جادت قوته، وعلى فلان عاتبه، والشيء اختصه لنفسه، وشيئا بشيء تبدل به، والشركاء المتاع بينهم تزايدوه حتى بلغ غاية ثمنه فأخذه بعضهم به .. ( تقاوى ) فلان بات قاويا... ( القاوي ) الجائع والآخذ. ( القاوية ) البيضة والسنة القليلة المطر. ( القواء ) القفر من الأرض، وأرض قواء: لا أحد فيها، ومنزل قواء: لا أنيس به، والأرض التي لم تمطر بين أرضين ممطورتين ( ج ) أقواء (5 ). *** وأما القوة في الاصطلاح فقد جاء في المعجم الفلسفي: قوة: مصدر الحركة والعمل، ومنه قوة الروح، وقوة الإرادة، وقوة التفكير(6 ). أما الإمام الجرجاني صاحب التعريفات – وكذلك المناوي صاحب التعاريف – فينحو منحى فلسفيًّا منطقيًّا مبينًا أنواع القوة، فيقول: القوة هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة، فقوى النفس النباتية تسمى قوى طبيعية، وقوى النفس الحيوانية تسمى قوى نفسانية، وقوى النفس الإنسانية تسمى عقلية، والقوى العقلية باعتبار إدراكاتها للكليات تسمى القوة النظرية، وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية من أدلتها بالرأي تسمى القوة العملية .... ثم يتحدث عن القوى: الباعثة والفاعلة والعاقلة والمفكرة والحافظة والعقلية(7 ). وعرفها العلامة محمد الطاهر ابن عاشور بقوله: "حقيقتها: كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها"(8 ). وفي مقام آخر عند قوله تعالى من سورة الأعراف: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)". يفصل ابن عاشور في حقيقة القوة جامعا بين معانيها اللغوية والاصطلاحية فيقول: والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد، فتكون في الأعضاء الظاهرة، مثل: قوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة. وتكون في الأعضاء الباطنة، مثل: قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس، ومنه قولهم: قوة العقل... وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيلة، والحس المشترك؛ فيقال: فرس قوي، وجمل قوي على الحقيقة، ويقال: عود قوي، إذا كان عسير الانكسار، وأسس قوي، إذا كان لا ينخسف بما يبنى عليه من جدار ثقيل، إطلاقا قريبا من الحقيقة، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشد منها في بعض آخر، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل مما هي حالة فيه، ولما كان من لوازم القوة أن قدرة صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد، والأعمال عليه أيسر، شاع إطلاقها على الوسائل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد، والمال، والجاه، وهو إطلاق كنائي قال تعالى: قالوا نحن أولوا قوة في سورة النمل [33] . ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى: إن الله قوي شديد العقاب في سورة الأنفال [52] . والقوة هنا في قوله: فخذها بقوة تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح، بمنتهى الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده. ومنه قوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في سورة مريم [12] (9 ). المبحث الثاني العلاقة بين السياسة الشرعية والقوة السياسة الشرعية ابتداء هي – كما أورد ابن القيم عن ابن عقيل -: ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي(10 ). وقد تطور علم السياسة في الواقع المعاصر بحيث أصبح أكثر تخصصا بما لا ينصرف الذهن معه للمعنى السابق، فصار يطلق - من مجمل التعريفات المعاصرة له - على الدولة والسلطة فيها، يقول د. ثروت بدوي: وهناك اختلاف في تعريف السياسة في الاصطلاح المعاصر، حتى إنه ليصعب صياغة تعريف واحد يوافق عليه الجميع، إلا أن هناك قدراً متيقناً متفقاً عليه لتحديد مدلول السياسة، ألا وهو أنها تتعلق بالسلطة في الدولة"(11). ولما كانت طبيعة البشر الاختلاف بسبب تفاوت الطباع، واختلاف المنطلقات والغايات، وتنوع الوسائل والآليات، فما تراه أنت صحيحا يراه آخرون خطأ، وما تراه راجحا يراه غيرك مرجوحا، وما تظنه مناسبا يراه البعض غير مناسب ... فلهذا كله وغيره اتفق العقلاء والفقهاء على أنه لا سياسة بغير قوة، ولا قوة بغير سياسة، والقوة التي نعنيها هنا ليست القوة الطائشة الباغية الظالمة، وإنما القوة المنضبطة بضوابط الشرع، وسيأتي بيان لهذه الضوابط فيما بعد. وإذا تأملنا كلام فقهاء السياسة عن واجبات الحاكم التي حصروها في عشرة: أحدهما: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة أي إقامة الدين على وجهه الصحيح. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم , أي إقامة العدل بين الناس وتنفيذ الأحكام . الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين , أي نشر الأمن في الداخل . الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك , وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك . أي تنفيذ عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص . الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد. أي حماية الأمن الخارجي بالعدة والاستعداد الدائمين . السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة . السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف. الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير . التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد العظماء فيما يفوضه إليهم من الأعمال . العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة . هذه هي واجبات الإمام كما حددها بعض الفقهاء، وهي تدخل جميعا تحت واجبين اثنين، هما: إقامة الدين، وإدارة شئون الدولة في حدوده (12). أقول إذا تأملنا هذه الواجبات وجدناها جميعا لا تستغنى عن القوة والشوكة التي تمكّن الحاكم من إنفاذها وتمكينها ورعايتها وحمايتها والحفاظ عليها، بما يحقق تنظيم أمور المجتمع، والحفاظ على حياة الناس وأمنهم. والسُّلْطَةُ ارتبطت بالقوة حتى في تعريفها اللغوي، قال ابن فارس: السين واللام والطاء: أصلٌ واحد، وهو القوّة والقهر. ومن ذلك السَّلاطة، من التسلط وهو القَهْر، ولذلك سمّي السُّلْطان سلطاناً. وفي القاموس المعتمد: السُّلْطَةُ بالضم القدرة والملك، والسُّلطان: الحجة، والقدرة، والمَلِك(13). وكذلك في الاصطلاح: هي السيطرة والتمكن والقهر والتحكم، ومنه السلطان، وهو من له ولاية التحكم والسيطرة في الدولة(14). إن السلطة في الفكر الإسلامي وفي إطار النظام السياسي اتصفت بصفتين أساسيتين: الأولى: تتمثل في عدم الفصل بين الشؤون المدنية والشؤون العسكرية منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: تتمثل في إعلاء قيمة القوة والتأكيد على ارتباط السلطة بالقوة(15). ومن هنا فلا غني للسلطة عن القوة، ولا غنى للقوة عن ضوابطها، وبهذين الجناحين تحقق سياسةُ دنيا المسلمين بدينهم أهدافَها وغاياتها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 1) القوة في السياسة الشرعية.. عَناصِرُها، ضَوابِطُها، مقاصدها، د. وصفي عاشور أبو زيد، ورقة مقدَّمةٌ إلى ندوة تطور العلوم الفقهية الثالثة عشر بسلطنة عُمَان الثالثة عشر، المنعقدة في مسقط 6-9 أبريل 2014م بعنوان: "الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح". (2 ) المصباح المنير للفيومي: باب القاف مع الواو وما يثلثهما. ( 3) لسان العرب: 15/ 206. دار صادر. بيروت. مادة (ق و ا). (4 ) أساس البلاغة: مادة (ق و ي). ( 5) المعجم الوسيط: 2/ 768-769. مجمع اللغة العربية. طبعة دار الدعوة. ( 6) المعجم الفلسفي: 149. مصطلح رقم (761). مجمع اللغة العربية. 1403هـ. 1983م، وانظر المعجم الفلسفي لجميل صليبيا: 2: 202-203. دار الكتاب اللبناني. 1982م. ( 7) التعريفات للجرجاني: 231-232. دار الكتاب العربي. بيروت. 1405هـ، وانظر التعاريف للمناوي: 592-593. دار الفكر. دمشق. 1410هـ. ( 8) التحرير والتنوير: 10/ 44. طبعة الدار التونسية. ( 9) التحرير والتنوير: 9: 99-100. (10 ) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 29. دار عالم الفوائد. 1428هـ. ( 11)النظم السياسية: 4. دار النهضة العربية. القاهرة. 1989م. ( 12) الأحكام السلطانية للماوردي: 22-23. تحقيق أحمد مبارك البغدادي. مكتبة دار ابن قتيبة. الكويت. 1409هـ، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: 27-28. دار الكتب العلمية، والإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة: 183-184. ، والتشريع الجنائي الإسلامي له أيضا: 1/ 43، والإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي: 106. ( 13)معجم مقاييس اللغة، والقاموس المعتمد، مادة ( سلط ). ( 14)الموسوعة الفقهية 6/216 (15 ) علم اجتماع السياسة – مبادئ علم السياسة لموريس دوفرجيه: 133. ترجمة سليم حداد. المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع 1991م
القُـوَّة في السِّياسةِ الشَّرعِيَّةِ / 1

د. وصفي عاشور أبو زيد(1 )

لتحميل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2J1Avxy]

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتبع هداه، وبعد.

فإن الإسلام هو الدين القيم، والدين الحق، ولابد للحق من قوة تحميه، فلا يثبت حق دون قوة، ولا تستقيم قوة دون حق؛ إذ الحق من دون قوة سيذهب هدرًا، ولن يستطيع أتباعه إقامته في واقع الناس، فالضامن لإقامة هذا الحق وترسيخه إنما هي القوة، والقوة من دون حق تكون قوة طائشة باغية طاغية، تبطش بالناس وتوقع بهم الظلم والقهر، فالعاصم لهذه القوة من الطيش والنزق أن تنطلق محفوفة بالحق الذي يحجزها عن الانحراف والضلال.

وما أحوج ديننا اليوم إلى دولة تملك مقومات القوة الشاملة لتقوم بحمايته والذب عنه وإبرازه للإنسانية بما يحمله من مقومات، وما يتمتع به من خصائص، وما جاء به من مشتركات إنسانية تصلح أن يتلاقى عليها البشر؛ ليتعارفوا، ويتآلفوا، ويقدم بعضهم لبعض ما ينفعهم، ويتجنبوا ما يضرهم ولا ينفعهم.

وقد أصبح عالمنا اليوم مليئا بالصراعات والحروب والقتل والتدمير؛ لأن كثيرا من الأمم يصدر عن القوة دون حق، وهذا هو الطرف الباغي، وأمم تحمل الحق من دون قوة، ومن هنا تحدث المفارقة وتقع المشكلات؛ إذ يضعف الحق عن القيام بمقتضياته، وتنزق القوة إلى طريق الضلال والانحراف.

وما أحوج الأمم جميعا على وجه العموم، والأمة المسلمة على وجه الخصوص، أن تقيم هذه الموازنة بين الحق والقوة؛ فهذا وحده هو الضامن لأمنها، والحافظ لمقوماتها ومقدراتها، والناهض بأن تعاملها الأمم بندية وتقدير دون طغيان ولا إخسار.

والإسلام العظيم - بعقيدته وشريعته - يحمل في تصوراته وتشريعاته من الرحمة والسماحة ما لم يوجد في دين سماوي، ولا قانون أرضي؛ فليست القوة – كما سيأتي – تعني القسوة أو البطش أو السيف كما يريد البعض أن يسجنها في غياهب الماديات والقتل والتدمير، وإنما لها في اللغة والشرع معانٍ كثيرة تتنوع لتتناسب مع كل حال، وتستوعب كل واقع وجديد.

ومما لا شك فيه أن أرحب المجالات لإبراز القوة ووجودها هو مجال السياسة الشرعية بأنواعها، سواء كانت سياسة داخلية بين أفراد المجتمع وطبقاته، أم سياسة خارجية على المستويين: الإقليمي، والدولي؛ إذ القوة بالحق والحق بالقوة هي التي تسوس الناس، وتُنْفِذُ التشريعاتِ والأحكامَ والآداب.

من أجل هذا أردنا أن نتعرض في هذا البحث لموضوع مهم، وهو: "القوة في السياسة الشرعية: عناصرها وضوابطها ومقاصدها"، وقد اقتضى أن يكون على النحو الآتي:

المبحث الأول: معنى القوة لغة واصطلاحا. المبحث الثاني: العلاقة بين السياسة الشرعية والقوة. المبحث الثالث: القوة في القرآن الكريم والسنة النبوية. المبحث الرابع: عناصر القوة ومجالاتها. المبحث الخامس: ضوابط القوة في السياسة الشرعية. المبحث السادس: مقاصد القوة في السياسة الشرعية.

والله تعالى أسأل أن يحقق لأمتنا الأمن والأمان والسلم والسلام بالقوة والحق معا، وأن يقيم لها أمر رشد تتعاون به مع البشرية على الخير والحق والعدل، إنه ولي ذلك والقادر عليه .. وهو السميع المجيب.

المبحث الأول: معنى القوة لغة واصطلاحا

تدور معاني مادة (ق و ي) في اللغة حول الطاقة والقدرة والجد والجوع والفقر والاحتباس والخلاء، جاء في المصباح المنير: قَوِيَ يَقْوَى فَهُوَ قَوِيٌّ، وَالْجَمْعُ أَقْوِيَاءُ، وَالِاسْمُ الْقُوَّةُ، وَالْجَمْعُ: الْقُوَى مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، وَقَوِيٌّ عَلَى الْأَمْرِ، وَلَيْسَ لَهُ بِهِ قُوَّةٌ أَيْ طَاقَةٌ، وَالْقَوَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْقَفْرُ، وَأَقْوَى صَارَ بِالْقَوَاءِ، وَأَقْوَتْ الدَّارُ خَلَتْ ( 2).

وقال ابن منظور: القوّة من تأْليف ق و ي ولكنها حملت على فُعْلة فأُدغمت الياء في الواو كراهية تغير الضمة والفِعالةُ منها قِوايةٌ .. ونقل عن ابن سيده: القُوَّةُ نقيض الضعف، والجمع: قُوًى وقِوًى، وقوله عز وجل: "يا يحيى خُذِ الكتاب بقُوَّةٍ" أَي بِجِدّ وعَوْن من الله تعالى ... وقد قَوِيَ الرجل والضَّعيف يَقْوَى قُوَّة فهو قَوِيٌّ وقَوَّيْتُه أَنا تَقْوِيةً وقاوَيْتُه فَقَوَيْتُه أَي غَلَبْته (3 ).

أما الزمخشري فيذكر معانيَ جديدةً من اشتقاقات الجذر وتعديته بطرق تعدية الفعل، فيقول: هو قويّ مقوٍ: قويّ الأصحاب والإبل. وقويَ على الأمر، وقوّاه الله، وتقوّى بفلان، وهو شديد القوّة والقوَى ... وقاوى شريكه المتاع، وتقاووه بينهم وهو أن يشتروا شيئا رخيصًا ثم يتزايدوا حتى يبلّغوه غاية ثمنه فإذا استخلصه أحدهم لنفسه قيل: قد اقتواه. .. وتقاوينا الدّلو تقاويا إذا جمعوا شفاههم على شفتها فشرب كلّ واحد ما أمكنه. .. واقتوى شيئا بشيء: تبدّله به. .. وأقوى القوم: فني زادهم، وباتوا على القوى، وقويَ: جاع جوعاً شديداً، وإبل قاويات، وتقاوى فلان: بات قاويًا ... وأقووا: نزلوا بالقفر. وأقوت الدار من أهلها. ونزلوا بالقواء والقيّ: بالقفر، وبات فلان القواء. وأقوى في شعره إقواءً( 4).

وفي المعجم الوسيط وردت معاني الطاقة والتحمل، ثم جاء فيه: وقوى جاع جوعا شديدا، والمطر احتبس، والحبل والوتر كان بعض قواه أغلظ من بعض فهو قو، والدار قوى وقواء وقواية خلت .. ( أقوى ) الرجل افتقر ونزل بالقفر ونفد طعامه وفني زاده وجاع فلم يكن معه شيء... ( قاويت ) فلانا غالبته في القوة فقويته غلبته. ( قوَّى ) الرجل أو الشيء أبدله مكان الضعف قوة. ( اقتوى ) كان ذا قوة أو جادت قوته، وعلى فلان عاتبه، والشيء اختصه لنفسه، وشيئا بشيء تبدل به، والشركاء المتاع بينهم تزايدوه حتى بلغ غاية ثمنه فأخذه بعضهم به .. ( تقاوى ) فلان بات قاويا... ( القاوي ) الجائع والآخذ. ( القاوية ) البيضة والسنة القليلة المطر. ( القواء ) القفر من الأرض، وأرض قواء: لا أحد فيها، ومنزل قواء: لا أنيس به، والأرض التي لم تمطر بين أرضين ممطورتين ( ج ) أقواء (5 ).

***

وأما القوة في الاصطلاح فقد جاء في المعجم الفلسفي: قوة: مصدر الحركة والعمل، ومنه قوة الروح، وقوة الإرادة، وقوة التفكير(6 ).

أما الإمام الجرجاني صاحب التعريفات – وكذلك المناوي صاحب التعاريف – فينحو منحى فلسفيًّا منطقيًّا مبينًا أنواع القوة، فيقول: القوة هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة، فقوى النفس النباتية تسمى قوى طبيعية، وقوى النفس الحيوانية تسمى قوى نفسانية، وقوى النفس الإنسانية تسمى عقلية، والقوى العقلية باعتبار إدراكاتها للكليات تسمى القوة النظرية، وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية من أدلتها بالرأي تسمى القوة العملية .... ثم يتحدث عن القوى: الباعثة والفاعلة والعاقلة والمفكرة والحافظة والعقلية(7 ).

وعرفها العلامة محمد الطاهر ابن عاشور بقوله: "حقيقتها: كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها"(8 ).

وفي مقام آخر عند قوله تعالى من سورة الأعراف: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)". يفصل ابن عاشور في حقيقة القوة جامعا بين معانيها اللغوية والاصطلاحية فيقول: والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد، فتكون في الأعضاء الظاهرة، مثل: قوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة. وتكون في الأعضاء الباطنة، مثل: قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس، ومنه قولهم: قوة العقل...

وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيلة، والحس المشترك؛ فيقال: فرس قوي، وجمل قوي على الحقيقة، ويقال: عود قوي، إذا كان عسير الانكسار، وأسس قوي، إذا كان لا ينخسف بما يبنى عليه من جدار ثقيل، إطلاقا قريبا من الحقيقة، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشد منها في بعض آخر، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل مما هي حالة فيه، ولما كان من لوازم القوة أن قدرة صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد، والأعمال عليه أيسر، شاع إطلاقها على الوسائل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد، والمال، والجاه، وهو إطلاق كنائي قال تعالى: قالوا نحن أولوا قوة في سورة النمل [33] .

ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى: إن الله قوي شديد العقاب في سورة الأنفال [52] .

والقوة هنا في قوله: فخذها بقوة تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح، بمنتهى الجد والحرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده. ومنه قوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في سورة مريم [12] (9 ).

المبحث الثاني
العلاقة بين السياسة الشرعية والقوة

السياسة الشرعية ابتداء هي – كما أورد ابن القيم عن ابن عقيل -: ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي(10 ).

وقد تطور علم السياسة في الواقع المعاصر بحيث أصبح أكثر تخصصا بما لا ينصرف الذهن معه للمعنى السابق، فصار يطلق - من مجمل التعريفات المعاصرة له - على الدولة والسلطة فيها، يقول د. ثروت بدوي: وهناك اختلاف في تعريف السياسة في الاصطلاح المعاصر، حتى إنه ليصعب صياغة تعريف واحد يوافق عليه الجميع، إلا أن هناك قدراً متيقناً متفقاً عليه لتحديد مدلول السياسة، ألا وهو أنها تتعلق بالسلطة في الدولة"(11).

ولما كانت طبيعة البشر الاختلاف بسبب تفاوت الطباع، واختلاف المنطلقات والغايات، وتنوع الوسائل والآليات، فما تراه أنت صحيحا يراه آخرون خطأ، وما تراه راجحا يراه غيرك مرجوحا، وما تظنه مناسبا يراه البعض غير مناسب ... فلهذا كله وغيره اتفق العقلاء والفقهاء على أنه لا سياسة بغير قوة، ولا قوة بغير سياسة، والقوة التي نعنيها هنا ليست القوة الطائشة الباغية الظالمة، وإنما القوة المنضبطة بضوابط الشرع، وسيأتي بيان لهذه الضوابط فيما بعد.

وإذا تأملنا كلام فقهاء السياسة عن واجبات الحاكم التي حصروها في عشرة:

أحدهما: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة أي إقامة الدين على وجهه الصحيح.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم , أي إقامة العدل بين الناس وتنفيذ الأحكام .

الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين , أي نشر الأمن في الداخل .

الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك , وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك . أي تنفيذ عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص .

الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرما ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد. أي حماية الأمن الخارجي بالعدة والاستعداد الدائمين .

السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة .

السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف.

الثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .

التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد العظماء فيما يفوضه إليهم من الأعمال .

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة .

هذه هي واجبات الإمام كما حددها بعض الفقهاء، وهي تدخل جميعا تحت واجبين اثنين، هما: إقامة الدين، وإدارة شئون الدولة في حدوده (12).

أقول إذا تأملنا هذه الواجبات وجدناها جميعا لا تستغنى عن القوة والشوكة التي تمكّن الحاكم من إنفاذها وتمكينها ورعايتها وحمايتها والحفاظ عليها، بما يحقق تنظيم أمور المجتمع، والحفاظ على حياة الناس وأمنهم.

والسُّلْطَةُ ارتبطت بالقوة حتى في تعريفها اللغوي، قال ابن فارس: السين واللام والطاء: أصلٌ واحد، وهو القوّة والقهر. ومن ذلك السَّلاطة، من التسلط وهو القَهْر، ولذلك سمّي السُّلْطان سلطاناً. وفي القاموس المعتمد: السُّلْطَةُ بالضم القدرة والملك، والسُّلطان: الحجة، والقدرة، والمَلِك(13).

وكذلك في الاصطلاح: هي السيطرة والتمكن والقهر والتحكم، ومنه السلطان، وهو من له ولاية التحكم والسيطرة في الدولة(14).

إن السلطة في الفكر الإسلامي وفي إطار النظام السياسي اتصفت بصفتين أساسيتين:
الأولى: تتمثل في عدم الفصل بين الشؤون المدنية والشؤون العسكرية منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

والثانية: تتمثل في إعلاء قيمة القوة والتأكيد على ارتباط السلطة بالقوة(15).

ومن هنا فلا غني للسلطة عن القوة، ولا غنى للقوة عن ضوابطها، وبهذين الجناحين تحقق سياسةُ دنيا المسلمين بدينهم أهدافَها وغاياتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) القوة في السياسة الشرعية.. عَناصِرُها، ضَوابِطُها، مقاصدها، د. وصفي عاشور أبو زيد، ورقة مقدَّمةٌ إلى ندوة تطور العلوم الفقهية الثالثة عشر بسلطنة عُمَان الثالثة عشر، المنعقدة في مسقط 6-9 أبريل 2014م بعنوان: "الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح".
(2 ) المصباح المنير للفيومي: باب القاف مع الواو وما يثلثهما.
( 3) لسان العرب: 15/ 206. دار صادر. بيروت. مادة (ق و ا).
(4 ) أساس البلاغة: مادة (ق و ي).
( 5) المعجم الوسيط: 2/ 768-769. مجمع اللغة العربية. طبعة دار الدعوة.
( 6) المعجم الفلسفي: 149. مصطلح رقم (761). مجمع اللغة العربية. 1403هـ. 1983م، وانظر المعجم الفلسفي لجميل صليبيا: 2: 202-203. دار الكتاب اللبناني. 1982م.
( 7) التعريفات للجرجاني: 231-232. دار الكتاب العربي. بيروت. 1405هـ، وانظر التعاريف للمناوي: 592-593. دار الفكر. دمشق. 1410هـ.
( 8) التحرير والتنوير: 10/ 44. طبعة الدار التونسية.
( 9) التحرير والتنوير: 9: 99-100.
(10 ) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 29. دار عالم الفوائد. 1428هـ.
( 11)النظم السياسية: 4. دار النهضة العربية. القاهرة. 1989م.
( 12) الأحكام السلطانية للماوردي: 22-23. تحقيق أحمد مبارك البغدادي. مكتبة دار ابن قتيبة. الكويت. 1409هـ، وانظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء: 27-28. دار الكتب العلمية، والإسلام وأوضاعنا السياسية لعبد القادر عودة: 183-184. ، والتشريع الجنائي الإسلامي له أيضا: 1/ 43، والإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي: 106.
( 13)معجم مقاييس اللغة، والقاموس المعتمد، مادة ( سلط ).
( 14)الموسوعة الفقهية 6/216
(15 ) علم اجتماع السياسة – مبادئ علم السياسة لموريس دوفرجيه: 133. ترجمة سليم حداد. المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع 1991م
‏٢٨‏/٠٦‏/٢٠١٨ ١١:٥٦ م‏
سلسلة كتب مختصرة.. مذكرات الحاج أمين الحسيني (الحلقة الأخيرة) لتحميل العدد كاملاً: http://bit.ly/2J1Avxy] وقائع الكفاح في الفترة (1947- 1948) عندما أعيد تأليف الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946 كانت استعدادات اليهود العسكرية تنذر بشدة الخطر، وتوالت عليهم الأسلحة والذخيرة، غير آلاف اليهود المدربين في الكثير من الدول الأجنبية، وكانت سياسة الإنجليز نحو الفلسطينيين عكس ذلك، فقد كانت باكورة أعمالهم منذ احتلال فلسطين 1917- 1918 جمع السلاح منهم، وحظر حيازته عليهم، وتنفيذ الحكم بالإعدام على عدد كبير من الفلسطينيين لحيازتهم السلاح. ورغم ذلك سعى الفلسطينيون للحصول على السلاح ما استطاعوا إليه سبيلاً، لكن وسائلهم ومواردهم المالية كانت محدودة ولا تقاس بما كان لليهود من وسائل. ورغم ذلك استطاع الفلسطينيون في جميع ثوراتهم طوال عهد الانتداب أن يصمدوا في وجه القوات البريطانية والقوات اليهودية المسلحة، بل ويتغلبوا على اليهود في ثورتهم عام 1947_1948 في كثير من المواقع، ويكبدوهم خسائر فادحة، حتى دخول الجيوش العربية في فلسطين 15 أيار 1948 وقيامها بعزل القوات الفلسطينية عن ميدان المعركة، وحرمانهم من المال والسلاح وسائر وسائل الكفاح. سعت الهيئة العربية للحصول على السلاح والعتاد والأجهزة العسكرية، وعملت على إعداد المجاهدين الفلسطينيين وتدريبهم وتنظيم تشكيلاتهم، وألفت جيش الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وقد سبق لعدد منهم أن قاموا بدورات عسكرية في ألمانيا والعراق. وأعدت قيادة (الجهاد المقدس) بمعاونة عدد من ضباط سوريين ومصريين وعراقيين برنامجًا دقيقًا، واختارت الأهداف التي ستنفذ فيها عمليات الجهاد فبلغت 3600 هدف، وقد نفذ قسم من برنامج الأهداف في منطقة القدس مثل نسف دار الوكالة اليهودية، ونفذت عمليات في مناطق أخرى مثل يافا، والمنطقة الشمالية. ولو لم تنخدع بعض الجهات الرسمية العربية بوعود المستعمرين وتقوم بعرقلة جهودهم لتمكن المجاهدون من تنفيذ برنامجهم، وتحقيق سائر أهدافهم. عمت فلسطين موجة عارمة من الحماس والاندفاع للقتال وأخذت المعارك تتوالى بين الفلسطينيين وأعدائهم، وبدت كفة العرب راجحة في أواخر عام 1947 والشهور الأولى من 1948. لما رأى الإنجليز تلك الانتصارات خشوا من تفاقم حرب العصابات أن يحبط مخططهم الرامي إلى القضاء على عروبة فلسطين، فبادروا بتقديم مذكرة إلى السلطات العربية الرسمية اعترضوا فيها على تسليح الفلسطينيين وتدريبهم، وزعموا أن الفلسطينيين يقتلون اليهود بقسوة ودون رحمة، وتابع الإنجليز اعتراضهم وضغطهم على الحكومات العربية حتى حملوها على تبديل الخطة العسكرية التي تقررت مسبقًا، وعلى إدخال جيوشها إلى فلسطين. ولم تلبث بعد ذلك أن ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة، ومنع الأسلحة والأموال عنهم، بل ومهاجمة قوات الجنرال جلوب لقوة الجهاد المقدس في منطقة رام الله وتشتيتها، والاستيلاء على سلاحها وعتادها. ورغم سياسة الإقصاء والحرمان ظلت قوات الجهاد المقدس تقوم بأعمال رائعة منذ 1947 إلى ما بعد انسحاب القوات المصرية من قطاع الخليل _ بيت لحم، وانسحاب القوات العراقية من قطاع جنين _ طولكرم. التواطؤ البريطاني الأمريكي ودور مجلس الأمن لما قررت الحكومة البريطانية وقف الإدارة المدنية في فلسطين وتصفيتها من بداية مارس 1948، واتخذت شكل حكومة عسكرية، وأصبح المندوب السامي حاكمًا عسكريًّا، شرع الإنجليز حينئذ ينسحبون من المناطق اليهودية متخلين عن إدارتها لليهود، وسرعان ما بادرت الوكالة اليهودية بوضع اليد على تلك المناطق متخذة لنفسها صفة حكومة يهودية. ساعد هذا الموقف اليهود على اتخاذ مواقف مماثلة في اقتراف المذابح والفظائع في المدن التي يسكنها عرب ويهود، وزاد الموقف خطورة ما أعلنته السلطات البريطانية من أن كل تدخل عسكري قبل 15 مايو وهو اليوم الذي حددته لانسحابها من فلسطين ستقابله بالقوة، وأنها ستظل مسؤولة عن النظام والأمن حتى ذلك التاريخ، لكن الواقع كان خلاف ذلك؛ إذ أخذت السلطات البريطانية في المدن العربية المختلفة تخلي الأحياء العربية وتترك أهلها فريسة للاعتداءات اليهودية. طوال تلك الفترة لم تفعل الدول العربية شيئًا يعتد به من حيث زيادة استعدادها العسكري، وتقوية طاقاتها القتالية للتصدي للأحداث المقبلة على المستوى الذي تتطلبه خطورة قضية فلسطين، واندفاع اليهودية العالمية في دعم المطامع الصهيونية. بعد مذبحة حيفا الرهيبة التي قام بها اليهود إثر سقوط المدينة في أيديهم في 23/4/ 1948 وما سبقها من مذابح مثل دير ياسين وغيرها، أخذ بعض الناس يغادرون بيوتهم ومساكنهم إلى بلدان عربية مجاورة، ورافقت ذلك دعاية استعمارية وصهيونية واسعة تحض الناس على هجرة مؤقتة إلى البلاد المجاورة ريثما تصل الجيوش العربية إلى فلسطين، فتصد المعتدين وتعيد المهاجرين إلى منازلهم آمنين كما وعد المسؤلين من حكام الدول العربية وقادتها حينئذ في خطبهم وتصريحاتهم. وكان من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات العربية أن فتحت بلادها لتسهيل هجرة الفلسطينيين إليها، ولما كنا شديدي الحرص على بقاء الفلسطينيبن في بلادهم مهما كانت الظروف واشتدت الأخطار فقد بادرت الهيئة العربية العليا لفلسطين بنشر بيان في فبراير 1948 يدعو الشعب الفلسطيني للبقاء في بلاده، وأن لا يجلو عنها لأي سبب، وأن يدافع عنها حتى النفس الأخير. وفي 18 أيار 1948 سقطت عكا في يد اليهود بعد صمود رهيب، ورغم قلة عدد المجاهدين حوالي 150 مقابل 2500 من اليهود إلا أنهم ثبتوا طويلاً حتى تمكن العدو بمصفحاته وآلياته من دخول المدينة. وبعد ذلك توالى سقوط باقي المدن مثل الناصرة وطبرية وصفد وغيرها، وأخذت القوات المدافعة عنها تنسحب بعيدًا تاركة إياها لليهود الذين قاموا فيها بأبشع مجازر راح ضحيتها الآلاف. كانت الحرب النفسية هي أسوأ ما يواجهنا؛ فالصهيونيون في حرب 48 لم يكونوا يملكون سلاحًا ثقيلاً ولا طائرات حربية، وكل ما كان لديهم قليل من طائرات مدنية للتدريب، وكانوا في بعض الظروف يلقون بعض القنابل اليدوية باليد من الطائرات المدنية، وكان لدى بعض الدول العربية كمصر والعراق قوات جوية بقيادة طيارين عرب، وحين قصفت الطائرات المصرية بعض الأهداف العسكرية في ميناء تل أبيب أوقعت الذعر والهلع في نفوس سكانها، وفر عدد كبير منهم يقدر بعشرات الألوف إلى أماكن بعيدة. وقد تدخل الإنجليز والأمريكيون منذ اليوم الأول محتجين على قصف الطائرات المصرية لإسرائيل التي لا تملك طائرات حربية، وطالبوا الدول العربية أن تكون مهمة جيوشها بوليسية لا حربية، وكان الجيش البريطاني حينئذ مؤلفًا من نحو 100 ألف جندي يتربصون في قناة السويس. حين سقطت صفد في أيدي اليهود ظل اليهود مندهشين وغير مصدقين من أن العرب انسحبوا من صفد، إذ كانت لديهم أسلحة وذخائر تمكنهم من متابعة القتال. حتى حين حاولت قوة أردنية دخول المدينة وتقديم الدعم جاءتها الأوامر من عمان بالانسحاب وعدم الدخول.
سلسلة كتب مختصرة..

مذكرات الحاج أمين الحسيني (الحلقة الأخيرة)

لتحميل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2J1Avxy]

وقائع الكفاح في الفترة (1947- 1948)

عندما أعيد تأليف الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946 كانت استعدادات اليهود العسكرية تنذر بشدة الخطر، وتوالت عليهم الأسلحة والذخيرة، غير آلاف اليهود المدربين في الكثير من الدول الأجنبية، وكانت سياسة الإنجليز نحو الفلسطينيين عكس ذلك، فقد كانت باكورة أعمالهم منذ احتلال فلسطين 1917- 1918 جمع السلاح منهم، وحظر حيازته عليهم، وتنفيذ الحكم بالإعدام على عدد كبير من الفلسطينيين لحيازتهم السلاح.

ورغم ذلك سعى الفلسطينيون للحصول على السلاح ما استطاعوا إليه سبيلاً، لكن وسائلهم ومواردهم المالية كانت محدودة ولا تقاس بما كان لليهود من وسائل.

ورغم ذلك استطاع الفلسطينيون في جميع ثوراتهم طوال عهد الانتداب أن يصمدوا في وجه القوات البريطانية والقوات اليهودية المسلحة، بل ويتغلبوا على اليهود في ثورتهم عام 1947_1948 في كثير من المواقع، ويكبدوهم خسائر فادحة، حتى دخول الجيوش العربية في فلسطين 15 أيار 1948 وقيامها بعزل القوات الفلسطينية عن ميدان المعركة، وحرمانهم من المال والسلاح وسائر وسائل الكفاح.

سعت الهيئة العربية للحصول على السلاح والعتاد والأجهزة العسكرية، وعملت على إعداد المجاهدين الفلسطينيين وتدريبهم وتنظيم تشكيلاتهم، وألفت جيش الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وقد سبق لعدد منهم أن قاموا بدورات عسكرية في ألمانيا والعراق.

وأعدت قيادة (الجهاد المقدس) بمعاونة عدد من ضباط سوريين ومصريين وعراقيين برنامجًا دقيقًا، واختارت الأهداف التي ستنفذ فيها عمليات الجهاد فبلغت 3600 هدف، وقد نفذ قسم من برنامج الأهداف في منطقة القدس مثل نسف دار الوكالة اليهودية، ونفذت عمليات في مناطق أخرى مثل يافا، والمنطقة الشمالية.

ولو لم تنخدع بعض الجهات الرسمية العربية بوعود المستعمرين وتقوم بعرقلة جهودهم لتمكن المجاهدون من تنفيذ برنامجهم، وتحقيق سائر أهدافهم.

عمت فلسطين موجة عارمة من الحماس والاندفاع للقتال وأخذت المعارك تتوالى بين الفلسطينيين وأعدائهم، وبدت كفة العرب راجحة في أواخر عام 1947 والشهور الأولى من 1948.

لما رأى الإنجليز تلك الانتصارات خشوا من تفاقم حرب العصابات أن يحبط مخططهم الرامي إلى القضاء على عروبة فلسطين، فبادروا بتقديم مذكرة إلى السلطات العربية الرسمية اعترضوا فيها على تسليح الفلسطينيين وتدريبهم، وزعموا أن الفلسطينيين يقتلون اليهود بقسوة ودون رحمة، وتابع الإنجليز اعتراضهم وضغطهم على الحكومات العربية حتى حملوها على تبديل الخطة العسكرية التي تقررت مسبقًا، وعلى إدخال جيوشها إلى فلسطين.

ولم تلبث بعد ذلك أن ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة، ومنع الأسلحة والأموال عنهم، بل ومهاجمة قوات الجنرال جلوب لقوة الجهاد المقدس في منطقة رام الله وتشتيتها، والاستيلاء على سلاحها وعتادها.

ورغم سياسة الإقصاء والحرمان ظلت قوات الجهاد المقدس تقوم بأعمال رائعة منذ 1947 إلى ما بعد انسحاب القوات المصرية من قطاع الخليل _ بيت لحم، وانسحاب القوات العراقية من قطاع جنين _ طولكرم.

التواطؤ البريطاني الأمريكي ودور مجلس الأمن

لما قررت الحكومة البريطانية وقف الإدارة المدنية في فلسطين وتصفيتها من بداية مارس 1948، واتخذت شكل حكومة عسكرية، وأصبح المندوب السامي حاكمًا عسكريًّا، شرع الإنجليز حينئذ ينسحبون من المناطق اليهودية متخلين عن إدارتها لليهود، وسرعان ما بادرت الوكالة اليهودية بوضع اليد على تلك المناطق متخذة لنفسها صفة حكومة يهودية.

ساعد هذا الموقف اليهود على اتخاذ مواقف مماثلة في اقتراف المذابح والفظائع في المدن التي يسكنها عرب ويهود، وزاد الموقف خطورة ما أعلنته السلطات البريطانية من أن كل تدخل عسكري قبل 15 مايو وهو اليوم الذي حددته لانسحابها من فلسطين ستقابله بالقوة، وأنها ستظل مسؤولة عن النظام والأمن حتى ذلك التاريخ، لكن الواقع كان خلاف ذلك؛ إذ أخذت السلطات البريطانية في المدن العربية المختلفة تخلي الأحياء العربية وتترك أهلها فريسة للاعتداءات اليهودية.

طوال تلك الفترة لم تفعل الدول العربية شيئًا يعتد به من حيث زيادة استعدادها العسكري، وتقوية طاقاتها القتالية للتصدي للأحداث المقبلة على المستوى الذي تتطلبه خطورة قضية فلسطين، واندفاع اليهودية العالمية في دعم المطامع الصهيونية.

بعد مذبحة حيفا الرهيبة التي قام بها اليهود إثر سقوط المدينة في أيديهم في 23/4/ 1948 وما سبقها من مذابح مثل دير ياسين وغيرها، أخذ بعض الناس يغادرون بيوتهم ومساكنهم إلى بلدان عربية مجاورة، ورافقت ذلك دعاية استعمارية وصهيونية واسعة تحض الناس على هجرة مؤقتة إلى البلاد المجاورة ريثما تصل الجيوش العربية إلى فلسطين، فتصد المعتدين وتعيد المهاجرين إلى منازلهم آمنين كما وعد المسؤلين من حكام الدول العربية وقادتها حينئذ في خطبهم وتصريحاتهم.

وكان من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات العربية أن فتحت بلادها لتسهيل هجرة الفلسطينيين إليها، ولما كنا شديدي الحرص على بقاء الفلسطينيبن في بلادهم مهما كانت الظروف واشتدت الأخطار فقد بادرت الهيئة العربية العليا لفلسطين بنشر بيان في فبراير 1948 يدعو الشعب الفلسطيني للبقاء في بلاده، وأن لا يجلو عنها لأي سبب، وأن يدافع عنها حتى النفس الأخير.

وفي 18 أيار 1948 سقطت عكا في يد اليهود بعد صمود رهيب، ورغم قلة عدد المجاهدين حوالي 150 مقابل 2500 من اليهود إلا أنهم ثبتوا طويلاً حتى تمكن العدو بمصفحاته وآلياته من دخول المدينة.

وبعد ذلك توالى سقوط باقي المدن مثل الناصرة وطبرية وصفد وغيرها، وأخذت القوات المدافعة عنها تنسحب بعيدًا تاركة إياها لليهود الذين قاموا فيها بأبشع مجازر راح ضحيتها الآلاف.

كانت الحرب النفسية هي أسوأ ما يواجهنا؛ فالصهيونيون في حرب 48 لم يكونوا يملكون سلاحًا ثقيلاً ولا طائرات حربية، وكل ما كان لديهم قليل من طائرات مدنية للتدريب، وكانوا في بعض الظروف يلقون بعض القنابل اليدوية باليد من الطائرات المدنية، وكان لدى بعض الدول العربية كمصر والعراق قوات جوية بقيادة طيارين عرب، وحين قصفت الطائرات المصرية بعض الأهداف العسكرية في ميناء تل أبيب أوقعت الذعر والهلع في نفوس سكانها، وفر عدد كبير منهم يقدر بعشرات الألوف إلى أماكن بعيدة.

وقد تدخل الإنجليز والأمريكيون منذ اليوم الأول محتجين على قصف الطائرات المصرية لإسرائيل التي لا تملك طائرات حربية، وطالبوا الدول العربية أن تكون مهمة جيوشها بوليسية لا حربية، وكان الجيش البريطاني حينئذ مؤلفًا من نحو 100 ألف جندي يتربصون في قناة السويس.

حين سقطت صفد في أيدي اليهود ظل اليهود مندهشين وغير مصدقين من أن العرب انسحبوا من صفد، إذ كانت لديهم أسلحة وذخائر تمكنهم من متابعة القتال.

حتى حين حاولت قوة أردنية دخول المدينة وتقديم الدعم جاءتها الأوامر من عمان بالانسحاب وعدم الدخول.
‏٢٦‏/٠٦‏/٢٠١٨ ١٠:٢٦ م‏
القراء الأعزاء.. السلام عليكم ورحمة الله. عددنا القادم هو العدد السنوي الأول لمجلتكم @[196164480909426:274:مجلة كلمة حق]، وقد سعدنا بمتابعتكم وتشجيعكم طيلة العام الماضي، فجزاكم الله خير الجزاء وأوفاه. قراءنا الأعزاء.. يسعدنا أن نتلقى مشاركاتكم حول المجلة من خلال متابعتكم للأعداد السابقة، فاكتبوا لنا عن رأيكم في المجلة واقتراحاتكم للتطوير والتحسين. ننتظر كلماتكم، وتقبلوا تحيات فريق عمل المجلة، مع وافر التقدير والاحترام.
القراء الأعزاء.. السلام عليكم ورحمة الله.

عددنا القادم هو العدد السنوي الأول لمجلتكم مجلة كلمة حق، وقد سعدنا بمتابعتكم وتشجيعكم طيلة العام الماضي، فجزاكم الله خير الجزاء وأوفاه.

قراءنا الأعزاء.. يسعدنا أن نتلقى مشاركاتكم حول المجلة من خلال متابعتكم للأعداد السابقة، فاكتبوا لنا عن رأيكم في المجلة واقتراحاتكم للتطوير والتحسين.

ننتظر كلماتكم، وتقبلوا تحيات فريق عمل المجلة، مع وافر التقدير والاحترام.
‏٢٥‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٧:٢٧ م‏
ترجمات حصرية تطوير الشرطة المحلية مركز حازم لتحميل العدد كاملاً: http://bit.ly/2J1Avxy] ننشر مقطعا من "الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد"، والشهير باسم "دليل بترايوس"، ويتناول المقطع الدروس المستفادة من تجربة بريطانيا في مواجهة أحد التمردات الشيوعية بماليزيا منتصف القرن الماضي، ترجمة مركز حازم لترجمة الدراسات الاستراتيجية. تطوير قوة أمنية ماليزية في عام 1948 بدأ الحزب الشيوعي الماليزي، والذي يعود أصول معظم عناصره للعرق الصيني، في تدشين حركة تمرد مسلح ضد الحكومة الاستعمارية البريطانية. وفي البداية قام البريطانيون بالرد على هذا التمرد عبر مضاعفة أعداد قوات الأمن الماليزية. ولعبت قوات الشرطة -وليس الجيش- الدور الأبرز في مكافحة التمرد. وبين عامي 1948 و 1950 تضاعف عدد قوات الأمن الماليزية خمس مرات ليصل إلى 500000 ، بينما زاد عدد أفرادالحامية البريطانية إلى 40000 . ومع ذلك، لم يتوفر من الوقت إلا بضعة أسابيع لتدريب عاجل لضباط الشرطة الجدد قبل إلقائهم في أتون العمليات. وبالطبع كانت قوات الشرطة ذات الكفاءة المُتدنِّية، والتي لم تُدرَّب بشكل جيد، غير فعالة على الإطلاق في إدارة العمليات، كما تعدَّت هذه القوات على الأهالي وانجرفت إلى ارتكاب ممارسات فاسدة. ونظر قسم كبير من السكان إلى قوات الشرطة نظرة عدائية، وامتنعوا عن تزويدها بأي معلومات عن المتمردين. وبعد ذلك أعد البريطانيون استراتيجية جديدة تضمنت إصلاح قوات الشرطة الماليزية. ففي البداية فُصِل 10000 ضابطِ شرطةٍ منحرفٍ أو غيرِ كفُؤٍ من الخدمة. ثم عُيِّن الضباط الذين أثبتوا أعلى درجة من الكفاءة أثناء العمليات كمعلمين في مدارس شرطة جديدة. وخلال عامي 1952 و 1953 حضر كل ضابط شرطة دورة تدريبية أساسية مدتها أربعة أشهر. وأُرسال ضباط الشرطة العاملين وضباط الصف إلى دورات متقدمة مدتها ثلاثة أو أربعة أشهر. وأُلزم جميع الضباط الكبار في الشرطة الماليزية بالانتظام في دورات تدريبية في مدرسةِ استخباراتِ الشرطة، حيث تعلموا أحدث تقنيات استجواب المجرمين. وقامت فرق من كبار ضباط الشرطة البريطانية بتعليمهم طرق جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها كذلك. وتلقى العشرات من الضباط الماليزيين الواعدين دورةً مدتُها عامٌ كامل للتدريب على عمليات الشرطة المتقدمة في بريطانيا. ولتثبيط الأفراد ذوي الأصول الصينية عن الانضمام إلى صفوف المتمردين، قام البريطانيون بالتعاون الوثيق مع المنظَّمات الصينية لتجنيد الصينيين في الشرطة الماليزية. وفي عام 1952 وصل عدد الصينيين المجندين في الشرطة الماليزية لأكثر من الضعف. وعلى الرغم من أن نسبة الصينيين في الشرطة لم تتساو مع نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان، فقد نظروا إلى هذا التوسع في الاستعانة بهم في الشرطة كعلامة على اهتمام الحكومة بمصالحهم. وفي الوقت نفسه كانت بعض الجماعات السياسية الصينية والماليزية تبني تحالفا لتأسيس دولة ماليزية مستقلة تشارك فيها جميع المجموعات العرقية الكبرى. وكان هذان الجهدان يُكمِّل أحدهما الآخر. وهكذا فقد أدى استخدام ضباط وجنود الشرطة المتدربين جيداً والذين يقودهم ضباط عاملون وضباط صف أكفياء تلقوا تدريباً كاملاً، إلى تحسن مستويات انضباط قوات الأمن الماليزية بدرجة هائلة. وأدى ذلك إلى تكوين علاقات أفضل بين السكان وقوات الأمن، فبدأ الأهالي يُقدِّمون لقوات الأمن معلومات عن المتمردين. وبفضل التدريب الاستخباراتي الذي تلقته، تمكنت قوات الأمن من تكوين منظومة استخبارات طبقاً للمعلومات التي تعلمتها وتدرَّبت عليها وباشرت العمل وفقًا لها، فبدأت في هزيمة المتمردين. وفي عام 1953، تسلمت الحكومة زمام المبادرة. وبعد ذلك تدهورت قوات المتمردين والمنظومة الداعمة لها تدهوراً سريعاً. وفي أواخر عام 1953، بدأ البريطانيون يسحبون قواتَهم، إذ عملوا تدريجياً على تسليم زمام الحرب للماليزيين الذين كانوا على استعداد تام لإدارة عمليات مكافحة التمرد دون أي انخفاض في الكفاءة. إن تجربة التمرد في ماليزيا توفرُ دروساً يمكن تطبيقها على مقاومة أي حالة تمرد، منها أن القوة البشرية لا تكفي، وأنه لا غنى عن القوات المدربة تدريباً جيداً والمنضبطة. كما يوضح هذا المثال الماليزي الدور المركزي الذي تلعبه الشرطة في عمليات مكافحة التمرد. وقد أصر البريطانيون على أن يتلقى الأفراد المختارون تدريباً على المناهج المتكاملة الخاصة بضباط الشرطة والجيش البريطانيَين. وبذا فقد بُنيتْ قوة الشرطة الماليزية على أساس سليم. وعن طريق معالجة مشكلة تدريب وإصلاح قوات الأمن من منظور شامل، تمكَّن القادة البريطانيون من تحويل هيئةٍ روحُها المعنوية متدهورةٌ إلى قوةٍ رابحة. ولم يحتج هذا التحول سوى خمسة عشر شهراً فقط.
ترجمات حصرية
تطوير الشرطة المحلية

مركز حازم

لتحميل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2J1Avxy]

ننشر مقطعا من "الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد"، والشهير باسم "دليل بترايوس"، ويتناول المقطع الدروس المستفادة من تجربة بريطانيا في مواجهة أحد التمردات الشيوعية بماليزيا منتصف القرن الماضي، ترجمة مركز حازم لترجمة الدراسات الاستراتيجية.

تطوير قوة أمنية ماليزية

في عام 1948 بدأ الحزب الشيوعي الماليزي، والذي يعود أصول معظم عناصره للعرق الصيني، في تدشين حركة تمرد مسلح ضد الحكومة الاستعمارية البريطانية. وفي البداية قام البريطانيون بالرد على هذا التمرد عبر مضاعفة أعداد قوات الأمن الماليزية. ولعبت قوات الشرطة -وليس الجيش- الدور الأبرز في مكافحة التمرد. وبين عامي 1948 و 1950 تضاعف عدد قوات الأمن الماليزية خمس مرات ليصل إلى 500000 ، بينما زاد عدد أفرادالحامية البريطانية إلى 40000 . ومع ذلك، لم يتوفر من الوقت إلا بضعة أسابيع لتدريب عاجل لضباط الشرطة الجدد قبل إلقائهم في أتون العمليات. وبالطبع كانت قوات الشرطة ذات الكفاءة المُتدنِّية، والتي لم تُدرَّب بشكل جيد، غير فعالة على الإطلاق في إدارة العمليات، كما تعدَّت هذه القوات على الأهالي وانجرفت إلى ارتكاب ممارسات فاسدة. ونظر قسم كبير من السكان إلى قوات الشرطة نظرة عدائية، وامتنعوا عن تزويدها بأي معلومات عن المتمردين.

وبعد ذلك أعد البريطانيون استراتيجية جديدة تضمنت إصلاح قوات الشرطة الماليزية. ففي البداية فُصِل 10000 ضابطِ شرطةٍ منحرفٍ أو غيرِ كفُؤٍ من الخدمة. ثم عُيِّن الضباط الذين أثبتوا أعلى درجة من الكفاءة أثناء العمليات كمعلمين في مدارس شرطة جديدة.

وخلال عامي 1952 و 1953 حضر كل ضابط شرطة دورة تدريبية أساسية مدتها أربعة أشهر. وأُرسال ضباط الشرطة العاملين وضباط الصف إلى دورات متقدمة مدتها ثلاثة أو أربعة أشهر. وأُلزم جميع الضباط الكبار في الشرطة الماليزية بالانتظام في دورات تدريبية في مدرسةِ استخباراتِ الشرطة، حيث تعلموا أحدث تقنيات استجواب المجرمين. وقامت فرق من كبار ضباط الشرطة البريطانية بتعليمهم طرق جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها كذلك. وتلقى العشرات من الضباط الماليزيين الواعدين دورةً مدتُها عامٌ كامل للتدريب على عمليات الشرطة المتقدمة في بريطانيا. ولتثبيط الأفراد ذوي الأصول الصينية عن الانضمام إلى صفوف المتمردين، قام البريطانيون بالتعاون الوثيق مع المنظَّمات الصينية لتجنيد الصينيين في الشرطة الماليزية. وفي عام 1952 وصل عدد الصينيين المجندين في الشرطة الماليزية لأكثر من الضعف. وعلى الرغم من أن نسبة الصينيين في الشرطة لم تتساو مع نسبتهم إلى إجمالي عدد السكان، فقد نظروا إلى هذا التوسع في الاستعانة بهم في الشرطة كعلامة على اهتمام الحكومة بمصالحهم.

وفي الوقت نفسه كانت بعض الجماعات السياسية الصينية والماليزية تبني تحالفا لتأسيس دولة ماليزية مستقلة تشارك فيها جميع المجموعات العرقية الكبرى. وكان هذان الجهدان يُكمِّل أحدهما الآخر. وهكذا فقد أدى استخدام ضباط وجنود الشرطة المتدربين جيداً والذين يقودهم ضباط عاملون وضباط صف أكفياء تلقوا تدريباً كاملاً، إلى تحسن مستويات انضباط قوات الأمن الماليزية بدرجة هائلة. وأدى ذلك إلى تكوين علاقات أفضل بين السكان وقوات الأمن، فبدأ الأهالي يُقدِّمون لقوات الأمن معلومات عن المتمردين. وبفضل التدريب الاستخباراتي الذي تلقته، تمكنت قوات الأمن من تكوين منظومة استخبارات طبقاً للمعلومات التي تعلمتها وتدرَّبت عليها وباشرت العمل وفقًا لها، فبدأت في هزيمة المتمردين. وفي عام 1953، تسلمت الحكومة زمام المبادرة. وبعد ذلك تدهورت قوات المتمردين والمنظومة الداعمة لها تدهوراً سريعاً. وفي أواخر عام 1953، بدأ البريطانيون يسحبون قواتَهم، إذ عملوا تدريجياً على تسليم زمام الحرب للماليزيين الذين كانوا على استعداد تام لإدارة عمليات مكافحة التمرد دون أي انخفاض في الكفاءة.

إن تجربة التمرد في ماليزيا توفرُ دروساً يمكن تطبيقها على مقاومة أي حالة تمرد، منها أن القوة البشرية لا تكفي، وأنه لا غنى عن القوات المدربة تدريباً جيداً والمنضبطة. كما يوضح هذا المثال الماليزي الدور المركزي الذي تلعبه الشرطة في عمليات مكافحة التمرد. وقد أصر البريطانيون على أن يتلقى الأفراد المختارون تدريباً على المناهج المتكاملة الخاصة بضباط الشرطة والجيش البريطانيَين. وبذا فقد بُنيتْ قوة الشرطة الماليزية على أساس سليم. وعن طريق معالجة مشكلة تدريب وإصلاح قوات الأمن من منظور شامل، تمكَّن القادة البريطانيون من تحويل هيئةٍ روحُها المعنوية متدهورةٌ إلى قوةٍ رابحة. ولم يحتج هذا التحول سوى خمسة عشر شهراً فقط.
‏٢٣‏/٠٦‏/٢٠١٨ ١١:٣٢ م‏
بؤس العالم.. يُسرى جلال لتحميل العدد كاملاً: http://bit.ly/2J1Avxy] دون سابق إنذار.. اقتحم (الأوبرجنيك) قريتنا.. تمامًا كوحوش الأساطير يرتدون مُسُوحًا سوداء، ويمتطون خيولًا ضخمة، علَّقوا على صهواتها رءوسًا مقطوعة لكلاب.. كانوا (كلاب القيصر) بحق.. يُدينون له بولاء لا يتراجعون فيه، حتى إنه يختبرهم فيأمرهم بقتل آبائهم وزوجاتهم فيُنفذِّون دون نقاش ولا تردد.. يبدو أن (إيفان الرهيب) قرر إنهاء مشكلة قازان.. وللأبد.. تعاهدنا على الدفاع عن قازان ولكنّ الخان [الحاكم] من أنصار الروس، والروس مسلَّحون ونحن عُزَّل إلا من الشجاعة.. وحدها الشجاعةُ سلاحُنا.. شجاعةً لم تنجح في منع قوات القيصر من الانسياح في سهلنا.. يُعذِّبون من سقط في أيديهم.. يقذفون بهم في قدور الماء المغلي الضخمة.. يُعلِّقون أئمة المساجد على خوازيق نصبوها وأشعلوا النار تحتها.. لم يبق أمام الناجين سوى الفرار من (كلاب القيصر).. ********************************* الذئب الصغير (زابيفاكا) اُختير ليكون تميمةَ كأس العالم المُقامةِ بروسيا ٢٠١٨، وذلك بعد نجاحه في اجتياز مراحل التصويت التي أُقيمت على شاشات القنوات الروسية.. ويتميز (زابيفاكا) بفِرائه البُنِّي والأبيض، ويميزه أيضًا قميصه الذي يحمل ألوان العلم الروسي، الأبيض والأحمر والأزرق.. ويبدو (زابيفاكا) -الذي تُشعُّ عيونُه الزرقاء الطيبة فرحًا وسِحرًا وثِقَةً- وجهًا جديدًا لروسيا التي تفتح ذراعيها للعالم من جديد، لتُعيد إلى الأذهان إرثها الثقافي والحضاري الذي غيَّر وجه الدنيا.. واجتمعت الأمم على تقديره.. *************************** اجتمع كبار رجال التتر في منزلنا، وبينما علا نحيب النساء، ارتفع صوت الرجال في الباحة.. كان أحدهم يحاول إقناع الجميع بالتوقف عن الثورة، فالروس وحْشيُّون ويبدو أنهم تواصلوا مع الإسبانيين ليتعلموا منهم طرق التنكيل بالمسلمين. تحدث بصوت هادئ مُجبِرًا الجميع على الصمت ليتمكَّنوا من سماعه: "مواجهة الروس تعني إبادة الإسلام في أراضي نهر الفولغا. أجهزوا حتى اللحظة على أكثر من ٣٥٠ ألف تتري.. دعوهم يسيرون في خطتهم، لنتظاهر بقبول الأورثوذكسية.." قاطعه صوت شيخ باك: "ومدارس القرآن التي صادروها والمساجد التي أغلقوها ونقلوا ملكيتها للقيصر في موسكوف التي كانت يومًا ما تدفع الجزية لبركة خان أمير التتر!" رد عليه الرجل بهدوء: "يا حاج، يبدو أنها المرحلة المكية.. سنُخفي إسلامنا وقلبنا مطمئن بالإيمان..كيف لنا أن ندفع الضرائب التي يفرضونها على المسلمين؟.." اتسعت عينا الشيخ متسائلًا: "ونتنصر؟!" -"إنهم يختطفون أبناءنا ويُنصِّرونهم قسرًا، ويفرضون على المسلمين تجنيدًا إجباريًا ويعفونه منه إذا تنصَّر.. فلنعلن أننا تنصرنا ونكتم إسلامنا وحينها نتمكن من تربية أولادنا على الإسلام حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.. هدم الروس مساجدنا وهاجموا قرانا ولن نتمكن من الدفاع.." ****************************** تمكن مدافعو أسود الأطلسي من إحراز هدفين نظيفين في مرمى ساحل العاج لتتأهل المغرب للمرة الخامسة للعب في كأس العالم.. وقد شهدت شوارع الدار البيضاء وطنجة احتفالات عارمة لشباب مغربي رسم النجمة المغربية الخضراء على وجهه والتحف بالأعلام في كرنفال، بدا وكأنه فاتحة الاحتفالات المغربية بالانتصارات في كأس العالم روسيا ٢٠١٨.. ****************************** حاول (دولية أصلانوف) رفع صوته الواهن جراء المرض مُشيحًا بيد الطبيب الروسي قائلًا: "لا أريد مساعدة من ملحد فكل شيء بيد الله"، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.[تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ص٤٠٩، د.إسماعيل ياغي، محمود شاكر، دار المريخ. الرياض] صدمت عبارة (دولية) رفاقه في الكومسومول (رابطة الشباب الشيوعي) وسادت التساؤلات والشكوك! هل كان (أصلانوف) مسلمًا؟ كيف نجح في اخفاء إسلامه طوال هذه الفترة؟ هل كان يخدعنا طوال هذا الوقت؟ دفع إسلامه محققي الحكومة السوفيتية لتتبع أمره، وتوجه المحققون إلى مقهى كان يرتاده، واكتشفوا وجود مدرسة لتعليم القرآن للمراهقين، وعندما اقتربوا من المقهى سارع روادها في إخفاء صحائف القرآن والكتب العربية، ولكنّ المحققين أشهروا الأسلحة وألقوا القبض عليهم جميعًا. ومع استمرار التحقيقات أفصح أحد المتهمين بوجود قبوٍ تحت الأرض، وكشف عن نيتهم في صيام رمضان الذي يحل قريبًا... ****************************** "كيف يمكن لشخص أن يتدرب صباحًا دون مياه؟.. ليس منطقيًا أن يخوض أي شخص تدريبات دون طعام.." كان ذلك ما قاله مدرب المنتخب المصري (كوبر) ردًّا على سؤال وُجِّهَ إليه في مؤتمر صحفي دار حول استعدادات المنتخب لخوض سباق كأس العالم.. كما ذكر أن اتحاد الكرة سيبحث الأمر مع السلطات الدينية المسئولة من أجل استصدار فتوى تُبيح للاعبين الإفطار في رمضان.. [موقع جول: https://www.google.com/amp/www.goal.com/ar-eg/amp/أخبار/كوبر-يبدي-تحفظه-على-صيام-لاعبي-منتخب-مصر-قبل-المونديال/zao123lxk6tk1qvpdvne8x3js] ****************************** -"أشهد الله أني حذرتهم من التعاون مع النازيين.." ="وماذا كان بأيدينا أن نفعل؟ كنّا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. لواء الملحد ستالين أو صليب هتلر المعكوف! فرَّ تتار القرم من جيش ستالين الأحمر ليُكوِّنوا فيالق كاملة في الجيش الألماني.." -"المنتصر سيسحقنا لا بد.. كالكلب الشرس انتقم ستالين، حرق المصاحف وهدم المساجد وقتل العلماء بعد أن أوقفهم صفوفًا ، أما رجال الدولة فقد عذبوهم حتى الموت.. دقوا في رؤوسهم المسامير حتى انفجرت.. وأصدر أوامره بتهجير من بقي إلى سيبريا، سنموت متجمدين في البرد هناك.. الروس يكرهوننا، يحقدون على الإسلام.. روسيا القيصرية وريثة القسطنطينية الأورثوذكسية حاربت المسلمين، وروسيا الشيوعية الملحدة تحاربهم .. أجزم أننا لن نبقى هناك في سيبريا على قيد الحياة.. ****************************** فرصة العمر.. سافر وشجع منتخب الفراعنة وباقي المنتخبات العربية في أقوى ماراثون رياضي.. ينصح الخبراء العاملون في السياحة بالمسارعة في حجز رحلة طيران قبل بدء كأس العالم بمدة كافية، تجنبًا للارتفاع الجنوني المتوقع في الأسعار.. قد تكلفك الرحلة ١٤ ألف جنيهٍ مصريٍّ فقط ولكن الحياة في روسيا غالية، ولذا ننصح بضرورة اعتماد مبلغ مالي كبير لبنود تذاكر المبات والسياحة في روسيا.. وتُقدِّم بعض الشركات السياحية عروضًا تشمل أسعار التذاكر والانتقالات داخل روسيا بمبلغ يصل إلى ٣٠ ألف جنيه مصري. فرصتك مشاهدة الكريملين عن قرب وزيارة المنتجعات الصحية في روسيا.. اتصل الآن.. ****************************** قصف السوخوي الروسي أصبح حديث الصباح والمساء..لم يعد هناك مساء فالفسفور الأبيض يضيء الليل بوميضه لنصحو على هلع لأطفال يُسيل الزَّبَدَ من أفواههم الصغيرة.. هجرنا دارنا في البوكمال وعبرنا الفرات فِرَارًا من القصف رفض والدي ترك الدار قائلًا: "تغريبة فلسطينية جديدة.. إذا خرجنا لن نعود.." يبدو أن المرء يزداد عناده مع تقدمه في السن.. ولكن مع اقتراب القصف من منطقتنا وافق والدي على إخلاء الدار.. لننجو بفضل الله من قصف روسي ضربها فور مغادرتنا.. كنّا قد خبَّأنا أغراضنا في مخابئ حفرناها تحت الأرض خوفًا من (التعفيش) [السرقة].. بعد أن هدأت الأوضاع أرسلتني أمي للاطمئنان على الدار، وكذا متاعنا المدفون تحت الأرض.. تحطمت دارنا وسُوِّيت بالأرض واحترق متاعنا تمامًا، لم يحرقه قصف الطيران الروسي، بل أشعل فيه جيش الأسد النيران فقد تعهد بوتين ألا يشارك في العمليات البرية، وأعلن اكتفاءه بالدعم الجوي ضد التنظيمات الإرهابية وأوكل مهمة (التعفيش) لجيش الأسد.. ****************************** يبدو أن منتخب الأسود الثلاثة سينسحب من كأس العالم روسيا ٢٠١٨، حيث هددت الحكومة البريطانية بالانسحاب من كأس العالم حال ثبوت تورط الحكومة الروسية في محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج (سيرغري سكريبال) في سياق متصل صرح رئيس اللجنة الروسية المنظِّمة لكأس العالم أن الافتتاح لن يكون كلاسيكيًّا مشابهًا لما سبقه مِن بطولات، وأنه سيكون على مستوى عال من الإبهار. إبهار يليق بالساحرة المستديرة..
بؤس العالم..

يُسرى جلال

لتحميل العدد كاملاً:
http://bit.ly/2J1Avxy]

دون سابق إنذار.. اقتحم (الأوبرجنيك) قريتنا.. تمامًا كوحوش الأساطير يرتدون مُسُوحًا سوداء، ويمتطون خيولًا ضخمة، علَّقوا على صهواتها رءوسًا مقطوعة لكلاب.. كانوا (كلاب القيصر) بحق.. يُدينون له بولاء لا يتراجعون فيه، حتى إنه يختبرهم فيأمرهم بقتل آبائهم وزوجاتهم فيُنفذِّون دون نقاش ولا تردد..
يبدو أن (إيفان الرهيب) قرر إنهاء مشكلة قازان.. وللأبد..
تعاهدنا على الدفاع عن قازان ولكنّ الخان [الحاكم] من أنصار الروس، والروس مسلَّحون ونحن عُزَّل إلا من الشجاعة.. وحدها الشجاعةُ سلاحُنا.. شجاعةً لم تنجح في منع قوات القيصر من الانسياح في سهلنا..
يُعذِّبون من سقط في أيديهم.. يقذفون بهم في قدور الماء المغلي الضخمة.. يُعلِّقون أئمة المساجد على خوازيق نصبوها وأشعلوا النار تحتها..
لم يبق أمام الناجين سوى الفرار من (كلاب القيصر)..

*********************************

الذئب الصغير (زابيفاكا) اُختير ليكون تميمةَ كأس العالم المُقامةِ بروسيا ٢٠١٨، وذلك بعد نجاحه في اجتياز مراحل التصويت التي أُقيمت على شاشات القنوات الروسية..
ويتميز (زابيفاكا) بفِرائه البُنِّي والأبيض، ويميزه أيضًا قميصه الذي يحمل ألوان العلم الروسي، الأبيض والأحمر والأزرق..
ويبدو (زابيفاكا) -الذي تُشعُّ عيونُه الزرقاء الطيبة فرحًا وسِحرًا وثِقَةً- وجهًا جديدًا لروسيا التي تفتح ذراعيها للعالم من جديد، لتُعيد إلى الأذهان إرثها الثقافي والحضاري الذي غيَّر وجه الدنيا.. واجتمعت الأمم على تقديره..

***************************
اجتمع كبار رجال التتر في منزلنا، وبينما علا نحيب النساء، ارتفع صوت الرجال في الباحة..
كان أحدهم يحاول إقناع الجميع بالتوقف عن الثورة، فالروس وحْشيُّون ويبدو أنهم تواصلوا مع الإسبانيين ليتعلموا منهم طرق التنكيل بالمسلمين.
تحدث بصوت هادئ مُجبِرًا الجميع على الصمت ليتمكَّنوا من سماعه: "مواجهة الروس تعني إبادة الإسلام في أراضي نهر الفولغا. أجهزوا حتى اللحظة على أكثر من ٣٥٠ ألف تتري..
دعوهم يسيرون في خطتهم، لنتظاهر بقبول الأورثوذكسية.."
قاطعه صوت شيخ باك: "ومدارس القرآن التي صادروها والمساجد التي أغلقوها ونقلوا ملكيتها للقيصر في موسكوف التي كانت يومًا ما تدفع الجزية لبركة خان أمير التتر!"
رد عليه الرجل بهدوء: "يا حاج، يبدو أنها المرحلة المكية.. سنُخفي إسلامنا وقلبنا مطمئن بالإيمان..كيف لنا أن ندفع الضرائب التي يفرضونها على المسلمين؟.."
اتسعت عينا الشيخ متسائلًا: "ونتنصر؟!"
-"إنهم يختطفون أبناءنا ويُنصِّرونهم قسرًا، ويفرضون على المسلمين تجنيدًا إجباريًا ويعفونه منه إذا تنصَّر.. فلنعلن أننا تنصرنا ونكتم إسلامنا وحينها نتمكن من تربية أولادنا على الإسلام حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا..
هدم الروس مساجدنا وهاجموا قرانا ولن نتمكن من الدفاع.."

******************************
تمكن مدافعو أسود الأطلسي من إحراز هدفين نظيفين في مرمى ساحل العاج لتتأهل المغرب للمرة الخامسة للعب في كأس العالم..
وقد شهدت شوارع الدار البيضاء وطنجة احتفالات عارمة لشباب مغربي رسم النجمة المغربية الخضراء على وجهه والتحف بالأعلام في كرنفال، بدا وكأنه فاتحة الاحتفالات المغربية بالانتصارات في كأس العالم روسيا ٢٠١٨..

******************************
حاول (دولية أصلانوف) رفع صوته الواهن جراء المرض مُشيحًا بيد الطبيب الروسي قائلًا: "لا أريد مساعدة من ملحد فكل شيء بيد الله"، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.[تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ص٤٠٩، د.إسماعيل ياغي، محمود شاكر، دار المريخ. الرياض]
صدمت عبارة (دولية) رفاقه في الكومسومول (رابطة الشباب الشيوعي) وسادت التساؤلات والشكوك! هل كان (أصلانوف) مسلمًا؟ كيف نجح في اخفاء إسلامه طوال هذه الفترة؟ هل كان يخدعنا طوال هذا الوقت؟
دفع إسلامه محققي الحكومة السوفيتية لتتبع أمره، وتوجه المحققون إلى مقهى كان يرتاده، واكتشفوا وجود مدرسة لتعليم القرآن للمراهقين، وعندما اقتربوا من المقهى سارع روادها في إخفاء صحائف القرآن والكتب العربية، ولكنّ المحققين أشهروا الأسلحة وألقوا القبض عليهم جميعًا. ومع استمرار التحقيقات أفصح أحد المتهمين بوجود قبوٍ تحت الأرض، وكشف عن نيتهم في صيام رمضان الذي يحل قريبًا...

******************************
"كيف يمكن لشخص أن يتدرب صباحًا دون مياه؟.. ليس منطقيًا أن يخوض أي شخص تدريبات دون طعام.."
كان ذلك ما قاله مدرب المنتخب المصري (كوبر) ردًّا على سؤال وُجِّهَ إليه في مؤتمر صحفي دار حول استعدادات المنتخب لخوض سباق كأس العالم..
كما ذكر أن اتحاد الكرة سيبحث الأمر مع السلطات الدينية المسئولة من أجل استصدار فتوى تُبيح للاعبين الإفطار في رمضان.. [موقع جول:
https://www.google.com/amp/www.goal.com/ar-eg/amp/أخبار/كوبر-يبدي-تحفظه-على-صيام-لاعبي-منتخب-مصر-قبل-المونديال/zao123lxk6tk1qvpdvne8x3js]

******************************

-"أشهد الله أني حذرتهم من التعاون مع النازيين.."

="وماذا كان بأيدينا أن نفعل؟ كنّا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. لواء الملحد ستالين أو صليب هتلر المعكوف!
فرَّ تتار القرم من جيش ستالين الأحمر ليُكوِّنوا فيالق كاملة في الجيش الألماني.."

-"المنتصر سيسحقنا لا بد.. كالكلب الشرس انتقم ستالين، حرق المصاحف وهدم المساجد وقتل العلماء بعد أن أوقفهم صفوفًا ، أما رجال الدولة فقد عذبوهم حتى الموت.. دقوا في رؤوسهم المسامير حتى انفجرت..
وأصدر أوامره بتهجير من بقي إلى سيبريا، سنموت متجمدين في البرد هناك..
الروس يكرهوننا، يحقدون على الإسلام.. روسيا القيصرية وريثة القسطنطينية الأورثوذكسية حاربت المسلمين، وروسيا الشيوعية الملحدة تحاربهم ..
أجزم أننا لن نبقى هناك في سيبريا على قيد الحياة..

******************************
فرصة العمر.. سافر وشجع منتخب الفراعنة وباقي المنتخبات العربية في أقوى ماراثون رياضي.. ينصح الخبراء العاملون في السياحة بالمسارعة في حجز رحلة طيران قبل بدء كأس العالم بمدة كافية، تجنبًا للارتفاع الجنوني المتوقع في الأسعار.. قد تكلفك الرحلة ١٤ ألف جنيهٍ مصريٍّ فقط ولكن الحياة في روسيا غالية، ولذا ننصح بضرورة اعتماد مبلغ مالي كبير لبنود تذاكر المبات والسياحة في روسيا.. وتُقدِّم بعض الشركات السياحية عروضًا تشمل أسعار التذاكر والانتقالات داخل روسيا بمبلغ يصل إلى ٣٠ ألف جنيه مصري.
فرصتك مشاهدة الكريملين عن قرب وزيارة المنتجعات الصحية في روسيا.. اتصل الآن..

******************************

قصف السوخوي الروسي أصبح حديث الصباح والمساء..لم يعد هناك مساء فالفسفور الأبيض يضيء الليل بوميضه لنصحو على هلع لأطفال يُسيل الزَّبَدَ من أفواههم الصغيرة..
هجرنا دارنا في البوكمال وعبرنا الفرات فِرَارًا من القصف
رفض والدي ترك الدار قائلًا: "تغريبة فلسطينية جديدة.. إذا خرجنا لن نعود.."
يبدو أن المرء يزداد عناده مع تقدمه في السن..
ولكن مع اقتراب القصف من منطقتنا وافق والدي على إخلاء الدار.. لننجو بفضل الله من قصف روسي ضربها فور مغادرتنا..
كنّا قد خبَّأنا أغراضنا في مخابئ حفرناها تحت الأرض خوفًا من (التعفيش) [السرقة]..
بعد أن هدأت الأوضاع أرسلتني أمي للاطمئنان على الدار، وكذا متاعنا المدفون تحت الأرض..
تحطمت دارنا وسُوِّيت بالأرض واحترق متاعنا تمامًا، لم يحرقه قصف الطيران الروسي، بل أشعل فيه جيش الأسد النيران
فقد تعهد بوتين ألا يشارك في العمليات البرية، وأعلن اكتفاءه بالدعم الجوي ضد التنظيمات الإرهابية وأوكل مهمة (التعفيش) لجيش الأسد..

******************************
يبدو أن منتخب الأسود الثلاثة سينسحب من كأس العالم روسيا ٢٠١٨، حيث هددت الحكومة البريطانية بالانسحاب من كأس العالم حال ثبوت تورط الحكومة الروسية في محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج (سيرغري سكريبال)
في سياق متصل صرح رئيس اللجنة الروسية المنظِّمة لكأس العالم أن الافتتاح لن يكون كلاسيكيًّا مشابهًا لما سبقه مِن بطولات، وأنه سيكون على مستوى عال من الإبهار. إبهار يليق بالساحرة المستديرة..
‏٢١‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٨:٤١ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (3) أول اصطدام بالنظام، وأول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت الأول على مستوى الصف السادس الابتدائي بالمدرسة، والعشرين على مستوى المحافظة، كانت درجاتي تجعلني في المركز العاشر ولكن المتكرر من المتفوقين أنزلني إلى المرز العشرين، وكانت عادتهم في ذلك الوقت أن يأخذوا المتفوقين إلى "تنظيم البراعم" الملحق بالطلائع، وكانت الطلائع ملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، فدخلت تنظيم البراعم في الصف الأول الإعدادي وبقيت فيه فترة، فلما انتهت المرحلة الإعدادية دخلت الطلائع وبقيت بها حتى الصف الثالث الثانوي، ثم دخلت منظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكنت مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو في المنظمة، وعندما دخلت الجامعة انضممت إلى الحزب الشيوعي لامصري لفترة، وبقيت فيه طوال فترة السنة الأولى في كلية التجارة، ولمست ظاهرة الفساد الأخلاقي إذ كنت متدينا بطبيعتي، وكنت قد التحقت بطريقة صوفية بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية. أذكر حين كنت في الصف الثالث الإعدادي كان معنا زميل اسمه محمود حسن عبد الرسول، كان في عائلته على ما يبدو أحدٌ ممن يفهم السياسة أو أكثر، أو كان متدينا، المهم أن محمود حسن كان يقول لي: - لا بد أن نغيِّر جمال عبد الناصر، هل تعلم كيف أمسك جمال عبد الناصر بالحكم؟ - كان ضابطا بالجيش وقام بثورة ثم حكم البلد - يمكننا أن نفعل مثله - ولماذا نفعل؟ هو رجل جيد - لا، ليس هو كذلك - لماذا؟ في الطلائع يعلموننا أنه رجل جيد. وأذكر له بعض الخطب - لا ليس كذلك. كان من الواضح أنه متشبع برأي، إلا أنه لا يستطيع التدليل عليه. ولم يكن هو من الإخوان، لكني أتذكر أن أخاه الأكبر كان يملك متجرا للقماش "ماني فاتورة"، وكنت إذا ذهبت أجد عنده أصحاب كثيرون يجلسون ولا يشترون، وكان بيتهم في القرية كبيرا ويغلب عليهم التدين، ولعلهم من الإخوان القدامى، والله أعلم. إذ لم تطل صحبتنا، فقد افترقنا في الصف الثالث الثانوي. مما أذكره من تلك الأيام أننا انتقلنا من مدرستنا إلى مدرسة أخرى أفضل أنشأها مصنع السكر، كانت مدرسة نموذجية نظيفة وبها فناء واسع على النمط الحديث وبها حديقة وبالحديقة صوبة لزراعة الورد، وجاءت مُدَرِّسة تدرس لنا مادة "التربية الزراعية"، وكانت ملابسها قصيرة جدا "الميني جيب والميكرو جيب" كما هي عادة أهل المدن في تلك الفترة، وأغلب الظن أنها من الوجه البحري وإنما جاءت في سياق المساكن التابعة لمصنع السكر، وهذه المساكن كانت كبيرة كأنها مدينة سكنية وكنا نسميها "المستعمرة"، وكانت كأنها قطعة من خارج البلد. وذات يوم كانت تعلمنا زراعة الورد، فكانت تميل إلى الأسفل فانكشفت ملابسها الداخلية، فصرخت فيها: - هذا عيب جدا، لا ينبغي أن تنكشف ملابسك الداخلية ففزعت واعتدلت وقالت لي: - ايه يا رفاعي حد يقول للمُدَرِّسة كده؟.. كسفتني (أحرجتني) أمام التلاميذ يا رفاعي! - هذا لا يصح، هذا عيب جدا. - هل إذا أتيت إلى المدرسة بملابس طويلة تضحكون عليَّ (تهزؤون وتسخرون مني)؟" - ولماذا نضحك عليكِ، إن ملابس أمي تصل إلى الأرض. ثم فيما بعد أخبرت ناظرة المدرسة، ونصحتها الناظرة أن ترتدي ملابس طويلة، ثم جاءت الناظرة فحدثتني وقالت "عيب أن تقول هذا للمدرسة"، لكنه حديث تقدير أكثر من حديث لوم وعتاب. وهذه الناظرة كان زوجها مأمور مركز ادفو، وكان برتبة عقيد واسمه عبد المنعم حمودة، وكان لها بنت اسمها عزة، وكانت تمازحني أحيانا وتقول: سأزوجك من عزة! وكان في المدرسة مدرس للغة الإنجليزية يدعى محمود عبد الرحمن، وهذا الأستاذ من أسباب تأخر اللغة الإنجليزية في المدرسة، فلقد كان يكتب الإنجليزي بالحروف العربية، فمثلا كلمة book يكتبها "بوك"، ولم أدرك فداحة هذه الطريقة إلا بعد أن كبرت. وكان هذا الأستاذ حريصا على أن يعطيني درسا خصوصيا، وكنت أقول له: إنني متميز ولا أحتاج إلى درس خاص وأنا الأول على المدرسة دائما. فنشأت بيني وبينه ما يشبه العداوة، حتى أنه جاءنا ذات يوم فأخبرنا أنه سيمتحننا غدا في حفظ قصة باللغة الإنجليزية تقع في صفحتين ونصف، وحاول الطلاب أن يعترضوا بضيق الوقت، لكنه أصرَّ، وشعرت أنه فخٌ مُعَدٌّ للانتقام مني، وتجنبا لما قد يحدث فقد بذلت جهدي فحفظتها عن ظهر قلب، لكن جاء الغد فلم يمتحنَّا ثم الذي بعده ثم الذي بعده، وكنت أطالبه بأن يختبرنا في القصة فيتجاهلني أو ينهرني بقوله "هذا ليس من شأنك"، فلما جاء اليوم الرابع، فاجأنا بالامتحان، وسأل بقية الطُّلاب قبلي وكانوا قد نسوا ما حفظوه منها، فمن لم يستطع تسميع القصة أبقاه واقفا بانتظار العقاب، حتى إذا وصل إليَّ سمَّعتُها له دون أي خطأ، فقال مغتاظا "يخرب بيت أبوك"، ولم يعاقب أحدا من الطُّلاب، ولو أني أخطأت لكان قد عاقبنا جميعا فلا يظهر أنه عاقبني منفردا. لم أكن أستفيد من حصة هذا الأستاذ، وكان بالمدرسة أستاذة أخرى نصرانية اسمها "نادية" وكانت جيدة، فكنت أنتهز الفرص فأذهب إليها في وقت الراحة لتدرسني، وكانت تشعر أنني مجتهد، فضبطني هذا الأستاذ يوما معها وهي تشرح لي الدرس الذي كان يشرحه، فوبخني وضربني بالعصا، لكنني أمسكت بالعصا وصحت في وجهه: لن تضربني مرة أخرى، فظهر أننا نتشاجر، ولما شتمني بأبي شتمته بأبيه، ثم حضر أستاذ آخر فأخبره أني مريض بالربو، وحضرت الأستاذة فوزية ناظرة المدرسة فلامته وهدأتني فقد بدأت أزمة الربو في الظهور. حضرتُ مرتين حفلات أوائل الطلاب على مستوى المحافظة، ومما أذكره أيضا أني حين كنت في الصف الثالث الإعدادي تلك المسابقة التي خسرناها من مسابقات المدارس، وكانت مسابقات المدارس تجري بانتخاب مجموعة من الطلاب يمثلون مدرستهم ثم تُطرح عليهم الأسئلة، فيتميز بعضهم على بعض، وقد نجحنا أن نحصل على المركز الأول على مستوى أسوان، ثم كان ينبغي أن ننافس على مستوى الجمهورية، لكنني أخطأت في الإجابة عن سؤال "27 رجب" فسارعت بالقول: "ليلة القدر"، اختلط على الأمر بين 27 رجب و27 رمضان، ثم سرعان ما استدركت قائلا: الإسراء والمعراج، لكن الممتحن كان قد سجَّل الإجابة الأولى، وبهذا خسرنا وتفوقت المدرسة المنافسة علينا، خصوصا وقد فازوا علينا في مسابقة الغناء. وفاة عبد الناصر أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، كان الحزن يخيم على مركز ادفو كله، حتى إن امرأة ألقت بنفسها من الطابق الثالث حين سمعت خبر موته، وخرجنا جميعا من المدارس نبكي بكاء هيستيريا، وكنت أبكي بحرقة! لقد كان دخولي منظمة الطلائع من أسباب تعلقي الشديد بعبد الناصر، كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب، إذ كنتُ حينئذ قويّ الحفظ سريعه، فلذلك بكيته بكاء شديدا ومُرًّا. وكان الناس يحملون نعشا فارغا يجوبون به الشوارع، كأنهم بجنازتهم الرمزية هذه يشاطرون الجنازة الحقيقية في مصر. مرَّ يوم ثم الثاني في حالة الحزن هذه ثم قدر الله لي أن أتحول تحولا شديدا، فعند انتهاء الجنازة في مركز ادفو، وكنت حينئذ في ادفو لكون مدرستي الثانوية هناك، صار الناس يعودون إلى بيوتهم، فشاء الله أن مرَّ بي أستاذ التربية الرياضية في المدرسة الإعدادية محمد الشاهد فرآني، وسألني: - ما بك يا رفاعي لماذا تبكي؟ - هل هذا سؤال؟ - نعم، أسألك لماذا تبكي؟ - أبكي جمال عبد الناصر طبعا. - لا، أنت لا تبكي جمال عبد الناصر. - فسألت مندهشا: كيف؟! لماذا لا أبكي جمال؟ - من أين لك أن تعرف جمال عبد الناصر حتى تبكيه؟ - هل يوجد أحد لا يعرف جمال عبد الناصر؟ - إنما رأيتَ الناس تبكي فبكيت، فلا تعاند! - فانتبهت لهذا المعنى لأول مرة وسألته: إذن ألست حزينا على جمال عبد الناصر؟ - لا لست حزينا - كيف ذلك؟ - تعال معي وسأشرح لك: لماذا لست حزينا عليه. مضيت مع الأستاذ محمد، وكان من حي السيدة زينب في القاهرة، فقال: - أنت كنت معي مدة سنتين في المدرسة الاعدادية، وأنا أحبك، فأنت شاب متدين، ولهذا فإني أريد أن أُسِرَّ لك بأشياء لكن لا تخبر بها أحدا. لقد كنتُ ضابط احتياط في حرب اليمن، هل تعلم يا رفاعي أننا كنا نُحَزِّم المساجد بالديناميت ثم نفجِّرها فوق رؤوس الناس أثناء صلاة الجمعة؟! هؤلاء الذين نقتلهم ونفجرهم كانوا مسلمين، هكذا كانت تأتينا الأوامر العسكرية! - ولماذا تطيعون هذه الأوامر التي تأمر بقتل الناس وهم يصلون الجمعة؟ - لقد أردنا أن نهزم ثورة اليمن، خرجنا من مصر وذهبنا للحرب لأجل هذا الغرض. - وما ثورة اليمن؟ فحكى لي عن الثورة، وعن عبد الله السلال والانقلاب الذي تم على الإمام أحمد البدر وأن أحمد البدر كان ملكا صوفيا وشيعيا من الزيدية، وأن جمال عبد الناصر أراد الوقوف مع الضباط لتكون مثل "الثورة في مصر". ثم قال: "جمال عبد الناصر هذا مجرم، وليس زعيما كما يقال وكما تسمعون في المدارس، ولا يحب الدين. أنا من الإخوان يا رفاعي وأبي مات في السجن، مات في مذبحة طرة حيث اقتحموا على الناس الزنازين وقتلوهم". كان في غاية التأثر، مما أثَّر فيّ كثيرا، فسألته: - معنى هذا أن جمال عبد الناصر سيء؟ - كلمة "سيئ" لا تكفي للتعبير عنه. - فكيف يا أستاذ لا تخبرونا بالحقيقة كل هذه الفترة؟ - لا نستطيع أن نقول هذا، وإلا ألقينا في السجون، الآن يمكن أن نقول هذا لأنه مات، أما ما قبل ذلك فلا يمكن. وهكذا حصلت المفارقة، اليوم الذي كنت أشد ما يكون حزنا على عبد الناصر هو اليوم الذي أمسيت أبغضه أشد ما يكون البغض، انقلب الحب بغضا بنفس الدرجة! جزى الله هذا الأستاذ محمد الشاهد عني خير الجزاء، كان له عظيم الأثر في أن يتحول مساري كثيرا، لا أقول بأني شهدتُ تحولا جذريا إذ أنني بقيت بعد هذه الصدمة في منظمة الشباب الملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، وبقيت كذلك في الطريقة الصوفية التي كنت قد انتسبت إليها.. لقد تم تحولي الجذري بالتدريج! لم أفكر أبدا فيما إن كان كلامه كذبا أو مبالغة، لقد سلَّمت بما قال، كنت أحبه كأستاذ وكانت علاقتي به طيبة، وكان كذلك يحبني ويحترمني ولم يكن يتعامل معي كتلميذ بل كشاب ناضج، وكنت استشعر دفء العلاقة بيننا، كما هي بيني وبين كثير من الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية، إذ كانوا يعاملونني كصديق، لذلك لم أفكر في أنه قد يكذب علي أو يخدعني، إلا أنني لكي أستوعب هذا الكلام اضطررت إلى سؤال أساتذة آخرين، ولم تكن أسئلة مباشرة إنما جاءت عفويا في سياق أحداث أخرى. بعد هذه الجلسة مع الأستاذ محمد الشاهد ذهبت إلى بيتي ودخلت في بكاء شديد، شعرتُ أننا نُخدَع، وأنه من الضروري أن تتغير هذه الأحوال، وتذكرت ذلك الكلام القديم الذي كان بيني وبين زميل المقعد في المدرسة الإعدادية محمد عبد الرسول حين كان يقول: يجب أن نقيم دولة إسلامية، نفعل مثلما فعل جمال عبد الناصر، ندخل الكلية الحربية، وننفذ انقلابا عليه! وقتها لم أعطِ هذا الكلام كثير اهتمام، لكن بعد الذي قاله الأستاذ محمد الشاهد صرت أهتم به وأتذكره، لا سيما وأنا في المرحلة الثانوية، أي أنه بالإمكان بعد سنتين أن أدخل الكلية الحربية ثم ننقلب على عبد الناصر ونقيم الدولة الإسلامية، وبطبيعة الحال لم يكن في ذهني شيء واضح عن طبيعة الدولة الإسلامية، إنما هي أشواق طالب متدين وإن لم يكن لديه علم شرعي.. مجرد طالب في الصف الأول الثانوي.
مذكرات الشيخ رفاعي طه (3)

أول اصطدام بالنظام، وأول صدمة فكرية، وأول تفكير في إقامة دولة إسلامية

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت الأول على مستوى الصف السادس الابتدائي بالمدرسة، والعشرين على مستوى المحافظة، كانت درجاتي تجعلني في المركز العاشر ولكن المتكرر من المتفوقين أنزلني إلى المرز العشرين، وكانت عادتهم في ذلك الوقت أن يأخذوا المتفوقين إلى "تنظيم البراعم" الملحق بالطلائع، وكانت الطلائع ملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، فدخلت تنظيم البراعم في الصف الأول الإعدادي وبقيت فيه فترة، فلما انتهت المرحلة الإعدادية دخلت الطلائع وبقيت بها حتى الصف الثالث الثانوي، ثم دخلت منظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكنت مسؤول تثقيف وحدة بندر ادفو في المنظمة، وعندما دخلت الجامعة انضممت إلى الحزب الشيوعي لامصري لفترة، وبقيت فيه طوال فترة السنة الأولى في كلية التجارة، ولمست ظاهرة الفساد الأخلاقي إذ كنت متدينا بطبيعتي، وكنت قد التحقت بطريقة صوفية بعد أن أنهيت المرحلة الإعدادية.

أذكر حين كنت في الصف الثالث الإعدادي كان معنا زميل اسمه محمود حسن عبد الرسول، كان في عائلته على ما يبدو أحدٌ ممن يفهم السياسة أو أكثر، أو كان متدينا، المهم أن محمود حسن كان يقول لي:
- لا بد أن نغيِّر جمال عبد الناصر، هل تعلم كيف أمسك جمال عبد الناصر بالحكم؟
- كان ضابطا بالجيش وقام بثورة ثم حكم البلد
- يمكننا أن نفعل مثله
- ولماذا نفعل؟ هو رجل جيد
- لا، ليس هو كذلك
- لماذا؟ في الطلائع يعلموننا أنه رجل جيد. وأذكر له بعض الخطب
- لا ليس كذلك.

كان من الواضح أنه متشبع برأي، إلا أنه لا يستطيع التدليل عليه. ولم يكن هو من الإخوان، لكني أتذكر أن أخاه الأكبر كان يملك متجرا للقماش "ماني فاتورة"، وكنت إذا ذهبت أجد عنده أصحاب كثيرون يجلسون ولا يشترون، وكان بيتهم في القرية كبيرا ويغلب عليهم التدين، ولعلهم من الإخوان القدامى، والله أعلم. إذ لم تطل صحبتنا، فقد افترقنا في الصف الثالث الثانوي.

مما أذكره من تلك الأيام أننا انتقلنا من مدرستنا إلى مدرسة أخرى أفضل أنشأها مصنع السكر، كانت مدرسة نموذجية نظيفة وبها فناء واسع على النمط الحديث وبها حديقة وبالحديقة صوبة لزراعة الورد، وجاءت مُدَرِّسة تدرس لنا مادة "التربية الزراعية"، وكانت ملابسها قصيرة جدا "الميني جيب والميكرو جيب" كما هي عادة أهل المدن في تلك الفترة، وأغلب الظن أنها من الوجه البحري وإنما جاءت في سياق المساكن التابعة لمصنع السكر، وهذه المساكن كانت كبيرة كأنها مدينة سكنية وكنا نسميها "المستعمرة"، وكانت كأنها قطعة من خارج البلد. وذات يوم كانت تعلمنا زراعة الورد، فكانت تميل إلى الأسفل فانكشفت ملابسها الداخلية، فصرخت فيها:
- هذا عيب جدا، لا ينبغي أن تنكشف ملابسك الداخلية
ففزعت واعتدلت وقالت لي:
- ايه يا رفاعي حد يقول للمُدَرِّسة كده؟.. كسفتني (أحرجتني) أمام التلاميذ يا رفاعي!
- هذا لا يصح، هذا عيب جدا.
- هل إذا أتيت إلى المدرسة بملابس طويلة تضحكون عليَّ (تهزؤون وتسخرون مني)؟"
- ولماذا نضحك عليكِ، إن ملابس أمي تصل إلى الأرض.

ثم فيما بعد أخبرت ناظرة المدرسة، ونصحتها الناظرة أن ترتدي ملابس طويلة، ثم جاءت الناظرة فحدثتني وقالت "عيب أن تقول هذا للمدرسة"، لكنه حديث تقدير أكثر من حديث لوم وعتاب. وهذه الناظرة كان زوجها مأمور مركز ادفو، وكان برتبة عقيد واسمه عبد المنعم حمودة، وكان لها بنت اسمها عزة، وكانت تمازحني أحيانا وتقول: سأزوجك من عزة!

وكان في المدرسة مدرس للغة الإنجليزية يدعى محمود عبد الرحمن، وهذا الأستاذ من أسباب تأخر اللغة الإنجليزية في المدرسة، فلقد كان يكتب الإنجليزي بالحروف العربية، فمثلا كلمة book يكتبها "بوك"، ولم أدرك فداحة هذه الطريقة إلا بعد أن كبرت. وكان هذا الأستاذ حريصا على أن يعطيني درسا خصوصيا، وكنت أقول له: إنني متميز ولا أحتاج إلى درس خاص وأنا الأول على المدرسة دائما. فنشأت بيني وبينه ما يشبه العداوة، حتى أنه جاءنا ذات يوم فأخبرنا أنه سيمتحننا غدا في حفظ قصة باللغة الإنجليزية تقع في صفحتين ونصف، وحاول الطلاب أن يعترضوا بضيق الوقت، لكنه أصرَّ، وشعرت أنه فخٌ مُعَدٌّ للانتقام مني، وتجنبا لما قد يحدث فقد بذلت جهدي فحفظتها عن ظهر قلب، لكن جاء الغد فلم يمتحنَّا ثم الذي بعده ثم الذي بعده، وكنت أطالبه بأن يختبرنا في القصة فيتجاهلني أو ينهرني بقوله "هذا ليس من شأنك"، فلما جاء اليوم الرابع، فاجأنا بالامتحان، وسأل بقية الطُّلاب قبلي وكانوا قد نسوا ما حفظوه منها، فمن لم يستطع تسميع القصة أبقاه واقفا بانتظار العقاب، حتى إذا وصل إليَّ سمَّعتُها له دون أي خطأ، فقال مغتاظا "يخرب بيت أبوك"، ولم يعاقب أحدا من الطُّلاب، ولو أني أخطأت لكان قد عاقبنا جميعا فلا يظهر أنه عاقبني منفردا.

لم أكن أستفيد من حصة هذا الأستاذ، وكان بالمدرسة أستاذة أخرى نصرانية اسمها "نادية" وكانت جيدة، فكنت أنتهز الفرص فأذهب إليها في وقت الراحة لتدرسني، وكانت تشعر أنني مجتهد، فضبطني هذا الأستاذ يوما معها وهي تشرح لي الدرس الذي كان يشرحه، فوبخني وضربني بالعصا، لكنني أمسكت بالعصا وصحت في وجهه: لن تضربني مرة أخرى، فظهر أننا نتشاجر، ولما شتمني بأبي شتمته بأبيه، ثم حضر أستاذ آخر فأخبره أني مريض بالربو، وحضرت الأستاذة فوزية ناظرة المدرسة فلامته وهدأتني فقد بدأت أزمة الربو في الظهور.

حضرتُ مرتين حفلات أوائل الطلاب على مستوى المحافظة، ومما أذكره أيضا أني حين كنت في الصف الثالث الإعدادي تلك المسابقة التي خسرناها من مسابقات المدارس، وكانت مسابقات المدارس تجري بانتخاب مجموعة من الطلاب يمثلون مدرستهم ثم تُطرح عليهم الأسئلة، فيتميز بعضهم على بعض، وقد نجحنا أن نحصل على المركز الأول على مستوى أسوان، ثم كان ينبغي أن ننافس على مستوى الجمهورية، لكنني أخطأت في الإجابة عن سؤال "27 رجب" فسارعت بالقول: "ليلة القدر"، اختلط على الأمر بين 27 رجب و27 رمضان، ثم سرعان ما استدركت قائلا: الإسراء والمعراج، لكن الممتحن كان قد سجَّل الإجابة الأولى، وبهذا خسرنا وتفوقت المدرسة المنافسة علينا، خصوصا وقد فازوا علينا في مسابقة الغناء.

وفاة عبد الناصر

أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، كان الحزن يخيم على مركز ادفو كله، حتى إن امرأة ألقت بنفسها من الطابق الثالث حين سمعت خبر موته، وخرجنا جميعا من المدارس نبكي بكاء هيستيريا، وكنت أبكي بحرقة!

لقد كان دخولي منظمة الطلائع من أسباب تعلقي الشديد بعبد الناصر، كنت أحفظ خطبه عن ظهر قلب، إذ كنتُ حينئذ قويّ الحفظ سريعه، فلذلك بكيته بكاء شديدا ومُرًّا. وكان الناس يحملون نعشا فارغا يجوبون به الشوارع، كأنهم بجنازتهم الرمزية هذه يشاطرون الجنازة الحقيقية في مصر.

مرَّ يوم ثم الثاني في حالة الحزن هذه ثم قدر الله لي أن أتحول تحولا شديدا، فعند انتهاء الجنازة في مركز ادفو، وكنت حينئذ في ادفو لكون مدرستي الثانوية هناك، صار الناس يعودون إلى بيوتهم، فشاء الله أن مرَّ بي أستاذ التربية الرياضية في المدرسة الإعدادية محمد الشاهد فرآني، وسألني:
- ما بك يا رفاعي لماذا تبكي؟
- هل هذا سؤال؟
- نعم، أسألك لماذا تبكي؟
- أبكي جمال عبد الناصر طبعا.
- لا، أنت لا تبكي جمال عبد الناصر.
- فسألت مندهشا: كيف؟! لماذا لا أبكي جمال؟
- من أين لك أن تعرف جمال عبد الناصر حتى تبكيه؟
- هل يوجد أحد لا يعرف جمال عبد الناصر؟
- إنما رأيتَ الناس تبكي فبكيت، فلا تعاند!
- فانتبهت لهذا المعنى لأول مرة وسألته: إذن ألست حزينا على جمال عبد الناصر؟
- لا لست حزينا
- كيف ذلك؟
- تعال معي وسأشرح لك: لماذا لست حزينا عليه.

مضيت مع الأستاذ محمد، وكان من حي السيدة زينب في القاهرة، فقال:
- أنت كنت معي مدة سنتين في المدرسة الاعدادية، وأنا أحبك، فأنت شاب متدين، ولهذا فإني أريد أن أُسِرَّ لك بأشياء لكن لا تخبر بها أحدا. لقد كنتُ ضابط احتياط في حرب اليمن، هل تعلم يا رفاعي أننا كنا نُحَزِّم المساجد بالديناميت ثم نفجِّرها فوق رؤوس الناس أثناء صلاة الجمعة؟! هؤلاء الذين نقتلهم ونفجرهم كانوا مسلمين، هكذا كانت تأتينا الأوامر العسكرية!
- ولماذا تطيعون هذه الأوامر التي تأمر بقتل الناس وهم يصلون الجمعة؟
- لقد أردنا أن نهزم ثورة اليمن، خرجنا من مصر وذهبنا للحرب لأجل هذا الغرض.
- وما ثورة اليمن؟

فحكى لي عن الثورة، وعن عبد الله السلال والانقلاب الذي تم على الإمام أحمد البدر وأن أحمد البدر كان ملكا صوفيا وشيعيا من الزيدية، وأن جمال عبد الناصر أراد الوقوف مع الضباط لتكون مثل "الثورة في مصر". ثم قال:
"جمال عبد الناصر هذا مجرم، وليس زعيما كما يقال وكما تسمعون في المدارس، ولا يحب الدين. أنا من الإخوان يا رفاعي وأبي مات في السجن، مات في مذبحة طرة حيث اقتحموا على الناس الزنازين وقتلوهم".

كان في غاية التأثر، مما أثَّر فيّ كثيرا، فسألته:
- معنى هذا أن جمال عبد الناصر سيء؟
- كلمة "سيئ" لا تكفي للتعبير عنه.
- فكيف يا أستاذ لا تخبرونا بالحقيقة كل هذه الفترة؟
- لا نستطيع أن نقول هذا، وإلا ألقينا في السجون، الآن يمكن أن نقول هذا لأنه مات، أما ما قبل ذلك فلا يمكن.

وهكذا حصلت المفارقة، اليوم الذي كنت أشد ما يكون حزنا على عبد الناصر هو اليوم الذي أمسيت أبغضه أشد ما يكون البغض، انقلب الحب بغضا بنفس الدرجة!
جزى الله هذا الأستاذ محمد الشاهد عني خير الجزاء، كان له عظيم الأثر في أن يتحول مساري كثيرا، لا أقول بأني شهدتُ تحولا جذريا إذ أنني بقيت بعد هذه الصدمة في منظمة الشباب الملحقة بالاتحاد الاشتراكي العربي، وبقيت كذلك في الطريقة الصوفية التي كنت قد انتسبت إليها.. لقد تم تحولي الجذري بالتدريج!

لم أفكر أبدا فيما إن كان كلامه كذبا أو مبالغة، لقد سلَّمت بما قال، كنت أحبه كأستاذ وكانت علاقتي به طيبة، وكان كذلك يحبني ويحترمني ولم يكن يتعامل معي كتلميذ بل كشاب ناضج، وكنت استشعر دفء العلاقة بيننا، كما هي بيني وبين كثير من الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية، إذ كانوا يعاملونني كصديق، لذلك لم أفكر في أنه قد يكذب علي أو يخدعني، إلا أنني لكي أستوعب هذا الكلام اضطررت إلى سؤال أساتذة آخرين، ولم تكن أسئلة مباشرة إنما جاءت عفويا في سياق أحداث أخرى.

بعد هذه الجلسة مع الأستاذ محمد الشاهد ذهبت إلى بيتي ودخلت في بكاء شديد، شعرتُ أننا نُخدَع، وأنه من الضروري أن تتغير هذه الأحوال، وتذكرت ذلك الكلام القديم الذي كان بيني وبين زميل المقعد في المدرسة الإعدادية محمد عبد الرسول حين كان يقول: يجب أن نقيم دولة إسلامية، نفعل مثلما فعل جمال عبد الناصر، ندخل الكلية الحربية، وننفذ انقلابا عليه!

وقتها لم أعطِ هذا الكلام كثير اهتمام، لكن بعد الذي قاله الأستاذ محمد الشاهد صرت أهتم به وأتذكره، لا سيما وأنا في المرحلة الثانوية، أي أنه بالإمكان بعد سنتين أن أدخل الكلية الحربية ثم ننقلب على عبد الناصر ونقيم الدولة الإسلامية، وبطبيعة الحال لم يكن في ذهني شيء واضح عن طبيعة الدولة الإسلامية، إنما هي أشواق طالب متدين وإن لم يكن لديه علم شرعي.. مجرد طالب في الصف الأول الثانوي.
‏٢٠‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٧:٥٨ م‏
تفكيك أدوات السلطة (السيطرة على تدفق المعلومات) د. عمرو عادل لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] هذا آخر مقال في سلسلة تفكيك أدوات السلطة، وهو حول حق السيطرة على تدفق المعلومات بكل أنواعها التي احتكرته السلطة الحاكمة، وربما هو الأخطر والذي يجعل المجتمعَ كتابا مفتوحا أمام السلطة، بل يمكن القولُ -مع التقدم التكنولوجي الهائل- أن المجتمع أصبح كتابا فارغا في بعض صفحاتِه وأصبحت صفحاتُه الأخرى المكتوبة قابلةً للمسح والتغيير بنسبة كبيرة طبقا لما تحدده السلطة. والمعلومات هي أي بيانات عُولِجَتْ لتصنعَ وعيا وإدراكا ما، وبالتالي تُستخدم لتوجيه القرار، فالمعلومات هي المُدخلات للعقل التي يُنتِج بها مُخرجا بمنزلة قرار أو فعل أو رؤية، لذلك يمكننا القولَ أن السيطرة على تدفق المعلومات هو المسار الأقوى لصناعة الوعي والعقل وتحديد مسارات القرار والفعل لغالب المجتمع. ومسارات تدفق المعلومات يسعى أي نظام مركزي للسيطرة عليها، وبالتالي مع مرور الوقت في غياب مسارات بديلة يُصبح العقل والوعي صناعةً احتكارية للنظام، ويتحول أفراد المجتمع أو حتى الكتل المجتمعية إلى مُنتج متوافق تمامًا مع رغبات النظام الفكرية والحركية. وهذه واحدة من أكبر كوارث السيطرة المركزية الاحتكارية للنُّظم المستبدة، فالنظام يدمر الإنسانَ العاملَ الأعظمَ في التنمية والبناء، ويحاول تفتيت أي مركز بديل لصناعة مسارٍ معادٍ أو حتى مخالف، فيقوم بتأميم أو تحطيم أي مسار بديل، فهو الدولة الإله الذي لا يريد شريكا. ورهان بعض القوى على وجود حد أدنى للوعي لا يمكن للبشر النزول عنه، هو رهان مخسور تحت الاحتكار الكامل للنظم الاستبدادية لمسارات تدفق المعلومات، وهذا ربما نوضحه لاحقا. ومسارات تدفق المعلومات يمكن تحديدها في: 1- المؤسسات التعليمية (المدارس والجامعات). 2- المؤسسات الثقافية (بيوت الثقافة والمسارح والسينما وغيرها). 3- الإعلام المرئي والمقروء والمسموع. 4- الأسرة والمجتمع وعلى رأسه المؤسسات الدينية. أعتقد أن كل البيانات وما يليها من تصنيفها لتتحول لمعلومة تصل للعقل، لا يمكن أن تخرج عن واحدة من المسارات السابقة، ولذلك فإن النظام السلطوي يحاول السيطرة على كل هذه المسارات ليصبح العقل ملعبًا مفتوحًا للسلطة تُشكِّله كيف تشاء، ولمعرفة وسائل حصار أو تفتيت سلطة السيطرة على تدفق المعلومات ومساراتها ينبغي أولا تحديد كيفية عملها والنقاط المفصلية بها. أولا: المؤسسات التعليمية خطورة التعليم الذي يخضع لسيطرة الدولة أنه بالتبعية يخضع لسيطرة النظام الحاكم في الدول المركزية المستبدة، ففي الغالب لا يوجد فارق بين الاثنين في هذه الحالة، وفي مصر تُستخدم المؤسسات التعليمية لحصار العقل وترويضه ولإنتاج شيء نمطي محدد سلفا، وأَدَّعي أن هذا هو هدفُ التعليم النظامي في كل العالم الحديث، إلا أن الاستبداد والظلم المركزي يُنتج بالإضافة إلى العقل النمطي عقلا مشوّها، فالتحكم في طبيعة النظام التعليمي وعدد ساعات الحضور وجودة المعلمين ومهاراتهم وفوق ذلك كله المناهج التعليمية كلها أدوات طيعة للنظام في ظل دولة مركزية تحتكر نظم التعليم، وتسمح فقط بالتعليم الغربي البعيد عن صلب الهوية، وتحاصر كل ما يمكن أن يدعم بناء عقل أو فكر مغاير، فقد قامت السلطة بالتالي لإحكام السيطرة: 1- تأميم التعليم وإنهاء كل ما له علاقة بالتعليم خارج النظام الرسمي (الكتاتيب – المعاهد المستقلة) واستبدال بها مؤسسات تحت السيطرة منزوعة الهوية (الحضانة – الأكاديميات المتخصصة). 2- تدمير النظام التعليمي الرسمي، حيث أن أي نظام تعليم جيد يقلل من الآثار السلبية للمركزية والتنميط البِنيوي داخل المؤسسات التعليمية، ويصبح النظام المنهار هو ماكينة لإنتاج عديمي الموهبة والكفاءة وتقِل جدا الاستثناءات المتميزة. 3- وضع مناهج تعليمية تتوافق مع المخرجات المطلوبة من العملية التعليمية وهي في النظام المستبد أشبه بصناعة روبوت لا يعمل إلا كما وضعت برنامجه. وهناك صعوبة كبيرة في تفكيك منظومة التعليم الحكومية، فقد أصبحت متجذرة في المجتمع. وكذلك هناك صعوبة في تغيير نمط التفكير للمجتمع بعد أن ترسَّخ في عقول الجماهير أن التعليم أحد وسائل الصعود الاجتماعي، كما قام النظام بتدمير كل المسارات التعليمية خارج المؤسسة الرسمية فأصبح يُغرِّدُ وحدَه. ولتفكيك تلك المنظومة وتقليل أثرها الكارثي على المجتمع يجب: 1- الإيمان بالتعليم الموازي والاكتفاء بالذهاب للاختبارات بالمدارس. 2- تكوين تجمعات مجتمعية للصغار (كالكتاتيب القديمة) لتعليم الأطفال والأولاد قيم مجتمعية حقيقية ووسائل إنتاج تعاوني. 3- نشر فكرة فشل النظام التعليمي الرسمي وخطورته على المجتمع بين الجماهير وتشجيعهم على التعليم الموازي. المؤسسات الثقافية والإعلامية: هي أحد روافد إنتاج الوعي العام، ووجود سيطرة مركزية على مؤسسات الثقافة كالمسارح والسينمات والمكتبات العامة -ليس فقط من الناحية اللوجستية، لكن من الناحية الفكرية أيضا- يُمثِّل نقطةَ قوةٍ للنظام لفرض ما يريد، كما أن الدفع بسيطرة تيار فكري واحد مُوالٍ للنظام ويحمل عداءً للمجتمع، يَزيد من الأزمة. وتُعدُّ الأعمال الفنية على وجه الخصوص كالمسلسلات والأفلام والمسرحيات أكثرَ وسيلة سريعة وفاعلة للتأثير بالمجتمع وتغيير عاداته وأفكاره وثوابته، ولا يمكن إنكار نجاح ذلك بالتعاون مع الوسائل الأخرى التي تُمهِّد الأرض لذلك التشويه، ولذلك يحرص النظام على احتكار هذه المسارات ويمنع أيَّ منافس له في هذا المجال. وتتكرر الأزمة الخاصة بهذا المحور بوجود سيطرة مركزية للنظام عليه، تماما كمنظومة التعليم، ولذلك تبدو من الصعوبة منازعتُه في هذا المجال دون الوصول إلى رأس السلطة، وهناك أمر آخر أكثرُ أهمية، وهو وجود سيطرة مركزية على المؤسسة ومن الواجب تفتيت هذه السيطرة في حال نجاح الثورة لضمان عدم السيطرة على الوعي العام لاحقا. وفي هذا الوقت يجب منازعةُ النظام في هذا المجال خاصةً مع الانهيار القيمي والمهني ووجود فرصة لدخول هذا المجال، سواءٌ بإنتاج أعمال فنية أو بالتوسع في مجال الترجمة لإعادة ضبط الوعي العام. ويرتبط المجال الثقافي بالإعلامي، خاصةً في حال عدم وجود قدرة للوجود على الأرض سواءٌ في الشارع أو المنشآت الثقافية كالمسارح والمكتبات ودور العرض السينمائي. ولذلك تبدو الوسيلة الوحيدة المناسبة مرحليا لتوصيل الأفكار وصناعة الوعي هي الإعلام. وتحت السيطرة المطلقة للنظام على المصادر الإعلامية، يجب على القوى المجتمعية عمل مسارات بديلة للوعي، وتُعدُّ مواقع التواصل الاجتماعي -بجانب القنوات- المنابعَ الرئيسة لهذا العمل. ويمكن تحديد النقاط الخاصة الواجب فعلها في هذا الملف كالتالي: 1- إنتاج أعمال فنية تُعبِّر عن ثقافتنا وحضارتنا بشكل احترافي. 2- وضع تصور لإدارة الملف الثقافي والإعلامي عند الوصول للسلطة بشكل مغاير للواقع الحالي. 3- تطوير الكوادر البشرية في المجال الإعلامي وتطوير القنوات التليفزيونية المتاحة للوصول لأكبر شريحة ممكنة. 4- الاستثمار الأمثل لمواقع التواصل الاجتماعي. 5- إنشاء إذاعة، فهي أسهل وأرخص وسيلةِ تواصل، وقادرةٌ على الوصول للجميع في كل مكان، وقادرةٌ على الوصول للمناطق المحرومة من البث التليفزيوني والإنترنت في مصر. ثالثا الأسرة والمجتمع بمؤسساته الدينية: الأسرة هي البناء الأصغر في أي مجتمع. تعرَّضت تلك النواة لتأثير مدمر على مدى الخمسين عاما الماضية، وقلَّت مقاومة الأجيال بالتتابع مع الزمن، ووصل الحال بالكثير من الأسر المصرية إلى التغييب الكامل بوعي أو بدونه، وأصبح الجيل الثالث الآن -الكثير منه- يبدو منفصلا تمامًا عن ماضيه وهُوِيَّته، كما لعبت المؤسسات الدينية الرسمية -سواءٌ الأزهر أو الكنيسة التي أصبحت مُؤمَّمة تماما من الدولة والنظام- دورًا كارثيًّا في تدمير القيم والوعي لدي قطاعات واسعة من المجتمع. وقد قام النظام بتدمير أو تأميم جزءٍ كبير مما بُنِيَ في العقود السابقة من مؤسسات مجتمعية حقيقية، خاصةً بعد انقلاب 2013. إن هذا الوضع المأسوي في مجال صناعة الوعي أنتج مجتمعا مشوّها جدًّا، فاقدًا للبوصلة والهُويّة، ويبدو أن المحاولات المتتابعة في هذا المسار هي الأكثر صعوبة في محاور تفتيت السلطة كافة، وتبدو هي الأكثر مركزية في سيطرة النظم على الشعوب، ولذلك فإن الإصلاح الجذري في هذا الملف يبدو غير ممكن إلا بالوصول إلى السلطة وتفكيكها من عَلُ وعودة الأمور إلى نصابها بالمشاركة الفاعلة للمجتمع ومؤسساته في كل هذه الملفات بعيدا عن مركزية الإدارة والتوجيه. أما في الوضع الحالي فإن المزاحمة قدْر المستطاع في كافة هذه المسارات أمرٌ واجب وحتمي بأقصى ما يمكن من الوسائل، وبالتأكيد كل ذلك يحتاج إلى شيء من التنظيم، فهذه الأمور لن تأتي وحدها ولن تُنتَج من العدم، والجميع مهيأ بدرجة ما للمشاركة في هذا العمل الكبير، سواءٌ تفكيكُ السلطة أو مشروعُ المقاومة الشعبية، وهما المحوران اللذان تحدَّثتُ عنهما عبر عدة مقالات متتابعة، وهذا يحتاج إلى بناء تنظيمات بعدة أشكال ليمكنها إنتاج كل هذا العمل. إن تسليم كل مفاتيح السلطة والقوة للنظام وَضَعَنا في موقفٍ شديدِ الضعف والحرج، وتحتاج الجماهيرُ إلى بناء نفسها -ربما من الصفر- حتى تتمكّن من التحرُّر، والموضوع التالي هو كيفية بناء المسارات التي يمكنها تحقيق ذلك، وهو موضوع مهم قد يكون عنوانُه الكبير "كيف تبني تنظيما ثوريا؟".
تفكيك أدوات السلطة
(السيطرة على تدفق المعلومات)

د. عمرو عادل

لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

هذا آخر مقال في سلسلة تفكيك أدوات السلطة، وهو حول حق السيطرة على تدفق المعلومات بكل أنواعها التي احتكرته السلطة الحاكمة، وربما هو الأخطر والذي يجعل المجتمعَ كتابا مفتوحا أمام السلطة، بل يمكن القولُ -مع التقدم التكنولوجي الهائل- أن المجتمع أصبح كتابا فارغا في بعض صفحاتِه وأصبحت صفحاتُه الأخرى المكتوبة قابلةً للمسح والتغيير بنسبة كبيرة طبقا لما تحدده السلطة.

والمعلومات هي أي بيانات عُولِجَتْ لتصنعَ وعيا وإدراكا ما، وبالتالي تُستخدم لتوجيه القرار، فالمعلومات هي المُدخلات للعقل التي يُنتِج بها مُخرجا بمنزلة قرار أو فعل أو رؤية، لذلك يمكننا القولَ أن السيطرة على تدفق المعلومات هو المسار الأقوى لصناعة الوعي والعقل وتحديد مسارات القرار والفعل لغالب المجتمع.

ومسارات تدفق المعلومات يسعى أي نظام مركزي للسيطرة عليها، وبالتالي مع مرور الوقت في غياب مسارات بديلة يُصبح العقل والوعي صناعةً احتكارية للنظام، ويتحول أفراد المجتمع أو حتى الكتل المجتمعية إلى مُنتج متوافق تمامًا مع رغبات النظام الفكرية والحركية.

وهذه واحدة من أكبر كوارث السيطرة المركزية الاحتكارية للنُّظم المستبدة، فالنظام يدمر الإنسانَ العاملَ الأعظمَ في التنمية والبناء، ويحاول تفتيت أي مركز بديل لصناعة مسارٍ معادٍ أو حتى مخالف، فيقوم بتأميم أو تحطيم أي مسار بديل، فهو الدولة الإله الذي لا يريد شريكا.

ورهان بعض القوى على وجود حد أدنى للوعي لا يمكن للبشر النزول عنه، هو رهان مخسور تحت الاحتكار الكامل للنظم الاستبدادية لمسارات تدفق المعلومات، وهذا ربما نوضحه لاحقا.

ومسارات تدفق المعلومات يمكن تحديدها في:

1- المؤسسات التعليمية (المدارس والجامعات).
2- المؤسسات الثقافية (بيوت الثقافة والمسارح والسينما وغيرها).
3- الإعلام المرئي والمقروء والمسموع.
4- الأسرة والمجتمع وعلى رأسه المؤسسات الدينية.

أعتقد أن كل البيانات وما يليها من تصنيفها لتتحول لمعلومة تصل للعقل، لا يمكن أن تخرج عن واحدة من المسارات السابقة، ولذلك فإن النظام السلطوي يحاول السيطرة على كل هذه المسارات ليصبح العقل ملعبًا مفتوحًا للسلطة تُشكِّله كيف تشاء، ولمعرفة وسائل حصار أو تفتيت سلطة السيطرة على تدفق المعلومات ومساراتها ينبغي أولا تحديد كيفية عملها والنقاط المفصلية بها.

أولا: المؤسسات التعليمية

خطورة التعليم الذي يخضع لسيطرة الدولة أنه بالتبعية يخضع لسيطرة النظام الحاكم في الدول المركزية المستبدة، ففي الغالب لا يوجد فارق بين الاثنين في هذه الحالة، وفي مصر تُستخدم المؤسسات التعليمية لحصار العقل وترويضه ولإنتاج شيء نمطي محدد سلفا، وأَدَّعي أن هذا هو هدفُ التعليم النظامي في كل العالم الحديث، إلا أن الاستبداد والظلم المركزي يُنتج بالإضافة إلى العقل النمطي عقلا مشوّها، فالتحكم في طبيعة النظام التعليمي وعدد ساعات الحضور وجودة المعلمين ومهاراتهم وفوق ذلك كله المناهج التعليمية كلها أدوات طيعة للنظام في ظل دولة مركزية تحتكر نظم التعليم، وتسمح فقط بالتعليم الغربي البعيد عن صلب الهوية، وتحاصر كل ما يمكن أن يدعم بناء عقل أو فكر مغاير، فقد قامت السلطة بالتالي لإحكام السيطرة:

1- تأميم التعليم وإنهاء كل ما له علاقة بالتعليم خارج النظام الرسمي (الكتاتيب – المعاهد المستقلة) واستبدال بها مؤسسات تحت السيطرة منزوعة الهوية (الحضانة – الأكاديميات المتخصصة).

2- تدمير النظام التعليمي الرسمي، حيث أن أي نظام تعليم جيد يقلل من الآثار السلبية للمركزية والتنميط البِنيوي داخل المؤسسات التعليمية، ويصبح النظام المنهار هو ماكينة لإنتاج عديمي الموهبة والكفاءة وتقِل جدا الاستثناءات المتميزة.

3- وضع مناهج تعليمية تتوافق مع المخرجات المطلوبة من العملية التعليمية وهي في النظام المستبد أشبه بصناعة روبوت لا يعمل إلا كما وضعت برنامجه.

وهناك صعوبة كبيرة في تفكيك منظومة التعليم الحكومية، فقد أصبحت متجذرة في المجتمع. وكذلك هناك صعوبة في تغيير نمط التفكير للمجتمع بعد أن ترسَّخ في عقول الجماهير أن التعليم أحد وسائل الصعود الاجتماعي، كما قام النظام بتدمير كل المسارات التعليمية خارج المؤسسة الرسمية فأصبح يُغرِّدُ وحدَه.

ولتفكيك تلك المنظومة وتقليل أثرها الكارثي على المجتمع يجب:

1- الإيمان بالتعليم الموازي والاكتفاء بالذهاب للاختبارات بالمدارس.

2- تكوين تجمعات مجتمعية للصغار (كالكتاتيب القديمة) لتعليم الأطفال والأولاد قيم مجتمعية حقيقية ووسائل إنتاج تعاوني.

3- نشر فكرة فشل النظام التعليمي الرسمي وخطورته على المجتمع بين الجماهير وتشجيعهم على التعليم الموازي.

المؤسسات الثقافية والإعلامية:

هي أحد روافد إنتاج الوعي العام، ووجود سيطرة مركزية على مؤسسات الثقافة كالمسارح والسينمات والمكتبات العامة -ليس فقط من الناحية اللوجستية، لكن من الناحية الفكرية أيضا- يُمثِّل نقطةَ قوةٍ للنظام لفرض ما يريد، كما أن الدفع بسيطرة تيار فكري واحد مُوالٍ للنظام ويحمل عداءً للمجتمع، يَزيد من الأزمة.

وتُعدُّ الأعمال الفنية على وجه الخصوص كالمسلسلات والأفلام والمسرحيات أكثرَ وسيلة سريعة وفاعلة للتأثير بالمجتمع وتغيير عاداته وأفكاره وثوابته، ولا يمكن إنكار نجاح ذلك بالتعاون مع الوسائل الأخرى التي تُمهِّد الأرض لذلك التشويه، ولذلك يحرص النظام على احتكار هذه المسارات ويمنع أيَّ منافس له في هذا المجال.

وتتكرر الأزمة الخاصة بهذا المحور بوجود سيطرة مركزية للنظام عليه، تماما كمنظومة التعليم، ولذلك تبدو من الصعوبة منازعتُه في هذا المجال دون الوصول إلى رأس السلطة، وهناك أمر آخر أكثرُ أهمية، وهو وجود سيطرة مركزية على المؤسسة ومن الواجب تفتيت هذه السيطرة في حال نجاح الثورة لضمان عدم السيطرة على الوعي العام لاحقا.

وفي هذا الوقت يجب منازعةُ النظام في هذا المجال خاصةً مع الانهيار القيمي والمهني ووجود فرصة لدخول هذا المجال، سواءٌ بإنتاج أعمال فنية أو بالتوسع في مجال الترجمة لإعادة ضبط الوعي العام.

ويرتبط المجال الثقافي بالإعلامي، خاصةً في حال عدم وجود قدرة للوجود على الأرض سواءٌ في الشارع أو المنشآت الثقافية كالمسارح والمكتبات ودور العرض السينمائي. ولذلك تبدو الوسيلة الوحيدة المناسبة مرحليا لتوصيل الأفكار وصناعة الوعي هي الإعلام.

وتحت السيطرة المطلقة للنظام على المصادر الإعلامية، يجب على القوى المجتمعية عمل مسارات بديلة للوعي، وتُعدُّ مواقع التواصل الاجتماعي -بجانب القنوات- المنابعَ الرئيسة لهذا العمل.

ويمكن تحديد النقاط الخاصة الواجب فعلها في هذا الملف كالتالي:

1- إنتاج أعمال فنية تُعبِّر عن ثقافتنا وحضارتنا بشكل احترافي.

2- وضع تصور لإدارة الملف الثقافي والإعلامي عند الوصول للسلطة بشكل مغاير للواقع الحالي.

3- تطوير الكوادر البشرية في المجال الإعلامي وتطوير القنوات التليفزيونية المتاحة للوصول لأكبر شريحة ممكنة.

4- الاستثمار الأمثل لمواقع التواصل الاجتماعي.

5- إنشاء إذاعة، فهي أسهل وأرخص وسيلةِ تواصل، وقادرةٌ على الوصول للجميع في كل مكان، وقادرةٌ على الوصول للمناطق المحرومة من البث التليفزيوني والإنترنت في مصر.

ثالثا الأسرة والمجتمع بمؤسساته الدينية:

الأسرة هي البناء الأصغر في أي مجتمع. تعرَّضت تلك النواة لتأثير مدمر على مدى الخمسين عاما الماضية، وقلَّت مقاومة الأجيال بالتتابع مع الزمن، ووصل الحال بالكثير من الأسر المصرية إلى التغييب الكامل بوعي أو بدونه، وأصبح الجيل الثالث الآن -الكثير منه- يبدو منفصلا تمامًا عن ماضيه وهُوِيَّته، كما لعبت المؤسسات الدينية الرسمية -سواءٌ الأزهر أو الكنيسة التي أصبحت مُؤمَّمة تماما من الدولة والنظام- دورًا كارثيًّا في تدمير القيم والوعي لدي قطاعات واسعة من المجتمع.

وقد قام النظام بتدمير أو تأميم جزءٍ كبير مما بُنِيَ في العقود السابقة من مؤسسات مجتمعية حقيقية، خاصةً بعد انقلاب 2013.

إن هذا الوضع المأسوي في مجال صناعة الوعي أنتج مجتمعا مشوّها جدًّا، فاقدًا للبوصلة والهُويّة، ويبدو أن المحاولات المتتابعة في هذا المسار هي الأكثر صعوبة في محاور تفتيت السلطة كافة، وتبدو هي الأكثر مركزية في سيطرة النظم على الشعوب، ولذلك فإن الإصلاح الجذري في هذا الملف يبدو غير ممكن إلا بالوصول إلى السلطة وتفكيكها من عَلُ وعودة الأمور إلى نصابها بالمشاركة الفاعلة للمجتمع ومؤسساته في كل هذه الملفات بعيدا عن مركزية الإدارة والتوجيه.

أما في الوضع الحالي فإن المزاحمة قدْر المستطاع في كافة هذه المسارات أمرٌ واجب وحتمي بأقصى ما يمكن من الوسائل، وبالتأكيد كل ذلك يحتاج إلى شيء من التنظيم، فهذه الأمور لن تأتي وحدها ولن تُنتَج من العدم، والجميع مهيأ بدرجة ما للمشاركة في هذا العمل الكبير، سواءٌ تفكيكُ السلطة أو مشروعُ المقاومة الشعبية، وهما المحوران اللذان تحدَّثتُ عنهما عبر عدة مقالات متتابعة، وهذا يحتاج إلى بناء تنظيمات بعدة أشكال ليمكنها إنتاج كل هذا العمل.

إن تسليم كل مفاتيح السلطة والقوة للنظام وَضَعَنا في موقفٍ شديدِ الضعف والحرج، وتحتاج الجماهيرُ إلى بناء نفسها -ربما من الصفر- حتى تتمكّن من التحرُّر، والموضوع التالي هو كيفية بناء المسارات التي يمكنها تحقيق ذلك، وهو موضوع مهم قد يكون عنوانُه الكبير "كيف تبني تنظيما ثوريا؟".
‏١٩‏/٠٦‏/٢٠١٨ ١١:٥٧ م‏
الانتشار العسكري والأمن القومي المصري محمود جمال لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] تنتشر الوحدات والتشكيلات العسكرية التابعة للجيش داخل حدود الدولة علي كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، لتأمينها من أي تهديد محتمل، وعندما يكون هناك اتجاه استراتيجي بعينه داخل الدولة من ناحيته تهدد الدولة بخطر أكبر كوجود عداوة بين الدولة والدولة التي تجاورها من تلك الحدود، يقوم جيش الدولة في تلك الحالة بنشر مكثف لقواته العسكرية في ذلك الاتجاه وذلك حفاظاً على الأمن القومي للدولة. أولاً: الجيوش الميدانية يتكون الجيش المصري من جيشين ميدانيين وأربع مناطق عسكرية، وتوجد داخل الجيش أربعة أفرع رئيسية وهي: "القوات البرية-القوات الجوية-القوات البحرية-قوات دفاع جوي". ويبلغ عدد قوات الجيش المصري الرئيسية 454.3 ألف ضابط وصف وجندي، بالإضافة إلى 875 ألف احتياطي. وتتوزع كالتالي: 1- الجيش الثاني الميداني: يوجد المقر الرئيسي لقيادة الجيش الثاني الميداني بمحافظة الإسماعلية في نطاق الاتجاه الشمالي الشرقي للدولة المصرية، وتتمثل مهمة الجيش الثاني الميداني في تأمين الجزء الشمالي لمنطقة قناة السويس محافظة الإسماعلية ومحافظة بورسعيد، 2- الجيش الثالث الميداني يتواجد المقر الرئيسي لقيادة الجيش الثالث الميداني بمحافظة السويس في الاتجاه الاستراتيجي الشرقي للدولة المصرية، تتمثل مهمة الجيش الثالث في تأمين المنشآت الداخلية في المنطقة الواقعة من الكيلو 61 طريق مصر السويس الصحراوي وحتى خط الحدود الدولية بطول 260 كيلو متر إضافة إلى 400 كيلو متر في المنطقة الواقعة من رأس محمد وحتى العوجه على الحدود مع "إسرائيل"، إضافة إلى محافظات جنوب سيناء والبحر الأحمر. ثانياً: المناطق العسكرية 1- المنطقة المركزية العسكرية نطاق عمل قوات وتشكيلات المنطقة المركزية العسكرية تقع في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، وتمتد إلى محافظات الغربية والشرقية والفيوم وبني سويف. ويوجد للمنطقة المركزية العسكرية عدة مقرات رئيسية في عدة مناطق. 2- المنطقة الشمالية العسكرية: الإسكندرية نطاق عمل المنطقة الشمالية محافظة الإسكندرية ومحافظة دمنهور، ومحافظة البحيرة، ومحافظة دمياط والمقرات الرئيسية للمنطقة العسكرية الشمالية. 3- المنطقة الغربية العسكرية نطاق عمل المنطقة الغربية يقع في محافظة مرسي مطروح، ويمتد إلى جزء من مجال محافظة البحر الأحمر، والمقرات الرئيسية للمنطقة العسكرية الغربية. 4- المنطقة الجنوبية العسكرية نطاق عمل المنطقة الجنوبية العسكرية محافظة أسيوط، وكل من محافظات "الأقصر وأسوان وسوهاج وقنا وأسوان والبحر الأحمر والمنيا". ثالثاً: الوحدات الخاصة في الجيش المصري يضم الجيش المصري العديد من القوات الخاصة والتي تضم العديد من الأفرع وهي: وحدات الصاعقة - وحدات المظلات - جهاز المخابرات والاستطلاع - الصاعقة البحرية - لواء الوحدات الخاصة، ومجموعات الضفادع البشرية التابعة للقوات البحرية، قوات التدخل السريع. رابعاً: القواعد الجوية والمطارات العسكرية لدي الجيش المصري عدد 35 ما بين قاعدة جوية ومطار عسكري، تتوزع على كافة الاتجاهات الأربعة الاستراتيجية داخل الدولة المصرية، من بينها: خامساً: القواعد البحرية المصرية تتكون البحرية المصرية من 7 قواعد بحرية وتقوم بنشرهم في المياه الإقليمية المصرية اللموجودة بالبحر المتوسط والبحر الأحمر. سادساً: الرؤية العسكرية في توزيع تشكيلات الجيش المصري انتشار التشكيلات العسكرية للجيش المصري علي كافة الحدود والاتجاهات الاستراتيجية طبقاً للعقيدة العسكرية للجيش المصري، يراها البعض أنها تتطابق وتتفاهم مع منظور الحفاظ على الأمن القومي المصري وحماية الدولة المصرية من كافة التهديدات، لذلك يراعي الجيش المصري تكثيف وجوده العسكري نحو الحدود الشرقية، وتوجد المقرات الرئيسية للجيشين الثاني والثالث الميداني بتلك الأطراف، وذلك بسبب أن المنطقة الشرقية متاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة "إسرائيل". وقد خاضت مصر خلال العقود السبع الماضية أربعة حروب ضد إسرائيل، كانت الحرب الأولى عام 1948م، عندما شاركت مصر في الحرب مع فلسطين؛ وكانت الحرب الثانية عام 1956م فيما يعرف باسم "العدوان الثلاثي علي مصر"؛ إذ شاركت كل من فرنسا وبريطانيا في الحرب إلى جانب "إسرائيل". وكانت الحرب الثالثة عام 1967م؛ وبعد ست سنوات كانت الحرب الرابعة عام 1973م. وأدت تلك الحروب في نهاية المطاف إلى لجوء مصر و"إسرائيل" إلى طاولة المفاوضات والتي تمخضت عنها اتفاقية كامب ديفيد، التي وقع عليها الرئيس الأسبق أنور السادات عام 1979 مع "إسرائيل" برعاية أمريكية؛ ولكن منذ ذلك التاريخ حتى وقت قريب كانت استراتيجية الجيش المصري ثابتة ولم تتغير، وكان التوزيع التنظيمي للتشكيلات والوحدات العسكرية يكثف من الوجود ناحية الشرق، عند محافظات السويس والإسماعلية وبورسعيد للحفاظ علي الأمن القومي المصري من أي تهديد يأتي من ناحية الشرق. لمصر حدود مع ليبيا تمتد إلى 1150 كم، وقد زاد انتشار قوات وتشكيلات الجيش المصري التابعة للمنطقة الغربية العسكرية فضلاً عن أعداد كبيرة تابعة من قوات حرس الحدود، وتوجد أكثر من قاعدة جوية عسكرية بتلك المناطق. يفسر البعض زيادة الانتشار هذا لما تشهده ليبيا من انفلات أمني منذ عام 2011م، وذلك هو التفسير الرسمي، بينما يفسره مراقبون آخرون بالتغير الحاصل في عقيدة الجيش المصري والذي يترتب عليه انتقال نطاق عمله تدريجيا من منطقه جنوب القناة إلى الحدود الغربية، فقد أصبح الجيش المصري لا يرى تهديداً قادماً من جهة إسرائيل، بل يعد الجماعات المسلحة والإسلام السياسي العدو الأول والرئيسي لنظام السيسي. مما يدلل على هذا نقل عمل جزء كبير من الفرقة ٩ مدرعات إلى منطقه الحمام، وكانت هذه الفرقة تتمركز في منطقة دهشور بالجيزة وتعاون الجيش الثالث الميداني في بعض عملياته، وتعد من أهم فرق المدفعية داخل الجيش المصري، وجدير بالذكر أن الفرقة 9 مدرعات كان يتولى قيادتها العميد عادل رجائي الذي قُتل على أيدي حركة "لواء الثورة" في عام 2016م، وكانت أول فرقة عسكرية نزلت إلى الشوارع والميادين إبان ثورة يناير 2011م. أما من ناحية الاتجاه الاستراتيجي الشمالي للدولة المصرية، فتنتشر تشكيلات ووحدات الجيش المصري بشكل أقل من المنطقة المركزية والمنطقة الغربية، ولا تنتشر تشكيلات مدفعية ومشاة بشكل كبير في المحافظات التابعة للمنطقة الشمالية العسكرية، ويكتفي النظام بنشر قوات التدخل السريع الآن لمواجهة أي تظاهرات قد تشهدها المنطقة في أي وقت كان، وسُحبت القوات التابعة للمنطقة الشمالية خارج المحافظات، مع انتشار مكثف لقوات حرس الحدود علي الشواطئ الرملية، وهذا ما يفسره البعض بأن معظم الحدود في تلك الأطراف مائية، ولذلك تنشر القوات البحرية في نطاق المنطقة الشمالية بشكل كبير، وسلّح الجيش المصري على مدار السنوات الماضية البحرية المصرية بشكل استراتيجي نوعي، حتي يؤمن تلك المناطق الحدودية بشكل كبير، إذ تمتلك البحرية المصرية إلى وقتنا هذا 319 قطعة بحرية، وتأتي في المرتبة العاشرة عالمياً . ومع أن المنطقة الجنوبية العسكرية تُعد أحد ثغور الدولة المصرية، فإن تشكيلات وقوات الجيش لا تنتشر في ذلك الاتجاه الذي توجد فيه 7 محافظات كبري ومناطق حدودية كمحافظة البحر الأحمر، ومثلث حلايب وشلاتين الحدودي مع السودان، وإنما يوجد فقط ب 3 ألوية مشاه ميكانيكي ولواء مدفعية متوسطة المدي عدد 2 لواء مهندسين (مياه وإنشاءات) ، ويرى بعض الخبراء أن عدم انتشار الجيش المصري بشكل مكثف في تلك المناطق يرجع إلى صعوبة التضاريس والجغرافيا العسكرية لتلك المنطقة الاستراتيجية، مما يصعب الوجود العسكري البري والمدفعي بشكل كبير، ويعوض ذلك التقصير في القوات البرية والمدفعية بالقواعد الجوية، حيث توجد بنطاق المنطقة الجنوبية 9 قواعد جوية. ولكن في المقابل، فإن طبيعة الجغرافيا في المنطقة الغربية العسكرية صعبة أيضاً وتوجد بها مناطق جبلية كثيفة مثل المنطقة الجنوبية، ومع ذلك يحرص الجيش المصري على الانتشار البري والمدفعي بنطاق المنطقة الغربية بشكل أكبر من المنطقة الجنوبية، وهذا ما يحلله البعض بأن الاتجاه الغربي يسبب تهديداً للدولة المصرية، كما يري النظام الحالي في مصر، بصورة أكبر من المنطقة الجنوبية، فمهما كانت تضاريس وطبيعة المكان يجب انتشار التشكيلات والتكتلات البرية والمدفعية العسكرية بشكل مكثف في تلك المناطق. أما بالنسبة للانتشار العسكري للجيش المصري في نطاق المنطقة المركزية العسكرية "القاهرة الكبرى"، فيحرص الجيش على توزيع قوات المنطقة المركزية على غلاف العاصمة الكبرى لكي يكون قريباً من العاصمة، ويستطيع النزول إليها في أي وقت لمواجهة أي تظاهرات قد تحدث في أي وقت ضد النظام الحالي، فتوجد القوات بشكل مكثف في منطقة الهايكستب بالقاهرة ومنطقة الرماية ومنطقة دهشور بالجيزة، وتنتشر فرقة كاملة في العاصمة الكبرى تابعة لقوات التدخل السريع للانتشار في الميادين. ختاماً: تعرف العقيدة العسكرية بأنها "مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية. "والنقطة العامة في تحديد العقيدة العسكرية هي وجود عقيدة على مستوى الدولة، وتسمى "العقيدة الشاملة للدولة" وفيها يحدد العدو الاستراتيجي للدولة، والتي تنعكس علي العقيدة العسكرية لجيشها، وبناء علي تعريف العدو يوزع الجيش قواته وتشكيلاته على جميع النواحي الاستراتيجية ويكون التكتل الأكبر عند الطرف الذي يأتي من خلاله التهديد الأكبر للأمن القومي. لم تعرف مصر طيلة العقود الماضية إلا "إسرائيل" عدو اً استراتيجياً، فكان الجيش يكثف قواته عند الحدود الشرقية، لكن منذ مجيء السيسي رئيساً شهدت هذه العقيدة تحولاً واضحاً، إذ صارت ترى أن الإسلام السياسي هو عدو الدولة الاستراتيجي، فتغير توزيع القوات على المحاور الاستراتيجية تبعاً لذلك، وصارت تدريبات الجيش تركز على مواجهة الجيوش غير النظامية "حرب العصابات" كما في تدريبات "حماة الصداقة" بين الجيشين المصري والروسي، والتي عقدت مرتين على التوالي 2016-2017، وكذلك مناورات النجم الساطع التي استؤنفت 2017م، بعد توقفها منذ عام 2009م، إذ ركزت الأخيرة على مواجهة التمرد في شمال سيناء. أصبح الجيش المصري ينتظر "العدو" الذي يأتي من القاهرة، فنشر قوات التدخل السريع بشكل مكثف في قلب العاصمة الكبرى "القاهرة والجيزة والقليوبية" والإسكندرية، ووزع قوات المنطقة المركزية على غلاف العاصمة الكبرى، وأصبح موجوداً بكثافة في مناطق الهايكستب والرماية ودهشور بالجيزة. كما وضع قوات المنطقة الشمالية في مقرات على غلاف المحافظات لتكون قريبة من النزول إلى الميادين في وقت قصير. وأقوى ما يؤشر إلى انقلاب عقيدة الجيش المصري وتحولها إلى النقيض ما يسفر عنه التعاون بين الجيشين المصري و"الإسرائيلي" في مواجهة التمرد بمحافظة سيناء، فضلاً عن المناورات العسكرية المصرية الإسرائيلية المشتركة في اليونان .
الانتشار العسكري والأمن القومي المصري
محمود جمال

لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

تنتشر الوحدات والتشكيلات العسكرية التابعة للجيش داخل حدود الدولة علي كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، لتأمينها من أي تهديد محتمل، وعندما يكون هناك اتجاه استراتيجي بعينه داخل الدولة من ناحيته تهدد الدولة بخطر أكبر كوجود عداوة بين الدولة والدولة التي تجاورها من تلك الحدود، يقوم جيش الدولة في تلك الحالة بنشر مكثف لقواته العسكرية في ذلك الاتجاه وذلك حفاظاً على الأمن القومي للدولة.

أولاً: الجيوش الميدانية

يتكون الجيش المصري من جيشين ميدانيين وأربع مناطق عسكرية، وتوجد داخل الجيش أربعة أفرع رئيسية وهي: "القوات البرية-القوات الجوية-القوات البحرية-قوات دفاع جوي". ويبلغ عدد قوات الجيش المصري الرئيسية 454.3 ألف ضابط وصف وجندي، بالإضافة إلى 875 ألف احتياطي. وتتوزع كالتالي:

1- الجيش الثاني الميداني:

يوجد المقر الرئيسي لقيادة الجيش الثاني الميداني بمحافظة الإسماعلية في نطاق الاتجاه الشمالي الشرقي للدولة المصرية، وتتمثل مهمة الجيش الثاني الميداني في تأمين الجزء الشمالي لمنطقة قناة السويس محافظة الإسماعلية ومحافظة بورسعيد،

2- الجيش الثالث الميداني
يتواجد المقر الرئيسي لقيادة الجيش الثالث الميداني بمحافظة السويس في الاتجاه الاستراتيجي الشرقي للدولة المصرية، تتمثل مهمة الجيش الثالث في تأمين المنشآت الداخلية في المنطقة الواقعة من الكيلو 61 طريق مصر السويس الصحراوي وحتى خط الحدود الدولية بطول 260 كيلو متر إضافة إلى 400 كيلو متر في المنطقة الواقعة من رأس محمد وحتى العوجه على الحدود مع "إسرائيل"، إضافة إلى محافظات جنوب سيناء والبحر الأحمر.

ثانياً: المناطق العسكرية

1- المنطقة المركزية العسكرية

نطاق عمل قوات وتشكيلات المنطقة المركزية العسكرية تقع في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، وتمتد إلى محافظات الغربية والشرقية والفيوم وبني سويف. ويوجد للمنطقة المركزية العسكرية عدة مقرات رئيسية في عدة مناطق.

2- المنطقة الشمالية العسكرية: الإسكندرية

نطاق عمل المنطقة الشمالية محافظة الإسكندرية ومحافظة دمنهور، ومحافظة البحيرة، ومحافظة دمياط والمقرات الرئيسية للمنطقة العسكرية الشمالية.

3- المنطقة الغربية العسكرية

نطاق عمل المنطقة الغربية يقع في محافظة مرسي مطروح، ويمتد إلى جزء من مجال محافظة البحر الأحمر، والمقرات الرئيسية للمنطقة العسكرية الغربية.

4- المنطقة الجنوبية العسكرية

نطاق عمل المنطقة الجنوبية العسكرية محافظة أسيوط، وكل من محافظات "الأقصر وأسوان وسوهاج وقنا وأسوان والبحر الأحمر والمنيا".

ثالثاً: الوحدات الخاصة في الجيش المصري

يضم الجيش المصري العديد من القوات الخاصة والتي تضم العديد من الأفرع وهي: وحدات الصاعقة - وحدات المظلات - جهاز المخابرات والاستطلاع - الصاعقة البحرية - لواء الوحدات الخاصة، ومجموعات الضفادع البشرية التابعة للقوات البحرية، قوات التدخل السريع.

رابعاً: القواعد الجوية والمطارات العسكرية

لدي الجيش المصري عدد 35 ما بين قاعدة جوية ومطار عسكري، تتوزع على كافة الاتجاهات الأربعة الاستراتيجية داخل الدولة المصرية، من بينها:

خامساً: القواعد البحرية المصرية

تتكون البحرية المصرية من 7 قواعد بحرية وتقوم بنشرهم في المياه الإقليمية المصرية اللموجودة بالبحر المتوسط والبحر الأحمر.

سادساً: الرؤية العسكرية في توزيع تشكيلات الجيش المصري

انتشار التشكيلات العسكرية للجيش المصري علي كافة الحدود والاتجاهات الاستراتيجية طبقاً للعقيدة العسكرية للجيش المصري، يراها البعض أنها تتطابق وتتفاهم مع منظور الحفاظ على الأمن القومي المصري وحماية الدولة المصرية من كافة التهديدات، لذلك يراعي الجيش المصري تكثيف وجوده العسكري نحو الحدود الشرقية، وتوجد المقرات الرئيسية للجيشين الثاني والثالث الميداني بتلك الأطراف، وذلك بسبب أن المنطقة الشرقية متاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة "إسرائيل".

وقد خاضت مصر خلال العقود السبع الماضية أربعة حروب ضد إسرائيل، كانت الحرب الأولى عام 1948م، عندما شاركت مصر في الحرب مع فلسطين؛ وكانت الحرب الثانية عام 1956م فيما يعرف باسم "العدوان الثلاثي علي مصر"؛ إذ شاركت كل من فرنسا وبريطانيا في الحرب إلى جانب "إسرائيل". وكانت الحرب الثالثة عام 1967م؛ وبعد ست سنوات كانت الحرب الرابعة عام 1973م. وأدت تلك الحروب في نهاية المطاف إلى لجوء مصر و"إسرائيل" إلى طاولة المفاوضات والتي تمخضت عنها اتفاقية كامب ديفيد، التي وقع عليها الرئيس الأسبق أنور السادات عام 1979 مع "إسرائيل" برعاية أمريكية؛ ولكن منذ ذلك التاريخ حتى وقت قريب كانت استراتيجية الجيش المصري ثابتة ولم تتغير، وكان التوزيع التنظيمي للتشكيلات والوحدات العسكرية يكثف من الوجود ناحية الشرق، عند محافظات السويس والإسماعلية وبورسعيد للحفاظ علي الأمن القومي المصري من أي تهديد يأتي من ناحية الشرق.

لمصر حدود مع ليبيا تمتد إلى 1150 كم، وقد زاد انتشار قوات وتشكيلات الجيش المصري التابعة للمنطقة الغربية العسكرية فضلاً عن أعداد كبيرة تابعة من قوات حرس الحدود، وتوجد أكثر من قاعدة جوية عسكرية بتلك المناطق. يفسر البعض زيادة الانتشار هذا لما تشهده ليبيا من انفلات أمني منذ عام 2011م، وذلك هو التفسير الرسمي، بينما يفسره مراقبون آخرون بالتغير الحاصل في عقيدة الجيش المصري والذي يترتب عليه انتقال نطاق عمله تدريجيا من منطقه جنوب القناة إلى الحدود الغربية، فقد أصبح الجيش المصري لا يرى تهديداً قادماً من جهة إسرائيل، بل يعد الجماعات المسلحة والإسلام السياسي العدو الأول والرئيسي لنظام السيسي.

مما يدلل على هذا نقل عمل جزء كبير من الفرقة ٩ مدرعات إلى منطقه الحمام، وكانت هذه الفرقة تتمركز في منطقة دهشور بالجيزة وتعاون الجيش الثالث الميداني في بعض عملياته، وتعد من أهم فرق المدفعية داخل الجيش المصري، وجدير بالذكر أن الفرقة 9 مدرعات كان يتولى قيادتها العميد عادل رجائي الذي قُتل على أيدي حركة "لواء الثورة" في عام 2016م، وكانت أول فرقة عسكرية نزلت إلى الشوارع والميادين إبان ثورة يناير 2011م.

أما من ناحية الاتجاه الاستراتيجي الشمالي للدولة المصرية، فتنتشر تشكيلات ووحدات الجيش المصري بشكل أقل من المنطقة المركزية والمنطقة الغربية، ولا تنتشر تشكيلات مدفعية ومشاة بشكل كبير في المحافظات التابعة للمنطقة الشمالية العسكرية، ويكتفي النظام بنشر قوات التدخل السريع الآن لمواجهة أي تظاهرات قد تشهدها المنطقة في أي وقت كان، وسُحبت القوات التابعة للمنطقة الشمالية خارج المحافظات، مع انتشار مكثف لقوات حرس الحدود علي الشواطئ الرملية، وهذا ما يفسره البعض بأن معظم الحدود في تلك الأطراف مائية، ولذلك تنشر القوات البحرية في نطاق المنطقة الشمالية بشكل كبير، وسلّح الجيش المصري على مدار السنوات الماضية البحرية المصرية بشكل استراتيجي نوعي، حتي يؤمن تلك المناطق الحدودية بشكل كبير، إذ تمتلك البحرية المصرية إلى وقتنا هذا 319 قطعة بحرية، وتأتي في المرتبة العاشرة عالمياً .

ومع أن المنطقة الجنوبية العسكرية تُعد أحد ثغور الدولة المصرية، فإن تشكيلات وقوات الجيش لا تنتشر في ذلك الاتجاه الذي توجد فيه 7 محافظات كبري ومناطق حدودية كمحافظة البحر الأحمر، ومثلث حلايب وشلاتين الحدودي مع السودان، وإنما يوجد فقط ب 3 ألوية مشاه ميكانيكي ولواء مدفعية متوسطة المدي عدد 2 لواء مهندسين (مياه وإنشاءات) ، ويرى بعض الخبراء أن عدم انتشار الجيش المصري بشكل مكثف في تلك المناطق يرجع إلى صعوبة التضاريس والجغرافيا العسكرية لتلك المنطقة الاستراتيجية، مما يصعب الوجود العسكري البري والمدفعي بشكل كبير، ويعوض ذلك التقصير في القوات البرية والمدفعية بالقواعد الجوية، حيث توجد بنطاق المنطقة الجنوبية 9 قواعد جوية.

ولكن في المقابل، فإن طبيعة الجغرافيا في المنطقة الغربية العسكرية صعبة أيضاً وتوجد بها مناطق جبلية كثيفة مثل المنطقة الجنوبية، ومع ذلك يحرص الجيش المصري على الانتشار البري والمدفعي بنطاق المنطقة الغربية بشكل أكبر من المنطقة الجنوبية، وهذا ما يحلله البعض بأن الاتجاه الغربي يسبب تهديداً للدولة المصرية، كما يري النظام الحالي في مصر، بصورة أكبر من المنطقة الجنوبية، فمهما كانت تضاريس وطبيعة المكان يجب انتشار التشكيلات والتكتلات البرية والمدفعية العسكرية بشكل مكثف في تلك المناطق.

أما بالنسبة للانتشار العسكري للجيش المصري في نطاق المنطقة المركزية العسكرية "القاهرة الكبرى"، فيحرص الجيش على توزيع قوات المنطقة المركزية على غلاف العاصمة الكبرى لكي يكون قريباً من العاصمة، ويستطيع النزول إليها في أي وقت لمواجهة أي تظاهرات قد تحدث في أي وقت ضد النظام الحالي، فتوجد القوات بشكل مكثف في منطقة الهايكستب بالقاهرة ومنطقة الرماية ومنطقة دهشور بالجيزة، وتنتشر فرقة كاملة في العاصمة الكبرى تابعة لقوات التدخل السريع للانتشار في الميادين.

ختاماً:

تعرف العقيدة العسكرية بأنها "مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية. "والنقطة العامة في تحديد العقيدة العسكرية هي وجود عقيدة على مستوى الدولة، وتسمى "العقيدة الشاملة للدولة" وفيها يحدد العدو الاستراتيجي للدولة، والتي تنعكس علي العقيدة العسكرية لجيشها، وبناء علي تعريف العدو يوزع الجيش قواته وتشكيلاته على جميع النواحي الاستراتيجية ويكون التكتل الأكبر عند الطرف الذي يأتي من خلاله التهديد الأكبر للأمن القومي.

لم تعرف مصر طيلة العقود الماضية إلا "إسرائيل" عدو اً استراتيجياً، فكان الجيش يكثف قواته عند الحدود الشرقية، لكن منذ مجيء السيسي رئيساً شهدت هذه العقيدة تحولاً واضحاً، إذ صارت ترى أن الإسلام السياسي هو عدو الدولة الاستراتيجي، فتغير توزيع القوات على المحاور الاستراتيجية تبعاً لذلك، وصارت تدريبات الجيش تركز على مواجهة الجيوش غير النظامية "حرب العصابات" كما في تدريبات "حماة الصداقة" بين الجيشين المصري والروسي، والتي عقدت مرتين على التوالي 2016-2017، وكذلك مناورات النجم الساطع التي استؤنفت 2017م، بعد توقفها منذ عام 2009م، إذ ركزت الأخيرة على مواجهة التمرد في شمال سيناء.

أصبح الجيش المصري ينتظر "العدو" الذي يأتي من القاهرة، فنشر قوات التدخل السريع بشكل مكثف في قلب العاصمة الكبرى "القاهرة والجيزة والقليوبية" والإسكندرية، ووزع قوات المنطقة المركزية على غلاف العاصمة الكبرى، وأصبح موجوداً بكثافة في مناطق الهايكستب والرماية ودهشور بالجيزة. كما وضع قوات المنطقة الشمالية في مقرات على غلاف المحافظات لتكون قريبة من النزول إلى الميادين في وقت قصير.

وأقوى ما يؤشر إلى انقلاب عقيدة الجيش المصري وتحولها إلى النقيض ما يسفر عنه التعاون بين الجيشين المصري و"الإسرائيلي" في مواجهة التمرد بمحافظة سيناء، فضلاً عن المناورات العسكرية المصرية الإسرائيلية المشتركة في اليونان .
‏١٨‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٧:٣٦ م‏
عصر المبادرات الفردية م. أحمد مولانا لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] يسود مُناخٌ تشاؤمي لدى العديد من القطاعات الشبابية في البلدان التي شهدت ثورات مضادة، فهذا يُلقي باللوم على الأنظمة الاستبدادية، وذاك يلقي باللوم على الجماعات والتيارات العاجزة والمشلولة، وثالث يلقي باللوم على الرموز والقادة، ولكل منهم وجهة في كلامه، ولكن إذا كان الواقع مُتردِّيًا، والثغور كثيرة، فماذا ننتظر؟ إنّ العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى والدول القوية والجماعات الكبيرة وحدهم، إنما دَخَل المشهد لاعبون جُدُدٌ أصغرُ لهم قدرةٌ على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفَرْض أمرٍ واقعٍ على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الإعلامية أو السياسية أو الأمنية والعسكرية. ففي مجال التكنولوجيا تمكنت شركات صغيرة من حيازة الريادة في بعض تقنياته، وفي المجال العسكري تُواجه العديد من الدول القوية تمرداتٍ وحروبَ عصاباتٍ لم تتمكن من الانتصار فيها رغم ضعف خصومها في العَدد والعُدَّة، فأميركا وحلف الناتو ما زالا يتعثَّران بالساحة الأفغانية في مواجهة حركة طالبان بعد مُضيّ ١٧ عاما على بدء الغزو الأميركي لأفغانستان. وتمكن الحوثيون من السيطرة على عاصمة بلد عريق كاليمن، ولم يتمكن التحالف السعودي العربي من الاقتراب من صنعاء رغم مرور ٣ سنوات على بدء حملته العسكرية ضد الحوثيين. أما الهجوم الأبرز على الأراضي الأمريكية، فلم يقم به الاتحاد السوفيتي في عز قوته، ولا وقفت خلفه دولة يحكمها نظام قوي ومغامر مثل عراق صدام أو إيران الخميني، إنما نفذه ١٩ شخصا من عناصر تنظيم القاعدة، والذي كان يعيش قادته في جبال وكهوف أفغانستان في ظل بيئة نائية، ومقومات مادية هزيلة. وفي فلسطين نشأت حركة حماس كحركة صغيرة، وضعيفة التسليح مقارنة بالتنظيمات الفلسطينية العتيدة كفتح والجبهة الشعبية، ورغم ذلك تمكنت حماس من النمو خلال عقود معدودة، بل ودفعت جيش الاحتلال الإسرائيلي لمغادرة قطاع غزة، ومن ثم نجحت الحركة في السيطرة على القطاع لاحقا وطرد المليشيات الدحلانية. أما المجال الإعلامي، فلم يعد مقتصرا على القنوات الحكومية فضلا عن القنوات الخاصة، إذ زاحمت وسائل التواصل الاجتماعي وسائل الإعلام التقليدية، وصار تأثيرها أكبر من الصحف الورقية، حتى إن بعض الصحف العالمية قلَّصت من أعداد نسخها المطبوعة. كما تحظى الكثير من الفيديوهات المنشورة على موقع يوتيوب على مشاهدات مليونية تفوق مشاهدات بعض أشهر برامج القنوات الفضائية. وما زلتُ أذكر في نهاية التسعينات من القرن الماضي سلسلة أفلام جحيم الروس في الشيشان، والتي كانت تحتاج إلى جهاز فيديو باهظ الثمن لمشاهدتها، بينما اليوم صار التصوير والنشر والمشاهدة من أسهل ما يمكن. كما صار من اليسير على المرء أن ينشر أفكاره عبر الفيسبوك وتويتر وتليجرام ويوتيوب وسناب شات وغيرها من التطبيقات بشكل لم يكن متاحا قبل عقدين من الزمن، فسابقا كانت الأحزاب والجماعات توزع منشوراتها وبياناتها في الشوارع وعبر البريد للدعاية لأفكارها، لتصل في النهاية إلى أعداد محدودة تقدر بالمئات وربما بالآلاف، بينما يمكن لصفحة أو حساب فيسبوكي أن يوصل أفكاره لمئات الآلاف عبر ضغطة زر. فإن لم يكن المرء من أصحاب الأفكار، ولكنه من أصحاب الأموال، فيمكنه تقديم خدمات جليلة، فكم من مشاريع مهمة تتعثَّر لعدم القدرة على توفير الحد الأدنى من الأموال اللازمة لتدشينها وإنجاحها، فالدعم المالي أمر شديد الأهمية. وإن لم يكن المرء من أصحاب الأفكار أو الأموال، فيمكنه تبني الأفكار الجيدة والهادفة، والدعوة إليها في محيطه العائلي ووسط أصدقائه. الشاهد مما سبق أننا حاليا نعيش في ظل تطورات تقنية، وتراجع في سيطرة الأنظمة القمعية على المجال العام، مما يُمكَّن الأفراد من التأثير والفعل مهما كانت إمكاناتهم محدودة، طالما توافرت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار على تقديم شيء نافع. أما الذي سيظل يحصر دوره في التشكي من الواقع، ستمُرُّ عليه السنوات وهو ما يزال قابعا في إطار الشكوى فقط، بينما عليه أن يكسر هذا القيد، وأن يأخذ خطوات جدية للأمام، فمن المهم أن يحدد المرء ما الذي يود تحقيقه، وما الأمور التي يفعلها واقعيا لتحقيق أهدافه، ومن ثم يحدد الفجوة بين أمانيه وواقعه، ويسعى لردمها، فدون ذلك سيظل يعيش في الأوهام والأحلام ليصب جامَ غضبه على الأوضاع والظروف والواقع والآخرين من حوله، ومتخلِّيًا عن القيام بالأمور التي يمكنه عملها إن صدق وعزم على أمره. إننا في عصر يمكن للمبادرات الفردية والجماعية المحدودة أن تحقق الكثير والكثير، كما أن المسؤولية الجماعية لا تَلغي المسؤولية الفردية، والتي نبَّه عليها الوحي، كما في قوله تعالى (فقاتل في سبيل الله لا تُكلَّف إلا نفسك وحرِّض المؤمنين، عسى الله أن يكفَّ بأس الذين كفروا، والله أشدُّ بأسا وأشدُّ تنكيلا).
عصر المبادرات الفردية
م. أحمد مولانا

لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

يسود مُناخٌ تشاؤمي لدى العديد من القطاعات الشبابية في البلدان التي شهدت ثورات مضادة، فهذا يُلقي باللوم على الأنظمة الاستبدادية، وذاك يلقي باللوم على الجماعات والتيارات العاجزة والمشلولة، وثالث يلقي باللوم على الرموز والقادة، ولكل منهم وجهة في كلامه، ولكن إذا كان الواقع مُتردِّيًا، والثغور كثيرة، فماذا ننتظر؟

إنّ العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى والدول القوية والجماعات الكبيرة وحدهم، إنما دَخَل المشهد لاعبون جُدُدٌ أصغرُ لهم قدرةٌ على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفَرْض أمرٍ واقعٍ على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الإعلامية أو السياسية أو الأمنية والعسكرية.

ففي مجال التكنولوجيا تمكنت شركات صغيرة من حيازة الريادة في بعض تقنياته، وفي المجال العسكري تُواجه العديد من الدول القوية تمرداتٍ وحروبَ عصاباتٍ لم تتمكن من الانتصار فيها رغم ضعف خصومها في العَدد والعُدَّة، فأميركا وحلف الناتو ما زالا يتعثَّران بالساحة الأفغانية في مواجهة حركة طالبان بعد مُضيّ ١٧ عاما على بدء الغزو الأميركي لأفغانستان. وتمكن الحوثيون من السيطرة على عاصمة بلد عريق كاليمن، ولم يتمكن التحالف السعودي العربي من الاقتراب من صنعاء رغم مرور ٣ سنوات على بدء حملته العسكرية ضد الحوثيين.

أما الهجوم الأبرز على الأراضي الأمريكية، فلم يقم به الاتحاد السوفيتي في عز قوته، ولا وقفت خلفه دولة يحكمها نظام قوي ومغامر مثل عراق صدام أو إيران الخميني، إنما نفذه ١٩ شخصا من عناصر تنظيم القاعدة، والذي كان يعيش قادته في جبال وكهوف أفغانستان في ظل بيئة نائية، ومقومات مادية هزيلة.

وفي فلسطين نشأت حركة حماس كحركة صغيرة، وضعيفة التسليح مقارنة بالتنظيمات الفلسطينية العتيدة كفتح والجبهة الشعبية، ورغم ذلك تمكنت حماس من النمو خلال عقود معدودة، بل ودفعت جيش الاحتلال الإسرائيلي لمغادرة قطاع غزة، ومن ثم نجحت الحركة في السيطرة على القطاع لاحقا وطرد المليشيات الدحلانية.

أما المجال الإعلامي، فلم يعد مقتصرا على القنوات الحكومية فضلا عن القنوات الخاصة، إذ زاحمت وسائل التواصل الاجتماعي وسائل الإعلام التقليدية، وصار تأثيرها أكبر من الصحف الورقية، حتى إن بعض الصحف العالمية قلَّصت من أعداد نسخها المطبوعة. كما تحظى الكثير من الفيديوهات المنشورة على موقع يوتيوب على مشاهدات مليونية تفوق مشاهدات بعض أشهر برامج القنوات الفضائية. وما زلتُ أذكر في نهاية التسعينات من القرن الماضي سلسلة أفلام جحيم الروس في الشيشان، والتي كانت تحتاج إلى جهاز فيديو باهظ الثمن لمشاهدتها، بينما اليوم صار التصوير والنشر والمشاهدة من أسهل ما يمكن. كما صار من اليسير على المرء أن ينشر أفكاره عبر الفيسبوك وتويتر وتليجرام ويوتيوب وسناب شات وغيرها من التطبيقات بشكل لم يكن متاحا قبل عقدين من الزمن، فسابقا كانت الأحزاب والجماعات توزع منشوراتها وبياناتها في الشوارع وعبر البريد للدعاية لأفكارها، لتصل في النهاية إلى أعداد محدودة تقدر بالمئات وربما بالآلاف، بينما يمكن لصفحة أو حساب فيسبوكي أن يوصل أفكاره لمئات الآلاف عبر ضغطة زر.

فإن لم يكن المرء من أصحاب الأفكار، ولكنه من أصحاب الأموال، فيمكنه تقديم خدمات جليلة، فكم من مشاريع مهمة تتعثَّر لعدم القدرة على توفير الحد الأدنى من الأموال اللازمة لتدشينها وإنجاحها، فالدعم المالي أمر شديد الأهمية. وإن لم يكن المرء من أصحاب الأفكار أو الأموال، فيمكنه تبني الأفكار الجيدة والهادفة، والدعوة إليها في محيطه العائلي ووسط أصدقائه.

الشاهد مما سبق أننا حاليا نعيش في ظل تطورات تقنية، وتراجع في سيطرة الأنظمة القمعية على المجال العام، مما يُمكَّن الأفراد من التأثير والفعل مهما كانت إمكاناتهم محدودة، طالما توافرت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار على تقديم شيء نافع.

أما الذي سيظل يحصر دوره في التشكي من الواقع، ستمُرُّ عليه السنوات وهو ما يزال قابعا في إطار الشكوى فقط، بينما عليه أن يكسر هذا القيد، وأن يأخذ خطوات جدية للأمام، فمن المهم أن يحدد المرء ما الذي يود تحقيقه، وما الأمور التي يفعلها واقعيا لتحقيق أهدافه، ومن ثم يحدد الفجوة بين أمانيه وواقعه، ويسعى لردمها، فدون ذلك سيظل يعيش في الأوهام والأحلام ليصب جامَ غضبه على الأوضاع والظروف والواقع والآخرين من حوله، ومتخلِّيًا عن القيام بالأمور التي يمكنه عملها إن صدق وعزم على أمره.

إننا في عصر يمكن للمبادرات الفردية والجماعية المحدودة أن تحقق الكثير والكثير، كما أن المسؤولية الجماعية لا تَلغي المسؤولية الفردية، والتي نبَّه عليها الوحي، كما في قوله تعالى (فقاتل في سبيل الله لا تُكلَّف إلا نفسك وحرِّض المؤمنين، عسى الله أن يكفَّ بأس الذين كفروا، والله أشدُّ بأسا وأشدُّ تنكيلا).
‏١٤‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٦:٥٦ م‏
إدلب.. الموجة المرتدة عبد الغني مزوز لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] تزامن وصول آخر حافلة تَقِلُّ مهجَّرين من ريف حِمْص إلى الشمال السوري المحرر مع وضع آخر نقطة مراقبة للجيش التركي، فبدأت بذلك مرحلة جديدة قد تكون أخطر مراحل الثورة السوريّة على الإطلاق. من المهم في البداية أن نؤكد أن صراع الشعب السوري منذ بداية ثورته في 2011 لم يكن ضد نظام بشار الأسد بل مع النظام الدولي بكل قواه ومؤسساته، والذي يحاول إبقاء الصراع بما يحفظ مصالحه ويضمن استقرار واستمرار تفاهمات ومكاسب ما بعد الحرب الباردة. وعندما نعاين حصيلة المنجز الثوري في سوريَة فعلينا أن نفعل ذلك وفي بالنا حجم التحدي المرفوع في وجه الشعب السوري وقد قُدِّر له أن يُنازل منظومة دولية ذكية وغاشمة. خطة تهجير أهالي المدن الثائرة من مختلف المناطق السوريَّة إلى الشمال السوري المحرر ليست من أفكار النظام السوري قطعا، وإنما هي من توجِيهات النظام الدولي، وقد اعترف "رياض نعسان آغا" أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "جون كيري" قال له جوابا عن سؤال حول مصير إدلب طرحه عليه: "إدلب تنتظر الإبادة وهناك اتفاق دولي على تجميع الثوار في المدينة" . والمسألة لا تحتاج إلى تسريبات أو اعترافات ما دامت الشواهد قائمة لا تقبل الشك أو الجدل، فكل عمليات التهجير تمت تحت رعاية الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية النافدة وتحت إشراف مبعوثِيها ومراقبِيها. ولأن معركة الأمة مع النظام الدولي ومؤسساته معركة متشعبة وممتدة بحيث تشمل فضاء الاستعارات والتراكيب اللغوية (وقد نتطرق يوما إلى الحديث عن الاستعارات التي يقتلوننا بها)، ولأن المعركة بهذا التشعب والتركيب فإن الأمم المتحدة لا تُسمي ما تُشرف على إنجازه من تهجير قسري نَصَّ نظامُ روما الأساسي على اعتداده جريمةً ضد الإنسانية، لا تسمي ذلك تهجيرا قسريا وإنما تسميه "تأمين ممرات آمنة للمدنيين" و"ضمان سلامة المدنيين العالقين في ساحة الحرب" و"ضرورة الحفاظ على أرواح المدنيين بنقلهم إلى مناطق أكثر أمنا".. هذه الصيغ اللغوية الخادعة تعني في جوهرها المشاركة والإشراف المباشر على إنفاذ أقذر عمليات التطهير العرقي في التاريخ المعاصر، والمساهمة الفعالة في القضاء على الوجود السني في الشام. نقطة أخرى ينبغي التنويه إليها وهي أن الثورة الشعبية في الشام تواجه آخر ما صاغه وابتكره العقل الجبري من أفكار ونظريات تتعلق بمكافحة واحتواء التمرد، وبالتالي فليتوقع الثوار أساليب واستراتيجيات غير معهودة في سياق ما مر من تجارب الحروب والمقاومات الشعبية. لا شك أن ملامح توافقات الكبار تُظهر رهانا دوليا على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد موازاةً مع ضرب وتفكيك جيوب الثورة المنتشرة في جنوب ووسط سوريَة، تأهيلٌ يتم جزء منه بواسطة ما يسمى بالهدن والمصالحات وهي التي تُؤمِّن للنظام مزيدا من المقاتلين ممن سُوِّيت أوضاعُهم وأُعيد دمجُهم في الجيش والميلشيات التابعة له، كما تعيد هذه المصالحات المزعومة لملمة شرعية النظام الطائفي من خلال التوقيع على وثائق تعترف بسيادة مؤسسات النظام ودعمها في مهمة القضاء على الإرهابيين، ومن يرفض التوقيع على هذه "المصالحات" يُشرَّد ويُهجَّر من أرضه برعاية الأمم المتحدة أو "تأمين ممر آمن له ولعائلته" وفق تعبير المنظمة. تضاربت السناريوهات حول مصير مدينة إدلب بعد اكتمال مخطط تهجير الثوار والمدنيين إليها انطلاقا من باقي مدن الثورة المنكوبة (حلب، مضايا، الزبداني، عرسال، الغوطة الشرقية، داريّا، ريف حِمص الشمالي..)، وتضاربت أيضا الآراء التي تحاول تفسير دواعي التهجير وخلفياته ولماذا الشمال تحديدا وليس درعا مثلا أو أي منطقة أخرى. قلنا سابقا أن التهجير مخطط دولي بامتياز جرى التمهيد له من قِبَل المبعوثين الأمميين الذين تعاقبوا على سوريَة منذ بداية الثورة، ففكرة إقرار "مناطق خفض التصعيد" التي تم بموجبها فرز مناطق الثورة وقضمها بشكل مُركَّز واحدةً بعد الأخرى لم تكن وليدة توافقات "أستانة" بل طرحها أولا المبعوث الأممي "ستيفان ديمستورا" باقتراحه خطة تقضي بتجميد القتال في بعض المناطق سنة 2014، وتم البناء على الفكرة لتؤول إلى ما آلت إليه. وإذا كانت درعا في الجنوب قد حُسِمَ أمرُها منذ مدة ليست بالقصيرة بسبب موقعها الجغرافي الحساس وخضعت لتفاهم إقليمي ودولي خرجت على إثره مبكرا من معادلة الثورة، فإن الشمال السوري المحرر يسير نحو مصيره، مصير سنحاول تجلية بعض ملامحه وطرح ملاحظات وتوصيات بشأنه. أولا من الخطأ وسوء التقدير الاعتقاد أن النظامَ السوري وحلفاءه لن يقوموا بحملة عسكرية تستهدف إدلب، وقد قرأت لبعض وجهاء الثورة قوله أن نقاط المراقبة التركية ستعصم إدلب من أي اجتياح قد يقوم به النظام وروسيا مستقبلا، وهذه قراءة خاطئة وتقدير في غير محله، فإذا كان النظام وروسيا قد قاما بتدمير مدن واجتياحها رغم أن من يتحصن بها صُنِّفوا في خانة من يُسمُّون بالمعارضة المعتدلة، فكيف بمدينة إدلب التي تضم من أجمع النظام الدولي ومكوناته على اعتدادهم إرهابيين يجب القضاء عليهم. إن العقيدة القتالية للنظام الدولي وقواه الفاعلة تتعارض تماما مع وجود ملاذ آمن في أي بقعة من العالم يأوي من تعتدُّهم إرهابيين. قد يتأخر الخيار العسكري أو قد يُناط تنفيذه بجهات أخرى، وبتكتيكات جديدة لكن لن يُستبعد من حسابات الحل، خصوصا إذا لم تُسفر الخيارات الأخرى عن نتائج مُرضيَة. وبالتالي فمهما بدا الحل العسكري بعيدا أو غير ممكن فينبغي الاستعداد له وحشد كل القدرات من أجل التعامل معه، ولا تقع القيادة الثورية في الخطأ الذي وقعت فيه القيادة العراقية عشية الغزو الأمريكي للعراق، فقد تحدث الفريق الركن رعد الحمداني -قائد الفيلق الثاني في الحرس الجمهوري- في كتابه "قبل أن يغادرَنا التاريخ" أن القيادة العراقية قبل أيام قليلة من الغزو كانت لا تزال تتداول حول جدية إقدام أمريكا على الغزو من عدمه، في الوقت الذي ينتظر الغزاة على الحدود ساعة الصفر! المرحلة القادمة ستكون مرحلة إدلب بامتياز. فبعد القضاء على معظم بؤر الثورة في الخريطة السوريّة، سيكون لديهم الوقت الكافي للتركيز على المدينة وقد يُعلَن عن مسارٍ تفاوضيٍّ جديد بديلا عن جنيف وأستانة الذَين انتهيا واقعيا ولم يعد هناك داعٍ لمخرجاتهما. في المرحلة القادمة سيتمحور الحديث عن فرز الثوار داخل إدلب، وسيجري تقسيم المدينة إلى عدة مناطق حتى يسهل التعامل مع كل منطقة على حدة، تماما مثلما حصل في الغوطة الشرقية حيث حُوّلت إلى جزر شبه منفصلة مكّنت النظام وروسيا من تصفية الثورة فيها واحدة بعد الأخرى. من المتوقع أن تُحدَّدَ منطقةٌ معينة داخل إدلب لتكون مساحة آمنة يلجأ إليها المدنيون والفصائل التي تريد أن تنأى بنفسها عن "المتشددين"، وسيتقدَّم الغزاةُ للسيطرة على مناطق المتشددين، فإن تم لهم ذلك فلن يبقى هناك خيارٌ أمام المناطق الأخرى سوى التوقيع على تسوية معينة، ومهما كانت بنودها فستعني نهاية الثورة والدخول في مسارات الحل السياسي العبثية. وستكون الأمة على موعد مع نكبة جديدة يتوارثها الأجيال، جيلٌ إثرَ جيل. إذا كان الخيار العسكري مأساويا فإن الحلول السياسية المزعومة لا تقل عنه مأساوية، تضيع التضحيات ويغشى الوهن والركود أصحاب القضية، مفاوضات، ومؤتمرات، وحديث هزلي عن "عودة اللاجئين" و "المصالحة الوطنية" و"حكومة الوحدة الوطنية" و"الدُّستور التوافقي" و"كبير المفاوضين".. إلى غيرها من العبارات والشعارات التي بدأنا نسمعها عن قضية الثورة السوريّة بعدما كنا نسمعها عن قضية فلسطين، نكبة الأمة الأولى. وقد تتحوَّل ملحمة الشعب السوري التي قَدَّم فيها مئات الآلاف من الشهداء إلى ذكريات وأُمسيات فلكلورية تتخللها عروض الدبكة وما علق بالذاكرة من "أهازيج" الثورة وأيام الكفاح. إدلب كالذرة، تكمن فيها طاقة ثورية وجهادية مدمرة إذا أحسن قادة الثورة تحريرها على الوجه الصحيح، في المدينة عشرات الآلاف من الثوار والمقاتلين العقائديين الغاضبين الذين هُجِّر أكثرُهم من أراضيهم، وفي صدر كل واحد منهم ثأر عند بشار ومن ظاهره على عدوانه. ومخزون من الأسلحة يكفي لتحويل سوريَة إلى كُرَةِ لهيب حارقة. موجات النزوح التي استقرت في المدينة يجب أن ترتد عائدة كطوفان يقتلع كل ما وجده في طريقه من مشاريع الاحتلال والطغيان. أولا: على الفصائل الثورية في إدلب استيعاب كل المقاتلين والعناصر النازحة إلى المدينة، وإعادة ترتيب الصفوف وفق نظام عسكري يعتمد المجموعة الصغيرة استعدادا لحرب عصابات قد تُفرض على الثوار في أية لحظة، وتخزين الأسلحة في أماكن مختلفة، وتجنُّب أخطاء الفصائل في المناطق الأخرى حين كدَّست أطنانا من السلاح في المستودعات، فوقعت المستودعات في يد النظام وذهبت بذلك سنوات من الجهد وملايين من الدولارات هباء. ثانيا: على الثوار في الشام أن يكُفُّوا عن الاعتقاد أنه يمكنهم في يوم ما الاندماج في كيان موحد، تحت قيادة واحدة، ومرجعية واحدة. الصحابة رضوان الله عليهم لم تحصل تلك "المعجزة " في زمانهم، إنها فكرة مثالية لا حظ لها في عالم الواقع والحركة، ولا يزال الاختلاف وتعدد وجهات النظر ونزوع النفس إلى التفرد وحب السلطة من سمات الإنسان والمجتمعات والحركات السياسية وأشد ما يكون ذلك ظهورا في حضارتنا العظيمة. وعِوَضُ الجري خلف اندماج لن يأتي فلتبادر قوى الثورة "الأصيلة" إلى الاتفاق على آليات لإدارة تنافسها وتدبير خلافاتها، وتنسيق مواقفها وجهودها. ثالثا: قرأت كثيرا من الملاحظات على مواقع التواصل الاجتماعي كما جادل كثير من الثوار ممن لهم دراية واطلاع على تفاصيل الشأن الداخلي للثورة، أن نظام المنح والكفالات لم يعد مجديا وفعالا، بل إن بعضهم أرجع ما حل بالثورة من تدهور وتراجع إلى ذلك النظام. ورأوا أن اعتماد نظام توزيع الغنائم على الثوار كفيل ليس فقط بخلق موجة ثورية ترتد من إدلب إلى كل مناطق سوريا بل بعودة معظم المهاجرين من أوروبا ممن فرُّوا إلى هناك يلتمسون بسطة في الرزق والمال. وسيؤدي ذلك أيضا إلى انشقاقات في صفوف جيش النظام، وسيعود إلى الثورة من تركها خصوصا ممن تعذر عليه التوفيق بين العمل الثوري وسعيه لتأمين الطعام ولقمة العيش لأهله وأطفاله. المعركة معركة وعي وذكاء وإرادة، فليكن إذن العقل الثوري الجهادي في الشام في مستوى التحدي، وليدرك اللحظة الفارقة، ولا يدع الشام تؤول إلى أعداء الأمة من المحتلين والصفويين.
إدلب.. الموجة المرتدة
عبد الغني مزوز

لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

تزامن وصول آخر حافلة تَقِلُّ مهجَّرين من ريف حِمْص إلى الشمال السوري المحرر مع وضع آخر نقطة مراقبة للجيش التركي، فبدأت بذلك مرحلة جديدة قد تكون أخطر مراحل الثورة السوريّة على الإطلاق. من المهم في البداية أن نؤكد أن صراع الشعب السوري منذ بداية ثورته في 2011 لم يكن ضد نظام بشار الأسد بل مع النظام الدولي بكل قواه ومؤسساته، والذي يحاول إبقاء الصراع بما يحفظ مصالحه ويضمن استقرار واستمرار تفاهمات ومكاسب ما بعد الحرب الباردة. وعندما نعاين حصيلة المنجز الثوري في سوريَة فعلينا أن نفعل ذلك وفي بالنا حجم التحدي المرفوع في وجه الشعب السوري وقد قُدِّر له أن يُنازل منظومة دولية ذكية وغاشمة.

خطة تهجير أهالي المدن الثائرة من مختلف المناطق السوريَّة إلى الشمال السوري المحرر ليست من أفكار النظام السوري قطعا، وإنما هي من توجِيهات النظام الدولي، وقد اعترف "رياض نعسان آغا" أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "جون كيري" قال له جوابا عن سؤال حول مصير إدلب طرحه عليه: "إدلب تنتظر الإبادة وهناك اتفاق دولي على تجميع الثوار في المدينة" . والمسألة لا تحتاج إلى تسريبات أو اعترافات ما دامت الشواهد قائمة لا تقبل الشك أو الجدل، فكل عمليات التهجير تمت تحت رعاية الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية النافدة وتحت إشراف مبعوثِيها ومراقبِيها. ولأن معركة الأمة مع النظام الدولي ومؤسساته معركة متشعبة وممتدة بحيث تشمل فضاء الاستعارات والتراكيب اللغوية (وقد نتطرق يوما إلى الحديث عن الاستعارات التي يقتلوننا بها)، ولأن المعركة بهذا التشعب والتركيب فإن الأمم المتحدة لا تُسمي ما تُشرف على إنجازه من تهجير قسري نَصَّ نظامُ روما الأساسي على اعتداده جريمةً ضد الإنسانية، لا تسمي ذلك تهجيرا قسريا وإنما تسميه "تأمين ممرات آمنة للمدنيين" و"ضمان سلامة المدنيين العالقين في ساحة الحرب" و"ضرورة الحفاظ على أرواح المدنيين بنقلهم إلى مناطق أكثر أمنا".. هذه الصيغ اللغوية الخادعة تعني في جوهرها المشاركة والإشراف المباشر على إنفاذ أقذر عمليات التطهير العرقي في التاريخ المعاصر، والمساهمة الفعالة في القضاء على الوجود السني في الشام.

نقطة أخرى ينبغي التنويه إليها وهي أن الثورة الشعبية في الشام تواجه آخر ما صاغه وابتكره العقل الجبري من أفكار ونظريات تتعلق بمكافحة واحتواء التمرد، وبالتالي فليتوقع الثوار أساليب واستراتيجيات غير معهودة في سياق ما مر من تجارب الحروب والمقاومات الشعبية. لا شك أن ملامح توافقات الكبار تُظهر رهانا دوليا على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد موازاةً مع ضرب وتفكيك جيوب الثورة المنتشرة في جنوب ووسط سوريَة، تأهيلٌ يتم جزء منه بواسطة ما يسمى بالهدن والمصالحات وهي التي تُؤمِّن للنظام مزيدا من المقاتلين ممن سُوِّيت أوضاعُهم وأُعيد دمجُهم في الجيش والميلشيات التابعة له، كما تعيد هذه المصالحات المزعومة لملمة شرعية النظام الطائفي من خلال التوقيع على وثائق تعترف بسيادة مؤسسات النظام ودعمها في مهمة القضاء على الإرهابيين، ومن يرفض التوقيع على هذه "المصالحات" يُشرَّد ويُهجَّر من أرضه برعاية الأمم المتحدة أو "تأمين ممر آمن له ولعائلته" وفق تعبير المنظمة.

تضاربت السناريوهات حول مصير مدينة إدلب بعد اكتمال مخطط تهجير الثوار والمدنيين إليها انطلاقا من باقي مدن الثورة المنكوبة (حلب، مضايا، الزبداني، عرسال، الغوطة الشرقية، داريّا، ريف حِمص الشمالي..)، وتضاربت أيضا الآراء التي تحاول تفسير دواعي التهجير وخلفياته ولماذا الشمال تحديدا وليس درعا مثلا أو أي منطقة أخرى. قلنا سابقا أن التهجير مخطط دولي بامتياز جرى التمهيد له من قِبَل المبعوثين الأمميين الذين تعاقبوا على سوريَة منذ بداية الثورة، ففكرة إقرار "مناطق خفض التصعيد" التي تم بموجبها فرز مناطق الثورة وقضمها بشكل مُركَّز واحدةً بعد الأخرى لم تكن وليدة توافقات "أستانة" بل طرحها أولا المبعوث الأممي "ستيفان ديمستورا" باقتراحه خطة تقضي بتجميد القتال في بعض المناطق سنة 2014، وتم البناء على الفكرة لتؤول إلى ما آلت إليه. وإذا كانت درعا في الجنوب قد حُسِمَ أمرُها منذ مدة ليست بالقصيرة بسبب موقعها الجغرافي الحساس وخضعت لتفاهم إقليمي ودولي خرجت على إثره مبكرا من معادلة الثورة، فإن الشمال السوري المحرر يسير نحو مصيره، مصير سنحاول تجلية بعض ملامحه وطرح ملاحظات وتوصيات بشأنه.

أولا من الخطأ وسوء التقدير الاعتقاد أن النظامَ السوري وحلفاءه لن يقوموا بحملة عسكرية تستهدف إدلب، وقد قرأت لبعض وجهاء الثورة قوله أن نقاط المراقبة التركية ستعصم إدلب من أي اجتياح قد يقوم به النظام وروسيا مستقبلا، وهذه قراءة خاطئة وتقدير في غير محله، فإذا كان النظام وروسيا قد قاما بتدمير مدن واجتياحها رغم أن من يتحصن بها صُنِّفوا في خانة من يُسمُّون بالمعارضة المعتدلة، فكيف بمدينة إدلب التي تضم من أجمع النظام الدولي ومكوناته على اعتدادهم إرهابيين يجب القضاء عليهم. إن العقيدة القتالية للنظام الدولي وقواه الفاعلة تتعارض تماما مع وجود ملاذ آمن في أي بقعة من العالم يأوي من تعتدُّهم إرهابيين. قد يتأخر الخيار العسكري أو قد يُناط تنفيذه بجهات أخرى، وبتكتيكات جديدة لكن لن يُستبعد من حسابات الحل، خصوصا إذا لم تُسفر الخيارات الأخرى عن نتائج مُرضيَة. وبالتالي فمهما بدا الحل العسكري بعيدا أو غير ممكن فينبغي الاستعداد له وحشد كل القدرات من أجل التعامل معه، ولا تقع القيادة الثورية في الخطأ الذي وقعت فيه القيادة العراقية عشية الغزو الأمريكي للعراق، فقد تحدث الفريق الركن رعد الحمداني -قائد الفيلق الثاني في الحرس الجمهوري- في كتابه "قبل أن يغادرَنا التاريخ" أن القيادة العراقية قبل أيام قليلة من الغزو كانت لا تزال تتداول حول جدية إقدام أمريكا على الغزو من عدمه، في الوقت الذي ينتظر الغزاة على الحدود ساعة الصفر!

المرحلة القادمة ستكون مرحلة إدلب بامتياز. فبعد القضاء على معظم بؤر الثورة في الخريطة السوريّة، سيكون لديهم الوقت الكافي للتركيز على المدينة وقد يُعلَن عن مسارٍ تفاوضيٍّ جديد بديلا عن جنيف وأستانة الذَين انتهيا واقعيا ولم يعد هناك داعٍ لمخرجاتهما. في المرحلة القادمة سيتمحور الحديث عن فرز الثوار داخل إدلب، وسيجري تقسيم المدينة إلى عدة مناطق حتى يسهل التعامل مع كل منطقة على حدة، تماما مثلما حصل في الغوطة الشرقية حيث حُوّلت إلى جزر شبه منفصلة مكّنت النظام وروسيا من تصفية الثورة فيها واحدة بعد الأخرى. من المتوقع أن تُحدَّدَ منطقةٌ معينة داخل إدلب لتكون مساحة آمنة يلجأ إليها المدنيون والفصائل التي تريد أن تنأى بنفسها عن "المتشددين"، وسيتقدَّم الغزاةُ للسيطرة على مناطق المتشددين، فإن تم لهم ذلك فلن يبقى هناك خيارٌ أمام المناطق الأخرى سوى التوقيع على تسوية معينة، ومهما كانت بنودها فستعني نهاية الثورة والدخول في مسارات الحل السياسي العبثية. وستكون الأمة على موعد مع نكبة جديدة يتوارثها الأجيال، جيلٌ إثرَ جيل.

إذا كان الخيار العسكري مأساويا فإن الحلول السياسية المزعومة لا تقل عنه مأساوية، تضيع التضحيات ويغشى الوهن والركود أصحاب القضية، مفاوضات، ومؤتمرات، وحديث هزلي عن "عودة اللاجئين" و "المصالحة الوطنية" و"حكومة الوحدة الوطنية" و"الدُّستور التوافقي" و"كبير المفاوضين".. إلى غيرها من العبارات والشعارات التي بدأنا نسمعها عن قضية الثورة السوريّة بعدما كنا نسمعها عن قضية فلسطين، نكبة الأمة الأولى. وقد تتحوَّل ملحمة الشعب السوري التي قَدَّم فيها مئات الآلاف من الشهداء إلى ذكريات وأُمسيات فلكلورية تتخللها عروض الدبكة وما علق بالذاكرة من "أهازيج" الثورة وأيام الكفاح.

إدلب كالذرة، تكمن فيها طاقة ثورية وجهادية مدمرة إذا أحسن قادة الثورة تحريرها على الوجه الصحيح، في المدينة عشرات الآلاف من الثوار والمقاتلين العقائديين الغاضبين الذين هُجِّر أكثرُهم من أراضيهم، وفي صدر كل واحد منهم ثأر عند بشار ومن ظاهره على عدوانه. ومخزون من الأسلحة يكفي لتحويل سوريَة إلى كُرَةِ لهيب حارقة. موجات النزوح التي استقرت في المدينة يجب أن ترتد عائدة كطوفان يقتلع كل ما وجده في طريقه من مشاريع الاحتلال والطغيان.

أولا: على الفصائل الثورية في إدلب استيعاب كل المقاتلين والعناصر النازحة إلى المدينة، وإعادة ترتيب الصفوف وفق نظام عسكري يعتمد المجموعة الصغيرة استعدادا لحرب عصابات قد تُفرض على الثوار في أية لحظة، وتخزين الأسلحة في أماكن مختلفة، وتجنُّب أخطاء الفصائل في المناطق الأخرى حين كدَّست أطنانا من السلاح في المستودعات، فوقعت المستودعات في يد النظام وذهبت بذلك سنوات من الجهد وملايين من الدولارات هباء.

ثانيا: على الثوار في الشام أن يكُفُّوا عن الاعتقاد أنه يمكنهم في يوم ما الاندماج في كيان موحد، تحت قيادة واحدة، ومرجعية واحدة. الصحابة رضوان الله عليهم لم تحصل تلك "المعجزة " في زمانهم، إنها فكرة مثالية لا حظ لها في عالم الواقع والحركة، ولا يزال الاختلاف وتعدد وجهات النظر ونزوع النفس إلى التفرد وحب السلطة من سمات الإنسان والمجتمعات والحركات السياسية وأشد ما يكون ذلك ظهورا في حضارتنا العظيمة. وعِوَضُ الجري خلف اندماج لن يأتي فلتبادر قوى الثورة "الأصيلة" إلى الاتفاق على آليات لإدارة تنافسها وتدبير خلافاتها، وتنسيق مواقفها وجهودها.

ثالثا: قرأت كثيرا من الملاحظات على مواقع التواصل الاجتماعي كما جادل كثير من الثوار ممن لهم دراية واطلاع على تفاصيل الشأن الداخلي للثورة، أن نظام المنح والكفالات لم يعد مجديا وفعالا، بل إن بعضهم أرجع ما حل بالثورة من تدهور وتراجع إلى ذلك النظام. ورأوا أن اعتماد نظام توزيع الغنائم على الثوار كفيل ليس فقط بخلق موجة ثورية ترتد من إدلب إلى كل مناطق سوريا بل بعودة معظم المهاجرين من أوروبا ممن فرُّوا إلى هناك يلتمسون بسطة في الرزق والمال. وسيؤدي ذلك أيضا إلى انشقاقات في صفوف جيش النظام، وسيعود إلى الثورة من تركها خصوصا ممن تعذر عليه التوفيق بين العمل الثوري وسعيه لتأمين الطعام ولقمة العيش لأهله وأطفاله.

المعركة معركة وعي وذكاء وإرادة، فليكن إذن العقل الثوري الجهادي في الشام في مستوى التحدي، وليدرك اللحظة الفارقة، ولا يدع الشام تؤول إلى أعداء الأمة من المحتلين والصفويين.
‏١٣‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٩:٤٩ م‏
كنت معهم (3) شاهد على اعتقالات الإسلاميّين بالجزائر @[100001613664823:2048:أبو إسلام منير] [لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] لقد كان السجناء بين سنتي 1992 و2000 عيّنةً من المكوَّن البشريّ للجبهة الإسلامية وعيّنةً من المجتمع الجزائريّ. لقد كان السجناء بين سلفيّ وقطبيّ وجزأريّ (تيّار البناء الحضاريّ) وإخوانيٍّ سابقٍ التحق بالجبهة ومَن كان من جماعة الشرق وكان منهم آخرون مُتديّنون غيرُ منتمين لأي جماعة أو تنظيم وآخرون مِن تيّار الهجرة والتكفير على قلّتهم، كما كان في السجناء ابنُ المدينة وابن القرية والريفيّ وأصحاب الحرف وسُكَّان الشمال والجنوب والأغنياءُ والفقراء والعرب والبربر .... إلخ. كان هذا التنوّع يختلف ويزداد أو ينقص بحسَب كون السجن مركزيّا كبيرا يتّسع للآلاف أو ولائيا صغيرا يتّسع لمئتين أو ثلاثِ مئةِ سجين، وبحسَب حركة الترحيلات بين السجون وخطط وزارة العدل وأهدافها من وراء هذه الترحيلات. في السنتين الأُوْليين كانت تنتشر بين المساجين روحٌ من المودّة والتآلف والتآزر والتكافل خفّفت عنهم آلام السجون وصنعت شبكةً من العلاقات الاجتماعية داخلها، وانتشرت حلقات التعليم في الفقه والسيرة والتفسير والحديث واللغة وتدريس المتون وشرحها وحصص محو الأمّية للكبار وممارسة الرياضة، وكان الفقراء لا يشعرون بالحاجة والأغنياء لا يقصّرون في البذل والعطاء، والشباب يخدمون كبار السنّ والجميع تقريبا على قلب رجل واحد في موقفهم تجاه السلطة الانقلابيّة ووجوب مقاومتها وجهادها وإسقاطها حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل التي كانت تبدو يومئذ غيرَ ذات بال ولا خطورة. لكن مع مرور الأشهر وتصرّم السنوات والتحاق الآلاف بالجماعات الجهاديّة التي وقع بينها تمايز واضح، استقرّ الأمر في الغالب على فصيلين كبيرين: - الجماعة الإسلاميّة المسلّحة وهي الأكبر والأكثر عددا وانتشارا وداخلها فصائل وتكتلات تحتفظ بخصوصياتها التي كانت سببا بعد ذلك في الانشقاقات والاقتتال الداخلي. - الجيش الإسلامي للإنقاذ، وعدده وانتشاره الجغرافي أقل بكثير من الجماعة الإسلامية. ومعهما بعض الجماعات والفصائل الصغيرة التي تميل إلى الجماعة أو إلى الجيش دون انتماء تنظيمي واضح وكذلك فرق صغيرة من الهجرة والتكفير انخرط أكثرها لاحقا في الجماعة الإسلاميّة بعد انحرافها واختراقها أواخر 1995 وبدايات 1996. بدأ السجناء يتأثرون بوضوح بهذا الانقسام الفصائليّ خارج السجون، و كان الوافدون الجدد يحملون معهم كمّا هائلا من الأخبار والمعلومات، بعضه صحيح وبعضه مبالغات وبعضه مُختلَقٌ عن ما تقوم به الجماعة أو الجيش الإسلاميّ وعن الاختلاف والاستقطاب بينهما، ولم يكن هذا التأثّر مقصورا على الشباب المثقّف أو المنتمي للصحوة الإسلاميّة فقط بل تعدّاه إلى البسطاء من الفلّاحين وغيرهم الذين كانوا بدورهم يتعصّبون لطرف من الأطراف لأنّهم عملوا معه في الإيواء أو الرصد أو التمويل والتموين، وقد ارتقى هذا التأثّر من مجرّد الانتصار والدفاع عن موقف طرف ما إلى استقطابٍ ثم إلى خصوماتٍ وهجْرٍ ثم إلى تصنيفٍ ثم إلى مناوشاتٍ بالأيدي وغيرها مما يتوفّر في السجن. وأصبحت الفتاوى تُصدر بعدم جواز الصلاة وراء الإمام الفلاني في السجن لأنه من الجهة الفلانيّة وبعدم جواز اقتسام الزنزانة أو المؤونة مع من ليس من هذه الجماعة أو تلك وانتشرت أحكام التبديع والتكفير وإطلاق أوصاف الخيانة والعمالة والجبن والخِذلان والتطرّف والغلوّ. لم يكن أكثر المساجين معنيّا بهذه المظاهر أو مشاركا فيها بشكل مباشر، ولكن ضيق السجون وغموض الوضع خارجها وطول الأحكام الصادرة بالسجن جعل الضغطَ أكبرَ والشحنَ النفسيّ والتوتّر يزداد مع كلّ مرحلة. لقد كان الذين تولّوا كِبَرَ الخصومات والشحناء وتغذيتها بالشائعات والفتاوى السطحيّة الصادرة من أنصاف المتعلّمين وأشباه طلبة العلم داخل السجون أو المستوردة من خارجه= قلّةً، ولكنّ صوتَهم كان الأعلى والأكثر ضجيجا وصَخَبا وكانوا أكثر جرأة –ولا أقول وقاحة– من العقلاء وأولي الأحلام والنّهى الذين ينأون بأنفسهم عادة عن التورّط في مثل هذه القضايا برغم أنّهم أوّل من يصطلي بنارها داخل السجون وخارجها. ولقد بلغ الأمر أن صارت البيعة تؤخذ مثلا للجماعة الإسلامية المسلّحة عن طريق ممّثلين لها داخل السجون وأصبح كلُّ من لا يُبايع يُصنّف شاقّا للصفّ ولعصا الجماعة ومبتدعا أو عميلا للطاغوت يجب هجرُه وأحيانا –كما وقع في عدد من السجون– تعزيرُه بالضرب والجلد وانتشرت فتوى مُفادُها أنّ كلّ الجماعات ما عدا الجماعة الإسلاميّة تقاتل تحت راية جاهليّة عِمّية، حتى أنّ أحد رؤوس هؤلاء وهو ما زال حيّا سجد هو وأتباعه سجودَ الشكر داخلَ سجن البرواقية حين بلغهم خبر مقتل الشيخ محمد السعيد على يد الجماعة الإسلاميّة. لم يكن هذا الأمر ليخفى على إدارة السجون التي كانت في الحقيقة فرعا لجهاز المخابرات، واستثمرت فيه واستغلّته أبشع استغلال فكانت تتعمّد خلط المساجين من توجّهات مختلفة ومتعارضة حينا أو تفرّق بينهم لمزيد من الاستقطاب والتميّز حينا وتُعاقب طرفا وتتغاضى عن طرف فيتّهم هذا ذاك ويجد الآخر نفسه مضطرّا للتسويغ والدفاع عن نفسه، وكانت الأمور تزداد سوءا يوما بعد يوم خاصّة بعد بداية مرحلة المجازر الجماعيّة وفتاوى قتل كل منتسبي الخدمة العسكرية وقتل الأجانب وتعزير أو قتل المدخنين والحلّاقات والمعلّمين وفتوى قتل الفتيات المعلّمات والملتحقات بالجامعات وفتاوى استحلال السبي وقتل نساء وأبناء المرتدّين كما كانت تصنّفهم فتاوى الجماعة الإسلامية آنذاك. وفي المقابل كان الجيش الإسلاميّ قد شرع مبكّرا في الترويج للهدن والمصالحة والحلّ السياسيّ باعتداده جناحا عسكريّا للجبهة الإسلاميّة، وصار أنصار الجماعة الإسلامية يتّهمون أنصار الجيش الإسلاميّ بالخيانة والعمالة والجبن وأحيانا بالردّة وهؤلاء يتّهمون أنصار الجماعة الإسلامية بالغلوّ والتطرّف والخارجيّة وتبنّي منهج التكفير العامّ في حين يضرب النظام هؤلاء بأولئك ويستنزف الجميع حتى داخل السجون التي أصبحت سجونا مضاعفة وظلمات بعضها فوق بعض بسبب ما يجري في الخارج. وأصبح أكثر المساجين يرون أنّهم ضحّوا من أجل لا شيء وأنّ الجماعات صارت تقتتل دون هدف واضح ولا ضابط شرعيّ فكان ذلك ممّا يزيدهم يأسا وعنفا وشكّا في القضيّة التي من أجلها سُجنوا، وقد يبدو هذا التوصيف أمرا مبالغا فيه ولكن حين نتذكّر أن عدد المساجين كان بعشرات الآلاف وأنّهم كانوا جزءا مهمّا جدّا من الحاضنة الشعبيّة للجماعات الجهاديّة وأنّ نسبةً لا تقلّ عن 80% بعد خروجها من السجون منهم نأت بنفسها بعيدا عن هذه الجماعات أو تنكّرت لها ولم تعد تُقدّم لها الدعم اللوجيستي الذي كانت تقدّمه من قبل بل وبعضهم انقلب على الطرح الجهادي كلّه، حين نتذكّر ذلك نُدرك خطورةَ ما كان يحدث داخلَ السجون واستثمارَ الأجهزة الاستخباراتية فيه وتوظيفَه إلى أبعد الحدود، وحين نتذكّر أن مثل ذلك حدث في سجون مصر والعراق وسوريَة بعد ذلك نفهم جيّدا خطورة الأمر على أيّ مشروع تغييريّ إسلاميّ جادّ وشعبيّ وأنّ الحركات الإسلاميّة السياسيّة مثل الجهاديّة لم تستفد شيئا كبيرا، إذ تُكرّر أخطاءها وتُلدَغ من الجحر نفسِه مرّاتٍ ومرّات، وأنّها لا تدرس تجاربَها ولا تستفيد من تجارب غيرها كِبرا أو جهلا أو غباء استراتيجيا أو عُجبا واعتدادا بالنّفس. لقد تُرِك المساجين يواجهون مصائرهم بأنفسهم، فلم تكن الجماعات المسلّحة خارج السجون تمتلك الوقت ولا الموارد ولا الرؤية والوعي الثوريّ اللازم لرعايتهم ومتابعة أحوالهم وتنظيمهم بشكل يسمح لها باستثمار هذا العدد الهائل منهم والتنسيق معهم للاستفادة منهم عند إطلاق سراحهم أو لتُشكّل بهم كتلةً ضاغطة على النظام داخل السّجون أو تؤثّر بهم على الرأي العامّ بطريقة تخدم أهدافها، وكان أقصى ما تفعله معهم هو أن تقوم باغتيال بعض حرّاس السجون وضباطها من الذين كانوا يؤذون المساجين ويعذّبونهم ويتسلّطون عليهم أو أن تجنّد مِن بينهم عددا محدودا من الشباب والكهول ليلتحقوا بها بعد خروجهم. ولم تكن الجبهة الإسلاميّة بوصفها حزبًا سياسيًّا –ولو أنّه كان مُحَلّا بحكمٍ قضائي عسكريّ- والجيش الإسلاميّ الذي كان يُقدّم نفسه على أنّه الذراع العسكريّ لها، بأحسن حالا من الجماعة الإسلامية المسلّحة، وإنّه لغريب حقّا أنّ حزبا سياسيّا مثل الجبهة الإسلاميّة -حتى وهو ضعيف تنظيميّا وقياداته بين سجين ومطارد وفارّ إلى الجبال أو إلى الخارج- لم تكن له أيُّ خطّة أو تأثير مباشر على أوضاع منتسبيه داخل السجون وهم بالآلاف في محاولة لتنظيمهم وتأطيرهم والمحافظة عليهم. وإذا كان الأمر مفهوما ومُسوَّغًا من طرف الجماعة الإسلاميّة المسلّحة التي لم تكن تؤمن بأيّ سلوك أو خطّة تتعلّق بالشأن السياسيّ وتراه انحرافا ومزلقا عقديّا ولم تكن تُعيْر أدنى اهتمام للرأي العامّ فإنّ الأمر من طرف حزب سياسيّ لا يدلّ إلا على غياب الرؤية والبصيرة السياسيّة والفهم لموازين القوّة والصراع، وإذا كان منتسبو الجبهة بقي عدد كبير منهم على وفائهم لها وارتباطهم العاطفي والتنظيميّ في حدّه الأدنى بها فإنّ ذلك لا يعود إلى أيّ جهد منظّم أو تخطيط مسبق قامت به الجبهة وإنّما كان ثمرةً لإيمان هؤلاء بالقضيّة التي كانت الجبهة تدعو إليها وتُناضل من أجلها: إقامة الدولة الإسلاميّة وتحكيم الشريعة وتحقيق الاستقلال الحقيقيّ والنهضة الشاملة وثمرةً لمبادرات كثيرة أكثرُها كان يفشل ويتعثّر ولا يُحقّق أهدافه لأسباب خارجيّة وداخليّة. لقد كانت إضرابات واحتجاجات المساجين لا تتوقّف، وما من سجن من سجون الجزائر إلّا وشهد حركةَ احتجاج وإضراب جزئيّ أو شامل، طويل أو قصير، سلميّ أو عنيف. وبرغم أنّ هذه الإضرابات والاحتجاجات كانت مُسوَّغةً جدّا وشرعيّة ويشارك فيها المساجين بشكل شبه كلّي وبشجاعة منقطعة النظير ويتحمّلون تبعاتها ونتائجها التي كانت أكثرها في غير صالحهم بسبب العنف الممارَس ضدّها أو ضعف التخطيط لها أو كيد ومكر إدارات السجون في التعامل معها وتفريق كلمة القائمين عليها والمشاركين فيها، برغم ذلك فإنّها كانت تمرّ وكأنّها عَدَم، فلا يتحدّث عنها إعلامٌ خارجيّ ولا داخليّ بل ولا يهتمّ بها إعلامُ الجبهة والجماعات الجهاديّة ولا يُروَّج لها ولا تُستثمر حقوقيّا ولا سياسيّا كورقةِ ضغطٍ وتأثيرٍ ولا تُوثَّق مَاجَرياتُها ونتائجُها والقمعُ الذي كان يُصاحبها، بحيث لو أراد المؤرّخ اليوم أن يكتب شيئا عن هذه الظاهرة خلال أكثر من سبع سنوات فلن يجد أيّ شيء مكتوب ومدوّن وموّثق ما عدا ما يمكن أن يقدّمه أرشيف إدارات السجون ووزارة العدل أو ما يستطيع المؤرخ والباحث أن يجمعه من أفواه المشاركين فيها الذين لم يكن أكثرهم يعبأ بتوثيقها وحفظ أحداثها. هذا الإهمال السياسيّ والتنظيميّ والإعلاميّ للمساجين وقضاياهم ومعاركهم داخل السجون كان أحد أسباب اليأس والانفضاض من حول القضية الإسلاميّة والشعور بأنّهم رقم مهمل لا تأثير له وأنّهم يخوضون معركتهم وحدهم دون دعم ولا إسناد ولا توجيه. لقد كانت جبهةُ التحرير الوطني إبّان ثورة التحرير (1954 – 1962) أكثرَ تنظيما في تعاملها مع السجون وأعمقَ وعيا وأشدّ اهتماما وأكثر استثمارا لها سياسيا وإعلاميّا، وهي تجربة كانت حاضرةً وموّثقة وشهودُها ما زالوا أحياءً إلى اليوم، لكن لا أحد من الجماعات المسلّحة أو الجبهة الإسلاميّة كلّف نفسه دراسةَ التجربة واستخلاص العبر منها وتطويرها من أجل استفادة أمثل وأفضل بما يناسب طبيعة الصراع في وقت التسعينيات. ولم يكن هذا الإهمال مقتصرا على المساجين العاديّين ممّن كانت قضاياهم مرتبطة بالعمل المسلّح أو السياسيّ، بل الغريب أنّ قيادات الجبهة الإسلاميّة السياسيّة وعلى رأسها الشيخ علي بن حاج كانت تقوم بإضرابات واحتجاجات قويّة تؤتي ثمارها أحيانا وبرغم ذلك فلا أحد كان يوثّقها ولا يستفيد منها ويستثمرها ممّا يعني شيئا واحدا فقط: أنّ الجماعات المسلّحة والجبهة الإسلامية كليهما لم يكن في مستوى المعركة التي كانا يخوضانها ضدّ السلطة الانقلابيّة ولا كان قد أخذ لها أُهْبَتَها أو خطّط لها من قبل أو توقّعها واستشرفها وأنّ الشباب والكهول من كلّ فئات الشعب وأطيافه ومناطقه الذين امتلأت بهم السجون والجبال كانوا مادّة خاما وموردا بشريا كبيرا مؤمنا بقضيّته مستعدّا للتضحية من أجلها في حين كانت (القيادة) ضعيفةً فاقدةً لـ(الرؤية) تتخبّط وتتعامل مع الأحداث الكبرى بلا أيّ استراتيجيّة أو تخطيط ومنطق: (أحيني اليوم واقتُلْني غدا)، وأنّ ما بذلته من طاقات وجهود وسلاح وأموال وأرواح في صراعاتها البينيّة كان أكثر بكثير ممّا أنفقته في الخيارات الاستراتيجيّة ومن بينها الاستثمار في المورد البشريّ الهائل داخل السجون والذي بلغ في مجموعه ما لا يقلّ عن نصف مليون سجين كان يمكن أن يكون نصفهم على الأقلّ رصيدا بشريّا يحافظ على حياة القضيّة وعنفوانها واستمراريتها ويحفظها من الانحراف والاختراق والسقوط المَريع الذي تعرّضت له لاحقا والذي ما زالت آثارُه حيّةً وحاضرة في نفس كل من عاش تلك الفترة الصعبة القاسية.. وللحديث بقيّة ..
كنت معهم (3)
شاهد على اعتقالات الإسلاميّين بالجزائر

أبو إسلام منير

[لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

لقد كان السجناء بين سنتي 1992 و2000 عيّنةً من المكوَّن البشريّ للجبهة الإسلامية وعيّنةً من المجتمع الجزائريّ. لقد كان السجناء بين سلفيّ وقطبيّ وجزأريّ (تيّار البناء الحضاريّ) وإخوانيٍّ سابقٍ التحق بالجبهة ومَن كان من جماعة الشرق وكان منهم آخرون مُتديّنون غيرُ منتمين لأي جماعة أو تنظيم وآخرون مِن تيّار الهجرة والتكفير على قلّتهم، كما كان في السجناء ابنُ المدينة وابن القرية والريفيّ وأصحاب الحرف وسُكَّان الشمال والجنوب والأغنياءُ والفقراء والعرب والبربر .... إلخ.

كان هذا التنوّع يختلف ويزداد أو ينقص بحسَب كون السجن مركزيّا كبيرا يتّسع للآلاف أو ولائيا صغيرا يتّسع لمئتين أو ثلاثِ مئةِ سجين، وبحسَب حركة الترحيلات بين السجون وخطط وزارة العدل وأهدافها من وراء هذه الترحيلات.

في السنتين الأُوْليين كانت تنتشر بين المساجين روحٌ من المودّة والتآلف والتآزر والتكافل خفّفت عنهم آلام السجون وصنعت شبكةً من العلاقات الاجتماعية داخلها، وانتشرت حلقات التعليم في الفقه والسيرة والتفسير والحديث واللغة وتدريس المتون وشرحها وحصص محو الأمّية للكبار وممارسة الرياضة، وكان الفقراء لا يشعرون بالحاجة والأغنياء لا يقصّرون في البذل والعطاء، والشباب يخدمون كبار السنّ والجميع تقريبا على قلب رجل واحد في موقفهم تجاه السلطة الانقلابيّة ووجوب مقاومتها وجهادها وإسقاطها حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل التي كانت تبدو يومئذ غيرَ ذات بال ولا خطورة.

لكن مع مرور الأشهر وتصرّم السنوات والتحاق الآلاف بالجماعات الجهاديّة التي وقع بينها تمايز واضح، استقرّ الأمر في الغالب على فصيلين كبيرين:

- الجماعة الإسلاميّة المسلّحة وهي الأكبر والأكثر عددا وانتشارا وداخلها فصائل وتكتلات تحتفظ بخصوصياتها التي كانت سببا بعد ذلك في الانشقاقات والاقتتال الداخلي.

- الجيش الإسلامي للإنقاذ، وعدده وانتشاره الجغرافي أقل بكثير من الجماعة الإسلامية.

ومعهما بعض الجماعات والفصائل الصغيرة التي تميل إلى الجماعة أو إلى الجيش دون انتماء تنظيمي واضح وكذلك فرق صغيرة من الهجرة والتكفير انخرط أكثرها لاحقا في الجماعة الإسلاميّة بعد انحرافها واختراقها أواخر 1995 وبدايات 1996.

بدأ السجناء يتأثرون بوضوح بهذا الانقسام الفصائليّ خارج السجون، و كان الوافدون الجدد يحملون معهم كمّا هائلا من الأخبار والمعلومات، بعضه صحيح وبعضه مبالغات وبعضه مُختلَقٌ عن ما تقوم به الجماعة أو الجيش الإسلاميّ وعن الاختلاف والاستقطاب بينهما، ولم يكن هذا التأثّر مقصورا على الشباب المثقّف أو المنتمي للصحوة الإسلاميّة فقط بل تعدّاه إلى البسطاء من الفلّاحين وغيرهم الذين كانوا بدورهم يتعصّبون لطرف من الأطراف لأنّهم عملوا معه في الإيواء أو الرصد أو التمويل والتموين، وقد ارتقى هذا التأثّر من مجرّد الانتصار والدفاع عن موقف طرف ما إلى استقطابٍ ثم إلى خصوماتٍ وهجْرٍ ثم إلى تصنيفٍ ثم إلى مناوشاتٍ بالأيدي وغيرها مما يتوفّر في السجن. وأصبحت الفتاوى تُصدر بعدم جواز الصلاة وراء الإمام الفلاني في السجن لأنه من الجهة الفلانيّة وبعدم جواز اقتسام الزنزانة أو المؤونة مع من ليس من هذه الجماعة أو تلك وانتشرت أحكام التبديع والتكفير وإطلاق أوصاف الخيانة والعمالة والجبن والخِذلان والتطرّف والغلوّ.

لم يكن أكثر المساجين معنيّا بهذه المظاهر أو مشاركا فيها بشكل مباشر، ولكن ضيق السجون وغموض الوضع خارجها وطول الأحكام الصادرة بالسجن جعل الضغطَ أكبرَ والشحنَ النفسيّ والتوتّر يزداد مع كلّ مرحلة.

لقد كان الذين تولّوا كِبَرَ الخصومات والشحناء وتغذيتها بالشائعات والفتاوى السطحيّة الصادرة من أنصاف المتعلّمين وأشباه طلبة العلم داخل السجون أو المستوردة من خارجه= قلّةً، ولكنّ صوتَهم كان الأعلى والأكثر ضجيجا وصَخَبا وكانوا أكثر جرأة –ولا أقول وقاحة– من العقلاء وأولي الأحلام والنّهى الذين ينأون بأنفسهم عادة عن التورّط في مثل هذه القضايا برغم أنّهم أوّل من يصطلي بنارها داخل السجون وخارجها.

ولقد بلغ الأمر أن صارت البيعة تؤخذ مثلا للجماعة الإسلامية المسلّحة عن طريق ممّثلين لها داخل السجون وأصبح كلُّ من لا يُبايع يُصنّف شاقّا للصفّ ولعصا الجماعة ومبتدعا أو عميلا للطاغوت يجب هجرُه وأحيانا –كما وقع في عدد من السجون– تعزيرُه بالضرب والجلد وانتشرت فتوى مُفادُها أنّ كلّ الجماعات ما عدا الجماعة الإسلاميّة تقاتل تحت راية جاهليّة عِمّية، حتى أنّ أحد رؤوس هؤلاء وهو ما زال حيّا سجد هو وأتباعه سجودَ الشكر داخلَ سجن البرواقية حين بلغهم خبر مقتل الشيخ محمد السعيد على يد الجماعة الإسلاميّة.

لم يكن هذا الأمر ليخفى على إدارة السجون التي كانت في الحقيقة فرعا لجهاز المخابرات، واستثمرت فيه واستغلّته أبشع استغلال فكانت تتعمّد خلط المساجين من توجّهات مختلفة ومتعارضة حينا أو تفرّق بينهم لمزيد من الاستقطاب والتميّز حينا وتُعاقب طرفا وتتغاضى عن طرف فيتّهم هذا ذاك ويجد الآخر نفسه مضطرّا للتسويغ والدفاع عن نفسه، وكانت الأمور تزداد سوءا يوما بعد يوم خاصّة بعد بداية مرحلة المجازر الجماعيّة وفتاوى قتل كل منتسبي الخدمة العسكرية وقتل الأجانب وتعزير أو قتل المدخنين والحلّاقات والمعلّمين وفتوى قتل الفتيات المعلّمات والملتحقات بالجامعات وفتاوى استحلال السبي وقتل نساء وأبناء المرتدّين كما كانت تصنّفهم فتاوى الجماعة الإسلامية آنذاك. وفي المقابل كان الجيش الإسلاميّ قد شرع مبكّرا في الترويج للهدن والمصالحة والحلّ السياسيّ باعتداده جناحا عسكريّا للجبهة الإسلاميّة، وصار أنصار الجماعة الإسلامية يتّهمون أنصار الجيش الإسلاميّ بالخيانة والعمالة والجبن وأحيانا بالردّة وهؤلاء يتّهمون أنصار الجماعة الإسلامية بالغلوّ والتطرّف والخارجيّة وتبنّي منهج التكفير العامّ في حين يضرب النظام هؤلاء بأولئك ويستنزف الجميع حتى داخل السجون التي أصبحت سجونا مضاعفة وظلمات بعضها فوق بعض بسبب ما يجري في الخارج. وأصبح أكثر المساجين يرون أنّهم ضحّوا من أجل لا شيء وأنّ الجماعات صارت تقتتل دون هدف واضح ولا ضابط شرعيّ فكان ذلك ممّا يزيدهم يأسا وعنفا وشكّا في القضيّة التي من أجلها سُجنوا، وقد يبدو هذا التوصيف أمرا مبالغا فيه ولكن حين نتذكّر أن عدد المساجين كان بعشرات الآلاف وأنّهم كانوا جزءا مهمّا جدّا من الحاضنة الشعبيّة للجماعات الجهاديّة وأنّ نسبةً لا تقلّ عن 80% بعد خروجها من السجون منهم نأت بنفسها بعيدا عن هذه الجماعات أو تنكّرت لها ولم تعد تُقدّم لها الدعم اللوجيستي الذي كانت تقدّمه من قبل بل وبعضهم انقلب على الطرح الجهادي كلّه، حين نتذكّر ذلك نُدرك خطورةَ ما كان يحدث داخلَ السجون واستثمارَ الأجهزة الاستخباراتية فيه وتوظيفَه إلى أبعد الحدود، وحين نتذكّر أن مثل ذلك حدث في سجون مصر والعراق وسوريَة بعد ذلك نفهم جيّدا خطورة الأمر على أيّ مشروع تغييريّ إسلاميّ جادّ وشعبيّ وأنّ الحركات الإسلاميّة السياسيّة مثل الجهاديّة لم تستفد شيئا كبيرا، إذ تُكرّر أخطاءها وتُلدَغ من الجحر نفسِه مرّاتٍ ومرّات، وأنّها لا تدرس تجاربَها ولا تستفيد من تجارب غيرها كِبرا أو جهلا أو غباء استراتيجيا أو عُجبا واعتدادا بالنّفس.

لقد تُرِك المساجين يواجهون مصائرهم بأنفسهم، فلم تكن الجماعات المسلّحة خارج السجون تمتلك الوقت ولا الموارد ولا الرؤية والوعي الثوريّ اللازم لرعايتهم ومتابعة أحوالهم وتنظيمهم بشكل يسمح لها باستثمار هذا العدد الهائل منهم والتنسيق معهم للاستفادة منهم عند إطلاق سراحهم أو لتُشكّل بهم كتلةً ضاغطة على النظام داخل السّجون أو تؤثّر بهم على الرأي العامّ بطريقة تخدم أهدافها، وكان أقصى ما تفعله معهم هو أن تقوم باغتيال بعض حرّاس السجون وضباطها من الذين كانوا يؤذون المساجين ويعذّبونهم ويتسلّطون عليهم أو أن تجنّد مِن بينهم عددا محدودا من الشباب والكهول ليلتحقوا بها بعد خروجهم.

ولم تكن الجبهة الإسلاميّة بوصفها حزبًا سياسيًّا –ولو أنّه كان مُحَلّا بحكمٍ قضائي عسكريّ- والجيش الإسلاميّ الذي كان يُقدّم نفسه على أنّه الذراع العسكريّ لها، بأحسن حالا من الجماعة الإسلامية المسلّحة، وإنّه لغريب حقّا أنّ حزبا سياسيّا مثل الجبهة الإسلاميّة -حتى وهو ضعيف تنظيميّا وقياداته بين سجين ومطارد وفارّ إلى الجبال أو إلى الخارج- لم تكن له أيُّ خطّة أو تأثير مباشر على أوضاع منتسبيه داخل السجون وهم بالآلاف في محاولة لتنظيمهم وتأطيرهم والمحافظة عليهم. وإذا كان الأمر مفهوما ومُسوَّغًا من طرف الجماعة الإسلاميّة المسلّحة التي لم تكن تؤمن بأيّ سلوك أو خطّة تتعلّق بالشأن السياسيّ وتراه انحرافا ومزلقا عقديّا ولم تكن تُعيْر أدنى اهتمام للرأي العامّ فإنّ الأمر من طرف حزب سياسيّ لا يدلّ إلا على غياب الرؤية والبصيرة السياسيّة والفهم لموازين القوّة والصراع، وإذا كان منتسبو الجبهة بقي عدد كبير منهم على وفائهم لها وارتباطهم العاطفي والتنظيميّ في حدّه الأدنى بها فإنّ ذلك لا يعود إلى أيّ جهد منظّم أو تخطيط مسبق قامت به الجبهة وإنّما كان ثمرةً لإيمان هؤلاء بالقضيّة التي كانت الجبهة تدعو إليها وتُناضل من أجلها: إقامة الدولة الإسلاميّة وتحكيم الشريعة وتحقيق الاستقلال الحقيقيّ والنهضة الشاملة وثمرةً لمبادرات كثيرة أكثرُها كان يفشل ويتعثّر ولا يُحقّق أهدافه لأسباب خارجيّة وداخليّة.

لقد كانت إضرابات واحتجاجات المساجين لا تتوقّف، وما من سجن من سجون الجزائر إلّا وشهد حركةَ احتجاج وإضراب جزئيّ أو شامل، طويل أو قصير، سلميّ أو عنيف. وبرغم أنّ هذه الإضرابات والاحتجاجات كانت مُسوَّغةً جدّا وشرعيّة ويشارك فيها المساجين بشكل شبه كلّي وبشجاعة منقطعة النظير ويتحمّلون تبعاتها ونتائجها التي كانت أكثرها في غير صالحهم بسبب العنف الممارَس ضدّها أو ضعف التخطيط لها أو كيد ومكر إدارات السجون في التعامل معها وتفريق كلمة القائمين عليها والمشاركين فيها، برغم ذلك فإنّها كانت تمرّ وكأنّها عَدَم، فلا يتحدّث عنها إعلامٌ خارجيّ ولا داخليّ بل ولا يهتمّ بها إعلامُ الجبهة والجماعات الجهاديّة ولا يُروَّج لها ولا تُستثمر حقوقيّا ولا سياسيّا كورقةِ ضغطٍ وتأثيرٍ ولا تُوثَّق مَاجَرياتُها ونتائجُها والقمعُ الذي كان يُصاحبها، بحيث لو أراد المؤرّخ اليوم أن يكتب شيئا عن هذه الظاهرة خلال أكثر من سبع سنوات فلن يجد أيّ شيء مكتوب ومدوّن وموّثق ما عدا ما يمكن أن يقدّمه أرشيف إدارات السجون ووزارة العدل أو ما يستطيع المؤرخ والباحث أن يجمعه من أفواه المشاركين فيها الذين لم يكن أكثرهم يعبأ بتوثيقها وحفظ أحداثها.

هذا الإهمال السياسيّ والتنظيميّ والإعلاميّ للمساجين وقضاياهم ومعاركهم داخل السجون كان أحد أسباب اليأس والانفضاض من حول القضية الإسلاميّة والشعور بأنّهم رقم مهمل لا تأثير له وأنّهم يخوضون معركتهم وحدهم دون دعم ولا إسناد ولا توجيه.

لقد كانت جبهةُ التحرير الوطني إبّان ثورة التحرير (1954 – 1962) أكثرَ تنظيما في تعاملها مع السجون وأعمقَ وعيا وأشدّ اهتماما وأكثر استثمارا لها سياسيا وإعلاميّا، وهي تجربة كانت حاضرةً وموّثقة وشهودُها ما زالوا أحياءً إلى اليوم، لكن لا أحد من الجماعات المسلّحة أو الجبهة الإسلاميّة كلّف نفسه دراسةَ التجربة واستخلاص العبر منها وتطويرها من أجل استفادة أمثل وأفضل بما يناسب طبيعة الصراع في وقت التسعينيات.

ولم يكن هذا الإهمال مقتصرا على المساجين العاديّين ممّن كانت قضاياهم مرتبطة بالعمل المسلّح أو السياسيّ، بل الغريب أنّ قيادات الجبهة الإسلاميّة السياسيّة وعلى رأسها الشيخ علي بن حاج كانت تقوم بإضرابات واحتجاجات قويّة تؤتي ثمارها أحيانا وبرغم ذلك فلا أحد كان يوثّقها ولا يستفيد منها ويستثمرها ممّا يعني شيئا واحدا فقط: أنّ الجماعات المسلّحة والجبهة الإسلامية كليهما لم يكن في مستوى المعركة التي كانا يخوضانها ضدّ السلطة الانقلابيّة ولا كان قد أخذ لها أُهْبَتَها أو خطّط لها من قبل أو توقّعها واستشرفها وأنّ الشباب والكهول من كلّ فئات الشعب وأطيافه ومناطقه الذين امتلأت بهم السجون والجبال كانوا مادّة خاما وموردا بشريا كبيرا مؤمنا بقضيّته مستعدّا للتضحية من أجلها في حين كانت (القيادة) ضعيفةً فاقدةً لـ(الرؤية) تتخبّط وتتعامل مع الأحداث الكبرى بلا أيّ استراتيجيّة أو تخطيط ومنطق: (أحيني اليوم واقتُلْني غدا)، وأنّ ما بذلته من طاقات وجهود وسلاح وأموال وأرواح في صراعاتها البينيّة كان أكثر بكثير ممّا أنفقته في الخيارات الاستراتيجيّة ومن بينها الاستثمار في المورد البشريّ الهائل داخل السجون والذي بلغ في مجموعه ما لا يقلّ عن نصف مليون سجين كان يمكن أن يكون نصفهم على الأقلّ رصيدا بشريّا يحافظ على حياة القضيّة وعنفوانها واستمراريتها ويحفظها من الانحراف والاختراق والسقوط المَريع الذي تعرّضت له لاحقا والذي ما زالت آثارُه حيّةً وحاضرة في نفس كل من عاش تلك الفترة الصعبة القاسية..

وللحديث بقيّة ..
‏١٠‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٩:١٥ م‏
آية الله داريّا: ذروة السَّنام في ثورة الشام كرم الحفيان [لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] المقدمة إن كنت على بعد كيلومترات معدودة من القصر الجمهوري في قلب العاصمة دمشق، ويحوطك طوقٌ محكم من جيش النظام، جُلّهم من القوات الخاصة والنُخب العسكرية (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) مدعومةٍ بحشود من مقاتلي حزب الله اللبناني، والجميع يستميت في قتلك، وتسجل أرقام قياسية جديدة غير مسبوقة من آلاف البراميل والصواريخ المتفجرة المتساقطة من فوقك، ويتزامن ذلك كله مع حصار مطبق وحرب أمعاء وشُح دواء لا تقل عنفاً وضراوةً، ولا ترحم صغيراً ولا كبيراً، وليس لك من أداةٍ للمواجهة بعد عون الله -عز وجل- إلا سلاحاً فردياً خفيفاً وبعض السلاح المتوسط في ظل غياب تام للأسلحة الثقيلة خلا دبابة يتيمة، ثم تثبت على هذا الحال أربع سنوات متتالية، فاعلم أنك في حضرة داريّا ، "عاصمة البراميل" و "مقبرة الدبابات" و "أيقونة الثورة". أبهرت داريا (المدينة التاريخية العريقة، عاصمة الغوطة الغربية لدمشق) جميع الثوار ليس فقط بصمودها العسكري وإنما بتماسكها الاجتماعي وحسن تدبير إدارتها المحلية، مما جعلها قدوةً عمليةً ونموذجاً ملهماً للمدن والقرى الثائرة كافة في الثورة السورية وغيرها . أرّقت داريا النظام، وجعلته يصب جامَ غضبه وحقده على المدينة ، فلا شيء يهدده أكثر من تجربة ناجحة متكاملة تتناغم وتتكامل فيها مكونات الثورة الثلاثة: الفصائل العسكرية، والإدارة المدنية، والمجتمع الثوري في منطقة شديدة القرب من العاصمة دمشق، ذلك لأنها إن استُنسخت وعُمّمت على المناطق الثائرة الأخرى فإنها ستُشكِّل تهديداً وجودياً للسلطة الحاكمة في دمشق. بدايةً خَصَّص النظام لداريا النصيب الأكبر من براميله المتفجرة مما دعا الأمم المتحدة لإعلانها العاصمة السورية للبراميل المتفجرة ، إضافة إلى استهدافها بالكيماوي والنابالم الحارق مرات عديدة وارتكاب مجزرة مروعة بها استغرقت ثمانية أيام ذبحاً بالسكاكين، وراح ضحيتها أكثر من 700 شهيد أغلبهم نساء وأطفال !، مما أدى لنزوح أغلب سكان المدينة لمناطق أكثر أمناً نهاية 2012. ولأنها الأقدم حصاراً فقد تضاعفت معاناة أهلها وثوارها بسبب نقص الغذاء الضروري لمواصلة القتال وانتهاء صلاحية الدواء وندرة الكوادر الطبية في ظل وجود مشفى ميداني واحد فقط. ناهيك عن عدم توفُّر مضادات الدروع الفعّالة في التصدي لحملات النظام المصحوبة بمئات الآليات الثقيلة. بيد أن ذلك كله لم يمنع داريّا الأسطورة من أن تكون"الثَقب الأسود" و"مثلث برمودا" للنظام وترسانته العسكرية قاتلة وملتهمةً ومدمرةً في ألف يومٍ من الحصار ما مجموعه: 5000 رجل و60 دبابة و 67 دبابة معطوبة، ومغتنمةً دبابة واحدة ، الدبابة اليتيمة من نوع (T72)كانت آلةً عجيبة بحق، مِلؤها البركة، فرغم عَرَجِها الطارئ في أثناء الاستيلاء عليها بفقدان أحد عجلاتها، ومع تعطل الكثير من ميزاتها الفنية، وكانت بالسنة الأخيرة تعمل بمواد بلاستيكية عوضاً عن الوقود المفقود في المدينة، إلا أنها خاضت خلال أربع سنوات أكثر من 12معركة، تعرضت خلالها لأكثر من 14 قذيفة، وظلت صامدة في الميدان إلى أن سقطت المدينة وهجرها أهلها مع نهاية 2016م عقب تدمير ما يقارب80% من بِناها التحتية، فتم إعطابها كي لا يستفيد النظام منها . والسؤال المهم هنا: كيف صمد 1500 مجاهد من أبناء داريا بوجه كل هذه الأهوال؟ وما العوامل التي أدت لتماسكها وخوضها لهذه الملحمة العظيمة؟ والجواب كالتالي: أولا: الشحن الديني الإيماني عند تأمل تجربة داريا لا يسعنا إلا أن نتذكّر كلاماً ساحراً للفيلسوف الإسلامي المجاهد رئيس البوسنة السابق علي عزت بيجوفتش حين قال: "إن المجتمع العاجز عن التدين هو أيضاً عاجز عن الثورة، والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعاً من المشاعر الدينية الحية، إن مشاعر الأخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية في صميم جوهرها، وإنما موجهة في ثورة لتحقيق العدالة والجنة على هذه الأرض ". لا أشك لوهلةٍ أن جميع من انخرط في الثورات العربية شعر بهذه الأحاسيس الجياشة في نفسه، ورآها بعيني رأسه في ميادين الحرية وساحات القتال والجهاد، وكما أن الثبات الثوري مرتبطٌ باستمرار الشحن الإيماني وبجودته، فإن الأجواء الثورية تَزيد الإنسانَ إيماناً وتعلقاً بربه. ولنا في داريا وأهلها مثلاً مذهلاً في هذا الجانب، فالداريانيّون معروفون بالتدين والخُلق الحسن من قَبل الثورة، والثورة زادتهم إيماناً وأخرجت أفضل ما فيهم، فاشتَهر شبابُها بِرِقَّة قلوبهم وصفاء نفوسهم تجاه حاضنتهم الشعبية وبإيثارهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، في نفس الوقت الذي يُشنُّون فيه أشجع الاقتحامات وأعنف الغارات على عدو أمتهم وشعبهم . لهذا استحقت داريا لقب "أيقونة الثورة السورية"، فنمطها الثوري لم يكن حَميّةً حماسية بغرض الانتقام من النظام المجرم سرعان ما تنطفئ جذوتها عند هبوب رياح الحرب الضروس، ولم يكن متديِّنُها جاهلاً معتدياً لا يرى الحق إلا في جماعته، فيوجه رصاصه للثورة وأهلها تقرباً لله!، إنما كان نهجها إيمانياً ثورياً شهد بذلك القاصي والداني. ثانياً: تفرغ الفصائل للقتال والمجلس المحلي لإدارة المدينة أدركت فصائل داريا العسكرية منذ بداية الثورة ضراوة المعركة وأبعادها الإقليمية والدولية وتنبهت لحجم التحديات وثقل المسؤوليات، فصبت جميع جهودها على العمل العسكري ورفعت جاهزية جنودها وخاضت أشرس المعارك على أسوار دمشق، وتيقنت أن إمكانياتها وقدراتها وطاقاتها لا تكفي لإدارة المدينة من جميع الجوانب الإغاثية والتعليمية والأمنية والإعلامية والطبية والعلاقات الخارجية وغيرها، وبعد اجتماعات ومشاورات شُكِّل المجلس المحلي من مجموعة كبيرة من الخبرات والمختصين الأكفياء ذوي الدين والخلق وأوكلت إليه إدارة جميع الملفات داخل المدينة. استمر المجلس في عمله بصورة ممتازة وأصبح مضرباً للمثل كإدراة محلية تقوم بالاستفادة من الموارد المتاحة وتوفر الخدمات الأساسية قدر استطاعتها من طعام ودواء وتعليم وصحة في ظل ظروف الحصار الخانق التي مرت به المدينة، مما أثمر صموداً أسطورياً سيُحكى لأجيال مقبلة . وفي المقابل، ونتيجةً لتفرغ عناصرها طورت الفصائل العسكرية -المنتسبة جميعاً للجيش الحر وعلى رأسها لواء شهداء الإسلام- قدراتها القتالية بشكل كبير بما تيسر لديها من أسلحة خفيفة، فاعتمدت على تأهيل جميع عناصرها وجعلهم انغماسيين واقتحاميين يتسللون إلى مواقع العدو ويلتحمون معه بشكل مباشر، وقد أبدعوا في هذا المجال وأذاقوا جيش النظام وحلفائه الطائفيين المُرّ العلقم طوال سنوات الحصار الجائر . من الأهمية بمكان التنبيهُ هنا إلى خطأ كارثي وقعت به الفصائل الكبيرة بالثورة السورية، فمع تضخم الفصائل بعد عمليات التحرير الواسعة في بداية 2013م التي امتدت لتشمل 80% من الأرض السورية، ومع ازدياد عدد جنودها، بدأت بإزاحة المجالس المحلية المنتشرة بالمناطق كافة، والمشكلة غالباً من أهل المناطق نفسها، فنشأت ثلاث مشاكل كبيرة: سَحْب قسم من المقاتلين من الجبهات، بدء التنازع بين الفصائل حول أحقية إدارة كل منطقة، إقصاء بعض الكفاءات من المجالس المحلية السابقة واستبدال عناصرها بهم، وهو ما تجنَّبته فصائل داريا ولم تشغل نفسها به، وصرفت همها كله للتركيز على العمل العسكري. ثالثاً: واقعية الهدف واستخدام جميع الوسائل المتاحة لتحقيقه تمسكت داريا ببوصلة الثورة المجمع عليها، ولم تنجرف وراء مشاريع حالمة حارقة للمراحل ومدمرة للثورات. فالهدف المرحلي الأهم المجمع عليه بين مكونات الثورة كلها والمتمثل في إسقاط النظام ونزع شرعيته السياسية وتفكيك أدوات بطشه: المؤسسات العسكرية والأمنية، هذا الهدف الواقعي إن لم يتحقق فلا يمكن الحديث عن هيكلة الدولة المستقبلية، بل إن هذا الهدف يحتاج لتكثيف الجهود العسكرية وتأطير الجهود السياسية خاصة مع وجود حلفاء إقليميين ودوليين أقوياء في الطرف المقابل حريصين على بقاء النظام كما هو، ولا يقتصر الأمر على روسيا وإيران بل يشمل العديد من الدول العربية والغربية. من أجل هذا لم تجد أهم وأكبر فصائل داريا (لواء شهداء الإسلام) بُدّاً من تَلقِّي الدعم من غرفة العمليات الدولية المعروفة بـ "الموك" والواقعة بالأردن والتي تترأسها أمريكا، وتشارك بها بريطانيا وفرنسا والإمارات والسعودية وغيرها من الدول. وبالرغم من تنامي الدور الإستراتيجي السلبي الخبيث لهذه الغرفة بتبريد بعض الجبهات المشتعلة، وإيقاف دعم جبهات أخرى في مختلف أرجاء البلاد مما أدى إلى سقوط عدة مناطق منها داريا نفسها ، فإن داريا واصلت قبول الدعم والاستعانة به في ظل ظروفها الصعبة واشتداد حملة النظام وحلفائه على المدينة. وبعد ثبات أسطوري منقطع النظير، ضيَّق النظام الخناق على داريا وكثّفت روسيا من قصفها على ما تبقى من إنسان داريا وحجرها، فحُصر 700 مقاتل وسبعة آلاف من الأهالي في بقعة جغرافية لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، ومع التخاذل الملحوظ خاصة من فصائل الجبهة الجنوبية (أكبر تجمع للجيش الحر) في درعا ، هُجّر الداريانيون إلى الشمال السوري المحرر في 26أغسطس 2016م، ليُسدل الستار على هذه الملحمة التاريخية، وينحاز مجاهدو داريا إلى مدينة إدلب. في إدلب، استُقبل أبطال داريا بحفاوة بالغة من الأهالي والفصائل حتى إن بعض المحلات التجارية رفضت تقاضي أي أثمان لما يشترونه ثوار داريا تقديراً لثباتهم العظيم وعرفاناً بما قدموه في الثورة . وبعد أخذ استراحة محارب واستقرار وضعهم بإدلب استأنف رجال داريا تدريبهم عبر معسكرات جديدة فتحوها وشاركوا في بعض العمليات الكبيرة في حلب وحماة، ولم يُعكِّر هذه المشاعر وقتها إلا بعض الحوادث المزعجة في أول ثلاثة أشهر من وصولهم إلى إدلب من المنتسبين لتيار فكري (منتشر في عدة فصائل كبرى) كان الجهة الأكثر نشاطاً في الاقتتالات والقلاقل الداخلية التي مزقت جسد الثورة العسكري أيَّما تمزيق، فتم اعتقال عدد من عناصر لواء شهداء الإسلام (الفصيل الأكبر في داريا) وصودرت أسلحتُهم وآلياتهم من بعض عناصر جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) متهمين إياهم بالردة والعمالة لأمريكا !. وبعدها هدأت الأمور وحُل الإشكال وأُفرج عن المعتقلين ليواصلوا إعدادهم وجهادهم إلى أن دخلت الثورة برمتها في نفق مظلم من التراجع والهُدَن والتهجيرات والسبات العسكري نتيجة لأسباب كثيرة داخلية وضغوطات رهيبة خارجية (ليس هنا محل ذكرها وتفصيلها)، إلا أنه لم تنتهِ المعركة بعد طالما بقيت الثورة ممسكة بسلاحها ومصححة لأخطائها ومرتقبة فرصة الانقضاض على عدوها من جديد. خاتمة نجحت داريا في تجديد الأمل وزع الثقة في نفوس الثوار خلال مسيرتها عبر تقديم نموذجٍ مبهر متكامل للعمل الثوري، فلم يقتصر إنجازها على ملحمة عسكرية نادرة ستُسجّل في أشرف سجلات التاريخ البشري وفي موقع من أهم المواقع الجيو/سياسية في العالم، بل تعداه إلى نجاح متميز في الإدارة الذاتية للمدينة المحررة رغم نقص الإمكانات المادية المتاحة، وذلك بتقديم الكفاءات والكوادر المتميزة الثائرة من أهل البلد كلٌّ في مجاله، وهو أمر في الأهمية غاية، لاستمرار إيمان الشعوب بالثورات وقدرتها على التحول لدولة في المستقبل، وفوق ذلك كله قدمت صورة مبهرة لأثر الإيمان الرباني المُفعّل في تكوين شخصيات سويّة متوازنة تمارس الجهاد (العنيف) ضد أعداء أمتها دون أن تفقد التراحم (الأسيف) مع أبناء أمتها مع تخطيطها وتنفيذها لبرنامج (حصيف) لمستقبل أمتها يفرق بين أهدافها المرحلية والغائية، وهو ما يجعلنا نجدد الأمل كل يوم ببروز مثل هذه النماذج على امتداد الرقعة الثائرة من عالمنا الإسلامي.
آية الله داريّا: ذروة السَّنام في ثورة الشام

كرم الحفيان

[لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

المقدمة

إن كنت على بعد كيلومترات معدودة من القصر الجمهوري في قلب العاصمة دمشق، ويحوطك طوقٌ محكم من جيش النظام، جُلّهم من القوات الخاصة والنُخب العسكرية (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) مدعومةٍ بحشود من مقاتلي حزب الله اللبناني، والجميع يستميت في قتلك، وتسجل أرقام قياسية جديدة غير مسبوقة من آلاف البراميل والصواريخ المتفجرة المتساقطة من فوقك، ويتزامن ذلك كله مع حصار مطبق وحرب أمعاء وشُح دواء لا تقل عنفاً وضراوةً، ولا ترحم صغيراً ولا كبيراً، وليس لك من أداةٍ للمواجهة بعد عون الله -عز وجل- إلا سلاحاً فردياً خفيفاً وبعض السلاح المتوسط في ظل غياب تام للأسلحة الثقيلة خلا دبابة يتيمة، ثم تثبت على هذا الحال أربع سنوات متتالية، فاعلم أنك في حضرة داريّا ، "عاصمة البراميل" و "مقبرة الدبابات" و "أيقونة الثورة".

أبهرت داريا (المدينة التاريخية العريقة، عاصمة الغوطة الغربية لدمشق) جميع الثوار ليس فقط بصمودها العسكري وإنما بتماسكها الاجتماعي وحسن تدبير إدارتها المحلية، مما جعلها قدوةً عمليةً ونموذجاً ملهماً للمدن والقرى الثائرة كافة في الثورة السورية وغيرها .

أرّقت داريا النظام، وجعلته يصب جامَ غضبه وحقده على المدينة ، فلا شيء يهدده أكثر من تجربة ناجحة متكاملة تتناغم وتتكامل فيها مكونات الثورة الثلاثة: الفصائل العسكرية، والإدارة المدنية، والمجتمع الثوري في منطقة شديدة القرب من العاصمة دمشق، ذلك لأنها إن استُنسخت وعُمّمت على المناطق الثائرة الأخرى فإنها ستُشكِّل تهديداً وجودياً للسلطة الحاكمة في دمشق.

بدايةً خَصَّص النظام لداريا النصيب الأكبر من براميله المتفجرة مما دعا الأمم المتحدة لإعلانها العاصمة السورية للبراميل المتفجرة ، إضافة إلى استهدافها بالكيماوي والنابالم الحارق مرات عديدة وارتكاب مجزرة مروعة بها استغرقت ثمانية أيام ذبحاً بالسكاكين، وراح ضحيتها أكثر من 700 شهيد أغلبهم نساء وأطفال !، مما أدى لنزوح أغلب سكان المدينة لمناطق أكثر أمناً نهاية 2012.

ولأنها الأقدم حصاراً فقد تضاعفت معاناة أهلها وثوارها بسبب نقص الغذاء الضروري لمواصلة القتال وانتهاء صلاحية الدواء وندرة الكوادر الطبية في ظل وجود مشفى ميداني واحد فقط. ناهيك عن عدم توفُّر مضادات الدروع الفعّالة في التصدي لحملات النظام المصحوبة بمئات الآليات الثقيلة.

بيد أن ذلك كله لم يمنع داريّا الأسطورة من أن تكون"الثَقب الأسود" و"مثلث برمودا" للنظام وترسانته العسكرية قاتلة وملتهمةً ومدمرةً في ألف يومٍ من الحصار ما مجموعه: 5000 رجل و60 دبابة و 67 دبابة معطوبة، ومغتنمةً دبابة واحدة ،
الدبابة اليتيمة من نوع (T72)كانت آلةً عجيبة بحق، مِلؤها البركة، فرغم عَرَجِها الطارئ في أثناء الاستيلاء عليها بفقدان أحد عجلاتها، ومع تعطل الكثير من ميزاتها الفنية، وكانت بالسنة الأخيرة تعمل بمواد بلاستيكية عوضاً عن الوقود المفقود في المدينة، إلا أنها خاضت خلال أربع سنوات أكثر من 12معركة، تعرضت خلالها لأكثر من 14 قذيفة، وظلت صامدة في الميدان إلى أن سقطت المدينة وهجرها أهلها مع نهاية 2016م عقب تدمير ما يقارب80% من بِناها التحتية، فتم إعطابها كي لا يستفيد النظام منها .

والسؤال المهم هنا: كيف صمد 1500 مجاهد من أبناء داريا بوجه كل هذه الأهوال؟ وما العوامل التي أدت لتماسكها وخوضها لهذه الملحمة العظيمة؟ والجواب كالتالي:

أولا: الشحن الديني الإيماني

عند تأمل تجربة داريا لا يسعنا إلا أن نتذكّر كلاماً ساحراً للفيلسوف الإسلامي المجاهد رئيس البوسنة السابق علي عزت بيجوفتش حين قال: "إن المجتمع العاجز عن التدين هو أيضاً عاجز عن الثورة، والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعاً من المشاعر الدينية الحية، إن مشاعر الأخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية في صميم جوهرها، وإنما موجهة في ثورة لتحقيق العدالة والجنة على هذه الأرض ".

لا أشك لوهلةٍ أن جميع من انخرط في الثورات العربية شعر بهذه الأحاسيس الجياشة في نفسه، ورآها بعيني رأسه في ميادين الحرية وساحات القتال والجهاد، وكما أن الثبات الثوري مرتبطٌ باستمرار الشحن الإيماني وبجودته، فإن الأجواء الثورية تَزيد الإنسانَ إيماناً وتعلقاً بربه.

ولنا في داريا وأهلها مثلاً مذهلاً في هذا الجانب، فالداريانيّون معروفون بالتدين والخُلق الحسن من قَبل الثورة، والثورة زادتهم إيماناً وأخرجت أفضل ما فيهم، فاشتَهر شبابُها بِرِقَّة قلوبهم وصفاء نفوسهم تجاه حاضنتهم الشعبية وبإيثارهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، في نفس الوقت الذي يُشنُّون فيه أشجع الاقتحامات وأعنف الغارات على عدو أمتهم وشعبهم .

لهذا استحقت داريا لقب "أيقونة الثورة السورية"، فنمطها الثوري لم يكن حَميّةً حماسية بغرض الانتقام من النظام المجرم سرعان ما تنطفئ جذوتها عند هبوب رياح الحرب الضروس، ولم يكن متديِّنُها جاهلاً معتدياً لا يرى الحق إلا في جماعته، فيوجه رصاصه للثورة وأهلها تقرباً لله!، إنما كان نهجها إيمانياً ثورياً شهد بذلك القاصي والداني.

ثانياً: تفرغ الفصائل للقتال والمجلس المحلي لإدارة المدينة

أدركت فصائل داريا العسكرية منذ بداية الثورة ضراوة المعركة وأبعادها الإقليمية والدولية وتنبهت لحجم التحديات وثقل المسؤوليات، فصبت جميع جهودها على العمل العسكري ورفعت جاهزية جنودها وخاضت أشرس المعارك على أسوار دمشق، وتيقنت أن إمكانياتها وقدراتها وطاقاتها لا تكفي لإدارة المدينة من جميع الجوانب الإغاثية والتعليمية والأمنية والإعلامية والطبية والعلاقات الخارجية وغيرها، وبعد اجتماعات ومشاورات شُكِّل المجلس المحلي من مجموعة كبيرة من الخبرات والمختصين الأكفياء ذوي الدين والخلق وأوكلت إليه إدارة جميع الملفات داخل المدينة.

استمر المجلس في عمله بصورة ممتازة وأصبح مضرباً للمثل كإدراة محلية تقوم بالاستفادة من الموارد المتاحة وتوفر الخدمات الأساسية قدر استطاعتها من طعام ودواء وتعليم وصحة في ظل ظروف الحصار الخانق التي مرت به المدينة، مما أثمر صموداً أسطورياً سيُحكى لأجيال مقبلة .

وفي المقابل، ونتيجةً لتفرغ عناصرها طورت الفصائل العسكرية -المنتسبة جميعاً للجيش الحر وعلى رأسها لواء شهداء الإسلام- قدراتها القتالية بشكل كبير بما تيسر لديها من أسلحة خفيفة، فاعتمدت على تأهيل جميع عناصرها وجعلهم انغماسيين واقتحاميين يتسللون إلى مواقع العدو ويلتحمون معه بشكل مباشر، وقد أبدعوا في هذا المجال وأذاقوا جيش النظام وحلفائه الطائفيين المُرّ العلقم طوال سنوات الحصار الجائر .

من الأهمية بمكان التنبيهُ هنا إلى خطأ كارثي وقعت به الفصائل الكبيرة بالثورة السورية، فمع تضخم الفصائل بعد عمليات التحرير الواسعة في بداية 2013م التي امتدت لتشمل 80% من الأرض السورية، ومع ازدياد عدد جنودها، بدأت بإزاحة المجالس المحلية المنتشرة بالمناطق كافة، والمشكلة غالباً من أهل المناطق نفسها، فنشأت ثلاث مشاكل كبيرة: سَحْب قسم من المقاتلين من الجبهات، بدء التنازع بين الفصائل حول أحقية إدارة كل منطقة، إقصاء بعض الكفاءات من المجالس المحلية السابقة واستبدال عناصرها بهم، وهو ما تجنَّبته فصائل داريا ولم تشغل نفسها به، وصرفت همها كله للتركيز على العمل العسكري.

ثالثاً: واقعية الهدف واستخدام جميع الوسائل المتاحة لتحقيقه

تمسكت داريا ببوصلة الثورة المجمع عليها، ولم تنجرف وراء مشاريع حالمة حارقة للمراحل ومدمرة للثورات. فالهدف المرحلي الأهم المجمع عليه بين مكونات الثورة كلها والمتمثل في إسقاط النظام ونزع شرعيته السياسية وتفكيك أدوات بطشه: المؤسسات العسكرية والأمنية، هذا الهدف الواقعي إن لم يتحقق فلا يمكن الحديث عن هيكلة الدولة المستقبلية، بل إن هذا الهدف يحتاج لتكثيف الجهود العسكرية وتأطير الجهود السياسية خاصة مع وجود حلفاء إقليميين ودوليين أقوياء في الطرف المقابل حريصين على بقاء النظام كما هو، ولا يقتصر الأمر على روسيا وإيران بل يشمل العديد من الدول العربية والغربية.

من أجل هذا لم تجد أهم وأكبر فصائل داريا (لواء شهداء الإسلام) بُدّاً من تَلقِّي الدعم من غرفة العمليات الدولية المعروفة بـ "الموك" والواقعة بالأردن والتي تترأسها أمريكا، وتشارك بها بريطانيا وفرنسا والإمارات والسعودية وغيرها من الدول. وبالرغم من تنامي الدور الإستراتيجي السلبي الخبيث لهذه الغرفة بتبريد بعض الجبهات المشتعلة، وإيقاف دعم جبهات أخرى في مختلف أرجاء البلاد مما أدى إلى سقوط عدة مناطق منها داريا نفسها ، فإن داريا واصلت قبول الدعم والاستعانة به في ظل ظروفها الصعبة واشتداد حملة النظام وحلفائه على المدينة.

وبعد ثبات أسطوري منقطع النظير، ضيَّق النظام الخناق على داريا وكثّفت روسيا من قصفها على ما تبقى من إنسان داريا وحجرها، فحُصر 700 مقاتل وسبعة آلاف من الأهالي في بقعة جغرافية لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، ومع التخاذل الملحوظ خاصة من فصائل الجبهة الجنوبية (أكبر تجمع للجيش الحر) في درعا ، هُجّر الداريانيون إلى الشمال السوري المحرر في 26أغسطس 2016م، ليُسدل الستار على هذه الملحمة التاريخية، وينحاز مجاهدو داريا إلى مدينة إدلب.

في إدلب، استُقبل أبطال داريا بحفاوة بالغة من الأهالي والفصائل حتى إن بعض المحلات التجارية رفضت تقاضي أي أثمان لما يشترونه ثوار داريا تقديراً لثباتهم العظيم وعرفاناً بما قدموه في الثورة .

وبعد أخذ استراحة محارب واستقرار وضعهم بإدلب استأنف رجال داريا تدريبهم عبر معسكرات جديدة فتحوها وشاركوا في بعض العمليات الكبيرة في حلب وحماة، ولم يُعكِّر هذه المشاعر وقتها إلا بعض الحوادث المزعجة في أول ثلاثة أشهر من وصولهم إلى إدلب من المنتسبين لتيار فكري (منتشر في عدة فصائل كبرى) كان الجهة الأكثر نشاطاً في الاقتتالات والقلاقل الداخلية التي مزقت جسد الثورة العسكري أيَّما تمزيق، فتم اعتقال عدد من عناصر لواء شهداء الإسلام (الفصيل الأكبر في داريا) وصودرت أسلحتُهم وآلياتهم من بعض عناصر جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) متهمين إياهم بالردة والعمالة لأمريكا !.

وبعدها هدأت الأمور وحُل الإشكال وأُفرج عن المعتقلين ليواصلوا إعدادهم وجهادهم إلى أن دخلت الثورة برمتها في نفق مظلم من التراجع والهُدَن والتهجيرات والسبات العسكري نتيجة لأسباب كثيرة داخلية وضغوطات رهيبة خارجية (ليس هنا محل ذكرها وتفصيلها)، إلا أنه لم تنتهِ المعركة بعد طالما بقيت الثورة ممسكة بسلاحها ومصححة لأخطائها ومرتقبة فرصة الانقضاض على عدوها من جديد.

خاتمة

نجحت داريا في تجديد الأمل وزع الثقة في نفوس الثوار خلال مسيرتها عبر تقديم نموذجٍ مبهر متكامل للعمل الثوري، فلم يقتصر إنجازها على ملحمة عسكرية نادرة ستُسجّل في أشرف سجلات التاريخ البشري وفي موقع من أهم المواقع الجيو/سياسية في العالم، بل تعداه إلى نجاح متميز في الإدارة الذاتية للمدينة المحررة رغم نقص الإمكانات المادية المتاحة، وذلك بتقديم الكفاءات والكوادر المتميزة الثائرة من أهل البلد كلٌّ في مجاله، وهو أمر في الأهمية غاية، لاستمرار إيمان الشعوب بالثورات وقدرتها على التحول لدولة في المستقبل، وفوق ذلك كله قدمت صورة مبهرة لأثر الإيمان الرباني المُفعّل في تكوين شخصيات سويّة متوازنة تمارس الجهاد (العنيف) ضد أعداء أمتها دون أن تفقد التراحم (الأسيف) مع أبناء أمتها مع تخطيطها وتنفيذها لبرنامج (حصيف) لمستقبل أمتها يفرق بين أهدافها المرحلية والغائية، وهو ما يجعلنا نجدد الأمل كل يوم ببروز مثل هذه النماذج على امتداد الرقعة الثائرة من عالمنا الإسلامي.
‏٠٨‏/٠٦‏/٢٠١٨ ١٠:١٤ م‏
افتتاحية العدد الجديد.. حازم صلاح أبو إسماعيل @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد: http://bit.ly/2J1Avxy] في لحظة كتابة هذه السطور تأكد عندي خبر إضراب الشيخ حازم أبو إسماعيل عن الطعام في سجنه، اعتراضا منه على سوء المعاملة وانتهاك الحقوق للسجناء، وهذا بالإضافة إلى أنه لم يَرَ أهله منذ نحو العامين لا في زيارات السجن كما أنهم يُمنعون من حضور المحاكمة.. والشيخ منذ سُجِنَ في يوليو 2013 وحتى اللحظة وهو في زنزانة انفرادية ويُقصد ألا يكون له اختلاط ببقية الأسرى. الكلام عن الشيخ حازم يطول ويطول، والذكريات والتأملات في مواقفه لا تنتهي، فلقد كان بغير منافس أقوى شخصية سياسية وإسلامية في مصر كلها ولا أعرف له شبيها في العالم العربي والإسلامي أيضا، والذي ما كان ليقف أمامه أحد ولا لينافسه أحد إن وصل إلى الانتخابات، فلم يكن في مصر استطلاع رأي شبه نزيه إلا ويكشف عن الاكتساح الكامل للشيخ حازم وبفارق واسع عن أقرب منافس. حازم أبو إسماعيل كان حجة الله على الإسلاميين جميعا، فيه التزام وانضباط وهدي ظاهر هو حجة على السلفيين، وفيه هدوء وعقل وسياسة وإقناع وأسلوب دعوي هو حجة على الإخوان، وفيه ثورية ومفاصلة وجرأة هي حجة على الجهاديين، وفيه أخلاق ورحمة وخفض جناح ولين هو حجة على المتصوفة والتبليغيين.. لم ير الناس مثله، ولم ير هو مثل نفسه. وكنت قبل خمس سنوات (بالتحديد: 17 مايو 2013م) وقبل وقوع الانقلاب العسكري قد كتبت فيه مقالا، رأيت الآن أنه من المفيد إعادة نشره تذكيرا بملخص سيرة الرجل: حازم أبو إسماعيل.. فَصْلٌ في التجرد ليشهد الناس أن الشيخ حازم أبو إسماعيل كان أبعد الناس -في كل الفترة الماضية- عن محاولة صناعة مجد شخصي له، وأنه كان الحاضر في المغرم والمتعفف المبتعد عند المغنم، وأن السهام التي أصابته قد أصابته من الجميع حتى من يُتَّهَم بأنه منهم ويعمل لمصلحتهم، وأن بعض ما نزل به جاءه من مأمنه.. وهذه بعض مشاهد مما يعرفها الجميع، ثم تبقى المشاهد الكبرى إلى حين يأتي وقتها لتكتب في صفحة التاريخ. 1. كان الشيخ حازم من الوجوه الرئيسية في ميدان التحرير ومنذ اليوم الأول، لكنه عزف عن الظهور الإعلامي قبل وبعد تنحي المخلوع حتى أن أغلب أنصاره وتابعيه الذين تعرفوا عليه فيما بعد اكتشفوا أنه ذلك الذي كان يخطب على منصة التحرير ولم يكونوا يعرفون اسمه. 2. ولم يظهر الشيخ حازم إعلاميا ولم يخرج على الساحة إلا حين فشلت كل مساعيه في إقناع الكيانات الإسلامية بالترشح للرئاسة التي أصرت في ذلك الوقت على أن الإسلاميين لا يصلحون لهذه المرحلة، وكانوا يبحثون عن "الرئيس التوافقي"! 3. وحين كانت كل الكيانات (إسلامية وغير إسلامية) تلين مع المجلس العسكري كان الشيخ حازم هو الوحيد الذي كشف تلاعبهم بالثورة ومحاولات ترويضهم للشعب وقال كلمته المشهورة التي ارتاع لها الجميع "هؤلاء ذئاب وثعالب"، ورغم علمه أن أحدا لن يدعمه في موقف كهذا إلا أنه نطق به، وأثبتت الأيام صحة رؤيته. 4. وحين خفت صوت الثورة، وظهر التراخي في تسليم السلطة، خرج الشيخ حازم وحيدا في جمعة 28 أكتوبر ثم في 18 نوفمبر لتكون جمعة "المطلب الوحيد.. تسليم السلطة"، وهي الجمعة التي تلتها أحداث محمد محمود والتي لم ينزل فيها من الإسلاميين إلا الشيخ حازم وأنصاره، وبه وبأنصاره فشلت فكرة المجلس الرئاسي المدني وأُجْبِر المجلس العسكري على تحديد موعد الانتخابات الرئاسية (بعد أن توافقت كل الأحزاب -إسلامية وغير إسلامية- على تأجيلها إلى منتصف 2013 بحد أدنى وكتابة الدستور تحت حكم العسكر).. وبهاتين الجمعتين وأحداث محمد محمود عاد صوت الثورة عاليا بعدما ظن الجميع أنه إلى زوال. 5. هذا الرجل الذي وضع جهوده لاستكمال مسار الثورة والحفاظ على المسار السياسي الذي اختاره الشعب لم يحاول أن يصنع لنفسه حزبا أو أن يدخل في تحالف في الانتخابات البرلمانية، وفضَّل أن يقف وراء الكيانات الإسلامية القائمة وأن يدعمها بكل قوته، وقد كان، ثم تعهدها بالنصيحة التي كان أهمها وأشهرها: سرعة إصدار قانون السلطة القضائية، لكن الجميع كان يراه مندفعا وكان يحسب أن الأمر ليس بهذه الخطورة حتى أثبتت الأيام من الذي كان على بصيرة. 6. لقد كان وجود الشيخ حازم وأنصاره في المواطن الثورية مما رفع عن الإسلاميين أخطاء الكيانات الإسلامية التي شملها الخوف والحذر والحرص حتى ابتعدت بنفسها عن كل موطن شرف خشية أن يكون فخا منصوبا، لقد كان وجوده مما عصم شباب الإسلاميين من فتنة هائلة في مشايخهم ورموزهم، وهي فتنة الله أعلم كيف كان سيكون اتساعها إذا خلت الصورة من إسلامي ثائر في لحظة ثورية!! 7. ونجحت تجربة الشيخ حازم في الرئاسة كما لم يتوقع أحد، لا الكيانات الإسلامية ولا غيرها، وكانت حملته هي الأضخم على الإطلاق، وحقق الشيخ في كل استطلاعات الرأي المركز الأول وبفارق كبير عمن بعده.. وهي التجربة التي لم يدعمه فيها أحد من الكيانات الإسلامية بل إنهم حاربوها لكثرة ما اجتذبت من شبابهم. 8. بل لقد تحرك كيان إسلامي ليضغط على آخر ليرشح مرشحا للرئاسة (من بعد ما رضي الجميع بعدم صلاحية الإسلامي للرئاسة، ومن بعد ما فشلوا في إيجاد الرئيس التوافقي) واستجاب الآخرون (رغم إصرارهم السابق على عدم الترشح للرئاسة)، ولم يتكلم الشيخ حازم في حق أحدهم بسوء رغم أن هذا مما يضر به على مستوى الحملة الانتخابية بشدة. 9. ثم أخرج الفاسدون تمثيلية "جنسية والدة الشيخ حازم"، وهي المؤامرة التي ما كان لها أن تنجح لولا سكوت -بل ومشاركة- بعض الكيانات الإسلامية في بعض فصولها -وهذه أمور قد نكشفها فيما بعد- لم يجد الشيخ دعما منهم، رغم أنه الذي مهد الطريق لفكرة المرشح الإسلامي. وظهرت أول مفسدة لعدم صدور قانون السلطة القضائية، فبذلك استبعد أقوى المرشحين الإسلاميين وبقي في المنافسة رجال النظام القديم، في إعلان صريح بأن ما فشل فيه مبارك والعسكر نجح فيه القضاة الفاسدون. 10. وحين حصل الشيخ حازم على حكم قضائي بأحقيته في خوض انتخابات الرئاسة ولم ينفذ، أوشك حكم آخر أن يصدر بوقف انتخابات الرئاسة (وهو الشق المستعجل من الدعوى) لكن الشيخ سارع بالتنازل عن الشق المستعجل لكي لا تقف انتخابات الرئاسة ولكي ينتقل الحكم إلى السلطة المنتخبة بأسرع وقت.. وهذا وحده موقف عظيم في التجرد وتقديم المصلحة العامة. 11. ودعم الشيخ حازم من تبقى من المرشحين الإسلاميين بكل ما يملك، وكان أنصاره من أقوى الفاعلين ضد مرشح النظام السابق ودعما وتأييدا للمرشح الإسلامي الباقي الذي صار بعدئذ رئيسا للجمهورية! 12. واعتصم الشيخ حازم في الميدان اعتراضا على الإعلان الدستوري الذي أصدره العسكر قبيل أيام من تسليم السلطة، وظل معتصما هو وأنصاره أكثر من شهر، حتى صاروا وحدهم بل لقد انصرف مؤيدوا الرئيس أنفسهم، فلا استأذنه أحدهم ولا شاوره أحدهم، رغم أنه لا يدافع عن مصلحته الشخصية. 13. ورغم أن الشيخ حازم لم يحصل على منصب بل ولا على شكر إلا أنه كان حاضرا في كل موطن دعما للسلطة المدنية المنتخبة ضد النظام القديم، فكان من أوائل الواقفين على باب دار القضاء العالي مؤيدا للإعلان الدستوري الذي يعزل النائب العام ويحصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية.. ثم كانت وقفته الكبرى أمام مدينة الإنتاج الإعلامي والتي غيرت ميزان القوى في تلك اللحظة الحرجة بما أفشل مخطط الفاسدين وأنقذ سلطة رئيس الجمهورية! 14. ورغم التجارب المتعددة والمواقف المتكررة إلا أن الكيانات الإسلامية لم تغير منهجها الذي ينقل الإسلاميين من هوان إلى هوان ومن نزول إلى نزول، فساعتها ومع فشل كل النصائح والرسائل فكر الشيخ حازم في تكوين حزب ليؤسس للكيان الإسلامي الثوري البصير بالواقع ليترجم فكرته ومنهجه إلى عمل منظم واسع. 15. أيا كان موقفك أيها القارئ، إسلامي أو غير إسلامي، وأيا كان اتفاقك أو اختلافك مع كل ما سبق، فأحسب أنك لن تجادل في أن كل ما فعله حازم أبو إسماعيل لم يعد عليه بفائدة شخصية، بل كان خدمة لمبادئه ومنهجه ومواقفه حتى لو اختلفت معها. في النهاية، فإن هذه مجرد فصول، وهي معروفة للجميع، ولم نكشف عن بعض ما في الكواليس من أحداث.. وهي فصول في التجرد للمبدأ وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ولهذا يظل الشيخ حازم نموذجا فريدا في مصر، بل نحن نسأل: دلونا على رجل كانت له مثل هذه المواقف التي إن نجحت عاد النفع على غيره وإن فشلت فإن بعضها كان سيدفع الثمن فيها وحده. ... اللهم نسألك فرجا قريبا للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وسائر الأسرى في مصر وفي كل مكان.
افتتاحية العدد الجديد..

حازم صلاح أبو إسماعيل
محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد:
http://bit.ly/2J1Avxy]

في لحظة كتابة هذه السطور تأكد عندي خبر إضراب الشيخ حازم أبو إسماعيل عن الطعام في سجنه، اعتراضا منه على سوء المعاملة وانتهاك الحقوق للسجناء، وهذا بالإضافة إلى أنه لم يَرَ أهله منذ نحو العامين لا في زيارات السجن كما أنهم يُمنعون من حضور المحاكمة.. والشيخ منذ سُجِنَ في يوليو 2013 وحتى اللحظة وهو في زنزانة انفرادية ويُقصد ألا يكون له اختلاط ببقية الأسرى.

الكلام عن الشيخ حازم يطول ويطول، والذكريات والتأملات في مواقفه لا تنتهي، فلقد كان بغير منافس أقوى شخصية سياسية وإسلامية في مصر كلها ولا أعرف له شبيها في العالم العربي والإسلامي أيضا، والذي ما كان ليقف أمامه أحد ولا لينافسه أحد إن وصل إلى الانتخابات، فلم يكن في مصر استطلاع رأي شبه نزيه إلا ويكشف عن الاكتساح الكامل للشيخ حازم وبفارق واسع عن أقرب منافس.

حازم أبو إسماعيل كان حجة الله على الإسلاميين جميعا، فيه التزام وانضباط وهدي ظاهر هو حجة على السلفيين، وفيه هدوء وعقل وسياسة وإقناع وأسلوب دعوي هو حجة على الإخوان، وفيه ثورية ومفاصلة وجرأة هي حجة على الجهاديين، وفيه أخلاق ورحمة وخفض جناح ولين هو حجة على المتصوفة والتبليغيين.. لم ير الناس مثله، ولم ير هو مثل نفسه.

وكنت قبل خمس سنوات (بالتحديد: 17 مايو 2013م) وقبل وقوع الانقلاب العسكري قد كتبت فيه مقالا، رأيت الآن أنه من المفيد إعادة نشره تذكيرا بملخص سيرة الرجل:

حازم أبو إسماعيل.. فَصْلٌ في التجرد

ليشهد الناس أن الشيخ حازم أبو إسماعيل كان أبعد الناس -في كل الفترة الماضية- عن محاولة صناعة مجد شخصي له، وأنه كان الحاضر في المغرم والمتعفف المبتعد عند المغنم، وأن السهام التي أصابته قد أصابته من الجميع حتى من يُتَّهَم بأنه منهم ويعمل لمصلحتهم، وأن بعض ما نزل به جاءه من مأمنه.. وهذه بعض مشاهد مما يعرفها الجميع، ثم تبقى المشاهد الكبرى إلى حين يأتي وقتها لتكتب في صفحة التاريخ.

1. كان الشيخ حازم من الوجوه الرئيسية في ميدان التحرير ومنذ اليوم الأول، لكنه عزف عن الظهور الإعلامي قبل وبعد تنحي المخلوع حتى أن أغلب أنصاره وتابعيه الذين تعرفوا عليه فيما بعد اكتشفوا أنه ذلك الذي كان يخطب على منصة التحرير ولم يكونوا يعرفون اسمه.

2. ولم يظهر الشيخ حازم إعلاميا ولم يخرج على الساحة إلا حين فشلت كل مساعيه في إقناع الكيانات الإسلامية بالترشح للرئاسة التي أصرت في ذلك الوقت على أن الإسلاميين لا يصلحون لهذه المرحلة، وكانوا يبحثون عن "الرئيس التوافقي"!

3. وحين كانت كل الكيانات (إسلامية وغير إسلامية) تلين مع المجلس العسكري كان الشيخ حازم هو الوحيد الذي كشف تلاعبهم بالثورة ومحاولات ترويضهم للشعب وقال كلمته المشهورة التي ارتاع لها الجميع "هؤلاء ذئاب وثعالب"، ورغم علمه أن أحدا لن يدعمه في موقف كهذا إلا أنه نطق به، وأثبتت الأيام صحة رؤيته.

4. وحين خفت صوت الثورة، وظهر التراخي في تسليم السلطة، خرج الشيخ حازم وحيدا في جمعة 28 أكتوبر ثم في 18 نوفمبر لتكون جمعة "المطلب الوحيد.. تسليم السلطة"، وهي الجمعة التي تلتها أحداث محمد محمود والتي لم ينزل فيها من الإسلاميين إلا الشيخ حازم وأنصاره، وبه وبأنصاره فشلت فكرة المجلس الرئاسي المدني وأُجْبِر المجلس العسكري على تحديد موعد الانتخابات الرئاسية (بعد أن توافقت كل الأحزاب -إسلامية وغير إسلامية- على تأجيلها إلى منتصف 2013 بحد أدنى وكتابة الدستور تحت حكم العسكر).. وبهاتين الجمعتين وأحداث محمد محمود عاد صوت الثورة عاليا بعدما ظن الجميع أنه إلى زوال.

5. هذا الرجل الذي وضع جهوده لاستكمال مسار الثورة والحفاظ على المسار السياسي الذي اختاره الشعب لم يحاول أن يصنع لنفسه حزبا أو أن يدخل في تحالف في الانتخابات البرلمانية، وفضَّل أن يقف وراء الكيانات الإسلامية القائمة وأن يدعمها بكل قوته، وقد كان، ثم تعهدها بالنصيحة التي كان أهمها وأشهرها: سرعة إصدار قانون السلطة القضائية، لكن الجميع كان يراه مندفعا وكان يحسب أن الأمر ليس بهذه الخطورة حتى أثبتت الأيام من الذي كان على بصيرة.

6. لقد كان وجود الشيخ حازم وأنصاره في المواطن الثورية مما رفع عن الإسلاميين أخطاء الكيانات الإسلامية التي شملها الخوف والحذر والحرص حتى ابتعدت بنفسها عن كل موطن شرف خشية أن يكون فخا منصوبا، لقد كان وجوده مما عصم شباب الإسلاميين من فتنة هائلة في مشايخهم ورموزهم، وهي فتنة الله أعلم كيف كان سيكون اتساعها إذا خلت الصورة من إسلامي ثائر في لحظة ثورية!!

7. ونجحت تجربة الشيخ حازم في الرئاسة كما لم يتوقع أحد، لا الكيانات الإسلامية ولا غيرها، وكانت حملته هي الأضخم على الإطلاق، وحقق الشيخ في كل استطلاعات الرأي المركز الأول وبفارق كبير عمن بعده.. وهي التجربة التي لم يدعمه فيها أحد من الكيانات الإسلامية بل إنهم حاربوها لكثرة ما اجتذبت من شبابهم.

8. بل لقد تحرك كيان إسلامي ليضغط على آخر ليرشح مرشحا للرئاسة (من بعد ما رضي الجميع بعدم صلاحية الإسلامي للرئاسة، ومن بعد ما فشلوا في إيجاد الرئيس التوافقي) واستجاب الآخرون (رغم إصرارهم السابق على عدم الترشح للرئاسة)، ولم يتكلم الشيخ حازم في حق أحدهم بسوء رغم أن هذا مما يضر به على مستوى الحملة الانتخابية بشدة.

9. ثم أخرج الفاسدون تمثيلية "جنسية والدة الشيخ حازم"، وهي المؤامرة التي ما كان لها أن تنجح لولا سكوت -بل ومشاركة- بعض الكيانات الإسلامية في بعض فصولها -وهذه أمور قد نكشفها فيما بعد- لم يجد الشيخ دعما منهم، رغم أنه الذي مهد الطريق لفكرة المرشح الإسلامي. وظهرت أول مفسدة لعدم صدور قانون السلطة القضائية، فبذلك استبعد أقوى المرشحين الإسلاميين وبقي في المنافسة رجال النظام القديم، في إعلان صريح بأن ما فشل فيه مبارك والعسكر نجح فيه القضاة الفاسدون.

10. وحين حصل الشيخ حازم على حكم قضائي بأحقيته في خوض انتخابات الرئاسة ولم ينفذ، أوشك حكم آخر أن يصدر بوقف انتخابات الرئاسة (وهو الشق المستعجل من الدعوى) لكن الشيخ سارع بالتنازل عن الشق المستعجل لكي لا تقف انتخابات الرئاسة ولكي ينتقل الحكم إلى السلطة المنتخبة بأسرع وقت.. وهذا وحده موقف عظيم في التجرد وتقديم المصلحة العامة.

11. ودعم الشيخ حازم من تبقى من المرشحين الإسلاميين بكل ما يملك، وكان أنصاره من أقوى الفاعلين ضد مرشح النظام السابق ودعما وتأييدا للمرشح الإسلامي الباقي الذي صار بعدئذ رئيسا للجمهورية!

12. واعتصم الشيخ حازم في الميدان اعتراضا على الإعلان الدستوري الذي أصدره العسكر قبيل أيام من تسليم السلطة، وظل معتصما هو وأنصاره أكثر من شهر، حتى صاروا وحدهم بل لقد انصرف مؤيدوا الرئيس أنفسهم، فلا استأذنه أحدهم ولا شاوره أحدهم، رغم أنه لا يدافع عن مصلحته الشخصية.

13. ورغم أن الشيخ حازم لم يحصل على منصب بل ولا على شكر إلا أنه كان حاضرا في كل موطن دعما للسلطة المدنية المنتخبة ضد النظام القديم، فكان من أوائل الواقفين على باب دار القضاء العالي مؤيدا للإعلان الدستوري الذي يعزل النائب العام ويحصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية.. ثم كانت وقفته الكبرى أمام مدينة الإنتاج الإعلامي والتي غيرت ميزان القوى في تلك اللحظة الحرجة بما أفشل مخطط الفاسدين وأنقذ سلطة رئيس الجمهورية!

14. ورغم التجارب المتعددة والمواقف المتكررة إلا أن الكيانات الإسلامية لم تغير منهجها الذي ينقل الإسلاميين من هوان إلى هوان ومن نزول إلى نزول، فساعتها ومع فشل كل النصائح والرسائل فكر الشيخ حازم في تكوين حزب ليؤسس للكيان الإسلامي الثوري البصير بالواقع ليترجم فكرته ومنهجه إلى عمل منظم واسع.

15. أيا كان موقفك أيها القارئ، إسلامي أو غير إسلامي، وأيا كان اتفاقك أو اختلافك مع كل ما سبق، فأحسب أنك لن تجادل في أن كل ما فعله حازم أبو إسماعيل لم يعد عليه بفائدة شخصية، بل كان خدمة لمبادئه ومنهجه ومواقفه حتى لو اختلفت معها.

في النهاية، فإن هذه مجرد فصول، وهي معروفة للجميع، ولم نكشف عن بعض ما في الكواليس من أحداث.. وهي فصول في التجرد للمبدأ وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

ولهذا يظل الشيخ حازم نموذجا فريدا في مصر، بل نحن نسأل: دلونا على رجل كانت له مثل هذه المواقف التي إن نجحت عاد النفع على غيره وإن فشلت فإن بعضها كان سيدفع الثمن فيها وحده.
...

اللهم نسألك فرجا قريبا للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل وسائر الأسرى في مصر وفي كل مكان.
‏٠٥‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٩:٥٩ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 11 من مجلة (كلمة حق)، لشهر يونيو 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2J1Avxy نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 11 من مجلة (كلمة حق)، لشهر يونيو 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.


لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.


لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2J1Avxy


نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
المدونة:
https://klmtuhaq.blog/
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٦‏/٢٠١٨ ٧:٢٠ م‏
"ثقافة الطوارئ"..لا تحفظ هوية أمة وليد الهويريني* أصبحت عين المراقب لا تخطئ حركة متسارعة من الحراك على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، والتي تسببت في حالات متفاوتة من التغيرات والتبدّلات التي طالت الكثير من الناس، وقد جُبل الإنسان على تسويغ أي تصرف أو موقف يبدر منه؛ فالإنسان بطبعه شديد الاعتداد برأيه وقناعاته، و"مطلق التغيير" ليس مذموماً بإطلاق. فلو سلطنا عدسة التاريخ والرصد في سير الأئمة والعلماء والعظماء والساسة والعباقرة والأدباء لوجدنا من هذا الشيء الكثير، وعلى صعيد التصورات والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان يختلف تقييم المفكرين والعلماء بحسب خلفيّتهم العقدية والفكرية؛ فالثقافة الغربية المعاصرة - لضعف أو غياب شعاع الوحي الرباني في منظومتها الفكرية - تجعل "مطلق التغيير" قيمة يثنى عليها و يُحمد صاحبها، فخُواء القلب من العلم اليقيني يفضي لشعور متعاظم بأن "الثبات" على أي مبدأ يُعدّ أمراً مذموماً دائماً؛ فالمثقف الغربي يستحضر دائماً "النكبة الكبرى" في القرون الوسطى المظلمة فيما لو بقي ثابتاً على حاله، بل إنك تلحظ أن القيم الإنسانية المطلقة التي جاءت البشرية باحترامها "كالصدق" و"العدل" "وكرامة الإنسان" يتم دفنها وتهميشها في العقل الجمعي الغربي، فتصمّ الشعوب الغربية آذانها إذا تعلق الأمر بمصالح دولها الاستعمارية في العالم الإسلامي، ويبقى في تلك الشعوب قلة قليلة أهل عدل ووفاء، ولكن لم يسجل التاريخ الحديث - حسب علمي - حالة واحدة ارتفع فيها منسوب هذا الشعور الإنساني لدى تلك الشعوب لترفع هراوة ظلم أنظمتها عن "الآخر"، بينما أسقطت تلك الشعوب العديد من حكوماتها عندما تقلص مستوى الرفاهية لدى مواطنيها. في العالم العربي - الذي يرزح منذ عقود عديدة تحت أغلال التبعية الفكرية والثقافية - يحار المثقفون والفقهاء الغيارى في كيفية مجابهة مثل هذا الهدير المتدفق من التصورات والمفاهيم المنحرفة، فيلجؤون إلى خفض سقف خطابهم الدعوي والفكري لشعورهم بُغربة الكثير من التصورات والمفاهيم الشرعية لدى عموم الناس، وهذا ربما كان في كثير من الأحيان مقتضى "الفقه الرشيد" والحكمة الربانية (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)، ولكني أعتقد أن العديد من النخب الفكرية والشرعية بالغت في هذا الخط، حتى أدّى هذا الأمر لغياب المفاهيم والتصوّرات الشرعية لدى عموم الناس. عندما اعترضت إحدى المثقفات العربيات على وصف شيخ لها - وقد كشفت عن شعرها ونحرها - بأنها "عاصية"، فإن هذا ينبئ عن خلل خطير؛ فهي تعتبر ما هو معلوم حكمه من الدين بالضرورة محل الاستهجان، وقسْ على ذلك وصف غير المسلم "بالكفر"، والذي لا يقتضي -كما هو معلوم بداهة لدى كل متخصص- استباحة دمائهم وأموالهم، بل إن الشريعة توعدت من اجترأ على معاهد أو ذمي بوعيد شديد، ولكن وجود طوائف غلت في استحلال دماء غير المسلمين كالمعاهدين والمستأمنين، وحرص الداعية على التلطف بالعبارة مع غير المسلم، والذي يمكن تفهمه في سياق الحوار مع غير المسلمين، إلاّ أن هذا لا يسوّغ تغييب "المصطلح الشرعي" عندما يكون الخطاب موجهاً لعموم المسلمين، ولو أردنا القفز إلى قضايا الأمة الكبرى كحق الشعوب المسلمة المحتلة في مقاومة المحتل - الذي كفلته شرائع السماء ودساتير الأرض، وفُطرت عليه المخلوقات - لوجدنا أن ثمة قطاعاً عريضاً من الإعلاميين والمفكرين والفقهاء من أصبح ينازع في هذا "الحق الطبيعي"، ويضع لذلك احترازات وقيود محصلتها تعطيله بالكلية، ولئن كنا كمراقبين قد نلتمس العذر لبعضهم عندما اختلطت صور المقاومة الشريفة والجهاد المقدس بصور أخرى من الإرهاب والفتك بالدماء المعصومة في بعض الأماكن، إلاّ أن قضية جوهرية في ضمير الأمة كقضية "فلسطين"، وعدو قبيح الوجه لم تفلح أدوات التجميل التغريبية في تطبيعه كإسرائيل، لم تسلم من صوت إعلامي وفكري أصبح يلوم الفلسطينيين في استراتيجية مقاومتهم أو طبيعة تحالفاتهم أو موقفهم من أذناب المحتل أكثر من لومهم لأنفسهم وخذلانهم لإخوانهم وتسويغهم لهذا الخذلان. ليس أضر على أمة الإسلام من شيء كضرر غياب المفاهيم والتصورات المنبثقة من كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام؛ فالخسائر المادية والبشرية مهما كانت جسامتها يمكن تعويضها، ولكن غياب التصورات والمفاهيم الشرعية يفضي إلى غياب المحركات الفاعلة في مسيرة النهضة والإصلاح. ـــــــــــــــــــــــــــــــ * نعيد نشر هذا المقال للشيخ فك الله أسره، وقد نشر المقال بموقع الإسلام اليوم على هذا الرابط.
"ثقافة الطوارئ"..لا تحفظ هوية أمة

وليد الهويريني*

أصبحت عين المراقب لا تخطئ حركة متسارعة من الحراك على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، والتي تسببت في حالات متفاوتة من التغيرات والتبدّلات التي طالت الكثير من الناس، وقد جُبل الإنسان على تسويغ أي تصرف أو موقف يبدر منه؛ فالإنسان بطبعه شديد الاعتداد برأيه وقناعاته، و"مطلق التغيير" ليس مذموماً بإطلاق.

فلو سلطنا عدسة التاريخ والرصد في سير الأئمة والعلماء والعظماء والساسة والعباقرة والأدباء لوجدنا من هذا الشيء الكثير، وعلى صعيد التصورات والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان يختلف تقييم المفكرين والعلماء بحسب خلفيّتهم العقدية والفكرية؛ فالثقافة الغربية المعاصرة - لضعف أو غياب شعاع الوحي الرباني في منظومتها الفكرية - تجعل "مطلق التغيير" قيمة يثنى عليها و يُحمد صاحبها، فخُواء القلب من العلم اليقيني يفضي لشعور متعاظم بأن "الثبات" على أي مبدأ يُعدّ أمراً مذموماً دائماً؛ فالمثقف الغربي يستحضر دائماً "النكبة الكبرى" في القرون الوسطى المظلمة فيما لو بقي ثابتاً على حاله، بل إنك تلحظ أن القيم الإنسانية المطلقة التي جاءت البشرية باحترامها "كالصدق" و"العدل" "وكرامة الإنسان" يتم دفنها وتهميشها في العقل الجمعي الغربي، فتصمّ الشعوب الغربية آذانها إذا تعلق الأمر بمصالح دولها الاستعمارية في العالم الإسلامي، ويبقى في تلك الشعوب قلة قليلة أهل عدل ووفاء، ولكن لم يسجل التاريخ الحديث - حسب علمي - حالة واحدة ارتفع فيها منسوب هذا الشعور الإنساني لدى تلك الشعوب لترفع هراوة ظلم أنظمتها عن "الآخر"، بينما أسقطت تلك الشعوب العديد من حكوماتها عندما تقلص مستوى الرفاهية لدى مواطنيها.

في العالم العربي - الذي يرزح منذ عقود عديدة تحت أغلال التبعية الفكرية والثقافية - يحار المثقفون والفقهاء الغيارى في كيفية مجابهة مثل هذا الهدير المتدفق من التصورات والمفاهيم المنحرفة، فيلجؤون إلى خفض سقف خطابهم الدعوي والفكري لشعورهم بُغربة الكثير من التصورات والمفاهيم الشرعية لدى عموم الناس، وهذا ربما كان في كثير من الأحيان مقتضى "الفقه الرشيد" والحكمة الربانية (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)، ولكني أعتقد أن العديد من النخب الفكرية والشرعية بالغت في هذا الخط، حتى أدّى هذا الأمر لغياب المفاهيم والتصوّرات الشرعية لدى عموم الناس.

عندما اعترضت إحدى المثقفات العربيات على وصف شيخ لها - وقد كشفت عن شعرها ونحرها - بأنها "عاصية"، فإن هذا ينبئ عن خلل خطير؛ فهي تعتبر ما هو معلوم حكمه من الدين بالضرورة محل الاستهجان، وقسْ على ذلك وصف غير المسلم "بالكفر"، والذي لا يقتضي -كما هو معلوم بداهة لدى كل متخصص- استباحة دمائهم وأموالهم، بل إن الشريعة توعدت من اجترأ على معاهد أو ذمي بوعيد شديد، ولكن وجود طوائف غلت في استحلال دماء غير المسلمين كالمعاهدين والمستأمنين، وحرص الداعية على التلطف بالعبارة مع غير المسلم، والذي يمكن تفهمه في سياق الحوار مع غير المسلمين، إلاّ أن هذا لا يسوّغ تغييب "المصطلح الشرعي" عندما يكون الخطاب موجهاً لعموم المسلمين، ولو أردنا القفز إلى قضايا الأمة الكبرى كحق الشعوب المسلمة المحتلة في مقاومة المحتل - الذي كفلته شرائع السماء ودساتير الأرض، وفُطرت عليه المخلوقات - لوجدنا أن ثمة قطاعاً عريضاً من الإعلاميين والمفكرين والفقهاء من أصبح ينازع في هذا "الحق الطبيعي"، ويضع لذلك احترازات وقيود محصلتها تعطيله بالكلية، ولئن كنا كمراقبين قد نلتمس العذر لبعضهم عندما اختلطت صور المقاومة الشريفة والجهاد المقدس بصور أخرى من الإرهاب والفتك بالدماء المعصومة في بعض الأماكن، إلاّ أن قضية جوهرية في ضمير الأمة كقضية "فلسطين"، وعدو قبيح الوجه لم تفلح أدوات التجميل التغريبية في تطبيعه كإسرائيل، لم تسلم من صوت إعلامي وفكري أصبح يلوم الفلسطينيين في استراتيجية مقاومتهم أو طبيعة تحالفاتهم أو موقفهم من أذناب المحتل أكثر من لومهم لأنفسهم وخذلانهم لإخوانهم وتسويغهم لهذا الخذلان.

ليس أضر على أمة الإسلام من شيء كضرر غياب المفاهيم والتصورات المنبثقة من كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام؛ فالخسائر المادية والبشرية مهما كانت جسامتها يمكن تعويضها، ولكن غياب التصورات والمفاهيم الشرعية يفضي إلى غياب المحركات الفاعلة في مسيرة النهضة والإصلاح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* نعيد نشر هذا المقال للشيخ فك الله أسره، وقد نشر المقال بموقع الإسلام اليوم على هذا الرابط.
‏٣١‏/٠٥‏/٢٠١٨ ١٢:٥٤ ص‏
المقصد الجامع لغايات الجهاد د. عطية عدلان الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.. هاتان الجملتان الْمُحْكَمَتان حَدَّدَتا - بإيجاز وإعجاز وإنجاز - الأهداف الواضحة التي تمثل المقصد الجامع من فريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، كل جملة منهما ترسم شقاً من المقصد الواحد الجامع، وهو تحقيق سيادة الشريعة؛ هذه السيادة هي جوهر الألوهية وصُلْبُها، كما أَنَّ الخضوع لها هو جوهر العبودية ولُبُّها، وهذه السيادة لا تتحقق إلا بتحقيق الأمرين هذين: أَلَّا تكون فتنة، وأن يكونَ الدين لله، وقد ذكرهما الله تعالى - كغاية للجهاد ينتهي إليها - في سورتين من الكتاب العزيز، في البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة 193) وفي الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال 39). والفتنة في - الأصل اللغويّ لها - هي الامتحان الصعب والابتلاء العسير، تقول: (فتن) الذهب يفتنه ... إذا أدخله النار لينظر ما جودته(1 )، ولأنَّ (سيادة الشرك والكفر) فتنة للبشرية عامَّة ولأهل الإيمان خاصة؛ ورد تفسير الفتنة عن الصحابة والتابعين بأنَّها الشرك وبأنَّها الكفر(2 )، وهم لا يقصدون حتماً أنَّ الغاية التي ينتهي إليها الجهاد هي زوال الكفر والشرك ذاته - وإن كان زوالهما مرجواً ومأمولاً - لأنَّهم أخذوا الجزية من أهل الكتاب وأقروهم على دينهم عملا بنص الكتاب، وإنَّما قصدوا بتفسيرهم هذا أنَّ الغاية التي ينتهي إليها الجهاد هي زوال فتنة الكفر والشرك؛ بزوال سيادتهما التي تمثل فتنة تمنع أن يكون الدين لله تعالى، وتجعل الدين الذي له السلطان في الأرض لآلهة شتى. ومثل هذا يقال في تفسيرهم للجملة الثانية (ويكون الدين لله) فقد فسروها بأن يكون التوحيد خالصا لله، وأن يدخل الناس في (لا إله إلا الله)( 3)، ودخول الناس في (لا إله إلا الله) يكون بأحد أمرين: إما بالإسلام وإمَّا بالخضوع والدينونة لشريعة الإسلام، بأن يدفعوا الجزية ويلتزموا الصغار، والصغار خضوعهم لقانون الإسلام العام؛ ويؤكد هذا التأويل ضرورة الجمع بين هاتين الآيتين المحكمتين وبين قوله تعالى في آية محكمة أخرى من سورة التوبة: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: 29]، فالآيتان تمثلان الهدف الاستراتيجي، وآية التوبة تمثل الهدف الإجرائيّ الذي يصب في تحقيق الهدف الاستراتيجيّ. ومما يؤكد ضرورة تأويل تفاسير السلف بما يوافق اللغة التي نزل بها القرآن الكريم هذه الآيات التي بشَّعَت الفتنة في سياق يعدد الممارسات التي تقع عند سيادة قوى الكفر والشرك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾[البقرة: 217]، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾[البقرة: 191]. ويترتب على هذا التحديد الدقيق عدة نتائج، أولها دخول باقي اهداف الجهاد وغاياته ضمن هذه الغاية الكبرى بالتبعية، مثل تلك الغايات المذكورة في سورة التوبة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 14 - 16]، ومثل غاية الدفع والدفاع المذكورة في أكثر من موضع من كتاب الله تعالى. كما يترتب عليه فهم طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية - حال القدرة والاختيار - والدول غير الإسلامية، فالأصل فيها ليس الحرب ولا السلم؛ لأنَّه لو كان الحرب الأصل لما ساغ توقف الجهاد بدفع الكفار للجزية، ولو كان السلم لأفضى إلى توقف الجهاد وتعطيله عن بلوغ غايته المنصوص عليها في محكم التنزيل، إنَّما الأصل هو سيادة الشريعة، فإذا تتحقق هذه السيادة بدخول البعض في الإسلام ودخول الآخرين في الطاعة لدولة الإسلام بدفع الجزية والتزام الصغار ينتهي الجهاد إلى غايته، فالصراع على السيادة والهيمنة، وكل ماعداهما من الغايات تابع وليس أصلياً. والحقيقة أنَّ الخلاف حول مسألة الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها مسألة مفتعلة تحت ضغط الواقع الدوليّ المعاصر، وأنَّ الذين قالوا بأنَّ الأصل السلم أرادوا إيجاد مساحة في الفقه الإسلاميّ تحقق التكيف مع هذا الواقع، وأنَّ الذين قالوا بأنَّ الأصل الحرب استفزهم النتائج التي ترتب عليها القول بأنَّ الأصل السلم، وعلى رأسها حصر الجهاد الإسلاميّ في جهاد الدفع وحسب، وهي نتيجة غريبة غاية الغرابة عن الفقه الإسلاميّ؛ لأنّ جهاد الطلب فرض كفاية بإجماع العلماء، أمَّا جهاد الدفع فهو فرض عين»( 4). ويترتب على ذلك أيضاً أن الجهاد لم يشرع لإهدار الأنفس؛ فالأصل أن الإنسان بنيان الربّ، وملعون من هدم بنيان الربّ بدون إذن منه ولا شرع؛ لذلك ترجح رأي جمهور العلماء القائلين بأنَّ موجب القتل ليس مجرد الكفر، وإنَّما هو انضمام الحرابة إلى الكفر، وفرقوا بين موجب القتال وموجب القتل، فموجب القتال هو فتنة الكفر والشرك، وموجب القتل الكفر مع الحرابة. ويترتب على ذلك أيضاً ضرورة التقيُّد بغايات الجهاد؛ بما لا يخرج به عن مقتضيات الغاية النبيلة التي من أجلها شُرع؛ فلا يصح - بحال - أن يتلبس المجاهد بظلم أو تعدّ - بما أنّه مجاهد - فمنهج الله تعالى لا يحابي أحداً مهما كانت منزلته؛ لذلك وجدنا حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه يتعرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التأنيب الشديد عندما تأول وقتل من نطق بالشهادتين: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ" (5 )، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء: 94] ، واللافت للنظر بشدّة تلك اللفتة القرآنية الرحيمة العادلة: " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا " أي تذكروا أنكم كنتم من قبل مثل هؤلاء الذين تسارعون إلى قتلهم إذا ظفرتم بهم، فمن الله عليكم واستنقذكم من الكفر ومن الاستضعاف؛ فتبينوا إذاً ولا تحرموا عباد الله ما منّ به عليكم، قال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ( 6). والإثخان في قتل الكافرين المحاربين أمر عارض يهدف لكسر شوكة الكفر لئلا يطول الصراع فتقع صدامات أشدّ، لكن بعد ذلك تعود الأمة للأصل: " فإما منا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها" وهدم متلكات الكفار وكذلك قتل الترس كلها أحكام غير أصلية وإنما هي استثنائبة؛ لذات الغرض، والاستثناء يبقى دائماً في دائرة ضيقة محاطة بقواعد سدّ الذرائع؛ لئلا يخرج بها أهل الأهواء عن حدّها ولئلا تسخر لانتهاك حدود الله وحقوق العباد، والمقصود من هذا الاستطراد هو التأكيد على ضرورة التقيد بالغاية. كما يترتب على ذلك ضرورة مراعاة حقوق الآدميين؛ انطلاقاً من شريعتنا الغراء، التي ما شرع الجهاد إلا من أجل تحقيق سيادتها وهيمنتها، فمحور مقاصد الشريعة هو حقوق الآدميين، والتي على رأسها حق الإنسان في أن يعرف ربه ويعبده، وحقه في الحياة؛ لذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الجيش الإسلاميّ الغازي، يوصيه وهو يودعه بهذه الوصية: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ... " وكان يقول لهم: "إِنَّ اللَّهَ  لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ بِإِذْنٍ وَلاَ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلاَ أَكْلَ ثِمَارِهِمْ... "(7 ) وكان أبو بكر يقول لجيوشه مثل هذا الكلام ويحذرهم من قتل الرهبان أهل الصوامع: "... وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ في هَذِهِ الصَّوَامِعِ فَاتْرُكُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهَمْ"( 8) وأخيرا ضرورة الالتزام بأخلاق الجهاد الإسلاميّ، تلك التي عنى بها القلاآن الكريم فوضع أصولها قبل أن تأتي السنة القولية والعملية لتفصل وتطبق، ومن هذه النماذج القرآنية المشرقة أن المسلمين إن كان بينهم وبين أمة من الأمم عهد وميثاق، وآنس المسلمون من معاهديهم خيانة فلا يحل لهم أن يبادئوهم بنكث العهد، بل عليهم أن يعلنوهم بانقضاء العهد الذي كان بينهم حتى يكون الفريقان مستويان في العلم بانتهاء العهد، وهذا السلوك تلقاه المسلمون أمرًا مباشرًا من القرآن، قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[الأنفال : 58] -أي: إن خفت من قوم بينك وبينهم عهد أن ينقضوا العهد، وآنست منهم شرًّا؛ فلا تبادر بنقض العهد، ولكن انبذ إليهم عهدهم، وأعلمهم بنهاية مدته؛ حتى تكون أنت وهم سواء في العلم بانقضاء العهد، وقد نهى الله المسلمين أن يتخذوا أيمانهم دَخَلاً بينهم؛ لئلا يكونوا قدوة للناس في نقض العهود، قال تعالى: ﴿وَلاَتَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَاوَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِوَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل : 94]. وعندما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الانتقام المضاعف ممن مثلوا بجثة عمه حمزة رضي الله عنه نزل قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ، وفي سياق تقرير حق المسلم في الردّ على العدوان نزلت الآيات لتحصر هذا الحقّ في دائرة العدل والإنصاف دون زيادة يمليها الغضب، ويندب للعفو والتسامح: " {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ . وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 39 - 43] (1 ) مختار الصحاح 234 ( 2) تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265). ( 3) تفسير ابن كثير (2/298). ( 4) راجع: تفسير القرطبي لقوله تعالى ( كتب عليكم القتال ) 3/38 (5 )صحيح البخاري (5/ 144) صحيح مسلم (1/ 97) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 73-74) (6 ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)(2/ 97) ( 7) رواه أبو داود (3052)، والبيهقي في السنن(19198)، والصحيحة(882)"حسن". (8 )رواه البيهقي في السنن الكبرى (18614)
المقصد الجامع لغايات الجهاد

د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

{حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.. هاتان الجملتان الْمُحْكَمَتان حَدَّدَتا - بإيجاز وإعجاز وإنجاز - الأهداف الواضحة التي تمثل المقصد الجامع من فريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، كل جملة منهما ترسم شقاً من المقصد الواحد الجامع، وهو تحقيق سيادة الشريعة؛ هذه السيادة هي جوهر الألوهية وصُلْبُها، كما أَنَّ الخضوع لها هو جوهر العبودية ولُبُّها، وهذه السيادة لا تتحقق إلا بتحقيق الأمرين هذين: أَلَّا تكون فتنة، وأن يكونَ الدين لله، وقد ذكرهما الله تعالى - كغاية للجهاد ينتهي إليها - في سورتين من الكتاب العزيز، في البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة 193) وفي الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال 39).

والفتنة في - الأصل اللغويّ لها - هي الامتحان الصعب والابتلاء العسير، تقول: (فتن) الذهب يفتنه ... إذا أدخله النار لينظر ما جودته(1 )، ولأنَّ (سيادة الشرك والكفر) فتنة للبشرية عامَّة ولأهل الإيمان خاصة؛ ورد تفسير الفتنة عن الصحابة والتابعين بأنَّها الشرك وبأنَّها الكفر(2 )، وهم لا يقصدون حتماً أنَّ الغاية التي ينتهي إليها الجهاد هي زوال الكفر والشرك ذاته - وإن كان زوالهما مرجواً ومأمولاً - لأنَّهم أخذوا الجزية من أهل الكتاب وأقروهم على دينهم عملا بنص الكتاب، وإنَّما قصدوا بتفسيرهم هذا أنَّ الغاية التي ينتهي إليها الجهاد هي زوال فتنة الكفر والشرك؛ بزوال سيادتهما التي تمثل فتنة تمنع أن يكون الدين لله تعالى، وتجعل الدين الذي له السلطان في الأرض لآلهة شتى.

ومثل هذا يقال في تفسيرهم للجملة الثانية (ويكون الدين لله) فقد فسروها بأن يكون التوحيد خالصا لله، وأن يدخل الناس في (لا إله إلا الله)( 3)، ودخول الناس في (لا إله إلا الله) يكون بأحد أمرين: إما بالإسلام وإمَّا بالخضوع والدينونة لشريعة الإسلام، بأن يدفعوا الجزية ويلتزموا الصغار، والصغار خضوعهم لقانون الإسلام العام؛ ويؤكد هذا التأويل ضرورة الجمع بين هاتين الآيتين المحكمتين وبين قوله تعالى في آية محكمة أخرى من سورة التوبة: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[التوبة: 29]، فالآيتان تمثلان الهدف الاستراتيجي، وآية التوبة تمثل الهدف الإجرائيّ الذي يصب في تحقيق الهدف الاستراتيجيّ.

ومما يؤكد ضرورة تأويل تفاسير السلف بما يوافق اللغة التي نزل بها القرآن الكريم هذه الآيات التي بشَّعَت الفتنة في سياق يعدد الممارسات التي تقع عند سيادة قوى الكفر والشرك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾[البقرة: 217]، ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾[البقرة: 191].

ويترتب على هذا التحديد الدقيق عدة نتائج، أولها دخول باقي اهداف الجهاد وغاياته ضمن هذه الغاية الكبرى بالتبعية، مثل تلك الغايات المذكورة في سورة التوبة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 14 - 16]، ومثل غاية الدفع والدفاع المذكورة في أكثر من موضع من كتاب الله تعالى.

كما يترتب عليه فهم طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية - حال القدرة والاختيار - والدول غير الإسلامية، فالأصل فيها ليس الحرب ولا السلم؛ لأنَّه لو كان الحرب الأصل لما ساغ توقف الجهاد بدفع الكفار للجزية، ولو كان السلم لأفضى إلى توقف الجهاد وتعطيله عن بلوغ غايته المنصوص عليها في محكم التنزيل، إنَّما الأصل هو سيادة الشريعة، فإذا تتحقق هذه السيادة بدخول البعض في الإسلام ودخول الآخرين في الطاعة لدولة الإسلام بدفع الجزية والتزام الصغار ينتهي الجهاد إلى غايته، فالصراع على السيادة والهيمنة، وكل ماعداهما من الغايات تابع وليس أصلياً.

والحقيقة أنَّ الخلاف حول مسألة الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها مسألة مفتعلة تحت ضغط الواقع الدوليّ المعاصر، وأنَّ الذين قالوا بأنَّ الأصل السلم أرادوا إيجاد مساحة في الفقه الإسلاميّ تحقق التكيف مع هذا الواقع، وأنَّ الذين قالوا بأنَّ الأصل الحرب استفزهم النتائج التي ترتب عليها القول بأنَّ الأصل السلم، وعلى رأسها حصر الجهاد الإسلاميّ في جهاد الدفع وحسب، وهي نتيجة غريبة غاية الغرابة عن الفقه الإسلاميّ؛ لأنّ جهاد الطلب فرض كفاية بإجماع العلماء، أمَّا جهاد الدفع فهو فرض عين»( 4).

ويترتب على ذلك أيضاً أن الجهاد لم يشرع لإهدار الأنفس؛ فالأصل أن الإنسان بنيان الربّ، وملعون من هدم بنيان الربّ بدون إذن منه ولا شرع؛ لذلك ترجح رأي جمهور العلماء القائلين بأنَّ موجب القتل ليس مجرد الكفر، وإنَّما هو انضمام الحرابة إلى الكفر، وفرقوا بين موجب القتال وموجب القتل، فموجب القتال هو فتنة الكفر والشرك، وموجب القتل الكفر مع الحرابة.

ويترتب على ذلك أيضاً ضرورة التقيُّد بغايات الجهاد؛ بما لا يخرج به عن مقتضيات الغاية النبيلة التي من أجلها شُرع؛ فلا يصح - بحال - أن يتلبس المجاهد بظلم أو تعدّ - بما أنّه مجاهد - فمنهج الله تعالى لا يحابي أحداً مهما كانت منزلته؛ لذلك وجدنا حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه يتعرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التأنيب الشديد عندما تأول وقتل من نطق بالشهادتين: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ" (5 )، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء: 94] ، واللافت للنظر بشدّة تلك اللفتة القرآنية الرحيمة العادلة: " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا " أي تذكروا أنكم كنتم من قبل مثل هؤلاء الذين تسارعون إلى قتلهم إذا ظفرتم بهم، فمن الله عليكم واستنقذكم من الكفر ومن الاستضعاف؛ فتبينوا إذاً ولا تحرموا عباد الله ما منّ به عليكم، قال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ( 6).

والإثخان في قتل الكافرين المحاربين أمر عارض يهدف لكسر شوكة الكفر لئلا يطول الصراع فتقع صدامات أشدّ، لكن بعد ذلك تعود الأمة للأصل: " فإما منا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها" وهدم متلكات الكفار وكذلك قتل الترس كلها أحكام غير أصلية وإنما هي استثنائبة؛ لذات الغرض، والاستثناء يبقى دائماً في دائرة ضيقة محاطة بقواعد سدّ الذرائع؛ لئلا يخرج بها أهل الأهواء عن حدّها ولئلا تسخر لانتهاك حدود الله وحقوق العباد، والمقصود من هذا الاستطراد هو التأكيد على ضرورة التقيد بالغاية.

كما يترتب على ذلك ضرورة مراعاة حقوق الآدميين؛ انطلاقاً من شريعتنا الغراء، التي ما شرع الجهاد إلا من أجل تحقيق سيادتها وهيمنتها، فمحور مقاصد الشريعة هو حقوق الآدميين، والتي على رأسها حق الإنسان في أن يعرف ربه ويعبده، وحقه في الحياة؛ لذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الجيش الإسلاميّ الغازي، يوصيه وهو يودعه بهذه الوصية: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ... " وكان يقول لهم: "إِنَّ اللَّهَ  لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ بِإِذْنٍ وَلاَ ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلاَ أَكْلَ ثِمَارِهِمْ... "(7 ) وكان أبو بكر يقول لجيوشه مثل هذا الكلام ويحذرهم من قتل الرهبان أهل الصوامع: "... وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ في هَذِهِ الصَّوَامِعِ فَاتْرُكُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهَمْ"( 8)

وأخيرا ضرورة الالتزام بأخلاق الجهاد الإسلاميّ، تلك التي عنى بها القلاآن الكريم فوضع أصولها قبل أن تأتي السنة القولية والعملية لتفصل وتطبق، ومن هذه النماذج القرآنية المشرقة أن المسلمين إن كان بينهم وبين أمة من الأمم عهد وميثاق، وآنس المسلمون من معاهديهم خيانة فلا يحل لهم أن يبادئوهم بنكث العهد، بل عليهم أن يعلنوهم بانقضاء العهد الذي كان بينهم حتى يكون الفريقان مستويان في العلم بانتهاء العهد، وهذا السلوك تلقاه المسلمون أمرًا مباشرًا من القرآن، قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[الأنفال : 58] -أي: إن خفت من قوم بينك وبينهم عهد أن ينقضوا العهد، وآنست منهم شرًّا؛ فلا تبادر بنقض العهد، ولكن انبذ إليهم عهدهم، وأعلمهم بنهاية مدته؛ حتى تكون أنت وهم سواء في العلم بانقضاء العهد، وقد نهى الله المسلمين أن يتخذوا أيمانهم دَخَلاً بينهم؛ لئلا يكونوا قدوة للناس في نقض العهود، قال تعالى: ﴿وَلاَتَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَاوَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِوَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل : 94].

وعندما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الانتقام المضاعف ممن مثلوا بجثة عمه حمزة رضي الله عنه نزل قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ، وفي سياق تقرير حق المسلم في الردّ على العدوان نزلت الآيات لتحصر هذا الحقّ في دائرة العدل والإنصاف دون زيادة يمليها الغضب، ويندب للعفو والتسامح: " {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ . وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 39 - 43]



(1 ) مختار الصحاح 234
( 2) تفسير الطبري (م 2 ج 2 ص 265).
( 3) تفسير ابن كثير (2/298).
( 4) راجع: تفسير القرطبي لقوله تعالى ( كتب عليكم القتال ) 3/38
(5 )صحيح البخاري (5/ 144) صحيح مسلم (1/ 97) مسند أحمد ط الرسالة (36/ 73-74)
(6 ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية)(2/ 97)
( 7) رواه أبو داود (3052)، والبيهقي في السنن(19198)، والصحيحة(882)"حسن".
(8 )رواه البيهقي في السنن الكبرى (18614)
‏٢٩‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:٢٩ م‏
الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي د. @[710607845:2048:وصفي أبو زيد] [لتحميل العدد الأخير كاملاً اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj ] لمقاصد الشريعة خصوصا والفكر المقاصدي عموما وظائف كثيرة، هذه الوظائف والفوائد تتوزع على المجالات التي تُعمل المقاصد فيها عملَها؛ فهي أهم ما يهتم به الفقيه والمفتي والمجتهد، إذ لا يمكن للفقيه أو المفتي أن ينظر في النصوص أو يفهمها أو في الوقائع والمستجدات والنوازل، ولا أن يُقنّن الأحكام، إلا في ضوء المقاصد، فالمظلة المقاصدية هي الضمان الأكبر والأمان الأهم الذي يحمي المجتهد والمفتي –إذا احتمى به– من الانحراف، أو الوقوع في الخطأ، كما أنها تقي العالم الفقيه والأصولي من الوقوع في البدع، وبها يتجدد الفقه ويتطور، والإمام الشاطبي يرى أن أسباب الابتداع مردها إلى الجهل بمقاصد الشريعة، والعلامة محمد الطاهر ابن عاشور يرى أن جمود الفقه مرده إلى إهمال الفقهاء للمقاصد. وللمقاصد وظائف في العلوم الإسلامية (القرآن وعلومه، والسنة وعلومها، والفقه وأصوله)، ولها وظائف وفوائد في العلوم الإنسانية (علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والعمران وغير ذلك)، حيث تقوم بضبطها وتوجيهها وترشيدها وتجديدها وتطويرها، وتقويم حالها، وتقييم مسيرتها، وتنتهج بها منهج النفع والتأثير والحيوية والتجدد. لكن هناك وظيفة أخرى تقوم بها المقاصد والفكر المقاصدي، وهي الوظيفة الجهادية، تلك الوظيفة التي تشمل الجهاد بمعناه الواسع، وتشمل الجهاد بمعناه القتالي كذلك. لقد ارتبط الفكر المقاصدي بفترات تجديد وتطوير، وبأزمنة الرغبة في رد الشبهات والحفاظ على الهوية، وبعصور احتلال وقتال ومقاومة، وفي كل هذه العصور والأزمنة كان الفقهاء وأعلام الأمة يستنجدون بفكر المقاصد وفكرها، ويفكرون في ظلالها؛ حيث لا تغني النصوص الجزئية وحدها، فيستلهمون أفق المقاصد الرحيب الذي يُسعف الفقيه والمفتي حين لا يسعفه التفكير الجزئي ولا النص الجزئي وحده دون استدعاء أنواع الفقه الحضاري من فقه للواقع وموازنات وأولويات ومآلات، وعلى رأس هذه الأنواع فقه المقاصد الذي يُعدّ أبًا لكل هذه الألوان من الفقه. ارتبط فقه المقاصد بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي استدعى هذا الفكر حين اتسعت رقعة الدولة، وترامت مساحاتها بالفتوحات، فلم يكن أمامه بد في ملء هذه الفراغات وسد هذه الحاجات من أن يحتمي بالفقه المصلحي المقاصدي المستثمَر من النصوص الشرعية عبر مسالكه المقررة عند الأصوليين. ارتبط بمجدد من أعظم مجددي الإسلام وهو عمر بن عبد العزيز، حينما استنجد بهذا الفقه الحضاري الذي جمع به الأمة، ونفى به الفرقة، وجدد به الملة والأمة. ارتبط بالإمام الشافعي الذي جمع به قواعد الاستنباط، ووضع في ضوئه أصولا للفقه والنظر الشرعي، وأعمله في الأمثلة التطبيقية التي أوردها في كتابه الرائد (الرسالة)، وحفظ فهم النص الشرعي من الغلو أو التقصير، فكما حفظ الله تعالى النص الشرعي من التحريف والتبديل، فكذلك حفظ طرق ومناهج فهم النص الشرعي عبر أصول الفقه ومقاصد الشريعة. كانت الوظيفة الجهادية للمقاصد ظاهرة كل الظهور وواضحة كل الوضوح في سيرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام ومسيرته، سواء مسيرته الحركية والدعوية أم مسيرته العلمية والتصنيفية .. أما مسيرته الحركية والدعوية –ولا يمكن فهم علم العالم وفكره إلا بالوقوف على سياق عصره السياسي والاجتماعي- فقد جاء في عصر اضطرابات سياسية، وعصر تغيير الولاء للأمة وتحول بعض حكام عصره للبراء من المؤمنين وولاية أعداء الدين، فوقف العز بن عبد السلام مستلهما هذا الفقه العظيم، وقال مقولاته التي سجلها التاريخ ضد هذا التغير الخطير والشر المستطير في الولاء العقدي للأمة، ومنع الدعاء لهؤلاء الحكام، وأفتى بحرمة تصرفاتهم، وعدم جواز طاعتهم ولا الدخول في سلطانهم، كما أفتى ضد حكام مصر الذين كانوا يريدون فرض مكوس على الشعب وهم يتمتعون بالذهب والمال، فمنع فرض هذه الضرائب قبل أن يتساوى الحكام مع المحكومين، ولاقى في سبيل شجاعته وجُرأته في الحق ما لاقى: نفيًا، وتضييقا، وعداء. وأما مسيرته العلمية فقد صنف كتابه (القواعد الكبرى) الذي يُعدّ كتابا فريدا في بابه، فلم يؤلف قبله مثله، ولا بعده مثله، وهو بهذا الكتاب وغيره يعدّ –في نظري– إمام المقاصد الأول، وهذا الكتاب أعتدّه كتاب العصر للمختصين بعلوم الشريعة وعلوم السياسة وعلوم الإنسان على السواء، وتلميذه القرافي حمل هذا الفكر من بعده، وأعمله في إنتاجه الفقهي والأصولي. اتضح الاستنجاد بالفكر المقاصدي في المسيرة العلمية والدعوية لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الأنجب ابن قيم الجوزية، اللذين كان عصرهما عصر احتلال واستلاب للأمة من الصليبيين، واستَخدم ابن تيمية فقه الموازنات وعقد له بابا في مجموع الفتاوى أسماه (تعارض الحسنات والسئيات)، وتلمس روح هذا الفقه في مجمل فتاويه وآرائه، وهذه النزعة المصلحية المقاصدية بارزة بشدة في فقه تلميذه ابن القيم الذي اهتم بشكل بالغ بالبحث عن حكمة التشريع وفلسفته فيما يتناوله من قضايا ويطرحه من أفكار. واعتمد هذا الفكرَ الروادُ من المصلحين، والربانيين من العلماء المجاهدين حتى جاء ما سمي "عصر النهضة" العلمية والفكرية، فأحيا هذا الفكر الإمامُ المجدد محمد عبده –الذي كان في عصر الاستعمار- والذي نفض التراب عن كتاب (الموافقات) للشاطبي -باني عمارة المقاصد- وأمر تلاميذه أن يهتموا به: مُدارسة وتدريسا وتحقيقا ونشرًا، فقام بذلك تلامذته: محمد رشيد رضا، ومحمد الخضري، والطاهر ابن عاشور، وغيرهم، وقد كان هؤلاء التلاميذ مقاصديين في فكرهم وفي مسيرتهم الدعوية، والمُطالِع لتفسير المنار وفكر رشيد رضا عامة يجد هذا المنحى أضوأ من الشمس، وأبين من فلق الصبح، وأوضح من غَرَّة النهار.. وتجلت الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي لدى محمد عبده في الدعوة إلى التجديد والاجتهاد، والثورة على التقليد والجمود، ودعا إلى تطوير مناهج الأزهر وطرق التدريس فيه. أما العلامة محمد الطاهر ابن عاشور الذي ألف كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) فقد كانت مسيرته الدعوية والعلمية متشربة لهذا الفكر ومتشبعة به، فهو الذي تصدى للحبيب بورقيبه حين أراد منع الصيام، وقال كلمته الشهيرة (صدق الله وكذب بورقيبه)، وفيما ألفه من كتب وطرحه من رؤًى في كتابه هذا وفي تفسيره وفي كتبه الأخرى يتضح اعتماده هذا الفكر منهجا ومنطلقا اتضاحا ملحوظا، حتى كان أول من دعا إلى تأسيس (علم مقاصد الشريعة الإسلامية). وجاء بعده علال الفاسي، ذلك المفكر السياسي المجاهد، الذي واكب عصر استعمار المغرب، وكان سياسيا محنكا، ومفكرا مفلقا، وكاتبا مرموقا، فوظف هذا الفكر في مسيرته السياسية، وأعمله في مسيرته العلمية والفكرية، حتى ألف كتابه المشهور: (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) الذي يمثل مع كتاب ابن عاشور مرحلة من مراحل التحول في الفكر المقاصدي ومقاصد الشريعة. ثم انطلقت شرارة مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي قبل أربعة عقود من اليوم في صورة رسائل علمية، ندوات ومؤتمرات ومناهج ومساقات وكتب ومؤلفات ومراكز وملتقيات وبرامج ومشروعات، حتى أضحى علما مستقلا له تاريخه ونشأته، وقواعده وفوائده، ومسالكه وضوابطه، وأعلامه ومصطلحاته وآثاره. وقد كان من فضل الله –تعالى- أن تنشأ هذه الصحوة المقاصدية في ظل ما تمر به الأمة وقبل أن تبدأ هذا التحول الكبير –ليس الأمة فقط بل العالم كله– الذي يشهد ظواهر سياسية واجتماعية وفكرية كبرى، واحتلالات واقتتال وجهاد ومقاومة، ومثل هذه التحولات لا يليق بها إلا الاستنجاد بهذا الفقه الحضاري، وفقه المقاصد في القلب منه، فهو الفقه الذي يضبط الموازنات، ويوجه المآلات، ويقيّم التحالفات التي تتفق مع مقاصد الشرع وتحقق مصالح الناس، فهذه الفترة التي نحياها لا يمكن الاكتفاء فيها بالتفكير الجزئي الضيق، ولكن لابد من الرجوع والاحتماء بفقه المقاصد وما يتفرع عنه من أنواع في الفقه، فهذا الذي يُستلهم في المقاومة والتحرير والجهاد الشامل، وفي القلب منه الجهاد العسكري، لتحرير الأوطان وحفظ الأعراض واستبقاء الأرواح .. فلتكن صحوة مقاصدية تقوم بوظيفتها في هذا العصر الذي يشبه عصورا كثيرة من قبل استُدعي فيها هذا الفكر: حفظا لهوية الأمة، ودَفْعا للشبهات عن العقيدة والشريعة، ومقاومة للغزاة المحتلين، وتمسكا بالجهاد للتحرير والتمكين، وهذا وحده هو القمين ببناء حضارة حقيقية تحقق للمسلمين الاتساق مع الشرع الشريف، وتضعهم في مكان الذُّؤابة من العالمين.
الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي

د. وصفي أبو زيد

[لتحميل العدد الأخير كاملاً اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj ]

لمقاصد الشريعة خصوصا والفكر المقاصدي عموما وظائف كثيرة، هذه الوظائف والفوائد تتوزع على المجالات التي تُعمل المقاصد فيها عملَها؛ فهي أهم ما يهتم به الفقيه والمفتي والمجتهد، إذ لا يمكن للفقيه أو المفتي أن ينظر في النصوص أو يفهمها أو في الوقائع والمستجدات والنوازل، ولا أن يُقنّن الأحكام، إلا في ضوء المقاصد، فالمظلة المقاصدية هي الضمان الأكبر والأمان الأهم الذي يحمي المجتهد والمفتي –إذا احتمى به– من الانحراف، أو الوقوع في الخطأ، كما أنها تقي العالم الفقيه والأصولي من الوقوع في البدع، وبها يتجدد الفقه ويتطور، والإمام الشاطبي يرى أن أسباب الابتداع مردها إلى الجهل بمقاصد الشريعة، والعلامة محمد الطاهر ابن عاشور يرى أن جمود الفقه مرده إلى إهمال الفقهاء للمقاصد.

وللمقاصد وظائف في العلوم الإسلامية (القرآن وعلومه، والسنة وعلومها، والفقه وأصوله)، ولها وظائف وفوائد في العلوم الإنسانية (علوم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والعمران وغير ذلك)، حيث تقوم بضبطها وتوجيهها وترشيدها وتجديدها وتطويرها، وتقويم حالها، وتقييم مسيرتها، وتنتهج بها منهج النفع والتأثير والحيوية والتجدد.

لكن هناك وظيفة أخرى تقوم بها المقاصد والفكر المقاصدي، وهي الوظيفة الجهادية، تلك الوظيفة التي تشمل الجهاد بمعناه الواسع، وتشمل الجهاد بمعناه القتالي كذلك.

لقد ارتبط الفكر المقاصدي بفترات تجديد وتطوير، وبأزمنة الرغبة في رد الشبهات والحفاظ على الهوية، وبعصور احتلال وقتال ومقاومة، وفي كل هذه العصور والأزمنة كان الفقهاء وأعلام الأمة يستنجدون بفكر المقاصد وفكرها، ويفكرون في ظلالها؛ حيث لا تغني النصوص الجزئية وحدها، فيستلهمون أفق المقاصد الرحيب الذي يُسعف الفقيه والمفتي حين لا يسعفه التفكير الجزئي ولا النص الجزئي وحده دون استدعاء أنواع الفقه الحضاري من فقه للواقع وموازنات وأولويات ومآلات، وعلى رأس هذه الأنواع فقه المقاصد الذي يُعدّ أبًا لكل هذه الألوان من الفقه.

ارتبط فقه المقاصد بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي استدعى هذا الفكر حين اتسعت رقعة الدولة، وترامت مساحاتها بالفتوحات، فلم يكن أمامه بد في ملء هذه الفراغات وسد هذه الحاجات من أن يحتمي بالفقه المصلحي المقاصدي المستثمَر من النصوص الشرعية عبر مسالكه المقررة عند الأصوليين.

ارتبط بمجدد من أعظم مجددي الإسلام وهو عمر بن عبد العزيز، حينما استنجد بهذا الفقه الحضاري الذي جمع به الأمة، ونفى به الفرقة، وجدد به الملة والأمة.

ارتبط بالإمام الشافعي الذي جمع به قواعد الاستنباط، ووضع في ضوئه أصولا للفقه والنظر الشرعي، وأعمله في الأمثلة التطبيقية التي أوردها في كتابه الرائد (الرسالة)، وحفظ فهم النص الشرعي من الغلو أو التقصير، فكما حفظ الله تعالى النص الشرعي من التحريف والتبديل، فكذلك حفظ طرق ومناهج فهم النص الشرعي عبر أصول الفقه ومقاصد الشريعة.

كانت الوظيفة الجهادية للمقاصد ظاهرة كل الظهور وواضحة كل الوضوح في سيرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام ومسيرته، سواء مسيرته الحركية والدعوية أم مسيرته العلمية والتصنيفية ..

أما مسيرته الحركية والدعوية –ولا يمكن فهم علم العالم وفكره إلا بالوقوف على سياق عصره السياسي والاجتماعي- فقد جاء في عصر اضطرابات سياسية، وعصر تغيير الولاء للأمة وتحول بعض حكام عصره للبراء من المؤمنين وولاية أعداء الدين، فوقف العز بن عبد السلام مستلهما هذا الفقه العظيم، وقال مقولاته التي سجلها التاريخ ضد هذا التغير الخطير والشر المستطير في الولاء العقدي للأمة، ومنع الدعاء لهؤلاء الحكام، وأفتى بحرمة تصرفاتهم، وعدم جواز طاعتهم ولا الدخول في سلطانهم، كما أفتى ضد حكام مصر الذين كانوا يريدون فرض مكوس على الشعب وهم يتمتعون بالذهب والمال، فمنع فرض هذه الضرائب قبل أن يتساوى الحكام مع المحكومين، ولاقى في سبيل شجاعته وجُرأته في الحق ما لاقى: نفيًا، وتضييقا، وعداء.

وأما مسيرته العلمية فقد صنف كتابه (القواعد الكبرى) الذي يُعدّ كتابا فريدا في بابه، فلم يؤلف قبله مثله، ولا بعده مثله، وهو بهذا الكتاب وغيره يعدّ –في نظري– إمام المقاصد الأول، وهذا الكتاب أعتدّه كتاب العصر للمختصين بعلوم الشريعة وعلوم السياسة وعلوم الإنسان على السواء، وتلميذه القرافي حمل هذا الفكر من بعده، وأعمله في إنتاجه الفقهي والأصولي.

اتضح الاستنجاد بالفكر المقاصدي في المسيرة العلمية والدعوية لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الأنجب ابن قيم الجوزية، اللذين كان عصرهما عصر احتلال واستلاب للأمة من الصليبيين، واستَخدم ابن تيمية فقه الموازنات وعقد له بابا في مجموع الفتاوى أسماه (تعارض الحسنات والسئيات)، وتلمس روح هذا الفقه في مجمل فتاويه وآرائه، وهذه النزعة المصلحية المقاصدية بارزة بشدة في فقه تلميذه ابن القيم الذي اهتم بشكل بالغ بالبحث عن حكمة التشريع وفلسفته فيما يتناوله من قضايا ويطرحه من أفكار.

واعتمد هذا الفكرَ الروادُ من المصلحين، والربانيين من العلماء المجاهدين حتى جاء ما سمي "عصر النهضة" العلمية والفكرية، فأحيا هذا الفكر الإمامُ المجدد محمد عبده –الذي كان في عصر الاستعمار- والذي نفض التراب عن كتاب (الموافقات) للشاطبي -باني عمارة المقاصد- وأمر تلاميذه أن يهتموا به: مُدارسة وتدريسا وتحقيقا ونشرًا، فقام بذلك تلامذته: محمد رشيد رضا، ومحمد الخضري، والطاهر ابن عاشور، وغيرهم، وقد كان هؤلاء التلاميذ مقاصديين في فكرهم وفي مسيرتهم الدعوية، والمُطالِع لتفسير المنار وفكر رشيد رضا عامة يجد هذا المنحى أضوأ من الشمس، وأبين من فلق الصبح، وأوضح من غَرَّة النهار.. وتجلت الوظيفة الجهادية للفكر المقاصدي لدى محمد عبده في الدعوة إلى التجديد والاجتهاد، والثورة على التقليد والجمود، ودعا إلى تطوير مناهج الأزهر وطرق التدريس فيه.

أما العلامة محمد الطاهر ابن عاشور الذي ألف كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) فقد كانت مسيرته الدعوية والعلمية متشربة لهذا الفكر ومتشبعة به، فهو الذي تصدى للحبيب بورقيبه حين أراد منع الصيام، وقال كلمته الشهيرة (صدق الله وكذب بورقيبه)، وفيما ألفه من كتب وطرحه من رؤًى في كتابه هذا وفي تفسيره وفي كتبه الأخرى يتضح اعتماده هذا الفكر منهجا ومنطلقا اتضاحا ملحوظا، حتى كان أول من دعا إلى تأسيس (علم مقاصد الشريعة الإسلامية).

وجاء بعده علال الفاسي، ذلك المفكر السياسي المجاهد، الذي واكب عصر استعمار المغرب، وكان سياسيا محنكا، ومفكرا مفلقا، وكاتبا مرموقا، فوظف هذا الفكر في مسيرته السياسية، وأعمله في مسيرته العلمية والفكرية، حتى ألف كتابه المشهور: (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) الذي يمثل مع كتاب ابن عاشور مرحلة من مراحل التحول في الفكر المقاصدي ومقاصد الشريعة.

ثم انطلقت شرارة مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي قبل أربعة عقود من اليوم في صورة رسائل علمية، ندوات ومؤتمرات ومناهج ومساقات وكتب ومؤلفات ومراكز وملتقيات وبرامج ومشروعات، حتى أضحى علما مستقلا له تاريخه ونشأته، وقواعده وفوائده، ومسالكه وضوابطه، وأعلامه ومصطلحاته وآثاره.

وقد كان من فضل الله –تعالى- أن تنشأ هذه الصحوة المقاصدية في ظل ما تمر به الأمة وقبل أن تبدأ هذا التحول الكبير –ليس الأمة فقط بل العالم كله– الذي يشهد ظواهر سياسية واجتماعية وفكرية كبرى، واحتلالات واقتتال وجهاد ومقاومة، ومثل هذه التحولات لا يليق بها إلا الاستنجاد بهذا الفقه الحضاري، وفقه المقاصد في القلب منه، فهو الفقه الذي يضبط الموازنات، ويوجه المآلات، ويقيّم التحالفات التي تتفق مع مقاصد الشرع وتحقق مصالح الناس، فهذه الفترة التي نحياها لا يمكن الاكتفاء فيها بالتفكير الجزئي الضيق، ولكن لابد من الرجوع والاحتماء بفقه المقاصد وما يتفرع عنه من أنواع في الفقه، فهذا الذي يُستلهم في المقاومة والتحرير والجهاد الشامل، وفي القلب منه الجهاد العسكري، لتحرير الأوطان وحفظ الأعراض واستبقاء الأرواح ..

فلتكن صحوة مقاصدية تقوم بوظيفتها في هذا العصر الذي يشبه عصورا كثيرة من قبل استُدعي فيها هذا الفكر: حفظا لهوية الأمة، ودَفْعا للشبهات عن العقيدة والشريعة، ومقاومة للغزاة المحتلين، وتمسكا بالجهاد للتحرير والتمكين، وهذا وحده هو القمين ببناء حضارة حقيقية تحقق للمسلمين الاتساق مع الشرع الشريف، وتضعهم في مكان الذُّؤابة من العالمين.
‏٢٦‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٧:٥٨ م‏
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع) مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الخامسة) [لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj ] الفصل الثالث وقائع كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده كنت على يقين من أن القضية الفلسطينية لا تحل إلا بالقوة المسلحة، ولذلك صرفت معظم جهدي لبسط هذه الحقيقة لإخواني وأبنائي الفلسطينيين، ولزعماء العالم العربي والإسلامي، ومن ثم الحصول على السلاح من أي مكان، رغم الظرف الدقيق الذي كانت تجتازه قضية فلسطين أثر انتصار أمريكا وبريطانيا في الحرب، وضلوعها مع الصهيونية، واندفاعها في دعمها. اتجهت الهيئة العربية العليا لفلسطين في تجنيد الفلسطينيين وتدريبهم وتسلحيهم، ثم في تكوين جيش فلسطيني، وقدمت بذلك مقترحات مع ميزانية كاملة، ولو تمت الموافقة على ذلك لأمكنهم من تخفيف آثار كارثة 48، ثم لأمكنهم إنقاذ الشطر المحتل من فلسطين قبل أن يثبت العدو أقدامه في الأراضي المحتلة، ولاستطاعوا دحر الأعداء. وفي عام 1950 أرسلت الهيئة العربية العليا لفلسطين مذكرة إلى الحكومة المصرية أشارت فيها إلى الخطر اليهودي على مصر عامة وعلى سيناء خاصة. وشبه جزيرة سيناء هي مطمح أبصارهم وهم عاملون بجد وقوة لانتزاعها من مصر؛ لأن لهم فيها ذكريات تاريخية؛ ففيها نزلت التوراة والألواح، وتاه فيها بنو إسرائيل 40 سنة، بالإضافة إلى أن لسيناء موقعًا جغرافيًّا واستراتيجيًّا وعسكريًّا فريدًا، وهي فوق كل هذا غنية بالمعادن والعناصر الثمينة كاليورانيوم والبترول. ولقد عمدت الحكومة البريطانية سنة 1906 إلى إرسال بعثة علمية فنية إلى سيناء لدراسة حالة هذه المنطقة وطبيعتها، وذلك تمهيدًا لتوطين أكبر عدد ممكن من اليهود فيها، فالخطر على مصر وسيناء خصوصًا هو خطر حقيقي، وليس وهميًّا، ولعله أقرب كثيرًا مما يظنه بعض الغافلين أو المتغافلين. وفيما كانت عيون الصهيونيين والمستعمرين إلى سيناء ونفوسهم منصرفة إليها بكل ما تنطوى عليه من أمانٍ وأطماع، كان بعض ولاة الأمور في الأقطار العربية لا يقيمون لها وزنًا حتى إن حسين سري باشا قال عنها أثناء توليه رئاسة الوزراء عام 1949: وما قيمة سيناء، إنها ليست إلا رمالاً، ولا فائدة منها!! حدث هذا عندما تقدم الصهيونيون بمذكرة بواسطة إحدى الدول الكبرى يطالبون فيها بتخلي مصر عن قطاع غزة، وتسليمه إليهم، ونحو دلك من المطالب الصهيونية الوقحة. ولما كان موقف حسين سري غاية في الضعف والميل للاستسلام فقد طلب من السيد عبد المنعم مصطفى الذي كان يتولى منصب الإدارة السياسية أن يقدم إليه تقريرًا يمهد للاستجابة إلى مطالب الصهيونيين، لكن السيد عبد المنعم المعروف بوطنيته امتنع عن ذلك، وبين لحسين سري الخطأ والخطورة في ذلك، فرد عليه حسين سري بلهجة الآمر وعنجهية المسيطر: إنك موظف، وعليك أن تكتب ما أطلب منك، فرد على حسين سري بالرفض وقدم استقالته، فعندئذ تراجع حسين سري، وخشي سوء العاقبة وذيوع الخبر، فصمت ولم يعد إلى مراجعته. وظلت المذكرة تنتظر الرد إلى أن تشكلت حكومة مصريه ائتلافية برئاسة مصطفى النحاس باشا، وتولى وزارة الخارجية فيها الدكتور محمد صلاح الدين، ولما عرضت عليه المذكرة مجددًا وقف موقف الرجل الشريف الحازم، وأجاب على تلميح اليهود بالقوة للحصول على مطالبهم: (أنا على استعداد لصدهم بالقوة ونار حرب مقدسة يخوضها العرب والمسلمون جميعًا)، فعندئذ طويت المذكرة اليهودية. وفي عام 1951 قدمت الهيئة العربية مذكرة لمصطفى النحاس باشا تناولت مختلف الشئون الفلسطينية والتنبيه على مطامع اليهود في سيناء. وكذلك في عام 1953 قدمت الهيئة مذكرة إلى الدول العربية تبين فيها مطامع اليهود وأخطارهم. ثم بعد أيام قلائل من قيام الثورة المصرية 1952 قابلت اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وقدمت له مذكرة عن الأخطار التي تهدد ذلك القطاع، كما تهدد مصر من المطامع اليهودية، وقدمت له عدة مقترحات من تجنيد قوة فلسطينية للدفاع عن أهل غزة؛ منعًا لسقوطها في أيدي الأعداء، وتحدثت معه بشأنها، وأقيمت موانع في سبيل تشكيل تلك القوة، فتقدمت بمذكرة أخرى إلى اللواء محمد نجيب، وقد كان يومئذ رئيس الحكومة المصرية. وقد ظللنا مثابرين على مطالبة الدول العربية ومجلس جامعتها ومصر خاصة بتجنيد الفلسطينيين، ولاسيما على أثر الهجوم اليهودي الغادر على مخيمات الفلسطينيين في غزة، وسقوط عدد كبير منهم، فعندئد بادرت بتقديم مذكرتين إلى اللواء عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة، وبمناسبة العدوان الوحشي على القرى العربية في ضواحي القدس أبرقنا إلى رؤساء الدول العربية سنة 1953 نبين لهم فضاحة العدوان ووحشية هجوم اليهود. أيضًا في عام 1952 قابلت كمال الدين حسين، وقدمت له المذكرة آنفة الذكر، وبحثت معه مسألة تمكين الفلسطينيين من منطقة غزة من التدريب والاستعداد. فأجابني بأنه تلقى تقارير من المنطقة تفيد بأن المبادئ الهدامة قد فشت بين الفلسطينيين، وأنه يخشى من نتائج ذلك، ثم قال: ألا ترى أن تقوية مصر تكون أنفع وأجدى من هده المحاولات؟ فأكدت له أن ما يشاع عن الفلسطينيين غير صحيح، وأن الأعداء هم الذين يذيعون عنهم هذه الادعاءات، ويحاولون تشويه سمعتهم بمختلف التهم؛ لإبعادهم عن معركة قضيتهم، لما يعرفون من خطرهم على الصهيونية. ثم تلا ذلك تقديم المذكرة إلى السيد حسين الشافعي وزير الحربية والبحرية عام 1954. وفي حديث لي مع اللواء عبد الحكيم عامر عن مصير مذكرتين كنت قد أرسلتهما إليه الأولى خاصة بالأخطار العسكرية التي ينطوي عليها مشروع جونستون، والأخرى خاصة بطلب تجنيد الفلسطينيين وتسليحهم وتدريبهم، فأجابني بأنه اهتم كل الاهتمام لما اشتملت عليه المذكرة الأولى من الأخطار العسكرية، وأنهم درسوا ذلك المشروع الدراسة الوافية. أما بشأن تجنيد الفلسطينيين فقال: إنني أحب أن أؤكد أن المتطوعين الفلسطينيين قد أبدوا في المعارك الأخيرة بسالة ورجولة كانت موضع إعجابنا وتقديرنا، ونحن مهتمون جدًّا بتجنيد أكبر عدد ممكن من شبان فلسطين، وقد تم إلى الآن تجنيد لواء كامل يناهز ثلاثة آلاف، وسيزداد العدد باستمرار. وعلى أثر هده المساعي المتوالية واستمرار اليهود في عدوانهم على منطقة غزة، استجابت الحكومة المصرية ففتحت باب التطوع أمام الفلسطينيين، وتم تجنيد لواء منهم تحت قيادة الجيش المصري، ولما كنت أتوق إلى التوسع في تجنيد الفلسطينيين، ولاسيما اللاجئين لتحويل الصالحين منهم إلى مجاهدين، فقد قدمت كتابًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر 1956 أرجو فيه التوسيع في تجنيد الفلسطينيين، وأن تطبق الحكومة المصرية عليهم أنظمة التجنيد والقوانين العسكرية. إن ما عرفه الإنجليز واليهود وما خبروه من بسالة الفلسطينيين وقوة روحهم الحرة، جعلهم يتخذون كافة الوسائل المباشرة وغير المباشرة لإبعادهم عن ميادين القتال، وقد نجح الإنجليز في ذلك، وعملوا على تعديل خطة الدول العربية، وحملوا بعضها على إدخال جيوشها إلى فلسطين، وعلى إبعاد المجاهدين الفلسطينيين عن ميدان معركتهم، وكانت خطة الدول العربية التي تقررت في اجتماع عالية_ لبنان 1947 أن يكون المعول في حرب فلسطين على أبنائها، وأن لا تدخل الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، لكن حين شعرت برغبة بعض الأشخاص الرسميين من العرب إدخال الجيوش العربية إلى فلسطين توجست خيفة، لكن الضغط الغربي كان أقوى، واتخذت الجامعة العربية قرارات منها قطع المساعدة المالية عن المجاهدين في فلسطين، وأوقفت توزيع الأسلحة، وصادرت الأسلحة الوفيرة التي دفع ثمنها أهل لبنان عام 1947 لتسليح المجاهدين، وعبثًا حاول الشهيد عبد القادر الحسيني الحصول على أي سلاح لتحرير جبل القسطل، فتم رفض طلبه بحجة أنهم ليسوا جنودًا نظاميين. وقد غادر الشهيد دمشق في 6 نيسان وهاجم جبل القسطل في 8 نيسان وحرره من أيدي اليهود، واستشهد -رحمه الله- في تلك المعركة. كان الموقف حرجًا عندما عارضت الهيئة العربية العليا دخول الجيوش العربية واستبداد الجامعة العربية بالقضية الفلسطينية، وانبثقت دعاية قوية بين الفلسطينيين بأن جيوش الدول العربية السبع ستقضي على الصهيونيين وتنقذ فلسطين دون أن تكبد أهلها خسائر في الأموال والأنفس، وقد لقيت هذه الدعاية المضللة آذانًا عند كثير من الفلسطينيين. ومن الإنصاف أن نورد هنا أن المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود، والمرحوم النقراشي لم يكونا راغبين في دخول الجيوش العربية فلسطين، فالنقراشي كان يرى أن مصر لا تستطيع دخول الحرب والجيش الإنجليزي جاثم على قناة السويس، لكن الملك فاروق استجاب لرؤساء وزارات الدول العربية الذين قابلوه وأقنعوه بذلك. ولقد كان الضغط الاستعماري هو العامل الأكبر في تلك الخطة في إبعاد الفلسطينيين عن المعركة؛ خشية من تفاقم حرب العصابات والفداء التي هي العلاج الوحيد لداء الظلم والعدوان ورد كيد الاستعمار في نحره. كما كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الجهات العربية المسؤولة والتي لا تقل خطرًا عن وعد بلفور نفسه أنها منحت الأعداء الصهيونيين فرصة فريدة استمرت عشرين سنة كاملة من المهادنة والمسالمة، اغتنمها أولئك الأعداء لتثبيت أركان دولتهم، واستكمال استعداداتهم الحربية. لقد كان معظم العرب يستخف بالمؤامرة الصهيونية والمطامع اليهودية، ولا يقيم لها وزنًا، وكنت أرى ابتسامة الاستخفاف والاستغراب على أفواه كثير من زعماء العرب وساستهم وكبرائهم عندما كنت أحدثهم عن الأخطار اليهودة المقبلة، حتى إن بعضهم صارحني بقوله: إنه لا يعقل أن تقدم بريطانيا على المغامرة بعلاقاتها والتفريط في مصالحها الواسعة في العالمين العربي والإسلامي استرضاء لليهود واستخفافًا بالعرب والمسلمين، وإنما هي تخادع اليهود وتماطلهم!! ومن الخطط التي أضرت بالعرب ضررًا فادحًا، الخطة الشيطانية التي اتبعها الأعداء في بلبلة الأفكار وتشتيت الآراء في البلاد العربية، وبث روح الخصومات الحزبية، والاختلافات بين عناصر الأمة، والحرب النفسية التي قام بها رجال المخابرات الأجنبية وعملاء الصهيونية، وأوحوا إلى ضعفاء النفوس ومرضى القلوب من العرب بأن لا سبيل إلى التغلب على الأعداء، ولا وسيلة لصد عدوانهم؛ لأنهم أعلم بالتكنولوجيا، ويجب علينا أن نتريث مدة جيلين أو ثلاثة أجيال إلى أن نبلغ مبلغهم من التكنولوجيا، وهذا كلام سمعته بنفسي ودحضته قائلاً: أين نسبة التكنولوجيا بين الجزائر وفرنسا، أو بين فيتنام وأمريكا. ومن الخطط الشيطانية القضاء على رجال هذه القضية في كثير من الأقطار العربية، وإبعاد الرعيل الأول، ومن حذا حذوهم ممن نشؤوا مع القضية، ورضعوا لبان الإخلاص وصدق الوطنية. وصفوة القول: إن هذه المعركة مع الصهيونية هي معركة حاسمة بين فريقين مختلفين في العقيدة والقومية واللغة والمصالح وفي كل شيء، وإن عدونا عنيد ماكر يعمد إلى الحيلة والدهاء، ويؤلب علينا الخصوم، ويخادعنا بالتعايش السلمي والصلح، وهو يوقن أن لا سبيل إلى ذلك، بل لا يريده في قرارة نفسه، وإنما هي سياسة مرحلية خادعة منه؛ لأنه مصمم على إبادة أمتنا، ومحق ديننا، واستئصال جذورنا، ويجب علينا أن نكون على مستوى الأحداث ونقدر الأخطار المحيطة بنا، والزاحفة إلينا حق قدرها، فنعد لها عدتنا، ونواجهها بما تتطلبه من وعي وجد وحزم. من الحقائق التي لا ريب فيها والتي ينبغي لأهل فلسطين وسائر العرب أن يوقنوا بها أن قضية فلسطين هي قضية دينية قبل أن تكون سياسية، أو أي شيء آخر. فاليهود يعتبرونها قضية دينية ويجاهرون بذلك، ويتحدون العالم بصلف وعنف غير مبالين بحق أو عدل، فالصهيونية فكرة يهودية ذات هدف ديني وسياسي معًا. فاليهود المتدينون انخرطوا في منظمات الهاجانا والأرغون تسفاي ليومي والبالماخ وغيرها من المنظمات المسلحة اليهودية، وأن الذين أنزلوا الضربة الوحشية في دير ياسين وبقروا بطون النساء الحوامل هم من اليهود المتدينين من جماعة أغودات إسرائيل. إن ارتباط المسلمين الوثيق بفلسطين هو أقوى سلاح، وأنفذ سهم في أيدي المجاهدين، والأعداء يعرفون ذلك، ويبذلون قصارى جهدهم لإبعاد المسلمين عن قضية فلسطين. إن الأعداء من يهود ومستعمرين وبعض المخدوعين من العرب يحاولون بكل جهودهم إبعاد القضية الفلسطينية عن الإسلام، ويبثون دعايات مسمومة مضللة. إن اليهود منذ عهد بعيد يتبعون خطة مبيتة لاغتصاب بلادنا، وتدمير مقدساتنا، ولقد كانت القدس محرمة عليهم بنص العهدة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب لأهل (إيلياء) القدس، وظلت تلك العهدة مفعلة طوال عهود الخلافة الإسلامية، ولم تنقض إلا في عهد محمد علي وحربه مع الدولة العثمانية، فقد استطاع بعض كبار اليهود الحصول على تصريح لعشر عائلات يهودية بالإقامة هناك، وكانوا يزورون الحائط الغربي لسور المسجد الأقصى ويبكون خلفه، فأنكر أهل القدس وتقدموا بشكواهم لمحمد علي فأمر اليهود بعدم رفع الصوت بالبكاء والاقتصار على الوقوف أمام الحائط. فهذه العائلات اليهودية العشر كانت أصل الداء وأساس البلاء؛ لأنها بدء هجرة اليهود إلى القدس (ومعظم النار من مستصغر الشرر). إن أقل تسامح مع العدو الطامع يؤدي إلى الضرر البالغ والخسارة الكبيرة، ولطالما كنت عرضة للوم والنعت بالشدة والتطرف لأنني لم أكن أقبل التفريط للصهيونيين في أي حق من حقوق الأمة مهما كان ضئيلاً؛ لأن التساهل يؤدي إلى التفريط في الأمانة، وإهدار حق الأمة.
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)
مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الخامسة)

[لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj ]

الفصل الثالث
وقائع كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده

كنت على يقين من أن القضية الفلسطينية لا تحل إلا بالقوة المسلحة، ولذلك صرفت معظم جهدي لبسط هذه الحقيقة لإخواني وأبنائي الفلسطينيين، ولزعماء العالم العربي والإسلامي، ومن ثم الحصول على السلاح من أي مكان، رغم الظرف الدقيق الذي كانت تجتازه قضية فلسطين أثر انتصار أمريكا وبريطانيا في الحرب، وضلوعها مع الصهيونية، واندفاعها في دعمها.

اتجهت الهيئة العربية العليا لفلسطين في تجنيد الفلسطينيين وتدريبهم وتسلحيهم، ثم في تكوين جيش فلسطيني، وقدمت بذلك مقترحات مع ميزانية كاملة، ولو تمت الموافقة على ذلك لأمكنهم من تخفيف آثار كارثة 48، ثم لأمكنهم إنقاذ الشطر المحتل من فلسطين قبل أن يثبت العدو أقدامه في الأراضي المحتلة، ولاستطاعوا دحر الأعداء.

وفي عام 1950 أرسلت الهيئة العربية العليا لفلسطين مذكرة إلى الحكومة المصرية أشارت فيها إلى الخطر اليهودي على مصر عامة وعلى سيناء خاصة.

وشبه جزيرة سيناء هي مطمح أبصارهم وهم عاملون بجد وقوة لانتزاعها من مصر؛ لأن لهم فيها ذكريات تاريخية؛ ففيها نزلت التوراة والألواح، وتاه فيها بنو إسرائيل 40 سنة، بالإضافة إلى أن لسيناء موقعًا جغرافيًّا واستراتيجيًّا وعسكريًّا فريدًا، وهي فوق كل هذا غنية بالمعادن والعناصر الثمينة كاليورانيوم والبترول.

ولقد عمدت الحكومة البريطانية سنة 1906 إلى إرسال بعثة علمية فنية إلى سيناء لدراسة حالة هذه المنطقة وطبيعتها، وذلك تمهيدًا لتوطين أكبر عدد ممكن من اليهود فيها، فالخطر على مصر وسيناء خصوصًا هو خطر حقيقي، وليس وهميًّا، ولعله أقرب كثيرًا مما يظنه بعض الغافلين أو المتغافلين.

وفيما كانت عيون الصهيونيين والمستعمرين إلى سيناء ونفوسهم منصرفة إليها بكل ما تنطوى عليه من أمانٍ وأطماع، كان بعض ولاة الأمور في الأقطار العربية لا يقيمون لها وزنًا حتى إن حسين سري باشا قال عنها أثناء توليه رئاسة الوزراء عام 1949: وما قيمة سيناء، إنها ليست إلا رمالاً، ولا فائدة منها!!

حدث هذا عندما تقدم الصهيونيون بمذكرة بواسطة إحدى الدول الكبرى يطالبون فيها بتخلي مصر عن قطاع غزة، وتسليمه إليهم، ونحو دلك من المطالب الصهيونية الوقحة.

ولما كان موقف حسين سري غاية في الضعف والميل للاستسلام فقد طلب من السيد عبد المنعم مصطفى الذي كان يتولى منصب الإدارة السياسية أن يقدم إليه تقريرًا يمهد للاستجابة إلى مطالب الصهيونيين، لكن السيد عبد المنعم المعروف بوطنيته امتنع عن ذلك، وبين لحسين سري الخطأ والخطورة في ذلك، فرد عليه حسين سري بلهجة الآمر وعنجهية المسيطر: إنك موظف، وعليك أن تكتب ما أطلب منك، فرد على حسين سري بالرفض وقدم استقالته، فعندئذ تراجع حسين سري، وخشي سوء العاقبة وذيوع الخبر، فصمت ولم يعد إلى مراجعته.

وظلت المذكرة تنتظر الرد إلى أن تشكلت حكومة مصريه ائتلافية برئاسة مصطفى النحاس باشا، وتولى وزارة الخارجية فيها الدكتور محمد صلاح الدين، ولما عرضت عليه المذكرة مجددًا وقف موقف الرجل الشريف الحازم، وأجاب على تلميح اليهود بالقوة للحصول على مطالبهم: (أنا على استعداد لصدهم بالقوة ونار حرب مقدسة يخوضها العرب والمسلمون جميعًا)، فعندئذ طويت المذكرة اليهودية.

وفي عام 1951 قدمت الهيئة العربية مذكرة لمصطفى النحاس باشا تناولت مختلف الشئون الفلسطينية والتنبيه على مطامع اليهود في سيناء.

وكذلك في عام 1953 قدمت الهيئة مذكرة إلى الدول العربية تبين فيها مطامع اليهود وأخطارهم.

ثم بعد أيام قلائل من قيام الثورة المصرية 1952 قابلت اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وقدمت له مذكرة عن الأخطار التي تهدد ذلك القطاع، كما تهدد مصر من المطامع اليهودية، وقدمت له عدة مقترحات من تجنيد قوة فلسطينية للدفاع عن أهل غزة؛ منعًا لسقوطها في أيدي الأعداء، وتحدثت معه بشأنها، وأقيمت موانع في سبيل تشكيل تلك القوة، فتقدمت بمذكرة أخرى إلى اللواء محمد نجيب، وقد كان يومئذ رئيس الحكومة المصرية.

وقد ظللنا مثابرين على مطالبة الدول العربية ومجلس جامعتها ومصر خاصة بتجنيد الفلسطينيين، ولاسيما على أثر الهجوم اليهودي الغادر على مخيمات الفلسطينيين في غزة، وسقوط عدد كبير منهم، فعندئد بادرت بتقديم مذكرتين إلى اللواء عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة، وبمناسبة العدوان الوحشي على القرى العربية في ضواحي القدس أبرقنا إلى رؤساء الدول العربية سنة 1953 نبين لهم فضاحة العدوان ووحشية هجوم اليهود.

أيضًا في عام 1952 قابلت كمال الدين حسين، وقدمت له المذكرة آنفة الذكر، وبحثت معه مسألة تمكين الفلسطينيين من منطقة غزة من التدريب والاستعداد.

فأجابني بأنه تلقى تقارير من المنطقة تفيد بأن المبادئ الهدامة قد فشت بين الفلسطينيين، وأنه يخشى من نتائج ذلك، ثم قال: ألا ترى أن تقوية مصر تكون أنفع وأجدى من هده المحاولات؟

فأكدت له أن ما يشاع عن الفلسطينيين غير صحيح، وأن الأعداء هم الذين يذيعون عنهم هذه الادعاءات، ويحاولون تشويه سمعتهم بمختلف التهم؛ لإبعادهم عن معركة قضيتهم، لما يعرفون من خطرهم على الصهيونية.

ثم تلا ذلك تقديم المذكرة إلى السيد حسين الشافعي وزير الحربية والبحرية عام 1954.

وفي حديث لي مع اللواء عبد الحكيم عامر عن مصير مذكرتين كنت قد أرسلتهما إليه الأولى خاصة بالأخطار العسكرية التي ينطوي عليها مشروع جونستون، والأخرى خاصة بطلب تجنيد الفلسطينيين وتسليحهم وتدريبهم، فأجابني بأنه اهتم كل الاهتمام لما اشتملت عليه المذكرة الأولى من الأخطار العسكرية، وأنهم درسوا ذلك المشروع الدراسة الوافية.

أما بشأن تجنيد الفلسطينيين فقال: إنني أحب أن أؤكد أن المتطوعين الفلسطينيين قد أبدوا في المعارك الأخيرة بسالة ورجولة كانت موضع إعجابنا وتقديرنا، ونحن مهتمون جدًّا بتجنيد أكبر عدد ممكن من شبان فلسطين، وقد تم إلى الآن تجنيد لواء كامل يناهز ثلاثة آلاف، وسيزداد العدد باستمرار.

وعلى أثر هده المساعي المتوالية واستمرار اليهود في عدوانهم على منطقة غزة، استجابت الحكومة المصرية ففتحت باب التطوع أمام الفلسطينيين، وتم تجنيد لواء منهم تحت قيادة الجيش المصري، ولما كنت أتوق إلى التوسع في تجنيد الفلسطينيين، ولاسيما اللاجئين لتحويل الصالحين منهم إلى مجاهدين، فقد قدمت كتابًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر 1956 أرجو فيه التوسيع في تجنيد الفلسطينيين، وأن تطبق الحكومة المصرية عليهم أنظمة التجنيد والقوانين العسكرية.

إن ما عرفه الإنجليز واليهود وما خبروه من بسالة الفلسطينيين وقوة روحهم الحرة، جعلهم يتخذون كافة الوسائل المباشرة وغير المباشرة لإبعادهم عن ميادين القتال، وقد نجح الإنجليز في ذلك، وعملوا على تعديل خطة الدول العربية، وحملوا بعضها على إدخال جيوشها إلى فلسطين، وعلى إبعاد المجاهدين الفلسطينيين عن ميدان معركتهم، وكانت خطة الدول العربية التي تقررت في اجتماع عالية_ لبنان 1947 أن يكون المعول في حرب فلسطين على أبنائها، وأن لا تدخل الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، لكن حين شعرت برغبة بعض الأشخاص الرسميين من العرب إدخال الجيوش العربية إلى فلسطين توجست خيفة، لكن الضغط الغربي كان أقوى، واتخذت الجامعة العربية قرارات منها قطع المساعدة المالية عن المجاهدين في فلسطين، وأوقفت توزيع الأسلحة، وصادرت الأسلحة الوفيرة التي دفع ثمنها أهل لبنان عام 1947 لتسليح المجاهدين، وعبثًا حاول الشهيد عبد القادر الحسيني الحصول على أي سلاح لتحرير جبل القسطل، فتم رفض طلبه بحجة أنهم ليسوا جنودًا نظاميين.

وقد غادر الشهيد دمشق في 6 نيسان وهاجم جبل القسطل في 8 نيسان وحرره من أيدي اليهود، واستشهد -رحمه الله- في تلك المعركة.

كان الموقف حرجًا عندما عارضت الهيئة العربية العليا دخول الجيوش العربية واستبداد الجامعة العربية بالقضية الفلسطينية، وانبثقت دعاية قوية بين الفلسطينيين بأن جيوش الدول العربية السبع ستقضي على الصهيونيين وتنقذ فلسطين دون أن تكبد أهلها خسائر في الأموال والأنفس، وقد لقيت هذه الدعاية المضللة آذانًا عند كثير من الفلسطينيين.

ومن الإنصاف أن نورد هنا أن المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود، والمرحوم النقراشي لم يكونا راغبين في دخول الجيوش العربية فلسطين، فالنقراشي كان يرى أن مصر لا تستطيع دخول الحرب والجيش الإنجليزي جاثم على قناة السويس، لكن الملك فاروق استجاب لرؤساء وزارات الدول العربية الذين قابلوه وأقنعوه بذلك.

ولقد كان الضغط الاستعماري هو العامل الأكبر في تلك الخطة في إبعاد الفلسطينيين عن المعركة؛ خشية من تفاقم حرب العصابات والفداء التي هي العلاج الوحيد لداء الظلم والعدوان ورد كيد الاستعمار في نحره.

كما كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الجهات العربية المسؤولة والتي لا تقل خطرًا عن وعد بلفور نفسه أنها منحت الأعداء الصهيونيين فرصة فريدة استمرت عشرين سنة كاملة من المهادنة والمسالمة، اغتنمها أولئك الأعداء لتثبيت أركان دولتهم، واستكمال استعداداتهم الحربية.

لقد كان معظم العرب يستخف بالمؤامرة الصهيونية والمطامع اليهودية، ولا يقيم لها وزنًا، وكنت أرى ابتسامة الاستخفاف والاستغراب على أفواه كثير من زعماء العرب وساستهم وكبرائهم عندما كنت أحدثهم عن الأخطار اليهودة المقبلة، حتى إن بعضهم صارحني بقوله: إنه لا يعقل أن تقدم بريطانيا على المغامرة بعلاقاتها والتفريط في مصالحها الواسعة في العالمين العربي والإسلامي استرضاء لليهود واستخفافًا بالعرب والمسلمين، وإنما هي تخادع اليهود وتماطلهم!!

ومن الخطط التي أضرت بالعرب ضررًا فادحًا، الخطة الشيطانية التي اتبعها الأعداء في بلبلة الأفكار وتشتيت الآراء في البلاد العربية، وبث روح الخصومات الحزبية، والاختلافات بين عناصر الأمة، والحرب النفسية التي قام بها رجال المخابرات الأجنبية وعملاء الصهيونية، وأوحوا إلى ضعفاء النفوس ومرضى القلوب من العرب بأن لا سبيل إلى التغلب على الأعداء، ولا وسيلة لصد عدوانهم؛ لأنهم أعلم بالتكنولوجيا، ويجب علينا أن نتريث مدة جيلين أو ثلاثة أجيال إلى أن نبلغ مبلغهم من التكنولوجيا، وهذا كلام سمعته بنفسي ودحضته قائلاً: أين نسبة التكنولوجيا بين الجزائر وفرنسا، أو بين فيتنام وأمريكا.

ومن الخطط الشيطانية القضاء على رجال هذه القضية في كثير من الأقطار العربية، وإبعاد الرعيل الأول، ومن حذا حذوهم ممن نشؤوا مع القضية، ورضعوا لبان الإخلاص وصدق الوطنية.

وصفوة القول: إن هذه المعركة مع الصهيونية هي معركة حاسمة بين فريقين مختلفين في العقيدة والقومية واللغة والمصالح وفي كل شيء، وإن عدونا عنيد ماكر يعمد إلى الحيلة والدهاء، ويؤلب علينا الخصوم، ويخادعنا بالتعايش السلمي والصلح، وهو يوقن أن لا سبيل إلى ذلك، بل لا يريده في قرارة نفسه، وإنما هي سياسة مرحلية خادعة منه؛ لأنه مصمم على إبادة أمتنا، ومحق ديننا، واستئصال جذورنا، ويجب علينا أن نكون على مستوى الأحداث ونقدر الأخطار المحيطة بنا، والزاحفة إلينا حق قدرها، فنعد لها عدتنا، ونواجهها بما تتطلبه من وعي وجد وحزم.

من الحقائق التي لا ريب فيها والتي ينبغي لأهل فلسطين وسائر العرب أن يوقنوا بها أن قضية فلسطين هي قضية دينية قبل أن تكون سياسية، أو أي شيء آخر.

فاليهود يعتبرونها قضية دينية ويجاهرون بذلك، ويتحدون العالم بصلف وعنف غير مبالين بحق أو عدل، فالصهيونية فكرة يهودية ذات هدف ديني وسياسي معًا.

فاليهود المتدينون انخرطوا في منظمات الهاجانا والأرغون تسفاي ليومي والبالماخ وغيرها من المنظمات المسلحة اليهودية، وأن الذين أنزلوا الضربة الوحشية في دير ياسين وبقروا بطون النساء الحوامل هم من اليهود المتدينين من جماعة أغودات إسرائيل.

إن ارتباط المسلمين الوثيق بفلسطين هو أقوى سلاح، وأنفذ سهم في أيدي المجاهدين، والأعداء يعرفون ذلك، ويبذلون قصارى جهدهم لإبعاد المسلمين عن قضية فلسطين.
إن الأعداء من يهود ومستعمرين وبعض المخدوعين من العرب يحاولون بكل جهودهم إبعاد القضية الفلسطينية عن الإسلام، ويبثون دعايات مسمومة مضللة.

إن اليهود منذ عهد بعيد يتبعون خطة مبيتة لاغتصاب بلادنا، وتدمير مقدساتنا، ولقد كانت القدس محرمة عليهم بنص العهدة العمرية التي أعطاها عمر بن الخطاب لأهل (إيلياء) القدس، وظلت تلك العهدة مفعلة طوال عهود الخلافة الإسلامية، ولم تنقض إلا في عهد محمد علي وحربه مع الدولة العثمانية، فقد استطاع بعض كبار اليهود الحصول على تصريح لعشر عائلات يهودية بالإقامة هناك، وكانوا يزورون الحائط الغربي لسور المسجد الأقصى ويبكون خلفه، فأنكر أهل القدس وتقدموا بشكواهم لمحمد علي فأمر اليهود بعدم رفع الصوت بالبكاء والاقتصار على الوقوف أمام الحائط.

فهذه العائلات اليهودية العشر كانت أصل الداء وأساس البلاء؛ لأنها بدء هجرة اليهود إلى القدس (ومعظم النار من مستصغر الشرر).

إن أقل تسامح مع العدو الطامع يؤدي إلى الضرر البالغ والخسارة الكبيرة، ولطالما كنت عرضة للوم والنعت بالشدة والتطرف لأنني لم أكن أقبل التفريط للصهيونيين في أي حق من حقوق الأمة مهما كان ضئيلاً؛ لأن التساهل يؤدي إلى التفريط في الأمانة، وإهدار حق الأمة.
‏٢٣‏/٠٥‏/٢٠١٨ ١١:٣٥ م‏
محمدُ بنُ مسلمة يسرا جلال [لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj ] لم يُفكّرُ (مَسلمة بن خالد) كثيرًا قبل أن يُسمي ولده (محمدًا).. فقد سمع من يهود يثرب أنّ هناك نبيًّا اقترب زمانُه وأنّ اسمه سيكون (محمدًا).. يبدو أنه كان يطمع في أن يكون هو والدَ النبي المنتظر.. غير أنّ (محمدَ بنَ مَسلمة) لم يصبح ذلك النبي.. فهناك في صحراء مكة وبعد اثنين وعشرين عامًا من ولادة (محمد بن مسلمة) نزل المَلِكُ جبريلُ بالوحي على (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم.. لم يسمع (محمد بن مسلمة) بالوحي فور نزوله على (محمد بن عبد الله) -صلى الله عليه وسلم- في مكة، تأخر ذلك حتى اثني عشر عامًا بعد النبوة حين أقام (مُصعبُ بنُ عُمَيْرٍ العبدري) في دار (أسعدَ بنِ زُرارة) في يثرب يدعو إلى الإسلام بعد أن اختاره رسولُ الله ليكون سفيرًا للإسلام إثر بيعة العقبة الأولى. أنار الله قلب (محمد بن مسلمة) بنور الإسلام وشرح الله صدره لكلمات القرآن، ووجد في قلبه نقمةً على أهل مكة، كيف يؤذون الرسول وأصحابه؟ كيف لم تستضئ قلوبُهم بنور الوحي؟ إنّ هذا الدينَ لحقيقٌ أن يُتّبع ويُفدى بالروح والنفس والولد لا أن يُحارب.. ************** سمع المسلمون في يثرب بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة.. فكانوا يغدون إلى الحرّة جنوب المدينة ينتظرونه، وكان (محمد بن مسلمة) يخرج مع الناس عَلَّ عيناه تحظيان برؤية رسول الله، ولكنّ الحر الشديد وقت الظهيرة كان يرده إلى داره. واستمر يترقب الرسول كل يوم حتى قفل عائدًا إلى داره في أحد تلك الأيام وإذا بصوت رجل من يهود ينادي بأعلى صوته: (يا معاشر العرب.. هذا جَدُّكم الذي تنتظرون)(1). ارتفع صوت التكبير في المدينة وارتجّت البيوت والسكك بأصوات التحميد والتقديس. كان يومًا أغرًّا.. يوم أن اكتحلت عينا (محمد بن مسلمة) برؤية (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم. وكان يومًا أغرًّا ذلك الذي نصر الله فيه عباده على المشركين يوم بدر.. حين فر المشركون مذعورين من ساحة المعركة لا يلوون على شيء.. وعادت المدينة لترتجَّ طرقاتُها بالتكبير والتهليل بعد عامين من هجرة الرسول إليها.. احترق اليهود غيظًا وحَنَقًا على المسلمين، وانبعث (كعبُ بنُ الأشرف) كبير بني النضير يهجو رسولَ الله والمسلمين، حتى أنه ترك المدينة إلى مكة ونزل في قريش ينشد الأشعار ويرثي قتلى قليبِ بدر ثم عاد إلى المدينة يُشبّب بنساء الصحابة ويؤذيهم. ضاق المسلمون بإيذائه لهم، كما ضاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسلاطة لسانه. ما جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحدث إلى أصحابه: "من لكعب بن الأشرف فإنه آذى اللهَ ورسولَه". فقام (محمد بن مسلمة) فقال: "يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟" قال: "نعم"(2). استأذن (محمد بن مسلمة) رسول الله في استعمال الخديعة مع (كعب بن الأشرف)، فالرجل شاعر مترف من أثرياء المدينة وكان له حِصنٌ عند ديار قومه من بني النضير، ومحاولة قتله تحتاج إلى خطة محكمة. اتفق (محمد بن مسلمة) مع (أبي نائلة) -رضيع كعب- على خطة يستدرجون بها كعبًا. وكان (محمد) من بدأ التنفيذ، فشكا إلى (كعب) جوار رسول الله متوددًا: "إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا"، ويبدو أن ثبات (محمد) وهدوءه أقنعا (كعبًا) الذي اقتنص فرصة شكوى (محمد) من رسول الله فقال له: "والله لتَمُلَّنّه". حينها عرف (محمد) أن (كعبًا) وقع في الشَرَك فاستمر في خطته متظاهرًا أن اتباعهم للرسول أوقعهم في ورطة لا يستطيعون الفكاك منها، فقال مطأطئًا رأسه: "فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تُسلفنا وسْقًا أو وسقين".. وكأي يهودي مُرابٍ متمرِّسٍ وافق كعبٌ مقابلَ أن يُرهنوه نساءهم، ولكنّ (محمد بن مسلمة) استقبح ذلك فرد عليه وقد ضاقت حدقتاه وقطّب حاجبيه: "كيف نُرهنك نساءنا وأنت أجملُ العرب؟"، فقال كعب: "فتُرهنوني أبناءكم." فرد عليه (محمد): "كيف نُرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحدهم فيقال: رُهن بوسْق أو وسقين. هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللّأَمَة" [أي: السلاح]... وكان هذا عين ما يرمي إليه (ابن مسلمة)، كان يريد أن يدخل على (كعب) بالسلاح دون أن يثير ذلك ريبة (كعب). وصنع (أبو نائلة) مثل ما صنع (محمد) فقال: "كان قدوم الرجل علينا بلاء" ثم اعتدل في جِلسته ليفسر نادمًا ماهية البلاء الذي وقعوا فيه بعد أن استقبلوا (محمد بن عبدالله) وأصحابَه: "عادتْنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطَعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا، وجهد عيالنا". ثم اتفق مع (كعب) أن يزوره ثانية مع أصحاب له يبيعون له سلاحًا عندهم. أما (كعب) فقد طار قلبه فرحًا بنجاح محاولاته في الدعوة إلى حرب (محمد)، وبدا أنّ نبتة هجائه للنبي قد أثمرت وقريبًا يتخلص منه ومن الفقراء الذين جاءوا معه من مكة. ********** لم ينم (ابن مسلمة) ورفاقه تلك الليلة التي أضاء البدر المكتمل سماءها. كما لم يمنع نجاح الجزء الأول من الخطة قلب (ابن مسلمة) من الخوف، لم يكن يخشى القتل بقدر ما خشي عدم تمكنه من إيفاء عهده للرسول حين قال له: "أنا يا رسول الله". ولكنّ قلبه عاد فاطمأن حين تذكّر دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم". ********* انطلق الرجال تحوطهم الدعوات حتى انتهوا إلى حصن (كعب بن الأشرف) وهتف به (أبو نائلة)، فأسرع ليلبي النداء ونهض عن فراشه الوثير. إلا أن امرأة كعب بفراسة النساء حذّرته: "أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم".. ولكن بدا أن الخُطة قد أَحكمت وِثاقَها حول رقبة (كعب) الذي استبعد احتمال الخديعة من رأسه كما حاول استبعادها من رأس عروسه مهوِّنًا: "إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة." ثم رفع يده عاليًا نحو السماء بأنَفةِ رجلٍ نصفِ عربي: "إن الكريم لو دُعي إلى طعنه أجاب". ونزل (كعب) إلى (أخيه) و(رضيعه) وهو لا يدري أنه نزل إلى حتفه.. *************** دار الحديث بين الثلاثة (كعب) و(أبي نائلة) و(ابن مسلمة) والأول لا يشك في صاحبيه، قد أضفى ضوء القمر على حديثهم صفاءً وهدوءًا، في حين أخفى وجهُ (ابن مسلمة) الهادئ قلبًا يغلي كالمرجل يترقّب اللحظة التي اتفق عليها مع صاحبه. ساقهم الحديث بعيدًا عن الحصن، وكان (كعب) صاحبَ الصوت الأعلى بين الثلاثة، مزهوًّا بنفسه، يفخر أنّ حرصَه لم يوقعه مثلهم في ورطة مع (محمد بن عبد الله). وحين تحدث (أبو نائلة) لم يزد إلا أن نفخ كير (كعب) مثنيًا على عطره: "ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر". زها (كعب) بما سمع وفسّر ذلك بأن عنده أعطر نساء العرب. وهنا استأذن (أبو نائلة): أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له (كعب) فمد يده في رأسه وشمه وأشم أصحابه. ثم مشى ساعةَ دارَ الحديثُ بينهم كالكرة بين أقدام الصبيان، وعاد (أبو نائلة) يستأذنه في أن يشم رأسه. تأكد حينها لدى (كعب) أن عطره الغالي استهوى رضيعه فأحنى رأسه ثانية ليتيح له أن يشمه ويتيح لنفسه لحظة فخر غالية. وحين كرر (أبو نائلة) طلبه ثالثَ مرة لم يشك (كعب) للحظة أن الرجل سيتمكن منه ثم يرفع صوته مناديًا أصحابه: "دونكم عدو الله فاقتلوه".. صيحةٌ كانت كافيةً ليخرج ثلاثة رجالٌ من مخبأٍ كمنوا فيه ثم تختلف عليه أسيافُهم ويعاجله (محمد بن مسلمة) بضربة معول أرْدته قتيلًا، صاح عدو الله لأجلها صيحةً عالية أيقظت أهل الحصن. *********** ارتفع صوت المفرزة المسلمة بالتكبير حين اقتربوا من بقيع الغرقد حيث كان ينتظرهم رسول الله الذي أشرق وجهه مكبرًا مع تكبيرهم وهنأهم قائلًا: "أفلحت الوجوه". فردوا عليه: "ووجهَك يا رسولَ الله". ورموا رأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله.. اطمأن قلب (ابن مسلمة) أخيرًا بعد أن وفى بعهد لرسول الله، وعلم أن اليهود لن يردوا على مقتل طاغيتهم، فما أيسر أن يدب الرعب في قلوبهم. علم اليهود أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لن يتوانى عن استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعًا لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات.. ولزموا الهدوء.. واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها"(3). ********************** كان الرسول على راحلته و(محمد بن مسلمة) آخذ بزمامها يطوف بالبيت بعد فتح مكة وفي يده قوس يطعن به الأصنام حول الكعبة فتتساقط على وجوهها وهو -صلى الله عليه وسلم- يرتّل آيات من القرآن {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} [الإسراء:81]. وقد اختلطت مشاعر الفرح والثناء على الله بالتواضع والافتقار إلى فضله سبحانه في قلب (محمد) الذي أحكم يده بقوة على زمام راحلة الرسول بعد أن لفّها عدة مرات حول معصمه، وتذكّر حينها عندما كان قريبًا من النبي في غزوة أحد حين أُفرد النبي في مجموعة صغيرة من أصحابه بعد تبدد المسلمين في الموقف، وها هو الرسول يُحيطه أصحابُه من المهاجرين والأنصار ترتفع أصواتُهم بالتلبية وقريش قد وقفت صفوفًا تنتظر ما يَصنع بها رسول الله. وفي غمرة الفرحة بنصر الله والفتح.. تذكر محمد كلمة الرسول له: "يا محمد، ستكون فُرقةٌ وفتنة واختلاف، فاكسر سيفك، واقطع وَتَرَك، واجلس في بيتك"(4). ونظر إلى سيفه متعجبًا، لا أحسب إلا أن الفتنة قد انطفأ أَوَارُها، فتح الله مكة على رسوله، ودارت الدوائر على اليهود والأعراب.. ثم عاد وقال: "الله ورسوله أعلم، اللهم بصرني بالفتنة لأجُلَّ سيف رسول الله من الوقوع فيها". **************** أقبل الخليفة عمر بن الخطاب على مجلس بني حارثة، وهناك التقى بـ(محمد بن مسلمة) فسأله كعادته في محاسبة نفسه: كيف تراني؟ فرد عليه محمد: أراك كما أُحب، وكما يُحب من يُحب لك الخير، قويًا على جمع المال، عفيفًا عنه، عدلًا في قسمه، ولو مِلتَ لعدلناك كما يُعدل السهمُ في الثقاف. فاستبشر عمر بجواب (محمد) وقال: "الحمد لله، الذي جعلني في قوم إذا مِلتُ عدلوني(5). ******************* ولأن (محمد بن مسلمة) كان حريصًا أن يضع سيفه حيث أمر رسول الله، ولأن حذيفة بن اليمان ذكر عنه أنه لا تضره الفتنة، فقد اعتزل (محمد) الفتنة ولم يشارك في وقعة الجمل ولا صفّين، واتخذ سيفًا من خشب، وأعلن بصراحة: "ما أريد أن يشتمل عليّ شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت"(6). ويبدو أن اعتزال (محمد بن مسلمة) لم يرق لأحد الأشقياء ناعقي الفتنة، فاقتحم عليه داره وقتله ليموت شهيدًا -رضي الله عنه وأرضاه- بعد سبعة وسبعين عامًا قضى جُلَّها حارسًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الجد: صاحب المنزلة العظيمة، المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 217، رابطة العلام الإسلامي، ط الثامنة. (2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، 3811. (3) الرحيق المختوم، ص 307. (4) سير أعلام النبلاء، للذهبي. (5) المصدر السابق. (6) صححه الألباني.
محمدُ بنُ مسلمة
يسرا جلال

[لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj ]

لم يُفكّرُ (مَسلمة بن خالد) كثيرًا قبل أن يُسمي ولده (محمدًا).. فقد سمع من يهود يثرب أنّ هناك نبيًّا اقترب زمانُه وأنّ اسمه سيكون (محمدًا).. يبدو أنه كان يطمع في أن يكون هو والدَ النبي المنتظر..

غير أنّ (محمدَ بنَ مَسلمة) لم يصبح ذلك النبي.. فهناك في صحراء مكة وبعد اثنين وعشرين عامًا من ولادة (محمد بن مسلمة) نزل المَلِكُ جبريلُ بالوحي على (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم..

لم يسمع (محمد بن مسلمة) بالوحي فور نزوله على (محمد بن عبد الله) -صلى الله عليه وسلم- في مكة، تأخر ذلك حتى اثني عشر عامًا بعد النبوة حين أقام (مُصعبُ بنُ عُمَيْرٍ العبدري) في دار (أسعدَ بنِ زُرارة) في يثرب يدعو إلى الإسلام بعد أن اختاره رسولُ الله ليكون سفيرًا للإسلام إثر بيعة العقبة الأولى.

أنار الله قلب (محمد بن مسلمة) بنور الإسلام وشرح الله صدره لكلمات القرآن، ووجد في قلبه نقمةً على أهل مكة، كيف يؤذون الرسول وأصحابه؟ كيف لم تستضئ قلوبُهم بنور الوحي؟ إنّ هذا الدينَ لحقيقٌ أن يُتّبع ويُفدى بالروح والنفس والولد لا أن يُحارب..

**************

سمع المسلمون في يثرب بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة.. فكانوا يغدون إلى الحرّة جنوب المدينة ينتظرونه، وكان (محمد بن مسلمة) يخرج مع الناس عَلَّ عيناه تحظيان برؤية رسول الله، ولكنّ الحر الشديد وقت الظهيرة كان يرده إلى داره. واستمر يترقب الرسول كل يوم حتى قفل عائدًا إلى داره في أحد تلك الأيام وإذا بصوت رجل من يهود ينادي بأعلى صوته: (يا معاشر العرب.. هذا جَدُّكم الذي تنتظرون)(1).

ارتفع صوت التكبير في المدينة وارتجّت البيوت والسكك بأصوات التحميد والتقديس.

كان يومًا أغرًّا.. يوم أن اكتحلت عينا (محمد بن مسلمة) برؤية (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم.

وكان يومًا أغرًّا ذلك الذي نصر الله فيه عباده على المشركين يوم بدر.. حين فر المشركون مذعورين من ساحة المعركة لا يلوون على شيء.. وعادت المدينة لترتجَّ طرقاتُها بالتكبير والتهليل بعد عامين من هجرة الرسول إليها..

احترق اليهود غيظًا وحَنَقًا على المسلمين، وانبعث (كعبُ بنُ الأشرف) كبير بني النضير يهجو رسولَ الله والمسلمين، حتى أنه ترك المدينة إلى مكة ونزل في قريش ينشد الأشعار ويرثي قتلى قليبِ بدر ثم عاد إلى المدينة يُشبّب بنساء الصحابة ويؤذيهم.
ضاق المسلمون بإيذائه لهم، كما ضاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسلاطة لسانه. ما جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحدث إلى أصحابه: "من لكعب بن الأشرف فإنه آذى اللهَ ورسولَه". فقام (محمد بن مسلمة) فقال: "يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟" قال: "نعم"(2).

استأذن (محمد بن مسلمة) رسول الله في استعمال الخديعة مع (كعب بن الأشرف)، فالرجل شاعر مترف من أثرياء المدينة وكان له حِصنٌ عند ديار قومه من بني النضير، ومحاولة قتله تحتاج إلى خطة محكمة.

اتفق (محمد بن مسلمة) مع (أبي نائلة) -رضيع كعب- على خطة يستدرجون بها كعبًا. وكان (محمد) من بدأ التنفيذ، فشكا إلى (كعب) جوار رسول الله متوددًا: "إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا"، ويبدو أن ثبات (محمد) وهدوءه أقنعا (كعبًا) الذي اقتنص فرصة شكوى (محمد) من رسول الله فقال له: "والله لتَمُلَّنّه".

حينها عرف (محمد) أن (كعبًا) وقع في الشَرَك فاستمر في خطته متظاهرًا أن اتباعهم للرسول أوقعهم في ورطة لا يستطيعون الفكاك منها، فقال مطأطئًا رأسه: "فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تُسلفنا وسْقًا أو وسقين"..

وكأي يهودي مُرابٍ متمرِّسٍ وافق كعبٌ مقابلَ أن يُرهنوه نساءهم، ولكنّ (محمد بن مسلمة) استقبح ذلك فرد عليه وقد ضاقت حدقتاه وقطّب حاجبيه: "كيف نُرهنك نساءنا وأنت أجملُ العرب؟"، فقال كعب: "فتُرهنوني أبناءكم." فرد عليه (محمد): "كيف نُرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحدهم فيقال: رُهن بوسْق أو وسقين. هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللّأَمَة" [أي: السلاح]... وكان هذا عين ما يرمي إليه (ابن مسلمة)، كان يريد أن يدخل على (كعب) بالسلاح دون أن يثير ذلك ريبة (كعب).

وصنع (أبو نائلة) مثل ما صنع (محمد) فقال: "كان قدوم الرجل علينا بلاء" ثم اعتدل في جِلسته ليفسر نادمًا ماهية البلاء الذي وقعوا فيه بعد أن استقبلوا (محمد بن عبدالله) وأصحابَه: "عادتْنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطَعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا، وجهد عيالنا".

ثم اتفق مع (كعب) أن يزوره ثانية مع أصحاب له يبيعون له سلاحًا عندهم.

أما (كعب) فقد طار قلبه فرحًا بنجاح محاولاته في الدعوة إلى حرب (محمد)، وبدا أنّ نبتة هجائه للنبي قد أثمرت وقريبًا يتخلص منه ومن الفقراء الذين جاءوا معه من مكة.

**********

لم ينم (ابن مسلمة) ورفاقه تلك الليلة التي أضاء البدر المكتمل سماءها. كما لم يمنع نجاح الجزء الأول من الخطة قلب (ابن مسلمة) من الخوف، لم يكن يخشى القتل بقدر ما خشي عدم تمكنه من إيفاء عهده للرسول حين قال له: "أنا يا رسول الله". ولكنّ قلبه عاد فاطمأن حين تذكّر دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم".

*********

انطلق الرجال تحوطهم الدعوات حتى انتهوا إلى حصن (كعب بن الأشرف) وهتف به (أبو نائلة)، فأسرع ليلبي النداء ونهض عن فراشه الوثير. إلا أن امرأة كعب بفراسة النساء حذّرته: "أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم".. ولكن بدا أن الخُطة قد أَحكمت وِثاقَها حول رقبة (كعب) الذي استبعد احتمال الخديعة من رأسه كما حاول استبعادها من رأس عروسه مهوِّنًا: "إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة." ثم رفع يده عاليًا نحو السماء بأنَفةِ رجلٍ نصفِ عربي: "إن الكريم لو دُعي إلى طعنه أجاب".
ونزل (كعب) إلى (أخيه) و(رضيعه) وهو لا يدري أنه نزل إلى حتفه..

***************

دار الحديث بين الثلاثة (كعب) و(أبي نائلة) و(ابن مسلمة) والأول لا يشك في صاحبيه، قد أضفى ضوء القمر على حديثهم صفاءً وهدوءًا، في حين أخفى وجهُ (ابن مسلمة) الهادئ قلبًا يغلي كالمرجل يترقّب اللحظة التي اتفق عليها مع صاحبه.

ساقهم الحديث بعيدًا عن الحصن، وكان (كعب) صاحبَ الصوت الأعلى بين الثلاثة، مزهوًّا بنفسه، يفخر أنّ حرصَه لم يوقعه مثلهم في ورطة مع (محمد بن عبد الله).

وحين تحدث (أبو نائلة) لم يزد إلا أن نفخ كير (كعب) مثنيًا على عطره: "ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر". زها (كعب) بما سمع وفسّر ذلك بأن عنده أعطر نساء العرب.

وهنا استأذن (أبو نائلة): أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له (كعب) فمد يده في رأسه وشمه وأشم أصحابه.

ثم مشى ساعةَ دارَ الحديثُ بينهم كالكرة بين أقدام الصبيان، وعاد (أبو نائلة) يستأذنه في أن يشم رأسه. تأكد حينها لدى (كعب) أن عطره الغالي استهوى رضيعه فأحنى رأسه ثانية ليتيح له أن يشمه ويتيح لنفسه لحظة فخر غالية.

وحين كرر (أبو نائلة) طلبه ثالثَ مرة لم يشك (كعب) للحظة أن الرجل سيتمكن منه ثم يرفع صوته مناديًا أصحابه: "دونكم عدو الله فاقتلوه".. صيحةٌ كانت كافيةً ليخرج ثلاثة رجالٌ من مخبأٍ كمنوا فيه ثم تختلف عليه أسيافُهم ويعاجله (محمد بن مسلمة) بضربة معول أرْدته قتيلًا، صاح عدو الله لأجلها صيحةً عالية أيقظت أهل الحصن.

***********

ارتفع صوت المفرزة المسلمة بالتكبير حين اقتربوا من بقيع الغرقد حيث كان ينتظرهم رسول الله الذي أشرق وجهه مكبرًا مع تكبيرهم وهنأهم قائلًا: "أفلحت الوجوه". فردوا عليه: "ووجهَك يا رسولَ الله". ورموا رأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله..

اطمأن قلب (ابن مسلمة) أخيرًا بعد أن وفى بعهد لرسول الله، وعلم أن اليهود لن يردوا على مقتل طاغيتهم، فما أيسر أن يدب الرعب في قلوبهم. علم اليهود أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لن يتوانى عن استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعًا لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات.. ولزموا الهدوء.. واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها"(3).

**********************

كان الرسول على راحلته و(محمد بن مسلمة) آخذ بزمامها يطوف بالبيت بعد فتح مكة وفي يده قوس يطعن به الأصنام حول الكعبة فتتساقط على وجوهها وهو -صلى الله عليه وسلم- يرتّل آيات من القرآن {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} [الإسراء:81]. وقد اختلطت مشاعر الفرح والثناء على الله بالتواضع والافتقار إلى فضله سبحانه في قلب (محمد) الذي أحكم يده بقوة على زمام راحلة الرسول بعد أن لفّها عدة مرات حول معصمه، وتذكّر حينها عندما كان قريبًا من النبي في غزوة أحد حين أُفرد النبي في مجموعة صغيرة من أصحابه بعد تبدد المسلمين في الموقف، وها هو الرسول يُحيطه أصحابُه من المهاجرين والأنصار ترتفع أصواتُهم بالتلبية وقريش قد وقفت صفوفًا تنتظر ما يَصنع بها رسول الله.

وفي غمرة الفرحة بنصر الله والفتح.. تذكر محمد كلمة الرسول له: "يا محمد، ستكون فُرقةٌ وفتنة واختلاف، فاكسر سيفك، واقطع وَتَرَك، واجلس في بيتك"(4).

ونظر إلى سيفه متعجبًا، لا أحسب إلا أن الفتنة قد انطفأ أَوَارُها، فتح الله مكة على رسوله، ودارت الدوائر على اليهود والأعراب.. ثم عاد وقال: "الله ورسوله أعلم، اللهم بصرني بالفتنة لأجُلَّ سيف رسول الله من الوقوع فيها".

****************

أقبل الخليفة عمر بن الخطاب على مجلس بني حارثة، وهناك التقى بـ(محمد بن مسلمة) فسأله كعادته في محاسبة نفسه: كيف تراني؟ فرد عليه محمد: أراك كما أُحب، وكما يُحب من يُحب لك الخير، قويًا على جمع المال، عفيفًا عنه، عدلًا في قسمه، ولو مِلتَ لعدلناك كما يُعدل السهمُ في الثقاف. فاستبشر عمر بجواب (محمد) وقال: "الحمد لله، الذي جعلني في قوم إذا مِلتُ عدلوني(5).

*******************

ولأن (محمد بن مسلمة) كان حريصًا أن يضع سيفه حيث أمر رسول الله، ولأن حذيفة بن اليمان ذكر عنه أنه لا تضره الفتنة، فقد اعتزل (محمد) الفتنة ولم يشارك في وقعة الجمل ولا صفّين، واتخذ سيفًا من خشب، وأعلن بصراحة: "ما أريد أن يشتمل عليّ شيء من أمصاركم حتى تنجلي عما انجلت"(6).

ويبدو أن اعتزال (محمد بن مسلمة) لم يرق لأحد الأشقياء ناعقي الفتنة، فاقتحم عليه داره وقتله ليموت شهيدًا -رضي الله عنه وأرضاه- بعد سبعة وسبعين عامًا قضى جُلَّها حارسًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجد: صاحب المنزلة العظيمة، المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 217، رابطة العلام الإسلامي، ط الثامنة.
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، 3811.
(3) الرحيق المختوم، ص 307.
(4) سير أعلام النبلاء، للذهبي.
(5) المصدر السابق.
(6) صححه الألباني.
‏٢٢‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:٢٦ م‏
تفكيك أدوات السلطة (القوة المسلحة) [لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj ] د. عمرو عادل "إذا كنتَ بعيداً عن العدو فاجعله يعتقد أنك قريب". هذا ما قاله (صن تشو) منذ 25 قرنًا تقريبا، وما زالت أقواله مرجعا لكل من له عدو يحاول الانتصار عليه، والعدو أصبح في شوارعنا كما نعلم جميعا، يملأ المؤسسات والأقسام والوحدات العسكرية، ولذلك علينا أن نتّبع أقوال (صن تشو)، وأرجو من الجميع قراءته، فهو خطوة مهمة في طريق الخروج مما نحن فيه. القوة المسلحة وسيلة المجتمع الكبرى لحمايته من أشد الأخطار عليه، ويمكن توصيفها في عدة نقاط: 1- القوة البشرية. 2- الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية والعقيدة القتالية. 3- السلاح. هذه العناصر الثلاثة واجب البحث عن مسارات إضعافها وتفكيكها في مسار تفكيك أدوات السلطة، وهذا الموضوع محل الحديث، وقبل الخوض في الوسائل والمسارات المقترحة ينبغي الاتفاق على عدة أمور مبدئية: 1- الشعب –أيُّ شعب- له الحق في امتلاك السلاح الذي يدافع به عن نفسه حتى في وجود قوى نظامية مؤسسية لتلك الوظيفة، فسقوط الجيوش وخاصة المهترئة كحالة الجيوش العربية لا بد أن يتبعها وسيلة شعبية للمقاومة. 2- ما يسمى بالجيش المصري أكّد على مدى تاريخه ومنذ إنشاءه على يد الإنجليز في 1882 أنه أقرب لجيوش الاحتلال منه لجيش "وطني"، كما أن فكرة الجيش الوطني تحتاج إلى مراجعة في بنية السلطة الحديثة، ليس هذا مجالها الآن. 3- العبرة بتقييم مؤسسة ما ليس باسمها ولكن بما تفعله وتقوم به من إجراءات وسياسات، وعمامة أو جلباب الجيش الوطني واللسان الواحد ولون الوجه الواحد ليست فقط كافية للتقييم. 4- أن ما تسمى مؤسسة الجيش تحوّلت لطبقة حاكمة مع بعض القوى الأخرى، وانفصلت عن الشعب تماما، مما يُتيح لنا بقدر كبير من الثقة عدم اعتدادهم من شعب مصر الكبير. والآن يمكننا بعد الاتفاق على هذه الأمور الأربعة أن نبدأ في تحديد المسارات والإجراءات لتفكيك كل عنصر من العناصر الثلاثة المذكورة: أولا: القوة البشرية. الجيوش في المجتمعات القوية هي خط الدفاع الأول عن الأمة، ولذلك فإن الشعب بأكمله يجب أن يتحول إلى جيش في حالات الخطر، وهناك نماذج متعددة لذلك مثل مؤسسات قوات الدفاع الشعبي الرسمية أو جماعات المقاومة الشعبية التي تظهر بعد انهيار أو خيانة الجيوش، وتعتمد سرعة تكوين وبدء المقاومة الشعبية بعد انهيار الجيوش على مدى الاستعداد الفكري والنفسي لدى الشعوب للمقاومة، كما تعتمد على إدراكهم أن هذا حق أصيل قبل أن يكون واجبًا جماعيًّا لكل القادرين على الفعل المقاوم. وفي حالاتنا في الأمم العربية والإسلامية، في غالبها، لم تعد الجيوش إلا وسائل استكمال الاحتلال بصورة أكثر لطفا، وبالتالي يجب على الشعب المقاومة، والغريب أن الدول التي تعتمد على التجنيد الإجباري كحالة مصر تستخدم القوة البشرية من الشعب الذي تنتهكه في حماية نفسها وبناء قوتها البشرية. فما يُسمى بالجيش المصري في حالة انعزال عن باقي الجيش، وهو الشعب، كما أنه يستخدم عناصر شعبية في تكبير حجمه. فعلينا إذن تفكيك القوة البشرية التي يستخدمها وذلك بنشر وعي عام داخل قطاع الشباب المقبل على التجنيد أو في فترة الاحتياط بالآتي: 1- الجيش لا يُدافع عن مصر، لا الشعب ولا الأرض، بل يُدافع عن النظام الحاكم الذي يحمي إسرائيل ولا يخرج عن المجتمع الدولي ومصالحه، ومدة البقاء بالجيش هي فترة استعباد غير مباشر للأعداء. 2- التجنيد الإجباري مفهوم في حالات الحرب، أما في الحالات العادية فهي عبودية. 3- الجنود منتمون للشعب أولا وأخيرا، ووجودهم في جيش الاحتلال لا يعني انفصالهم عن الشعب. 4- الجندي في حالة الثورة يضع سلاحه أرضا، تاركا القلة الموجودة من الضباط والصف، ولا يرفع سلاحه ضد الشعب الذي ينتمي إليه. 5- الجندي هو سائق السيارة والدبابة والمدرعة وحامي الوحدات والقائم على الاتصالات، وإذا قرر الانسحاب فلن يبقى أحد في مواجهة الثورة. 6- كل جندي يجب عليه حفظ كل شبر في الوحدة التي يؤدي فترة التجنيد فيها، فربما يكون ذلك مفيدا في وقت ما. هذه الأمور وغيرها تحت مسار محدد ألا وهو أن القوة البشرية الغالبة داخل ما يسمى الجيش تنتمي بالأساس للشعب، ولذلك فإن التوعية السابقة للثورة لهذه الكتلة، وتحديد إجراءات معينة لهم أثناء المد الثوري تُحقّق شلل القوة المسلحة وتُعجزها عن المواجهة، وهي النصر الأكبر. نذْكر (صن تشو) مرة أخرى بقوله: " يكمُن فن الحرب الفائق في إخضاع العدو دون قتال." ما يمكن أن يفعله الجنود داخل الوحدات -كلٌ حسب مكانه- كثير للغاية، لا يتسع المجال لذكره، وهو متروك لإبداع الشباب المقبل على التجنيد. وهناك نقطة أخرى مهمة تتعلق بالصبر والقدرة على ضبط النفس، فعدم التعجل والصمت العميق لكل فرد= قوة لا تُقهر. ثانيا: الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية والعقيدة القتالية. ينبغي إدراك أن القوة البشرية والسلاح يتحول إلى عبئ -وليس قيمة مضافة- في حال غياب استراتيجيات واضحة وتكتيكات منضبطة تحت مظلة أفكار كلية "العقيدة القتالية"، ولذلك فتفكيك تلك الأدوات غاية في الأهمية. فعلى مستوى العقيدة القتالية، ينبغي التأكيد الدائم على أن العقيدة القتالية لمَا تُسمى المؤسسة العسكرية لم تعد متوافقة مع الشعب، بل أصبحت في حالة عداء معه، وهي في الغالب ليست مكتوبة وتحتاج إلى أبحاث منضبطة علميا، لتأطير العقيدة الحالية لتلك العصابات المنظمة، وترسيخها الدائم في عقول الجماهير بكل الوسائل المتاحة. أما على مستوى الاستراتيجيات والتكتيكات، فكل ما يمكن معرفته عن تكتيكات التحرك والمناورة وخطط العمليات من الجنود –وهم القوة الضاربة والفاعلة– أثناء فترات التجنيد هي أحد أهم المحاور لشل حركة القوة المسلحة أثناء المد الثوري، فمعرفة العدو أحد محاور النجاح في المواجهة، وبمعرفة كل تكتيكات التحرك يمكن تخطيط المواجهة بأقل قدر من الخسائر. لا أريد الخوض في مفهوم الخيانة والولاء... فهذا يحتاج إلى الكثير من الكلمات والأفكار ليس هذا مجالها، ولكن بشكل عام لا بد أن تُحدّد مكانك وتُوصّف الوضع بشكل بسيط وعميق، فنحن شعب محاصر ومسجون داخل بلاده بواسطة قوة مسلحة مجرمة، ولذلك فإن تصنيف هذه القوة المسلحة على أنها عدو= أحد البديهيات التي لا تقبل الجدل، وبناءً على هذه الحقيقة فالتعامل مع هذه الكتلة المسلحة يجب أن يكون على هذا الأساس، فقط حدّد مكانك... هل أنت مع الشعب أم أعدائه؟ وفي تلك اللحظة ستُدرك لأي جانب تنتمي. ثالثا: القوة المسلحة. هذه أكبر العقبات في طريق التحرير، والعمل الدؤوب على المحورين السابقين، بتفكيك القوة البشرية وجعلها قوة سلبية لدى النظام، وكذلك بإضعاف القدرة التكتيكية والحركية للعدو بمعرفة خططه واحتمالات تحركه، يقلل كثيرا من فعالية القوة المسلحة، ولكنه بالتأكيد لا يمكنه القضاء عليها كليّا. وهناك مساران مهمان للتعامل مع القوة المسلحة: 1- الإمدادات اللوجستية: تُعد الإمدادات اللوجستية من وقود وقطع غيار وذخائر روح المُعِدّة العسكرية، وفي غيابها تتحول المعدة إلى قطعة من الحديد لا قيمة لها، ومن الأمور التي ربما ما زالت على حالها أنّ قوة الذخائر الرئيسية لأي تشكيل في مصر تبتعد عن موقعه بمسافات تصل إلى 100 كم، وذلك لمنع أي احتمال لحدوث تمرد مسلح، ولذلك فإن معرفة شبكات إمدادات الوقود والغذاء للوحدات وحرمان الوحدات منها يُضعف تماما من القوة الفعلية للأسلحة كما أنه يصيب القوة البشرية بحالة من الإحباط والخوف، وهذا كاف لخروجها تماما من المعركة، وخاصة في غياب عقيدة قتالية أخلاقية منتمية للشعب عند هذا الجيش. 2- الأسلحة: في حالة النجاح الجزئي أو الكلي للإجراءات السابقة، يُصبح احتمال خروج واسع للسلاح محدودًا، ولكنّ الأمر ما يزال خطيرا ومؤثرا وربما حاسما، إذ الاستعداد للمواجهة مع القوة المسلحة لا بد أن يكون واسعا ومؤثرا، نُذكّر أننا نتحدث عن ثورة شعبية ووجود شعبي واسع في المقاومة، ولذلك فالجميع مدعو للعمل ولو كنت وحدك، وفي عدة مقالات قادمة -إذا تيسر الأمر- سيكون الحديث عن كيفية بناء التنظيمات الثورية حتى لو كنت وحدك. والاستعداد للمواجهة يحتاج إلى طرق مبتكرة وأفكار بسيطة في متناول الجميع يمكنها تقليل أو إنهاء قدرة السلاح على العمل، أو شل حركتها، والمهندسون وخاصة من له خبرة بالعمل العسكري هم الأقدر على التفكير في هذا الأمر، وكل فكرة مهما كانت بسيطة قد تكون حاسمة. إن الهدف من كل ذلك هو توسيع دائرة المشاركة في كافة المحاور على المسارين الرئيسيين للتحرير، وهما: تقوية البناء المجتمعي، وإضعاف وتفكيك أدوات السلطة. وكل منا قادر على فعلٍ ما في مكانٍ ما لإنجاح ذلك، أما كيفية ربط كل هذه الأمور ببعضها، فهذا ليس عملا كلاسيكيا معروفا مسبقا، ولكن له بعض المعايير والاحتمالات، وهذا له حديث آخر.
تفكيك أدوات السلطة
(القوة المسلحة)

[لتحميل العدد الجديد كاملاً اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj ]

د. عمرو عادل

"إذا كنتَ بعيداً عن العدو فاجعله يعتقد أنك قريب".

هذا ما قاله (صن تشو) منذ 25 قرنًا تقريبا، وما زالت أقواله مرجعا لكل من له عدو يحاول الانتصار عليه، والعدو أصبح في شوارعنا كما نعلم جميعا، يملأ المؤسسات والأقسام والوحدات العسكرية، ولذلك علينا أن نتّبع أقوال (صن تشو)، وأرجو من الجميع قراءته، فهو خطوة مهمة في طريق الخروج مما نحن فيه.

القوة المسلحة وسيلة المجتمع الكبرى لحمايته من أشد الأخطار عليه، ويمكن توصيفها في عدة نقاط:

1- القوة البشرية.
2- الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية والعقيدة القتالية.
3- السلاح.

هذه العناصر الثلاثة واجب البحث عن مسارات إضعافها وتفكيكها في مسار تفكيك أدوات السلطة، وهذا الموضوع محل الحديث، وقبل الخوض في الوسائل والمسارات المقترحة ينبغي الاتفاق على عدة أمور مبدئية:

1- الشعب –أيُّ شعب- له الحق في امتلاك السلاح الذي يدافع به عن نفسه حتى في وجود قوى نظامية مؤسسية لتلك الوظيفة، فسقوط الجيوش وخاصة المهترئة كحالة الجيوش العربية لا بد أن يتبعها وسيلة شعبية للمقاومة.

2- ما يسمى بالجيش المصري أكّد على مدى تاريخه ومنذ إنشاءه على يد الإنجليز في 1882 أنه أقرب لجيوش الاحتلال منه لجيش "وطني"، كما أن فكرة الجيش الوطني تحتاج إلى مراجعة في بنية السلطة الحديثة، ليس هذا مجالها الآن.

3- العبرة بتقييم مؤسسة ما ليس باسمها ولكن بما تفعله وتقوم به من إجراءات وسياسات، وعمامة أو جلباب الجيش الوطني واللسان الواحد ولون الوجه الواحد ليست فقط كافية للتقييم.

4- أن ما تسمى مؤسسة الجيش تحوّلت لطبقة حاكمة مع بعض القوى الأخرى، وانفصلت عن الشعب تماما، مما يُتيح لنا بقدر كبير من الثقة عدم اعتدادهم من شعب مصر الكبير.

والآن يمكننا بعد الاتفاق على هذه الأمور الأربعة أن نبدأ في تحديد المسارات والإجراءات لتفكيك كل عنصر من العناصر الثلاثة المذكورة:

أولا: القوة البشرية.

الجيوش في المجتمعات القوية هي خط الدفاع الأول عن الأمة، ولذلك فإن الشعب بأكمله يجب أن يتحول إلى جيش في حالات الخطر، وهناك نماذج متعددة لذلك مثل مؤسسات قوات الدفاع الشعبي الرسمية أو جماعات المقاومة الشعبية التي تظهر بعد انهيار أو خيانة الجيوش، وتعتمد سرعة تكوين وبدء المقاومة الشعبية بعد انهيار الجيوش على مدى الاستعداد الفكري والنفسي لدى الشعوب للمقاومة، كما تعتمد على إدراكهم أن هذا حق أصيل قبل أن يكون واجبًا جماعيًّا لكل القادرين على الفعل المقاوم.

وفي حالاتنا في الأمم العربية والإسلامية، في غالبها، لم تعد الجيوش إلا وسائل استكمال الاحتلال بصورة أكثر لطفا، وبالتالي يجب على الشعب المقاومة، والغريب أن الدول التي تعتمد على التجنيد الإجباري كحالة مصر تستخدم القوة البشرية من الشعب الذي تنتهكه في حماية نفسها وبناء قوتها البشرية.

فما يُسمى بالجيش المصري في حالة انعزال عن باقي الجيش، وهو الشعب، كما أنه يستخدم عناصر شعبية في تكبير حجمه.

فعلينا إذن تفكيك القوة البشرية التي يستخدمها وذلك بنشر وعي عام داخل قطاع الشباب المقبل على التجنيد أو في فترة الاحتياط بالآتي:

1- الجيش لا يُدافع عن مصر، لا الشعب ولا الأرض، بل يُدافع عن النظام الحاكم الذي يحمي إسرائيل ولا يخرج عن المجتمع الدولي ومصالحه، ومدة البقاء بالجيش هي فترة استعباد غير مباشر للأعداء.

2- التجنيد الإجباري مفهوم في حالات الحرب، أما في الحالات العادية فهي عبودية.

3- الجنود منتمون للشعب أولا وأخيرا، ووجودهم في جيش الاحتلال لا يعني انفصالهم عن الشعب.

4- الجندي في حالة الثورة يضع سلاحه أرضا، تاركا القلة الموجودة من الضباط والصف، ولا يرفع سلاحه ضد الشعب الذي ينتمي إليه.

5- الجندي هو سائق السيارة والدبابة والمدرعة وحامي الوحدات والقائم على الاتصالات، وإذا قرر الانسحاب فلن يبقى أحد في مواجهة الثورة.

6- كل جندي يجب عليه حفظ كل شبر في الوحدة التي يؤدي فترة التجنيد فيها، فربما يكون ذلك مفيدا في وقت ما.

هذه الأمور وغيرها تحت مسار محدد ألا وهو أن القوة البشرية الغالبة داخل ما يسمى الجيش تنتمي بالأساس للشعب، ولذلك فإن التوعية السابقة للثورة لهذه الكتلة، وتحديد إجراءات معينة لهم أثناء المد الثوري تُحقّق شلل القوة المسلحة وتُعجزها عن المواجهة، وهي النصر الأكبر. نذْكر (صن تشو) مرة أخرى بقوله: " يكمُن فن الحرب الفائق في إخضاع العدو دون قتال."

ما يمكن أن يفعله الجنود داخل الوحدات -كلٌ حسب مكانه- كثير للغاية، لا يتسع المجال لذكره، وهو متروك لإبداع الشباب المقبل على التجنيد. وهناك نقطة أخرى مهمة تتعلق بالصبر والقدرة على ضبط النفس، فعدم التعجل والصمت العميق لكل فرد= قوة لا تُقهر.

ثانيا: الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية والعقيدة القتالية.

ينبغي إدراك أن القوة البشرية والسلاح يتحول إلى عبئ -وليس قيمة مضافة- في حال غياب استراتيجيات واضحة وتكتيكات منضبطة تحت مظلة أفكار كلية "العقيدة القتالية"، ولذلك فتفكيك تلك الأدوات غاية في الأهمية.

فعلى مستوى العقيدة القتالية، ينبغي التأكيد الدائم على أن العقيدة القتالية لمَا تُسمى المؤسسة العسكرية لم تعد متوافقة مع الشعب، بل أصبحت في حالة عداء معه، وهي في الغالب ليست مكتوبة وتحتاج إلى أبحاث منضبطة علميا، لتأطير العقيدة الحالية لتلك العصابات المنظمة، وترسيخها الدائم في عقول الجماهير بكل الوسائل المتاحة.
أما على مستوى الاستراتيجيات والتكتيكات، فكل ما يمكن معرفته عن تكتيكات التحرك والمناورة وخطط العمليات من الجنود –وهم القوة الضاربة والفاعلة– أثناء فترات التجنيد هي أحد أهم المحاور لشل حركة القوة المسلحة أثناء المد الثوري، فمعرفة العدو أحد محاور النجاح في المواجهة، وبمعرفة كل تكتيكات التحرك يمكن تخطيط المواجهة بأقل قدر من الخسائر.

لا أريد الخوض في مفهوم الخيانة والولاء... فهذا يحتاج إلى الكثير من الكلمات والأفكار ليس هذا مجالها، ولكن بشكل عام لا بد أن تُحدّد مكانك وتُوصّف الوضع بشكل بسيط وعميق، فنحن شعب محاصر ومسجون داخل بلاده بواسطة قوة مسلحة مجرمة، ولذلك فإن تصنيف هذه القوة المسلحة على أنها عدو= أحد البديهيات التي لا تقبل الجدل، وبناءً على هذه الحقيقة فالتعامل مع هذه الكتلة المسلحة يجب أن يكون على هذا الأساس، فقط حدّد مكانك... هل أنت مع الشعب أم أعدائه؟ وفي تلك اللحظة ستُدرك لأي جانب تنتمي.

ثالثا: القوة المسلحة.

هذه أكبر العقبات في طريق التحرير، والعمل الدؤوب على المحورين السابقين، بتفكيك القوة البشرية وجعلها قوة سلبية لدى النظام، وكذلك بإضعاف القدرة التكتيكية والحركية للعدو بمعرفة خططه واحتمالات تحركه، يقلل كثيرا من فعالية القوة المسلحة، ولكنه بالتأكيد لا يمكنه القضاء عليها كليّا.

وهناك مساران مهمان للتعامل مع القوة المسلحة:

1- الإمدادات اللوجستية: تُعد الإمدادات اللوجستية من وقود وقطع غيار وذخائر روح المُعِدّة العسكرية، وفي غيابها تتحول المعدة إلى قطعة من الحديد لا قيمة لها، ومن الأمور التي ربما ما زالت على حالها أنّ قوة الذخائر الرئيسية لأي تشكيل في مصر تبتعد عن موقعه بمسافات تصل إلى 100 كم، وذلك لمنع أي احتمال لحدوث تمرد مسلح، ولذلك فإن معرفة شبكات إمدادات الوقود والغذاء للوحدات وحرمان الوحدات منها يُضعف تماما من القوة الفعلية للأسلحة كما أنه يصيب القوة البشرية بحالة من الإحباط والخوف، وهذا كاف لخروجها تماما من المعركة، وخاصة في غياب عقيدة قتالية أخلاقية منتمية للشعب عند هذا الجيش.

2- الأسلحة: في حالة النجاح الجزئي أو الكلي للإجراءات السابقة، يُصبح احتمال خروج واسع للسلاح محدودًا، ولكنّ الأمر ما يزال خطيرا ومؤثرا وربما حاسما، إذ الاستعداد للمواجهة مع القوة المسلحة لا بد أن يكون واسعا ومؤثرا، نُذكّر أننا نتحدث عن ثورة شعبية ووجود شعبي واسع في المقاومة، ولذلك فالجميع مدعو للعمل ولو كنت وحدك، وفي عدة مقالات قادمة -إذا تيسر الأمر- سيكون الحديث عن كيفية بناء التنظيمات الثورية حتى لو كنت وحدك.

والاستعداد للمواجهة يحتاج إلى طرق مبتكرة وأفكار بسيطة في متناول الجميع يمكنها تقليل أو إنهاء قدرة السلاح على العمل، أو شل حركتها، والمهندسون وخاصة من له خبرة بالعمل العسكري هم الأقدر على التفكير في هذا الأمر، وكل فكرة مهما كانت بسيطة قد تكون حاسمة.

إن الهدف من كل ذلك هو توسيع دائرة المشاركة في كافة المحاور على المسارين الرئيسيين للتحرير، وهما: تقوية البناء المجتمعي، وإضعاف وتفكيك أدوات السلطة. وكل منا قادر على فعلٍ ما في مكانٍ ما لإنجاح ذلك، أما كيفية ربط كل هذه الأمور ببعضها، فهذا ليس عملا كلاسيكيا معروفا مسبقا، ولكن له بعض المعايير والاحتمالات، وهذا له حديث آخر.
‏١٩‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٦:١٤ م‏
مذكرات الشيخ رفاعي طه (2) أول الطريق إلى المسجد.. وأول الطريق إلى السياسة سجّلها عنه وحرّرها: @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj] لما أقمنا في إدفو، بالتحديد في قرية كوم الأمير التي بها المصنع، ذهبتُ إلى كُتَّاب الشيخ حسين، وهو الكُتَّاب الثاني في حياتي، كان شيخه حسين أشهب، ثم حَدَثَتْ واقعة طريفة كانت طريق دخولي للمدرسة الابتدائية: قدَّر الله أنّ جارنا في منزلنا بإدفو الأستاذ صادق كان مدرسا ابتدائيا، وكان يعطي الدروس الخصوصية لتلميذين: متولي وعبد الرازق، فكنت أذهب لأحضر معه هذه الدروس بحكم الجيرة، ولم يكن يصرفني ولم يطالبني بأموال أيضا، وأحيانا حين كان يسأل متولي أو عبد الرازق أسئلة كنت أجيبه عنها، وتكرر هذا مني حتى سألني بعد نحو شهر: أين تتعلم فإني لا أراك في المدرسة؟! ولم يكن بالمركز سوى هذه المدرسة التي يُدرِّس فيها، فذكرت له أني أذهب إلى كُتَّاب الشيخ حسين! فقال: هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟ فقلت: لا أدري، اسأل والدِي. وحين عاد أبي من عمله بادره الأستاذ صادق فسأله: يا عم أحمد، أي مدرسة يذهب إليها ابنك؟ فقال أبي: المدرسة بعيدة عنا، ولكنه يذهب إلى الكُتَّاب. فقال: يمكن أن آخذه معي إلى المدرسة. فقال أبي: يكون لك جزيل الشكر! وهكذا دخلت إلى المدرسة الابتدائية! كان الأستاذ صادق يُدرّس في الصف الثالث الابتدائي، فاصطحبني معه فأجلسني في الصف الثالث مباشرة، ثم أجلسني في مقدمة الفصل، وحين جاءت حصة القراءة قال لي: اقرأ. فلم أعرف، فأخذ يشجعني ويقول: اقرأ.. اقرأ، فلم يكن مني إلا أن بكيت، فأخذ يربت على كتفي ويهدئني، ثم حين جاءت الراحة التي تكون في منتصف اليوم الدراسي، أخذ بيدي ووضعني في الصف الثاني الابتدائي، وكان يُدرّس به الأستاذ محمد عبد الجواد، ولم يكن ثمة مكان فارغ إلا آخر مكان، فأجلسني فيه، ولم يطلب مني القراءة في البداية، ثم بدأ الأطفال بالقراءة واحدا تلو الآخر، فلما جاء دوري كنت قد حفظت النصّ الذي يقرؤونه، فلاحظ الأستاذ أني لا أقرأ ولا أقلب الصحفة، لقد وضعت كل تركيزي في حفظ النص، وهو ما كان، فاقترب مني الأستاذ محمد كأنه معجب بي، وقال: اقرأ صفحة أخرى، فعجزت عن ذلك، فأدرك أنني لا أعرف القراءة ولكنني أحفظ بسرعة، فقال: - ما اسمك؟ - اسمي رفاعي أحمد طه. - من أين أنت؟ - من أرمنت. - أنت جيد يا رفاعي. وأعطاني إصبع طباشير أحمر كمكافأة، وصار يعاملني بلطف، ويعلمني القراءة كل يوم، ويعلمني في وقت الراحة وحدي بعيدا عن بقية التلاميذ، وبهذا بَقِيْتُ في الصف الثاني ولم أدخل الصف الأول، واستمررت في هذه المدرسة، وكنت دائما صاحب المركز الأول. ومع هذا فقد استمر انتظامي في الكُتَّاب، إذ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا وإلى الكُتَّاب عصرًا، وقد طلبت من الشيخ حسين أن أُغيّر موعدي إلى العصر، وكان في الكُتَّاب شاب في الخامسة عشرة من عمره يحفظ القرآن ويُحفِّظ آخرين كذلك، وفي ذلك الوقت عرفنا الألواح الخشبية وعرفنا "الطفلة" التي نمسح بها المكتوب. لقد كان الفارق بين القريتين كبيرا، ويرجع ذلك بالأساس بسبب المصنع، إذ أنه يستجلب الكفاءات للعمل، مما يعود على ارتفاع مستوى القرية، وكانت المدرسة جميلة نسبيا، وكنت أول مرة أعرف هذا الذي نجلس عليه، يُسمى "الدُّرْج". في تلك الفترة كان أكثر الناس تأثيرا فيّ الأستاذان: صادق ومحمد عبد الجواد، كان الأستاذ محمد يُحبُّني كثيرا، ويوليني عناية خاصة، وكنت مستمرا بالحضور في درس الأستاذ صادق مع متولي وعبد الرازق دون أن يطالبني بنقود لفترة طويلة، وكان يُعلِّمني الصلاة، وعلى الرغم من أن الشيخ حسن كان يعلمني القرآن لكنه لم يكن مهتما بهذا الأمر ولم نكن نصلي في الكُتَّاب. بدأت مرحلة التدين حين انتظمت في الذهاب إلى المسجد، كان هذا في السنة الرابعة الابتدائية، كان والدِي يُصلّي الجمعة في المسجد ويأخذني معه، ولا أتذكر أنه اصطحبني في أي صلاة أخرى، وعندما ذهبت أول مرة للمسجد غمرتني السعادة، إذ وجدت كثيرا من الناس يصلون، فتعلقت بالمسجد، فكنت أقول لأبي: سأذهب للصلاة، وأذهب بمفردي، ثم لاحظ الشيخ محمود عسران إمام المسجد أني أصلي وليس معي والدي، فقال لي: - أنت يا عِزّ، (واشتهرت في تلك الفترة باسم عزّ) تأتي دائما للصلاة، فلماذا لا تصلي معنا الفجر؟ - وما الفجر؟ - صلاة الصبح، هناك صلاة نصليها عند الصبح اسمها صلاة الفجر.. ألا تصلي الفجر في البيت؟ - لا، أنا أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة. - ألا تصليها في وقت الظلمة؟ - لا، أصليها عند ذهابي للمدرسة والشمس مشرقة - إن صلاة الصبح تكون في الظلام وليس عند الشروق. فكنت بعدها أريد أن أسهر الليل حتى يؤذن الفجر فأصلي، ولكني نمت وقلت لأمي: أيقظيني في صلاة الفجر، لكنها لم تفعل. ثم استيقظت في الظلام فظننت أن الفجر قد حان وقته، فتوضأت وصليت ركعتين، ثم رويت هذا للشيخ محمود عسران فضحك كثيرا، ووعدني أنه سيمرّ عليّ عند صلاة الفجر ليصطحبني معه، وأوفى بوعده. لكن أزمة الربو كانت تشتد عليّ، ففي طريقي إلى المسجد أتوقف فأجلس خمس أو ست مرات لشدة الألم، وحاولَت أمي أن تُقنعني بالصلاة في البيت لسبب المرض، وذات مرة شتمت الشيخ محمود وصاحت به: ألا ترى أنه مريض، ولا يستطيع الذهاب؟! فقال لها: إن هواء الفجر جميل، ولعله يُشفى به، دعيه يصلي لعل الله يشفيه! وكان الشيخ محمود على معرفة بمُمَرِّض نصراني اسمه ميلاد، فسأله عن حالتي، فكشف عليَّ ثم سألني: من والدُك؟ ولمّا عرف أنه يعمل قريبا من المصنع سألني: لماذا لا يأخذك إلى العيادة الطبية بالمصنع؟ أنا أشتغل هناك، ولعل الطبيب يعالجك، ثم أعطاني حقنة كالسيوم لتخفيف المرض، ولما سألت والدي تعجَّب وقال: فعلا أنا أعرف ميلاد، كيف لم أفكر فيه من قبل؟ ثم أخذني إلى الطبيب وأعطاني نفس تلك الحقن، وكانت تخفف من حالتي وبهذا انتظمت في الصلوات الخمسة جميعا. كان الشيخ محمود عسران حاصلا على الثانوية الأزهرية، ويعمل كاتبا بالمصنع، وكلّفته إدارة المصنع إلى جوار هذا العمل بمسؤولية المسجد، فكان يعمل كاتبا وإماما للمسجد، كان متدينا بسيطا، لم يكن على كثير علم وكانت أكثر خطبته باللغة العامة لا الفصحى، وكان يقول لي: يا بني، هذا الملك (فاروق) كان ملكا صالحا، بل لقد كان لقبه "الملك الصالح"، ولكن أولئك العسكر أشاعوا عنه ما يُسيء إليه ليُدينوه به. لقد كنت صغيرا لا أدرك معنى ما يقول، ولست أدري الآن ما هي المناسبة التي قال لي فيها هذا الكلام. أول ما أتذكره من الأمور العامة هي إعدام سيد قطب، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وأتذكر أن أمي كانت تدعو على الإخوان وتقول "ربنا ينتقم منكم يا إخوان، أنتو عايزين تهدوا السدّ العالي ليه؟"، فعلقت في ذهني كلماتُها فسألتُها: من هم الإخوان؟ فقالت لي: شخص يُدعى سيد أعدموه لأنهم يريدون هدم السد العالي، ولكن الرئيس أمسك بهم ونصره الله عليهم. كذلك كانت تقول عنهم "ناس عِفْشين"! أما ما أتذكره جيدا فهو نكبة 1967، فقبل وقوع الحرب حدَّثنا مدرس المواد الاجتماعية، وكان اسمه عبد العظيم، بأننا سوف ننتصر في هذه الحرب حتما، يقول: هذا العالَم منقسم تحت دولتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فنحن سوف نهزم إسرائيل، فإذا ساعدتها أمريكا فسيتدخل الاتحاد السوفيتي ويساعدنا، والاتحاد السوفيتي أقوى من أمريكا، وحين ننتصر سيكون اسم دولتنا "مصر وفلسطين"، فغزة هي جزء من فلسطين ولكن مصر هي التي تحكمها. قامت الحرب وهُزِمنا، ولم أكن حينئذ أدرك معنى الهزيمة، وأتذكر أن أبي عاد يومذاك حوالي الساعة 12 ظهرا، وكان يبكي بكاء شديدا، وفزعت أمي وصارت تسأله: "مالك فيه إيه؟ مالك؟"، فيقول لها: "اسكتي اسكتي جمال استقال". ثم أعطونا عطلة وجاءوا بسيارات كبيرة وجمعونا من البيوت لنذهب من قرية كوم الأمير إلى إدفو للتظاهر رفضا لاستقالة جمال عبد الناصر، وهي مظاهرات 9 و 10 يونيو. وأذكر أن تلميذا كان إلى جواري وقع على الأرض فمرت عليه السيارة، فسحقت رأسه تماما! لقد رأيت بنفسي رأسه مسحوقة ملتصقة بالأرض، وكان مشهدا لا أنساه أبدا، ولكن الناس صاحوا: فداءً لجمال عبد الناصر! فداء لجمال عبد الناصر. ولم تتوقف السيارة! كان الناس كثيرون في إدفو، كانوا يهتفون "أنور أنور يا سادات.. احنا اخترنا جمال بالذات"، وكان السادات وقتها رئيسا لمجلس الأمة (البرلمان)، وكانت الاستقالة قد قدّمها عبد الناصر أمام مجلس الأمة واستخلف فيها زكريا محي الدين، ولم يزل هذا الهتاف محفورا في ذهني، ثم عدنا إلى القرية وأخبرونا في اليوم التالي بأن جمال عبد الناصر قد تراجع عن الاستقالة. كان الناس في سعادة غامرة لمَا يأتيهم من أخبار الانتصار وما أسقطناه من الطائرات، ثم فجأهم خبر الهزيمة والتنحي كالصاعقة، وفي ذلك الوقت لم أكن أدرك كيف انتصرنا أو انهزمنا، ولم أكن أدرك لماذا استقال جمال عبد الناصر ولماذا تُطالِب الناسُ بعودته؟ لم أكن أدري كل هذا في هذه المرحلة ولكني أسمعه فقط. ....
مذكرات الشيخ رفاعي طه (2)
أول الطريق إلى المسجد.. وأول الطريق إلى السياسة

سجّلها عنه وحرّرها: محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj]

لما أقمنا في إدفو، بالتحديد في قرية كوم الأمير التي بها المصنع، ذهبتُ إلى كُتَّاب الشيخ حسين، وهو الكُتَّاب الثاني في حياتي، كان شيخه حسين أشهب، ثم حَدَثَتْ واقعة طريفة كانت طريق دخولي للمدرسة الابتدائية:

قدَّر الله أنّ جارنا في منزلنا بإدفو الأستاذ صادق كان مدرسا ابتدائيا، وكان يعطي الدروس الخصوصية لتلميذين: متولي وعبد الرازق، فكنت أذهب لأحضر معه هذه الدروس بحكم الجيرة، ولم يكن يصرفني ولم يطالبني بأموال أيضا، وأحيانا حين كان يسأل متولي أو عبد الرازق أسئلة كنت أجيبه عنها، وتكرر هذا مني حتى سألني بعد نحو شهر: أين تتعلم فإني لا أراك في المدرسة؟! ولم يكن بالمركز سوى هذه المدرسة التي يُدرِّس فيها، فذكرت له أني أذهب إلى كُتَّاب الشيخ حسين!

فقال: هل تريد الذهاب إلى المدرسة؟

فقلت: لا أدري، اسأل والدِي.

وحين عاد أبي من عمله بادره الأستاذ صادق فسأله: يا عم أحمد، أي مدرسة يذهب إليها ابنك؟

فقال أبي: المدرسة بعيدة عنا، ولكنه يذهب إلى الكُتَّاب.

فقال: يمكن أن آخذه معي إلى المدرسة.

فقال أبي: يكون لك جزيل الشكر!

وهكذا دخلت إلى المدرسة الابتدائية!

كان الأستاذ صادق يُدرّس في الصف الثالث الابتدائي، فاصطحبني معه فأجلسني في الصف الثالث مباشرة، ثم أجلسني في مقدمة الفصل، وحين جاءت حصة القراءة قال لي: اقرأ. فلم أعرف، فأخذ يشجعني ويقول: اقرأ.. اقرأ، فلم يكن مني إلا أن بكيت، فأخذ يربت على كتفي ويهدئني، ثم حين جاءت الراحة التي تكون في منتصف اليوم الدراسي، أخذ بيدي ووضعني في الصف الثاني الابتدائي، وكان يُدرّس به الأستاذ محمد عبد الجواد، ولم يكن ثمة مكان فارغ إلا آخر مكان، فأجلسني فيه، ولم يطلب مني القراءة في البداية، ثم بدأ الأطفال بالقراءة واحدا تلو الآخر، فلما جاء دوري كنت قد حفظت النصّ الذي يقرؤونه، فلاحظ الأستاذ أني لا أقرأ ولا أقلب الصحفة، لقد وضعت كل تركيزي في حفظ النص، وهو ما كان، فاقترب مني الأستاذ محمد كأنه معجب بي، وقال: اقرأ صفحة أخرى، فعجزت عن ذلك، فأدرك أنني لا أعرف القراءة ولكنني أحفظ بسرعة، فقال:

- ما اسمك؟

- اسمي رفاعي أحمد طه.

- من أين أنت؟

- من أرمنت.

- أنت جيد يا رفاعي.

وأعطاني إصبع طباشير أحمر كمكافأة، وصار يعاملني بلطف، ويعلمني القراءة كل يوم، ويعلمني في وقت الراحة وحدي بعيدا عن بقية التلاميذ، وبهذا بَقِيْتُ في الصف الثاني ولم أدخل الصف الأول، واستمررت في هذه المدرسة، وكنت دائما صاحب المركز الأول.

ومع هذا فقد استمر انتظامي في الكُتَّاب، إذ كنت أذهب إلى المدرسة صباحا وإلى الكُتَّاب عصرًا، وقد طلبت من الشيخ حسين أن أُغيّر موعدي إلى العصر، وكان في الكُتَّاب شاب في الخامسة عشرة من عمره يحفظ القرآن ويُحفِّظ آخرين كذلك، وفي ذلك الوقت عرفنا الألواح الخشبية وعرفنا "الطفلة" التي نمسح بها المكتوب. لقد كان الفارق بين القريتين كبيرا، ويرجع ذلك بالأساس بسبب المصنع، إذ أنه يستجلب الكفاءات للعمل، مما يعود على ارتفاع مستوى القرية، وكانت المدرسة جميلة نسبيا، وكنت أول مرة أعرف هذا الذي نجلس عليه، يُسمى "الدُّرْج".

في تلك الفترة كان أكثر الناس تأثيرا فيّ الأستاذان: صادق ومحمد عبد الجواد، كان الأستاذ محمد يُحبُّني كثيرا، ويوليني عناية خاصة، وكنت مستمرا بالحضور في درس الأستاذ صادق مع متولي وعبد الرازق دون أن يطالبني بنقود لفترة طويلة، وكان يُعلِّمني الصلاة، وعلى الرغم من أن الشيخ حسن كان يعلمني القرآن لكنه لم يكن مهتما بهذا الأمر ولم نكن نصلي في الكُتَّاب.

بدأت مرحلة التدين حين انتظمت في الذهاب إلى المسجد، كان هذا في السنة الرابعة الابتدائية، كان والدِي يُصلّي الجمعة في المسجد ويأخذني معه، ولا أتذكر أنه اصطحبني في أي صلاة أخرى، وعندما ذهبت أول مرة للمسجد غمرتني السعادة، إذ وجدت كثيرا من الناس يصلون، فتعلقت بالمسجد، فكنت أقول لأبي: سأذهب للصلاة، وأذهب بمفردي، ثم لاحظ الشيخ محمود عسران إمام المسجد أني أصلي وليس معي والدي، فقال لي:

- أنت يا عِزّ، (واشتهرت في تلك الفترة باسم عزّ) تأتي دائما للصلاة، فلماذا لا تصلي معنا الفجر؟

- وما الفجر؟

- صلاة الصبح، هناك صلاة نصليها عند الصبح اسمها صلاة الفجر.. ألا تصلي الفجر في البيت؟

- لا، أنا أصلي الصبح قبل الذهاب إلى المدرسة.

- ألا تصليها في وقت الظلمة؟

- لا، أصليها عند ذهابي للمدرسة والشمس مشرقة

- إن صلاة الصبح تكون في الظلام وليس عند الشروق.

فكنت بعدها أريد أن أسهر الليل حتى يؤذن الفجر فأصلي، ولكني نمت وقلت لأمي: أيقظيني في صلاة الفجر، لكنها لم تفعل. ثم استيقظت في الظلام فظننت أن الفجر قد حان وقته، فتوضأت وصليت ركعتين، ثم رويت هذا للشيخ محمود عسران فضحك كثيرا، ووعدني أنه سيمرّ عليّ عند صلاة الفجر ليصطحبني معه، وأوفى بوعده.

لكن أزمة الربو كانت تشتد عليّ، ففي طريقي إلى المسجد أتوقف فأجلس خمس أو ست مرات لشدة الألم، وحاولَت أمي أن تُقنعني بالصلاة في البيت لسبب المرض، وذات مرة شتمت الشيخ محمود وصاحت به: ألا ترى أنه مريض، ولا يستطيع الذهاب؟! فقال لها: إن هواء الفجر جميل، ولعله يُشفى به، دعيه يصلي لعل الله يشفيه!
وكان الشيخ محمود على معرفة بمُمَرِّض نصراني اسمه ميلاد، فسأله عن حالتي، فكشف عليَّ ثم سألني: من والدُك؟ ولمّا عرف أنه يعمل قريبا من المصنع سألني: لماذا لا يأخذك إلى العيادة الطبية بالمصنع؟ أنا أشتغل هناك، ولعل الطبيب يعالجك، ثم أعطاني حقنة كالسيوم لتخفيف المرض، ولما سألت والدي تعجَّب وقال: فعلا أنا أعرف ميلاد، كيف لم أفكر فيه من قبل؟ ثم أخذني إلى الطبيب وأعطاني نفس تلك الحقن، وكانت تخفف من حالتي وبهذا انتظمت في الصلوات الخمسة جميعا.

كان الشيخ محمود عسران حاصلا على الثانوية الأزهرية، ويعمل كاتبا بالمصنع، وكلّفته إدارة المصنع إلى جوار هذا العمل بمسؤولية المسجد، فكان يعمل كاتبا وإماما للمسجد، كان متدينا بسيطا، لم يكن على كثير علم وكانت أكثر خطبته باللغة العامة لا الفصحى، وكان يقول لي: يا بني، هذا الملك (فاروق) كان ملكا صالحا، بل لقد كان لقبه "الملك الصالح"، ولكن أولئك العسكر أشاعوا عنه ما يُسيء إليه ليُدينوه به.

لقد كنت صغيرا لا أدرك معنى ما يقول، ولست أدري الآن ما هي المناسبة التي قال لي فيها هذا الكلام.

أول ما أتذكره من الأمور العامة هي إعدام سيد قطب، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وأتذكر أن أمي كانت تدعو على الإخوان وتقول "ربنا ينتقم منكم يا إخوان، أنتو عايزين تهدوا السدّ العالي ليه؟"، فعلقت في ذهني كلماتُها فسألتُها: من هم الإخوان؟ فقالت لي: شخص يُدعى سيد أعدموه لأنهم يريدون هدم السد العالي، ولكن الرئيس أمسك بهم ونصره الله عليهم. كذلك كانت تقول عنهم "ناس عِفْشين"!
أما ما أتذكره جيدا فهو نكبة 1967، فقبل وقوع الحرب حدَّثنا مدرس المواد الاجتماعية، وكان اسمه عبد العظيم، بأننا سوف ننتصر في هذه الحرب حتما، يقول: هذا العالَم منقسم تحت دولتين: الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فنحن سوف نهزم إسرائيل، فإذا ساعدتها أمريكا فسيتدخل الاتحاد السوفيتي ويساعدنا، والاتحاد السوفيتي أقوى من أمريكا، وحين ننتصر سيكون اسم دولتنا "مصر وفلسطين"، فغزة هي جزء من فلسطين ولكن مصر هي التي تحكمها.

قامت الحرب وهُزِمنا، ولم أكن حينئذ أدرك معنى الهزيمة، وأتذكر أن أبي عاد يومذاك حوالي الساعة 12 ظهرا، وكان يبكي بكاء شديدا، وفزعت أمي وصارت تسأله: "مالك فيه إيه؟ مالك؟"، فيقول لها: "اسكتي اسكتي جمال استقال".

ثم أعطونا عطلة وجاءوا بسيارات كبيرة وجمعونا من البيوت لنذهب من قرية كوم الأمير إلى إدفو للتظاهر رفضا لاستقالة جمال عبد الناصر، وهي مظاهرات 9 و 10 يونيو. وأذكر أن تلميذا كان إلى جواري وقع على الأرض فمرت عليه السيارة، فسحقت رأسه تماما! لقد رأيت بنفسي رأسه مسحوقة ملتصقة بالأرض، وكان مشهدا لا أنساه أبدا، ولكن الناس صاحوا: فداءً لجمال عبد الناصر! فداء لجمال عبد الناصر. ولم تتوقف السيارة!

كان الناس كثيرون في إدفو، كانوا يهتفون "أنور أنور يا سادات.. احنا اخترنا جمال بالذات"، وكان السادات وقتها رئيسا لمجلس الأمة (البرلمان)، وكانت الاستقالة قد قدّمها عبد الناصر أمام مجلس الأمة واستخلف فيها زكريا محي الدين، ولم يزل هذا الهتاف محفورا في ذهني، ثم عدنا إلى القرية وأخبرونا في اليوم التالي بأن جمال عبد الناصر قد تراجع عن الاستقالة.

كان الناس في سعادة غامرة لمَا يأتيهم من أخبار الانتصار وما أسقطناه من الطائرات، ثم فجأهم خبر الهزيمة والتنحي كالصاعقة، وفي ذلك الوقت لم أكن أدرك كيف انتصرنا أو انهزمنا، ولم أكن أدرك لماذا استقال جمال عبد الناصر ولماذا تُطالِب الناسُ بعودته؟ لم أكن أدري كل هذا في هذه المرحلة ولكني أسمعه فقط.
....
‏١٧‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:٣٤ م‏
كنت معهم (2) شاهد على اعتقالات الإسلاميين بالجزائر [لتحميل العدد الجديد اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj] الصغير منير ● كان جهاز التلْفاز ممنوعا على السجناء السياسيين في القاعات والزنازين، ربما لأنّ إدارة السجون كانت تَعْتدّه نوعا من الترف والرفاهية التي يجب ألا ينالها هؤلاء، أو لأنّ الأمور بعد الانقلاب وفي السنتين الأُوليين كانت واقعيًّا وإعلاميًّا في غير صالح السلطات الانقلابيّة، وكانت نشرات الأخبار لا تَذيعُ إلا أنباءَ اغتيال وقتل الضباط والوزراء والكتاب والإعلاميين والشخصيات السياسية التي ساندت الانقلاب، وكان ذلك يبدو انتصارا لأعداء الانقلابيين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجهاديين ممّن كانت السجون قد امتلأت بهم، حتى وإن تبيّن لاحقا أنّ كثيرا من هؤلاء اغتالتهم أجهزة الأمن والاستخبارات في موجة تصفيات جسدية، الغرض منها إمّا الانتقام أو إعادة ترتيب التوازنات داخل منظومة السلطة الانقلابيّة. لم تكن الفضائيات العربيّة قد تأسّست يومئذ ما عدا الأمبيسي والتي تتطلب مشاهدتُها صُحُونا لاقطة لا تتوفّر في السجن، ولم تكن الفضائيات الجزائرية قد وُجِدت أصلا، وكان كلّ ما يَبُثُّهُ التلْفاز هو وجهة نظر السلطة في الأحداث ومواقفها، مع كمّ هائل جدّا من الكذب والتزييف والتدليس وإخفاء الحقائق واتّهام الأبرياء وتزييف الوعي الشعبيّ العامّ، مع كمّ هائل أيضا من البرامج الساقطة التافهة متمثّلةً في الأفلام والأغاني والسهرات التي تُسمّى فنّية ومباريات كرة القدم وغيرها. وفجأةً انتبهتْ إدارة السجون -وهي في الغالب تعمل بالتنسيق المباشر مع جهاز الاستخبارات- فأدخلت أجهزة التلفاز في القاعات الكبرى التي يقترب أو يتجاوز عدد المساجين فيها 100 شخص ورخّصت للمقيمين في الزنازين أن يُدخلوا تلْفازات عن طريق أهاليهم. ولأنّ عددا كبيرا من المساجين كانوا ذوي توجّه سلفيّ متشدّد فقد رفضوا فكرة إدخال التلفاز إلى الزنزانات، بطريقة فيها قدر كبير من الشدّة والفظاظة، في حين كان إخوانهم في نفس الزنزانة يريدون التلفاز لمتابعة الأخبار أو للترفيه، أمّا في القاعات فقد وقع نزاع من نوع آخر؛ إذ كان الرافضون للتلفاز يسارعون إلى إطفائه أو فصله عن المقبس أو حتى تغطيته بستار أو لحاف، وبعضهم تنطّع فسمّاه بالطاغوت واتّهم كلّ من يشاهده بالتمييع والتنازل ورقّة الدين بل وبالدياثة أحيانا، وكان الآخرون يردّون عليهم بوصف التشدّد والتنطّع والخارجيّة والتكفير والجهل وغيرها. قد يبدو الأمر بسيطا في ظاهره ولا يستدعي أن يُذكَر بكلّ هذا التفصيل، ولكن آثارُه كانت واضحةً جدّا في توتّر العلاقات بين المساجين وتسويق وجهة نظر السلطة وتأثير الأخبار والتحليلات والبرامج التي تُبثّ على نفسيات المساجين وطريقة تفكيرهم ومستوى تعاطفهم مع الحركات المسلّحة في الخارج ومع الانقلاب ومخرجاته وإشاعة روح الهزيمة بينهم واللاجدوى من التضحيات التي بذلوها من أجل قضيّة خاسرة لم تكن لتخفى على أيّ مراقب فطن، سواء أثناء تلك الفترة أو بعد مراجعة أحداثها لاحقا. هذا إضافةً لاستئناس كثير من السجناء ببرامج الغناء والترفيه التافهة وبطولات كرة القدم التي كانت تستنزف عواطفَهم وتهدر مشاعرهم في شيء لا قيمة له، وتُضعِف حساسيتهم تجاه القضية الكبرى التي من أجلها سُجنوا، بل وتُفسد أخلاق واستقامة الشباب منهم خاصّة، وقد كنتُ شاهدا على نماذج من ذلك في سجني وهران وتاهرت. وإذا استحضرنا ما يفعله الإعلام المرئيّ في عقول الناس ومشاعرهم وطرائق تفكيرهم وتفاعلهم حتى وهُم أحرار طلقاء أمكننا أن نقيس عليه حال أشخاص محرومين من حريتهم ويخضعون لضغط نفسي كبير ولا يدرون ما يُفعَل بهم ولا أيّ مصير ينتظرهم. ● كانت إدارة السجن والإعلام الرسميّ وشبه الرسميّ تصف السجناء منذ بداية الاعتقالات بأنّهم سجناء سياسيّون، وكان الأمر كذلك في الحقيقة لأنّهم إنما سُجنوا في الغالب الأعمّ بسبب خياراتهم ومواقفهم السياسيّة أو عضويتهم ومناصرتهم لحزب سياسيّ قام الانقلابيّون بحلّه، أو حتى حمل السلاح من أجل الدفاع عن خيار سياسيّ ما، أو دفعا لظلمٍ مارسه عسكر وسياسيّون متحالفون معهم. ثمّ بعد حوالي عامين تُخُلِّي عن استخدام كلمة (سجناء سياسيين) لتتحوّل إلى (السجناء الإرهابيين)، وأُذكّر القارئ هنا أن المخابرات كانت تُسيطر وتراقب الوضع داخل السجون عن قرب شديد، ولم تكن إدارات السجون -وهي التابعة لوزارة العدل قانونيا- سوى فرع للمخابرات بشكل أو بآخر. كان مصطلح (الإرهابيون) مصطلحا جديدا، الغاية منه التنفير والتشويه وبناء صورة ذهنية عن كلّ من يعارض الانقلابيين، أنّهم قتلة ومجرمون وهمجيّون، هذا على المستوى الشعبي، أمّا على مستوى المساجين فقد كان الهدف منه تقزيم صورتِهم عند أنفسهم ودفعهم للتبرّؤ من هذه الوصمة والبحث عن أيّ سلوك أو خطاب يجعلهم يَظهرون في عيون أنفسهم وسجّانيهم والمجتمع معتدلين أبرياء من تهمة الإرهاب. وقد أثمر ذلك للأسف، فقد صار سجناء الحقّ العام يصفون مساجين الجبهة بالإرهابيّين، فيقول أحدهم وهو ذاهب مثلا لجناح يُقيم به هؤلاء: أنا ذاهب لجناح الإرهاب، أو يقول طبيب السجن: اليوم نوبة الإرهابيين في أخذ الدواء، حتى صار وصف الإرهابيّ كلمةً شائعة غير مستهجنة ولا غريبة على ألسن السجناء والسجّانين، وحتى على ألسنة أهالي المساجين وأُمّهاتهم بل وزوجاتهم وأبنائهم، وما زلتُ أذكر جيّدا أحد الشيوخ من سكّان الجبال كان بيته مأوًى للجماعات المسلّحة في منطقته، وكان يُحبّ أمير الجماعة ويحترمه، فلمّا التقيت به في السجن كان يُحدّثني عن هذا الأمير فيقول لي: كان إرهابيّا طيّبا ومؤدَّبا وخلوقا ولا يظلم أحدا!! كان الشيخ المسكين من كثرة سماعه لوصف الإرهابيّ يظنّه مرادفا لوصف مجاهد أو مقاتل. وقد تولّى الإعلام كِبَرَ ذلك، فمارس نوعا من الاستخدام الفجّ لهذا المصطلح وأكثر منه بمناسبة وبغيرها وفي كل السياقات حتى في المقالات والتحاليل الاقتصادية بل والرياضية أحيانا وصار يحشُرُها في كلّ نقاش أو خبر وتعليق. وقد تفاجأ كثير من المساجين عند خروجهم بأنّ الجميع كان يُسمّيهم إرهابيين، ووجد كثير منهم أنفسَهم غرباء في قراهم وأحيائهم وبين أُسَرِهم ومعارفهم. ● من الطرق التي استخدمها بعض مديري السجون إمعانا في الإذلال والإهانة وكسر النفسيّات أنّ مدير السجن وكبار الضباط فيه كانوا يُعطون السجناء أسماء نساء أو يطلبون من السجين أن يختار اسم امرأة ثمّ لا ينادونه بعد ذلك إلا به، ويطلبون حتى من إخوانه أن ينادوه به ويُكثرون من ذلك ويلحّون عليه، وهم يعلمون يقينا أنّ ذلك يَكسرُ نفسيّتَه ويُحطّمُ رجولته ويُشعره بالهوان، وقد حدث ذلك على الأقلّ في سجنين مررتُ بهما هما سجن وهران وسجن تاهرت. ● أسلوب آخر في الإذلال في بعض السجون كان يتمثّل في أن يُخرِجَ مديرُ السجن أو معاونوه أحدَ المساجين مع أحبّ رفقائه إليه وأكثرهم ملازمةً له ثم يأمر الأوّل بضرب الثاني بصفعه على وجهه ثم يصفع الثاني الأوّل، يُأمران أن يفعلا ذلك حتى يَتْعَبَا أو يسقط أحدهما، ومن رفض أن يفعل ذلك ناله الضرب والتنكيل حتى يضعف فيفعل أو يسقط مغشيّا عليه. وقد كان كثير منهم يرفض ذلك ويتحمّل الضرب والسياط، ولكنّ بعضَهم كان يضعف ويخاف ويتحمّل أن يَضرب ويُضرب صفعات معدودات على أن تناله سياطُ وعِصيّ وركلات السجّانين. ● ولأنّ عددا كبيرا من المساجين في البدايات كان من الطلبة والأساتذة والمهندسين والأئمة، وهؤلاء في العادة كانوا يعيشون بين أهليهم مكرّمين محترَمين يوقّرهم الناس، وغالبهم لم يمارس في حياته مهنة أو عملا شاقّا أو مُهينا في العرف الاجتماعيّ –فليس في العمل كلّه ما يُهين– فقد كان من الأساليب المعتمدة في السجون تكليفهم بالأشغال الشاقّة مثل تنظيف الساحات والقاعات وتنظيف المراحيض وغيرها، وهو أمر يمكن احتماله، ويتعوّد عليه السجين مع الوقت، ولكنّ السجّانين كانوا يَزيدون على ذلك سبّ الدين وسبّ الله -سبحانه وتعالى- وقذف أمّهات المساجين واستعمال أقذع وأحطّ العبارات، مع الضرب بالسياط والعِصيّ وتعمّد الإذلال والقهر. وما زلت أذكر الطبيب د.محمد من حيّ الأبيار وكان من عائلة ثريّة ذات أصول أندلسية أو تركيّة، لا أذكر جيّدا، وكان اختصاصه طبّ وجراحة العظام، ما زلت أذكر كيف كان السجّانون في سجن تيارت يتعمّدون إهانته وتحطيم عزّة نفسه، وقد ضربوه مرّة حتى كُسرت ذراعُه فلم يكن ذلك يؤلمه ويؤثّر في نفسيته مثل ما كان يَسمعه من إهانات وسبّ وشتم، ومثله كثير. ● أمّا السجّانون فقصّتهم قصّة أخرى. لقد كان 90 % منهم أشباه أُمّيّين، وكانوا من سكّان الأرياف والقرى النائية في الولايات الداخليّة للجزائر أو من سكّان الأحياء الشعبيّة الفقيرة في المدن الكبرى، وقلّما تجد بينهم يومئذ مَن له مستوى السَّنَة النهائيّة مِن التعليم الثانويّ أو مَن يمتلك شهادة جامعيّة إذا استثنينا عددا قليلا جدّا من الضباط والإداريّين. لهذا فقد كانت تغلب عليهم الغلظة والجفاء والقسوة والفظاظة والجهل وانعدام الذوق وسوء المعاملة، وكان يَزيدهم هيجانا وطغيانا حين يجدون أنفسهم يتحكّمون ويأمرون وينهون ويجلدون رجالا ما كانوا يحلُمون حتى بمجالستهم والحديث إليهم قبل ذلك في الحياة العاديّة، ويشعرون بنشوة غريبة ويستمتعون وهم يتصرّفون بذلك الانحطاط والوقاحة ويمارسون الإذلال وقهر الرّجال الأحرار الشرفاء. وكانت إدارة السجون تمنح هؤلاء السفهاء في بعض الأوقات حرّيّةَ التصرّف مع السناء بعيدا عن أيّ رقابة أو ضبط إداريّ، بما يُشبه التحريض أو غضّ الطرف عنهم، فكانوا حينها يزدادون قسوة وهياجا ضدّ المساجين. وقد كان الإعلام الرسميّ وتوجيهات أجهزة الأمن المباشرة وغير المباشرة تَزيد من شحنهم نفسيا ضدّ المساجين باعتدادهم إرهابيّين وقتلة ومجرمين، خاصّة وكلّ هؤلاء السجّانين يَعُدّون ما يُسوّقه الإعلام الرسمي حقّا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع الإلف والاعتياد وطول مدّة الصراع المسلّح خارج السجون واشتداد ضراوته كانت معاملتُهم تزداد سوءا وعنفا، وبعضهم كان يُقتَل لهم أقارب وأصدقاء لكونهم شرطة أو درَكا أو من الميليشيات التي تأسّست بعد عام 1995، فكانوا لا يجدون طَرَفًا يُفرغون فيه غضبهم وحَنَقَهم إلا المساجين المستضعفين. وبسبب ذلك العنف والقسوة وطريقة التعامل مع السجناء التي اشتَهر أمرُها وشاعت على ألسنة النّاس خارج السجن، فقد كانت التنظيمات المسلّحة -التي لها عناصر تنشط في الاغتيالات داخل المدن- كثيرا ما تقوم بقتل ضبّاط وأعوان إدارة وسجّانين خارج السجن معروفين بحقدهم على السجناء وتنكيلهم بهم، وكانت هذه الاغتيالات في الغالب تُخيف هؤلاء وتردعهم وتُخفّف من الضغط على السجناء لأَشهُرٍ عديدة، وتتحسّن فيها المعاملة بشكل واضح، وقد حدث ذلك في كلّ المدن التي كان يوجد بها سجون تقريبا، وما من سجن إلّا وقُتِل منه على الأقلّ اثنان، وبعضها بلغ عدد من قُتل منه من السجّانين أكثر من ستّة، وقد كنّا نعرف أنّ أحدهم قُتِل حتى دون أن يصلنا أيّ خبر من خارج السجن حين تُفتَح الزنزانات والقاعات صباحا للخروج إلى الساحات فنرى رؤوسَهم مُطرِقة وقد علا وجوههم الوجوم وهم صامتون هادئون على غير عادتهم، وبعضُهم يحرص على إظهار التودّد وحسن المعاملة في حين كانوا قبل ذلك لا تسمع منهم عند الخروج صباحا إلا لسبّ والشتم والصراخ الشديد والتلويح بالسياط والعِصيّ. ومع ذلك فإنّهم سرعان ما كانوا يَنْسُون وتغلِبُهم طباع السوء ويخضعون من جديد لضغط الإدارة أو تعليمات المخابرات حين يرون أنّهم آمنون أو أنّ وتيرة القتل في المدن قد خفّت أو انقطعت لأيّ سبب من الأسباب. وللحديث بقيّة..
كنت معهم (2)
شاهد على اعتقالات الإسلاميين بالجزائر

[لتحميل العدد الجديد اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj]

الصغير منير

● كان جهاز التلْفاز ممنوعا على السجناء السياسيين في القاعات والزنازين، ربما لأنّ إدارة السجون كانت تَعْتدّه نوعا من الترف والرفاهية التي يجب ألا ينالها هؤلاء، أو لأنّ الأمور بعد الانقلاب وفي السنتين الأُوليين كانت واقعيًّا وإعلاميًّا في غير صالح السلطات الانقلابيّة، وكانت نشرات الأخبار لا تَذيعُ إلا أنباءَ اغتيال وقتل الضباط والوزراء والكتاب والإعلاميين والشخصيات السياسية التي ساندت الانقلاب، وكان ذلك يبدو انتصارا لأعداء الانقلابيين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجهاديين ممّن كانت السجون قد امتلأت بهم، حتى وإن تبيّن لاحقا أنّ كثيرا من هؤلاء اغتالتهم أجهزة الأمن والاستخبارات في موجة تصفيات جسدية، الغرض منها إمّا الانتقام أو إعادة ترتيب التوازنات داخل منظومة السلطة الانقلابيّة.

لم تكن الفضائيات العربيّة قد تأسّست يومئذ ما عدا الأمبيسي والتي تتطلب مشاهدتُها صُحُونا لاقطة لا تتوفّر في السجن، ولم تكن الفضائيات الجزائرية قد وُجِدت أصلا، وكان كلّ ما يَبُثُّهُ التلْفاز هو وجهة نظر السلطة في الأحداث ومواقفها، مع كمّ هائل جدّا من الكذب والتزييف والتدليس وإخفاء الحقائق واتّهام الأبرياء وتزييف الوعي الشعبيّ العامّ، مع كمّ هائل أيضا من البرامج الساقطة التافهة متمثّلةً في الأفلام والأغاني والسهرات التي تُسمّى فنّية ومباريات كرة القدم وغيرها.

وفجأةً انتبهتْ إدارة السجون -وهي في الغالب تعمل بالتنسيق المباشر مع جهاز الاستخبارات- فأدخلت أجهزة التلفاز في القاعات الكبرى التي يقترب أو يتجاوز عدد المساجين فيها 100 شخص ورخّصت للمقيمين في الزنازين أن يُدخلوا تلْفازات عن طريق أهاليهم.

ولأنّ عددا كبيرا من المساجين كانوا ذوي توجّه سلفيّ متشدّد فقد رفضوا فكرة إدخال التلفاز إلى الزنزانات، بطريقة فيها قدر كبير من الشدّة والفظاظة، في حين كان إخوانهم في نفس الزنزانة يريدون التلفاز لمتابعة الأخبار أو للترفيه، أمّا في القاعات فقد وقع نزاع من نوع آخر؛ إذ كان الرافضون للتلفاز يسارعون إلى إطفائه أو فصله عن المقبس أو حتى تغطيته بستار أو لحاف، وبعضهم تنطّع فسمّاه بالطاغوت واتّهم كلّ من يشاهده بالتمييع والتنازل ورقّة الدين بل وبالدياثة أحيانا، وكان الآخرون يردّون عليهم بوصف التشدّد والتنطّع والخارجيّة والتكفير والجهل وغيرها.

قد يبدو الأمر بسيطا في ظاهره ولا يستدعي أن يُذكَر بكلّ هذا التفصيل، ولكن آثارُه كانت واضحةً جدّا في توتّر العلاقات بين المساجين وتسويق وجهة نظر السلطة وتأثير الأخبار والتحليلات والبرامج التي تُبثّ على نفسيات المساجين وطريقة تفكيرهم ومستوى تعاطفهم مع الحركات المسلّحة في الخارج ومع الانقلاب ومخرجاته وإشاعة روح الهزيمة بينهم واللاجدوى من التضحيات التي بذلوها من أجل قضيّة خاسرة لم تكن لتخفى على أيّ مراقب فطن، سواء أثناء تلك الفترة أو بعد مراجعة أحداثها لاحقا.

هذا إضافةً لاستئناس كثير من السجناء ببرامج الغناء والترفيه التافهة وبطولات كرة القدم التي كانت تستنزف عواطفَهم وتهدر مشاعرهم في شيء لا قيمة له، وتُضعِف حساسيتهم تجاه القضية الكبرى التي من أجلها سُجنوا، بل وتُفسد أخلاق واستقامة الشباب منهم خاصّة، وقد كنتُ شاهدا على نماذج من ذلك في سجني وهران وتاهرت.

وإذا استحضرنا ما يفعله الإعلام المرئيّ في عقول الناس ومشاعرهم وطرائق تفكيرهم وتفاعلهم حتى وهُم أحرار طلقاء أمكننا أن نقيس عليه حال أشخاص محرومين من حريتهم ويخضعون لضغط نفسي كبير ولا يدرون ما يُفعَل بهم ولا أيّ مصير ينتظرهم.

● كانت إدارة السجن والإعلام الرسميّ وشبه الرسميّ تصف السجناء منذ بداية الاعتقالات بأنّهم سجناء سياسيّون، وكان الأمر كذلك في الحقيقة لأنّهم إنما سُجنوا في الغالب الأعمّ بسبب خياراتهم ومواقفهم السياسيّة أو عضويتهم ومناصرتهم لحزب سياسيّ قام الانقلابيّون بحلّه، أو حتى حمل السلاح من أجل الدفاع عن خيار سياسيّ ما، أو دفعا لظلمٍ مارسه عسكر وسياسيّون متحالفون معهم. ثمّ بعد حوالي عامين تُخُلِّي عن استخدام كلمة (سجناء سياسيين) لتتحوّل إلى (السجناء الإرهابيين)، وأُذكّر القارئ هنا أن المخابرات كانت تُسيطر وتراقب الوضع داخل السجون عن قرب شديد، ولم تكن إدارات السجون -وهي التابعة لوزارة العدل قانونيا- سوى فرع للمخابرات بشكل أو بآخر.

كان مصطلح (الإرهابيون) مصطلحا جديدا، الغاية منه التنفير والتشويه وبناء صورة ذهنية عن كلّ من يعارض الانقلابيين، أنّهم قتلة ومجرمون وهمجيّون، هذا على المستوى الشعبي، أمّا على مستوى المساجين فقد كان الهدف منه تقزيم صورتِهم عند أنفسهم ودفعهم للتبرّؤ من هذه الوصمة والبحث عن أيّ سلوك أو خطاب يجعلهم يَظهرون في عيون أنفسهم وسجّانيهم والمجتمع معتدلين أبرياء من تهمة الإرهاب.

وقد أثمر ذلك للأسف، فقد صار سجناء الحقّ العام يصفون مساجين الجبهة بالإرهابيّين، فيقول أحدهم وهو ذاهب مثلا لجناح يُقيم به هؤلاء: أنا ذاهب لجناح الإرهاب، أو يقول طبيب السجن: اليوم نوبة الإرهابيين في أخذ الدواء، حتى صار وصف الإرهابيّ كلمةً شائعة غير مستهجنة ولا غريبة على ألسن السجناء والسجّانين، وحتى على ألسنة أهالي المساجين وأُمّهاتهم بل وزوجاتهم وأبنائهم، وما زلتُ أذكر جيّدا أحد الشيوخ من سكّان الجبال كان بيته مأوًى للجماعات المسلّحة في منطقته، وكان يُحبّ أمير الجماعة ويحترمه، فلمّا التقيت به في السجن كان يُحدّثني عن هذا الأمير فيقول لي: كان إرهابيّا طيّبا ومؤدَّبا وخلوقا ولا يظلم أحدا!! كان الشيخ المسكين من كثرة سماعه لوصف الإرهابيّ يظنّه مرادفا لوصف مجاهد أو مقاتل.

وقد تولّى الإعلام كِبَرَ ذلك، فمارس نوعا من الاستخدام الفجّ لهذا المصطلح وأكثر منه بمناسبة وبغيرها وفي كل السياقات حتى في المقالات والتحاليل الاقتصادية بل والرياضية أحيانا وصار يحشُرُها في كلّ نقاش أو خبر وتعليق. وقد تفاجأ كثير من المساجين عند خروجهم بأنّ الجميع كان يُسمّيهم إرهابيين، ووجد كثير منهم أنفسَهم غرباء في قراهم وأحيائهم وبين أُسَرِهم ومعارفهم.

● من الطرق التي استخدمها بعض مديري السجون إمعانا في الإذلال والإهانة وكسر النفسيّات أنّ مدير السجن وكبار الضباط فيه كانوا يُعطون السجناء أسماء نساء أو يطلبون من السجين أن يختار اسم امرأة ثمّ لا ينادونه بعد ذلك إلا به، ويطلبون حتى من إخوانه أن ينادوه به ويُكثرون من ذلك ويلحّون عليه، وهم يعلمون يقينا أنّ ذلك يَكسرُ نفسيّتَه ويُحطّمُ رجولته ويُشعره بالهوان، وقد حدث ذلك على الأقلّ في سجنين مررتُ بهما هما سجن وهران وسجن تاهرت.

● أسلوب آخر في الإذلال في بعض السجون كان يتمثّل في أن يُخرِجَ مديرُ السجن أو معاونوه أحدَ المساجين مع أحبّ رفقائه إليه وأكثرهم ملازمةً له ثم يأمر الأوّل بضرب الثاني بصفعه على وجهه ثم يصفع الثاني الأوّل، يُأمران أن يفعلا ذلك حتى يَتْعَبَا أو يسقط أحدهما، ومن رفض أن يفعل ذلك ناله الضرب والتنكيل حتى يضعف فيفعل أو يسقط مغشيّا عليه. وقد كان كثير منهم يرفض ذلك ويتحمّل الضرب والسياط، ولكنّ بعضَهم كان يضعف ويخاف ويتحمّل أن يَضرب ويُضرب صفعات معدودات على أن تناله سياطُ وعِصيّ وركلات السجّانين.

● ولأنّ عددا كبيرا من المساجين في البدايات كان من الطلبة والأساتذة والمهندسين والأئمة، وهؤلاء في العادة كانوا يعيشون بين أهليهم مكرّمين محترَمين يوقّرهم الناس، وغالبهم لم يمارس في حياته مهنة أو عملا شاقّا أو مُهينا في العرف الاجتماعيّ –فليس في العمل كلّه ما يُهين– فقد كان من الأساليب المعتمدة في السجون تكليفهم بالأشغال الشاقّة مثل تنظيف الساحات والقاعات وتنظيف المراحيض وغيرها، وهو أمر يمكن احتماله، ويتعوّد عليه السجين مع الوقت، ولكنّ السجّانين كانوا يَزيدون على ذلك سبّ الدين وسبّ الله -سبحانه وتعالى- وقذف أمّهات المساجين واستعمال أقذع وأحطّ العبارات، مع الضرب بالسياط والعِصيّ وتعمّد الإذلال والقهر. وما زلت أذكر الطبيب د.محمد من حيّ الأبيار وكان من عائلة ثريّة ذات أصول أندلسية أو تركيّة، لا أذكر جيّدا، وكان اختصاصه طبّ وجراحة العظام، ما زلت أذكر كيف كان السجّانون في سجن تيارت يتعمّدون إهانته وتحطيم عزّة نفسه، وقد ضربوه مرّة حتى كُسرت ذراعُه فلم يكن ذلك يؤلمه ويؤثّر في نفسيته مثل ما كان يَسمعه من إهانات وسبّ وشتم، ومثله كثير.

● أمّا السجّانون فقصّتهم قصّة أخرى. لقد كان 90 % منهم أشباه أُمّيّين، وكانوا من سكّان الأرياف والقرى النائية في الولايات الداخليّة للجزائر أو من سكّان الأحياء الشعبيّة الفقيرة في المدن الكبرى، وقلّما تجد بينهم يومئذ مَن له مستوى السَّنَة النهائيّة مِن التعليم الثانويّ أو مَن يمتلك شهادة جامعيّة إذا استثنينا عددا قليلا جدّا من الضباط والإداريّين. لهذا فقد كانت تغلب عليهم الغلظة والجفاء والقسوة والفظاظة والجهل وانعدام الذوق وسوء المعاملة، وكان يَزيدهم هيجانا وطغيانا حين يجدون أنفسهم يتحكّمون ويأمرون وينهون ويجلدون رجالا ما كانوا يحلُمون حتى بمجالستهم والحديث إليهم قبل ذلك في الحياة العاديّة، ويشعرون بنشوة غريبة ويستمتعون وهم يتصرّفون بذلك الانحطاط والوقاحة ويمارسون الإذلال وقهر الرّجال الأحرار الشرفاء.

وكانت إدارة السجون تمنح هؤلاء السفهاء في بعض الأوقات حرّيّةَ التصرّف مع السناء بعيدا عن أيّ رقابة أو ضبط إداريّ، بما يُشبه التحريض أو غضّ الطرف عنهم، فكانوا حينها يزدادون قسوة وهياجا ضدّ المساجين.

وقد كان الإعلام الرسميّ وتوجيهات أجهزة الأمن المباشرة وغير المباشرة تَزيد من شحنهم نفسيا ضدّ المساجين باعتدادهم إرهابيّين وقتلة ومجرمين، خاصّة وكلّ هؤلاء السجّانين يَعُدّون ما يُسوّقه الإعلام الرسمي حقّا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع الإلف والاعتياد وطول مدّة الصراع المسلّح خارج السجون واشتداد ضراوته كانت معاملتُهم تزداد سوءا وعنفا، وبعضهم كان يُقتَل لهم أقارب وأصدقاء لكونهم شرطة أو درَكا أو من الميليشيات التي تأسّست بعد عام 1995، فكانوا لا يجدون طَرَفًا يُفرغون فيه غضبهم وحَنَقَهم إلا المساجين المستضعفين.

وبسبب ذلك العنف والقسوة وطريقة التعامل مع السجناء التي اشتَهر أمرُها وشاعت على ألسنة النّاس خارج السجن، فقد كانت التنظيمات المسلّحة -التي لها عناصر تنشط في الاغتيالات داخل المدن- كثيرا ما تقوم بقتل ضبّاط وأعوان إدارة وسجّانين خارج السجن معروفين بحقدهم على السجناء وتنكيلهم بهم، وكانت هذه الاغتيالات في الغالب تُخيف هؤلاء وتردعهم وتُخفّف من الضغط على السجناء لأَشهُرٍ عديدة، وتتحسّن فيها المعاملة بشكل واضح، وقد حدث ذلك في كلّ المدن التي كان يوجد بها سجون تقريبا، وما من سجن إلّا وقُتِل منه على الأقلّ اثنان، وبعضها بلغ عدد من قُتل منه من السجّانين أكثر من ستّة، وقد كنّا نعرف أنّ أحدهم قُتِل حتى دون أن يصلنا أيّ خبر من خارج السجن حين تُفتَح الزنزانات والقاعات صباحا للخروج إلى الساحات فنرى رؤوسَهم مُطرِقة وقد علا وجوههم الوجوم وهم صامتون هادئون على غير عادتهم، وبعضُهم يحرص على إظهار التودّد وحسن المعاملة في حين كانوا قبل ذلك لا تسمع منهم عند الخروج صباحا إلا لسبّ والشتم والصراخ الشديد والتلويح بالسياط والعِصيّ. ومع ذلك فإنّهم سرعان ما كانوا يَنْسُون وتغلِبُهم طباع السوء ويخضعون من جديد لضغط الإدارة أو تعليمات المخابرات حين يرون أنّهم آمنون أو أنّ وتيرة القتل في المدن قد خفّت أو انقطعت لأيّ سبب من الأسباب.

وللحديث بقيّة..
‏١٦‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٨:٥٨ م‏
ثغر شاغر م. أحمد مولانا [لتحميل العدد الجديد اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj] أثناء قراءتي لكتاب (فن التجسس) لهنري كرامبتون، مدير العمليات السابق بمركز مكافحة الإرهاب التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لفت انتباهي حديثه عن أخذه إجازة من عمله بعد إشرافه على عمليات الوكالة بأفغانستان عام 2001، من أجل الحصول على منحة بكلية بول نيتزه للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز، وقد درس خلال المنحة مقررات في الفكر السياسي والاستراتيجية العسكرية والتاريخ والسياسة الخارجية والإرهاب والفلسفة، كما درس برنامجا بعنوان (فن الاستخبارات وحرفتها). وأكد هنري أنه خلال هذا البرنامج الدراسي توسعت مداركه كثيرا رغم خبرته العملية الطويلة في مجال الاستخبارات. عقْب الفراغ من قراءة الكتاب المذكور بدأتُ في البحث عن تلك المناهج الأمنية والاستخبارية التي تُدرَّس في الجامعات الأمريكية. فوجدت على سبيل المثال برنامجا يُدرَّس في جامعة بوسطن بعنوان (مشاكل الاستخبارات الاستراتيجية) يَتدرّب خلاله الطلبة على إعداد اطلاع استخباري يومي افتراضي يُقدَّم للرئيس الأميركي بخصوص أحد المواضيع الراهنة، وكتابة تقديرات استخبارية، كما يدرسون خلاله أصول التحليل الاستخباراتي وعوائقَه، وبنية الأجهزة الاستخبارية الأمريكية ومشاكلها، ونظريّات الاستخبارات، والمشاكل التي تُعيق جمع المعلومات وتحليلها، وإفادات المصادر وتقييمها، ومكافحة التجسس والتخريب والإرهاب، واستخدامات العمل الخفي والتجاوزات فيه، وعلاقة الاستخبارات بالأمن القومي، والأخطاء والثغرات الموجودة في الأمن الأميركي قبل أحداث سبتمبر. والمشاكل التي تعتري منظومة إدارة الأجهزة الاستخبارية من قبيل التسييس وتجاوز السُّلَّم الوظيفي، والتخطيط والميزانية والبرامج، والتعامل مع وسائل الإعلام، فضلا عن كيفية ضبط أداء أجهزة الاستخبارات كي لا تعمل خارج القانون، والتعرف على أجهزة الاستخبارات الأجنبية والجريمة المُنظّمة والتجسس الصناعي. كما وجدت كتابا أكاديميا ضخما صادرا عن جامعة أكسفورد البريطانية بعنوان (دليل استخبارات الأمن الوطني) يتناول (نظريات الاستخبارات، مصادر وأساليب دراسة الاستخبارات، تقييم كفاءة الاستخبارات، الاستخبارات وتطبيق القانون، أداء أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، عملية جمع الاستخبارات من المصادر العلنية والبشرية، التحليل الاستخباراتي في بيئة غير مستقرة، العلاقة بين صُنّاع السياسة والاستخبارات، دراسة أجهزة الاستخبارات الأجنبية في روسيا وإسرائيل وأستراليا). ولم تقتصر الإصدارات الأكاديمية والمقررات الدراسية على عدد محدود من الجامعات فقد (كشف مسحٌ أُجري مؤخرا أن هناك حوالي 840 مقرر لدراسة الاستخبارات في الولايات المتحدة الأمريكية، موزّعين على أكثر من 100 مؤسسة تعليمية مدنية، بينما أوضح مسح آخر أُجري في عام 2003، أن هناك 14 جامعة بريطانية تُدرِّس مقررات عن الاستخبارات، كما توجد برامج تعليمية مماثلة في كل من أسبانيا وفرنسا) . وبالتوازي مع الاهتمام بالعلوم الأمنية، توجد صحوة أخرى غربية في دراسة العلوم العسكرية ونشرها، حتى أن الجيش الأميركي نشر عام 2007 أكثر من 740 دليل عسكري في مجالات متنوعة بدءا من العمليات النفسية أثناء الحروب ومكافحة التمرد وصولا إلى إصدارات تتناول كيفية تشغيل وصيانة أسلحة معينة، واستمر الجيش الأميركي في نشر تلك النوعية من الإصدارات بشكل دوري وصولا إلى العام الحالي 2018. وللأسف لم يُترجم من هذه الإصدارات سوى دليل الجيش الأميركي للسلامة والصحة المهنية، وقد تُرجِم من قبل الجيش الأميركي نفسه من أجل شرح الاشتراطات الأمريكية للمتعاقدين والمقاولين العرب أثناء فترة احتلال العراق. أمّا على الجانب الآخر من العالم الإسلامي، فنجد أن العناية بتلك العلوم تكاد تكون منعدمة خارج أُطر الجيوش النظامية التي تحتكر لنفسها المعرفة، أما في صفوف الحركات الإسلامية خصوصا فيوجد فقر مدقِع في العناية بتلك الجوانب، حتى أنه لا يكاد يجد المرء مركزا بحثيا مختصا بالدراسات الأمنية والعسكرية، أو حتى وحدة بحثية تُعنى بذلك ضمن المراكز الموجودة. ونظرا لاتساع الرتْق، سعيتُ مع بعض الأصدقاء لتدشين مشروع لترجمة عدد من الإصدارات المرجعية الغربية المُتعلّقة بكيفية قراءة الواقع أمنيا، وتقييمه وصياغة السياسات والاستراتيجيات المتعلقة به، وبفضل الله نُشر أولى ثمرات هذا المشروع بعنوان (دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد). كما انتُهي من دراسة أخرى لم تُنشر بعد، بعنوان (دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد)، إلا أن العقبات التي تواجه المشاريع الصغيرة والتطوُّعية قد تُعيقها عن الاستمرار، ومن ثم تظل أولوية تأسيس مركز بحثي أو وحدة بحثية تُقدَّم لها أوجه الدعم والرعاية، وتُعنى بدراسة تلك المجالات، وترجمة أبرز الأدبيات المنشورة فيها، من الأمور المطلوبة بقوة خلال هذه المرحلة المهمة التي تعيشها أمتُنا، بعيدا عن إنفاق الأموال في أمور لا طائل من ورائها، ولا تسمن ولا تغني من جوع.
ثغر شاغر

م. أحمد مولانا

[لتحميل العدد الجديد اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj]



أثناء قراءتي لكتاب (فن التجسس) لهنري كرامبتون، مدير العمليات السابق بمركز مكافحة الإرهاب التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لفت انتباهي حديثه عن أخذه إجازة من عمله بعد إشرافه على عمليات الوكالة بأفغانستان عام 2001، من أجل الحصول على منحة بكلية بول نيتزه للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز، وقد درس خلال المنحة مقررات في الفكر السياسي والاستراتيجية العسكرية والتاريخ والسياسة الخارجية والإرهاب والفلسفة، كما درس برنامجا بعنوان (فن الاستخبارات وحرفتها). وأكد هنري أنه خلال هذا البرنامج الدراسي توسعت مداركه كثيرا رغم خبرته العملية الطويلة في مجال الاستخبارات.

عقْب الفراغ من قراءة الكتاب المذكور بدأتُ في البحث عن تلك المناهج الأمنية والاستخبارية التي تُدرَّس في الجامعات الأمريكية. فوجدت على سبيل المثال برنامجا يُدرَّس في جامعة بوسطن بعنوان (مشاكل الاستخبارات الاستراتيجية) يَتدرّب خلاله الطلبة على إعداد اطلاع استخباري يومي افتراضي يُقدَّم للرئيس الأميركي بخصوص أحد المواضيع الراهنة، وكتابة تقديرات استخبارية، كما يدرسون خلاله أصول التحليل الاستخباراتي وعوائقَه، وبنية الأجهزة الاستخبارية الأمريكية ومشاكلها، ونظريّات الاستخبارات، والمشاكل التي تُعيق جمع المعلومات وتحليلها، وإفادات المصادر وتقييمها، ومكافحة التجسس والتخريب والإرهاب، واستخدامات العمل الخفي

والتجاوزات فيه، وعلاقة الاستخبارات بالأمن القومي، والأخطاء والثغرات الموجودة في الأمن الأميركي قبل أحداث سبتمبر. والمشاكل التي تعتري منظومة إدارة الأجهزة الاستخبارية من قبيل التسييس وتجاوز السُّلَّم الوظيفي، والتخطيط والميزانية والبرامج، والتعامل مع وسائل الإعلام، فضلا عن كيفية ضبط أداء أجهزة الاستخبارات كي لا تعمل خارج القانون، والتعرف على أجهزة الاستخبارات الأجنبية والجريمة المُنظّمة والتجسس الصناعي.

كما وجدت كتابا أكاديميا ضخما صادرا عن جامعة أكسفورد البريطانية بعنوان (دليل استخبارات الأمن الوطني) يتناول (نظريات الاستخبارات، مصادر وأساليب دراسة الاستخبارات، تقييم كفاءة الاستخبارات، الاستخبارات وتطبيق القانون، أداء أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، عملية جمع الاستخبارات من المصادر العلنية والبشرية، التحليل الاستخباراتي في بيئة غير مستقرة، العلاقة بين صُنّاع السياسة والاستخبارات، دراسة أجهزة الاستخبارات الأجنبية في روسيا وإسرائيل وأستراليا). ولم تقتصر الإصدارات الأكاديمية والمقررات الدراسية على عدد محدود من الجامعات فقد (كشف مسحٌ أُجري مؤخرا أن هناك حوالي 840 مقرر لدراسة الاستخبارات في الولايات المتحدة الأمريكية، موزّعين على أكثر من 100 مؤسسة تعليمية مدنية، بينما أوضح مسح آخر أُجري في عام 2003، أن هناك 14 جامعة بريطانية تُدرِّس مقررات عن الاستخبارات، كما توجد برامج تعليمية مماثلة في كل من أسبانيا وفرنسا) .

وبالتوازي مع الاهتمام بالعلوم الأمنية، توجد صحوة أخرى غربية في دراسة العلوم العسكرية ونشرها، حتى أن الجيش الأميركي نشر عام 2007 أكثر من 740 دليل عسكري في مجالات متنوعة بدءا من العمليات النفسية أثناء الحروب ومكافحة التمرد وصولا إلى إصدارات تتناول كيفية تشغيل وصيانة أسلحة معينة، واستمر الجيش الأميركي في نشر تلك النوعية من الإصدارات بشكل دوري وصولا إلى العام الحالي 2018. وللأسف لم يُترجم من هذه الإصدارات سوى دليل الجيش الأميركي للسلامة والصحة المهنية، وقد تُرجِم من قبل الجيش الأميركي نفسه من أجل شرح الاشتراطات الأمريكية للمتعاقدين والمقاولين العرب أثناء فترة احتلال العراق.

أمّا على الجانب الآخر من العالم الإسلامي، فنجد أن العناية بتلك العلوم تكاد تكون منعدمة خارج أُطر الجيوش النظامية التي تحتكر لنفسها المعرفة، أما في صفوف الحركات الإسلامية خصوصا فيوجد فقر مدقِع في العناية بتلك الجوانب، حتى أنه لا يكاد يجد المرء مركزا بحثيا مختصا بالدراسات الأمنية والعسكرية، أو حتى وحدة بحثية تُعنى بذلك ضمن المراكز الموجودة.

ونظرا لاتساع الرتْق، سعيتُ مع بعض الأصدقاء لتدشين مشروع لترجمة عدد من الإصدارات المرجعية الغربية المُتعلّقة بكيفية قراءة الواقع أمنيا، وتقييمه وصياغة السياسات والاستراتيجيات المتعلقة به، وبفضل الله نُشر أولى ثمرات هذا المشروع بعنوان (دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد). كما انتُهي من دراسة أخرى لم تُنشر بعد، بعنوان (دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد)، إلا أن العقبات التي تواجه المشاريع الصغيرة والتطوُّعية قد تُعيقها عن الاستمرار، ومن ثم تظل أولوية تأسيس مركز بحثي أو وحدة بحثية تُقدَّم لها أوجه الدعم والرعاية، وتُعنى بدراسة تلك المجالات، وترجمة أبرز الأدبيات المنشورة فيها، من الأمور المطلوبة بقوة خلال هذه المرحلة المهمة التي تعيشها أمتُنا، بعيدا عن إنفاق الأموال في أمور لا طائل من ورائها، ولا تسمن ولا تغني من جوع.
‏١٢‏/٠٥‏/٢٠١٨ ١٠:٣٨ م‏
ثقة الثوار بأنفسهم.. عمق الثورة وبنيتها التحتية عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد اضغط على: http://bit.ly/2HEw0Zj] من بين الأهداف التي تسعى إليها دعاية الثورة المضادة وإعلامها المضلل بكل إمكانياته ووسائله= خَلق شعور "باللامعنى" و"اللاجدوى" من الثورة وقُواها ومنجزاتها داخل الصف الثوري نفسِه وحواضنه الشعبية، شعور يتغذى من واقع اليأس والإحباط الناجم عن استطالة أمد الثورة دون أن تحقق أهدافها، وعن أخطاء الثوار وصراعاتهم البينية، حتى أصبحت ظاهرة العودة إلى معسكر الأسد في سوريا مثلا عبر مشاريع الهدن والمصالحات المزعومة متفشية في مناطق كثيرة كانت بالأمس القريب تزف عشرات الشهداء يوميًّا في سبيل التحرُّر من النظام الطائفي البغيض، وحتى أصبح ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية في ليبيا أمرًا قابلًا للنقاش والتداول في مؤسسات الثورة وليس مؤشرًا على الخيانة والهزيمة. متابعة التعليقات والنقاشات التي ينخرط فيها من يُفترض أنهم صفوة الثوار ورموزُهم وقادتهم وأهل الرأي فيهم على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة= تُبين قدر اليأس والهزيمة التي تسربت إلى النفوس، وثقة الثوار الهشة في أنفسهم وفي مشروع التحرير والاستقلال الذي يحملونه ويدافعون عنه. التعبير عن هذا اليأس والإحباط يأخذ صيغا متعددة أكثرها حضورا وترديدا تلك التي تدور حول مزاعم "فشل الإسلاميين وعدم جدارتهم بالثورة" و"أن الجهاديين خربوا ثورات الشعوب" و"يجب على الإسلاميين ترك الشعوب وثوراتها لأنهم عبء عليها" و"أن الإسلاميين غير جديرين بالحكم وإدارة شؤون الناس" وتلك التي "تهتم بالمشاركة السياسية ونبذ الإقصاء" وتلك التي تسرد أخطاء الثوار هنا وهناك.. إلى غيرها من الصيغ والتعابير التي يخلص منها صاحبها -وبألفاظ حذرة ومهذبة- إلى أن الثورة باتت في حكم المنتهية وأنه لا بد من التعاطي بمرونة مع الخيارات الأخرى (حقنا للدماء) و(إعلاء للمصلحة العليا للوطن)، وأن السبب في كل ما يجري هم الإسلاميون وسعيُهم المفرط إلى التغلب والسلطة دون إدراكهم لعواقب ذلك. هذا الخطاب النكوصي والانهزامي يفتقد للموضوعية والوجاهة والمصداقية أيضا، لأنه يعبر عن أزمة نفسية صِرف أكثر مما يعبر عن واقع مشهود ومعطيات ملموسة، خطاب رفدته دعاية الثورة المضادة المضللة، وعُقدةُ الذنَب التي خلّفَتْها= مرحلة صعود تنظيم الدولة وما ارتكبه من فظاعات باسم الإسلام والشريعة، وواقع الانقسام والصراع بين مكونات الثورة في أكثر من قطر وبلد. وفي واقع الحال أن النظام العسكري والطائفي العربي هو الذي أجرم بحق الشعوب والأوطان على مدى أكثر من نصف قرن، وجاءت الثورة المضادة لتعيد ترميمه وتسييده مجددا على جماجم مئات الآلاف من الناس، والثوار وفي طليعتهم مكونات الصحوة الإسلامية مهما بلغت أخطاؤهم المفترضة فلن تكون مبررا للتشكيك أو الارتداد عن مطلب التحرر والاستقلال وسيادة الشرع. خذ يوما واحدا من أيام الثورة المضادة -وليكن يوم رابعة- وقارنه بكل ما يُنسب للصحوة الإسلامية من "جرائم" منذ نشأتها، فستجد حتما أن لا مجال للمقارنة. والقرآن الكريم كان صريحا مع الذين يلعبون على وتر أخطاء الدعوة وأخطاء الحركة الإسلامية الأولى، حينما شنّت دعاية قريش حملة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من أفراد سرية عبد الله بن جحش الذين قَتلوا أحد المشركين في الشهر الحرم حيث أشاعوا بين الناس أن "محمدا يزعم أنه يتّبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب" ورد عليهم المسلمون "إنما قتلناه في آخر ليلة من جمادى".. وعندما نزل القرآن تجاوز هذا الجدل على مستوى الجزئيات والتفاصيل الصغيرة ونظر إلى القضية في كليتها وشموليتها، وعَدَّ القتل في الشهر الحرام خطأ وكبيرة لكنها لا تُقارن بجرائم المشركين وخطاياهم، وأولها جريمة الكفر والصد عن منهج الله والكيد لأوليائه "يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجدِ الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله والفتنة أكبر من القتل" ثم حذر القرآن المسلمين في السياق نفسه من الخضوع لخطاب المشركين الذي يدّعي كذبا صيانة الدماء واحترام الشعائر والأشهر الحرم، وأكّد على نزعة القتل والاستئصال المتأصلة في نفوسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا "ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون". يجب استدعاء هذه المقاربة القرآنية المنصفة عند التعاطي مع ما يمكن اعتداده "أخطاءً للثوار" في سياق مدافعتهم المشروعة للظلم والطغيان، وألا تكون هذه الأخطاء سببا في انهيار المعنويات وفقدان الثقة في النفس، والشك في المشروع التحرُّري الحضاري الذي قدّم الشعب السوري وحده مئات الآلاف من الشهداء ثمنا له، وقدّمت الشعوب العربية الأخرى الآلاف أيضا. لا ينبغي مطلقا أن يُستدرج الثوار إلى مربع الإدانة الضمنية أو المباشرة للفعل الثوري مهما تلبس به هذا الفعل من أخطاء ما دام مسترشِدا ببوصلة القرآن وحقوق الإنسان المشروعة في العيش بحرية وكرامة وعدالة. تعمد دعاية الثورة المضادة إلى تسليط الأضواء على إخفاقات الثورة وأخطائها، وترديدها في وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة ومنصات الإعلام المتاحة، راصدة لذلك أموالا وموارد طائلة، ساعية إلى ربط أي أزمة تنزل على الناس بالثورة والثوار، مُشيعة بذلك جوًّا من الإحباط وخيبة الأمل يتسرب شيء منه إلى بعض أعيان الثورة وقادتها، في حين أن مصائب وخطايا الثورة المضادة تُهمَّش وتُتجاوز كأنها لم تحصل، وكمثال على ذلك ما يتعلق بالنزاع بين مكونات وفصائل الثورة والذي اعتدَّه البعض دليلا على عدم جدارة تلك الفصائل بتمثيل الثورة واستحقاقها الهزيمة، لكن لم يتحدث أحد في المقابل عن الحرب التي نشبت بين فصائل الثورة المضادة في مدينة صبراتة الليبية بسبب الخلاف على منافذ تهريب البشر والتي كلفت مئات القتلى والجرحى في أسبوعين فقط. كما ضجت وسائل الإعلام بحوادث معزولة عن عمليات إعدام ميداني جرى تصويرها من قِبَلِ الثوار هنا وهناك، دون أن تلقى الاهتمام نفسَه تلك الإعداماتُ الممنهجة التي ينفذها مجرم الحرب المدخلي محمود الورفلي في ليبيا، وهي إعدامات فاقت في بشاعتها تلك التي نفذها تنظيم الدولة. دور الإعلام الثوري وقادة الثورة ونخبها أن يعززوا الثقة في نفوس الشعوب ويرفعوا معنويات الفصائل والحركات الثورية، إنها حرب نفسية تستلزم وعيا عميقا بأبعاد الصراع وامتداداته وتشعباته، فالانكسار والانحسار لا يبدأ بخسارة معقل أو حاجز أو مدينة.. بل يبدأ بلفحة شعور تخامر النفس عن "جدوى" هذه الثورة ثم يليها تصدع في الوعي ثم نكسات في الميدان وأرض الواقع. فعمق الثورة وبنيتها التحتية هي رصيد الثائر من الوعي وإيمانه الراسخ بعدالة قضيته وثقته المطلقة بوعد الله الذي لا يخيب (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، فالإحساس بالاستعلاء والاقتدار الذاتي في لحظات الصراع مع قوى الظلم والطغيان لا ينبغي أن تتلبس به مشاعر الوهن واليأس والحزن مهما اشتد الكرب وعم الخطب. الثورة فعل إنساني غير معصوم من الأخطاء، وعندما تقع الأخطاء في سياقات الثورة فالواجب يقتضي تجاوزها والإقلاع عنها وتطويق تداعياتها دون أن يُفضي الحديث عنها إلى مسائلة الثورة نفسها أو الشك في وجاهتها وشرعيتها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تبرأ من خطأٍ ارتكبه خالد بن الوليد ولم يتبرأ من حركة الفتوح ولا من خالد نفسه بل أقره في منصبه ومسؤولياته قائدًا للمسلمين وسيفًا من سيوف الله المسلولة، نعم، سيف من سيوف الله في حضرة الوحي اجترح خطأ واقترف سيئة، فما بالك بمن هو دونه. من المؤسف فعلا أن تقرأ لكاتب سبعيني أفنى عمره كله في التنظير لمعركة التغيير والتأصيل لقضايا الحركة الإسلامية، وبعد الانقلابات وظهور الثورات المضادة كتب أن الحل لا يمكن أن يكون إسلاميا محضا وإنما إسلاميا وعلمانيا في آن، وأن الإسلاميين ما كان عيلهم أن يصلوا إلى سُدة الحكم والسلطة أبدا. هكذا تُسفر الهزيمة النفسية عن نفسها في عباءة وعظ سياسي مكرور وحكمة متكلفة. من بين الأفكار التي ستساعدنا في تعزيز المناعة النفسية في مواجهة عوامل الوهن واليأس والإحباط هي إعادة تشييد توقعاتنا بشأن الثورة والحل الإسلامي المنشود وتجريدها من النزعات المثالية والملائكية. لا توجد ثورة للياسمين ولا سلمية تتحدى الرصاص، ولا حل إسلامي يعاند قوانين التاريخ وسنن الله في كونه، يغشى البلاد كنسيم بارد فيُطهِّرها من رواسب التخلف والجاهلية ويملؤها حضارة وعمرانا. بل هو صراع ضارٍ ومعركة قد تمتد لأجيال وحل إسلامي محفوف بالأخطاء ومُترَع بالخيبات، هكذا أراده الله أن يكون. وفي كل لحظة من لحظات هذه المسيرة المضنية يكتب الله للسائرين في صحائفهم أعمالا صالحة سواء بلغوا الغاية أو قضوا وهم يحاولون (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح).
ثقة الثوار بأنفسهم.. عمق الثورة وبنيتها التحتية

عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد اضغط على:
http://bit.ly/2HEw0Zj]

من بين الأهداف التي تسعى إليها دعاية الثورة المضادة وإعلامها المضلل بكل إمكانياته ووسائله= خَلق شعور "باللامعنى" و"اللاجدوى" من الثورة وقُواها ومنجزاتها داخل الصف الثوري نفسِه وحواضنه الشعبية، شعور يتغذى من واقع اليأس والإحباط الناجم عن استطالة أمد الثورة دون أن تحقق أهدافها، وعن أخطاء الثوار وصراعاتهم البينية، حتى أصبحت ظاهرة العودة إلى معسكر الأسد في سوريا مثلا عبر مشاريع الهدن والمصالحات المزعومة متفشية في مناطق كثيرة كانت بالأمس القريب تزف عشرات الشهداء يوميًّا في سبيل التحرُّر من النظام الطائفي البغيض، وحتى أصبح ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية في ليبيا أمرًا قابلًا للنقاش والتداول في مؤسسات الثورة وليس مؤشرًا على الخيانة والهزيمة.

متابعة التعليقات والنقاشات التي ينخرط فيها من يُفترض أنهم صفوة الثوار ورموزُهم وقادتهم وأهل الرأي فيهم على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة= تُبين قدر اليأس والهزيمة التي تسربت إلى النفوس، وثقة الثوار الهشة في أنفسهم وفي مشروع التحرير والاستقلال الذي يحملونه ويدافعون عنه. التعبير عن هذا اليأس والإحباط يأخذ صيغا متعددة أكثرها حضورا وترديدا تلك التي تدور حول مزاعم "فشل الإسلاميين وعدم جدارتهم بالثورة" و"أن الجهاديين خربوا ثورات الشعوب" و"يجب على الإسلاميين ترك الشعوب وثوراتها لأنهم عبء عليها" و"أن الإسلاميين غير جديرين بالحكم وإدارة شؤون الناس" وتلك التي "تهتم بالمشاركة السياسية ونبذ الإقصاء" وتلك التي تسرد أخطاء الثوار هنا وهناك.. إلى غيرها من الصيغ والتعابير التي يخلص منها صاحبها -وبألفاظ حذرة ومهذبة- إلى أن الثورة باتت في حكم المنتهية وأنه لا بد من التعاطي بمرونة مع الخيارات الأخرى (حقنا للدماء) و(إعلاء للمصلحة العليا للوطن)، وأن السبب في كل ما يجري هم الإسلاميون وسعيُهم المفرط إلى التغلب والسلطة دون إدراكهم لعواقب ذلك.

هذا الخطاب النكوصي والانهزامي يفتقد للموضوعية والوجاهة والمصداقية أيضا، لأنه يعبر عن أزمة نفسية صِرف أكثر مما يعبر عن واقع مشهود ومعطيات ملموسة، خطاب رفدته دعاية الثورة المضادة المضللة، وعُقدةُ الذنَب التي خلّفَتْها= مرحلة صعود تنظيم الدولة وما ارتكبه من فظاعات باسم الإسلام والشريعة، وواقع الانقسام والصراع بين مكونات الثورة في أكثر من قطر وبلد. وفي واقع الحال أن النظام العسكري والطائفي العربي هو الذي أجرم بحق الشعوب والأوطان على مدى أكثر من نصف قرن، وجاءت الثورة المضادة لتعيد ترميمه وتسييده مجددا على جماجم مئات الآلاف من الناس، والثوار وفي طليعتهم مكونات الصحوة الإسلامية مهما بلغت أخطاؤهم المفترضة فلن تكون مبررا للتشكيك أو الارتداد عن مطلب التحرر والاستقلال وسيادة الشرع. خذ يوما واحدا من أيام الثورة المضادة -وليكن يوم رابعة- وقارنه بكل ما يُنسب للصحوة الإسلامية من "جرائم" منذ نشأتها، فستجد حتما أن لا مجال للمقارنة. والقرآن الكريم كان صريحا مع الذين يلعبون على وتر أخطاء الدعوة وأخطاء الحركة الإسلامية الأولى، حينما شنّت دعاية قريش حملة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من أفراد سرية عبد الله بن جحش الذين قَتلوا أحد المشركين في الشهر الحرم حيث أشاعوا بين الناس أن "محمدا يزعم أنه يتّبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب" ورد عليهم المسلمون "إنما قتلناه في آخر ليلة من جمادى".. وعندما نزل القرآن تجاوز هذا الجدل على مستوى الجزئيات والتفاصيل الصغيرة ونظر إلى القضية في كليتها وشموليتها، وعَدَّ القتل في الشهر الحرام خطأ وكبيرة لكنها لا تُقارن بجرائم المشركين وخطاياهم، وأولها جريمة الكفر والصد عن منهج الله والكيد لأوليائه "يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجدِ الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله والفتنة أكبر من القتل" ثم حذر القرآن المسلمين في السياق نفسه من الخضوع لخطاب المشركين الذي يدّعي كذبا صيانة الدماء واحترام الشعائر والأشهر الحرم، وأكّد على نزعة القتل والاستئصال المتأصلة في نفوسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا "ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
يجب استدعاء هذه المقاربة القرآنية المنصفة عند التعاطي مع ما يمكن اعتداده "أخطاءً للثوار" في سياق مدافعتهم المشروعة للظلم والطغيان، وألا تكون هذه الأخطاء سببا في انهيار المعنويات وفقدان الثقة في النفس، والشك في المشروع التحرُّري الحضاري الذي قدّم الشعب السوري وحده مئات الآلاف من الشهداء ثمنا له، وقدّمت الشعوب العربية الأخرى الآلاف أيضا. لا ينبغي مطلقا أن يُستدرج الثوار إلى مربع الإدانة الضمنية أو المباشرة للفعل الثوري مهما تلبس به هذا الفعل من أخطاء ما دام مسترشِدا ببوصلة القرآن وحقوق الإنسان المشروعة في العيش بحرية وكرامة وعدالة.

تعمد دعاية الثورة المضادة إلى تسليط الأضواء على إخفاقات الثورة وأخطائها، وترديدها في وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة ومنصات الإعلام المتاحة، راصدة لذلك أموالا وموارد طائلة، ساعية إلى ربط أي أزمة تنزل على الناس بالثورة والثوار، مُشيعة بذلك جوًّا من الإحباط وخيبة الأمل يتسرب شيء منه إلى بعض أعيان الثورة وقادتها، في حين أن مصائب وخطايا الثورة المضادة تُهمَّش وتُتجاوز كأنها لم تحصل، وكمثال على ذلك ما يتعلق بالنزاع بين مكونات وفصائل الثورة والذي اعتدَّه البعض دليلا على عدم جدارة تلك الفصائل بتمثيل الثورة واستحقاقها الهزيمة، لكن لم يتحدث أحد في المقابل عن الحرب التي نشبت بين فصائل الثورة المضادة في مدينة صبراتة الليبية بسبب الخلاف على منافذ تهريب البشر والتي كلفت مئات القتلى والجرحى في أسبوعين فقط. كما ضجت وسائل الإعلام بحوادث معزولة عن عمليات إعدام ميداني جرى تصويرها من قِبَلِ الثوار هنا وهناك، دون أن تلقى الاهتمام نفسَه تلك الإعداماتُ الممنهجة التي ينفذها مجرم الحرب المدخلي محمود الورفلي في ليبيا، وهي إعدامات فاقت في بشاعتها تلك التي نفذها تنظيم الدولة.

دور الإعلام الثوري وقادة الثورة ونخبها أن يعززوا الثقة في نفوس الشعوب ويرفعوا معنويات الفصائل والحركات الثورية، إنها حرب نفسية تستلزم وعيا عميقا بأبعاد الصراع وامتداداته وتشعباته، فالانكسار والانحسار لا يبدأ بخسارة معقل أو حاجز أو مدينة.. بل يبدأ بلفحة شعور تخامر النفس عن "جدوى" هذه الثورة ثم يليها تصدع في الوعي ثم نكسات في الميدان وأرض الواقع. فعمق الثورة وبنيتها التحتية هي رصيد الثائر من الوعي وإيمانه الراسخ بعدالة قضيته وثقته المطلقة بوعد الله الذي لا يخيب (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، فالإحساس بالاستعلاء والاقتدار الذاتي في لحظات الصراع مع قوى الظلم والطغيان لا ينبغي أن تتلبس به مشاعر الوهن واليأس والحزن مهما اشتد الكرب وعم الخطب.

الثورة فعل إنساني غير معصوم من الأخطاء، وعندما تقع الأخطاء في سياقات الثورة فالواجب يقتضي تجاوزها والإقلاع عنها وتطويق تداعياتها دون أن يُفضي الحديث عنها إلى مسائلة الثورة نفسها أو الشك في وجاهتها وشرعيتها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تبرأ من خطأٍ ارتكبه خالد بن الوليد ولم يتبرأ من حركة الفتوح ولا من خالد نفسه بل أقره في منصبه ومسؤولياته قائدًا للمسلمين وسيفًا من سيوف الله المسلولة، نعم، سيف من سيوف الله في حضرة الوحي اجترح خطأ واقترف سيئة، فما بالك بمن هو دونه.

من المؤسف فعلا أن تقرأ لكاتب سبعيني أفنى عمره كله في التنظير لمعركة التغيير والتأصيل لقضايا الحركة الإسلامية، وبعد الانقلابات وظهور الثورات المضادة كتب أن الحل لا يمكن أن يكون إسلاميا محضا وإنما إسلاميا وعلمانيا في آن، وأن الإسلاميين ما كان عيلهم أن يصلوا إلى سُدة الحكم والسلطة أبدا. هكذا تُسفر الهزيمة النفسية عن نفسها في عباءة وعظ سياسي مكرور وحكمة متكلفة.

من بين الأفكار التي ستساعدنا في تعزيز المناعة النفسية في مواجهة عوامل الوهن واليأس والإحباط هي إعادة تشييد توقعاتنا بشأن الثورة والحل الإسلامي المنشود وتجريدها من النزعات المثالية والملائكية. لا توجد ثورة للياسمين ولا سلمية تتحدى الرصاص، ولا حل إسلامي يعاند قوانين التاريخ وسنن الله في كونه، يغشى البلاد كنسيم بارد فيُطهِّرها من رواسب التخلف والجاهلية ويملؤها حضارة وعمرانا. بل هو صراع ضارٍ ومعركة قد تمتد لأجيال وحل إسلامي محفوف بالأخطاء ومُترَع بالخيبات، هكذا أراده الله أن يكون. وفي كل لحظة من لحظات هذه المسيرة المضنية يكتب الله للسائرين في صحائفهم أعمالا صالحة سواء بلغوا الغاية أو قضوا وهم يحاولون (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح).
‏٠٨‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
الوجه الأنصع للمقاومة الشعبية في الثورة السورية.. حجّي مارع كرم الحفيان [لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط: http://bit.ly/2HEw0Zj] مع كثرة القادة في الثورة السورية ومع تعدد الجماعات والإيديولوجيات وأنصارها، ومع اختلاف المراقبين المختصين في تقييم أداء حركات وتنظيمات ومؤسسات الثورة المتنوعة على كل الأصعدة العسكرية والدعوية والإغاثية والطبية والإدارية وغيرها، إلا أن التيار العام للثورة أجمع على حب وتقدير واستحسان وتفرُّد تجربة وشخصية "حجي مارع" : عبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد في حلب) ومحرر أغلب المدينة ومساحات شاسعة من الريف، الذي اعتدّه الكثيرون النموذج الأكثر إشراقاً والأنجع تأثيراً فيما يخص المقاومة الشعبية المسلّحة لنظام الأسد وحلفائه، ويُرجع مراقبون هذا التميّز لاجتماع عشرةٍ كاملة فيه: 1. الوجود الميداني الكثيف بين الناس، مع ابتسامةٍ دائمة مرسومة على صفحة وجهه ، مهما كانت الظروف، وبساطةٍ عفوية (غالباً) وتبسطٍ (أحياناً) مع الثوار المجاهدين ومع المدنيين على حدٍ سواء، مما جعل لكلماته مفعول السحر، ليس فقط على كثير من قادة وأعضاء لوائه والجماعات الأخرى المقاتلة على الجبهات، وإنما على شرائح واسعة من المنخرطين بالعمل الثورى والمهتمين بمجرى الأحداث بسورية عبر مقاطعه المصورة وكلماته الإيمانية ومقابلاته التليفزيونية. 2. التركيز الدائم المُلح على إصلاح (الجانب الجوّاني( من شخصية المجاهدين الثائرين، فكان في أغلب الأحيان (بعكس أغلب القادة والجماعات) يحرص على حصر تعليق قلوب مقاتليه وجنوده بالله عزوجل وبالآخرة: الغاية، أما الاجتهادات الحزبية النسبية (الطرق الموصلة إلى الغاية) الخاصة بكل تيار وجماعة وحركة فكان يعدّها مسألة ثانوية طالما أن الثائر ممسكٌ بسلاحه ولا يتخلى عنه، ولذلك كانت قضيته المركزية: الارتقاء بروح المجاهدين على الأرض (قبل ارتقائهم إلى السماء) عبر تجويد عباداتهم وتنمية أخلاقهم وضبط تصرفاتهم، عوضاً عن التركيز على برمجة عقولهم (الجانب البرّاني) على فكر معين أو مدرسة محددة بحيث يتضخم هذا الجانب عند البعض ليعتنقه كحق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 3. الدعوة بلسان الحال والمقال، فغالباً لم يكن يخالف فعله قوله بل كان يسبقه، فعندما يوصي غيره بالإنفاق في سبيل الله نصرة للثورة وللمستضعفين، يكون قبلها قد أنفق كل ما يملك من مال وأراضي لتسليح الثوار (15 مليون ليرة سورية= 300,000 $ تقريباً)، وإذا دعا الشباب للتوكل والاعتماد على الله سبحانه لا على السلاح (دون إغفال الأسباب)، يكون قبلها قد قاد معارك كبرى كثيرة بأسلحة بسيطة كمعارك تحرير ريف حلب الشمالي (مع وجود شح بالقذائف المضادة للدبابات) ومعركة تحرير مدينة حلب (حُرر أغلبها برمضان 2012م) بـ 7000 طلقة بندقية فقط! 4. الأسلوب الدعوي النابع من داخله ومن جذور بلده منذ كان تاجراً للمواد والحبوب الغذائية (قبل الثورة)، والمنسجم مع مفردات ومصطلحات الشارع السوري دون تكلّف أو تصنّع أو استيراد أساليب دعوية قد تكون غير مناسبة ومستساغة من قبل المجتمع السوري. فدعوته ما كانت لتلامس شغاف القلوب ما لم تراعِ ثقافة وخصوصية وعادات وتقاليد الشعب، هذا الأمر يبدو ظاهراً جلياً ليس فقط لكل من تعامل مع حجي مارع أو رافقه فترةً من الزمان، وإنما لجميع من شاهد مقاطعه المرئية الكثيرة على الجبهات مع المقاتلين أو في الشوارع مع سائر المدنيين أثناء إلقائه تذكرة أو استماعه للشكاوى والصعوبات التي تواجه الأهالي، فلا شك أن لكل شعب شخصية مستقلة ولكل شخصية مفاتيح معينة. 5. البعد عن جميع المناوشات المنهجية والحزازات الحزبية الدعوية المنتشرة والمستفحلة بين غالبية المدارس والجماعات والحركات الإسلامية مؤخراً، فجُل جهوده كانت منصبة على تحبيب الله ودينه وشرعه لخلقه، وتحفيز عباد الله على طاعته وعدم عصيانه أثناء جهادهم لعدوهم كي يرضى عنهم وينزّل عليهم نصره، وربما من الأشياء التي عصمت حجي مارع من الانخراط في هذا الاحتراب الفكري والتنافر المنهجي، هو أنه من نوادر القادة (خاصة الإسلاميين) الذين لم يُسجنوا قبل الثورة في سجن "صيدنايا"، ذلك السجن الذي شهد صراعاً خارجياً دموياً مقاوماً لتسلط إدارة السجن وإهانتها للمقدسات الإسلامية، وآخر داخلي فكري حاد بين مختلف الأطياف الإسلامية المعتقلة معا . 6. الاعتراف العلني بأخطاء جماعته وسعيه الدؤوب لتصحيح المسار ومحاسبة المخطئين على الملأ وفصلهم إن تطلّب الأمر ، فلم يكن من الذين يؤثرون سمعة فصيلهم على حقوق الآخرين بل لطالما أوقف المسيئين عند حدودهم وحاسبهم على رؤوس الأشهاد غير آبهٍ بما سيقوله منافسوه وخصومه وبما قد يستغلونه في تنفير الشباب عن الالتحاق بجماعة حجّي مارع (لواء التوحيد)، فمسألة الاستزادة من الأعداد بغرض الهيمنة لم تكن من برنامجه وخططه ، حتى إنه فصل مجموعات كاملة كانت تتبع للوائه وعدّل هيكلة الجماعة ووضع شروطاً أخلاقية معينة لمن أراد الانضمام لها عقب تحريره لكثير من المناطق واستقرار الأوضاع فيها . 7. الحرص على مشاركة جميع الفصائل والفعاليات والهيئات الكبيرة المؤثرة في إدارة ما حرره هو وحده، طالما أنه غير قادر على القيام بهذه المهمة بمفرده بصورة جيدة، وذلك لعدم وجود كوادر كافية على الأصعدة الخدمية المختلفة وأيضًا القضائية والإدارية والطبية والتعليمية وغيرها. فمدينة حلب مثلاً، لم يشارك في تحريرها إلا لواء التوحيد ، وربما من حقه من الناحية القضائية أن يديرها بمفرده، ولكن إن لم تتم الكفاية ووقع العجز في النوعية، فلا شك أن من يبغي وجه الله ويقدم المصلحة العامة للمسلمين يسارع في التعاون والتنسيق مع إخوانه إن تعذر الانصهار الكامل والتوحد. 8. احترام التخصص ومعرفة (قدر النفس) مع اليقظة المتمثلة بـ: السعي لمنع تسلق المشبوهين لسدة الحكم بعد التحرير، فرغم أنه داعية معروف في مجتمعه، وتاجر مشهور بصدقه وأمانته، ومن أوائل من انخرط وقاد الثورة سلمياً وعسكرياً، وذو شعبية جارفة لا تخطئها العين، إلا أن ذلك كلَّه لم يدفعه للافتئات على مجالات خارج تخصصه، ففي الناحية العسكرية كان يُنزل الضباط العسكريين المنشقين الشرفاء منزلتهم ، وقد تم تعيين العقيد يوسف الجادر (أبو الفرات) رئيساً لأركان لواء التوحيد، وفي الناحية الشرعية القضائية أوكل وسلّم الأمر للجنة من القضاة وطلاب العلم المختصين وعمل على تمكينهم من مزاولة مهامهم بشكل مستقل وناجح ، وأخيراً وليس آخراً أكّد على عدم رغبته في تولي أي منصب سياسي مع تشديده على المساهمة في استلام الثقات الشرفاء لدفة الحكم مستقبلاً . 9. السلامة من مَرَضَيّ: المناطقية والعولمة، وهذان المرضان من أعظم ما ابتليت به الثورة السورية، أما الأول: المناطقية (الاهتمام فقط بمدينتك أو منطقتك وتجاهل ما سواها) فقد كان لسياسة النظام السوري خلال العقود السابقة الدور الأبرز في ترسيخها داخل النفوس عبر تهميش بعض المناطق وتأليب بعض المدن على أخرى، وقد عُصم منه حجي مارع ويشهد على ذلك قيادته بنفسه لحملة عسكرية نصرة للقصير المُحاصرة (بريف حمص) من حزب الله اللبناني والبعيدة عنه مئات الكيلومترات، وأما الثاني: العولمة (استجلاب النظام العالمي لقتاله واستنزافه وعدم أولوية تحرير الأرض) فقد سادت هذه النظرية وهيمنت على عقلية التنظيمات المرتبطة بالقاعدة، وكان حجي مارع من أكبر الرافضين والمعارضين لها ، إذ تحتل قضية تحرير الأرض قلبه وعقله. 10. الهدف الغائي الأصيل المحدد: إقامة دولة إسلامية دستورية مؤسسية معتدلة ومستقلة لا يحكمها عسكر ويختار الشعب من يريد عبر صناديق الاقتراع، هذا الأمر دأب على ترديده والمناداة به بكل وضوح وصراحة خلال ندواته الداخلية ومقابلاته التلفزيونية فمسألة هوية الدولة وشكلها ومصادر التشريع وسن القوانين فيها حازت على مساحة مركزية في خريطة المشروع الثوري الإصلاحي لحجي مارع في سورية، غير أنه كان يدرك أن إمكانية الوصول لهذا الهدف تتطلب التمهيد والتحضير الجاد خلال سنوات الثورة عبر رفع المعدلات الإيمانية والفكرية والسياسية للمقاتلين وللشعب بشكل عام حتى يتشارك ويتعاضد الجميع في تحقيق هذا الحلم الممنوع والمُحارَب من أعداء الأمة. خاتمة: رغم أن تجربة حجّي مارع لم تدم إلا سنتين فقط (نوفمبر 2011م – نوفمبر 2013م)، ومع أنه لم يكن عالماً أو مفكراً أو مثقفاً كبيراً، ولم تكلَّل جهودُه وجهود غيره بالتحرير الكامل للبلاد بل ولم تستمر جماعته كقوة كبيرة ذات ثقل وتأثير في مجريات الأحداث كما كانت قبل استشهاده، إلا أنه ترك قصةً نموذجيةً ملهمةً لكل القادة الحاليين والمستقبليين للمقاومة والثورات الشعبية، كانت أهم فصولها الصدق مع الله والنفس والصفاء مع الشعب والأمة، والأمانة في بذل المال والدم والنصح، والتفنن في زراعة الأمل وتجديده في قلوب المستضعفين الثائرين السائرين على طريق تحرر أمتهم واسترداد مجدها السليب .
الوجه الأنصع للمقاومة الشعبية في الثورة السورية.. حجّي مارع

كرم الحفيان

[لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط:
http://bit.ly/2HEw0Zj]



مع كثرة القادة في الثورة السورية ومع تعدد الجماعات والإيديولوجيات وأنصارها، ومع اختلاف المراقبين المختصين في تقييم أداء حركات وتنظيمات ومؤسسات الثورة المتنوعة على كل الأصعدة العسكرية والدعوية والإغاثية والطبية والإدارية وغيرها، إلا أن التيار العام للثورة أجمع على حب وتقدير واستحسان وتفرُّد تجربة وشخصية "حجي مارع" : عبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد في حلب) ومحرر أغلب المدينة ومساحات شاسعة من الريف، الذي اعتدّه الكثيرون النموذج الأكثر إشراقاً والأنجع تأثيراً فيما يخص المقاومة الشعبية المسلّحة لنظام الأسد وحلفائه، ويُرجع مراقبون هذا التميّز لاجتماع عشرةٍ كاملة فيه:

1. الوجود الميداني الكثيف بين الناس، مع ابتسامةٍ دائمة مرسومة على صفحة وجهه ، مهما كانت الظروف، وبساطةٍ عفوية (غالباً) وتبسطٍ (أحياناً) مع الثوار المجاهدين ومع المدنيين على حدٍ سواء، مما جعل لكلماته مفعول السحر، ليس فقط على كثير من قادة وأعضاء لوائه والجماعات الأخرى المقاتلة على الجبهات، وإنما على شرائح واسعة من المنخرطين بالعمل الثورى والمهتمين بمجرى الأحداث بسورية عبر مقاطعه المصورة وكلماته الإيمانية ومقابلاته التليفزيونية.

2. التركيز الدائم المُلح على إصلاح (الجانب الجوّاني( من شخصية المجاهدين الثائرين، فكان في أغلب الأحيان (بعكس أغلب القادة والجماعات) يحرص على حصر تعليق قلوب مقاتليه وجنوده بالله عزوجل وبالآخرة: الغاية، أما الاجتهادات الحزبية النسبية (الطرق الموصلة إلى الغاية) الخاصة بكل تيار وجماعة وحركة فكان يعدّها مسألة ثانوية طالما أن الثائر ممسكٌ بسلاحه ولا يتخلى عنه، ولذلك كانت قضيته المركزية: الارتقاء بروح المجاهدين على الأرض (قبل ارتقائهم إلى السماء) عبر تجويد عباداتهم وتنمية أخلاقهم وضبط تصرفاتهم، عوضاً عن التركيز على برمجة عقولهم (الجانب البرّاني) على فكر معين أو مدرسة محددة بحيث يتضخم هذا الجانب عند البعض ليعتنقه كحق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

3. الدعوة بلسان الحال والمقال، فغالباً لم يكن يخالف فعله قوله بل كان يسبقه، فعندما يوصي غيره بالإنفاق في سبيل الله نصرة للثورة وللمستضعفين، يكون قبلها قد أنفق كل ما يملك من مال وأراضي لتسليح الثوار (15 مليون ليرة سورية= 300,000 $ تقريباً)، وإذا دعا الشباب للتوكل والاعتماد على الله سبحانه لا على السلاح (دون إغفال الأسباب)، يكون قبلها قد قاد معارك كبرى كثيرة بأسلحة بسيطة كمعارك تحرير ريف حلب الشمالي (مع وجود شح بالقذائف المضادة للدبابات) ومعركة تحرير مدينة حلب (حُرر أغلبها برمضان 2012م) بـ 7000 طلقة بندقية فقط!

4. الأسلوب الدعوي النابع من داخله ومن جذور بلده منذ كان تاجراً للمواد والحبوب الغذائية (قبل الثورة)، والمنسجم مع مفردات ومصطلحات الشارع السوري دون تكلّف أو تصنّع أو استيراد أساليب دعوية قد تكون غير مناسبة ومستساغة من قبل المجتمع السوري. فدعوته ما كانت لتلامس شغاف القلوب ما لم تراعِ ثقافة وخصوصية وعادات وتقاليد الشعب، هذا الأمر يبدو ظاهراً جلياً ليس فقط لكل من تعامل مع حجي مارع أو رافقه فترةً من الزمان، وإنما لجميع من شاهد مقاطعه المرئية الكثيرة على الجبهات مع المقاتلين أو في الشوارع مع سائر المدنيين أثناء إلقائه تذكرة أو استماعه للشكاوى والصعوبات التي تواجه الأهالي، فلا شك أن لكل شعب شخصية مستقلة ولكل شخصية مفاتيح معينة.

5. البعد عن جميع المناوشات المنهجية والحزازات الحزبية الدعوية المنتشرة والمستفحلة بين غالبية المدارس والجماعات والحركات الإسلامية مؤخراً، فجُل جهوده كانت منصبة على تحبيب الله ودينه وشرعه لخلقه، وتحفيز عباد الله على طاعته وعدم عصيانه أثناء جهادهم لعدوهم كي يرضى عنهم وينزّل عليهم نصره، وربما من الأشياء التي عصمت حجي مارع من الانخراط في هذا الاحتراب الفكري والتنافر المنهجي، هو أنه من نوادر القادة (خاصة الإسلاميين) الذين لم يُسجنوا قبل الثورة في سجن "صيدنايا"، ذلك السجن الذي شهد صراعاً خارجياً دموياً مقاوماً لتسلط إدارة السجن وإهانتها للمقدسات الإسلامية، وآخر داخلي فكري حاد بين مختلف الأطياف الإسلامية المعتقلة معا .

6. الاعتراف العلني بأخطاء جماعته وسعيه الدؤوب لتصحيح المسار ومحاسبة المخطئين على الملأ وفصلهم إن تطلّب الأمر ، فلم يكن من الذين يؤثرون سمعة فصيلهم على حقوق الآخرين بل لطالما أوقف المسيئين عند حدودهم وحاسبهم على رؤوس الأشهاد غير آبهٍ بما سيقوله منافسوه وخصومه وبما قد يستغلونه في تنفير الشباب عن الالتحاق بجماعة حجّي مارع (لواء التوحيد)، فمسألة الاستزادة من الأعداد بغرض الهيمنة لم تكن من برنامجه وخططه ، حتى إنه فصل مجموعات كاملة كانت تتبع للوائه وعدّل هيكلة الجماعة ووضع شروطاً أخلاقية معينة لمن أراد الانضمام لها عقب تحريره لكثير من المناطق واستقرار الأوضاع فيها .

7. الحرص على مشاركة جميع الفصائل والفعاليات والهيئات الكبيرة المؤثرة في إدارة ما حرره هو وحده، طالما أنه غير قادر على القيام بهذه المهمة بمفرده بصورة جيدة، وذلك لعدم وجود كوادر كافية على الأصعدة الخدمية المختلفة وأيضًا القضائية والإدارية والطبية والتعليمية وغيرها. فمدينة حلب مثلاً، لم يشارك في تحريرها إلا لواء التوحيد ، وربما من حقه من الناحية القضائية أن يديرها بمفرده، ولكن إن لم تتم الكفاية ووقع العجز في النوعية، فلا شك أن من يبغي وجه الله ويقدم المصلحة العامة للمسلمين يسارع في التعاون والتنسيق مع إخوانه إن تعذر الانصهار الكامل والتوحد.

8. احترام التخصص ومعرفة (قدر النفس) مع اليقظة المتمثلة بـ: السعي لمنع تسلق المشبوهين لسدة الحكم بعد التحرير، فرغم أنه داعية معروف في مجتمعه، وتاجر مشهور بصدقه وأمانته، ومن أوائل من انخرط وقاد الثورة سلمياً وعسكرياً، وذو شعبية جارفة لا تخطئها العين، إلا أن ذلك كلَّه لم يدفعه للافتئات على مجالات خارج تخصصه، ففي الناحية العسكرية كان يُنزل الضباط العسكريين المنشقين الشرفاء منزلتهم ، وقد تم تعيين العقيد يوسف الجادر (أبو الفرات) رئيساً لأركان لواء التوحيد، وفي الناحية الشرعية القضائية أوكل وسلّم الأمر للجنة من القضاة وطلاب العلم المختصين وعمل على تمكينهم من مزاولة مهامهم بشكل مستقل وناجح ، وأخيراً وليس آخراً أكّد على عدم رغبته في تولي أي منصب سياسي مع تشديده على المساهمة في استلام الثقات الشرفاء لدفة الحكم مستقبلاً .

9. السلامة من مَرَضَيّ: المناطقية والعولمة، وهذان المرضان من أعظم ما ابتليت به الثورة السورية، أما الأول: المناطقية (الاهتمام فقط بمدينتك أو منطقتك وتجاهل ما سواها) فقد كان لسياسة النظام السوري خلال العقود السابقة الدور الأبرز في ترسيخها داخل النفوس عبر تهميش بعض المناطق وتأليب بعض المدن على أخرى، وقد عُصم منه حجي مارع ويشهد على ذلك قيادته بنفسه لحملة عسكرية نصرة للقصير المُحاصرة (بريف حمص) من حزب الله اللبناني والبعيدة عنه مئات الكيلومترات، وأما الثاني: العولمة (استجلاب النظام العالمي لقتاله واستنزافه وعدم أولوية تحرير الأرض) فقد سادت هذه النظرية وهيمنت على عقلية التنظيمات المرتبطة بالقاعدة، وكان حجي مارع من أكبر الرافضين والمعارضين لها ، إذ تحتل قضية تحرير الأرض قلبه وعقله.



10. الهدف الغائي الأصيل المحدد: إقامة دولة إسلامية دستورية مؤسسية معتدلة ومستقلة لا يحكمها عسكر ويختار الشعب من يريد عبر صناديق الاقتراع، هذا الأمر دأب على ترديده والمناداة به بكل وضوح وصراحة خلال ندواته الداخلية ومقابلاته التلفزيونية فمسألة هوية الدولة وشكلها ومصادر التشريع وسن القوانين فيها حازت على مساحة مركزية في خريطة المشروع الثوري الإصلاحي لحجي مارع في سورية، غير أنه كان يدرك أن إمكانية الوصول لهذا الهدف تتطلب التمهيد والتحضير الجاد خلال سنوات الثورة عبر رفع المعدلات الإيمانية والفكرية والسياسية للمقاتلين وللشعب بشكل عام حتى يتشارك ويتعاضد الجميع في تحقيق هذا الحلم الممنوع والمُحارَب من أعداء الأمة.

خاتمة:

رغم أن تجربة حجّي مارع لم تدم إلا سنتين فقط (نوفمبر 2011م – نوفمبر 2013م)، ومع أنه لم يكن عالماً أو مفكراً أو مثقفاً كبيراً، ولم تكلَّل جهودُه وجهود غيره بالتحرير الكامل للبلاد بل ولم تستمر جماعته كقوة كبيرة ذات ثقل وتأثير في مجريات الأحداث كما كانت قبل استشهاده، إلا أنه ترك قصةً نموذجيةً ملهمةً لكل القادة الحاليين والمستقبليين للمقاومة والثورات الشعبية، كانت أهم فصولها الصدق مع الله والنفس والصفاء مع الشعب والأمة، والأمانة في بذل المال والدم والنصح، والتفنن في زراعة الأمل وتجديده في قلوب المستضعفين الثائرين السائرين على طريق تحرر أمتهم واسترداد مجدها السليب .
‏٠٧‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:١٧ م‏
افتتاحية العدد الجديد.. في ضرورة تأمين القيادات والكفاءات المسلمة @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط: http://bit.ly/2HEw0Zj] قبل سنوات قليلة حذرت السلطات الأردنية الإخوان من إجراء الانتخابات الداخلية، وهددت بأن إجراءها يعني اتخاذ إجراءات ضد الجماعة. وقد حصل تردد وارتباك في الجماعة إزاء هذا التهديد، فحاولوا جس نبض السلطة وهل هي جادة، فأجروا انتخابات في منطقة ما، وكان للسلطة رد فعلها الجاد والقوي، فاضطر الإخوان إلى إلغاء إجراء الانتخابات الداخلية. تبدو الصورة غريبة لأول وهلة، فالنظام الذي يعادي جماعة ما ينبغي أن يكون حريصا على إجراء هذه الانتخابات لتتغير القيادات التي دخل معها في احتكاك أو نزاع، فلربما جاء من هو ألين منهم أو هو أكثر "انفتاحا" و"اعتدالا"، فإن لم يكن هذا وجاء من هو مثلهم فعلى الأقل سيأتي من ليست له الخبرة الوافرة التي تكونت وترسخت عند القيادات القديمة، وهو ما يجعل التعامل معه أسهل.. هكذا ينبغي أن تفكر السلطة فيما يبدو لأول وهلة. لكن الذي حصل هو العكس! لقد كانت السلطة أحرص من الجماعة نفسها على بقاء القيادات القديمة في مكانها! فهل يصعب توقع السبب؟! أبدا: السبب أن السلطة خبرت وعرفت تلك القيادات ومخارجها ومداخلها وطرائق التعامل معها والسيطرة عليها كذلك!.. ومن ثَمَّ فالسلطة أحرص على عدم المخاطرة بالتعامل مع الجديد من الجماعة نفسها!! تلك القيادات الإسلامية التي بقيت في مكانها أدنى من نصف القرن وثلثه وربعه، تسافر وتروح وتغدو بين المؤتمرات والمنتديات واللقاءات، كأنها لا تمثل أي نوع من الخطر ولا المنافسة للأنظمة الحاكمة والنظام الدولي، بل النظام الدولي يفتح لهم عواصمه ليتخذوا فيها مقرات! وقبل أيام صرَّح قيادي إخواني على صفحته بالفيس بوك بما كان معروفا بين الأوساط الإسلامية المصرية من أن إبراهيم منير –الذي هو في مكانه منذ أربعين عاما- هدد في لقاء مغلق بأنه سيبلغ المخابرات البريطانية في جلسته الشهرية معها عن الإخوان "المؤيدين للعنف"! وذلك لأنه صادق لا يكذب!! وهو التصريح الذي فاجأ الكثيرين بأن له لقاءات دورية مع المخابرات البريطانية. حسنا.. فما الغرض من كل هذا الكلام الآن؟! الغرض بسيط وواضح، إن الذي يمثل خطرا حقيقيا لا يُسمح له بالحياة.. هذا هو الدرس الذي ذكَّرنا به اغتيال الشهيد الدكتور المهندس فادي البطش في ماليزيا، لقد كان وهو في الخامسة والثلاثين من عمره يمثل خطرا على إسرائيل لأنه يساهم في تطوير البنية العسكرية لحركة حماس. وهو ما أعاد إلى الذاكرة –المثقلة التي تنسى من كثرة الهموم- اغتيال الشهيد المهندس محمد الزواري في بيته بتونس لأنه من مهندسي طائرات حماس بدون طيار.. وكلاهما يذكر بطابور طويل من القيادات السياسية والأمنية والعسكرية والعلمية التي اغتيلت حول العالم. بينما أولئك الذين تحرص السلطات وأجهزة المخابرات على بقائهم في أماكنهم ومناصبهم هم مصدر الأمان الحقيقي، هم أولئك الذين يقومون بدور لا تستطيع تلك الأجهزة أن تفعله ولو اجتهدت، إنهم يُمسكون بقرون الحركة الإسلامية ومفاصلها، الحركة الإسلامية التي إن ثارت وهاجت فلا يمكن توقع ماذا يمكن أن تفعل! تتبع المستهدفين بالاغتيال يرسم لنا ملامح السياسة العامة لأولئك الخطرين الذين يُسْتَهدفون.. 1. يأتي على أول القائمة القادة الذين يستطيعون تحريك الأتباع نحو الوجهة الصحيحة، فأولئك قد اجتمع لهم علمٌ وعمل، فبالعلم يحددون الوجهة والرؤية والطريق الصحيح، وبالعمل يحركون الأتباع الذين نجحوا في تكوينهم وتنظيمهم، وهنا يمكن أن نضرب أمثلة طويلة من عمر المختار والقسام وحسن البنا وأحمد ياسين وأسامة بن لادن وغيرهم من زعماء وقيادات حركات المقاومة. 2. ويأتي بعدهم العلماء والمخترعون وأصحاب القفزات النوعية في مسارات المقاومة، طالما أن أولئك يعملون بالفعل في سياق المقاومة أو يحملون من الأفكار والتوجهات ما يجعلهم ممتنعين عن الذوبان في الحضارة الغربية وتجنيد مجهوداتهم في صالحها.. مثل هذا لا بد من التخلص منه، فذلك الذي يمثل الأنياب والمخالب التي تضرب بها حركة المقاومة، أولئك الذين يوفرون الأدوات والوسائل التي تتحول بها الأفكار النظرية المحلقة في الخيال والحائمة في الرؤوس إلى أسلحة على الأرض تقاتل في الحروب وتغير موازين القوى وخرائط الصراعات. أما إن كان صاحب الفكر والعلم بلا جماعة ولا أتباع ولا وسائل فلا بأس بتركه حتى يموت كمدا أو يموت من الصراخ.. كذلك إن كانت الجماعة أو الحركة بلا أنياب ولا مخالب ولا وسائل فلا بأس بتركها تعمل في الإطار الذي يُحدد لها، بل قد توظف في خدمة السياسة الحاكمة وكبح انفلات الأتباع وتخديرهم بالنسخة المخففة من الدين. وعلى الجانب الآخر طالما أن الأنياب والمخالب تقبل بتوظيفها واستعمالها ضمن المنظومة الحضارية الغربية فهي محل ترحيب، أما حيث استنكفت عن هذا وكانت لها طموحات أخرى، فمصيرها الاغتيال. القاعدة أن يمتنع اجتماع العلم والعمل معا، العقل والمخلب معا، القدرة على التفكير والقدرة على التنفيذ معا.. ذكر تقرير بريطاني عن الشيخ رشيد رضا أنه "مسلم صعب ، متعصب، لا يتساهل، وتنطلق أفكاره من باعث رئيسي هو التوق لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في أوسع مجال ممكن. إن غطرسته الفكرية في تقديري يمكن أن تعزى بالدرجة الأولى إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى تخشى الإسلام... وعلى الرغم من دماثة خلقه وحسن سلوكه، فلا يسعني وصف موقفه إلا بأنه مشاكس… تسيطر عليه فكرة خيالية هى أن الإسلام كيان دولي مستقل ، وأن المسلمين يستطيعون أن يملوا على بريطانيا سياستها بلهجة تكاد تشبه لهجة الفاتحين، وأنه لا يستطيع أن يحمل نفسه على تقديم أي تنازل أو تبني أي أمل في صداقة فعلية أو ولاء من جانب المسلمين" . عاش رشيد رضا بعد هذا التقرير عشرين عاما، ومات وهو في السبعين من عمره، وترك لنا المنار شاهدة على ما حمله صدره من علم ثرٍّ غزير واسع ومن لهيب وأحزان وحماسة لا تنتهي.. وذكرت برقية للسفارة البريطانية عن الشيخ حسن البنا: "يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار إلى الأبد، إذا أزيح حسن البنا عن قيادتها لأي سبب، مع غياب أي خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية والذكاء اللذين يتمتع بهما حسن البنا" . عاش البنا بعد هذا التقرير أياما ثم اغتيل وهو في الثالثة والأربعين من عمره.. لم يكن الفارق بين البنا ورشيد رضا إلا أن البنا له أتباع يملك تحريكهم، اجتمع له التفكير والتنفيذ! بينما كان علم رشيد رضا وحرقته وحماسته بلا مخالب تحيلها إلى واقع يغير موازين الأوضاع. في حالات أخرى يكون الحبس الطويل أفضل من الاغتيال، هذا إن أمكن.. فالاغتيال يثمر أسطورة بطولة وشهادة، بينما الحبس الطويل يُغيِّب ذكرى الزعيم وقد يكسره، وإن لم يكسره كسر صورته في النفوس والخيال.. وهذا اغتيال مضاعف، ونجاح أكبر.. لكن الاختيار بين الحبس والاغتيال تحوطه ظروف موضوعية وتفصيلية يقدِّرها صاحب القرار. لا يزال على جدول المهمومين بأحوال الأمة عمل كثير طويل، من صلب هذا العمل: تأمين القيادات والكفاءات والحفاظ عليها. ولقد كان النبي في الحراسة المسلحة منذ لحظته الأولى في المدينة حتى نزل قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) فصرف الحراسة.
افتتاحية العدد الجديد.. في ضرورة تأمين القيادات والكفاءات المسلمة


محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط:
http://bit.ly/2HEw0Zj]

قبل سنوات قليلة حذرت السلطات الأردنية الإخوان من إجراء الانتخابات الداخلية، وهددت بأن إجراءها يعني اتخاذ إجراءات ضد الجماعة. وقد حصل تردد وارتباك في الجماعة إزاء هذا التهديد، فحاولوا جس نبض السلطة وهل هي جادة، فأجروا انتخابات في منطقة ما، وكان للسلطة رد فعلها الجاد والقوي، فاضطر الإخوان إلى إلغاء إجراء الانتخابات الداخلية.

تبدو الصورة غريبة لأول وهلة، فالنظام الذي يعادي جماعة ما ينبغي أن يكون حريصا على إجراء هذه الانتخابات لتتغير القيادات التي دخل معها في احتكاك أو نزاع، فلربما جاء من هو ألين منهم أو هو أكثر "انفتاحا" و"اعتدالا"، فإن لم يكن هذا وجاء من هو مثلهم فعلى الأقل سيأتي من ليست له الخبرة الوافرة التي تكونت وترسخت عند القيادات القديمة، وهو ما يجعل التعامل معه أسهل.. هكذا ينبغي أن تفكر السلطة فيما يبدو لأول وهلة. لكن الذي حصل هو العكس!

لقد كانت السلطة أحرص من الجماعة نفسها على بقاء القيادات القديمة في مكانها! فهل يصعب توقع السبب؟! أبدا: السبب أن السلطة خبرت وعرفت تلك القيادات ومخارجها ومداخلها وطرائق التعامل معها والسيطرة عليها كذلك!.. ومن ثَمَّ فالسلطة أحرص على عدم المخاطرة بالتعامل مع الجديد من الجماعة نفسها!!

تلك القيادات الإسلامية التي بقيت في مكانها أدنى من نصف القرن وثلثه وربعه، تسافر وتروح وتغدو بين المؤتمرات والمنتديات واللقاءات، كأنها لا تمثل أي نوع من الخطر ولا المنافسة للأنظمة الحاكمة والنظام الدولي، بل النظام الدولي يفتح لهم عواصمه ليتخذوا فيها مقرات!

وقبل أيام صرَّح قيادي إخواني على صفحته بالفيس بوك بما كان معروفا بين الأوساط الإسلامية المصرية من أن إبراهيم منير –الذي هو في مكانه منذ أربعين عاما- هدد في لقاء مغلق بأنه سيبلغ المخابرات البريطانية في جلسته الشهرية معها عن الإخوان "المؤيدين للعنف"! وذلك لأنه صادق لا يكذب!! وهو التصريح الذي فاجأ الكثيرين بأن له لقاءات دورية مع المخابرات البريطانية.

حسنا.. فما الغرض من كل هذا الكلام الآن؟!

الغرض بسيط وواضح، إن الذي يمثل خطرا حقيقيا لا يُسمح له بالحياة.. هذا هو الدرس الذي ذكَّرنا به اغتيال الشهيد الدكتور المهندس فادي البطش في ماليزيا، لقد كان وهو في الخامسة والثلاثين من عمره يمثل خطرا على إسرائيل لأنه يساهم في تطوير البنية العسكرية لحركة حماس. وهو ما أعاد إلى الذاكرة –المثقلة التي تنسى من كثرة الهموم- اغتيال الشهيد المهندس محمد الزواري في بيته بتونس لأنه من مهندسي طائرات حماس بدون طيار.. وكلاهما يذكر بطابور طويل من القيادات السياسية والأمنية والعسكرية والعلمية التي اغتيلت حول العالم.

بينما أولئك الذين تحرص السلطات وأجهزة المخابرات على بقائهم في أماكنهم ومناصبهم هم مصدر الأمان الحقيقي، هم أولئك الذين يقومون بدور لا تستطيع تلك الأجهزة أن تفعله ولو اجتهدت، إنهم يُمسكون بقرون الحركة الإسلامية ومفاصلها، الحركة الإسلامية التي إن ثارت وهاجت فلا يمكن توقع ماذا يمكن أن تفعل!

تتبع المستهدفين بالاغتيال يرسم لنا ملامح السياسة العامة لأولئك الخطرين الذين يُسْتَهدفون..

1. يأتي على أول القائمة القادة الذين يستطيعون تحريك الأتباع نحو الوجهة الصحيحة، فأولئك قد اجتمع لهم علمٌ وعمل، فبالعلم يحددون الوجهة والرؤية والطريق الصحيح، وبالعمل يحركون الأتباع الذين نجحوا في تكوينهم وتنظيمهم، وهنا يمكن أن نضرب أمثلة طويلة من عمر المختار والقسام وحسن البنا وأحمد ياسين وأسامة بن لادن وغيرهم من زعماء وقيادات حركات المقاومة.

2. ويأتي بعدهم العلماء والمخترعون وأصحاب القفزات النوعية في مسارات المقاومة، طالما أن أولئك يعملون بالفعل في سياق المقاومة أو يحملون من الأفكار والتوجهات ما يجعلهم ممتنعين عن الذوبان في الحضارة الغربية وتجنيد مجهوداتهم في صالحها.. مثل هذا لا بد من التخلص منه، فذلك الذي يمثل الأنياب والمخالب التي تضرب بها حركة المقاومة، أولئك الذين يوفرون الأدوات والوسائل التي تتحول بها الأفكار النظرية المحلقة في الخيال والحائمة في الرؤوس إلى أسلحة على الأرض تقاتل في الحروب وتغير موازين القوى وخرائط الصراعات.

أما إن كان صاحب الفكر والعلم بلا جماعة ولا أتباع ولا وسائل فلا بأس بتركه حتى يموت كمدا أو يموت من الصراخ.. كذلك إن كانت الجماعة أو الحركة بلا أنياب ولا مخالب ولا وسائل فلا بأس بتركها تعمل في الإطار الذي يُحدد لها، بل قد توظف في خدمة السياسة الحاكمة وكبح انفلات الأتباع وتخديرهم بالنسخة المخففة من الدين.

وعلى الجانب الآخر طالما أن الأنياب والمخالب تقبل بتوظيفها واستعمالها ضمن المنظومة الحضارية الغربية فهي محل ترحيب، أما حيث استنكفت عن هذا وكانت لها طموحات أخرى، فمصيرها الاغتيال.

القاعدة أن يمتنع اجتماع العلم والعمل معا، العقل والمخلب معا، القدرة على التفكير والقدرة على التنفيذ معا..

ذكر تقرير بريطاني عن الشيخ رشيد رضا أنه "مسلم صعب ، متعصب، لا يتساهل، وتنطلق أفكاره من باعث رئيسي هو التوق لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في أوسع مجال ممكن. إن غطرسته الفكرية في تقديري يمكن أن تعزى بالدرجة الأولى إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى تخشى الإسلام... وعلى الرغم من دماثة خلقه وحسن سلوكه، فلا يسعني وصف موقفه إلا بأنه مشاكس… تسيطر عليه فكرة خيالية هى أن الإسلام كيان دولي مستقل ، وأن المسلمين يستطيعون أن يملوا على بريطانيا سياستها بلهجة تكاد تشبه لهجة الفاتحين، وأنه لا يستطيع أن يحمل نفسه على تقديم أي تنازل أو تبني أي أمل في صداقة فعلية أو ولاء من جانب المسلمين" .

عاش رشيد رضا بعد هذا التقرير عشرين عاما، ومات وهو في السبعين من عمره، وترك لنا المنار شاهدة على ما حمله صدره من علم ثرٍّ غزير واسع ومن لهيب وأحزان وحماسة لا تنتهي..

وذكرت برقية للسفارة البريطانية عن الشيخ حسن البنا: "يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار إلى الأبد، إذا أزيح حسن البنا عن قيادتها لأي سبب، مع غياب أي خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية والذكاء اللذين يتمتع بهما حسن البنا" .

عاش البنا بعد هذا التقرير أياما ثم اغتيل وهو في الثالثة والأربعين من عمره.. لم يكن الفارق بين البنا ورشيد رضا إلا أن البنا له أتباع يملك تحريكهم، اجتمع له التفكير والتنفيذ! بينما كان علم رشيد رضا وحرقته وحماسته بلا مخالب تحيلها إلى واقع يغير موازين الأوضاع.

في حالات أخرى يكون الحبس الطويل أفضل من الاغتيال، هذا إن أمكن.. فالاغتيال يثمر أسطورة بطولة وشهادة، بينما الحبس الطويل يُغيِّب ذكرى الزعيم وقد يكسره، وإن لم يكسره كسر صورته في النفوس والخيال.. وهذا اغتيال مضاعف، ونجاح أكبر.. لكن الاختيار بين الحبس والاغتيال تحوطه ظروف موضوعية وتفصيلية يقدِّرها صاحب القرار.

لا يزال على جدول المهمومين بأحوال الأمة عمل كثير طويل، من صلب هذا العمل: تأمين القيادات والكفاءات والحفاظ عليها. ولقد كان النبي في الحراسة المسلحة منذ لحظته الأولى في المدينة حتى نزل قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) فصرف الحراسة.
‏٠٥‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٩:٥٤ م‏
صلاح الدين هو الحل! د. علي العمري* (منشور بالعدد السابق من المجلة، عدد9) قبل ثلاثين عاماً قدَّم العلامة الشيخ (أبو الحسن الندوي) -رحمه الله- محاضرة عن القدس برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان مما قال فيها: "إن الحل لقضية الأقصى هو عودة صلاح الدين". وقطعاً يريد الشيخ الندوي فكر صلاح الدين، ومنهج صلاح الدين، وخُطَا صلاح الدين في تحرير القدس والأقصى. وحول هذا المفهوم قال المؤرخ والأديب (خير الدين الزركلي) يخاطب الأمة: هَاتِيْ صلاحَ الدينِ ثانيةً فينا وجَدِّدِي حِطِّينَ أو شِبْهَ حِطِّينَا إن الندوي والزركلي وسواهم ليسوا ممن يتغنَّى بالتاريخ، أو يُطالبُ بتعجيل خروج المهدي كما يُقال. لكنهم يفهمون أن من يُطالب بعودة عمر، هم من وجدوا صلاح الدين!، وهو المعنى الذي لخصه (د. أحمد خيري العُمري) في كتابه الرائع (استرداد عمر). إن الجميع يعرف أنه لن يعود عمر بشخصه وفضائله وتاريخه ومجده، ونزول القرآن موافقاً لعدد من آرائه واجتهاداته، لكن الجميع يعرف أنهم عندما يطالبون بعودة عمر فينا، بفكره، ومنهجه، وهَمـِّه، وهِمته، ورسالته، وجميل صفاته، فإنهم يراهنون على تلامذة خرجوا بعد حين على خطاه، أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وعز الدين القسام، وأحمد ياسين، ممن رأى فيهم الناس المضيَّ على السَّنَنِ نفسه في العلم والعمل. وفي فترة الحملة الصليبية السابعة على الشام، خرج (لويس التاسع) مخاطباً النصارى في الكنيسة بباريس مطالباً الأسقف ورجال المال أن يدفعوا ضريبة للحرب على المسلمين، ثم ناشدهم الوقوف في الصفوف الأولى حتى تدور المعركة وتحقق غايتها. وفي المقابل وفي التوقيت نفسه خرج الإمام (الصالحي) قاضي (جَبَلة)، وجمع العلماء والوجهاء والتجار، وكان قبلها قد شارك مع عدد من الجند في مواجهة عسكرية على أطراف الشام، وبعد أن جمعهم في المسجد، قال لهم من شعر الأبيوردي: مَزَجْنَا دِمَاءً بالدُّمُوعِ السَّواجِمِ فَلَمْ يَبْــقَ مِنَّا عَرْضَة ٌ لِلَمـــراجِــــــمِ وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ إن الإمام (الصالحي) يُشرِّح في هذين البيتين الواقع، ويصف العلاج الناجع. لقد أدرك أن أكبر خطر أمام عملية التحرير والمقاومة والحريات والدفاع عن كرامة الشعوب واستقلال الأرض، ألا يبرز القادة والقدوات في ميدان العمل، ولذلك مزج مع إخوانه القادة دماءهم بدموعهم ونزلوا لعرصات القتال، وحين رآهم الناس لم يبق أحد ينال منهم، وينشغل بشتمهم، بل هم وأبناؤهم والأقربون منهم نالهم الأذى، واكتشف الناس أنهم كانوا من ضمن الجنود البررة الذين نافحوا عن الحرية والكرامة، فزاد هذا الواقع من رصيد حبهم، والثقة بهم، والولاء لقضيتهم. ثم إن الإمام (الصالحي) توجه في خطابه للناس بأن شر ما يقدِّمه الإنسان القليل، وبيده الكثير!، أو أن يُقدم ما يُقدِّمه كل الناس وهو يستطيع تقديم الأولى والأهم والأعز، إذ ماذا يفيد إذا الحرب شبت نارها بالصوارم، وفيها لمعات السيوف، وهناك من يفخر بتقديم الإغاثة والمعونات الإنسانية، وبيده تقديم السلاح والمـُهج!! وفي ذات السياق يقول المتنبي: عَــجِبْتُ لـمَــــنْ لَهُ قَــــــدٌّ وَحَـــــــدٌّ وَيَنْبُو نَبْــــــــوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي فَلا يَذَرُ المَـــــــــــــطيَّ بِلا سَنَامِ وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ فمن أراد أن يكون صانعاً للمجد، محركاً للحياة، عليه أن ينزل للساحة، ويدخل في العمق؛ لأن التأثير كما يقول (سيبويه): له عمقٌ ودُخول. "وهذا وصف دقيق واصطلاح صغير لمعنى كبير، فشأن محرك الحياة أن (يدخل) ليملك محاور التشغيل وعُقد السيطرة، وليس هو المتفرج أو المراقب له من خارج أو المتسمِّر على كرسي يشاهد خبرها من خلال روايات الإعلام لأخبار (الداخلين)، بل يكفيه أن يعلم أن (عبدالرحمن) قد دَخَل المدار الإبداعي، وجَسَر، وكان صقراً، لا حَمَامة، فَمَلَكَ الأندلس وبقيت دهراً في يد أبنائه"، كما يقول الأستاذ: محمد أحمد الراشد. وبتحليل هذا العمق والدخول في نموذج الساحة الفلسطينية رأينا الآثار العجيبة التي تبنَّى تتبعها المفكر (د. عبدالوهاب المسيري) -رحمه الله- في كتابه المحرَّر: "من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية - أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني"، ومن ضمن وقفات (د. المسيري) في الكتاب: 1- وصف أحد الكتاب الموقف من المقاومة الفلسطينية بقوله في عبارة دالة على فقدان الإحساس بالأمن في إسرائيل: صغيرة هي المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الإسرائيلي يعيش بين هذا وذاك (معاريف: 11/2/2002م). 2- من النكت الشائعة الآن في إسرائيل، ما يقوله مستوطن لصديقه: سأحضر إلى منزلك بالأوتوبيس، وأمنيتي أن أنجح في ذلك!. (الجيروساليم بوست: 1/1/2002م). 3- ظهر في إسرائيل ما يسمَّى (حضارة البقاء في المنزل)، وهي أن يفضل الناس البقاء في المنزل، ولا يذهبوا إلى المطاعم إلا نادراً، ولذلك فمعظم المطاعم فتحت خدمة (تيك أواي). وحتى حينما يذهبون إلى مطعم لا يجلسون في الموائد التي توجد في وسط المطعم، بل يفضلون الجلوس وراء العمود (مارتن آسر أون لاين: 26/3/2002م b.b.c). 4- بيَّنت (يديعوت أحرونوت: 14/2/2002م) أن شركات الأدوية أفادت بأن هناك ارتفاعاً بنسبة (50%) في استهلاك المهدئات والمسكِّنات. 5- نشرت كل من (هآرتس وبنئيم: عدد 17 صيف 2001م) عن ظاهرة يسميها علماء النفس ظاهرة (العجز المكتسب). وهو سلوك سلبي ينشأ من إدراك أنه لا وسيلة لتجنب آثار مؤلمة، ومن عدم اليقين بخصوص أي شيء. وفي التقارير المنشورة في القنوات والصحف الإسرائيلية أخبار مضحكة أكثر!. وبعد؛ فإن السَّير على (خُطَا صلاح الدين) ليس عنواناً عبثياً، ولا طرحاً تقليدياً، بل هو في حقيقته تأصيل لفكرة منطق المقاومة، واستمرار المقاومة، وثمرة المقاومة. وما فعلته (حماس) وفصائل الجهاد الإسلامي المباركة في المعركة الأخيرة أنها أبرزت القيادات والجنود الذين ساروا على خطا صلاح الدين، فأعادوا الثقة للأمة الإسلامية، كما كشفوا عن العديد من الأزمات التي مُني العدو الإسرائيلي بها. ولو كان (د. المسيري) حيًّا، لأضاف في طبعة جديدة من كتابه المزيد من الغم النفسي، وارتفاع معدلات الخوف، وأزمة الاقتصاد، وهروب المستوطنين الصهاينة!. إن المشروع الإسرائيلي قائم كما يقول أحد زعماء الصهاينة على نظرية: "إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة". أما في المشروع الإسلامي فإن منطلق العزة والمنعة والحماية والأمن والأمان من المفهوم القرآني: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ). وقبل قوة السلاح والتمكُّن والتطور ما استطعنا - وقد فعلتها حماس - تكون قوة الإيمان التي تمضي بأتباعها في كل نفق، وعلى كل جبل، كالعاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها، تدمر الاحتلال وأوتاده وأعوانه، وتطهر الوادي المقدَّس بشبابه وصغاره من أرجاس القراصنة الصهاينة، ومن سار على دربهم من الفراعنة. ومن كان على خطا صلاح الدين يوقن أن من يَطلبُ الموتَ توهب له الحياة الخالدة، والشهادة الكاملة. والطريق معبَّدٌ للأمة لتتحرك، فالنور قد سطع، والبرهان الفلسطيني قد ظهر، وخطا التاريخ قد كُتبت، والعاقبة للعاملين المخلصين. --------------------------------- • نعيد نشر هذا المقال للدكتور علي العمري فك الله أسره، وهو منشور بموقعه 20-7-2017.
صلاح الدين هو الحل!
د. علي العمري*

(منشور بالعدد السابق من المجلة، عدد9)

قبل ثلاثين عاماً قدَّم العلامة الشيخ (أبو الحسن الندوي) -رحمه الله- محاضرة عن القدس برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان مما قال فيها: "إن الحل لقضية الأقصى هو عودة صلاح الدين".

وقطعاً يريد الشيخ الندوي فكر صلاح الدين، ومنهج صلاح الدين، وخُطَا صلاح الدين في تحرير القدس والأقصى.

وحول هذا المفهوم قال المؤرخ والأديب (خير الدين الزركلي) يخاطب الأمة:

هَاتِيْ صلاحَ الدينِ ثانيةً فينا وجَدِّدِي حِطِّينَ أو شِبْهَ حِطِّينَا

إن الندوي والزركلي وسواهم ليسوا ممن يتغنَّى بالتاريخ، أو يُطالبُ بتعجيل خروج المهدي كما يُقال. لكنهم يفهمون أن من يُطالب بعودة عمر، هم من وجدوا صلاح الدين!، وهو المعنى الذي لخصه (د. أحمد خيري العُمري) في كتابه الرائع (استرداد عمر).

إن الجميع يعرف أنه لن يعود عمر بشخصه وفضائله وتاريخه ومجده، ونزول القرآن موافقاً لعدد من آرائه واجتهاداته، لكن الجميع يعرف أنهم عندما يطالبون بعودة عمر فينا، بفكره، ومنهجه، وهَمـِّه، وهِمته، ورسالته، وجميل صفاته، فإنهم يراهنون على تلامذة خرجوا بعد حين على خطاه، أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وعز الدين القسام، وأحمد ياسين، ممن رأى فيهم الناس المضيَّ على السَّنَنِ نفسه في العلم والعمل.

وفي فترة الحملة الصليبية السابعة على الشام، خرج (لويس التاسع) مخاطباً النصارى في الكنيسة بباريس مطالباً الأسقف ورجال المال أن يدفعوا ضريبة للحرب على المسلمين، ثم ناشدهم الوقوف في الصفوف الأولى حتى تدور المعركة وتحقق غايتها.

وفي المقابل وفي التوقيت نفسه خرج الإمام (الصالحي) قاضي (جَبَلة)، وجمع العلماء والوجهاء والتجار، وكان قبلها قد شارك مع عدد من الجند في مواجهة عسكرية على أطراف الشام، وبعد أن جمعهم في المسجد، قال لهم من شعر الأبيوردي:

مَزَجْنَا دِمَاءً بالدُّمُوعِ السَّواجِمِ فَلَمْ يَبْــقَ مِنَّا عَرْضَة ٌ لِلَمـــراجِــــــمِ
وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ

إن الإمام (الصالحي) يُشرِّح في هذين البيتين الواقع، ويصف العلاج الناجع.

لقد أدرك أن أكبر خطر أمام عملية التحرير والمقاومة والحريات والدفاع عن كرامة الشعوب واستقلال الأرض، ألا يبرز القادة والقدوات في ميدان العمل، ولذلك مزج مع إخوانه القادة دماءهم بدموعهم ونزلوا لعرصات القتال، وحين رآهم الناس لم يبق أحد ينال منهم، وينشغل بشتمهم، بل هم وأبناؤهم والأقربون منهم نالهم الأذى، واكتشف الناس أنهم كانوا من ضمن الجنود البررة الذين نافحوا عن الحرية والكرامة، فزاد هذا الواقع من رصيد حبهم، والثقة بهم، والولاء لقضيتهم.

ثم إن الإمام (الصالحي) توجه في خطابه للناس بأن شر ما يقدِّمه الإنسان القليل، وبيده الكثير!، أو أن يُقدم ما يُقدِّمه كل الناس وهو يستطيع تقديم الأولى والأهم والأعز، إذ ماذا يفيد إذا الحرب شبت نارها بالصوارم، وفيها لمعات السيوف، وهناك من يفخر بتقديم الإغاثة والمعونات الإنسانية، وبيده تقديم السلاح والمـُهج!! وفي ذات السياق يقول المتنبي:

عَــجِبْتُ لـمَــــنْ لَهُ قَــــــدٌّ وَحَـــــــدٌّ وَيَنْبُو نَبْــــــــوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي فَلا يَذَرُ المَـــــــــــــطيَّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ

فمن أراد أن يكون صانعاً للمجد، محركاً للحياة، عليه أن ينزل للساحة، ويدخل في العمق؛ لأن التأثير كما يقول (سيبويه): له عمقٌ ودُخول.

"وهذا وصف دقيق واصطلاح صغير لمعنى كبير، فشأن محرك الحياة أن (يدخل) ليملك محاور التشغيل وعُقد السيطرة، وليس هو المتفرج أو المراقب له من خارج أو المتسمِّر على كرسي يشاهد خبرها من خلال روايات الإعلام لأخبار (الداخلين)، بل يكفيه أن يعلم أن (عبدالرحمن) قد دَخَل المدار الإبداعي، وجَسَر، وكان صقراً، لا حَمَامة، فَمَلَكَ الأندلس وبقيت دهراً في يد أبنائه"، كما يقول الأستاذ: محمد أحمد الراشد.

وبتحليل هذا العمق والدخول في نموذج الساحة الفلسطينية رأينا الآثار العجيبة التي تبنَّى تتبعها المفكر (د. عبدالوهاب المسيري) -رحمه الله- في كتابه المحرَّر: "من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية - أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني"، ومن ضمن وقفات (د. المسيري) في الكتاب:

1- وصف أحد الكتاب الموقف من المقاومة الفلسطينية بقوله في عبارة دالة على فقدان الإحساس بالأمن في إسرائيل: صغيرة هي المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الإسرائيلي يعيش بين هذا وذاك (معاريف: 11/2/2002م).

2- من النكت الشائعة الآن في إسرائيل، ما يقوله مستوطن لصديقه: سأحضر إلى منزلك بالأوتوبيس، وأمنيتي أن أنجح في ذلك!. (الجيروساليم بوست: 1/1/2002م).

3- ظهر في إسرائيل ما يسمَّى (حضارة البقاء في المنزل)، وهي أن يفضل الناس البقاء في المنزل، ولا يذهبوا إلى المطاعم إلا نادراً، ولذلك فمعظم المطاعم فتحت خدمة (تيك أواي). وحتى حينما يذهبون إلى مطعم لا يجلسون في الموائد التي توجد في وسط المطعم، بل يفضلون الجلوس وراء العمود (مارتن آسر أون لاين: 26/3/2002م b.b.c).

4- بيَّنت (يديعوت أحرونوت: 14/2/2002م) أن شركات الأدوية أفادت بأن هناك ارتفاعاً بنسبة (50%) في استهلاك المهدئات والمسكِّنات.
5- نشرت كل من (هآرتس وبنئيم: عدد 17 صيف 2001م) عن ظاهرة يسميها علماء النفس ظاهرة (العجز المكتسب). وهو سلوك سلبي ينشأ من إدراك أنه لا وسيلة لتجنب آثار مؤلمة، ومن عدم اليقين بخصوص أي شيء. وفي التقارير المنشورة في القنوات والصحف الإسرائيلية أخبار مضحكة أكثر!.

وبعد؛ فإن السَّير على (خُطَا صلاح الدين) ليس عنواناً عبثياً، ولا طرحاً تقليدياً، بل هو في حقيقته تأصيل لفكرة منطق المقاومة، واستمرار المقاومة، وثمرة المقاومة. وما فعلته (حماس) وفصائل الجهاد الإسلامي المباركة في المعركة الأخيرة أنها أبرزت القيادات والجنود الذين ساروا على خطا صلاح الدين، فأعادوا الثقة للأمة الإسلامية، كما كشفوا عن العديد من الأزمات التي مُني العدو الإسرائيلي بها. ولو كان (د. المسيري) حيًّا، لأضاف في طبعة جديدة من كتابه المزيد من الغم النفسي، وارتفاع معدلات الخوف، وأزمة الاقتصاد، وهروب المستوطنين الصهاينة!.

إن المشروع الإسرائيلي قائم كما يقول أحد زعماء الصهاينة على نظرية: "إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة". أما في المشروع الإسلامي فإن منطلق العزة والمنعة والحماية والأمن والأمان من المفهوم القرآني: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

وقبل قوة السلاح والتمكُّن والتطور ما استطعنا - وقد فعلتها حماس - تكون قوة الإيمان التي تمضي بأتباعها في كل نفق، وعلى كل جبل، كالعاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها، تدمر الاحتلال وأوتاده وأعوانه، وتطهر الوادي المقدَّس بشبابه وصغاره من أرجاس القراصنة الصهاينة، ومن سار على دربهم من الفراعنة.

ومن كان على خطا صلاح الدين يوقن أن من يَطلبُ الموتَ توهب له الحياة الخالدة، والشهادة الكاملة.

والطريق معبَّدٌ للأمة لتتحرك، فالنور قد سطع، والبرهان الفلسطيني قد ظهر، وخطا التاريخ قد كُتبت، والعاقبة للعاملين المخلصين.

---------------------------------

• نعيد نشر هذا المقال للدكتور علي العمري فك الله أسره، وهو منشور بموقعه 20-7-2017.
‏٠٥‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٢:١٠ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 10 من مجلة (كلمة حق)، لشهر مايو 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: http://bit.ly/2HEw0Zj نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog/
بسم الله الرحمن الرحيم

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 10 من مجلة (كلمة حق)، لشهر مايو 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.


لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.


لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
http://bit.ly/2HEw0Zj



نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq

تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq

المدونة:

https://klmtuhaq.blog/
‏٠١‏/٠٥‏/٢٠١٨ ٨:٠٠ م‏
الخطوة الأولى المنسية د. @[100002583464860:2048:عطية عدلان] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لا يكون السعيُ سيراً نحو الهدف إذا غابت الخطوة الأولى، التي بدونها لا يُعْرف الطريق ولا يُهتدَى إلى الغاية؛ ومن ثمَّ فإنني على يقين من أنَّ كل ما نبذله من جهد وجميع ما ننفقه من وقت - على ضآلته وضعفه وتهافته - يتبدد في الفضاء سدى، ويذهب في الأنحاء على غير هدى؛ وما ذاك لضآلةٍ في حجمنا ولا لضعفٍ في إمكانياتنا ولا لتهافتٍ في مبادئنا وأفكارنا، وإنَّما لسبب واحد هو أننا جميعاً أُرِيدَ لنا ألا نخطو هذه الخطوة، فاستسلمنا للإرادة الملعونة تلك، وأسلمنا لها القياد. كيف يقع المصاب على هذا النحو المزلزل ثم لا يستدعي منَّا مراجعة لأفكارنا ومناهجنا وأفعالنا ومواقفنا ؟! سواء ما كان منها في السياسة عندما كانت ناصيتها بأَكُفِّنا، وما كان منها في الثورة عندما كانت ظهراً ذلولاً تحت (أردافنا!)، أم إنَّ المراجعات خُلقت - فقط - لتكون آلية (شرعية!) لنسف الثوابت العقدية والشرعية في سياق التراجع والانهزام ؟! لماذا لم يحدث إلى الآن عملية نقد ذاتي فعال وبناء وممنهج ؟! من هذا الذي يأخذ بنواصينا إلى شعاب ضاربة في التيه؛ لئلا نقف هذه الوقفة ؟! وماذا يريد لنا ؟! ومن المستفيد من هذا الصرف المتعمد واللي المقصود ؟! هذه هي الخطوة الأولى، خطوة المراجعة والتقويم، وهي خطوة طبيعية وشرعية؛ إن حدثت انقلبت المحنة منحة واستحالت النقمة نعمة؛ لذلك تشعر - وأنت تقرأ الآيات التي عَقَّبت على أحداث أُحُد في سورة آل عمران - تشعر باستقامة المسار، بل وتشعر - إن كنت متحلياً بالعمق متخلياً عن السطحية - بأنَّ المسار طبيعيٌ ليس فيه اعوجاج؛ وبأنَّ أُحُدَ لا تختلف عن سابقها أو لاحقها في كونها محطة كسائر المحطات في طريق الصعود. ولقد قيل يومها لقوم هم خير صحابة لخير نبي: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم" "قلتم أنّى هذا، قل هو من عند أنفسكم" "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم". وإنَّ الأخطاء التي وقعت من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعت كل هذه الوكزات المؤلمة، لو تم مقارنتها بما وقعنا فيه من خطايا لبدت كحبات من رمال أمام تلال وجبال؛ فلماذا لا نقف هذه الوقفة مع أنفسنا، ولماذا نهرب من المواجهة والمصارحة والشفافية ؟ إنَّ التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية يوقع في معضلات أقلها ضرراً أن يحل محل المكاشفة والمصارحة فضح وتشويه وتبادل للتهم وتقاذف بالعبارات القاتلة، وأخطرها تغييب الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يحياها الناس، وليست هذه المفاسد الجمة مقابلة بمصالح إلا تلك الأوهام التي تتعلق بما يسمى بمصلحة الجماعة أو الحزب، وما هي إلا مصالح شخصية تختبئ خلف أستار ناعمة أكثر تدليسا من جلد الثعبان. نحن أيها الناس قوم منحنا الله تعالى فرصاً لم تمنح لأحد من العالمين، وأتاحها لنا بما لم تتح لأحد من الأولين أو الآخرين؛ فأهدرناها وبددناها وضيعناها؛ فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر مثل هذا الصنيع العجيب !! فكيف لا نقف مع أنفسنا ؟! وكيف لا نراجع سيرتنا ؟! وكيف لا نقدم توبتنا ؟! لقد منحنا الله ناصية ثورة شعبية جاءت على حين غرة من القبضة الإجرامية وعلى عين غفلة منها؛ حتى رأينا بأمّ أعيننا صروح الباطل تنهار وتتحطم، فماذا كان موقفنا منها وسلوكنا معها ؟! ولقد منحنا الله شرعية متمثلة في برلمان ثم في رئاسة عامة؛ فماذا صنعنا بها ؟! لقد كانت البشرية على موعد بعد الربيع العربيّ بتغيير كبير وخطير ينقلها نقلة كبيرة في آفاق التقد الإنسانيّ، وقبل ذلك كان العالم العربيّ والإسلاميّ كله على موعد عقب الثورات بتحول حضاريّ هائل يعيد رسم خريطة الكرة الأرضية على نحو يقلب (عاليها واطيها) وكان المستضعفون من المسلمين في الأرض كلها على موعد بأوسع أبواب الخلاص؛ فما الذي جرى لتنقلب الأوضاع وينتكس المسار ؟! كل هذه التساؤلات يجب أن تكون الإجابة عليها واضحة وصحيحة وصادقة وصريحة؛ لأنَّه لا يمكن لعقل أن يمرر هذه التبريرات التي تشبه (المصاصات) التي تعطى لتسكين الأطفال إذا هاج بهم البكاء، إنَّ هناك خللاً كبيراً يصل إلى مدى بعيد، يطال المناهج التي تربى عليها الجيل، ويضع القيادات والجماعات والأحزاب في أقفاص الاتهام؛ ويجعلنا بحاجة إلى تصحيح جذريّ، وعودة سريعة إلى كتاب الله، وتوبة وأوبة، واعتصام بالجماعة والوحدة، ووضع للرؤية والمشروع والخطط بتجرد للحق غير مقيد بأي اعتبار، وكل هذا لن يكون قبل الخطوة الاولى المتمثلة في المراجعة. فهلا تعجلناها قبل أن يفقد الناس ما تبقى لديهم من ولاء للقضية ؟
الخطوة الأولى المنسية
د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لا يكون السعيُ سيراً نحو الهدف إذا غابت الخطوة الأولى، التي بدونها لا يُعْرف الطريق ولا يُهتدَى إلى الغاية؛ ومن ثمَّ فإنني على يقين من أنَّ كل ما نبذله من جهد وجميع ما ننفقه من وقت - على ضآلته وضعفه وتهافته - يتبدد في الفضاء سدى، ويذهب في الأنحاء على غير هدى؛ وما ذاك لضآلةٍ في حجمنا ولا لضعفٍ في إمكانياتنا ولا لتهافتٍ في مبادئنا وأفكارنا، وإنَّما لسبب واحد هو أننا جميعاً أُرِيدَ لنا ألا نخطو هذه الخطوة، فاستسلمنا للإرادة الملعونة تلك، وأسلمنا لها القياد.

كيف يقع المصاب على هذا النحو المزلزل ثم لا يستدعي منَّا مراجعة لأفكارنا ومناهجنا وأفعالنا ومواقفنا ؟! سواء ما كان منها في السياسة عندما كانت ناصيتها بأَكُفِّنا، وما كان منها في الثورة عندما كانت ظهراً ذلولاً تحت (أردافنا!)، أم إنَّ المراجعات خُلقت - فقط - لتكون آلية (شرعية!) لنسف الثوابت العقدية والشرعية في سياق التراجع والانهزام ؟! لماذا لم يحدث إلى الآن عملية نقد ذاتي فعال وبناء وممنهج ؟! من هذا الذي يأخذ بنواصينا إلى شعاب ضاربة في التيه؛ لئلا نقف هذه الوقفة ؟! وماذا يريد لنا ؟! ومن المستفيد من هذا الصرف المتعمد واللي المقصود ؟!

هذه هي الخطوة الأولى، خطوة المراجعة والتقويم، وهي خطوة طبيعية وشرعية؛ إن حدثت انقلبت المحنة منحة واستحالت النقمة نعمة؛ لذلك تشعر - وأنت تقرأ الآيات التي عَقَّبت على أحداث أُحُد في سورة آل عمران - تشعر باستقامة المسار، بل وتشعر - إن كنت متحلياً بالعمق متخلياً عن السطحية - بأنَّ المسار طبيعيٌ ليس فيه اعوجاج؛ وبأنَّ أُحُدَ لا تختلف عن سابقها أو لاحقها في كونها محطة كسائر المحطات في طريق الصعود.

ولقد قيل يومها لقوم هم خير صحابة لخير نبي: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم" "قلتم أنّى هذا، قل هو من عند أنفسكم" "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم".

وإنَّ الأخطاء التي وقعت من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعت كل هذه الوكزات المؤلمة، لو تم مقارنتها بما وقعنا فيه من خطايا لبدت كحبات من رمال أمام تلال وجبال؛ فلماذا لا نقف هذه الوقفة مع أنفسنا، ولماذا نهرب من المواجهة والمصارحة والشفافية ؟

إنَّ التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية يوقع في معضلات أقلها ضرراً أن يحل محل المكاشفة والمصارحة فضح وتشويه وتبادل للتهم وتقاذف بالعبارات القاتلة، وأخطرها تغييب الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يحياها الناس، وليست هذه المفاسد الجمة مقابلة بمصالح إلا تلك الأوهام التي تتعلق بما يسمى بمصلحة الجماعة أو الحزب، وما هي إلا مصالح شخصية تختبئ خلف أستار ناعمة أكثر تدليسا من جلد الثعبان.

نحن أيها الناس قوم منحنا الله تعالى فرصاً لم تمنح لأحد من العالمين، وأتاحها لنا بما لم تتح لأحد من الأولين أو الآخرين؛ فأهدرناها وبددناها وضيعناها؛ فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر مثل هذا الصنيع العجيب !! فكيف لا نقف مع أنفسنا ؟! وكيف لا نراجع سيرتنا ؟! وكيف لا نقدم توبتنا ؟! لقد منحنا الله ناصية ثورة شعبية جاءت على حين غرة من القبضة الإجرامية وعلى عين غفلة منها؛ حتى رأينا بأمّ أعيننا صروح الباطل تنهار وتتحطم، فماذا كان موقفنا منها وسلوكنا معها ؟! ولقد منحنا الله شرعية متمثلة في برلمان ثم في رئاسة عامة؛ فماذا صنعنا بها ؟!

لقد كانت البشرية على موعد بعد الربيع العربيّ بتغيير كبير وخطير ينقلها نقلة كبيرة في آفاق التقد الإنسانيّ، وقبل ذلك كان العالم العربيّ والإسلاميّ كله على موعد عقب الثورات بتحول حضاريّ هائل يعيد رسم خريطة الكرة الأرضية على نحو يقلب (عاليها واطيها) وكان المستضعفون من المسلمين في الأرض كلها على موعد بأوسع أبواب الخلاص؛ فما الذي جرى لتنقلب الأوضاع وينتكس المسار ؟!

كل هذه التساؤلات يجب أن تكون الإجابة عليها واضحة وصحيحة وصادقة وصريحة؛ لأنَّه لا يمكن لعقل أن يمرر هذه التبريرات التي تشبه (المصاصات) التي تعطى لتسكين الأطفال إذا هاج بهم البكاء، إنَّ هناك خللاً كبيراً يصل إلى مدى بعيد، يطال المناهج التي تربى عليها الجيل، ويضع القيادات والجماعات والأحزاب في أقفاص الاتهام؛ ويجعلنا بحاجة إلى تصحيح جذريّ، وعودة سريعة إلى كتاب الله، وتوبة وأوبة، واعتصام بالجماعة والوحدة، ووضع للرؤية والمشروع والخطط بتجرد للحق غير مقيد بأي اعتبار، وكل هذا لن يكون قبل الخطوة الاولى المتمثلة في المراجعة.

فهلا تعجلناها قبل أن يفقد الناس ما تبقى لديهم من ولاء للقضية ؟
‏٣٠‏/٠٤‏/٢٠١٨ ١١:٤٠ م‏
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع) مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الرابعة) أواخر الحرب العالمية الثانية في ألمانيا لما ضيق الحلفاء على ألمانيا وشرعوا في الزحف على الأراضي الألمانية 1945 نقلتنا السلطات الألمانية إلى مدينة بادكشتاين في جنوب النمسا، وبسبب قلة البنزين تحولت السيارات لتعمل بالفحم. ولما تفاقم الخطر شرعنا في التوجه نحو سويسرا، وفي الطريق علمنا بوفاة هتلر, ولما وصلنا سويسرا رفضوا استقبالنا كلاجئين سياسين، وعرضوا علينا تزويد طائرتنا بالوقود، ومن ثم نتوجه إلى إسبانيا كدولة محايدة, لكن الطيارين أخبروني أن الحلفاء قد علموا بأمرنا وربما يسقطوا الطائرة, توجهنا نحو الحدود إلى مدينة كونستانزة، ووجدنا الجيش الفرنسي محتلاًّ لتلك المنطقة فتسلمنا رجال الجيش. كانت حالة ألمانيا في أواخر سني الحرب وعند انتهائها غارات ودمار ومعارك جوية وبرية وبحرية وحرمان, ورغم ذلك كله كان النظام والصبر والطاعة تسود الشعب الألماني. في باريس بعد أن تم اعتقالنا مكثنا في المعتقل خمسة أيام أعلمت خلالها ضابط المعتقل برغبتي في مقابلة الجنرال قائد الجيش الفرنسي لمحادثته. تم نقلنا إلى ضاحية لافارين على بعد 12 كيلومتر من باريس, ووضعونا في منزل تحت الحراسة المشددة. كانت بريطانيا تطالب بتسلمينا إليها بصفتها دولة الانتداب على فلسطين, كما أن قيادة الحلفاء العليا وعلى رأسها الجنرال ايزنهاور تطالب بأن تتسلمنا, لكن الحكومة الفرنسية لم تستجب لهما, كانت ترى أن لها حسابًا معنا من جراء اشتراكنا في مساعدة الثورة السورية ضد فرنسا, ولمساهمتنا -أيضًا- مع الألمان. واعتقادي أن ما وقع في سوريا من الخلاف الشديد بين الفرنسيين والإنجليز عقب الحرب العالمية الثانية كانت -أيضًا- من أسباب عدم تسليمنا, وأيضًا كانت المظاهرات العربية والإسلامية ومطالبة الكثير من ملوك ورؤساء العرب بأن أقيم في ضيافتهم, كل ذلك جعل الفرنسيين يرفضون تسليمنا. بذل اليهود الصهيونيون أقصى جهودهم لمحاكمتي كمجرم حرب في نورمبرغ, ولما كانت مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا ينطبق عليّ فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق لهم أمنيتهم, منها أنني حرضت السلطات النازية على إبادة اليهود, قمنا بدحض جميع التهم التي حاولوا إلصاقها بنا, ونفينا أن نكون مجرمي حرب, وبذلك ردت الحكومة الفرنسية طلب محكمة نورمبرغ, وبقينا في فرنسا في منزل تحت المراقبة. الخروج من فرنسا تمكن أحد الأصدقاء من توفير جواز سفر لي وتغيير اسمي, ومن ثم غادرت فرنسا سرًّا إلى القاهرة بدون أن يكتشف أحد ذلك. وكان سبب ذهابي إلى مصر أنها مركز الثقل في العالم العربي وفيها جامعة الدول, كما أن الملك فاروق أبدى اهتمامًا وتشجيعًا لوجودي في القاهرة. الفصل الثاني العودة إلى الوطن العربي ظلت إقامتي في مصر مكتومة عن الجميع بسبب مباحثات الحكومة المصرية في قضية جلاء الجيش البريطاني عن مصر, حتى لا أسبب حرجًا للحكومة المصرية. وفي 19/6/ 1946 توجهت إلى قصر عابدين والتقيت بالملك فاروق وأعرب عن سروره بلقائي ووجودي في القاهرة, وأبدى الملك رغبته في أن أكون في ضيافته فقابلت تلك العناية شاكرًا, وصدر أمر الملك للحاشية بالانتقال فورًا إلى قصر زهراء أنشاص, وتم نقلي إلى هناك في سرية تامة. انتشر خبر وجودي في مصر وزيارتي لقصر عابدين, ونشرت الحكومة المصرية التي كان على رأسها إسماعيل باشا صدقي بيانًا عن وصولي إلى مصر وظهوري في قصر عابدين. كانت لجنة التحقيق المشتركة التي عينتها الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية قد جاء تقريرها بعيدًا عن الحق والنزاهة، وساير رغبة الرئيس الأمريكي ترومان صنيعة الصهيونيين, وأوصت بإدخال مائة ألف من مهاجري اليهود إلى فلسطين, كما أوصت بإبطال القوانين والأنظمة التي تحدد انتقال الأراضي العربية لليهود, وقد قوبلت قرارات اللجنة باستنكار عام ومظاهرات صاخبة وإضرابات شاملة. وقامت جماعات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وعلماء الأزهر وطلابه بمظاهرات عديدة دعمًا لكفاح الشعب الفلسطيني. وعلى أثر ذلك انعقد مؤتمر أنشاص 1946 بدعوة من الملك فاروق, وتقرر فيه التمسك باستقلال فلسطين وصيانة عروبتها, وتأليف هيئة عربية فلسطينية عليا تمثل الفلسطينيين وتنطق باسمهم، ثم تبع ذلك عقد جلسة استثنائية لمجلس جامعة الدول العربية في بلودان, وكانت أبرز القرارات التي أسفرت عن الاجتماعات الرد على تقرير لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية والتوصية بتأليف هيئة فلسطينية عربية, ثم اتخذت قرارًا بمفاوضة الحكومة البريطانية لحل قضية فلسطين, وفي حال فشل المفاوضات تعرض قضية فلسطين على الأمم المتحدة. الواقع أن النتائج التي أسفر عنها اجتماع بلودان لم تكن على مستوى الآمال التي عقدت عليه, لقد كانت الحماسة لفلسطين تملأ صدور القوم والرغبة شاملة في الأخذ بالوسائل الناجعة لإنقاذها من الاستعمار والصهيونية ودعم الفلسطينيين بالمال والسلاح, لكن وصول الريغادير كلايتون مدير مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط إلى بلودان مصحوبًا بالمستر برايانس مساعد مدير المخابرات في فلسطين أضعف تلك الحماسة التي كانت تتأجج في الصدور. انتقلت إلى منزل في رمل الإسكندرية واتخذت فيه مكتبًا للعمل, ولم أشعر أن ثمة قيودًا علي، أو على أحد من إخواني العاملين الذين اتصلنا بهم, وشرعنا في العمل معهم, وجعل إخواننا يفدون علينا من فلسطين والأقطار العربية الأخرى, مثل زيارة الأمير شكيب أرسلان لنا. معاودة النشاط انتهت الحرب العالمية الثانية وخرجت بريطانيا وأمريكا منتصرتين, وكان الوجود البريطاني قويًّا في البلاد العربية، فلم يكن أحد يجرؤ على معارضة السياسة البريطانية, وبدأ بعض الأصدقاء الأقربين يتخلفوا عن زيارتي، أو يقوموا بها ليلاً في السر, ولم تكن تنقصهم الشجاعة لكن سياسة حكوماتهم في ذلك الحين هي التي قضت عليهم بذلك. شرعنا في وضع خطة للعمل تبدأ بدعوة الهيئة العربية العليا لفلسطين للاجتماع، وبدعم موقف الشعب الفلسطيني, ومن ناحيتها شرعت المخابرات البريطانية في التجسس علينا، ونصب شباكها حولنا, وكان معظم جواسيسها من مراسلي الصحف الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، وهم يخدمون القضية الصهيونية ويعادون قضية فلسطين والقضايا العربية. أثناء إقامتي في مصر هذه المرة كان المرحوم مصطفى النحاس باشا خارج الحكم, وأريد أن أنوه هنا على موقف مهم له، وهو دعمه لمسلمي يوغوسلافيا إبان المجازر التي تعرضوا لها حين أرسلت له رسالة أعلمه بذلك, وكان حينها ملك يوغوسلافيا بطرس الثاني لاجئًا في مصر هو وعدد كبير من أتباعه, فذهب إليه النحاس باشا وهدده بإخراج كل الرعايا اليوغوسلافيين من مصر إذا لم يعمل الملك على وقف المذابح, وكان لموقفه ذلك أثر كبير في وقف تلك المجازر, وقدم النحاس تبرعات كبيرة وزعت على منكوبي المسلمين هناك. اليهود ونشاطهم العسكري والسياسي رفض اليهود السياسة التي انطوى عليها الكتاب الأبيض البريطاني؛ لأنها لا تحقق لهم مطامعهم, فهم يريدون هجرة يهودية واسعة, وقام زعماء اليهود الذين وطنوا أنفسهم على خدمة قضيتهم الباطلة بمساعي حثيثة ومتواصلة استطاعوا خلالها أن يستنفروا المنظمات والمؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية ويجندوا كل العناصر العاملة فيها للتأثير على الأميركيين ودعمهم وتأييدهم في الضغط على بريطانيا لإحباط مؤتمر لندن, واستطاعوا حمل بريطانيا على نقض الكتاب الأبيض. توصل اليهود لبلوغ غاياتهم وتحقيق مطامعهم بوسائل شتى، فاغتنموا نشوب الحرب العالمية الثانية لتقوية أنفسهم وتعزيز أسلحتهم ومضاعفة قواتهم العسكرية, وتحصين مدنهم ومستعمراتهم. وجندت بريطانيا خلال الحرب ألوفًا من شبان اليهود فدربتهم عسكريًّا وأشركتهم في بعض العمليات الحربية, وبلغ عددهم 33 ألفًا. وقبل أن تنتهي الحرب كان اليهود قد أتموا تنظيم قواتهم وتسليحها, وأرادوا اغتنام الفرصة لتهويد فلسطين وإقامة دولتهم فيها خشية قيام حركة عربية عامة بعد الحرب. وشرعت المنظمات الصهيونية في اقتراف جرائم واسعة النطاق ضد السلطات البريطانية والشعب الفلسطيني في آن واحد. كانت نواة التشكيلات العسكرية اليهودية في فلسطين هي جمعية المحاربين القدماء من اليهود المسرحين من جيش الجنرال اللنبي الذين سمحت لهم الإدارة العسكرية البريطانية بالبقاء في فلسطين والاحتفاظ بأسلحتهم. شرع اليهود في أعمالهم الإرهابية من مطلع عام 1944 وأسقطوا هيبة بريطانيا، وقتلوا العديد من رجالها وكبار موظفيها, وكانت جرائمهم هذه تقابل بتسامح غامض وتغاض لا نظير لهما, ولم يكن مسموحًا لقوات الجيش البريطاني بالتصدي لهؤلاء, على عكس قمع الجيش البريطاني لثورة العرب في فلسطين. كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية تجاملان العرب وتخادعانهم خلال أيام الحرب العالمية الثانية لاستبقائهما في صفوفهما وضمان ولائهم لهما. كان المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود قد بعث إلى الرئيس روزفلت خطابًا وجه نظره فيه إلى قضية فلسطين وحق العرب فيها وأن دعوى اليهود باطلة. وجدير بالذكر أنه حين اجتمع الملك عبد العزيز مع رزوفلت في مصر عرض عليه الأخير أن يسمح لاستيطان اليهود في المنطقة الواقعة شمال الحجاز والمشتملة على أراضي خيبر وبني قريظة وبني النضير وتيماء ووادي القري وأبلغه باستعداد اليهود لدفع مبالغ عظيمة من المال لقاء ذلك, وكان طبيعيًّا أن يقابل هذا العرض المستغرب والمستهجن بالرفض والاستنكار. شهدت الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني 1947 نشاطًا عظيمًا وصراعًا شديدًا في دوائر الأمم المتحدة بين العرب وأنصارهم من الدول التي عارضت التقسيم, وفي النهاية وافقت الجمعية العمومية على تقرير أكثرية أعضاء اللجنة الدولية الذين أوصوا بالتقسيم, وصدر القرار بأكثرية 33 صوتًا ضد 13 واستنكف 11 عن التصويت, وهكذا قيض لمؤامرة تقسيم فلسطين أن تتخذ شكلها القانوني والدولي في 29 تشرين الثاني 1947. الموقف من التقسيم كان لقرار التقسيم صدى عظيم، واكتسحت العالم العربي موجة عارمة من السخط والاستنكار, وأعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام ثلاثة أيام متوالية مصحوبًا بالمظاهرات الصاخبة, وقامت في الأقطار العربية مظاهرات وإضرابات مماثلة، وفتحت الحكومة السورية باب التطوع للشباب, وأصبحت المصادمات تحدث كل يوم تقريبًا في فلسطين بين العرب واليهود. وفي شهر كانون الأول عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية شهده أكثر رؤساء الدول العربية استنكرت فيه التقسيم، وأعلنت العزم على مقاومته. أخذ الفلسطينيون يتسلحون بما يستطيعون شراءه بالأموال من الأقطار المجاورة, وأخذت الهيئة العربية العليا لفلسطين تعنى بهذا الأمر عناية جدية. الوحدة العربية وجامعة الدول العربية كانت الوحدة العربية أو الجامعة العربية هي هدف القائمين بحركة النهضة العربية، لكن السياسة الاستعمارية للدول الغربية كانت تعمل متعاونة مع اليهودية العالمية على نقيض ذلك الهدف. فقد عملوا على تجزئة الأقطار العربية وتقسيمها دويلات وإمارات صغيرة ليسهل الاستيلاء عليها واستعمارها واستغلالها اقتصاديًّا وعسكريًّا. وهناك مخططات استعمارية ويهودية لتقسيم تلك الأقطار العربية (المقسمة) إلى أجزاء صغيرة على أسس طائفية وعرقية أو قبلية, فتصبح في العراق دولة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية ورابعة تركمانية, وينقسم اليمن إلى دولتين زيدية وشافعية, والسودان شمال وجنوب... وهكذا دواليك. وقد شعرت فلسطين قبل غيرها من الأقطار العربية بالحاجة إلى الوحدة وقيام جامعة تجمع العرب, ولذلك طالبوا بالوحدة مع سوريا وأطلقوا على فلسطين اسم سورية الجنوبية، وأعلنوا ذلك أمام لجنة الاستفتاء الأمريكية التي زارت فلسطين عام 1919. في 8 ربيع الآخر, 22 مارس, 1945 تم توقيع ميثاق الجامعة العربية في اجتماع عقده ممثلو الدول العربية في القاهرة، واختير السيد عبد الرحمن عزام أمينًا عامًّا للجامعة. قررت جامعة الدول العربية تأليف قوة مسلحة سميت جيش الإنقاذ قوامها متطوعون من الأقطار العربية، ومن جملتهم عدد من الفلسطينيين, وجعلت مركز الجيش دمشق, وكان عددهم نحو 5 آلاف جندي دخلوا فلسطين على دفعات. واتخذ الجيش معظم مراكزه في مناطق عربية ما بين نابلس وطولكرم وجنين, حيث لا توجد مستعمرات ولا مدن يهودية, ورغم ذلك هاجمهم اليهود وكادوا يقضون عليهم في مرج ابن عامر لولا مسارعة أهل القرى المجاورة من الفلسطينيين إلى نجدتها وفك الطوق عنها وإنقاذها. خلال الأشهر الخمسة منذ صدور قرار التقسيم إلى قبيل جلاء الإنجليز استطاع الفلسطينيون أن يلحقوا باليهود خسائر جسيمة في مواقع عديدة، وأن يسيطروا على الموقف رغم ضعف وسائلهم. حين شرع أهالي المدن الكبرى كالقدس وحيفا ويافا وعكا بالعمل على تحصين مدنهم وتسليح أنفسهم تدخل الإنجليز دون ذلك محاولين إقناع الناس بأن بريطانيا لن تسمح لليهود باحتلال المدن الكبيرة، ولا سيما المدن والقرى العربية التي خصصت للعرب بموجب قرار التقسيم. لما نشب القتال بين العرب واليهود أواخر 1947 إثر صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين كان موقف حكومة الانتداب البريطاني متحيزًا إلى اليهود، المتآمر معهم طوال عهد انتدابه. وقد حدثت معظم المذابح التي اقترفها اليهود في القرى العربية الضعيفة تحت سمع وبصر القوات البريطانية كمذابح دير ياسين وناصر الدين وحواسة وعيلوط وغيرها.
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)
مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الرابعة)

أواخر الحرب العالمية الثانية في ألمانيا

لما ضيق الحلفاء على ألمانيا وشرعوا في الزحف على الأراضي الألمانية 1945 نقلتنا السلطات الألمانية إلى مدينة بادكشتاين في جنوب النمسا، وبسبب قلة البنزين تحولت السيارات لتعمل بالفحم.

ولما تفاقم الخطر شرعنا في التوجه نحو سويسرا، وفي الطريق علمنا بوفاة هتلر, ولما وصلنا سويسرا رفضوا استقبالنا كلاجئين سياسين، وعرضوا علينا تزويد طائرتنا بالوقود، ومن ثم نتوجه إلى إسبانيا كدولة محايدة, لكن الطيارين أخبروني أن الحلفاء قد علموا بأمرنا وربما يسقطوا الطائرة, توجهنا نحو الحدود إلى مدينة كونستانزة، ووجدنا الجيش الفرنسي محتلاًّ لتلك المنطقة فتسلمنا رجال الجيش.

كانت حالة ألمانيا في أواخر سني الحرب وعند انتهائها غارات ودمار ومعارك جوية وبرية وبحرية وحرمان, ورغم ذلك كله كان النظام والصبر والطاعة تسود الشعب الألماني.

في باريس

بعد أن تم اعتقالنا مكثنا في المعتقل خمسة أيام أعلمت خلالها ضابط المعتقل برغبتي في مقابلة الجنرال قائد الجيش الفرنسي لمحادثته.

تم نقلنا إلى ضاحية لافارين على بعد 12 كيلومتر من باريس, ووضعونا في منزل تحت الحراسة المشددة.

كانت بريطانيا تطالب بتسلمينا إليها بصفتها دولة الانتداب على فلسطين, كما أن قيادة الحلفاء العليا وعلى رأسها الجنرال ايزنهاور تطالب بأن تتسلمنا, لكن الحكومة الفرنسية لم تستجب لهما, كانت ترى أن لها حسابًا معنا من جراء اشتراكنا في مساعدة الثورة السورية ضد فرنسا, ولمساهمتنا -أيضًا- مع الألمان.

واعتقادي أن ما وقع في سوريا من الخلاف الشديد بين الفرنسيين والإنجليز عقب الحرب العالمية الثانية كانت -أيضًا- من أسباب عدم تسليمنا, وأيضًا كانت المظاهرات العربية والإسلامية ومطالبة الكثير من ملوك ورؤساء العرب بأن أقيم في ضيافتهم, كل ذلك جعل الفرنسيين يرفضون تسليمنا.

بذل اليهود الصهيونيون أقصى جهودهم لمحاكمتي كمجرم حرب في نورمبرغ, ولما كانت مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا ينطبق عليّ فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق لهم أمنيتهم, منها أنني حرضت السلطات النازية على إبادة اليهود, قمنا بدحض جميع التهم التي حاولوا إلصاقها بنا, ونفينا أن نكون مجرمي حرب, وبذلك ردت الحكومة الفرنسية طلب محكمة نورمبرغ, وبقينا في فرنسا في منزل تحت المراقبة.

الخروج من فرنسا

تمكن أحد الأصدقاء من توفير جواز سفر لي وتغيير اسمي, ومن ثم غادرت فرنسا سرًّا إلى القاهرة بدون أن يكتشف أحد ذلك.

وكان سبب ذهابي إلى مصر أنها مركز الثقل في العالم العربي وفيها جامعة الدول, كما أن الملك فاروق أبدى اهتمامًا وتشجيعًا لوجودي في القاهرة.

الفصل الثاني
العودة إلى الوطن العربي

ظلت إقامتي في مصر مكتومة عن الجميع بسبب مباحثات الحكومة المصرية في قضية جلاء الجيش البريطاني عن مصر, حتى لا أسبب حرجًا للحكومة المصرية.

وفي 19/6/ 1946 توجهت إلى قصر عابدين والتقيت بالملك فاروق وأعرب عن سروره بلقائي ووجودي في القاهرة, وأبدى الملك رغبته في أن أكون في ضيافته فقابلت تلك العناية شاكرًا, وصدر أمر الملك للحاشية بالانتقال فورًا إلى قصر زهراء أنشاص, وتم نقلي إلى هناك في سرية تامة.

انتشر خبر وجودي في مصر وزيارتي لقصر عابدين, ونشرت الحكومة المصرية التي كان على رأسها إسماعيل باشا صدقي بيانًا عن وصولي إلى مصر وظهوري في قصر عابدين.

كانت لجنة التحقيق المشتركة التي عينتها الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية قد جاء تقريرها بعيدًا عن الحق والنزاهة، وساير رغبة الرئيس الأمريكي ترومان صنيعة الصهيونيين, وأوصت بإدخال مائة ألف من مهاجري اليهود إلى فلسطين, كما أوصت بإبطال القوانين والأنظمة التي تحدد انتقال الأراضي العربية لليهود, وقد قوبلت قرارات اللجنة باستنكار عام ومظاهرات صاخبة وإضرابات شاملة.

وقامت جماعات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وعلماء الأزهر وطلابه بمظاهرات عديدة دعمًا لكفاح الشعب الفلسطيني.

وعلى أثر ذلك انعقد مؤتمر أنشاص 1946 بدعوة من الملك فاروق, وتقرر فيه التمسك باستقلال فلسطين وصيانة عروبتها, وتأليف هيئة عربية فلسطينية عليا تمثل الفلسطينيين وتنطق باسمهم، ثم تبع ذلك عقد جلسة استثنائية لمجلس جامعة الدول العربية في بلودان, وكانت أبرز القرارات التي أسفرت عن الاجتماعات الرد على تقرير لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية والتوصية بتأليف هيئة فلسطينية عربية, ثم اتخذت قرارًا بمفاوضة الحكومة البريطانية لحل قضية فلسطين, وفي حال فشل المفاوضات تعرض قضية فلسطين على الأمم المتحدة.

الواقع أن النتائج التي أسفر عنها اجتماع بلودان لم تكن على مستوى الآمال التي عقدت عليه, لقد كانت الحماسة لفلسطين تملأ صدور القوم والرغبة شاملة في الأخذ بالوسائل الناجعة لإنقاذها من الاستعمار والصهيونية ودعم الفلسطينيين بالمال والسلاح, لكن وصول الريغادير كلايتون مدير مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط إلى بلودان مصحوبًا بالمستر برايانس مساعد مدير المخابرات في فلسطين أضعف تلك الحماسة التي كانت تتأجج في الصدور.

انتقلت إلى منزل في رمل الإسكندرية واتخذت فيه مكتبًا للعمل, ولم أشعر أن ثمة قيودًا علي، أو على أحد من إخواني العاملين الذين اتصلنا بهم, وشرعنا في العمل معهم, وجعل إخواننا يفدون علينا من فلسطين والأقطار العربية الأخرى, مثل زيارة الأمير شكيب أرسلان لنا.

معاودة النشاط

انتهت الحرب العالمية الثانية وخرجت بريطانيا وأمريكا منتصرتين, وكان الوجود البريطاني قويًّا في البلاد العربية، فلم يكن أحد يجرؤ على معارضة السياسة البريطانية, وبدأ بعض الأصدقاء الأقربين يتخلفوا عن زيارتي، أو يقوموا بها ليلاً في السر, ولم تكن تنقصهم الشجاعة لكن سياسة حكوماتهم في ذلك الحين هي التي قضت عليهم بذلك.

شرعنا في وضع خطة للعمل تبدأ بدعوة الهيئة العربية العليا لفلسطين للاجتماع، وبدعم موقف الشعب الفلسطيني, ومن ناحيتها شرعت المخابرات البريطانية في التجسس علينا، ونصب شباكها حولنا, وكان معظم جواسيسها من مراسلي الصحف الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، وهم يخدمون القضية الصهيونية ويعادون قضية فلسطين والقضايا العربية.

أثناء إقامتي في مصر هذه المرة كان المرحوم مصطفى النحاس باشا خارج الحكم, وأريد أن أنوه هنا على موقف مهم له، وهو دعمه لمسلمي يوغوسلافيا إبان المجازر التي تعرضوا لها حين أرسلت له رسالة أعلمه بذلك, وكان حينها ملك يوغوسلافيا بطرس الثاني لاجئًا في مصر هو وعدد كبير من أتباعه, فذهب إليه النحاس باشا وهدده بإخراج كل الرعايا اليوغوسلافيين من مصر إذا لم يعمل الملك على وقف المذابح, وكان لموقفه ذلك أثر كبير في وقف تلك المجازر, وقدم النحاس تبرعات كبيرة وزعت على منكوبي المسلمين هناك.

اليهود ونشاطهم العسكري والسياسي

رفض اليهود السياسة التي انطوى عليها الكتاب الأبيض البريطاني؛ لأنها لا تحقق لهم مطامعهم, فهم يريدون هجرة يهودية واسعة, وقام زعماء اليهود الذين وطنوا أنفسهم على خدمة قضيتهم الباطلة بمساعي حثيثة ومتواصلة استطاعوا خلالها أن يستنفروا المنظمات والمؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية ويجندوا كل العناصر العاملة فيها للتأثير على الأميركيين ودعمهم وتأييدهم في الضغط على بريطانيا لإحباط مؤتمر لندن, واستطاعوا حمل بريطانيا على نقض الكتاب الأبيض.

توصل اليهود لبلوغ غاياتهم وتحقيق مطامعهم بوسائل شتى، فاغتنموا نشوب الحرب العالمية الثانية لتقوية أنفسهم وتعزيز أسلحتهم ومضاعفة قواتهم العسكرية, وتحصين مدنهم ومستعمراتهم.

وجندت بريطانيا خلال الحرب ألوفًا من شبان اليهود فدربتهم عسكريًّا وأشركتهم في بعض العمليات الحربية, وبلغ عددهم 33 ألفًا.

وقبل أن تنتهي الحرب كان اليهود قد أتموا تنظيم قواتهم وتسليحها, وأرادوا اغتنام الفرصة لتهويد فلسطين وإقامة دولتهم فيها خشية قيام حركة عربية عامة بعد الحرب.

وشرعت المنظمات الصهيونية في اقتراف جرائم واسعة النطاق ضد السلطات البريطانية والشعب الفلسطيني في آن واحد.

كانت نواة التشكيلات العسكرية اليهودية في فلسطين هي جمعية المحاربين القدماء من اليهود المسرحين من جيش الجنرال اللنبي الذين سمحت لهم الإدارة العسكرية البريطانية بالبقاء في فلسطين والاحتفاظ بأسلحتهم.

شرع اليهود في أعمالهم الإرهابية من مطلع عام 1944 وأسقطوا هيبة بريطانيا، وقتلوا العديد من رجالها وكبار موظفيها, وكانت جرائمهم هذه تقابل بتسامح غامض وتغاض لا نظير لهما, ولم يكن مسموحًا لقوات الجيش البريطاني بالتصدي لهؤلاء, على عكس قمع الجيش البريطاني لثورة العرب في فلسطين.

كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية تجاملان العرب وتخادعانهم خلال أيام الحرب العالمية الثانية لاستبقائهما في صفوفهما وضمان ولائهم لهما.

كان المرحوم الملك عبد العزيز آل سعود قد بعث إلى الرئيس روزفلت خطابًا وجه نظره فيه إلى قضية فلسطين وحق العرب فيها وأن دعوى اليهود باطلة.

وجدير بالذكر أنه حين اجتمع الملك عبد العزيز مع رزوفلت في مصر عرض عليه الأخير أن يسمح لاستيطان اليهود في المنطقة الواقعة شمال الحجاز والمشتملة على أراضي خيبر وبني قريظة وبني النضير وتيماء ووادي القري وأبلغه باستعداد اليهود لدفع مبالغ عظيمة من المال لقاء ذلك, وكان طبيعيًّا أن يقابل هذا العرض المستغرب والمستهجن بالرفض والاستنكار.

شهدت الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني 1947 نشاطًا عظيمًا وصراعًا شديدًا في دوائر الأمم المتحدة بين العرب وأنصارهم من الدول التي عارضت التقسيم, وفي النهاية وافقت الجمعية العمومية على تقرير أكثرية أعضاء اللجنة الدولية الذين أوصوا بالتقسيم, وصدر القرار بأكثرية 33 صوتًا ضد 13 واستنكف 11 عن التصويت, وهكذا قيض لمؤامرة تقسيم فلسطين أن تتخذ شكلها القانوني والدولي في 29 تشرين الثاني 1947.

الموقف من التقسيم

كان لقرار التقسيم صدى عظيم، واكتسحت العالم العربي موجة عارمة من السخط والاستنكار, وأعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام ثلاثة أيام متوالية مصحوبًا بالمظاهرات الصاخبة, وقامت في الأقطار العربية مظاهرات وإضرابات مماثلة، وفتحت الحكومة السورية باب التطوع للشباب, وأصبحت المصادمات تحدث كل يوم تقريبًا في فلسطين بين العرب واليهود.

وفي شهر كانون الأول عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية شهده أكثر رؤساء الدول العربية استنكرت فيه التقسيم، وأعلنت العزم على مقاومته.

أخذ الفلسطينيون يتسلحون بما يستطيعون شراءه بالأموال من الأقطار المجاورة, وأخذت الهيئة العربية العليا لفلسطين تعنى بهذا الأمر عناية جدية.

الوحدة العربية وجامعة الدول العربية

كانت الوحدة العربية أو الجامعة العربية هي هدف القائمين بحركة النهضة العربية، لكن السياسة الاستعمارية للدول الغربية كانت تعمل متعاونة مع اليهودية العالمية على نقيض ذلك الهدف.

فقد عملوا على تجزئة الأقطار العربية وتقسيمها دويلات وإمارات صغيرة ليسهل الاستيلاء عليها واستعمارها واستغلالها اقتصاديًّا وعسكريًّا.

وهناك مخططات استعمارية ويهودية لتقسيم تلك الأقطار العربية (المقسمة) إلى أجزاء صغيرة على أسس طائفية وعرقية أو قبلية, فتصبح في العراق دولة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية ورابعة تركمانية, وينقسم اليمن إلى دولتين زيدية وشافعية, والسودان شمال وجنوب... وهكذا دواليك.

وقد شعرت فلسطين قبل غيرها من الأقطار العربية بالحاجة إلى الوحدة وقيام جامعة تجمع العرب, ولذلك طالبوا بالوحدة مع سوريا وأطلقوا على فلسطين اسم سورية الجنوبية، وأعلنوا ذلك أمام لجنة الاستفتاء الأمريكية التي زارت فلسطين عام 1919.
في 8 ربيع الآخر, 22 مارس, 1945 تم توقيع ميثاق الجامعة العربية في اجتماع عقده ممثلو الدول العربية في القاهرة، واختير السيد عبد الرحمن عزام أمينًا عامًّا للجامعة.

قررت جامعة الدول العربية تأليف قوة مسلحة سميت جيش الإنقاذ قوامها متطوعون من الأقطار العربية، ومن جملتهم عدد من الفلسطينيين, وجعلت مركز الجيش دمشق, وكان عددهم نحو 5 آلاف جندي دخلوا فلسطين على دفعات.

واتخذ الجيش معظم مراكزه في مناطق عربية ما بين نابلس وطولكرم وجنين, حيث لا توجد مستعمرات ولا مدن يهودية, ورغم ذلك هاجمهم اليهود وكادوا يقضون عليهم في مرج ابن عامر لولا مسارعة أهل القرى المجاورة من الفلسطينيين إلى نجدتها وفك الطوق عنها وإنقاذها.

خلال الأشهر الخمسة منذ صدور قرار التقسيم إلى قبيل جلاء الإنجليز استطاع الفلسطينيون أن يلحقوا باليهود خسائر جسيمة في مواقع عديدة، وأن يسيطروا على الموقف رغم ضعف وسائلهم.

حين شرع أهالي المدن الكبرى كالقدس وحيفا ويافا وعكا بالعمل على تحصين مدنهم وتسليح أنفسهم تدخل الإنجليز دون ذلك محاولين إقناع الناس بأن بريطانيا لن تسمح لليهود باحتلال المدن الكبيرة، ولا سيما المدن والقرى العربية التي خصصت للعرب بموجب قرار التقسيم.

لما نشب القتال بين العرب واليهود أواخر 1947 إثر صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين كان موقف حكومة الانتداب البريطاني متحيزًا إلى اليهود، المتآمر معهم طوال عهد انتدابه.

وقد حدثت معظم المذابح التي اقترفها اليهود في القرى العربية الضعيفة تحت سمع وبصر القوات البريطانية كمذابح دير ياسين وناصر الدين وحواسة وعيلوط وغيرها.
‏٢٨‏/٠٤‏/٢٠١٨ ١٠:٥٢ م‏
تفكيك أدوات السلطة 3 الثروة د. @[618980873:2048:عمرو عادل] تحدثنا في المقالين السابقين عن حق المراقبة وحق العقاب كأدوات رئيسية في بنية السلطة لفرض سيطرتها واستعبادها للمجتمع؛ ونتحدث في هذا المقال عن الثروة كأحد أهم الأدوات التي تحاول السلطة السيطرة عليها لإخضاع المجتمع وتركيع أي قوة ناشئة تحاول الخلاص من الاستعباد التي تمارسه الدولة الاستبدادية. لسنا بصدد الغرق في التعريفات المتعددة للثروة، إلا أنها ببساطة كل ما يملكه المجتمع من موارد وأصول وثروات طبيعية وبشرية، وتقوم الدولة بإدارة كل الثروات المتاحة لتحقيق أقصى عائد ممكن لصالح المالك الأصلي وهم أفراد المجتمع، وتستخدم كل إمكاناتها لتحقيق ذلك. ومن الضروري أن نتفق على أمور رئيسية قبل الخوض في مسألة تفكيك سلطة الدولة المستبدة على الثروة، وأرى أن من لا يتفق مع هذه الأمور فلا داعي لإضاعة وقته في باقي المقال. 1- أن الثروة الموجودة في أي قطاع جغرافي ما هي ملك لجميع من في هذا القطاع. 2- أن القيمة المضافة التي تكتسبها أي سلعة هي نتيجة رأس المال والعمل معا. 3- أن جميع الأفراد لهم حق في المال العام وأن هناك حداً أدني يجب أن يحصل عليه الجميع، وجميع العاملين. لهم حق في المشاركة في القيمة المضافة. 4- أن الفقر مشكلة أخلاقية وليست اقتصادية. الثروة أحد أهم عناصر القوة التي تملكها الدولة، ولهذا تحاول السيطرة على مصادر إنتاجها وتدفقها في المجتمع، وتستخدم القوانين واللوائح والقوة المادية لفرض سيطرتها على كافة مجالات إنتاج الثروة، وتتدخل في كل تفصيل وتسيطر على تدفقات النقد بالبنوك لمعرفة كل شيء قدر ما تستطيع. قد يرى البعض أن ذلك جيد؛ إذ يمكن حماية الطرف الأضعف "المجتمع" باستخدام الدولة القوية، ربما يكون ذلك صحيحا؛ هذا إذا كان قدر طغيان الدولة حتميا وضعف المجتمع قدريا، وعلى من يفكر هكذا إدراك خطورة التنازل عن القوة لأي طرف وأن القوة المطلقة والسلطة المطلقة ليس لها طريق إلا سحق الطرف الأضعف؛ هذه معادلة وربما تكون الأكثر وضوحا عبر التاريخ، فقد أدت هذه الفرضية إلى تغول الدولة وانهيار المجتمعات وتحولها إلى وسائل إنتاج للثروة ومجال لإنفاذ إرادة السلطة. على أي حال نتكلم الآن عن واقع يحاصرنا وليس على آمال لا تزال تبدو بعيدة، والمشكلة الحالية أن مصر وغيرها واقعة تحت نظام دولة مركزية مستبدة وقد جمعت بذلك كل مقدمات الظلم والفساد، وبالتالي أصبحت تستعمل كل أدواتها لكي يكون اتجاه الثروة الحقيقية إلى أعلى، وتبقي غالب طبقات المجتمع تتصارع على ما يسد رمقها. دعونا نوضح أكثر في نقاط محددة : 1- استخدام القانون والسلطة التشريعية في عمليات احتكار واسعة تتحكم في الأسعار وتستنفد ما تبقى من ثروات المجتمع. 2- السيطرة على منافذ البلاد لتحصيل جبايات، وتمرير الفساد التجاري بعمليات رشاوي لا تخفي على أحد. 3- زيادة معدلات الضرائب من المنبع؛ لامتصاص دماء الفقراء والطبقة الوسطى لحساب أصحاب الثروة. 4- التفريط في الموارد والثروات لحساب قوى إقليمية ودولية؛ للحفاظ على سيطرة الطبقة الحاكمة على السلطة، واستمرار تدفق ثروات مصر للخارج. 5- سيطرة طبقة من رجال الأعمال والمؤسسات على مفاصل الثروة. 6- زيادة نسبة الفقر في المجتمع، وارتفاع نسبة من تحت خط الفقر وتراجع الطبقة الوسطى. ولا يخفى على أحد حالة الانفصال الطبقي الكبير في مصر، والذي اختبأت فيه الطبقة الحاكمة خلف أسوار عالية وحراسات مسلحة؛ حفاظا عليهم من الغوغاء والبائسين. وإذا اتفقنا أن الفقر قضية أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية؛ فلنعترف أن زيادة حجم الفقر ناتج عن تدفق ما خاطئ للثروة وموجه بفعل أدوات السلطة الأخرى؛ لذلك فإن الفقر في المجتمع الاستبدادي ذي الدولة المركزية ناتج عن سرقة وليس فقط فساد إجرائي قابل للإصلاح. ولنقف عند نقطتين مركزيتين حتى الآن: 1- لكل فرد الحق في حد أدني للحياة لا يعتمد على قدراته ولكن يعتمد على كونه شريكا في حق الانتفاع بالمال العام، وإذا لم يحدث ذلك فهناك شخص ما في مكان ما يسرقه تحت رعاية السلطة. 2- كل وسائل صعود رأس المال إلى أعلى برعاية السلطة وباستخدام القوانين أو القوة المادية هي سرقة بالإكراه، وهي ليست سرقة بنصوص القانون ولكن سرقة عندما نفكر تحت مظلة العدالة. إذاً ينبغي على الشعوب التي تعاني من السرقة بقوة السلاح وبقوة القانون أن تستعيد حقها المسلوب بكل الطرق المتاحة، ودعونا نذكر أن الجوع والعوز ليس قضية فرد أو أزمة فرد، ولكنها جريمة مجتمع وسلطة، لا يمكن أن تمر دون حساب، ومن العدل أن يكون حسابا لحظيا سريعا حاسما. هناك الكثير من الإجراءات الواجبة التي ينبغي على الشعوب المنتهكة تحت استبداد ووطأة استبداد السلطة أن تقوم بها، ويمكن تحديد بعض المسارات والإجراءات كما سيذكر لاحقا؛ إلا أنه من الضروري توضيح نقطتين مهمتين. 1- الحقوق لا تقر بالقوانين ولكن تقر بمعايير العدالة؛ والحق هو ما يجب أن تسعى إلى الحصول عليه بطرق عادلة، وهي ليست بالضرورة "قانونية"، خاصة إذا تحول القانون لأداة في يد السارق! 2- مفاهيم الشرف والنبل والعدالة تستطيع الأنظمة - بالسيطرة على الوعي وبصناعة الصور الذهنية المضللة - تغيير معانيها الحقيقية؛ فليس الجوع الإجباري نبلا، ولا ينال استعادة الحقوق جزءا من الشرف، وليست طاعة القانون دائما من العدالة. بعد هاتين النقطتين يمكن توضيح بعض المسارات والإجراءات، التي يمكنها المساهمة في تفكيك سيطرة النظام على الثروة. أولا: تشجيع الاقتصاد الموازي غير المعلوم للنظام الحاكم بكل الطرق، وهو يحمي المجتمع من الخضوع الكامل للدولة؛ إذ يستطيع بذلك الهروب من مسارات السرقة المقننة من ضرائب ورسوم وغيرها. نقطة إيضاحية: الضرائب حق للمجتمع، وهي ليست منحة من صاحب رأس المال؛ فهو يستخدم الكثير من إمكانات المجتمع لتحقيق ربح ليس له وحده، فالكوادر البشرية التي تعلمت بثروات المجتمع، وكل ما يحصل عليه من مواد خام وموارد هي ملك للمجتمع، ولذلك عند عدم قيام رأس السلطة برد الضرائب للشعب فهي سرقة واضحة، وإذا كانت السلطة لا تقوم بذلك الأمر، فعلى صاحب الحق الأصيل – الشعب – البحث عن الوسائل التي يستعيد بها حقه أو الاحتفاظ به من البداية. ثانيا: العمال أصحاب الحق المهضوم في توزيع فائض القيمة، لهم الحق في أخذ ما يستطيعون بما يحقق التوزيع العادل للأرباح، وإذا كان القانون يطغى لصاحب رأس المال؛ فليتحمل أصحابه نتائج الظلم البين وليس أصحاب الحق الأصيل من العمال. ثالثا: لا يجب على أي من أفراد الشعب البقاء جائعا، لا هو ولا عائلته، ومن الواجب عليه الحصول على مصادر طعامه بما يراه مناسبا، وعلى السلطة حل المشكلة ابتداءا؛ ولا تصدر الأزمة للطرف الأضعف، ولنا في رغيف (جان فالجان) عظة. رابعا: لا شيء من حق النظام ولا "رجال الدولة"؛ فإذا تغولت الدولة واستبدت؛ فلا مانع لها من الشعب ولا يجب أن تسعفها الأسوار العالية ولا الحصون المنيعة من حق الشعب أن يستعيد حقه المسلوب. خامسا: تقليل التعامل مع البنوك لمن يستطيع إلى أقل قدر، إذ إنها أكبر وسائل النظام لمراقبة الثروة، كما أنها واحدة من أكبر الوسائل لسرقة الشعوب. سادسا: أي تبرعات أو زكاة مال أو مشروعات خدمية أو تدفق مالي بأي شكل لا تُدفع عبر مؤسسات النظام، أو أي مؤسسات قد يبدو أنها مرتبطة به، والأفضل التعامل المباشر بين مقدم الخدمة والآخر. سابعا: لا تدفع أي أموال للنظام في أي مجال قدر استطاعتك وبكل الطرق المتاحة، فهي أموال تذهب لمجموعة من اللصوص. هناك الكثير من الإجراءات والمسارات التي تفكك سيطرة النظام على الثروة، ولا ننسى أن كل ما على أرض البلاد وفي بطنها وهوائها ملكا للشعب؛ وهو صاحب الحق الأصيل ويمارَس عليه أكبر عملية سرقة في تاريخه في هذه الأوقات، لذلك فكل فعل - كل فعل – يستطيع به هذا الشعب استعادة حقه فهو فعل صائب ما دام في إطار مساحة العدالة وليس بالضرورة "القانون". المهم أن يكون أي مسار أو إجراء لابد أن يهدف إلى نقل الثروة من الطبقة الحاكمة للمجتمع، أو تقليل تدفق الثروة إلى الطبقة الحاكمة والاحتفاظ بها داخل مساحة المجتمع، والثروة بمعناها الواسع وليس النقدي فقط. وهذا الفعل هو فعل ثوري ويسرع من انهيار النظام الحاكم ويقوي المجتمع، ولن تحدث ثورة شاملة تطيح بكامل النظام إلا من مجتمع قوي يمتلك كل أدوات القوة، وواحدة منها بالتأكيد هي الثروة.
تفكيك أدوات السلطة 3
الثروة

د. عمرو عادل

تحدثنا في المقالين السابقين عن حق المراقبة وحق العقاب كأدوات رئيسية في بنية السلطة لفرض سيطرتها واستعبادها للمجتمع؛ ونتحدث في هذا المقال عن الثروة كأحد أهم الأدوات التي تحاول السلطة السيطرة عليها لإخضاع المجتمع وتركيع أي قوة ناشئة تحاول الخلاص من الاستعباد التي تمارسه الدولة الاستبدادية.

لسنا بصدد الغرق في التعريفات المتعددة للثروة، إلا أنها ببساطة كل ما يملكه المجتمع من موارد وأصول وثروات طبيعية وبشرية، وتقوم الدولة بإدارة كل الثروات المتاحة لتحقيق أقصى عائد ممكن لصالح المالك الأصلي وهم أفراد المجتمع، وتستخدم كل إمكاناتها لتحقيق ذلك.

ومن الضروري أن نتفق على أمور رئيسية قبل الخوض في مسألة تفكيك سلطة الدولة المستبدة على الثروة، وأرى أن من لا يتفق مع هذه الأمور فلا داعي لإضاعة وقته في باقي المقال.

1- أن الثروة الموجودة في أي قطاع جغرافي ما هي ملك لجميع من في هذا القطاع.

2- أن القيمة المضافة التي تكتسبها أي سلعة هي نتيجة رأس المال والعمل معا.

3- أن جميع الأفراد لهم حق في المال العام وأن هناك حداً أدني يجب أن يحصل عليه الجميع، وجميع العاملين. لهم حق في المشاركة في القيمة المضافة.

4- أن الفقر مشكلة أخلاقية وليست اقتصادية.

الثروة أحد أهم عناصر القوة التي تملكها الدولة، ولهذا تحاول السيطرة على مصادر إنتاجها وتدفقها في المجتمع، وتستخدم القوانين واللوائح والقوة المادية لفرض سيطرتها على كافة مجالات إنتاج الثروة، وتتدخل في كل تفصيل وتسيطر على تدفقات النقد بالبنوك لمعرفة كل شيء قدر ما تستطيع.

قد يرى البعض أن ذلك جيد؛ إذ يمكن حماية الطرف الأضعف "المجتمع" باستخدام الدولة القوية، ربما يكون ذلك صحيحا؛ هذا إذا كان قدر طغيان الدولة حتميا وضعف المجتمع قدريا، وعلى من يفكر هكذا إدراك خطورة التنازل عن القوة لأي طرف وأن القوة المطلقة والسلطة المطلقة ليس لها طريق إلا سحق الطرف الأضعف؛ هذه معادلة وربما تكون الأكثر وضوحا عبر التاريخ، فقد أدت هذه الفرضية إلى تغول الدولة وانهيار المجتمعات وتحولها إلى وسائل إنتاج للثروة ومجال لإنفاذ إرادة السلطة.
على أي حال نتكلم الآن عن واقع يحاصرنا وليس على آمال لا تزال تبدو بعيدة، والمشكلة الحالية أن مصر وغيرها واقعة تحت نظام دولة مركزية مستبدة وقد جمعت بذلك كل مقدمات الظلم والفساد، وبالتالي أصبحت تستعمل كل أدواتها لكي يكون اتجاه الثروة الحقيقية إلى أعلى، وتبقي غالب طبقات المجتمع تتصارع على ما يسد رمقها.

دعونا نوضح أكثر في نقاط محددة :

1- استخدام القانون والسلطة التشريعية في عمليات احتكار واسعة تتحكم في الأسعار وتستنفد ما تبقى من ثروات المجتمع.

2- السيطرة على منافذ البلاد لتحصيل جبايات، وتمرير الفساد التجاري بعمليات رشاوي لا تخفي على أحد.

3- زيادة معدلات الضرائب من المنبع؛ لامتصاص دماء الفقراء والطبقة الوسطى لحساب أصحاب الثروة.

4- التفريط في الموارد والثروات لحساب قوى إقليمية ودولية؛ للحفاظ على سيطرة الطبقة الحاكمة على السلطة، واستمرار تدفق ثروات مصر للخارج.

5- سيطرة طبقة من رجال الأعمال والمؤسسات على مفاصل الثروة.

6- زيادة نسبة الفقر في المجتمع، وارتفاع نسبة من تحت خط الفقر وتراجع الطبقة الوسطى.

ولا يخفى على أحد حالة الانفصال الطبقي الكبير في مصر، والذي اختبأت فيه الطبقة الحاكمة خلف أسوار عالية وحراسات مسلحة؛ حفاظا عليهم من الغوغاء والبائسين.
وإذا اتفقنا أن الفقر قضية أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية؛ فلنعترف أن زيادة حجم الفقر ناتج عن تدفق ما خاطئ للثروة وموجه بفعل أدوات السلطة الأخرى؛ لذلك فإن الفقر في المجتمع الاستبدادي ذي الدولة المركزية ناتج عن سرقة وليس فقط فساد إجرائي قابل للإصلاح.

ولنقف عند نقطتين مركزيتين حتى الآن:

1- لكل فرد الحق في حد أدني للحياة لا يعتمد على قدراته ولكن يعتمد على كونه شريكا في حق الانتفاع بالمال العام، وإذا لم يحدث ذلك فهناك شخص ما في مكان ما يسرقه تحت رعاية السلطة.

2- كل وسائل صعود رأس المال إلى أعلى برعاية السلطة وباستخدام القوانين أو القوة المادية هي سرقة بالإكراه، وهي ليست سرقة بنصوص القانون ولكن سرقة عندما نفكر تحت مظلة العدالة.

إذاً ينبغي على الشعوب التي تعاني من السرقة بقوة السلاح وبقوة القانون أن تستعيد حقها المسلوب بكل الطرق المتاحة، ودعونا نذكر أن الجوع والعوز ليس قضية فرد أو أزمة فرد، ولكنها جريمة مجتمع وسلطة، لا يمكن أن تمر دون حساب، ومن العدل أن يكون حسابا لحظيا سريعا حاسما.

هناك الكثير من الإجراءات الواجبة التي ينبغي على الشعوب المنتهكة تحت استبداد ووطأة استبداد السلطة أن تقوم بها، ويمكن تحديد بعض المسارات والإجراءات كما سيذكر لاحقا؛ إلا أنه من الضروري توضيح نقطتين مهمتين.

1- الحقوق لا تقر بالقوانين ولكن تقر بمعايير العدالة؛ والحق هو ما يجب أن تسعى إلى الحصول عليه بطرق عادلة، وهي ليست بالضرورة "قانونية"، خاصة إذا تحول القانون لأداة في يد السارق!

2- مفاهيم الشرف والنبل والعدالة تستطيع الأنظمة - بالسيطرة على الوعي وبصناعة الصور الذهنية المضللة - تغيير معانيها الحقيقية؛ فليس الجوع الإجباري نبلا، ولا ينال استعادة الحقوق جزءا من الشرف، وليست طاعة القانون دائما من العدالة.

بعد هاتين النقطتين يمكن توضيح بعض المسارات والإجراءات، التي يمكنها المساهمة في تفكيك سيطرة النظام على الثروة.

أولا: تشجيع الاقتصاد الموازي غير المعلوم للنظام الحاكم بكل الطرق، وهو يحمي المجتمع من الخضوع الكامل للدولة؛ إذ يستطيع بذلك الهروب من مسارات السرقة المقننة من ضرائب ورسوم وغيرها.

نقطة إيضاحية: الضرائب حق للمجتمع، وهي ليست منحة من صاحب رأس المال؛ فهو يستخدم الكثير من إمكانات المجتمع لتحقيق ربح ليس له وحده، فالكوادر البشرية التي تعلمت بثروات المجتمع، وكل ما يحصل عليه من مواد خام وموارد هي ملك للمجتمع، ولذلك عند عدم قيام رأس السلطة برد الضرائب للشعب فهي سرقة واضحة، وإذا كانت السلطة لا تقوم بذلك الأمر، فعلى صاحب الحق الأصيل – الشعب – البحث عن الوسائل التي يستعيد بها حقه أو الاحتفاظ به من البداية.

ثانيا: العمال أصحاب الحق المهضوم في توزيع فائض القيمة، لهم الحق في أخذ ما يستطيعون بما يحقق التوزيع العادل للأرباح، وإذا كان القانون يطغى لصاحب رأس المال؛ فليتحمل أصحابه نتائج الظلم البين وليس أصحاب الحق الأصيل من العمال.

ثالثا: لا يجب على أي من أفراد الشعب البقاء جائعا، لا هو ولا عائلته، ومن الواجب عليه الحصول على مصادر طعامه بما يراه مناسبا، وعلى السلطة حل المشكلة ابتداءا؛ ولا تصدر الأزمة للطرف الأضعف، ولنا في رغيف (جان فالجان) عظة.

رابعا: لا شيء من حق النظام ولا "رجال الدولة"؛ فإذا تغولت الدولة واستبدت؛ فلا مانع لها من الشعب ولا يجب أن تسعفها الأسوار العالية ولا الحصون المنيعة من حق الشعب أن يستعيد حقه المسلوب.

خامسا: تقليل التعامل مع البنوك لمن يستطيع إلى أقل قدر، إذ إنها أكبر وسائل النظام لمراقبة الثروة، كما أنها واحدة من أكبر الوسائل لسرقة الشعوب.

سادسا: أي تبرعات أو زكاة مال أو مشروعات خدمية أو تدفق مالي بأي شكل لا تُدفع عبر مؤسسات النظام، أو أي مؤسسات قد يبدو أنها مرتبطة به، والأفضل التعامل المباشر بين مقدم الخدمة والآخر.

سابعا: لا تدفع أي أموال للنظام في أي مجال قدر استطاعتك وبكل الطرق المتاحة، فهي أموال تذهب لمجموعة من اللصوص.

هناك الكثير من الإجراءات والمسارات التي تفكك سيطرة النظام على الثروة، ولا ننسى أن كل ما على أرض البلاد وفي بطنها وهوائها ملكا للشعب؛ وهو صاحب الحق الأصيل ويمارَس عليه أكبر عملية سرقة في تاريخه في هذه الأوقات، لذلك فكل فعل - كل فعل – يستطيع به هذا الشعب استعادة حقه فهو فعل صائب ما دام في إطار مساحة العدالة وليس بالضرورة "القانون".

المهم أن يكون أي مسار أو إجراء لابد أن يهدف إلى نقل الثروة من الطبقة الحاكمة للمجتمع، أو تقليل تدفق الثروة إلى الطبقة الحاكمة والاحتفاظ بها داخل مساحة المجتمع، والثروة بمعناها الواسع وليس النقدي فقط.

وهذا الفعل هو فعل ثوري ويسرع من انهيار النظام الحاكم ويقوي المجتمع، ولن تحدث ثورة شاملة تطيح بكامل النظام إلا من مجتمع قوي يمتلك كل أدوات القوة، وواحدة منها بالتأكيد هي الثروة.
‏٢٤‏/٠٤‏/٢٠١٨ ٨:٤٨ م‏
الافتتاحية ثغور فارغة، وجيوش من العاطلين @[520036614:2048:محمد إلهامي] ليس ثمة سؤال يواجهه كاتب أو متحدث اليوم أكثر من سؤال: ما العمل؟! سؤال ينسال في التعليقات على كل منشور، يقال بعد كل خطبة، يثار بعد كل محاضرة، يلقي في كل ندوة ومجلس.. جمهرة الناس في حال من التيه والفراغ والحيرة، والكل يسأل: ما العمل؟! على الجانب الآخر تنظر في كل ثغرة تحتاجها الأمة فتجد فراغا رهيبا، بداية من ثغور الجهاد التي تشكو قلة المال وقلة الرجال، وحتى ثغور العلم الشرعي التي تشكو ندرة الفقهاء المتمرسين.. مرورا بسائر ثغور العلوم الطبيعية والجمعيات الخيرية والمؤسسات الاقتصادية والمبادرات الأخلاقية. في أي موقع رأيت بعض العاملين المخلصين فسألتهم عن أحوالهم وإمكانياتهم بالنسبة إلى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم كانت الإجابة كاشفة عن الفارق الواسع بين المتاح والمطلوب فضلا عن المأمول. وهكذا نحن في مشهد غريب: جيوش من الناس يسألون: ما العمل؟ وثغور فارغة تشكو وتتشوق للعاملين!! هو أثر طبيعي لغياب الخلافة والخليفة، فالقيادة تستطيع تجنيد الموارد وتوجيه الطاقات وجمع المتفرق، بل مجرد وجودها يجعل من أراد العمل يقصدها بتقديم ما يستطيع، أما غياب القيادة فشرٌّ وبيل، إذ هو تفرق وتشرذم وعداوات تندلع لأتفه سبب ثم هو –وهذا هو الأهم في سياقنا الآن- تيه وفراغ حتى لمن أراد أن يعمل، إذ لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ وإلى أين يتوجه مع كثرة الثغور وكثرة التحديات والحاجات والضرورات. لهذا حرص الإسلام على أن ينتظم شأن المسلمين في أقل أمورهم "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأَمِّروا واحدا"، وكان هذا بداية خروجهم من الجاهلية والفوضى إلى معنى الأمة والنظام والدولة والحضارة. لكن غياب القيادة العامة للأمة، وانهيار كثير من المشاريع والجماعات التي حاولت أن تكون طلائع بعث الأمة ليس هو نهاية المطاف، ولا هو داعية يأس مع قسوته ومرارته، بل نحن في وضع يجب علينا أن نكافح عن الإسلام في الخطوط الأخيرة، فالهجمة الآن هي على الثوابت الكبرى، من كان يصدق أن يتجادل مسلمان في مسألة: هل يدخل الملحد النار؟! كما وقع عند موت ستيفن هوكينج! نعود إلى السؤال: ما العمل؟! لقد وزع الله المواهب كما وزع الأرزاق، وإجابة السؤال يعرفها كل إنسان في نفسه من نفسه. وحيث أن الثغور كلها تشكو الندرة في العاملين فلا يكاد يوجد مسلم إلا ويستطيع أن يفعل شيئا يصب في النهاية لمصلحة الأمة، لكن المهم الآن هو التركيز على "واجب الوقت" إذ الواجبات كثيرة كثيرة حتى حين كانت الأمة في ذروة قوتها.. وواجب الوقت الآن هو معركة تحرير الأمة من الاستبداد والاحتلال، وكلاهما في عصرنا هذا شيء واحد: الاستبداد هو مقدمة الاحتلال، والاحتلال هو العمق الاستراتيجي والسند الأكبر للاستبداد. وأي مجهود يُصرف في غير معركة التحرير هذه فهو أقرب إلى الهباء، بل لعله يكون إثما. أمور كثيرة تحتاجها معركة التحرير هذه، سأضع منها هنا أمورا في غاية الأهمية رغم أنه يمكن الحصول عليها بسهولة وبلا مخاطر أيضا. 1. المعلومات ما يعرفه أعداء الحركات الإسلامية عنها أكثر مما يعرفه أفرادها عنها، ولو تصورنا مصارعة بين مصارع قوي لكنه مغمى العينين وآخر ضعيف ولكنه مبصر لكانت الغلبة للضعيف المبصر، فكيف لو كان الحال أن القوي هو المبصر والضعيف هو المغمى العينين؟! ذلك مثل الحركات الإسلامية وحركات المقاومة والحركات الثورية مع أعدائها.. هناك فارق ضخم في المعلومات. وهذا سبب كثير من تجارب الفشل، تخوض الحركة الإسلامية أو الثورية معركة وهي لا تعرف عدوها من صديقها، لا تعرف حتى بعض الاختراقات التي تجري في صفوفها، لا تعرف مفاصل النظام الذي تواجهه، لا تعرف –مثلا- من هم أهم خمسين شخصية فيه؟ أين يقع أهم خمسين مكان يشهد الاجتماعات المؤثرة أو على الأقل ما أهم خمسين موقعا ينبغي السيطرة عليه أو حراسته أو مراقبة من يتردد عليه؟ ما هي خريطة القوى الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في صناعة القرار؟ ما خريطة الأجنحة داخل أروقة السلطة وما الخلافات التي بينهم وكيف يديرون معركتهم ... إلخ! مثلا: ما هي أهم المناطق التي إن اشتعلت أدى هذا إلى ثورة في عموم القطر؟ كيف يمكن إشعال ثورة فيها؟ ما هي احتياطات النظام لمواجهة حركة ثورية مقاومة في لحظات الطوارئ، كيف يمكن فهمها واكتشافها؟ من الذي يمكن أن ينحاز إلى الثورة في لحظة ما بالترغيب أو الترهيب، وكيف يمكن أن يُساوَم أو يُجَنَّد أو يُسقط؟ أمور كثيرة للغاية، وقد تكون كلها معروفة أو مكشوفة لكن كل معلومة منها عن واحد فحسب ولا يحتاج الأمر إلا إلى الجمع والتصنيف. تثور أحيانا فكرة صناعة منصة ثورية على الانترنت ليضع كل من يعرف معلومة يحتمل أنها مهمة معلومته عليها، ثم يتولى فريق التصنيف والتحليل والفلترة لإزالة المعلومات المشوشة والمغلوطة والمبالغ فيها ونحوه. 2. ابتكارات علمية مع التقدير الكامل لأن حالة البحث العلمي منهارة في بلادنا، وأن أمر إيجاد ابتكار علمي متعثر ومتعسر أيضا، إلا أن أصل أي ابتكار علمي هو كونه "فكرة"، والفكرة يفتح الله بها على من يشاء من عباده، ولعل رجلا في زاوية ما من الأرض يجد ويسعى حتى يرى الله منه الصدق فيفتح عليه بشيء بسيط لكنه يغير الموازين. إن بين أمتنا وأعدائها فجوة علمية هائلة، وتظهر هذه الفجوة بقوة في مسألة كالطيران والسلاح الكيميائي التي نرى آثارها في سوريا وفي كل منطقة تكاد تخرج فيها الأمة عن هيمنة النظام العالمي، حينئذ لا يملك المقاتلون على الأرض مهما كانت بسالتهم أن يفعلوا شيئا.. تلك النقطة تحتاج سعيا وبذلا هائلا على مستوى التفكير لدى المتخصصين في الطيران والهندسة والاتصالات والكيمياء لا أقول ليهاجموا بل فقط ليعيدوا توازن الردع بين أي حالة مقاومة وثورة وبين الاستبداد المسنود بالاحتلال. وكلما كان الابتكار العلمي سهل التنفيذ سهل الانتشار كلما كان أقوى وأفضل، لأن كل ما من شأنه أن يكون بسيطا ومنتشرا بين أفراد الأمة كانت الأمة في حاجته أكثر.. لأن دخول الأمة كلها في معركة التحرير هو خطوة لا بد منها في كل حال.. بل إن تاريخ هزيمة الأمة هو تاريخ انفصال طليعتها الثورية المقاومة عن عموم الجماهير، وهذا الانفصال هو الأمر الذي توصي تقارير المراكز البحثية الغربية بتوسيعه وتعزيزه وتأكيده لكي يسهل على العدو سحق الثورة والمقاومة، التي هي بالنسبة للأمة كالسمك بالنسبة للماء.. إن انفصل عنها هلك وصِيد. 3. ترجمات يقع على المترجمين عبء هائل، ودورهم ضروري لا غنى للأمة عنه. إن الإنتاج الغربي في العلوم الأمنية والعسكرية ومكافحة التمرد (أي: الثورات وحركات مقاومة الاحتلال والاستبداد) إنتاج ضخم، وأقل القليل منه هو ما ترجم إلى العربية، بل إنهم ترجموا بعضه إلى العربية بأنفسهم ليكون مرشدا لضباط الأمن والعسكر العرب.. ولا شك أن بعضه سري غير منشور، لكن المنشور فيه فوائد كثيرة للغاية، وبعضه يدرس في الجامعات الغربية التي هي من مصانع إنتاج الساسة وصناع القرار ومستشاريهم. ثمة نهر كبير ينتظر الترجمة من التقارير التي تصدرها وكالات الأمن والاستخبارات ومن تقارير باحثين متخصصين في مكافحة الإسلاميين (ربما يندهش البعض إن عرف أن ثمة تخصص في أمريكا اسمه "تدجين الإسلاميين"، رأيت هذا في السيرة الذاتية لأنجيل راباسا الذي كتب تقرير راند 2008م: صعود الإسلام السياسي في تركيا) ومن مذكرات العسكريين والأمنيين والسياسيين الذين أداروا معركتهم في أرضنا وبلادنا التي احتلوها كما في أفغانستان والعراق وغيرها.. هذا فضلا عن وثائق المخابرات التي تنشر بعد رفع السرية عنها بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة بحسب قوانين النشر وأهمية الوثيقة. ولا يقتصر الأمر على الترجمة من الإنجليزية وحدها.. الفرنسية والألمانية وحتى الروسية والصينية، ففي تلك البلاد تحديات أخرى ومدارس أخرى وأفكار أخرى، وبعضها تتطلع لتكون قوة عظمى ولترسم لنفسها النفوذ والمستقبل والاستراتيجية، وظهر فيها منظرون سياسيون وقيادات عسكرية وأمنية خاضت حروبا ومعارك إما مع المسلمين كما في تركستان الشرقية والشيشان وكشمير أو مع غيرهم في محيطهم الاستراتيجي. تلال هائلة من الكتب القيمة التي تنتظر الترجمة، والتي يتوقع أن تكون ترجمتها مثيرة لأفكار قوية في النهوض والمقاومة فالحكمة ضالة المؤمن. وكثير من القيادات الثورية والمقاومة ليس لديهم الإمكانية ولا الوقت ولا الطاقة لمتابعة المهم الذي يصدر في لغته الأصلية. المهم.. المهم.. المهم أن يُختار الكتاب بعناية لتكون أفكاره إضافة حقيقية لمعركة تحرير الأمة.. إنه من المؤسف المثير للمرارة والشفقة والحسرة أن تكون غالبية الترجمات روايات خيالية ومسرحيات وأشعار وأمور هي إن لم تضر فلن تنفع، وإن نفعت فنفعها ترف يوجد ما هو أولى منه ألف ألف مرة! فإن الغريق والحريق والمسحوق لا يبحث في الترف حتى ينجو من محنته أولا. 4. ملخصات وفهرسة فمن لم يكن من أهل الترجمة، فليكن من أهل التلخيص أو من أهل الفهرسة، وهو أمر يستطيعه كل من يجلس على الفيس بوك وتويتر ويوتيوب بالساعات الطوال لا يفعل شيئا مفيدا.. فكما نحن أمام كم هائل ينتظر الترجمة فإن لدينا كما هائلا من الكتب والمواد المترجمة التي يتعذر الاستفادة منها لتنوعها وتشعبها وربما حجمها الكبير. نحن إذا كنا نتحدث عن مصر –كمثال- فإن الحركة الثورية في مصر يجب أن يكون لديها إلمام بعدد من الأمور لكي تحسن خوض معركتها منها: العلوم الأمنية والعسكرية لا سيما ما يتعلق بمصر وما كتبه صناع القرار والأمنيون الذين عملوا في مصر منذ نابليون وكرومر ومايلز كوبلاند، طبيعة الشعب المصري وخصائصه، تاريخ حركات المقاومة لا سيما حركات المقاومة في مصر نفسها، العلوم الاجتماعية التي تتعلق بإدارة ثورة كعلم الاجتماع السياسي وعلم نفس الجماهير. في كل باب من هذه الأبواب توجد الكثير من الكتب والمؤلفات، حتى ما هو موجود باللغة العربية.. ربما يضيق وقت العاملين في الثورة والمقاومة عنه، فيمكن لكثير من الشباب الذين يسألون: ما العمل؟ أن يعكفوا على تلخيص هذه الكتب وإخراج خلاصاتها ليكون فهمها أسهل وأسرع. كذلك مهمة الفهرسة.. وتلك مهمة تسهل على التنفيذيين الذين لا يحبون إرهاق عقولهم، إن كثيرا من هذه الكتب تحتوي معلومات هامة، لكن عدم وجود فهارس فيها يجعل الاستفادة منها متعذرة.. والفهرسة أمر يعرفه من طالع الكتب الشرعية، حيث يتولى محقق الكتاب صناعة فهرس للآيات والأحاديث والأعلام (الشخصيات) والبلدان والمعارك.. ويتفنن آخرون فيضيفون أنواعا كثيرة من الفهرسة. فإذا كان لدي كتاب من 30 مجلدا –مثلا- وأردت أن أبحث عن اسم معين، فإن فهرس "الأعلام" يخبرني بالصفحات التي ذكر فيها هذا الاسم، وبمراجعتها يتكون عندي بسرعة "رأي المؤلف في فلان هذا، وكم مرة ذكره، وفي أي المسائل استشهد به... وأمور أخرى".. المهم أني لم اضطر لقراءة الثلاثين مجلدا. وكمثال: لدينا الكثير من مذكرات صناع السياسة الأمريكية، ومترجمة أيضا، لكن الواحد منها لا يقل عن خمسمائة صفحة.. وهي غير مفهرسة، وعلى سبيل المثال: لو أردت أن أفهم كيف تعامل الأمريكان مع شخصية مثل السيستاني بعد احتلال العراق فينبغي علي قراءة مذكرات المسؤولين صفحة صفحة: رامسفيلد وكونداليزا رايس وجورج تينت وديك تشيني وبريمر وغيرهم.. بينما لو وُجد فهرس للأعلام لكل كتاب لكان يسيرا الاطلاع على مواضع الصفحات ثم فهم الموقف. مهمة الفهرسة هذه مهمة عظيمة لو وُجِد لها الرجال. الخلاصة: العمل كثير كثير كثير.. والثغور كلها تشكو الحاجة.. وكثير من العمل يمكن أن يؤدى بلا مخاطرة! نعم، ليس كل من هتف: ما العمل؟ سيعمل حين تأتيه الفرصة.. فإن ميدان القول غير ميدان العمل! وقد قال المتنبي: إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ .. تبيَّن من بكى ممن تباكى
الافتتاحية

ثغور فارغة، وجيوش من العاطلين

محمد إلهامي

ليس ثمة سؤال يواجهه كاتب أو متحدث اليوم أكثر من سؤال: ما العمل؟!
سؤال ينسال في التعليقات على كل منشور، يقال بعد كل خطبة، يثار بعد كل محاضرة، يلقي في كل ندوة ومجلس.. جمهرة الناس في حال من التيه والفراغ والحيرة، والكل يسأل: ما العمل؟!

على الجانب الآخر تنظر في كل ثغرة تحتاجها الأمة فتجد فراغا رهيبا، بداية من ثغور الجهاد التي تشكو قلة المال وقلة الرجال، وحتى ثغور العلم الشرعي التي تشكو ندرة الفقهاء المتمرسين.. مرورا بسائر ثغور العلوم الطبيعية والجمعيات الخيرية والمؤسسات الاقتصادية والمبادرات الأخلاقية. في أي موقع رأيت بعض العاملين المخلصين فسألتهم عن أحوالهم وإمكانياتهم بالنسبة إلى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم كانت الإجابة كاشفة عن الفارق الواسع بين المتاح والمطلوب فضلا عن المأمول.

وهكذا نحن في مشهد غريب: جيوش من الناس يسألون: ما العمل؟ وثغور فارغة تشكو وتتشوق للعاملين!!

هو أثر طبيعي لغياب الخلافة والخليفة، فالقيادة تستطيع تجنيد الموارد وتوجيه الطاقات وجمع المتفرق، بل مجرد وجودها يجعل من أراد العمل يقصدها بتقديم ما يستطيع، أما غياب القيادة فشرٌّ وبيل، إذ هو تفرق وتشرذم وعداوات تندلع لأتفه سبب ثم هو –وهذا هو الأهم في سياقنا الآن- تيه وفراغ حتى لمن أراد أن يعمل، إذ لا يعرف ماذا يعمل ومن أين يبدأ وإلى أين يتوجه مع كثرة الثغور وكثرة التحديات والحاجات والضرورات. لهذا حرص الإسلام على أن ينتظم شأن المسلمين في أقل أمورهم "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأَمِّروا واحدا"، وكان هذا بداية خروجهم من الجاهلية والفوضى إلى معنى الأمة والنظام والدولة والحضارة.

لكن غياب القيادة العامة للأمة، وانهيار كثير من المشاريع والجماعات التي حاولت أن تكون طلائع بعث الأمة ليس هو نهاية المطاف، ولا هو داعية يأس مع قسوته ومرارته، بل نحن في وضع يجب علينا أن نكافح عن الإسلام في الخطوط الأخيرة، فالهجمة الآن هي على الثوابت الكبرى، من كان يصدق أن يتجادل مسلمان في مسألة: هل يدخل الملحد النار؟! كما وقع عند موت ستيفن هوكينج!

نعود إلى السؤال: ما العمل؟!

لقد وزع الله المواهب كما وزع الأرزاق، وإجابة السؤال يعرفها كل إنسان في نفسه من نفسه. وحيث أن الثغور كلها تشكو الندرة في العاملين فلا يكاد يوجد مسلم إلا ويستطيع أن يفعل شيئا يصب في النهاية لمصلحة الأمة، لكن المهم الآن هو التركيز على "واجب الوقت" إذ الواجبات كثيرة كثيرة حتى حين كانت الأمة في ذروة قوتها.. وواجب الوقت الآن هو معركة تحرير الأمة من الاستبداد والاحتلال، وكلاهما في عصرنا هذا شيء واحد: الاستبداد هو مقدمة الاحتلال، والاحتلال هو العمق الاستراتيجي والسند الأكبر للاستبداد. وأي مجهود يُصرف في غير معركة التحرير هذه فهو أقرب إلى الهباء، بل لعله يكون إثما.

أمور كثيرة تحتاجها معركة التحرير هذه، سأضع منها هنا أمورا في غاية الأهمية رغم أنه يمكن الحصول عليها بسهولة وبلا مخاطر أيضا.

1. المعلومات

ما يعرفه أعداء الحركات الإسلامية عنها أكثر مما يعرفه أفرادها عنها، ولو تصورنا مصارعة بين مصارع قوي لكنه مغمى العينين وآخر ضعيف ولكنه مبصر لكانت الغلبة للضعيف المبصر، فكيف لو كان الحال أن القوي هو المبصر والضعيف هو المغمى العينين؟! ذلك مثل الحركات الإسلامية وحركات المقاومة والحركات الثورية مع أعدائها.. هناك فارق ضخم في المعلومات. وهذا سبب كثير من تجارب الفشل، تخوض الحركة الإسلامية أو الثورية معركة وهي لا تعرف عدوها من صديقها، لا تعرف حتى بعض الاختراقات التي تجري في صفوفها، لا تعرف مفاصل النظام الذي تواجهه، لا تعرف –مثلا- من هم أهم خمسين شخصية فيه؟ أين يقع أهم خمسين مكان يشهد الاجتماعات المؤثرة أو على الأقل ما أهم خمسين موقعا ينبغي السيطرة عليه أو حراسته أو مراقبة من يتردد عليه؟ ما هي خريطة القوى الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في صناعة القرار؟ ما خريطة الأجنحة داخل أروقة السلطة وما الخلافات التي بينهم وكيف يديرون معركتهم ... إلخ!

مثلا: ما هي أهم المناطق التي إن اشتعلت أدى هذا إلى ثورة في عموم القطر؟ كيف يمكن إشعال ثورة فيها؟ ما هي احتياطات النظام لمواجهة حركة ثورية مقاومة في لحظات الطوارئ، كيف يمكن فهمها واكتشافها؟ من الذي يمكن أن ينحاز إلى الثورة في لحظة ما بالترغيب أو الترهيب، وكيف يمكن أن يُساوَم أو يُجَنَّد أو يُسقط؟

أمور كثيرة للغاية، وقد تكون كلها معروفة أو مكشوفة لكن كل معلومة منها عن واحد فحسب ولا يحتاج الأمر إلا إلى الجمع والتصنيف. تثور أحيانا فكرة صناعة منصة ثورية على الانترنت ليضع كل من يعرف معلومة يحتمل أنها مهمة معلومته عليها، ثم يتولى فريق التصنيف والتحليل والفلترة لإزالة المعلومات المشوشة والمغلوطة والمبالغ فيها ونحوه.

2. ابتكارات علمية

مع التقدير الكامل لأن حالة البحث العلمي منهارة في بلادنا، وأن أمر إيجاد ابتكار علمي متعثر ومتعسر أيضا، إلا أن أصل أي ابتكار علمي هو كونه "فكرة"، والفكرة يفتح الله بها على من يشاء من عباده، ولعل رجلا في زاوية ما من الأرض يجد ويسعى حتى يرى الله منه الصدق فيفتح عليه بشيء بسيط لكنه يغير الموازين.

إن بين أمتنا وأعدائها فجوة علمية هائلة، وتظهر هذه الفجوة بقوة في مسألة كالطيران والسلاح الكيميائي التي نرى آثارها في سوريا وفي كل منطقة تكاد تخرج فيها الأمة عن هيمنة النظام العالمي، حينئذ لا يملك المقاتلون على الأرض مهما كانت بسالتهم أن يفعلوا شيئا.. تلك النقطة تحتاج سعيا وبذلا هائلا على مستوى التفكير لدى المتخصصين في الطيران والهندسة والاتصالات والكيمياء لا أقول ليهاجموا بل فقط ليعيدوا توازن الردع بين أي حالة مقاومة وثورة وبين الاستبداد المسنود بالاحتلال.

وكلما كان الابتكار العلمي سهل التنفيذ سهل الانتشار كلما كان أقوى وأفضل، لأن كل ما من شأنه أن يكون بسيطا ومنتشرا بين أفراد الأمة كانت الأمة في حاجته أكثر.. لأن دخول الأمة كلها في معركة التحرير هو خطوة لا بد منها في كل حال.. بل إن تاريخ هزيمة الأمة هو تاريخ انفصال طليعتها الثورية المقاومة عن عموم الجماهير، وهذا الانفصال هو الأمر الذي توصي تقارير المراكز البحثية الغربية بتوسيعه وتعزيزه وتأكيده لكي يسهل على العدو سحق الثورة والمقاومة، التي هي بالنسبة للأمة كالسمك بالنسبة للماء.. إن انفصل عنها هلك وصِيد.

3. ترجمات

يقع على المترجمين عبء هائل، ودورهم ضروري لا غنى للأمة عنه. إن الإنتاج الغربي في العلوم الأمنية والعسكرية ومكافحة التمرد (أي: الثورات وحركات مقاومة الاحتلال والاستبداد) إنتاج ضخم، وأقل القليل منه هو ما ترجم إلى العربية، بل إنهم ترجموا بعضه إلى العربية بأنفسهم ليكون مرشدا لضباط الأمن والعسكر العرب.. ولا شك أن بعضه سري غير منشور، لكن المنشور فيه فوائد كثيرة للغاية، وبعضه يدرس في الجامعات الغربية التي هي من مصانع إنتاج الساسة وصناع القرار ومستشاريهم.

ثمة نهر كبير ينتظر الترجمة من التقارير التي تصدرها وكالات الأمن والاستخبارات ومن تقارير باحثين متخصصين في مكافحة الإسلاميين (ربما يندهش البعض إن عرف أن ثمة تخصص في أمريكا اسمه "تدجين الإسلاميين"، رأيت هذا في السيرة الذاتية لأنجيل راباسا الذي كتب تقرير راند 2008م: صعود الإسلام السياسي في تركيا) ومن مذكرات العسكريين والأمنيين والسياسيين الذين أداروا معركتهم في أرضنا وبلادنا التي احتلوها كما في أفغانستان والعراق وغيرها.. هذا فضلا عن وثائق المخابرات التي تنشر بعد رفع السرية عنها بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة بحسب قوانين النشر وأهمية الوثيقة.

ولا يقتصر الأمر على الترجمة من الإنجليزية وحدها.. الفرنسية والألمانية وحتى الروسية والصينية، ففي تلك البلاد تحديات أخرى ومدارس أخرى وأفكار أخرى، وبعضها تتطلع لتكون قوة عظمى ولترسم لنفسها النفوذ والمستقبل والاستراتيجية، وظهر فيها منظرون سياسيون وقيادات عسكرية وأمنية خاضت حروبا ومعارك إما مع المسلمين كما في تركستان الشرقية والشيشان وكشمير أو مع غيرهم في محيطهم الاستراتيجي.

تلال هائلة من الكتب القيمة التي تنتظر الترجمة، والتي يتوقع أن تكون ترجمتها مثيرة لأفكار قوية في النهوض والمقاومة فالحكمة ضالة المؤمن. وكثير من القيادات الثورية والمقاومة ليس لديهم الإمكانية ولا الوقت ولا الطاقة لمتابعة المهم الذي يصدر في لغته الأصلية.

المهم.. المهم.. المهم أن يُختار الكتاب بعناية لتكون أفكاره إضافة حقيقية لمعركة تحرير الأمة.. إنه من المؤسف المثير للمرارة والشفقة والحسرة أن تكون غالبية الترجمات روايات خيالية ومسرحيات وأشعار وأمور هي إن لم تضر فلن تنفع، وإن نفعت فنفعها ترف يوجد ما هو أولى منه ألف ألف مرة! فإن الغريق والحريق والمسحوق لا يبحث في الترف حتى ينجو من محنته أولا.

4. ملخصات وفهرسة

فمن لم يكن من أهل الترجمة، فليكن من أهل التلخيص أو من أهل الفهرسة، وهو أمر يستطيعه كل من يجلس على الفيس بوك وتويتر ويوتيوب بالساعات الطوال لا يفعل شيئا مفيدا.. فكما نحن أمام كم هائل ينتظر الترجمة فإن لدينا كما هائلا من الكتب والمواد المترجمة التي يتعذر الاستفادة منها لتنوعها وتشعبها وربما حجمها الكبير.

نحن إذا كنا نتحدث عن مصر –كمثال- فإن الحركة الثورية في مصر يجب أن يكون لديها إلمام بعدد من الأمور لكي تحسن خوض معركتها منها: العلوم الأمنية والعسكرية لا سيما ما يتعلق بمصر وما كتبه صناع القرار والأمنيون الذين عملوا في مصر منذ نابليون وكرومر ومايلز كوبلاند، طبيعة الشعب المصري وخصائصه، تاريخ حركات المقاومة لا سيما حركات المقاومة في مصر نفسها، العلوم الاجتماعية التي تتعلق بإدارة ثورة كعلم الاجتماع السياسي وعلم نفس الجماهير.

في كل باب من هذه الأبواب توجد الكثير من الكتب والمؤلفات، حتى ما هو موجود باللغة العربية.. ربما يضيق وقت العاملين في الثورة والمقاومة عنه، فيمكن لكثير من الشباب الذين يسألون: ما العمل؟ أن يعكفوا على تلخيص هذه الكتب وإخراج خلاصاتها ليكون فهمها أسهل وأسرع.

كذلك مهمة الفهرسة.. وتلك مهمة تسهل على التنفيذيين الذين لا يحبون إرهاق عقولهم، إن كثيرا من هذه الكتب تحتوي معلومات هامة، لكن عدم وجود فهارس فيها يجعل الاستفادة منها متعذرة.. والفهرسة أمر يعرفه من طالع الكتب الشرعية، حيث يتولى محقق الكتاب صناعة فهرس للآيات والأحاديث والأعلام (الشخصيات) والبلدان والمعارك.. ويتفنن آخرون فيضيفون أنواعا كثيرة من الفهرسة. فإذا كان لدي كتاب من 30 مجلدا –مثلا- وأردت أن أبحث عن اسم معين، فإن فهرس "الأعلام" يخبرني بالصفحات التي ذكر فيها هذا الاسم، وبمراجعتها يتكون عندي بسرعة "رأي المؤلف في فلان هذا، وكم مرة ذكره، وفي أي المسائل استشهد به... وأمور أخرى".. المهم أني لم اضطر لقراءة الثلاثين مجلدا.

وكمثال: لدينا الكثير من مذكرات صناع السياسة الأمريكية، ومترجمة أيضا، لكن الواحد منها لا يقل عن خمسمائة صفحة.. وهي غير مفهرسة، وعلى سبيل المثال: لو أردت أن أفهم كيف تعامل الأمريكان مع شخصية مثل السيستاني بعد احتلال العراق فينبغي علي قراءة مذكرات المسؤولين صفحة صفحة: رامسفيلد وكونداليزا رايس وجورج تينت وديك تشيني وبريمر وغيرهم.. بينما لو وُجد فهرس للأعلام لكل كتاب لكان يسيرا الاطلاع على مواضع الصفحات ثم فهم الموقف.

مهمة الفهرسة هذه مهمة عظيمة لو وُجِد لها الرجال.

الخلاصة: العمل كثير كثير كثير.. والثغور كلها تشكو الحاجة.. وكثير من العمل يمكن أن يؤدى بلا مخاطرة!

نعم، ليس كل من هتف: ما العمل؟ سيعمل حين تأتيه الفرصة.. فإن ميدان القول غير ميدان العمل! وقد قال المتنبي:

إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ .. تبيَّن من بكى ممن تباكى
‏٠٦‏/٠٤‏/٢٠١٨ ١٠:٤١ م‏
الخلاص الكبير د. @[100002583464860:2048:عطية عدلان] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. الخلاص .. كلمة كالرعد الذي يسبق الغيث؛ تهز المشاعر وتثير الوجدان وتبعث الأمل في النفوس، فما أشد الاشتياق ! وما أعظم تعلق القلوب ! لكن هل يُرجى للناس مما هم فيه اليوم خلاص ؟ هذا سؤال من الأسئلة التي يقال لسائلها: "لقد سألت عن عظيم وإنَّه ليسير على من يسره الله عليه". إنَّ الخلاص الكبير قادم لا محالة، وإنَّ معطيات الواقع الحاليّ لتؤكد هذه الحقيقة؛ ولاسيما إذا قيست بنظائرها التي وقعت في التاريخ الإنسانيّ، فما من دورة في حياة البشرية زالت فيها حضارة وقامت على أنقاضها أخرى إلا وشهدت قبل التبديل ما يشهده واقع الصراع القائم على الأرض اليوم: حضارة تفلس في شيخوختها من كل مقومات الإنسانية؛ ويتسرب مخزونها عبر خرق في قاعها لا يسعفه راقع، وفتق في أصلها لا يجبره راتق، وأمة - في المقابل - تحت مطارق المحن المتزاحمة؛ لا يزيدها الفتك بجسدها إلا قوة في قلبها، وجلاء في فكرتها، واتساعاً في دائرة تأثيرها. لكن من أين يبدأ طريق الخلاص ؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عليه بحسم وشفافية؛ حتى يذوب الجبل الصخريّ ذوبان الثلج تحت وهج الشمس الساطعة؛ فتستحيل العقبة الكأداء ممراً سهلاً رحيباً، وينفتح الطريق للسائرين بلا انغلاق، ويصبح الأمر العظيم يسيراً على من يسره الله عليه. إنَّ الخلاص قبل كل شيء هو خلاصنا نحن من ذواتنا الضيقة، وخلاص ذواتنا من دوائرنا المغلقة، وخلاص دوائرنا من قيودنا النفسية والعقلية والتنظيمية، وخلاص قيودنا من العقم الذي - لشدة ملازمته لها - صار كأنَّه لم يخلق إلا لها ولم تخلق إلا له، وقبل أن يتحقق لنا هذا الخلاص لن نخطو خطوة واحدة على طريق الخلاص الكبير. إنَّ ذواتنا بالأهواء والشهوات مسكونة، وإنَّ دوائرنا بالخلافات والنزاعات مشحونة، وإنَّ التقاليد العقيمة والآراء السقيمة والعادات الوخيمة لا تزال تشكل قيوداً معيقة للحركة والانطلاق، فعلينا - إن كنَّا ننشد الخلاص بصدق - أن نتخلص من ذلك كله أولاً، وليست بمقدور الخلق أن يتخلصوا من جميع ما يلم بهم من شهوات وما يحتوشهم من نزعات ونزغات، وإنَّما المقدور والمستطاع والمأمور به هو المجاهدة، وقد تكفل الله للذين يسلكون سبيل المجاهدة بأن يهديهم لغايتهم؛ فقال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإنَّ الله لمع المحسنين). كيف ينشد الخلاص رجال - برغم حبهم لله ورسوله - تضخمت الأنا في نفوسهم حتى صارت هي والحق مترادفين لا فرق بينها إلا كالفرق بين البحر واليم، وحتى أمسى كل خير شراً مستطيراً إذا لم يكونوا هم رواد الساعين إليه وقادتهم وأئمتهم ؟! وحتى ضاقت بالناس السبل على سعتها ورحابتها؛ لا لشيء إلا لضيق النفوس وانغلاق منافذها وانسداد آفاقها!! وكيف تنشد الخلاص جماعات وأحزاب وكيانات (ومؤسسات!) لم تعد ترى الحق إلا من منظور أولوياتها ومصالحها، هذا إذا لم يكن من منظور الداعم أو الكفيل أو من يمسك بأصبعيه مفتاح صنبور (الدعم) ومغلاقه !! وباتت توثق الأفراد بنسعة رحلها وتجرهم وراءها راضين وكارهين؛ فلا يملك فرد من الحرية أن يعمل (لايك) لكلمات عابرة على ثبج (الفيسبوك) إذا كان فيها ما يشبه أن يكون معارضة لتوجهات (مؤسسته!) ولو كانت النسبة بين هذه التوجهات وبين ما قيل عنها كالنسبة بين سياسات (السيسي) وما يقولونه هم عنها!! وكيف نطمع في بناء حضارة - فضلا عن الطمع في الخلاص من أسر الحضارة السائدة اليوم - ونحن نعيش أوهاماً ونقتات أوهاماً ونتنفس أوهاماً، ولا نملك من الجرأة أن نقرأ آية من آيات المواجهة التي تبدد - بمجرد قراءتها دون التعرض لتفسيرها - كل هذه الأوهام، ونردد من الشعارات الخداعة و(المانشيتات) المخاتلة ما ذاع صيته وثبت بألف دليل من الواقع كذبه وزيفه، وكأننا إذ نرددها نعليها على نصوص الذكر الحكيم؛ فأي قوم يبتغون الخلاص نحن وينشدون العلا نحن ؟!! لن ننال الحرية حتى نتحرر أولاً حرية كاملة، كهذا الحرّ المحلق، المترع غبطة بما انعم الله عليه؛ فلم يعد يبالي بمكانه مادام هو في سبيل الله : " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة" فإلى الحرية والخلاص أدعو نفسي وإياكم، وإنَّ ما نرجوه لفي متناول أيدينا ولكننا لا نريد، ولو أردنا لكان، فإلى الخطوة الأولى على طريق الخلاص، والتي من دونها لا يمكن أن يتحقق لنا الخلاص الكبير.
الخلاص الكبير

د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

الخلاص .. كلمة كالرعد الذي يسبق الغيث؛ تهز المشاعر وتثير الوجدان وتبعث الأمل في النفوس، فما أشد الاشتياق ! وما أعظم تعلق القلوب ! لكن هل يُرجى للناس مما هم فيه اليوم خلاص ؟ هذا سؤال من الأسئلة التي يقال لسائلها: "لقد سألت عن عظيم وإنَّه ليسير على من يسره الله عليه".

إنَّ الخلاص الكبير قادم لا محالة، وإنَّ معطيات الواقع الحاليّ لتؤكد هذه الحقيقة؛ ولاسيما إذا قيست بنظائرها التي وقعت في التاريخ الإنسانيّ، فما من دورة في حياة البشرية زالت فيها حضارة وقامت على أنقاضها أخرى إلا وشهدت قبل التبديل ما يشهده واقع الصراع القائم على الأرض اليوم: حضارة تفلس في شيخوختها من كل مقومات الإنسانية؛ ويتسرب مخزونها عبر خرق في قاعها لا يسعفه راقع، وفتق في أصلها لا يجبره راتق، وأمة - في المقابل - تحت مطارق المحن المتزاحمة؛ لا يزيدها الفتك بجسدها إلا قوة في قلبها، وجلاء في فكرتها، واتساعاً في دائرة تأثيرها.

لكن من أين يبدأ طريق الخلاص ؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عليه بحسم وشفافية؛ حتى يذوب الجبل الصخريّ ذوبان الثلج تحت وهج الشمس الساطعة؛ فتستحيل العقبة الكأداء ممراً سهلاً رحيباً، وينفتح الطريق للسائرين بلا انغلاق، ويصبح الأمر العظيم يسيراً على من يسره الله عليه.

إنَّ الخلاص قبل كل شيء هو خلاصنا نحن من ذواتنا الضيقة، وخلاص ذواتنا من دوائرنا المغلقة، وخلاص دوائرنا من قيودنا النفسية والعقلية والتنظيمية، وخلاص قيودنا من العقم الذي - لشدة ملازمته لها - صار كأنَّه لم يخلق إلا لها ولم تخلق إلا له، وقبل أن يتحقق لنا هذا الخلاص لن نخطو خطوة واحدة على طريق الخلاص الكبير.

إنَّ ذواتنا بالأهواء والشهوات مسكونة، وإنَّ دوائرنا بالخلافات والنزاعات مشحونة، وإنَّ التقاليد العقيمة والآراء السقيمة والعادات الوخيمة لا تزال تشكل قيوداً معيقة للحركة والانطلاق، فعلينا - إن كنَّا ننشد الخلاص بصدق - أن نتخلص من ذلك كله أولاً، وليست بمقدور الخلق أن يتخلصوا من جميع ما يلم بهم من شهوات وما يحتوشهم من نزعات ونزغات، وإنَّما المقدور والمستطاع والمأمور به هو المجاهدة، وقد تكفل الله للذين يسلكون سبيل المجاهدة بأن يهديهم لغايتهم؛ فقال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإنَّ الله لمع المحسنين).

كيف ينشد الخلاص رجال - برغم حبهم لله ورسوله - تضخمت الأنا في نفوسهم حتى صارت هي والحق مترادفين لا فرق بينها إلا كالفرق بين البحر واليم، وحتى أمسى كل خير شراً مستطيراً إذا لم يكونوا هم رواد الساعين إليه وقادتهم وأئمتهم ؟! وحتى ضاقت بالناس السبل على سعتها ورحابتها؛ لا لشيء إلا لضيق النفوس وانغلاق منافذها وانسداد آفاقها!!

وكيف تنشد الخلاص جماعات وأحزاب وكيانات (ومؤسسات!) لم تعد ترى الحق إلا من منظور أولوياتها ومصالحها، هذا إذا لم يكن من منظور الداعم أو الكفيل أو من يمسك بأصبعيه مفتاح صنبور (الدعم) ومغلاقه !! وباتت توثق الأفراد بنسعة رحلها وتجرهم وراءها راضين وكارهين؛ فلا يملك فرد من الحرية أن يعمل (لايك) لكلمات عابرة على ثبج (الفيسبوك) إذا كان فيها ما يشبه أن يكون معارضة لتوجهات (مؤسسته!) ولو كانت النسبة بين هذه التوجهات وبين ما قيل عنها كالنسبة بين سياسات (السيسي) وما يقولونه هم عنها!!

وكيف نطمع في بناء حضارة - فضلا عن الطمع في الخلاص من أسر الحضارة السائدة اليوم - ونحن نعيش أوهاماً ونقتات أوهاماً ونتنفس أوهاماً، ولا نملك من الجرأة أن نقرأ آية من آيات المواجهة التي تبدد - بمجرد قراءتها دون التعرض لتفسيرها - كل هذه الأوهام، ونردد من الشعارات الخداعة و(المانشيتات) المخاتلة ما ذاع صيته وثبت بألف دليل من الواقع كذبه وزيفه، وكأننا إذ نرددها نعليها على نصوص الذكر الحكيم؛ فأي قوم يبتغون الخلاص نحن وينشدون العلا نحن ؟!!

لن ننال الحرية حتى نتحرر أولاً حرية كاملة، كهذا الحرّ المحلق، المترع غبطة بما انعم الله عليه؛ فلم يعد يبالي بمكانه مادام هو في سبيل الله : " طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة" فإلى الحرية والخلاص أدعو نفسي وإياكم، وإنَّ ما نرجوه لفي متناول أيدينا ولكننا لا نريد، ولو أردنا لكان، فإلى الخطوة الأولى على طريق الخلاص، والتي من دونها لا يمكن أن يتحقق لنا الخلاص الكبير.
‏٣٠‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٩:٤١ م‏
ذكرى استشهاد الإمام البنا .. دروس للواقع المعاصر د. @[710607845:2048:وصفي أبو زيد] [لتحميل العدد الأخير من المجلة: https://goo.gl/5pdPnR] الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد وآله ومن والاه، وبعد،، حلت منذ أيام وتحديداً في 12 فبراير 2018م تسعة وستون عاما على حادث استشهاد الإمام حسن البنا، وقد استهدفته قوى الشر العالمية لاستشعارها خطره عليهم؛ لما أخذه من عهد على نفسه بإحياء الأمة المسلمة وإعادة مجدها ووحدتها، وتحرير إرادتها ومقدساتها، والعمل المستمر والجهاد المتواصل في الدعوة إلى هذا الدين وإعزاز رسالته. لقد جاء الإمام البنا على قدر مع حال الأمة وواقعها المرير آنذاك؛ حيث تهاوت رايتها، وتفتت جامعتها، وناوشتها الرياح الهوج من يمين وشمال، وتنادت عليها قوى الغرب لتقسيمها واحتلالها بعد أن سقطت الراية الكبرى للمسلمين وهي الخلافة العثمانية التي ظلت فترة ليست قصيرة يطلق عليها (الرجل المريض)، وما أشبه الليلة بالبارحة! حيث يتعرض المسلمون اليوم في بلادهم للقتل والتهجير والظلم البالغ، وتتعرض فلسطين اليوم لخطر داهم، وإرادة صهيوأمريكية تقوم بتنفيذها قوى "عربية مسلمة" لتنفيذ ما يسمى "صفقة القرن"، يُهجَّر لها أهل سيناء، وتهدم بيوتهم، وتقتل ذراريهم، وتحاصر غزة منذ اثني عشر عاما حتى وصلوا لحالة لا يمكن أن يعيش بها بشر في ظل تواطؤ غربي وعربي معا، وصمتٍ دولي لمؤسسات ما يسمى "حقوق الإنسان" بما يثبت أن الإنسان المقصود هو إنسانهم فقط، وليس إنسان العروبة والإسلام! جاء حسن البنا فاجتهد لإحياء الأمة، وكانت "وحدة الأمة" هدفه الذي يسعى لتحقيقه، وغايته التي يعمل للوصول إليها، فوظف لها طاقاته، وكرس لها حياته؛ وسعى سعيه وهو مؤمن، وحشد الصفوف، وجمع الألوف، ورفع اللواء، وقدم الفداء، ونادى على المسلمين أن: “الطريق من هنا”. أرسل حسن البنا كتائبه للجهاد في فلسطين، وأرسل رجاله لمقاومة المحتل الإنجليزي في القناة، وبث روحا جديدة في الأمة بما نشره من فكر، وصنعه من رجال، وما كونه من مربين مجاهدين، مستلهما تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وسائرا على هدي السيرة المشرفة، فصنع جيلا فريدا يجمع بين التربية والدعوة، والعلم والعمل، وما هي إلا سنوات حتى تبعه أكثر من مليون مسلم! ركز حسن البنا في مسيرته ودعوته الإصلاحية على الجانب العملي المنضبط بالعلم الشرعي، ورأى أن المدارس الإصلاحية قبله لا ينقصها علم ولا تعوزها معرفة، وإنما يبقى أن ينتقل هذا العلم وتلك المعرفة إلى عمل تطبيقي وتربية عميقة وجهاد متواصل من خلال عمل تنظيمي يتحرك بالإسلام في مجالات الحياة المتنوعة؛ واقعا عمليا، وعملا واقعيا تطبيقيا. تميز حسن البنا برحابة الفكر ورجاحة العقل وبعد النظر، مع روحانية عالية وقرآنية سامية حتى أسماه الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون (الرجل القرآني)، كما وظف حسن البنا في سبيل هذه الغاية الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكان يعطي للعلماء حقهم وقدرهم؛ حيث وظفهم لصالح دعوة الإسلام بما يليق بهم، بل سعى لتكوين عدد منهم بما نرجو أن يكون موجودا اليوم، واستطاع أن يقدم نموذجا للإسلام مشرفا بفهم شامل مستوعب ومستوحًى من كتاب الله وسنة رسوله. ومن هنا فإننا نريد استلهام روح حسن البنا، والاستنجاد بمسلكه في الدعوة لا سيما وظروفنا الآن مثل ظروفه التي جاء بها، والإسلام واسع يأخذ من الجميع بما لا يتعارض مع أصوله ومقرراته، نبسط أيدينا للجميع كما بسطها حسن البنا، وكما بسطها من قبله المصلحون والمجددون، ومن قبلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلاقى مع الجميع على المصلحة العامة إنقاذا لمصرنا وأمتنا، وتحقيقا لأمنها ومصالحها، واستكمالا لأهداف ثورتها المباركة، وإنهاء لجرائم الانقلاب العسكري والقصاص للشهداء الأبرار والمعتقلين الأخيار، لا سيما في هذا الظرف الدقيق التي تتسارع فيه الأحداث، وتتلاطم فيه الأمواج، ويقف العقل غير قادر على تتبع الأحداث ومواكبتها؛ فضلا عن تحليلها والوقوف أمامها. إن حسن البنا كان يملك رؤية، وكان عنده مشروع متكامل لواقعه الذي عاشه، ونحن يجب علينا أن نستلهم هذا المشروع، ونضيف إليه ما يقتضيه واقعنا وتتعافى به أمتنا، فكما جاء حسن البنا واستفاد ممن حوله وممن قبله، فالواجب على أبنائه ومحبيه اليوم أن يستلهموا هذه الروح، ويحددوا رؤية لنهضة الأمة، ويملكوا الأدوات المحققة لها من خلال عمل مؤسسي تخصصي حقيقي، وتقديس للقيم الإسلامية كالشورى والحرية والعدالة والكرامة، وإطلاق الكفاءات تعمل بحرية وتتحرك في ضوء الرؤية العامة المحققة لمصلحة الأمة والمواجهة لمشروع الصهيوأمريكية، والخادمة لصحوتها المباركة. إن صناعة هذه الرؤية وتحقيقها من خلال مؤسسات متخصصة، وتفعيل حقيقي للشوري وليس شكليا "ديكوريا" .. لا يمكن أن يكون إلا بقيادة راشدة تتأسى بقيادة رسولنا صلى الله عليه وسلم وبقيادة الصحب الأطهار من بعده، ومسلك قيادات هذه الأمة على مر تاريخها، ومنهم الإمام حسن البنا الذي كان نموذجا نادرا في القيادة والعبقرية والاستيعاب وتوظيف الطاقات والقدرات بوضع القوي الأمين في مكانه الصحيح، وتقديم الكفاءات القادرة على تحقيق الرؤية وإنجاز مشروع الأمة الإصلاحي الشامل. ونحن في مسيرتنا إذ نذكّر بحسن البنا ومشروعه وجهاده وفكره في ذكرى استشهاده التاسعة والستين فإننا نؤكذ عى أن هذه الأمة منصورة، وأن هذا الدين سيعلو، وأن الأمل لا يفارقنا لحظة بذلك، ويقيننا لا يهتز، ولكن علينا أن نعد لذلك عدته، ونأخذ له أهبته، والله وحده ولي المؤمنين المجاهدين الصادقين وحافظهم وناصرهم ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. صدق الله العظيم.
ذكرى استشهاد الإمام البنا .. دروس للواقع المعاصر

د. وصفي أبو زيد

[لتحميل العدد الأخير من المجلة:
https://goo.gl/5pdPnR]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد وآله ومن والاه، وبعد،،
حلت منذ أيام وتحديداً في 12 فبراير 2018م تسعة وستون عاما على حادث استشهاد الإمام حسن البنا، وقد استهدفته قوى الشر العالمية لاستشعارها خطره عليهم؛ لما أخذه من عهد على نفسه بإحياء الأمة المسلمة وإعادة مجدها ووحدتها، وتحرير إرادتها ومقدساتها، والعمل المستمر والجهاد المتواصل في الدعوة إلى هذا الدين وإعزاز رسالته.

لقد جاء الإمام البنا على قدر مع حال الأمة وواقعها المرير آنذاك؛ حيث تهاوت رايتها، وتفتت جامعتها، وناوشتها الرياح الهوج من يمين وشمال، وتنادت عليها قوى الغرب لتقسيمها واحتلالها بعد أن سقطت الراية الكبرى للمسلمين وهي الخلافة العثمانية التي ظلت فترة ليست قصيرة يطلق عليها (الرجل المريض)، وما أشبه الليلة بالبارحة!
حيث يتعرض المسلمون اليوم في بلادهم للقتل والتهجير والظلم البالغ، وتتعرض فلسطين اليوم لخطر داهم، وإرادة صهيوأمريكية تقوم بتنفيذها قوى "عربية مسلمة" لتنفيذ ما يسمى "صفقة القرن"، يُهجَّر لها أهل سيناء، وتهدم بيوتهم، وتقتل ذراريهم، وتحاصر غزة منذ اثني عشر عاما حتى وصلوا لحالة لا يمكن أن يعيش بها بشر في ظل تواطؤ غربي وعربي معا، وصمتٍ دولي لمؤسسات ما يسمى "حقوق الإنسان" بما يثبت أن الإنسان المقصود هو إنسانهم فقط، وليس إنسان العروبة والإسلام!
جاء حسن البنا فاجتهد لإحياء الأمة، وكانت "وحدة الأمة" هدفه الذي يسعى لتحقيقه، وغايته التي يعمل للوصول إليها، فوظف لها طاقاته، وكرس لها حياته؛ وسعى سعيه وهو مؤمن، وحشد الصفوف، وجمع الألوف، ورفع اللواء، وقدم الفداء، ونادى على المسلمين أن: “الطريق من هنا”.

أرسل حسن البنا كتائبه للجهاد في فلسطين، وأرسل رجاله لمقاومة المحتل الإنجليزي في القناة، وبث روحا جديدة في الأمة بما نشره من فكر، وصنعه من رجال، وما كونه من مربين مجاهدين، مستلهما تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وسائرا على هدي السيرة المشرفة، فصنع جيلا فريدا يجمع بين التربية والدعوة، والعلم والعمل، وما هي إلا سنوات حتى تبعه أكثر من مليون مسلم!

ركز حسن البنا في مسيرته ودعوته الإصلاحية على الجانب العملي المنضبط بالعلم الشرعي، ورأى أن المدارس الإصلاحية قبله لا ينقصها علم ولا تعوزها معرفة، وإنما يبقى أن ينتقل هذا العلم وتلك المعرفة إلى عمل تطبيقي وتربية عميقة وجهاد متواصل من خلال عمل تنظيمي يتحرك بالإسلام في مجالات الحياة المتنوعة؛ واقعا عمليا، وعملا واقعيا تطبيقيا.

تميز حسن البنا برحابة الفكر ورجاحة العقل وبعد النظر، مع روحانية عالية وقرآنية سامية حتى أسماه الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون (الرجل القرآني)، كما وظف حسن البنا في سبيل هذه الغاية الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكان يعطي للعلماء حقهم وقدرهم؛ حيث وظفهم لصالح دعوة الإسلام بما يليق بهم، بل سعى لتكوين عدد منهم بما نرجو أن يكون موجودا اليوم، واستطاع أن يقدم نموذجا للإسلام مشرفا بفهم شامل مستوعب ومستوحًى من كتاب الله وسنة رسوله.

ومن هنا فإننا نريد استلهام روح حسن البنا، والاستنجاد بمسلكه في الدعوة لا سيما وظروفنا الآن مثل ظروفه التي جاء بها، والإسلام واسع يأخذ من الجميع بما لا يتعارض مع أصوله ومقرراته، نبسط أيدينا للجميع كما بسطها حسن البنا، وكما بسطها من قبله المصلحون والمجددون، ومن قبلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلاقى مع الجميع على المصلحة العامة إنقاذا لمصرنا وأمتنا، وتحقيقا لأمنها ومصالحها، واستكمالا لأهداف ثورتها المباركة، وإنهاء لجرائم الانقلاب العسكري والقصاص للشهداء الأبرار والمعتقلين الأخيار، لا سيما في هذا الظرف الدقيق التي تتسارع فيه الأحداث، وتتلاطم فيه الأمواج، ويقف العقل غير قادر على تتبع الأحداث ومواكبتها؛ فضلا عن تحليلها والوقوف أمامها.

إن حسن البنا كان يملك رؤية، وكان عنده مشروع متكامل لواقعه الذي عاشه، ونحن يجب علينا أن نستلهم هذا المشروع، ونضيف إليه ما يقتضيه واقعنا وتتعافى به أمتنا، فكما جاء حسن البنا واستفاد ممن حوله وممن قبله، فالواجب على أبنائه ومحبيه اليوم أن يستلهموا هذه الروح، ويحددوا رؤية لنهضة الأمة، ويملكوا الأدوات المحققة لها من خلال عمل مؤسسي تخصصي حقيقي، وتقديس للقيم الإسلامية كالشورى والحرية والعدالة والكرامة، وإطلاق الكفاءات تعمل بحرية وتتحرك في ضوء الرؤية العامة المحققة لمصلحة الأمة والمواجهة لمشروع الصهيوأمريكية، والخادمة لصحوتها المباركة.

إن صناعة هذه الرؤية وتحقيقها من خلال مؤسسات متخصصة، وتفعيل حقيقي للشوري وليس شكليا "ديكوريا" .. لا يمكن أن يكون إلا بقيادة راشدة تتأسى بقيادة رسولنا صلى الله عليه وسلم وبقيادة الصحب الأطهار من بعده، ومسلك قيادات هذه الأمة على مر تاريخها، ومنهم الإمام حسن البنا الذي كان نموذجا نادرا في القيادة والعبقرية والاستيعاب وتوظيف الطاقات والقدرات بوضع القوي الأمين في مكانه الصحيح، وتقديم الكفاءات القادرة على تحقيق الرؤية وإنجاز مشروع الأمة الإصلاحي الشامل.

ونحن في مسيرتنا إذ نذكّر بحسن البنا ومشروعه وجهاده وفكره في ذكرى استشهاده التاسعة والستين فإننا نؤكذ عى أن هذه الأمة منصورة، وأن هذا الدين سيعلو، وأن الأمل لا يفارقنا لحظة بذلك، ويقيننا لا يهتز، ولكن علينا أن نعد لذلك عدته، ونأخذ له أهبته، والله وحده ولي المؤمنين المجاهدين الصادقين وحافظهم وناصرهم ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. صدق الله العظيم.
‏٢٨‏/٠٣‏/٢٠١٨ ١١:١٨ م‏
مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الثالثة) [لتحميل العدد الأخير من المجلة: https://goo.gl/5pdPnR] غادرت روما يوم 8 نوفمبر 1941 متوجهًا إلى برلين بالقطار، والتقيت هناك بالوفد الذي كان في استقبالي، ودار بيني وبين كبار رجال السياسة الألمان أكثر من حوار، منها ما كان مع الهرفون وايسيزيكر نائب وزير الخارجية الألمانية، فقد رأيت في مكتبه خريطة كبيرة فأشرت إلى الأقطار العربية فاسترعيت انتباهه إلى اتساع رقعة هذه الأقطار فقال لي: "لا ريب أن هذه الأقطار العربية عظيمة جدًّا، ولكن عندما توازن بين قوى الأمم، لا تنظر إلى اتساع الرقعة ووفرة العدد فحسب، ولكنها قبل أي اعتبار ولا سيما في زمن الحروب إنها تهتم بالفرق العسكرية المسلحة، فتركيا -مثلاً- عندها ثلاثين فرقة جاهزة تصبح خمسين حين يدق النفير العام، بينما لا تملك الدول العربية أكثر من سبع فرق نظامية". كانت مقابلتي لأدولف هتلر فوهرر ألمانيا وزعيم الرايخ الثالث في الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر يوم الجمعة 21 نوفمبر 1941، وكان الاستقبال مهيبًا وحافلاً للغاية. دار بيننا حديث طويل رحب هو بي في بدايته وبمدى معرفته بأحوال أقطارنا وقضيتنا، ثم شرحت له قضية العرب وقضية فلسطين وجهودنا للتخلص من الاستعمار، وطلبت عقد معاهدة رسمية صريحة بين العرب وألمانيا ودول المحور تشتمل على مطالبنا الأساسية. تحدث معي هتلر حول قضية اليهود ومخططاتهم التدميرية وقال: "إن مهمتي الأساسية ورسالتي الأولى في الحياة هي تصفية قضية اليهودية العالمية؛ لأنها بمنظماتها الواسعة ونياتها السيئة نحو العالم قد تشكل خطرًا هائلاً يهدد الإنسانية جمعاء". ثم قال لي: أليس من الغريب أن يتعاون الخصمان المتناقضان في المبادئ أمريكا وروسيا ضدنا، لقد استطاعت اليهودية العالمية بوسائلها الشيطانية أن تجمع بين النقيضين الرأسمالية والاشتراكية المتطرفة وتقرنهما بحبل واحد، وتسوقهما معًا لخدمة أهدافها. حين طالبت من هتلر تصرحات مؤيدة لاستقلالنا أو عقد اتفاقية قال لي: "ليس من الملائم تلك التصريحات، أو عقد اتفاقات قد تضرنا أثناء الحرب، لكن عندما نصبح في جنوبي القوقاز يكون قد حان وقت تحرير العرب، وفي إمكانكم أن تعتمدوا على كلمتي هذه". انتهى اللقاء وكان يساورني القلق؛ لأن هتلر كان يرى عدم إصدار تصريح وقطع عهد رسمي للعرب في الظروف الحاضرة، خشية أن يُحدِث ذلك رد فعل في بعض الأقطار الأخرى، بينما كنا نحن في حاجة إلى ما يطمئن الأمة العربية. لم نيأس من الحصول على ذلك التصريح، وبعد مداولات ومباحثات صدر التصريح في 28 أبريل 1942 بعد موافقة هتلر، وكان التصريح يتضمن استقلال الدول العربية وإلغاء الوطن القومي لليهود. كانت تلك التصريحات بشأن المشرق العربي، أما المغرب العربي فكانت ألمانيا ترى عدم إغضاب فرنسا وإسبانيا إذا صرحت بذلك، لكننا لم نيأس وقدمنا مشروعات عديدة تتضمن استقلال بلاد المغرب، وقلت للألمان: إن المغرب العربي مصمم على نيل استقلاله على كال حال، وإنه من الممكن أن يتعاون حتى مع الشيوعية في سبيل ذلك، فقال لي الألمان: "إن الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرًا عليها من الشيوعية؛ لأن الشيوعية يمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب، وتوزيع العدل الاجتماعي، وغير ذلك من الوسائل. بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يخشى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة في عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تآلفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى، ويعيد التاريخ نفسه". قررت الحكومة الألمانية إنشاء فيلق عربي 1944، وقامت بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح، ووافق هتلر على مساعدتنا بالسلاح في المعركة القابلة، ووضع تحت تصرفنا طائرات لنقل السلاح وتخزينه في فلسطين، وتدريب المجاهدين الفلسطينيين عليه، وقد وصلت بالفعل الطائرة الأولى وعليها الخبراء الألمان، وتم تخزين كمية هائلة من السلاح حوالي 30 ألف بندقية ورشاش في جزيرة رودس وفي ليبيا تمهيدًا لنقلهم إلى فلسطين، وتخزينهم في فلسطين. في سنة 1941 وافق الألمان وحلفاؤهم على قيام الحركة الكرواتية المتطرفة "أوستاشي" بإنشاء دولة كرواتيا، وضم بوسنة وهرسك إليها. وكان من الواضح أن الصرب لن يقبلو أن تمتد سيادة الدولة الكرواتية إلى البوسنة والهرسك حتى ولو لم تمسسهم تلك الدولة بسوء، وحدث اصطدام هائل بينهم تكبد المسلمون البوشناق خلالها أكثر الضحايا. واتسع نطاق عدوان الصرب على المسلمين، فأصبحت البوسنة ميدانًا لمجرزة كبرى، وأصدر الجنرال ميخائيلوفيتش قائد عصابات الصرب بيانًا إلى تلك العصابات يوضح أن القصد من كفاح (الصرب) هو إيجاد حدود مشتركة مباشرة بين صربيا والجبل الأسود. وقد كنت في روما حين وصلتني الرسائل والأنباء المحزنة والمفصلة عن الفظائع الرهيبة الجارية هناك، وعلى أثر ذلك بادرت بمراجعة وزارة الخارجية الألمانية، وأطلعت وكيلها على الوضع، فأبدى شديد أسفه، وقال: إن تلك المناطق هي في المجال الحيوى لإيطاليا، فلا يمكننا القيام بعمل جدي قبل الرجوع إليها، فسافرت إلى روما في اليوم التالي، وطلبت مقابلة موسولينى فقابلني فورًا في قصر فينيسا. ذكرت لموسوليني أنباء المجازر الفظيعة التي تقترف في حق المسلمين، وقلت له: لو حدث جزء يسير من هذا في الشرق للأوروبيين لقامت الضجة العظيمة والدعايات. فأبدى اهتمامًا شديدًا، وقال: إن هذا الموضوع خطير، واتصل بالسفير الألماني في روما، واتفقوا على اتخاذ جميع الوسائل لوقف هذه الحالة المؤسفة. وبعد عودتي إلى برلين وصلتني أنباء تدل على أن المجازر مستمرة، وأن عدد القتلى بلغ مائتي ألف، وأن ضعف هذا العدد بلا مأوى، فاتصلت بالجنرال (برغر) رئيس أركان جيش الصاعقة وأقنعته بضرورة السفر فأعد لي طائرته الخاصة العسكرية، وسافرت واجتمعنا مع زعماء البوسنة والهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على البشانقه والدفاع عنهم، وافقت الحكومه الألمانيه على تجنيد الشبان منهم، وتدريبهم وتسليحهم بشرط الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم داخل بلادهم، وتم تسجيل حوالي 7 آلاف متطوع. وتم تشكيل فرقة عسكرية بوشناقية سميت: فرقة خنجر، ثم تلا ذلك إنشاء فرقة أخرى، وبلغ عدد الفرقتين حوال 37 ألف، كما تألفت قوات محلية أخرى. وتم الاتفاق مع السلطات الألمانيه على التالي: 1- تجنيد عدد من الشبان المسلمين في مقاطعات بوسنة وهرسك لتأليف قوات عسكرية. 2- لا تكلف هذه القوات بالقيام بأي عمل عسكري خارج بلادهم، ولا بأى مهمة غير الدفاع عن أنفسهم. 3- يناط بهذه القوة حماية النفوس والأموال من المعتدين عليهم داخل بلادهم. 4- تتعهد الحكومه الألمانية بتسليح هذه القوات وتدريبهم وبقاء السلاح مع أفرادها. 5- تكون القوات العسكرية تابعه لجيش (أس) قوات الصاعقة الألمانية. وقد قامت القوات البوسنية بمنع المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا، وغدا الجنرال ميخائلوفيتش وغيره يدارونهم ويتوددون إليهم. لقد درب الجيش الألماني فرقة خنجر وعند البدء في تأليف الفرقة زارنا قائد كبير مسئول عن التموين الروحي للوقوف على رأينا في موضوع التموين الروحي للفرقة البوسنوية وقال: (إن العقيدة والإيمان ضرورة أساسية في كل جيش، وإن الجندي الذي لا يتمتع بالإيمان المتين، ولا يرتبط بعقيدة ولا يدري لماذا يقاتل ويضحي بروحه لا يمكن الاعتماد عليه، وإن التموين الروحي ضرورة قصوى كالتموين المادي، بل أكثر أهمية). وعلى أثر ذلك تم إنشاء معهد للأئمة في مدينة غوين لتوزيعهم على الفرقه، وإنشاء آخر في مدينة درسدن، ولقد تشرفت شخصيًّا بإلقاء بعض المحاضرات، وكانت أحاديثنا تتطرق إلى قضية فلسطين، فكانوا يتحرقون شوقًا إلى الجهاد في فلسطين، وبالفعل فقد جاء عدد من ضباطهم وجنودهم، وخاضوا معارك عديدة مثل معركة يافا والقسطل والمالكية وغيرها، ولو اتسع مجال الجهاد حينئذ لرأينا عشرات الألوف من هولاء الجنود يساهمون في تحرير فلسطين.. لقد عرف البوشناق بالشجاعة النادرة، شهد لهم بذلك كل من عرفهم، قال عنهم هتلر: كانو من أبسل الجنود في الجيش النمساوي، وكانت قيادة الجيش النمساوي حين تشتد الحاجة وتستعصي جبهة تستدعي الجنود البوسنيين، وهذه شهادة هتلر شخصيًّا، وقد قال: إنه رأى ذلك منهم رأي العين. كان الألمان قد أنشؤوا معهدًا حربيًّا لتخريج شبان العرب الذين كانوا يدرسون في الجامعات الألمانية، وطلبوا أن يدربوا تدريبًا عسكريًّا وافيًا؛ ليكونوا ضباطًا يعملون على تحرير البلاد العربية، وكان عددهم 200 شاب. بعد إتمام تدريبات الشبان قررنا إرسال بعضهم إلى فلسطين للإعداد للمعركة الحتمية، فقابلت عددًا من المسؤولين الألمان، وتم توفير السلاح، وكل ما يحتاجه الفدائيون من عشرات الألوف من الرشاشات والبنادق وأنواع المتفجرات، وخصصوا لنا أربع طائرات لنقلها إلى فلسطين. وفي صيف 1945 أرسلنا طائرة تحمل جزءًا من هذه الأسلحة والمعدات، وتمت عملية إنزال بالمظلات، كما قمنا بإعداد مخازن في الصحراء الغربية ووضعنا فيها 30 ألف قطعة من السلاح مع ذخائرها، لكن فشل حملة روميل حالت دون الإفادة من هذه الأسلحة. كما أن الانخداع بوعود الإنجليز وأضاليلهم والغفلة التي رانت على قلوب العرب بسبب تضليل عملاء الاستعمار أدت إلى أن الذين اعتمدوا وكلفوا بإيواء المجاهدين الهابطين بالمظلات وإخفاء ما حملوه من أسلحة امتنعوا عن الدخول في هذه المغامرة بحجة أن موقف الإنجليز قد تغير ناحية اليهود بسبب اعتدائهم على بعض الضباط الإنجليز. في ألمانيا كانت حالة التقشف خلال الحرب جلية واضحة في المأكل والملبس، وفي كل شؤون الحياة، وكنت أرى الكثيرين من كبار رجال الدولة وعيالهم يركبون الدراجات بدلاً من السيارة لتوفير البنزين. كان الألمان يروضون أنفسهم ويعودون أجسامهم على الخشونة والتدريبات الشاقة، ومن ذلك أنهم كانوا يحملون أطفالهم على المشي حفاة خلال أشهر الصيف؛ لما في ذلك من تدريب الأطفال على الجلد وشظف العيش. ومما يحز في النفس أن نرى هذا الفرق العظيم والبون الشاسع بين الألمان وبين ما نعيش فيه اليوم؛ فلا تقشف، ولا تخشن، ولا تدرب، ولا سلاح، ولا استعداد لحرب الأعداء. إن المشروعات العمرانية الضخمة في الأقطار العربية والنهضة الاقتصادية والنفطية تدعو إلى الإعجاب، ولكنها في نفس الوقت تبعث على القلق في أن تصبح غنيمة في أيدي الأعداء إذا لم تكن لها جيوش تحميها. إن اليهود منذ وطأت أقدامهم فلسطين وهم يسيرون على طرق خاصة من حياة التقشف والتطوير، وإنفاق الأموال على التسليح والتحصين والتدريب وبناء القواعد العسكرية، وكل وسائل القوة التي ضمنت لهم فوزهم على العرب. الموقف النازي من اليهود كانت ألمانيا مقر اليهودية العالمية ومركزها الرئيسي قبل الحرب العالمية الأولى، وقد حاولوا الضغط على القيصر الألماني من أجل أن يعدهم بوطن في فلسطين من خلال تفاوضه مع العثمانيين مقابل أن يقدم اليهود المساعدة لهم في الحرب، لكن العثمانيين رفضوا الطلب نهائيًّا. لجأ اليهود إلى بريطانيا فوافقت على منحهم وعدًا بالوطن المزعوم، حينها تحول موقف اليهود في ألمانيا على حد قول هتلر: "لقد اندفعوا يعيثون فسادًا وتخريبًا في ألمانيا والجيش الألماني خاصة، وفي بلاد الدول الحليفة لها، وينشرون دعاية سلبية واسعة ليوهنوا قوى الجيش والشعب، كما شرعت المنظمات اليهودية في أعمال تدميرية واسعة لتدمير المواصلات وقطع التموين عن الجيش وأعمال الجاسوسية". ولم يكد هتلر يستولي على السلطة 1933 حتى بادر بإنشاء معهد دراسة القضية الإسرائيلية في فرانكفورت من أجل فهم ذلك الشعب. كان المعهد يضم نحو 70 أستاذًا من العلماء والمتخصصين في علوم التاريخ والنفس والتربية والسلالات والاجتماع... إلخ. وقد زرت ذلك المعهد واطلعت على عدد من الوثائق الهامة لديهم، منها الخارطة التي وجدت في خزانة روتشيلد الحديدية وهي تحدد مملكة إسرائيل كلها ما بين النيل إلى الفرات، فأخذنا نسخة منها وعربناها ونشرناها. لقد قام اليهود بإشعال الثورة والفوضى في ألمانيا تحت ستار الاشتراكية، فلما فشلوا هب من جانب آخر اليهود الرأسماليون في ألمانيا ليتولوا الزعامة فيها، وتحكموا في الشؤون الاقتصادية، وتلاعبوا بالعملة الألمانية. لم يكتف اليهود بحرمان ألمانيا من النصر في الحرب، بل أضافوا إلى حرمانها من هدنة كريمة وصلح شريف إلى اضطرارها إلى دفع كميات هائلة من التعويضات للدول المنتصرة. ومن الأحداث المهمة التي حدثت في ذلك الوقت تواصل الملك فاروق مع الألمان وطلبه التعاون معهم، وقد أثار هذا الحادث الإنجليز والأمريكان، فبيتوا لفاروق نية غادرة وتآمروا على خلعه.
مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الثالثة)

[لتحميل العدد الأخير من المجلة:
https://goo.gl/5pdPnR]

غادرت روما يوم 8 نوفمبر 1941 متوجهًا إلى برلين بالقطار، والتقيت هناك بالوفد الذي كان في استقبالي، ودار بيني وبين كبار رجال السياسة الألمان أكثر من حوار، منها ما كان مع الهرفون وايسيزيكر نائب وزير الخارجية الألمانية، فقد رأيت في مكتبه خريطة كبيرة فأشرت إلى الأقطار العربية فاسترعيت انتباهه إلى اتساع رقعة هذه الأقطار فقال لي: "لا ريب أن هذه الأقطار العربية عظيمة جدًّا، ولكن عندما توازن بين قوى الأمم، لا تنظر إلى اتساع الرقعة ووفرة العدد فحسب، ولكنها قبل أي اعتبار ولا سيما في زمن الحروب إنها تهتم بالفرق العسكرية المسلحة، فتركيا -مثلاً- عندها ثلاثين فرقة جاهزة تصبح خمسين حين يدق النفير العام، بينما لا تملك الدول العربية أكثر من سبع فرق نظامية".

كانت مقابلتي لأدولف هتلر فوهرر ألمانيا وزعيم الرايخ الثالث في الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر يوم الجمعة 21 نوفمبر 1941، وكان الاستقبال مهيبًا وحافلاً للغاية.

دار بيننا حديث طويل رحب هو بي في بدايته وبمدى معرفته بأحوال أقطارنا وقضيتنا، ثم شرحت له قضية العرب وقضية فلسطين وجهودنا للتخلص من الاستعمار، وطلبت عقد معاهدة رسمية صريحة بين العرب وألمانيا ودول المحور تشتمل على مطالبنا الأساسية.

تحدث معي هتلر حول قضية اليهود ومخططاتهم التدميرية وقال: "إن مهمتي الأساسية ورسالتي الأولى في الحياة هي تصفية قضية اليهودية العالمية؛ لأنها بمنظماتها الواسعة ونياتها السيئة نحو العالم قد تشكل خطرًا هائلاً يهدد الإنسانية جمعاء".

ثم قال لي: أليس من الغريب أن يتعاون الخصمان المتناقضان في المبادئ أمريكا وروسيا ضدنا، لقد استطاعت اليهودية العالمية بوسائلها الشيطانية أن تجمع بين النقيضين الرأسمالية والاشتراكية المتطرفة وتقرنهما بحبل واحد، وتسوقهما معًا لخدمة أهدافها.

حين طالبت من هتلر تصرحات مؤيدة لاستقلالنا أو عقد اتفاقية قال لي: "ليس من الملائم تلك التصريحات، أو عقد اتفاقات قد تضرنا أثناء الحرب، لكن عندما نصبح في جنوبي القوقاز يكون قد حان وقت تحرير العرب، وفي إمكانكم أن تعتمدوا على كلمتي هذه".

انتهى اللقاء وكان يساورني القلق؛ لأن هتلر كان يرى عدم إصدار تصريح وقطع عهد رسمي للعرب في الظروف الحاضرة، خشية أن يُحدِث ذلك رد فعل في بعض الأقطار الأخرى، بينما كنا نحن في حاجة إلى ما يطمئن الأمة العربية.

لم نيأس من الحصول على ذلك التصريح، وبعد مداولات ومباحثات صدر التصريح في 28 أبريل 1942 بعد موافقة هتلر، وكان التصريح يتضمن استقلال الدول العربية وإلغاء الوطن القومي لليهود.

كانت تلك التصريحات بشأن المشرق العربي، أما المغرب العربي فكانت ألمانيا ترى عدم إغضاب فرنسا وإسبانيا إذا صرحت بذلك، لكننا لم نيأس وقدمنا مشروعات عديدة تتضمن استقلال بلاد المغرب، وقلت للألمان: إن المغرب العربي مصمم على نيل استقلاله على كال حال، وإنه من الممكن أن يتعاون حتى مع الشيوعية في سبيل ذلك، فقال لي الألمان: "إن الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرًا عليها من الشيوعية؛ لأن الشيوعية يمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب، وتوزيع العدل الاجتماعي، وغير ذلك من الوسائل.

بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يخشى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة في عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تآلفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى، ويعيد التاريخ نفسه".

قررت الحكومة الألمانية إنشاء فيلق عربي 1944، وقامت بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح، ووافق هتلر على مساعدتنا بالسلاح في المعركة القابلة، ووضع تحت تصرفنا طائرات لنقل السلاح وتخزينه في فلسطين، وتدريب المجاهدين الفلسطينيين عليه، وقد وصلت بالفعل الطائرة الأولى وعليها الخبراء الألمان، وتم تخزين كمية هائلة من السلاح حوالي 30 ألف بندقية ورشاش في جزيرة رودس وفي ليبيا تمهيدًا لنقلهم إلى فلسطين، وتخزينهم في فلسطين.

في سنة 1941 وافق الألمان وحلفاؤهم على قيام الحركة الكرواتية المتطرفة "أوستاشي" بإنشاء دولة كرواتيا، وضم بوسنة وهرسك إليها.

وكان من الواضح أن الصرب لن يقبلو أن تمتد سيادة الدولة الكرواتية إلى البوسنة والهرسك حتى ولو لم تمسسهم تلك الدولة بسوء، وحدث اصطدام هائل بينهم تكبد المسلمون البوشناق خلالها أكثر الضحايا.

واتسع نطاق عدوان الصرب على المسلمين، فأصبحت البوسنة ميدانًا لمجرزة كبرى، وأصدر الجنرال ميخائيلوفيتش قائد عصابات الصرب بيانًا إلى تلك العصابات يوضح أن القصد من كفاح (الصرب) هو إيجاد حدود مشتركة مباشرة بين صربيا والجبل الأسود.

وقد كنت في روما حين وصلتني الرسائل والأنباء المحزنة والمفصلة عن الفظائع الرهيبة الجارية هناك، وعلى أثر ذلك بادرت بمراجعة وزارة الخارجية الألمانية، وأطلعت وكيلها على الوضع، فأبدى شديد أسفه، وقال: إن تلك المناطق هي في المجال الحيوى لإيطاليا، فلا يمكننا القيام بعمل جدي قبل الرجوع إليها، فسافرت إلى روما في اليوم التالي، وطلبت مقابلة موسولينى فقابلني فورًا في قصر فينيسا.

ذكرت لموسوليني أنباء المجازر الفظيعة التي تقترف في حق المسلمين، وقلت له: لو حدث جزء يسير من هذا في الشرق للأوروبيين لقامت الضجة العظيمة والدعايات.
فأبدى اهتمامًا شديدًا، وقال: إن هذا الموضوع خطير، واتصل بالسفير الألماني في روما، واتفقوا على اتخاذ جميع الوسائل لوقف هذه الحالة المؤسفة.

وبعد عودتي إلى برلين وصلتني أنباء تدل على أن المجازر مستمرة، وأن عدد القتلى بلغ مائتي ألف، وأن ضعف هذا العدد بلا مأوى، فاتصلت بالجنرال (برغر) رئيس أركان جيش الصاعقة وأقنعته بضرورة السفر فأعد لي طائرته الخاصة العسكرية، وسافرت واجتمعنا مع زعماء البوسنة والهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على البشانقه والدفاع عنهم، وافقت الحكومه الألمانيه على تجنيد الشبان منهم، وتدريبهم وتسليحهم بشرط الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم داخل بلادهم، وتم تسجيل حوالي 7 آلاف متطوع.

وتم تشكيل فرقة عسكرية بوشناقية سميت: فرقة خنجر، ثم تلا ذلك إنشاء فرقة أخرى، وبلغ عدد الفرقتين حوال 37 ألف، كما تألفت قوات محلية أخرى.

وتم الاتفاق مع السلطات الألمانيه على التالي:

1- تجنيد عدد من الشبان المسلمين في مقاطعات بوسنة وهرسك لتأليف قوات عسكرية.

2- لا تكلف هذه القوات بالقيام بأي عمل عسكري خارج بلادهم، ولا بأى مهمة غير الدفاع عن أنفسهم.

3- يناط بهذه القوة حماية النفوس والأموال من المعتدين عليهم داخل بلادهم.

4- تتعهد الحكومه الألمانية بتسليح هذه القوات وتدريبهم وبقاء السلاح مع أفرادها.

5- تكون القوات العسكرية تابعه لجيش (أس) قوات الصاعقة الألمانية.

وقد قامت القوات البوسنية بمنع المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا، وغدا الجنرال ميخائلوفيتش وغيره يدارونهم ويتوددون إليهم.

لقد درب الجيش الألماني فرقة خنجر وعند البدء في تأليف الفرقة زارنا قائد كبير مسئول عن التموين الروحي للوقوف على رأينا في موضوع التموين الروحي للفرقة البوسنوية وقال: (إن العقيدة والإيمان ضرورة أساسية في كل جيش، وإن الجندي الذي لا يتمتع بالإيمان المتين، ولا يرتبط بعقيدة ولا يدري لماذا يقاتل ويضحي بروحه لا يمكن الاعتماد عليه، وإن التموين الروحي ضرورة قصوى كالتموين المادي، بل أكثر أهمية).

وعلى أثر ذلك تم إنشاء معهد للأئمة في مدينة غوين لتوزيعهم على الفرقه، وإنشاء آخر في مدينة درسدن، ولقد تشرفت شخصيًّا بإلقاء بعض المحاضرات، وكانت أحاديثنا تتطرق إلى قضية فلسطين، فكانوا يتحرقون شوقًا إلى الجهاد في فلسطين، وبالفعل فقد جاء عدد من ضباطهم وجنودهم، وخاضوا معارك عديدة مثل معركة يافا والقسطل والمالكية وغيرها، ولو اتسع مجال الجهاد حينئذ لرأينا عشرات الألوف من هولاء الجنود يساهمون في تحرير فلسطين..

لقد عرف البوشناق بالشجاعة النادرة، شهد لهم بذلك كل من عرفهم، قال عنهم هتلر: كانو من أبسل الجنود في الجيش النمساوي، وكانت قيادة الجيش النمساوي حين تشتد الحاجة وتستعصي جبهة تستدعي الجنود البوسنيين، وهذه شهادة هتلر شخصيًّا، وقد قال: إنه رأى ذلك منهم رأي العين.

كان الألمان قد أنشؤوا معهدًا حربيًّا لتخريج شبان العرب الذين كانوا يدرسون في الجامعات الألمانية، وطلبوا أن يدربوا تدريبًا عسكريًّا وافيًا؛ ليكونوا ضباطًا يعملون على تحرير البلاد العربية، وكان عددهم 200 شاب.

بعد إتمام تدريبات الشبان قررنا إرسال بعضهم إلى فلسطين للإعداد للمعركة الحتمية، فقابلت عددًا من المسؤولين الألمان، وتم توفير السلاح، وكل ما يحتاجه الفدائيون من عشرات الألوف من الرشاشات والبنادق وأنواع المتفجرات، وخصصوا لنا أربع طائرات لنقلها إلى فلسطين.

وفي صيف 1945 أرسلنا طائرة تحمل جزءًا من هذه الأسلحة والمعدات، وتمت عملية إنزال بالمظلات، كما قمنا بإعداد مخازن في الصحراء الغربية ووضعنا فيها 30 ألف قطعة من السلاح مع ذخائرها، لكن فشل حملة روميل حالت دون الإفادة من هذه الأسلحة.

كما أن الانخداع بوعود الإنجليز وأضاليلهم والغفلة التي رانت على قلوب العرب بسبب تضليل عملاء الاستعمار أدت إلى أن الذين اعتمدوا وكلفوا بإيواء المجاهدين الهابطين بالمظلات وإخفاء ما حملوه من أسلحة امتنعوا عن الدخول في هذه المغامرة بحجة أن موقف الإنجليز قد تغير ناحية اليهود بسبب اعتدائهم على بعض الضباط الإنجليز.

في ألمانيا كانت حالة التقشف خلال الحرب جلية واضحة في المأكل والملبس، وفي كل شؤون الحياة، وكنت أرى الكثيرين من كبار رجال الدولة وعيالهم يركبون الدراجات بدلاً من السيارة لتوفير البنزين.

كان الألمان يروضون أنفسهم ويعودون أجسامهم على الخشونة والتدريبات الشاقة، ومن ذلك أنهم كانوا يحملون أطفالهم على المشي حفاة خلال أشهر الصيف؛ لما في ذلك من تدريب الأطفال على الجلد وشظف العيش.

ومما يحز في النفس أن نرى هذا الفرق العظيم والبون الشاسع بين الألمان وبين ما نعيش فيه اليوم؛ فلا تقشف، ولا تخشن، ولا تدرب، ولا سلاح، ولا استعداد لحرب
الأعداء.

إن المشروعات العمرانية الضخمة في الأقطار العربية والنهضة الاقتصادية والنفطية تدعو إلى الإعجاب، ولكنها في نفس الوقت تبعث على القلق في أن تصبح غنيمة في أيدي الأعداء إذا لم تكن لها جيوش تحميها.

إن اليهود منذ وطأت أقدامهم فلسطين وهم يسيرون على طرق خاصة من حياة التقشف والتطوير، وإنفاق الأموال على التسليح والتحصين والتدريب وبناء القواعد العسكرية، وكل وسائل القوة التي ضمنت لهم فوزهم على العرب.

الموقف النازي من اليهود

كانت ألمانيا مقر اليهودية العالمية ومركزها الرئيسي قبل الحرب العالمية الأولى، وقد حاولوا الضغط على القيصر الألماني من أجل أن يعدهم بوطن في فلسطين من خلال تفاوضه مع العثمانيين مقابل أن يقدم اليهود المساعدة لهم في الحرب، لكن العثمانيين رفضوا الطلب نهائيًّا.

لجأ اليهود إلى بريطانيا فوافقت على منحهم وعدًا بالوطن المزعوم، حينها تحول موقف اليهود في ألمانيا على حد قول هتلر: "لقد اندفعوا يعيثون فسادًا وتخريبًا في ألمانيا والجيش الألماني خاصة، وفي بلاد الدول الحليفة لها، وينشرون دعاية سلبية واسعة ليوهنوا قوى الجيش والشعب، كما شرعت المنظمات اليهودية في أعمال تدميرية واسعة لتدمير المواصلات وقطع التموين عن الجيش وأعمال الجاسوسية".

ولم يكد هتلر يستولي على السلطة 1933 حتى بادر بإنشاء معهد دراسة القضية الإسرائيلية في فرانكفورت من أجل فهم ذلك الشعب.

كان المعهد يضم نحو 70 أستاذًا من العلماء والمتخصصين في علوم التاريخ والنفس والتربية والسلالات والاجتماع... إلخ.

وقد زرت ذلك المعهد واطلعت على عدد من الوثائق الهامة لديهم، منها الخارطة التي وجدت في خزانة روتشيلد الحديدية وهي تحدد مملكة إسرائيل كلها ما بين النيل إلى الفرات، فأخذنا نسخة منها وعربناها ونشرناها.

لقد قام اليهود بإشعال الثورة والفوضى في ألمانيا تحت ستار الاشتراكية، فلما فشلوا هب من جانب آخر اليهود الرأسماليون في ألمانيا ليتولوا الزعامة فيها، وتحكموا في الشؤون الاقتصادية، وتلاعبوا بالعملة الألمانية.

لم يكتف اليهود بحرمان ألمانيا من النصر في الحرب، بل أضافوا إلى حرمانها من هدنة كريمة وصلح شريف إلى اضطرارها إلى دفع كميات هائلة من التعويضات للدول المنتصرة.

ومن الأحداث المهمة التي حدثت في ذلك الوقت تواصل الملك فاروق مع الألمان وطلبه التعاون معهم، وقد أثار هذا الحادث الإنجليز والأمريكان، فبيتوا لفاروق نية غادرة وتآمروا على خلعه.
‏٢٦‏/٠٣‏/٢٠١٨ ١٠:١٩ م‏
مذكرات درويش(١) يسرا جلال رغم أن الجو ما يزال باردًا في لندن في هذا الوقت من العام، إلا أن اللورد (كرزون) كان يتفصد عرقًا وقد انتفخت أوداجه وارتفع صوته في جلسة مجلس اللوردات: إني لم أر مسألة خطيرة كعزم الحكومة على الجلاء من قسم من الأراضي يمتد إلى طول ٣٠٠ أو ٤٠٠ كيلومتر ويمتد عرضًا إلى ٢٩٩ كيلومتر ويتردد عدد سكانه إلى ٢٠٠ أو ٣٠٠ ألف نسمة انبسطت عليهم حماية إنجلترا منذ أكثر من ربع قرن! إن إنجلترا ضحت كثيرًا في سبيل الصومال من رجال وأموال.. حيث أنفقت ثلاثة إلى أربعة ملايين من الجنيهات الإنجليزية . واليوم تريد أن تترك الصومال للمُلا حتى يكون صاحب الأمر والنهي فيه! (1) يبدو أن اللورد على حق فقد أنفقوا الكثير للسيطرة على القرن الإفريقي منذ العام ١٨٣٩، ويبدو أن ما أنفقوه سيكون عليهم حسرة ثم يغلبون.. يغلب على أراضينا في الصومال مناخ صحراوي جاف يسهل معه أن تتخيل إنجليزياً أحمر اللون مختنقًا من ارتفاع نسبة الرطوبة، أبعد أن اختنق جنودها في الصومال تتركها ببساطة؟ تطلب الأمر من بريطانيا مواجهة غريمتها التقليدية فرنسا لتتقاسما سويًا حكم الصومال مع الإيطاليين والأحباش. كما كلفها ذلك مواجهة الثائر الصومالي المُلا محمد بن عبدالله بن حسن نور. قضى الملا شبابه في تعلم العلوم الشرعية والأدب متنقلًا في أنحاء البلاد الصومالية لا يسمع عن شيخ إلا وقصده ونهل من علمه. وكانت رحلته للحج علامة فارقة في تاريخ الأمة الصومالية. فهناك في الحجاز تعاهد مع رفاقه على محاربة الغزاة من "الدول الأربع التي تقتسم بلادنا وتستعبد أبناءنا وتهيننا في أرضنا وتفسد أخلاقنا، وتزيف عقائدنا، وتسخر شعبنا كله لمصالحها الاستعمارية"(2). عاد الملا من رحلة الحج وقلبه يحمل عزيمة للجهاد وسار يخطب بين الناس في مساجد القوم وأنديتهم.. يزكي القلوب ويحض على الجهاد ويحارب التنصير ويفضح من أسماهم (علماء السوء) الساكتين عن الاستعمار المهادنين له. كنت في بربرة في ذلك اليوم حين لمحته واقفًا بين الجموع يذكرهم أن المستعمر في بلادنا فتنة اختبرنا الله تعالى بها ليعلم منا المؤمن والمنافق. كانت هذه أول مرة أراه يتكلم فيها، أذكر أنه قال:” أنا أعلم وأنتم تعلمون أن منا وفينا من يبيعون بلادهم، لأعدائهم وأعداء بلادهم وكتابهم، ثم يدعون زعامة خيالية وهمية، وأن منا وفينا علماء دجالين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفتون الناس بأن طاعة الدول المستعمرة واجبة لأنهم من أولي الأمر الذين قال الله فيهم:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}"(3). كانت كلماته صفعة أفاقتني وكأنني أسمع هذه الآيات للمرة الأولى. أسرعت إليه بعد أن أنهى كلمته وأوصاني بالانتظام في مدرسته هنا في بربرة. بعد تخرجي في المدرسة انتظمت معه في فرقته الخاصة التي أسماها (الدراويش)، وكنا نتدرب على مهارات القتال تمامًا كما نتدارس كتاب الله، كنت مسئولًا بشكل أساسي عن استئجار الحدادين الذين يجهزون جيش الدراويش بالرماح والسيوف والنبال والخناجر، كما أوكل إليّ المُلا مهامًا عديدة وكنت من تلاميذه المقربين . *** سبتمبر ١٨٩٩. استلمت من المُلا محمد أوراقًا وأقلامًا وقناني حبر، وطلب إليّ كتابة يوميات فرقة الدراويش، يبدو أن المُلا يدرك أننا نصنع التاريخ . ما زال المُلا حريصًا على النأي بنفسه وبفرقته من الدراويش عن الدخول في أية معركة قبل تمام الاستعداد... وكتب في رسالة إلى الإنجليز إننا نحن الدراويش "نحب المصالحة، ولكن لا نقبلها إذا كانت على حساب بلادنا وديننا وشرفنا". وقال بوضوح: "ونحن ننتظر منكم إما حربًا معلنة وإما صلحًا لا خداع فيه ولا خيانة". (4). *** ديسمبر،١٨٩٩. اعتبرت الحكومة البريطانية رسالة الملا إعلانًا للحرب وجهزت جيشًا قوامه جنودها الأوروبيين والهنود والصوماليين، كما اتفقت مع الحبشة وإيطاليا وفرنسا على مساعدتها في حصار الدراويش. *** مارس، ١٩٠٠. لم أنم في الليلة الماضية، قضيت الليلة رافعًا يدي إلى السماء مبتهلًا إلى الله أن يجعل النصر غدًا حليفنا. تغشاني هيبة عندما أتذكر موعدنا المضروب غدًا للقاء الإنجليز، ثم ما ألبث أن أذكر أني عبد وهم عُبَّاد للكبير القهار فأعود لأستحيي من ربي.. اللهم اكتب لنا النصر على أعدائك. وقدر الله أننا لم نواجه الإنجليز في (جكجكا)، واجهنا الأحباش بدلًا عنهم. أخبرنا المُلا أن هذه هي طريقة الإنجليز، يستخدمون حلفائهم في الضربات الأولى وعندما يتأكدون من إنهاك الخصم يضربون ضربتهم القاصمة، ولذا فقد أوعزوا إلى الأحباش بالهجوم، ولكن الله ردهم خائبين. الله أكبر.. رأيتهم بعيني ينسحبون يجرون أذيال الخيبة والذعر في أعينهم، إعجابي بهذا الرجل وسعة علمه وعزته ويقينه بنصر الله يزداد يومًا بعد يوم. ** عفاروين، ١٩٠٣. انشغلنا كثيرًا بالقتال طوال الأعوام السابقة؛ فلم أتمكن من التدوين علّني أتمكن من تعويض هذا الخلل في التدوين، على أية حال سأوجز لكم ما أنوي بسطه لاحقًا.. أدرك الإنجليز بعد (جكجكا) بسالة فرقة الدراويش فكان الهجوم التالي علينا مشتركًا بينهم وبين الأحباش. توالت المعارك بيننا وبينهم في (فرطدن)، و(أفبكيل)، وكان النصر حليفنا بفضل الله. كان أبطال الدراويش يضربون كل يوم مثلًا جديدًا في الحماس والفداء، كان معنا رجل مسن يزيد عمره على السبعين عامًا، لم يكن معه سلاح، اندفع مكبرًا إلى ساحة المعركة ملوحٍا بعصاة كبيرة ضرب بها رأس إنجليزي فسقطت خوذته وانتزع منه بندقيته وأخذ يقاتل بها طوال المعركة. أما معركة (بيرطكا) فقد كانت منة من الله؛ إذ هرب القائد العام (سواين) وعزلوه عن القيادة العامة وعينوا مكانه قائدًا جديدًا. ويبدو أن هذا الأخير مصر على الانتقام، فاليوم عند لقائنا في (عفاروين) كان الجنود الإنجليز قد ربط كل واحد منهم إلى صاحبه حتى لا يفروا من أرض المعركة، وألصقنا على أسلحتنا ورقة تحمل قول الشاعر: في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة والمرء بالجبن لا ينجو من القدر ثم رفعنا أصواتنا بالتكبير وانقضضنا عليهم كالأسود والخناجر في أيدينا، ولم يخرج حيًا من هذه المعركة سوى ترجمانهم الصومالي الذي أصيب بطعنات سبع ثم تماوت بين القتلى. ** بربرة، ١٩٠٤ أرسل المُلا في طلبي وطلب الاطلاع على ما كتبت، شجعني على مواصلة التدوين وسلمني قناني حبر جديدة. انتصارنا الأخير في عفاروين دفع الطليان لطلب الصلح من الملا، بل إنهم سعوا ليكونوا ممثلين عن الأحباش والإنجليز، راسلوا الملا عدة مرات بشأن الصلح ولكنه كان يتعمد عدم الرد عليهم إذ لم يكن يريد فتح باب المفاوضات مع عدم تكافؤ القوتين، كان يريد للمفاوضات أن تكون ندًا لند لا قويًا لضعيف. ناقشناه كثيرًا في أمر المفاوضات، كنت أثق في رأيه ولكن هذا لا يمنع أن في قلبي غصة من التفاوض معهم، لم نكن نريد صلحًا مع هؤلاء، إما يغادروا بلادنا ويتوقفوا عن تنصير شعبنا وإما حربًا لا هوادة فيها. قال الملا لنا إن الهدنة فرصة لنتمكن من إقامة أكبر عدد ممكن من القلاع والحصون. كما أنها فرصة لحوار هادئ مع جيراننا الأحباش نقنعهم فيه بالعدول عن مناصرة المستعمرين؛ فالرجل الأبيض لا ينوي الخير للرجل الإفريقي. لا أخفيكم أني وإخواني من الدراويش لا نثق في هؤلاء، ولكن مستشاري المُلا أوصوه بالمضي قدمًا في عقد الهدنة، لن أحكم الآن ننتظر ونرى.. يتبع.. ـــــــــــــــــــــــ 1)ثائر من الصومال، د.عبدالصبور مرزوق، ص١٥٦، بيت المقدس 2)المصدر السابق، ص٢٦. 3)السابق، ص٣٧. 4)السابق، ص٤٥.
مذكرات درويش(١)

يسرا جلال

رغم أن الجو ما يزال باردًا في لندن في هذا الوقت من العام، إلا أن اللورد (كرزون) كان يتفصد عرقًا وقد انتفخت أوداجه وارتفع صوته في جلسة مجلس اللوردات: إني لم أر مسألة خطيرة كعزم الحكومة على الجلاء من قسم من الأراضي يمتد إلى طول ٣٠٠ أو ٤٠٠ كيلومتر ويمتد عرضًا إلى ٢٩٩ كيلومتر ويتردد عدد سكانه إلى ٢٠٠ أو ٣٠٠ ألف نسمة انبسطت عليهم حماية إنجلترا منذ أكثر من ربع قرن! إن إنجلترا ضحت كثيرًا في سبيل الصومال من رجال وأموال.. حيث أنفقت ثلاثة إلى أربعة ملايين من الجنيهات الإنجليزية . واليوم تريد أن تترك الصومال للمُلا حتى يكون صاحب الأمر والنهي فيه! (1)

يبدو أن اللورد على حق فقد أنفقوا الكثير للسيطرة على القرن الإفريقي منذ العام ١٨٣٩، ويبدو أن ما أنفقوه سيكون عليهم حسرة ثم يغلبون.. يغلب على أراضينا في الصومال مناخ صحراوي جاف يسهل معه أن تتخيل إنجليزياً أحمر اللون مختنقًا من ارتفاع نسبة الرطوبة، أبعد أن اختنق جنودها في الصومال تتركها ببساطة؟ تطلب الأمر من بريطانيا مواجهة غريمتها التقليدية فرنسا لتتقاسما سويًا حكم الصومال مع الإيطاليين والأحباش. كما كلفها ذلك مواجهة الثائر الصومالي المُلا محمد بن عبدالله بن حسن نور.

قضى الملا شبابه في تعلم العلوم الشرعية والأدب متنقلًا في أنحاء البلاد الصومالية لا يسمع عن شيخ إلا وقصده ونهل من علمه. وكانت رحلته للحج علامة فارقة في تاريخ الأمة الصومالية. فهناك في الحجاز تعاهد مع رفاقه على محاربة الغزاة من "الدول الأربع التي تقتسم بلادنا وتستعبد أبناءنا وتهيننا في أرضنا وتفسد أخلاقنا، وتزيف عقائدنا، وتسخر شعبنا كله لمصالحها الاستعمارية"(2).

عاد الملا من رحلة الحج وقلبه يحمل عزيمة للجهاد وسار يخطب بين الناس في مساجد القوم وأنديتهم.. يزكي القلوب ويحض على الجهاد ويحارب التنصير ويفضح من أسماهم (علماء السوء) الساكتين عن الاستعمار المهادنين له.

كنت في بربرة في ذلك اليوم حين لمحته واقفًا بين الجموع يذكرهم أن المستعمر في بلادنا فتنة اختبرنا الله تعالى بها ليعلم منا المؤمن والمنافق. كانت هذه أول مرة أراه يتكلم فيها، أذكر أنه قال:” أنا أعلم وأنتم تعلمون أن منا وفينا من يبيعون بلادهم، لأعدائهم وأعداء بلادهم وكتابهم، ثم يدعون زعامة خيالية وهمية، وأن منا وفينا علماء دجالين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفتون الناس بأن طاعة الدول المستعمرة واجبة لأنهم من أولي الأمر الذين قال الله فيهم:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}"(3).

كانت كلماته صفعة أفاقتني وكأنني أسمع هذه الآيات للمرة الأولى. أسرعت إليه بعد أن أنهى كلمته وأوصاني بالانتظام في مدرسته هنا في بربرة.

بعد تخرجي في المدرسة انتظمت معه في فرقته الخاصة التي أسماها (الدراويش)، وكنا نتدرب على مهارات القتال تمامًا كما نتدارس كتاب الله، كنت مسئولًا بشكل أساسي عن استئجار الحدادين الذين يجهزون جيش الدراويش بالرماح والسيوف والنبال والخناجر، كما أوكل إليّ المُلا مهامًا عديدة وكنت من تلاميذه المقربين .

***

سبتمبر ١٨٩٩.

استلمت من المُلا محمد أوراقًا وأقلامًا وقناني حبر، وطلب إليّ كتابة يوميات فرقة الدراويش، يبدو أن المُلا يدرك أننا نصنع التاريخ . ما زال المُلا حريصًا على النأي بنفسه وبفرقته من الدراويش عن الدخول في أية معركة قبل تمام الاستعداد... وكتب في رسالة إلى الإنجليز إننا نحن الدراويش "نحب المصالحة، ولكن لا نقبلها إذا كانت على حساب بلادنا وديننا وشرفنا". وقال بوضوح: "ونحن ننتظر منكم إما حربًا معلنة وإما صلحًا لا خداع فيه ولا خيانة". (4).

***

ديسمبر،١٨٩٩.

اعتبرت الحكومة البريطانية رسالة الملا إعلانًا للحرب وجهزت جيشًا قوامه جنودها الأوروبيين والهنود والصوماليين، كما اتفقت مع الحبشة وإيطاليا وفرنسا على مساعدتها في حصار الدراويش.

***

مارس، ١٩٠٠.

لم أنم في الليلة الماضية، قضيت الليلة رافعًا يدي إلى السماء مبتهلًا إلى الله أن يجعل النصر غدًا حليفنا. تغشاني هيبة عندما أتذكر موعدنا المضروب غدًا للقاء الإنجليز، ثم ما ألبث أن أذكر أني عبد وهم عُبَّاد للكبير القهار فأعود لأستحيي من ربي.. اللهم اكتب لنا النصر على أعدائك.

وقدر الله أننا لم نواجه الإنجليز في (جكجكا)، واجهنا الأحباش بدلًا عنهم. أخبرنا المُلا أن هذه هي طريقة الإنجليز، يستخدمون حلفائهم في الضربات الأولى وعندما يتأكدون من إنهاك الخصم يضربون ضربتهم القاصمة، ولذا فقد أوعزوا إلى الأحباش بالهجوم، ولكن الله ردهم خائبين. الله أكبر.. رأيتهم بعيني ينسحبون يجرون أذيال الخيبة والذعر في أعينهم، إعجابي بهذا الرجل وسعة علمه وعزته ويقينه بنصر الله يزداد يومًا بعد يوم.

**

عفاروين، ١٩٠٣.

انشغلنا كثيرًا بالقتال طوال الأعوام السابقة؛ فلم أتمكن من التدوين علّني أتمكن من تعويض هذا الخلل في التدوين، على أية حال سأوجز لكم ما أنوي بسطه لاحقًا.. أدرك الإنجليز بعد (جكجكا) بسالة فرقة الدراويش فكان الهجوم التالي علينا مشتركًا بينهم وبين الأحباش. توالت المعارك بيننا وبينهم في (فرطدن)، و(أفبكيل)، وكان النصر حليفنا بفضل الله. كان أبطال الدراويش يضربون كل يوم مثلًا جديدًا في الحماس والفداء، كان معنا رجل مسن يزيد عمره على السبعين عامًا، لم يكن معه سلاح، اندفع مكبرًا إلى ساحة المعركة ملوحٍا بعصاة كبيرة ضرب بها رأس إنجليزي فسقطت خوذته وانتزع منه بندقيته وأخذ يقاتل بها طوال المعركة. أما معركة (بيرطكا) فقد كانت منة من الله؛ إذ هرب القائد العام (سواين) وعزلوه عن القيادة العامة وعينوا مكانه قائدًا جديدًا.

ويبدو أن هذا الأخير مصر على الانتقام، فاليوم عند لقائنا في (عفاروين) كان الجنود الإنجليز قد ربط كل واحد منهم إلى صاحبه حتى لا يفروا من أرض المعركة، وألصقنا على أسلحتنا ورقة تحمل قول الشاعر:

في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة
والمرء بالجبن لا ينجو من القدر

ثم رفعنا أصواتنا بالتكبير وانقضضنا عليهم كالأسود والخناجر في أيدينا، ولم يخرج حيًا من هذه المعركة سوى ترجمانهم الصومالي الذي أصيب بطعنات سبع ثم تماوت بين القتلى.

**

بربرة، ١٩٠٤

أرسل المُلا في طلبي وطلب الاطلاع على ما كتبت، شجعني على مواصلة التدوين وسلمني قناني حبر جديدة.

انتصارنا الأخير في عفاروين دفع الطليان لطلب الصلح من الملا، بل إنهم سعوا ليكونوا ممثلين عن الأحباش والإنجليز، راسلوا الملا عدة مرات بشأن الصلح ولكنه كان يتعمد عدم الرد عليهم إذ لم يكن يريد فتح باب المفاوضات مع عدم تكافؤ القوتين، كان يريد للمفاوضات أن تكون ندًا لند لا قويًا لضعيف.

ناقشناه كثيرًا في أمر المفاوضات، كنت أثق في رأيه ولكن هذا لا يمنع أن في قلبي غصة من التفاوض معهم، لم نكن نريد صلحًا مع هؤلاء، إما يغادروا بلادنا ويتوقفوا عن تنصير شعبنا وإما حربًا لا هوادة فيها.

قال الملا لنا إن الهدنة فرصة لنتمكن من إقامة أكبر عدد ممكن من القلاع والحصون. كما أنها فرصة لحوار هادئ مع جيراننا الأحباش نقنعهم فيه بالعدول عن مناصرة المستعمرين؛ فالرجل الأبيض لا ينوي الخير للرجل الإفريقي.

لا أخفيكم أني وإخواني من الدراويش لا نثق في هؤلاء، ولكن مستشاري المُلا أوصوه بالمضي قدمًا في عقد الهدنة، لن أحكم الآن ننتظر ونرى..

يتبع..

ـــــــــــــــــــــــ
1)ثائر من الصومال، د.عبدالصبور مرزوق، ص١٥٦، بيت المقدس
2)المصدر السابق، ص٢٦.
3)السابق، ص٣٧.
4)السابق، ص٤٥.
‏٢٤‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٩:١٧ م‏
تفتيت أدوات السلطة (2) حق العقاب د. @[618980873:2048:عمرو عادل] [لتحميل العدد الأخير: https://goo.gl/5pdPnR] يعتبر العقاب أحد أكبر مظاهر السلطة، وهو يعبر عن أقصى درجات هيمنتها وسيطرتها على المجتمع، ولا يختلف ذلك في كافة أنظمة الحكم عبر التاريخ، ويمكن بدرجة ما قياس مدى سطوة النظام الحاكم بقدرته على إنفاذ العقاب فيمن يريد، ولا يوجد فارق كبير في هذا المعنى بين أكثر الدول ديكتاتورية وأكثرها حرية - من حيث علاقة السلطة بحق العقاب - ولكن يظهر الفارق في علاقة العدالة بالقانون بالأخلاق، وهذا موضوع فيه الكثير من الكلام ليس هذا محله. ما يهمنا الآن هو علاقة العقاب والقانون والسلطة وما هي العوامل الحدِّية التي تدفع المجتمع إلى وجوب انتزاع حق العقاب من السلطة؟ أو على الأقل الرفض الإيجابي وبناء منظومة عدالة موازية، وبالتالي يظهر تساؤل؛ هل حالة مصر بل ربما كل المنطقة العربية تستدعي ذلك؟ إن القانون هو نصوص تعبر عن إرادة الأقوى، وفي النظام الحديث لا يوجد ما هو أقوى من الدولة ومؤسساتها، ولذلك هي صاحبة الحق في وضع القانون، وهو يتغير طبقاً لمن في رأس السلطة وطبقاً للمصالح التي يراها. ولذلك؛ فالنظام التشريعي الإسلامي الذي يفصل كل المنظومة التشريعية تقريباً عن الدولة ويجعلها جزءاً من نسيج المجتمع، يعتبر واحداً من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية ومانعاً كبيراً ضد استبداد السلطة باستخدام نصوص القانون. نعود للوضع الحالي؛ فالنظام الحديث للدولة في سلطاته الثلاث – حتى في الدول الديمقراطية – لم يعد قادراً على الادعاء بالفصل الحقيقي بينها، وهي – كما في أدبيات اليسار – تعتبر وهماً كبيراً وأداة لاستنزاف الطبقات الأكثر فقراً والأقل في المستوى الاجتماعي، وهذه المؤسسات الثلاث – بدرجات متفاوتة – أصبحت منظومة إنتاج قوانين تزيد من قدرات السيطرة للسلطة "البرجوازية" وإضعاف شديد لقدرة المجتمع على الصمود والتحرر. والوضع في الدول الاستبدادية أكثر قسوة، فلم يعد الخلل فقط بنيوياً في طبيعة النظام؛ بل زادت المأساة بغياب هذا الفصل النظري الوهمي، وأصبحت علنية استخدام كافة أدوات السلطة وأهمها حق العقاب؛ أداة انتقام وتدمير وقتل تماماً كمدافع الهاون والكلاشنكوف، وتحولت كل المؤسسات ومنها المؤسسات القانونية لأدوات قتل مباشر ضد المجتمع. فالسلطة المنفصلة تماماً عن المجتمع تنتج قوانين لحماية وجودها، وبالتالي فهي قادرة على العقاب على أي فعل تراه مضاداً لها، وأصبح القانون منفصلاً عن العدالة وليس له علاقة بالتبعية بالأخلاق، ولهذا فإن عد المنظومة القانونية بكل أذرعها – الشرطة والنيابة والقضاء – منظومة قمع بل وقتل =حق مطلق لكل المجتمع غير الموجود في مساحة السلطة، وفي هذه الحالة يجب على القوى المجتمعية الحرة التي تسعى إلى الخلاص العمل على تفتيت تلك المؤسسات الثلاث كجزء من تفتيت أداوت السلطة، وهو أحد المسارات الضرورية للثورة. فهناك مساران رئيسيان لأي عمل مقاوم، الأول هو تقوية بنية المجتمع المقاوم، والثاني هو إضعاف السلطة لأقصى درجة ممكنة عن طريق معرفة أدواتها والعمل على تفتيتها. وتنشأ هنا أزمة غياب القوانين المنظمة لحياة البشر، فبعد أن قامت السلطة الحديثة بتفتيت قدرات المجتمع وانتزاع كافة أدواته لصالحها؛ أصبح غياب منظومة قانونية حتى لو ظالمة – من وجهة نظر البعض – كارثة أكبر من الظلم؛ قد يكون ذلك مقبولاً في مستوى معين، أما مع تحول تلك المنظومة إلى عصابات مسلحة فهذا الكلام يعتبر حالة من الجنون أو على أقل تقدير غياب كامل للمنطق والعقل. وما أراه أن القوى المجتمعية يجب أن تقوم بعدة إجراءات في مسار تفتيت السلطة للمؤسسات الثلاث الشرطة والنيابة والقضاء. أولا: على المستوى الفكري 1- يجب الإيمان المطلق أن المجتمعات قادرة على إدارة نفسها وعلى حماية نفسها بدون الدولة وخاصة المستبدة، وهناك الكثير من التجارب تشير إلى أن المجتمعات تكون أكثر أماناً في غياب دولة الاستبداد، وقد عاش المصريون ذلك في أثناء يناير 2011 عندما اختفت المؤسسات الثلاث وقام الشعب بإدارة نفسه ونجح بنسبة كبيرة. 2- إدراك أن تكلفة بقاء الوضع الكارثي سيذهب بنا إلى الجحيم الكامل، وأن بقاء سيطرة النظام المستبد على مسارات القانون والعقاب نتائجه أسوأ بمراحل كثيرة من غيابها، مهما كان حجم ما يمكن حدوثه. 3- الخروج من حالة الرعب المصنوع الذي تصنعه الأنظمة بأن غيابها يساوي الفوضى والموت للمجتمع، وأن وجودهم هو الحامي الأوحد للبشر. 4- الإيمان بأن الأخلاق والعدالة هما رفيقا السلطة، وأن غيابهما يحول السلطة إلى حالة من استعباد البشر، والدين الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية هو الفيصل في قضايا الأخلاق والعدالة، ولذلك لن يتحقق تحرر إلا بربط السلطة والعدالة والأخلاق تحت مظلة القيم والنظام الإسلامي في تلك المجتمعات. 5- المتخصصون في هذا المجال عليهم نشر ما يطرحونه من نظم وأفكار بديلة متوافقة مع الواقع ومستوحاة من نظام ما قبل الدولة الحديثة وينشرونها بقطاعات المجتمع، مثل القضاء العرفي ونظام المحاكم المحلية وغيرها من الإجراءات التي تعيد نسج النظام القضائي بالمجتمع. أما على المستوى الإجرائي ضد ما تسمى مؤسسات العدالة الثلاث "الشرطة والنيابة والقضاء" فيمكن توضيحها كالتالي: 1- التعامل مع مؤسسة الشرطة بكل أفرادها كمؤسسة معادية للشعب وأحد أدوات القمع المباشر، ونشر تلك الفكرة داخل أكبر عدد ممكن من القطاعات الشعبية يحتاج للكثير من الوقت، ولكن استمرار الدفع بها وترويجها الدائم أحد أكبر الأمور الممهدة للثورة. 2- تقليل التعامل بأكبر قدر متاح مع كافة عناصر الشرطة بالدول المستبدة، وإظهار الاحتقار الدائم لكل أفراد القطاع داخل الأسرة والشارع والأماكن العامة دون الاحتكاك بهم، فالتجاهل أحد أقوى وسائل الاحتقار. 3- البدء في بناء تنظيمات محلية لإدارة العمل الشرطي واكتساب خبرات الحماية والتأمين، وهي متاحة بقدر مقبول في الفضاء المعلوماتي، وهذه التنظيمات المحلية تستطيع القيام بدور الشرطة في بداية المد الثوري، وتستطيع حماية المجتمع من العصابات الشرطية وأتباعها المنظمين الموجودين أصلا لإحداث أكبر قدر من الفوضى عند سيطرة الشعب. 4- رصد كافة المراكز الشرطية على مستوى البلاد والتخطيط لحصارها وشل حركتها عند بداية المد الثوري. هذه الأمور تحتاج لقدر كبير من العمل لا يوجد من يقوم بها سوى الشعب، وفكرة انتظار قيام أحد من الفضاء بهذه المهمة، هو أحد وسائل الثورة المضادة للحفاظ على الوضع الحالي. أما قطاعي القضاء والنيابة العامة فيمكن عمل التالي: 1- البدء – والبدء فوراً – في بناء منظومة قضاء موازي داخل نسيج المجتمع بالاستعانة بالخبراء في هذا المجال. 2- تقليل التعامل مع المحاكم والنظم القانونية إلى أقل درجة ممكنة، والاعتماد على القوى المجتمعية بكافة أشكالها في الحصول على الحقوق أو التسوية بين الأطراف. 3- الاستمرار في فضح كافة الكوارث التي تقوم بها المؤسستان بكل الطرق المتاحة. 4- الاستمرار في نزع ثقة الجماهير في تلك المؤسسات وتدمير الاعتقاد بأنها مؤسسات للعدالة أو أنها مؤسسات بالأساس. 5- فصل بين القانون والنصوص وتطبيقها من ناحية؛ وبين فكرة العدالة من ناحية أخرى، وأن القانون أصبح لا يتجاوز كونه وسيلة لتحطيم المجتمع ووسيلة لوأد العدالة. إن كل ذلك يحتاج بالأساس إلى الإيمان بضرورته وأنه حتمي في مسار طويل لإعادة انتزاع حقوق الجميع ولانتزاع حق الحياة الذي دمرته هذه السلطة المتمردة على إرادة الشعب، إن هذا الطريق يبدأ بخطوة إدراك حتميته مهما كان طويلاً وأن البدء به تأخر طويلاً ولكننا لا نمتلك رفاهية تجاوزه.
تفتيت أدوات السلطة (2)
حق العقاب

د. عمرو عادل

[لتحميل العدد الأخير:
https://goo.gl/5pdPnR]


يعتبر العقاب أحد أكبر مظاهر السلطة، وهو يعبر عن أقصى درجات هيمنتها وسيطرتها على المجتمع، ولا يختلف ذلك في كافة أنظمة الحكم عبر التاريخ، ويمكن بدرجة ما قياس مدى سطوة النظام الحاكم بقدرته على إنفاذ العقاب فيمن يريد، ولا يوجد فارق كبير في هذا المعنى بين أكثر الدول ديكتاتورية وأكثرها حرية - من حيث علاقة السلطة بحق العقاب - ولكن يظهر الفارق في علاقة العدالة بالقانون بالأخلاق، وهذا موضوع فيه الكثير من الكلام ليس هذا محله.

ما يهمنا الآن هو علاقة العقاب والقانون والسلطة وما هي العوامل الحدِّية التي تدفع المجتمع إلى وجوب انتزاع حق العقاب من السلطة؟ أو على الأقل الرفض الإيجابي وبناء منظومة عدالة موازية، وبالتالي يظهر تساؤل؛ هل حالة مصر بل ربما كل المنطقة العربية تستدعي ذلك؟

إن القانون هو نصوص تعبر عن إرادة الأقوى، وفي النظام الحديث لا يوجد ما هو أقوى من الدولة ومؤسساتها، ولذلك هي صاحبة الحق في وضع القانون، وهو يتغير طبقاً لمن في رأس السلطة وطبقاً للمصالح التي يراها. ولذلك؛ فالنظام التشريعي الإسلامي الذي يفصل كل المنظومة التشريعية تقريباً عن الدولة ويجعلها جزءاً من نسيج المجتمع، يعتبر واحداً من أهم مظاهر الحضارة الإسلامية ومانعاً كبيراً ضد استبداد السلطة باستخدام نصوص القانون.

نعود للوضع الحالي؛ فالنظام الحديث للدولة في سلطاته الثلاث – حتى في الدول الديمقراطية – لم يعد قادراً على الادعاء بالفصل الحقيقي بينها، وهي – كما في أدبيات اليسار – تعتبر وهماً كبيراً وأداة لاستنزاف الطبقات الأكثر فقراً والأقل في المستوى الاجتماعي، وهذه المؤسسات الثلاث – بدرجات متفاوتة – أصبحت منظومة إنتاج قوانين تزيد من قدرات السيطرة للسلطة "البرجوازية" وإضعاف شديد لقدرة المجتمع على الصمود والتحرر.

والوضع في الدول الاستبدادية أكثر قسوة، فلم يعد الخلل فقط بنيوياً في طبيعة النظام؛ بل زادت المأساة بغياب هذا الفصل النظري الوهمي، وأصبحت علنية استخدام كافة أدوات السلطة وأهمها حق العقاب؛ أداة انتقام وتدمير وقتل تماماً كمدافع الهاون والكلاشنكوف، وتحولت كل المؤسسات ومنها المؤسسات القانونية لأدوات قتل مباشر ضد المجتمع.

فالسلطة المنفصلة تماماً عن المجتمع تنتج قوانين لحماية وجودها، وبالتالي فهي قادرة على العقاب على أي فعل تراه مضاداً لها، وأصبح القانون منفصلاً عن العدالة وليس له علاقة بالتبعية بالأخلاق، ولهذا فإن عد المنظومة القانونية بكل أذرعها – الشرطة والنيابة والقضاء – منظومة قمع بل وقتل =حق مطلق لكل المجتمع غير الموجود في مساحة السلطة، وفي هذه الحالة يجب على القوى المجتمعية الحرة التي تسعى إلى الخلاص العمل على تفتيت تلك المؤسسات الثلاث كجزء من تفتيت أداوت السلطة، وهو أحد المسارات الضرورية للثورة.

فهناك مساران رئيسيان لأي عمل مقاوم، الأول هو تقوية بنية المجتمع المقاوم، والثاني هو إضعاف السلطة لأقصى درجة ممكنة عن طريق معرفة أدواتها والعمل على تفتيتها.

وتنشأ هنا أزمة غياب القوانين المنظمة لحياة البشر، فبعد أن قامت السلطة الحديثة بتفتيت قدرات المجتمع وانتزاع كافة أدواته لصالحها؛ أصبح غياب منظومة قانونية حتى لو ظالمة – من وجهة نظر البعض – كارثة أكبر من الظلم؛ قد يكون ذلك مقبولاً في مستوى معين، أما مع تحول تلك المنظومة إلى عصابات مسلحة فهذا الكلام يعتبر حالة من الجنون أو على أقل تقدير غياب كامل للمنطق والعقل.

وما أراه أن القوى المجتمعية يجب أن تقوم بعدة إجراءات في مسار تفتيت السلطة للمؤسسات الثلاث الشرطة والنيابة والقضاء.

أولا: على المستوى الفكري


1- يجب الإيمان المطلق أن المجتمعات قادرة على إدارة نفسها وعلى حماية نفسها بدون الدولة وخاصة المستبدة، وهناك الكثير من التجارب تشير إلى أن المجتمعات تكون أكثر أماناً في غياب دولة الاستبداد، وقد عاش المصريون ذلك في أثناء يناير 2011 عندما اختفت المؤسسات الثلاث وقام الشعب بإدارة نفسه ونجح بنسبة كبيرة.

2- إدراك أن تكلفة بقاء الوضع الكارثي سيذهب بنا إلى الجحيم الكامل، وأن بقاء سيطرة النظام المستبد على مسارات القانون والعقاب نتائجه أسوأ بمراحل كثيرة من غيابها، مهما كان حجم ما يمكن حدوثه.

3- الخروج من حالة الرعب المصنوع الذي تصنعه الأنظمة بأن غيابها يساوي الفوضى والموت للمجتمع، وأن وجودهم هو الحامي الأوحد للبشر.

4- الإيمان بأن الأخلاق والعدالة هما رفيقا السلطة، وأن غيابهما يحول السلطة إلى حالة من استعباد البشر، والدين الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية هو الفيصل في قضايا الأخلاق والعدالة، ولذلك لن يتحقق تحرر إلا بربط السلطة والعدالة والأخلاق تحت مظلة القيم والنظام الإسلامي في تلك المجتمعات.

5- المتخصصون في هذا المجال عليهم نشر ما يطرحونه من نظم وأفكار بديلة متوافقة مع الواقع ومستوحاة من نظام ما قبل الدولة الحديثة وينشرونها بقطاعات المجتمع، مثل القضاء العرفي ونظام المحاكم المحلية وغيرها من الإجراءات التي تعيد نسج النظام القضائي بالمجتمع.

أما على المستوى الإجرائي ضد ما تسمى مؤسسات العدالة الثلاث "الشرطة والنيابة والقضاء" فيمكن توضيحها كالتالي:

1- التعامل مع مؤسسة الشرطة بكل أفرادها كمؤسسة معادية للشعب وأحد أدوات القمع المباشر، ونشر تلك الفكرة داخل أكبر عدد ممكن من القطاعات الشعبية يحتاج للكثير من الوقت، ولكن استمرار الدفع بها وترويجها الدائم أحد أكبر الأمور الممهدة للثورة.

2- تقليل التعامل بأكبر قدر متاح مع كافة عناصر الشرطة بالدول المستبدة، وإظهار الاحتقار الدائم لكل أفراد القطاع داخل الأسرة والشارع والأماكن العامة دون الاحتكاك بهم، فالتجاهل أحد أقوى وسائل الاحتقار.

3- البدء في بناء تنظيمات محلية لإدارة العمل الشرطي واكتساب خبرات الحماية والتأمين، وهي متاحة بقدر مقبول في الفضاء المعلوماتي، وهذه التنظيمات المحلية تستطيع القيام بدور الشرطة في بداية المد الثوري، وتستطيع حماية المجتمع من العصابات الشرطية وأتباعها المنظمين الموجودين أصلا لإحداث أكبر قدر من الفوضى عند سيطرة الشعب.

4- رصد كافة المراكز الشرطية على مستوى البلاد والتخطيط لحصارها وشل حركتها عند بداية المد الثوري.

هذه الأمور تحتاج لقدر كبير من العمل لا يوجد من يقوم بها سوى الشعب، وفكرة انتظار قيام أحد من الفضاء بهذه المهمة، هو أحد وسائل الثورة المضادة للحفاظ على الوضع الحالي.

أما قطاعي القضاء والنيابة العامة فيمكن عمل التالي:

1- البدء – والبدء فوراً – في بناء منظومة قضاء موازي داخل نسيج المجتمع بالاستعانة بالخبراء في هذا المجال.

2- تقليل التعامل مع المحاكم والنظم القانونية إلى أقل درجة ممكنة، والاعتماد على القوى المجتمعية بكافة أشكالها في الحصول على الحقوق أو التسوية بين الأطراف.

3- الاستمرار في فضح كافة الكوارث التي تقوم بها المؤسستان بكل الطرق المتاحة.

4- الاستمرار في نزع ثقة الجماهير في تلك المؤسسات وتدمير الاعتقاد بأنها مؤسسات للعدالة أو أنها مؤسسات بالأساس.

5- فصل بين القانون والنصوص وتطبيقها من ناحية؛ وبين فكرة العدالة من ناحية أخرى، وأن القانون أصبح لا يتجاوز كونه وسيلة لتحطيم المجتمع ووسيلة لوأد العدالة.

إن كل ذلك يحتاج بالأساس إلى الإيمان بضرورته وأنه حتمي في مسار طويل لإعادة انتزاع حقوق الجميع ولانتزاع حق الحياة الذي دمرته هذه السلطة المتمردة على إرادة الشعب، إن هذا الطريق يبدأ بخطوة إدراك حتميته مهما كان طويلاً وأن البدء به تأخر طويلاً ولكننا لا نمتلك رفاهية تجاوزه.
‏٢٢‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٨:٥٧ م‏
موجز سيرة رفاعي طه كما أملاها @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الأخير: https://goo.gl/5pdPnR] كنت أعرف اسمه ولكني لم أعرف صورته قط، رأيته لأول مرة خطيبا لعيد الفطر (2012م) وتأثرت بخطبته دون أن أعرفه، ولما سألتُ لم أعرف إلا أنه "الشيخ رفاعي" الخارج توا من سجون مبارك ومن الجهاديين القدامى. وحيث كانت سجون مبارك ممتلئة فلم أعر الأمر اهتماما وظننته أحد أعضاء الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد أو حتى الشباب الذي تحمس قديما وجاهد في أفغانستان ثم لما عاد وُضِع في السجن. بعد تلك اللحظة بسنتين كنتُ قد وصلت إلى إسطنبول بعد الانقلاب العسكري بمصر، وأتيح لي أن أراه في مقر تحالف دعم الشرعية، عرفت حينها أنه لم يكن الرجل العادي بل هو الشيخ رفاعي طه من مؤسسي الجماعة الإسلامية وزعيمها بالخارج لفترة والرافض للمبادرات التي أطلقها قادة الجماعة بالتراجع عن أفكارهم. وحيث إني لا أتمتع بالموهبة الصحفية ولا حتى بالمهارات الاجتماعية الطبيعية ولست ممن يحب الاختلاط ببيئة السياسيين مرَّ اللقاء دون أن أحاول الكلام معه رغم أنه قد اشتعلت رغبتي في سماع تاريخه وتجربته. ثم جاء موعد على غير ترتيب ولا تدبير، اقترح علي صديق أن أذهب معه لإنهاء إجراء أمني يتعلق بالإقامة في تركيا، وكان الأمر يتطلب سفرا فسافرنا، ثم ونحن في طريق العودة فوجئنا بالشيخ رفاعي مع الأستاذ إسلام الغمري عائدين إلى اسطنبول، كانت أمامنا ساعة للحديث في لقاء لم يكن له أن يتم لولا تدبير الله وحده. رأيتها فرصة لفتح موضوع التاريخ وكتابته وتاريخ الحركات الإسلامية، ووجدت لديه اهتماما تاريخيا عاما وأخبرني أنه في مطلع شبابه قرأ البداية والنهاية لابن كثير، وأنه يود لو كُتِبَت سيرة النبي اعتمادا على الأحاديث الصحيحة فقط، فقلت له: قد خرج في الموضوع أكثر من كتاب بالفعل. لم يكن يعلم بها لأنه كان في فترة سجنه الطويلة. وهكذا سنحت الفرصة لألح عليه في كتابة مذكراته، فحدثني أنه كتب جزءا كبيرا منها بالفعل في السجن لكن إدارة السجن استولت عليها. والواقع أني وجدت نفسي أمام شخصية عزيزة المنال، فالقليل جدا من قيادات الحركة الإسلامية من يرون أهمية لكتابة مذكراتهم، وأقل القليل من ينوون كتابتها، وأقل أقل القليل من يشرع بالفعل في الكتابة، وهذا ما يجعل تاريخ الحركات الإسلامية حافلا بالتناقض والاضطراب والغموض بما لا يتناسب بحال مع حجم الحدث وضخامة التجربة. عرضت عليه من فوري أن أرفع عنه عبء الكتابة، وأن يحدد بيننا موعدا فأسجل له وأستمع إليه، ثم أقوم بعبء التفريغ والتحرير والتدقيق البحثي في التواريخ والأحداث، فرحب للغاية، وهكذا جرى الأمر. جلست إليه أحد عشر مرة، الأولى منها كانت بغرض التعرف على سيرته موجزة مجملة، والأخيرة أردنا أن نكمل لكن تشعب الكلام في هموم الواقع حتى انتهت الساعات، وكانت تلك آخر مرة أراه فيها، فمن بعدها شُغلت عنه وشُغل عني حتى فجأني خبر استشهاده في ليلة لا أنساها. في تلك الجلسات اقتربت منه بقدر ما يقترب كاتب مذكرات بشيخ لا يعرفه، رأيت منه تواضعا وبساطة وبشاشة ورحابة صدر، ويكفي أنه استأمنني على كتابة سيرته، وربما غِبْت عنه أحيانا فكان يتصل ويتفقدني ويسأل عني، وهو شيء لا يكاد يفعله من كان في سنه ومقامه ومشاغله، وكان قريب الدموع رقيقا، لا يكاد يتذكر أحدا من إخوانه أو موقفا مؤثرا إلا بكى، وكان أكثر ما يبكي إذا ذكر زوجته، فقد كان شديد الوفاء لها وكثير الثناء عليها، ويتذكر بتأثر بالغ تضحيتها معه وصبرها عليه. في تلك السطور أروي مجمل سيرته رحمه الله كما أملاها علي في أول جلسة بيننا، وإن شاء الله تعالى نأخذ في رواية مذكراته التي لم تكتمل بل توقفت عند فترة الثمانينات، عند بداية عمل الجماعة الإسلامية في الساحة المصرية. وُلِد رفاعي أحمد طه في 24 يونيو 1954، وقتما كانت تعيش الحركة الإسلامية أولى محنها الرهيبة مع النظام العسكري، في قرية نجع دنقل التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا (في ذلك الوقت) لأبوين من بسطاء الناس، وأبوه من قبيلة الفريحات التي ينتهي نسبها إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وُلِد مصابا بالربو، فكانت تأتيه الأزمة الصدرية بين الفينة والأخرى، وتعلق بالصلاة منذ صغره فكان يحب أن يذهب للمسجد في كل صلاة حتى صلاة الصبح، والتحق بالكتاب في بداية أمره، فحفظ شيئا من القرآن، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية (1961م) وظهر تفوقه فكان الأول على صفه الدراسي، وهو التفوق الذي أهله ليكون ضمن طلائع التنظيم الطليعي التابع لجمال عبد الناصر، فكان من فتيانه ثم صار من شبابه، وكان كادرا ناصريا يُعقد عليه الأمل. أفاق من سكرة عبد الناصر يوم وفاته حيث لقيه أستاذ له وهو يبكي حزنا عليه، فأخبره بما لم يتوقع من ظلم وبطش عبد الناصر بالمصريين، وبما قام به الجيش المصري من فظائع في اليمن، فبدأ في تكوين صورة أخرى. بدأ تفكيره في التغيير منذ كان طالبا بالثانوية، حيث أفضى زميل له بأن حكم مصر يُوصل إليه بالانقلاب كما فعل عبد الناصر، وأن الطريق إلى ذلك هو دخول الجيش، رسخت الفكرة في ذهنه، واتفق عليها مع بعض أصدقائه، وتغير تفكيره من دخول كلية الطب إلى دخول الكلية الحربية، ثم وقعت له ظروف أخرى ساقته إلى كلية التجارة. التحق بالكلية (1973م)، وكانت أولى أيامه في الجامعة قد شهدت نشوب حرب أكتوبر التي سمع باندلاعها في اللحظة التي كان خارجها فيها من الجامعة متوجها إلى سكنه، وفي الكلية بدأ النشاط الإسلامي في عهد السبعينات، وتكونت في تلك الفترة بذرة "الجماعة الإسلامية" عبر شباب الجامعة. تخرج من الجامعة (1977م) بينما بقيت معه مادتان من السنة الدراسية، وواصل العمل في تكوين الجماعة الإسلامية والدعوة إليها ونشرها، ووُضِع ضمن قرارات اعتقال السادات (1981م) لكنه ظل هاربا حتى وقع في الاعتقال لأول مرة في 16 أكتوبر 1982، وفي السجن أتيح له أن يكمل المادتين العالقتين معه، فلم يتخرج من الجامعة إلا في عام (1983م). خرج من السجن بعد أربع سنوات في 16 أكتوبر 1986، رغم أن الحكم كان بسجنه خمس سنوات، إلا أن خطأ وقع في تسجيل تاريخ إيداعه السجن، جعلت كأنما ألقي القبض عليه مع الدفعة الأولى من رفاقه، وقد فوجئ هو عبر صديق له رأى اسمه في قائمة من سيُفْرج عنهم، وقد كان هذا تأويل رؤية رآها في السجن، فقد رأى أنه كان جائعا فاشترى خمس (سندويتشات طعمية)، إلا أنه أكل منها أربعة فقط، فلما قصها على إخوانه أوّلوها له بأنه سيُحكم عليه بكذا لكنه لن يكملها. خرج إلى السعودية يوم 2 أغسطس 1988، وأمضى هناك شهرين، ثم خرج إلى باكستان في نفس العام وأمضى هنالك ثلاثة أشهر، ثم الإمارات الإمارات في 16 ديسمبر 1989، وأمضى عشرين يوما في دبي وأبو ظبي، ثم إلى بيشاور (باكستان) في يناير 1990 وظل يتنقل بين باكستان والسودان، ثم عاد إلى السودان (1992م). تلك التنقلات التي كانت محكومة بالظروف التي وُضِعت فيها الجماعة الإسلامية وبقية الحركات الإسلامية أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات. ولما وقعت محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا (25 يونيو 1995)، تصاعدت الضغوط على وجودهم بالسودان، فاضطر إلى الخروج إلى سوريا (أكتوبر 1995م)، وقضى بها خمسة أشهر، ثم انتقل إلى إيران في بدايات 1996 التي وفرت لهم اللجوء السياسي داخل أراضيها. كانت إيران قد تعاملت مع الجماعة الإسلامية بتوقير وترحيب، ووفرت لهم مفوضا مباشرة للعلاقة بينهم وبين الرئاسة، كما وفرت له حراسة دائمة حتى في تنقلاته خارج إيران، ولا يفارقه الحارس إلا إن طلب منه هذا، فكان أسلوبه أن يسافر من إيران إلى سوريا، وهناك يطلب من الحارس أن يتركه، ثم يستعمل جواز سفر سودانيا فيسافر به إلى السودان باسم مختلف، فيقضي ما يشاء ثم يعود إلى سوريا، ويستبدل بالجواز السوداني جوازه الآخر، ويعود إلى إيران. في ربيع عام 2001، وقع منه خطأ أمني كلفه أحد عشر عاما من الاعتقال، وذلك أنه اتصل من سوريا على أسرته في إيران وأخبرهم أنه يريد من أحد رفاقه بالجماعة الإسلامية التواصل مع السلطات الإيرانية لمنحه تأشيرة العودة حيث كان قد تجاوز وقت التأشيرة، وأخبرهم في هذا الاتصال بعنوان الفندق ورقم الغرفة التي يقيم بها في سوريا. يقول: فما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى قلت لنفسي: ما هذا الذي فعلت؟! فهاتف البيت في إيران لا بد أنه مراقب، وأنا الآن قد كشفت عن مكاني بالتفصيل، فانزعجتُ وتضايقتُ وقررت قضاء الليلة عند صديق فلسطيني في مخيم بسوريا، وأفضيت إليه بما حدث، فقرر أن أبيت عنده، وأنه سيرسل شابا من عنده يتصرف ويأخذ الحقائب من الفندق، فيكون الخطر قد انتهى. وبعد قضاء ليلته عنده عنَّ له أن يعود إلى الفندق، فألح عليه صديقه أن يبقى، لكنه أصر على الذها للفندق لترتيب حقائبه بنفسه وأن الأمر لن يستغرق سوى دقائق، حيث كان من أمتعته ما يحب أن يرتبه بنفسه، وفي النهاية عاد إلى الفندق، وما إن دخل إلى غرفته حتى سمع طرقا بعدها بدقائق على باب الغرفة، ففتح فوجد رجلين يقولان أنهما من إدارة الفندق وأنه حدث خطأ في تسجيل الغرفة، يقول: علمت من اللحظة الأولى أنهم من المخابرات وأنني في حكم المعتقل، وبأسلوب لطيف مهذب جرى اقتياده إلى مبنى المخابرات السورية التي تعاملت معه بتهذب لكونه ضيفا على الحكومة الإيرانية، ثم بعد ساعة سلمته إلى جهاز الأمن السوري الذي تعامل معه بعنف شديد وإهانة وتعرض هناك للتعذيب. وبعد خمسة عشر يوما أُخبر بأنه سيُفرج عنه، إلا أن هذه كانت خدعة، حيث اصطحبوه مقيدا ومعصوب العينين إلى الميناء ووضعوه في سفينة مصرية بعدما أوهموه أنها سفينة سورية ستنقله إلى دولة أخرى، وفي السفينة قام ضباط المخابرات بتمثيلية هدفت إلى إقناعه أنه كان في سفينة سورية وأن المخابرات المصرية اختطفته منها في عرض البحر، بينما الواقع أنه وُضِع من البداية في سفينة مصرية. قضى في جهاز الأمن المصري شهورا من التحقيق والتعذيب، ثم أودع السجن حيث كان محكوما عليه بالمؤبد، وظل فيه أحد عشر عاما إلى أن أفرج عنه بعد شهرين من تولي الرئيس مرسي، وبالتحديد في (5 سبتمبر 2012). ولما وقع الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013)، خرج مع عدد من قيادات الجماعة الإسلامية إلى السودان، لكن الحكومة السودانية أبلغتهم أنه لا يمكنها استضافتهم، واقترحت عليهم الخروج إلى مكان آخر، وعرضت أن توفر لهم وثائق للسفر مع فقدهم لوثائق السفر، وكان يرى أن يخرج إلى ليبيا بينما كان بعض رفاقه يرون الخروج إلى تركيا، ثم استقر أمرهم على تركيا مؤقتا، فإن لم يناسبهم الوضع عادوا إلى ليبيا. سافروا إلى تركيا (سبتمبر 2013م) لكن وقعت مشكلة غير متوقعة كانت نتيجتها أن فقدوا وثائق السفر، فصاروا بلا هويات ولا وثائق سفر، وبقي الشيخ رفاعي طه في تركيا. كان طبيعيا لمثله أن يتواصل مع الحالة الجهادية في سوريا وأن يتواصلوا معه، حتى جاء صباح (8 إبريل 2016) يحمل خبر استشهاده في قصف جوي بغارة أمريكية مع خمسة آخرين بعد لقاء جرى مع أبي محمد الجولاني قائد جبهة النصرة في محاولة للتوفيق والإصلاح بين الفصائل الشامية وعلى رأسها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام. وبهذا أسدل الستار على حياة الشيخ رفاعي أحمد طه، أحد القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية المصرية، وأحد أبرز الوجوه الجهادية في النصف الثاني من القرن العشرين. نحاول بإذن الله في المقالات القادمة نشر ما أمكن تسجيله من مذكراته على حلقات، فالله المستعان.
موجز سيرة رفاعي طه كما أملاها

محمد إلهامي

[لتحميل العدد الأخير:
https://goo.gl/5pdPnR]

كنت أعرف اسمه ولكني لم أعرف صورته قط، رأيته لأول مرة خطيبا لعيد الفطر (2012م) وتأثرت بخطبته دون أن أعرفه، ولما سألتُ لم أعرف إلا أنه "الشيخ رفاعي" الخارج توا من سجون مبارك ومن الجهاديين القدامى. وحيث كانت سجون مبارك ممتلئة فلم أعر الأمر اهتماما وظننته أحد أعضاء الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد أو حتى الشباب الذي تحمس قديما وجاهد في أفغانستان ثم لما عاد وُضِع في السجن.

بعد تلك اللحظة بسنتين كنتُ قد وصلت إلى إسطنبول بعد الانقلاب العسكري بمصر، وأتيح لي أن أراه في مقر تحالف دعم الشرعية، عرفت حينها أنه لم يكن الرجل العادي بل هو الشيخ رفاعي طه من مؤسسي الجماعة الإسلامية وزعيمها بالخارج لفترة والرافض للمبادرات التي أطلقها قادة الجماعة بالتراجع عن أفكارهم. وحيث إني لا أتمتع بالموهبة الصحفية ولا حتى بالمهارات الاجتماعية الطبيعية ولست ممن يحب الاختلاط ببيئة السياسيين مرَّ اللقاء دون أن أحاول الكلام معه رغم أنه قد اشتعلت رغبتي في سماع تاريخه وتجربته.

ثم جاء موعد على غير ترتيب ولا تدبير، اقترح علي صديق أن أذهب معه لإنهاء إجراء أمني يتعلق بالإقامة في تركيا، وكان الأمر يتطلب سفرا فسافرنا، ثم ونحن في طريق العودة فوجئنا بالشيخ رفاعي مع الأستاذ إسلام الغمري عائدين إلى اسطنبول، كانت أمامنا ساعة للحديث في لقاء لم يكن له أن يتم لولا تدبير الله وحده. رأيتها فرصة لفتح موضوع التاريخ وكتابته وتاريخ الحركات الإسلامية، ووجدت لديه اهتماما تاريخيا عاما وأخبرني أنه في مطلع شبابه قرأ البداية والنهاية لابن كثير، وأنه يود لو كُتِبَت سيرة النبي اعتمادا على الأحاديث الصحيحة فقط، فقلت له: قد خرج في الموضوع أكثر من كتاب بالفعل. لم يكن يعلم بها لأنه كان في فترة سجنه الطويلة.

وهكذا سنحت الفرصة لألح عليه في كتابة مذكراته، فحدثني أنه كتب جزءا كبيرا منها بالفعل في السجن لكن إدارة السجن استولت عليها. والواقع أني وجدت نفسي أمام شخصية عزيزة المنال، فالقليل جدا من قيادات الحركة الإسلامية من يرون أهمية لكتابة مذكراتهم، وأقل القليل من ينوون كتابتها، وأقل أقل القليل من يشرع بالفعل في الكتابة، وهذا ما يجعل تاريخ الحركات الإسلامية حافلا بالتناقض والاضطراب والغموض بما لا يتناسب بحال مع حجم الحدث وضخامة التجربة.

عرضت عليه من فوري أن أرفع عنه عبء الكتابة، وأن يحدد بيننا موعدا فأسجل له وأستمع إليه، ثم أقوم بعبء التفريغ والتحرير والتدقيق البحثي في التواريخ والأحداث، فرحب للغاية، وهكذا جرى الأمر.

جلست إليه أحد عشر مرة، الأولى منها كانت بغرض التعرف على سيرته موجزة مجملة، والأخيرة أردنا أن نكمل لكن تشعب الكلام في هموم الواقع حتى انتهت الساعات، وكانت تلك آخر مرة أراه فيها، فمن بعدها شُغلت عنه وشُغل عني حتى فجأني خبر استشهاده في ليلة لا أنساها.

في تلك الجلسات اقتربت منه بقدر ما يقترب كاتب مذكرات بشيخ لا يعرفه، رأيت منه تواضعا وبساطة وبشاشة ورحابة صدر، ويكفي أنه استأمنني على كتابة سيرته، وربما غِبْت عنه أحيانا فكان يتصل ويتفقدني ويسأل عني، وهو شيء لا يكاد يفعله من كان في سنه ومقامه ومشاغله، وكان قريب الدموع رقيقا، لا يكاد يتذكر أحدا من إخوانه أو موقفا مؤثرا إلا بكى، وكان أكثر ما يبكي إذا ذكر زوجته، فقد كان شديد الوفاء لها وكثير الثناء عليها، ويتذكر بتأثر بالغ تضحيتها معه وصبرها عليه.

في تلك السطور أروي مجمل سيرته رحمه الله كما أملاها علي في أول جلسة بيننا، وإن شاء الله تعالى نأخذ في رواية مذكراته التي لم تكتمل بل توقفت عند فترة الثمانينات، عند بداية عمل الجماعة الإسلامية في الساحة المصرية.

وُلِد رفاعي أحمد طه في 24 يونيو 1954، وقتما كانت تعيش الحركة الإسلامية أولى محنها الرهيبة مع النظام العسكري، في قرية نجع دنقل التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا (في ذلك الوقت) لأبوين من بسطاء الناس، وأبوه من قبيلة الفريحات التي ينتهي نسبها إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

وُلِد مصابا بالربو، فكانت تأتيه الأزمة الصدرية بين الفينة والأخرى، وتعلق بالصلاة منذ صغره فكان يحب أن يذهب للمسجد في كل صلاة حتى صلاة الصبح، والتحق بالكتاب في بداية أمره، فحفظ شيئا من القرآن، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية (1961م) وظهر تفوقه فكان الأول على صفه الدراسي، وهو التفوق الذي أهله ليكون ضمن طلائع التنظيم الطليعي التابع لجمال عبد الناصر، فكان من فتيانه ثم صار من شبابه، وكان كادرا ناصريا يُعقد عليه الأمل.

أفاق من سكرة عبد الناصر يوم وفاته حيث لقيه أستاذ له وهو يبكي حزنا عليه، فأخبره بما لم يتوقع من ظلم وبطش عبد الناصر بالمصريين، وبما قام به الجيش المصري من فظائع في اليمن، فبدأ في تكوين صورة أخرى.

بدأ تفكيره في التغيير منذ كان طالبا بالثانوية، حيث أفضى زميل له بأن حكم مصر يُوصل إليه بالانقلاب كما فعل عبد الناصر، وأن الطريق إلى ذلك هو دخول الجيش، رسخت الفكرة في ذهنه، واتفق عليها مع بعض أصدقائه، وتغير تفكيره من دخول كلية الطب إلى دخول الكلية الحربية، ثم وقعت له ظروف أخرى ساقته إلى كلية التجارة.

التحق بالكلية (1973م)، وكانت أولى أيامه في الجامعة قد شهدت نشوب حرب أكتوبر التي سمع باندلاعها في اللحظة التي كان خارجها فيها من الجامعة متوجها إلى سكنه، وفي الكلية بدأ النشاط الإسلامي في عهد السبعينات، وتكونت في تلك الفترة بذرة "الجماعة الإسلامية" عبر شباب الجامعة.

تخرج من الجامعة (1977م) بينما بقيت معه مادتان من السنة الدراسية، وواصل العمل في تكوين الجماعة الإسلامية والدعوة إليها ونشرها، ووُضِع ضمن قرارات اعتقال السادات (1981م) لكنه ظل هاربا حتى وقع في الاعتقال لأول مرة في 16 أكتوبر 1982، وفي السجن أتيح له أن يكمل المادتين العالقتين معه، فلم يتخرج من الجامعة إلا في عام (1983م).

خرج من السجن بعد أربع سنوات في 16 أكتوبر 1986، رغم أن الحكم كان بسجنه خمس سنوات، إلا أن خطأ وقع في تسجيل تاريخ إيداعه السجن، جعلت كأنما ألقي القبض عليه مع الدفعة الأولى من رفاقه، وقد فوجئ هو عبر صديق له رأى اسمه في قائمة من سيُفْرج عنهم، وقد كان هذا تأويل رؤية رآها في السجن، فقد رأى أنه كان جائعا فاشترى خمس (سندويتشات طعمية)، إلا أنه أكل منها أربعة فقط، فلما قصها على إخوانه أوّلوها له بأنه سيُحكم عليه بكذا لكنه لن يكملها.

خرج إلى السعودية يوم 2 أغسطس 1988، وأمضى هناك شهرين، ثم خرج إلى باكستان في نفس العام وأمضى هنالك ثلاثة أشهر، ثم الإمارات الإمارات في 16 ديسمبر 1989، وأمضى عشرين يوما في دبي وأبو ظبي، ثم إلى بيشاور (باكستان) في يناير 1990 وظل يتنقل بين باكستان والسودان، ثم عاد إلى السودان (1992م). تلك التنقلات التي كانت محكومة بالظروف التي وُضِعت فيها الجماعة الإسلامية وبقية الحركات الإسلامية أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات.

ولما وقعت محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا (25 يونيو 1995)، تصاعدت الضغوط على وجودهم بالسودان، فاضطر إلى الخروج إلى سوريا (أكتوبر 1995م)، وقضى بها خمسة أشهر، ثم انتقل إلى إيران في بدايات 1996 التي وفرت لهم اللجوء السياسي داخل أراضيها.

كانت إيران قد تعاملت مع الجماعة الإسلامية بتوقير وترحيب، ووفرت لهم مفوضا مباشرة للعلاقة بينهم وبين الرئاسة، كما وفرت له حراسة دائمة حتى في تنقلاته خارج إيران، ولا يفارقه الحارس إلا إن طلب منه هذا، فكان أسلوبه أن يسافر من إيران إلى سوريا، وهناك يطلب من الحارس أن يتركه، ثم يستعمل جواز سفر سودانيا فيسافر به إلى السودان باسم مختلف، فيقضي ما يشاء ثم يعود إلى سوريا، ويستبدل بالجواز السوداني جوازه الآخر، ويعود إلى إيران.

في ربيع عام 2001، وقع منه خطأ أمني كلفه أحد عشر عاما من الاعتقال، وذلك أنه اتصل من سوريا على أسرته في إيران وأخبرهم أنه يريد من أحد رفاقه بالجماعة الإسلامية التواصل مع السلطات الإيرانية لمنحه تأشيرة العودة حيث كان قد تجاوز وقت التأشيرة، وأخبرهم في هذا الاتصال بعنوان الفندق ورقم الغرفة التي يقيم بها في سوريا. يقول: فما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى قلت لنفسي: ما هذا الذي فعلت؟! فهاتف البيت في إيران لا بد أنه مراقب، وأنا الآن قد كشفت عن مكاني بالتفصيل، فانزعجتُ وتضايقتُ وقررت قضاء الليلة عند صديق فلسطيني في مخيم بسوريا، وأفضيت إليه بما حدث، فقرر أن أبيت عنده، وأنه سيرسل شابا من عنده يتصرف ويأخذ الحقائب من الفندق، فيكون الخطر قد انتهى.

وبعد قضاء ليلته عنده عنَّ له أن يعود إلى الفندق، فألح عليه صديقه أن يبقى، لكنه أصر على الذها للفندق لترتيب حقائبه بنفسه وأن الأمر لن يستغرق سوى دقائق، حيث كان من أمتعته ما يحب أن يرتبه بنفسه، وفي النهاية عاد إلى الفندق، وما إن دخل إلى غرفته حتى سمع طرقا بعدها بدقائق على باب الغرفة، ففتح فوجد رجلين يقولان أنهما من إدارة الفندق وأنه حدث خطأ في تسجيل الغرفة، يقول: علمت من اللحظة الأولى أنهم من المخابرات وأنني في حكم المعتقل، وبأسلوب لطيف مهذب جرى اقتياده إلى مبنى المخابرات السورية التي تعاملت معه بتهذب لكونه ضيفا على الحكومة الإيرانية، ثم بعد ساعة سلمته إلى جهاز الأمن السوري الذي تعامل معه بعنف شديد وإهانة وتعرض هناك للتعذيب.

وبعد خمسة عشر يوما أُخبر بأنه سيُفرج عنه، إلا أن هذه كانت خدعة، حيث اصطحبوه مقيدا ومعصوب العينين إلى الميناء ووضعوه في سفينة مصرية بعدما أوهموه أنها سفينة سورية ستنقله إلى دولة أخرى، وفي السفينة قام ضباط المخابرات بتمثيلية هدفت إلى إقناعه أنه كان في سفينة سورية وأن المخابرات المصرية اختطفته منها في عرض البحر، بينما الواقع أنه وُضِع من البداية في سفينة مصرية.

قضى في جهاز الأمن المصري شهورا من التحقيق والتعذيب، ثم أودع السجن حيث كان محكوما عليه بالمؤبد، وظل فيه أحد عشر عاما إلى أن أفرج عنه بعد شهرين من تولي الرئيس مرسي، وبالتحديد في (5 سبتمبر 2012).

ولما وقع الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013)، خرج مع عدد من قيادات الجماعة الإسلامية إلى السودان، لكن الحكومة السودانية أبلغتهم أنه لا يمكنها استضافتهم، واقترحت عليهم الخروج إلى مكان آخر، وعرضت أن توفر لهم وثائق للسفر مع فقدهم لوثائق السفر، وكان يرى أن يخرج إلى ليبيا بينما كان بعض رفاقه يرون الخروج إلى تركيا، ثم استقر أمرهم على تركيا مؤقتا، فإن لم يناسبهم الوضع عادوا إلى ليبيا.

سافروا إلى تركيا (سبتمبر 2013م) لكن وقعت مشكلة غير متوقعة كانت نتيجتها أن فقدوا وثائق السفر، فصاروا بلا هويات ولا وثائق سفر، وبقي الشيخ رفاعي طه في تركيا.

كان طبيعيا لمثله أن يتواصل مع الحالة الجهادية في سوريا وأن يتواصلوا معه، حتى جاء صباح (8 إبريل 2016) يحمل خبر استشهاده في قصف جوي بغارة أمريكية مع خمسة آخرين بعد لقاء جرى مع أبي محمد الجولاني قائد جبهة النصرة في محاولة للتوفيق والإصلاح بين الفصائل الشامية وعلى رأسها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام.

وبهذا أسدل الستار على حياة الشيخ رفاعي أحمد طه، أحد القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية المصرية، وأحد أبرز الوجوه الجهادية في النصف الثاني من القرن العشرين.

نحاول بإذن الله في المقالات القادمة نشر ما أمكن تسجيله من مذكراته على حلقات، فالله المستعان.
‏١٩‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٧:٤١ م‏
طرق جمع المعلومات في عمليات مكافحة التمرد م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] عاد الاهتمام بالعلوم المتعلقة بمكافحة التمرد للواجهة في أميركا عقب أحداث سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق، فأصدر الجيش الأميركي عام 2006 بعد انقطاع دام أكثر من عقدين دليلا ميدانيا موجها للمخططين والقادة العسكريين على مستوى الكتيبة فما فوق تحت عنوان " دليل الميدان للجيش الأميركي ومشاة البحرية لمكافحة التمرد"[ - (The U.S. Army and Marine Corps Counterinsurgency Field Manual).] شرح فيه عقيدته الخاصة بمكافحة التمرد. وقبل التطرق لمضمون الدليل المذكور ينبغي التأكيد على أن مصطلح التمرد هو أحد المصطلحات المستخدمة ضمن التنميط والتأطير السياسي الغربي المرتبط بالنزعة الإمبراطورية الاستعلائية الساعية لفرض الهيمنة. فالتمرد بالمفهوم الأميركي لا يقتصر على الحركات الخارجة عن الشرعية، بل يتسع ليشمل الحركات التي تجاهد لإزالة أنظمة الظلم والاستبداد، والحركات التي تسعى لتحرير بلادها من أنظمة الخيانة والعمالة. تطرق الدليل في فقرات متعددة لطرق جمع المعلومات في ساحة الصراع بشكل مرتب، مما يجعل تناول تلك الفقرات بإيجاز أمر مفيد: 1-جمع المعلومات من المصادر البشرية تظل للمصادر البشرية أهمية كبيرة في جمع المعلومات رغم استحداث طرق فنية وتقنية متطورة، فمثلا يمكن للتصوير الجوي أن يوضح إخلاء السكان لقرية من القرى، لكن المصدر البشري هو الذي يقدم تفسيرات لأسباب المغادرة ودوافعها. تتنوع مصادر جمع المعلومات بهذه الطريقة فتشمل المعلومات المتحصل عليها أثناء دوريات التأمين، وتقارير قوات العمليات الخاصة التي تعمل مع السكان المحليين، والاتصالات مع قوات أمن الحكومة المضيفة والزعامات المحلية، ومعلومات المقاولين الأجانب والمحليين الذين يعملون في مشاريع البنية التحتية، والخطوط الساخنة التي تتلقى المعلومات من الجمهور عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، والشخصيات الأمريكية المدنية العاملة في المكان مثل الصحفيين. وتمثل المعلومات المتحصل عليها من المحتجزين والمنشقين أهم أنواع المعلومات التي يمكن الحصول عليها من مصادر الاستخبارات البشرية، لأنها تتناول المشاعر والدوافع والأهداف والتكتيكات وتعطي صورة مفصلة عن طبيعة الحركات المتمردة. ويؤكد الدليل على أهمية الاستجوابات الفورية التكتيكية للصنفين المذكورين، ومقارنة المعلومات المتحصل عليها منهم بالمعلومات المتحصل عليها من المعدات والوثائق والأشياء المهملة التي سبق الاستيلاء عليها، لتوفير فهم أفضل للتمرد. 2- استخبارات المصدر المفتوح تساعد في فهم بيئة العمليات والتوجهات العامة للمتمردين عبر متابعة وسائل الإعلام مثل القنوات الإخبارية والصحف ومحطات الإذاعة المحلية التي تتناول البيئة محل التمرد. 3- الاستخبارات التصويرية تستخدم في مراقبة مساكن المتمردين والمرافق الآمنة المحتملة لهم، وفي كشف التحركات غير العادية للأفراد والإمدادات. ويساهم التصوير الجوي الثابت للمباني في كشف التغيرات طويلة الأمد في الانشاءات، وتعمل منصات المراقبة الجوية على متابعة المتمردين أثناء العمليات، وتؤمن المراقبة لمناطق يصعب استخدام مراكز الملاحظة البشرية فيها. 4- استخبارات الإشارة تلعب دورا أساسيا في جمع المعلومات من المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين عن مواقع ونوايا وقدرات ومعنويات العدو، وتساهم في تأكيد أو استبعاد تقارير الاستخبارات البشرية. 5- الاستخبارات الفنية تساعد في تقديم المعلومات عن قدرات المتمردين ومعداتهم، فهى تشمل كيفية استخدام المتمردين لأجهزة تفجير العبوات الناسفة ولمدافع الهاون والصواريخ المصنعة محليا. 6-الاستخبارات الجيو مساحية تشمل استغلال وتحليل المعلومات التصويرية والجيو مساحية من أجل الوصف والتقييم والعرض المرئي للخصائص الطبيعية والنشاطات المرتبطة بجغرافية المكان، وتساهم في تحديد مسارات التهريب والملاذات الآمنة كما يمكنها المعاونة في تحديد المنشئات الهامة. 7- الاستفادة من الوثائق والمهملات والأحراز توفر الوثائق والأشياء المهملة والبيانات المتحصل عليها من أجهزة الكومبيوتر والهواتف النقالة معلومات حيوية يحتاجها المحللون لتقييم حركات التمرد وإمكاناتها وفهم نواياها، كما تساهم في بيان مستوى مصداقية المعلومات المتحصل عليها من المحتجزين ومصادر الاستخبارات البشرية الأخرى. 8-سجلات الملكية تتضمن وثائق نقل الملكية وغيرها من الوثائق التي تحدد ملكية الأراضي والمباني، مما يساعد في تحديد الأشخاص الغرباء ممن لا يوجد سبب منطقي لإقامتهم في منطق تواجدهم. 9-السجلات المالية تساعد في تتبع مصادر تمويل المتمردين وفهم طرقهم في تحويل الأموال. هذه الطرق المذكورة لجمع المعلومات تساهم في تكوين تصور واضح عن الحركات المتمردة والمفاصل الأساسية لها وهوية قادتها وسماتهم، وأساليب المتمردين ودوافعهم وإمكاناتهم، وعلاقتهم بالبيئة المحيطة بهم، مما يساعد على بناء وتطوير استراتيجية مكافحة التمرد المناسبة لمواجهتهم.
طرق جمع المعلومات في عمليات مكافحة التمرد

م. أحمد مولانا Mawlana

[لتحميل العدد الجديد:
https://goo.gl/5pdPnR]

عاد الاهتمام بالعلوم المتعلقة بمكافحة التمرد للواجهة في أميركا عقب أحداث سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق، فأصدر الجيش الأميركي عام 2006 بعد انقطاع دام أكثر من عقدين دليلا ميدانيا موجها للمخططين والقادة العسكريين على مستوى الكتيبة فما فوق تحت عنوان " دليل الميدان للجيش الأميركي ومشاة البحرية لمكافحة التمرد"[ - (The U.S. Army and Marine Corps Counterinsurgency Field Manual).] شرح فيه عقيدته الخاصة بمكافحة التمرد.

وقبل التطرق لمضمون الدليل المذكور ينبغي التأكيد على أن مصطلح التمرد هو أحد المصطلحات المستخدمة ضمن التنميط والتأطير السياسي الغربي المرتبط بالنزعة الإمبراطورية الاستعلائية الساعية لفرض الهيمنة. فالتمرد بالمفهوم الأميركي لا يقتصر على الحركات الخارجة عن الشرعية، بل يتسع ليشمل الحركات التي تجاهد لإزالة أنظمة الظلم والاستبداد، والحركات التي تسعى لتحرير بلادها من أنظمة الخيانة والعمالة.

تطرق الدليل في فقرات متعددة لطرق جمع المعلومات في ساحة الصراع بشكل مرتب، مما يجعل تناول تلك الفقرات بإيجاز أمر مفيد:

1-جمع المعلومات من المصادر البشرية

تظل للمصادر البشرية أهمية كبيرة في جمع المعلومات رغم استحداث طرق فنية وتقنية متطورة، فمثلا يمكن للتصوير الجوي أن يوضح إخلاء السكان لقرية من القرى، لكن المصدر البشري هو الذي يقدم تفسيرات لأسباب المغادرة ودوافعها. تتنوع مصادر جمع المعلومات بهذه الطريقة فتشمل المعلومات المتحصل عليها أثناء دوريات التأمين، وتقارير قوات العمليات الخاصة التي تعمل مع السكان المحليين، والاتصالات مع قوات أمن الحكومة المضيفة والزعامات المحلية، ومعلومات المقاولين الأجانب والمحليين الذين يعملون في مشاريع البنية التحتية، والخطوط الساخنة التي تتلقى المعلومات من الجمهور عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، والشخصيات الأمريكية المدنية العاملة في المكان مثل الصحفيين.

وتمثل المعلومات المتحصل عليها من المحتجزين والمنشقين أهم أنواع المعلومات التي يمكن الحصول عليها من مصادر الاستخبارات البشرية، لأنها تتناول المشاعر والدوافع والأهداف والتكتيكات وتعطي صورة مفصلة عن طبيعة الحركات المتمردة. ويؤكد الدليل على أهمية الاستجوابات الفورية التكتيكية للصنفين المذكورين، ومقارنة المعلومات المتحصل عليها منهم بالمعلومات المتحصل عليها من المعدات والوثائق والأشياء المهملة التي سبق الاستيلاء عليها، لتوفير فهم أفضل للتمرد.

2- استخبارات المصدر المفتوح

تساعد في فهم بيئة العمليات والتوجهات العامة للمتمردين عبر متابعة وسائل الإعلام مثل القنوات الإخبارية والصحف ومحطات الإذاعة المحلية التي تتناول البيئة محل التمرد.

3- الاستخبارات التصويرية

تستخدم في مراقبة مساكن المتمردين والمرافق الآمنة المحتملة لهم، وفي كشف التحركات غير العادية للأفراد والإمدادات. ويساهم التصوير الجوي الثابت للمباني في كشف التغيرات طويلة الأمد في الانشاءات، وتعمل منصات المراقبة الجوية على متابعة المتمردين أثناء العمليات، وتؤمن المراقبة لمناطق يصعب استخدام مراكز الملاحظة البشرية فيها.

4- استخبارات الإشارة

تلعب دورا أساسيا في جمع المعلومات من المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين عن مواقع ونوايا وقدرات ومعنويات العدو، وتساهم في تأكيد أو استبعاد تقارير الاستخبارات البشرية.

5- الاستخبارات الفنية

تساعد في تقديم المعلومات عن قدرات المتمردين ومعداتهم، فهى تشمل كيفية استخدام المتمردين لأجهزة تفجير العبوات الناسفة ولمدافع الهاون والصواريخ المصنعة محليا.

6-الاستخبارات الجيو مساحية

تشمل استغلال وتحليل المعلومات التصويرية والجيو مساحية من أجل الوصف والتقييم والعرض المرئي للخصائص الطبيعية والنشاطات المرتبطة بجغرافية المكان، وتساهم في تحديد مسارات التهريب والملاذات الآمنة كما يمكنها المعاونة في تحديد المنشئات الهامة.

7- الاستفادة من الوثائق والمهملات والأحراز

توفر الوثائق والأشياء المهملة والبيانات المتحصل عليها من أجهزة الكومبيوتر والهواتف النقالة معلومات حيوية يحتاجها المحللون لتقييم حركات التمرد وإمكاناتها وفهم نواياها، كما تساهم في بيان مستوى مصداقية المعلومات المتحصل عليها من المحتجزين ومصادر الاستخبارات البشرية الأخرى.

8-سجلات الملكية

تتضمن وثائق نقل الملكية وغيرها من الوثائق التي تحدد ملكية الأراضي والمباني، مما يساعد في تحديد الأشخاص الغرباء ممن لا يوجد سبب منطقي لإقامتهم في منطق تواجدهم.

9-السجلات المالية

تساعد في تتبع مصادر تمويل المتمردين وفهم طرقهم في تحويل الأموال.

هذه الطرق المذكورة لجمع المعلومات تساهم في تكوين تصور واضح عن الحركات المتمردة والمفاصل الأساسية لها وهوية قادتها وسماتهم، وأساليب المتمردين ودوافعهم وإمكاناتهم، وعلاقتهم بالبيئة المحيطة بهم، مما يساعد على بناء وتطوير استراتيجية مكافحة التمرد المناسبة لمواجهتهم.
‏١٧‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٩:١٠ م‏
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (05) @[100001613664823:2048:أبو إسلام منير] [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ واحدة من أكثر التجارب السياسية حيوية وتأثيرا في تاريخ الجزائر المعاصر بعد الاستقلال، فلم يعرف الجزائريون التعددية ولا الحرية السياسية ولا المنافسة النزيهة ولا تدافع المشاريع بشكل مكشوف وواضح وصريح مثلما حدث بعد أحداث 05أكتوبر 1988. ثلاثة عقود مرّت منذ الاستقلال نشأ فيها جيل كامل تحت حكم الحزب الواحد والنمط الاشتراكي البئيس التقليدي الذي تحوّل قبيل أحداث أكتوبر إلى انفتاح رأسمالي فوضوي، كانت كافية في تراكم قدر كبير من الغضب والحرمان والبؤس السياسي والرغبة في الانعتاق والشعور بالتخلّف وبسطوة الاستبداد ممثلا يومها في الرعب من بطش الأمن العسكري(SM). ومن خلال الجبهة الإسلامية للإنقاذ تمكّن الجزائريّون المؤمنون بالمشروع الإسلاميّ من دخول ميدان الصراع والمزاحمة والتنافس وفق ما كانت تسمّيه أدبيات الجبهة بأسلوب (المطالبة والمغالبة). وقد ذكرنا في الحلقات السابقة أنّ الذين انضمّوا إلى الجبهة الإسلامية لم يكونوا طيفا واحدا ولا نمطا سواء، فقد كانت الجبهة الإسلاميّة نموذجا شبيها بجبهة التحرير الوطني أيّام ثورة التحرير التي حاولت جمع كل التيارات السياسية المؤثرة تحت رايتها وإيجاد طريقة تسمح بأن تكون جميعها في خدمة هدف واحد كبير هو الاستقلال وتحرير الجزائر. كان في الجبهة كثير جدا من أبناء الحركة الإسلامية الذين انضمّوا إليها قناعة بخطّها السياسيّ ومن كلّ الجماعات، وكان هؤلاء هم عمودها الفقريّ والمؤسسين لها والحاضرين في قياداتها الولائيّة والبلديّة، كما كان فيها المتديّنون من الجزائريين الذين وجدوا أنفسهم في الجبهة وعثروا على أمل كان يبدو لهم بعيد المنال، وكان فيها سكان المدن والقرى والأرياف والطلبة والعمال والأكاديميون والأئمة والدعاة وغيرهم من كلّ مكوّنات المجتمع الجزائريّ ممّا منح الجبهة قوّة سياسية وشعبية طاغية وسبّب لها أيضا مشكلة كبرى في إدارة هذا التنوّع البشري وكثافته العدديّة وفتح للسلطة وأجهزتها الأمنية يومها بابا للاختراق و توجيه الأحداث بل وصناعتها واستثمارها أحيانا. الناقمون على الجبهة وخطّها وخطابها وأدائها إلى يوم النّاس هذا من الإسلاميين كثير، بعضهم يفعل ذلك لأنه يعتبر أن الجبهة سرقت جهود السابقين من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية والتربية والإعداد والتكوين، وبعضهم ينقم عليها تهوّرها واندفاعها، وبعضهم ما زال يتألّم لأن الجبهة وضعته على هامش الأحداث ولم يتحصّل على صوت واحد في أي استحقاق انتخابيّ معها، وآخرون شكّلت لهم الجبهة هاجسا وما تزال لأنّهم بعد انقلاب العسكر والتيار اليساري العلماني عليها اصطفّوا بطريقة أو بأخرى وبحجج أكثرها واهٍ داحض مع الانقلابيين و لازمتهم تهمة مباركة الانقلاب وانعدام الشرعية، وآخرون لم يستطيعوا منذ غياب الجبهة إخراج مسيرة أو تجمّع من بضعة آلاف تعبّر عن موقف رافض أو محتجّ على مواقف السلطة وخياراتها بينما يتذكّرون عشرات ومئات الآلاف الذين كانت الجبهة تدعوهم ببيان أو نداء واحد فيهبّون مستجيبين ملبّين، وبعضهم يرى تأسيس الجبهة منذ البداية خطّة نسجتها مخابر أجهزة الاستخبارات لكشف الحركة الإسلامية وضربها ضربة قاضية تأتي عليها. لم يكن خطاب الجبهة ولا سلوكها السياسي ولا خياراتها الكبرى والتكتيكية فوق النقد أو تخلو من الضعف وانعدام الرؤية والبصيرة السياسية أحيانا بكلّ تأكيد، وقد ذكرنا من ذلك الكثير في الحلقتين الأوليين من هذه السلسلة، ولكن الجبهة كانت هي قدَر الجزائر والجزائريّين في سنواتها الثلاث من 1989أواخر إلى 1992، وكانت هي الثمرة التي أفرزتها مسيرة التاريخ وسيرورة الأحداث. صديق الأستاذ مالك بن نبي الأستاذ الفيلسوف حمودة بن الساعي حين كان يرى مسيرات الجبهة تجوب شوارع مدينته بكلّ زخمها واندفاع الشباب وحماستهم وشعارات التحرر واستكمال الاستقلال وإقامة الدولة الإسلامية المرفوعة فيها كان يقول : (فرنسا وراء الستار). وصدق رحمه الله، فما كان لفرنسا أن تغفل أو تبقى بعيدة عن ساحة تمور بالكراهية لها والرغبة في التحرر من نفوذها وهيمنتها في الجزائر وقد تشكّل تهديدا لها وهي على بعد سويعات عبر البحر وساعة وبضع دقائق بالطائرة ووجود ملايين من المهاجرين من الجزائريين على أرضها. ثم دخلت الولايات المتّحدة الأمريكية على الخطّ بحذر وصمت وهدوء بعد حرب الخليج الأولى وموقف الجبهة الإسلامية منها، وكانت الكويت والمملكة السعودية على خط الولايات المتحدة نفسه، وشكّل هذا التوحّد في النظرة إلى الجبهة والموقف منها بين الولايات المتّحدة وفرنسا من جهة و الكويت والسعودية من جهة ثانية وخوف الأنظمة العربية من انتقال العدوى إليها وخاصة مصر وتونس وليبيا من جهة ثالثة؛ شكّل ذلك حلفا غير معلَن - يعمل فيه كلّ طرف وفق خطّته وتصوراته - هدفه منع الجبهة الإسلامية من تحقيق أيّ إنجاز سياسيّ والحيلولة دون وصولها إلى السلطة ومراكز القوّة والتأثير في أجهزة ومؤسسات الحكم، وهو الأمر الذي تفطّن له العسكر والمخابرات واستثمروه لاحقا في تبرير الانقلاب والبحث عن الحلفاء واستجداء الدعم و تفسير قسوة الإجراءات ودمويتها وقبل ذلك عمليات الاختراق والتوظيف وتلغيم الجبهة ومؤسساتها بالطريقة التي تحدثنا عن بعضها في مقالات سابقة. واحدة من الأخطاء الكبرى للجبهة أنها كانت تصارع النظام كأنه بمعزل عن قوى الهيمنة في العالم، وكأنها بسقوطه ستكون في راحة من أمرها في الجزائر، بينما كشفت الأحداث بمجرد فوز الجبهة في التشريعيات اصطفاف فرنسا والولايات المتحدة في خندق واحد، وبدأت الآلة الإعلامية في التحرّك وبثّ الإشاعات وترويج الأكاذيب وسرد الأرقام المرعبة والتوقعات والاحتمالات الكارثية بعد استلام الجبهة الحكم في الجزائر، وظهرت قضيّة المفاعل النووي في عين وسّارة بولاية الجلفة جنوب الجزائر التي أثارها الإعلام الفرنسي ثم الغربي والأمريكي على أنّه مفاعل لأغراض عسكرية وأنّه يشكّل تهديدا للغرب ومن ثَمّ المطالبة بتفتيشه ومراقبته، واقتربت بوارج الأسطول السادس من المياه الإقليمية الجزائرية بشكل غير معهود ولا مسبوق، وبدا واضحا لكل مراقب أنّ الأمور تسير في اتّجاه التصعيد وأنّ الغرب وعلى رأسه فرنسا كانت تبحث عن منفّذ أو حليف أو عميل في الجزائر وداخل مؤسستي الجيش والاستخبارات بشكل خاصّ، أمّا المجتمع المدني الذي يسيطر عليه اليساريون واللائكيّون فقد كانت فرنسا أمسكت بزمامه منذ مدّة. في خضمّ ذلك كلّه كانت الجبهة في وضع لا تُحسد عليه، وكانت الضغوط السياسية والأمنيّة والإعلاميّة عليها هائلة أفقدتها القدرة على اتّخاذ القرارات بسرعة وفعاليّة وكفاءة تناسب الموقف وتكافئه، مع غياب الرؤية السياسية والاستراتيجية المقابلة لكلّ هذا الجهد المنسّق المتناغم الذي يبذله أعداؤها في الداخل والخارج، ومع تبعات اعتقال الشيخين عباسي وبن حاج والأحداث الأمنية التي عرفتها الجزائر على يد الأفغان العائدين أو الجماعات المسلّحة الصغيرة المخترقة أو المراقبة منذ البداية، ولم يستطع المكتب السياسي الجديد الذي كان يقوده حشّاني أن يفعل شيئا أكثر ممّا فعله، فالقرار بالانقلاب وسحق الجبهة وقتل واعتقال كلّ من له علاقة بها كان قد اتُّخذ من طرف ضباط الجيش والمخابرات بالتنسيق مع الاستخبارات والرئاسة الفرنسية وبمباركة ودعم منها، ثمّ انفلتت الأمور بالشكل الذي يعرفه الجميع. هل كان في مقدور الجبهة أن تتجنّب ما وقع ؟ في رأيي أنّ الطريقة الوحيدة التي كانت ممكنة لتجنّب الانقلاب والمجازر وتحالف الأعداء هي ألّا تتأسّس الجبهة الإسلامية من الأساس، أمَا وقد تمّ تأسيسها فإنّ ما حدث كان سوف يحدث حتما، والأحداث بعد ذلك في أكثر من قطر عربيّ بعد ثورات الربيع العربي أثبتت ذلك بشكل من المستحيل تكذيبه أو إنكاره. وكان يمكن للجبهة الإسلامية أن تتجنّب ما حدث بطريقة أخرى وهي أن يكون خطابها وبرنامجها السياسي وأداؤها في الساحة السياسيّة الجزائرية يومئذ فيه من الليونة والمهادنة والغموض والبراغماتية السياسية والقبول بالتنازلات بمستوى يجنّبها كلّ ما حدث ولكن في المقابل يجعلها حزبا ضعيفا غير مؤثّر ولا ذا حضور وثقل في الميدان ولا يستطيع أن يستقطب جموع الناقمين والغاضبين من الشباب خاصّة ومن بقيّة فئات الشعب ولا الساخطين والمتذمّرين من جماعاتهم وحركاتهم الإسلاميّة الذين وجدوا في الجبهة الإسلامية ما افتقدوه عندها. وإن كانت التجربة بعد الربيع العربي وقُبَيلَه بقليل قد أثبتت أيضا أن الليّنين والمتنازلين والمهادنين لم يسلموا من المكر والإقصاء والحرب عليهم بأقذر الأساليب وأحيانا من الانقلاب عليهم بطريقة لا تختلف عن الانقلاب على الجبهة إلا في كونها انقلابات كانت هذه الأحزاب والحركات تعرف نتائجها مسبقا وترضى بتبعاتها بحجة مصلحة الدولة والحفاظ على مؤسساتها ..وتلك قصّة أخرى. لقد عانيتُ في هذه السلسلة من ندرة المراجع بل غيابها في بعض القضايا المطروحة فيها، وهي مشكلة شكا ويشكو منها كلّ من يريد الاقتراب من ملفّ الجبهة الإسلامية ودراسة تجربتها وتقييمها، فقادة الجبهة المؤسسون لم يكتبوا أو على الأقلّ لم ينشروا شيئا من مذكّراتهم عن الأحداث، وما نُشر من حوارات في الصحف والقنوات قليل وغير كافٍ في دراسة ظاهرة مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والشهادات المسجّلة شحيحة جدّا، وارتباط كثير من الأحداث بقضايا أمنية أو رجال التحقوا بالعمل المسلّح لاحقا زاد من حرج الشهود والكتّاب، وأرشيف الإذاعة والتلفزة المتعلّق بتلك المرحلة غير متاح على الشبكة العنكبوتية، ووثائق الجبهة منها ما أتلفه الأمن أثناء الاعتقالات ومنها ما أتلفه أعضاء الجبهة أو عائلاتهم خوفا من تهمة الانتماء للجبهة والسجن ومنها ما استولت عليه الأجهزة الأمنية وصادره القضاء وأصبح غير متاح وفي مكان لا يعلمه أحد، من أجل ذلك فإن هذه السلسلة جاءت وصفيّة أكثر منها تحليلية لأنّ التحليل ومتابعة الأحداث والمواقف في تفاصيلها يحتاج توفّر وثائق ومعلومات وشهادات يكاد يكون من المستحيل الحصول عليها في الوقت الراهن. ما زال للجبهة محبّوها والمتعاطفون معها حتى من الجيل الذي نشأ وكبر بعد الانقلاب، وما زال منتسبوها مستمسكين بحقّها في العمل السياسي والمشاركة في التغيير كلٌّ من منطلقه وتصوّره برغم كلّ ما حدث لهم، وما زالت ملفّات المفقودين المختطفين تؤرّق النظام وتقضّ مضجعه، وما زال التحقيق في المجازر والمذابح التي حدثت ومن هو المسؤول عنها تشكّل تهديدا حقوقيّا وسياسيا محلّيا وعالميّا يسعى النظام بكلّ ما أوتي من قوّة ألّا يتمّ فتحه، وما زالت مآسي السجون والمعتقلات وانتهاكات حقوق الإنسان فيها تطلّ برأسها في كلّ عام مرتين أو ثلاثا، وما زالت مطالب المحاسبة والمساءلة والتحقيق والبحث عن الحقيقة وراء كلّ ما جرى و معاقبة المتورّطين فيه قائمة لا يملّ أصحابها ولا يكلّون، وما زالت قيادة الجبهة الإسلامية التاريخية متمثّلة في الشيخين عباسي وبن حاج وغيرهما على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه ما زال للجبهة الإسلامية إلى اليوم أعداؤها والمتربصّون بها داخل مؤسّسات الدولة وخارجها في الأحزاب اللائكية وجمعيات المجتمع المدني التي يسيطر عليها اللائكيّون ويوظفّونها في أيّ اتّجاه يريدونه، وما زال خصومها من داخل الصفّ الإسلامي يكرّرون المبرّرات والحجج نفسها ويشعرون – خطأ وسوءَ تقديرٍ- أنّ عودة الجبهة تهدّد مكتسباتهم وتخصم من رصيدهم السياسيّ ومن وعائهم الانتخابيّ وتزاحمهم في الحضور الميدانيّ، وما زالت وسائل الإعلام كلّها تقريبا تمارس نفس الدور القذر في تشويه وتحريف كلّ ما له علاقة بالجبهة الإسلاميّة، وما زال عدد آخر كبير من الشباب الذي لم يعايش أحداث عشرية الدم و الدموع ضحيّة لهذا التشويه والتحريف. وسوف تبقى كلّ الملفّات السابقة مفتوحة حتى يسقط النظام المتسبّب في ذلك والمتكتّم على كهوف الأسرار الرهيبة التي تكتنف الأحداث منذ أكتوبر 1988 إلى ما بعد سنة 2000، وحتى ترجع الحقوق إلى أصحابها، وتظهر الحقيقة التي عمل النظام وعرّابوه على إخفائها باستفتاء شعبي على ما يسمّى ( قانون المصالحة ) تحت الإكراه المعنوي والابتزاز السياسيّ والإعلاميّ وبالرشى الاجتماعيّة والسياسيّة في الداخل و بالعمالة للخارج. وسوف تبقى تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ محطّة مفصليّة في تاريخ الجزائر المعاصر ما بعد الاستقلال لا يمكن لمؤرّخ ولا قارئ واعٍ أن يتجاوزها أو يغضّ الطرف عنها أو يهوّن من تأثيرها السياسيّ والاجتماعيّ إلى اللحظة التي تُكتَب فيها هذه الكلمات، فلا يمكن لتجربة بهذه الضخامة وهذا الصدى وهذه التضحيات التي بلغت ربع مليون قتيل إذا صدّقنا رواية السلطات وآلاف من المعتقلين في محتشدات الصحراء وعشرات الآلاف من السجناء و ما يقارب 27000 مختطف ومليون مهجّر أن تُنسى وتُهضم حقوق أصحابها وتعفو عليها رياح النسيان وتغفل عنها الأجيال فلا تتعلّم منها ولا تستفيد. ولا أملك في آخر هذا المقال الذي هو آخر حلقات هذه السلسلة إلا أن أتوجّه بنداء صادق وملحّ إلى كلّ من كان له يد وتأثير وعلاقة بالأحداث أن يسارع إلى كتابة مذكراته وتسجيل شهادته وتأمين ما لديه من أرشيف، وأن أدعو طلبة التاريخ الجزائريّ المعاصر أن يخصّصوا أطروحاتهم وبحوثهم حول هذه الفترة ليجلّوا عنها الغبار ويكشفوا ما أحاط بها من تشويه وتحريف متعمّد مقصود ويزيلوا الباطل الذي التبس فيها بالحقّ، وأقرّ أخيرا أنّني تجرّأتُ على الكتابة في موضوع شائك شحيح المصادر جدّا يتهيّب أكثر المؤرّخين والإعلاميّين الكتابة فيه، وعزائي أن أعرّف إخواني من غير الجزائريّين على فترة حساسّة وحاسمة من تاريخ إخوان لهم في بلدٍ كثيرٌ منهم لا يعرفون عن تاريخه القريب شيئا، وما أبرّئ نفسي من الخطأ و ميل القلب مهما ادّعيتُ ذلك أو حرِصتُ عليه.
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (05)

أبو إسلام منير

[لتحميل العدد الجديد:
https://goo.gl/5pdPnR]

كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ واحدة من أكثر التجارب السياسية حيوية وتأثيرا في تاريخ الجزائر المعاصر بعد الاستقلال، فلم يعرف الجزائريون التعددية ولا الحرية السياسية ولا المنافسة النزيهة ولا تدافع المشاريع بشكل مكشوف وواضح وصريح مثلما حدث بعد أحداث 05أكتوبر 1988.

ثلاثة عقود مرّت منذ الاستقلال نشأ فيها جيل كامل تحت حكم الحزب الواحد والنمط الاشتراكي البئيس التقليدي الذي تحوّل قبيل أحداث أكتوبر إلى انفتاح رأسمالي فوضوي، كانت كافية في تراكم قدر كبير من الغضب والحرمان والبؤس السياسي والرغبة في الانعتاق والشعور بالتخلّف وبسطوة الاستبداد ممثلا يومها في الرعب من بطش الأمن العسكري(SM).

ومن خلال الجبهة الإسلامية للإنقاذ تمكّن الجزائريّون المؤمنون بالمشروع الإسلاميّ من دخول ميدان الصراع والمزاحمة والتنافس وفق ما كانت تسمّيه أدبيات الجبهة بأسلوب (المطالبة والمغالبة). وقد ذكرنا في الحلقات السابقة أنّ الذين انضمّوا إلى الجبهة الإسلامية لم يكونوا طيفا واحدا ولا نمطا سواء، فقد كانت الجبهة الإسلاميّة نموذجا شبيها بجبهة التحرير الوطني أيّام ثورة التحرير التي حاولت جمع كل التيارات السياسية المؤثرة تحت رايتها وإيجاد طريقة تسمح بأن تكون جميعها في خدمة هدف واحد كبير هو الاستقلال وتحرير الجزائر.

كان في الجبهة كثير جدا من أبناء الحركة الإسلامية الذين انضمّوا إليها قناعة بخطّها السياسيّ ومن كلّ الجماعات، وكان هؤلاء هم عمودها الفقريّ والمؤسسين لها والحاضرين في قياداتها الولائيّة والبلديّة، كما كان فيها المتديّنون من الجزائريين الذين وجدوا أنفسهم في الجبهة وعثروا على أمل كان يبدو لهم بعيد المنال، وكان فيها سكان المدن والقرى والأرياف والطلبة والعمال والأكاديميون والأئمة والدعاة وغيرهم من كلّ مكوّنات المجتمع الجزائريّ ممّا منح الجبهة قوّة سياسية وشعبية طاغية وسبّب لها أيضا مشكلة كبرى في إدارة هذا التنوّع البشري وكثافته العدديّة وفتح للسلطة وأجهزتها الأمنية يومها بابا للاختراق و توجيه الأحداث بل وصناعتها واستثمارها أحيانا.

الناقمون على الجبهة وخطّها وخطابها وأدائها إلى يوم النّاس هذا من الإسلاميين كثير، بعضهم يفعل ذلك لأنه يعتبر أن الجبهة سرقت جهود السابقين من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية والتربية والإعداد والتكوين، وبعضهم ينقم عليها تهوّرها واندفاعها، وبعضهم ما زال يتألّم لأن الجبهة وضعته على هامش الأحداث ولم يتحصّل على صوت واحد في أي استحقاق انتخابيّ معها، وآخرون شكّلت لهم الجبهة هاجسا وما تزال لأنّهم بعد انقلاب العسكر والتيار اليساري العلماني عليها اصطفّوا بطريقة أو بأخرى وبحجج أكثرها واهٍ داحض مع الانقلابيين و لازمتهم تهمة مباركة الانقلاب وانعدام الشرعية، وآخرون لم يستطيعوا منذ غياب الجبهة إخراج مسيرة أو تجمّع من بضعة آلاف تعبّر عن موقف رافض أو محتجّ على مواقف السلطة وخياراتها بينما يتذكّرون عشرات ومئات الآلاف الذين كانت الجبهة تدعوهم ببيان أو نداء واحد فيهبّون مستجيبين ملبّين، وبعضهم يرى تأسيس الجبهة منذ البداية خطّة نسجتها مخابر أجهزة الاستخبارات لكشف الحركة الإسلامية وضربها ضربة قاضية تأتي عليها.

لم يكن خطاب الجبهة ولا سلوكها السياسي ولا خياراتها الكبرى والتكتيكية فوق النقد أو تخلو من الضعف وانعدام الرؤية والبصيرة السياسية أحيانا بكلّ تأكيد، وقد ذكرنا من ذلك الكثير في الحلقتين الأوليين من هذه السلسلة، ولكن الجبهة كانت هي قدَر الجزائر والجزائريّين في سنواتها الثلاث من 1989أواخر إلى 1992، وكانت هي الثمرة التي أفرزتها مسيرة التاريخ وسيرورة الأحداث.

صديق الأستاذ مالك بن نبي الأستاذ الفيلسوف حمودة بن الساعي حين كان يرى مسيرات الجبهة تجوب شوارع مدينته بكلّ زخمها واندفاع الشباب وحماستهم وشعارات التحرر واستكمال الاستقلال وإقامة الدولة الإسلامية المرفوعة فيها كان يقول : (فرنسا وراء الستار). وصدق رحمه الله، فما كان لفرنسا أن تغفل أو تبقى بعيدة عن ساحة تمور بالكراهية لها والرغبة في التحرر من نفوذها وهيمنتها في الجزائر وقد تشكّل تهديدا لها وهي على بعد سويعات عبر البحر وساعة وبضع دقائق بالطائرة ووجود ملايين من المهاجرين من الجزائريين على أرضها.

ثم دخلت الولايات المتّحدة الأمريكية على الخطّ بحذر وصمت وهدوء بعد حرب الخليج الأولى وموقف الجبهة الإسلامية منها، وكانت الكويت والمملكة السعودية على خط الولايات المتحدة نفسه، وشكّل هذا التوحّد في النظرة إلى الجبهة والموقف منها بين الولايات المتّحدة وفرنسا من جهة و الكويت والسعودية من جهة ثانية وخوف الأنظمة العربية من انتقال العدوى إليها وخاصة مصر وتونس وليبيا من جهة ثالثة؛ شكّل ذلك حلفا غير معلَن - يعمل فيه كلّ طرف وفق خطّته وتصوراته - هدفه منع الجبهة الإسلامية من تحقيق أيّ إنجاز سياسيّ والحيلولة دون وصولها إلى السلطة ومراكز القوّة والتأثير في أجهزة ومؤسسات الحكم، وهو الأمر الذي تفطّن له العسكر والمخابرات واستثمروه لاحقا في تبرير الانقلاب والبحث عن الحلفاء واستجداء الدعم و تفسير قسوة الإجراءات ودمويتها وقبل ذلك عمليات الاختراق والتوظيف وتلغيم الجبهة ومؤسساتها بالطريقة التي تحدثنا عن بعضها في مقالات سابقة.

واحدة من الأخطاء الكبرى للجبهة أنها كانت تصارع النظام كأنه بمعزل عن قوى الهيمنة في العالم، وكأنها بسقوطه ستكون في راحة من أمرها في الجزائر، بينما كشفت الأحداث بمجرد فوز الجبهة في التشريعيات اصطفاف فرنسا والولايات المتحدة في خندق واحد، وبدأت الآلة الإعلامية في التحرّك وبثّ الإشاعات وترويج الأكاذيب وسرد الأرقام المرعبة والتوقعات والاحتمالات الكارثية بعد استلام الجبهة الحكم في الجزائر، وظهرت قضيّة المفاعل النووي في عين وسّارة بولاية الجلفة جنوب الجزائر التي أثارها الإعلام الفرنسي ثم الغربي والأمريكي على أنّه مفاعل لأغراض عسكرية وأنّه يشكّل تهديدا للغرب ومن ثَمّ المطالبة بتفتيشه ومراقبته، واقتربت بوارج الأسطول السادس من المياه الإقليمية الجزائرية بشكل غير معهود ولا مسبوق، وبدا واضحا لكل مراقب أنّ الأمور تسير في اتّجاه التصعيد وأنّ الغرب وعلى رأسه فرنسا كانت تبحث عن منفّذ أو حليف أو عميل في الجزائر وداخل مؤسستي الجيش والاستخبارات بشكل خاصّ، أمّا المجتمع المدني الذي يسيطر عليه اليساريون واللائكيّون فقد كانت فرنسا أمسكت بزمامه منذ مدّة.

في خضمّ ذلك كلّه كانت الجبهة في وضع لا تُحسد عليه، وكانت الضغوط السياسية والأمنيّة والإعلاميّة عليها هائلة أفقدتها القدرة على اتّخاذ القرارات بسرعة وفعاليّة وكفاءة تناسب الموقف وتكافئه، مع غياب الرؤية السياسية والاستراتيجية المقابلة لكلّ هذا الجهد المنسّق المتناغم الذي يبذله أعداؤها في الداخل والخارج، ومع تبعات اعتقال الشيخين عباسي وبن حاج والأحداث الأمنية التي عرفتها الجزائر على يد الأفغان العائدين أو الجماعات المسلّحة الصغيرة المخترقة أو المراقبة منذ البداية، ولم يستطع المكتب السياسي الجديد الذي كان يقوده حشّاني أن يفعل شيئا أكثر ممّا فعله، فالقرار بالانقلاب وسحق الجبهة وقتل واعتقال كلّ من له علاقة بها كان قد اتُّخذ من طرف ضباط الجيش والمخابرات بالتنسيق مع الاستخبارات والرئاسة الفرنسية وبمباركة ودعم منها، ثمّ انفلتت الأمور بالشكل الذي يعرفه الجميع.

هل كان في مقدور الجبهة أن تتجنّب ما وقع ؟

في رأيي أنّ الطريقة الوحيدة التي كانت ممكنة لتجنّب الانقلاب والمجازر وتحالف الأعداء هي ألّا تتأسّس الجبهة الإسلامية من الأساس، أمَا وقد تمّ تأسيسها فإنّ ما حدث كان سوف يحدث حتما، والأحداث بعد ذلك في أكثر من قطر عربيّ بعد ثورات الربيع العربي أثبتت ذلك بشكل من المستحيل تكذيبه أو إنكاره.

وكان يمكن للجبهة الإسلامية أن تتجنّب ما حدث بطريقة أخرى وهي أن يكون خطابها وبرنامجها السياسي وأداؤها في الساحة السياسيّة الجزائرية يومئذ فيه من الليونة والمهادنة والغموض والبراغماتية السياسية والقبول بالتنازلات بمستوى يجنّبها كلّ ما حدث ولكن في المقابل يجعلها حزبا ضعيفا غير مؤثّر ولا ذا حضور وثقل في الميدان ولا يستطيع أن يستقطب جموع الناقمين والغاضبين من الشباب خاصّة ومن بقيّة فئات الشعب ولا الساخطين والمتذمّرين من جماعاتهم وحركاتهم الإسلاميّة الذين وجدوا في الجبهة الإسلامية ما افتقدوه عندها. وإن كانت التجربة بعد الربيع العربي وقُبَيلَه بقليل قد أثبتت أيضا أن الليّنين والمتنازلين والمهادنين لم يسلموا من المكر والإقصاء والحرب عليهم بأقذر الأساليب وأحيانا من الانقلاب عليهم بطريقة لا تختلف عن الانقلاب على الجبهة إلا في كونها انقلابات كانت هذه الأحزاب والحركات تعرف نتائجها مسبقا وترضى بتبعاتها بحجة مصلحة الدولة والحفاظ على مؤسساتها ..وتلك قصّة أخرى.

لقد عانيتُ في هذه السلسلة من ندرة المراجع بل غيابها في بعض القضايا المطروحة فيها، وهي مشكلة شكا ويشكو منها كلّ من يريد الاقتراب من ملفّ الجبهة الإسلامية ودراسة تجربتها وتقييمها، فقادة الجبهة المؤسسون لم يكتبوا أو على الأقلّ لم ينشروا شيئا من مذكّراتهم عن الأحداث، وما نُشر من حوارات في الصحف والقنوات قليل وغير كافٍ في دراسة ظاهرة مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والشهادات المسجّلة شحيحة جدّا، وارتباط كثير من الأحداث بقضايا أمنية أو رجال التحقوا بالعمل المسلّح لاحقا زاد من حرج الشهود والكتّاب، وأرشيف الإذاعة والتلفزة المتعلّق بتلك المرحلة غير متاح على الشبكة العنكبوتية، ووثائق الجبهة منها ما أتلفه الأمن أثناء الاعتقالات ومنها ما أتلفه أعضاء الجبهة أو عائلاتهم خوفا من تهمة الانتماء للجبهة والسجن ومنها ما استولت عليه الأجهزة الأمنية وصادره القضاء وأصبح غير متاح وفي مكان لا يعلمه أحد، من أجل ذلك فإن هذه السلسلة جاءت وصفيّة أكثر منها تحليلية لأنّ التحليل ومتابعة الأحداث والمواقف في تفاصيلها يحتاج توفّر وثائق ومعلومات وشهادات يكاد يكون من المستحيل الحصول عليها في الوقت الراهن.

ما زال للجبهة محبّوها والمتعاطفون معها حتى من الجيل الذي نشأ وكبر بعد الانقلاب، وما زال منتسبوها مستمسكين بحقّها في العمل السياسي والمشاركة في التغيير كلٌّ من منطلقه وتصوّره برغم كلّ ما حدث لهم، وما زالت ملفّات المفقودين المختطفين تؤرّق النظام وتقضّ مضجعه، وما زال التحقيق في المجازر والمذابح التي حدثت ومن هو المسؤول عنها تشكّل تهديدا حقوقيّا وسياسيا محلّيا وعالميّا يسعى النظام بكلّ ما أوتي من قوّة ألّا يتمّ فتحه، وما زالت مآسي السجون والمعتقلات وانتهاكات حقوق الإنسان فيها تطلّ برأسها في كلّ عام مرتين أو ثلاثا، وما زالت مطالب المحاسبة والمساءلة والتحقيق والبحث عن الحقيقة وراء كلّ ما جرى و معاقبة المتورّطين فيه قائمة لا يملّ أصحابها ولا يكلّون، وما زالت قيادة الجبهة الإسلامية التاريخية متمثّلة في الشيخين عباسي وبن حاج وغيرهما على قيد الحياة.

وفي الوقت نفسه ما زال للجبهة الإسلامية إلى اليوم أعداؤها والمتربصّون بها داخل مؤسّسات الدولة وخارجها في الأحزاب اللائكية وجمعيات المجتمع المدني التي يسيطر عليها اللائكيّون ويوظفّونها في أيّ اتّجاه يريدونه، وما زال خصومها من داخل الصفّ الإسلامي يكرّرون المبرّرات والحجج نفسها ويشعرون – خطأ وسوءَ تقديرٍ- أنّ عودة الجبهة تهدّد مكتسباتهم وتخصم من رصيدهم السياسيّ ومن وعائهم الانتخابيّ وتزاحمهم في الحضور الميدانيّ، وما زالت وسائل الإعلام كلّها تقريبا تمارس نفس الدور القذر في تشويه وتحريف كلّ ما له علاقة بالجبهة الإسلاميّة، وما زال عدد آخر كبير من الشباب الذي لم يعايش أحداث عشرية الدم و الدموع ضحيّة لهذا التشويه والتحريف.

وسوف تبقى كلّ الملفّات السابقة مفتوحة حتى يسقط النظام المتسبّب في ذلك والمتكتّم على كهوف الأسرار الرهيبة التي تكتنف الأحداث منذ أكتوبر 1988 إلى ما بعد سنة 2000، وحتى ترجع الحقوق إلى أصحابها، وتظهر الحقيقة التي عمل النظام وعرّابوه على إخفائها باستفتاء شعبي على ما يسمّى ( قانون المصالحة ) تحت الإكراه المعنوي والابتزاز السياسيّ والإعلاميّ وبالرشى الاجتماعيّة والسياسيّة في الداخل و بالعمالة للخارج.

وسوف تبقى تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ محطّة مفصليّة في تاريخ الجزائر المعاصر ما بعد الاستقلال لا يمكن لمؤرّخ ولا قارئ واعٍ أن يتجاوزها أو يغضّ الطرف عنها أو يهوّن من تأثيرها السياسيّ والاجتماعيّ إلى اللحظة التي تُكتَب فيها هذه الكلمات، فلا يمكن لتجربة بهذه الضخامة وهذا الصدى وهذه التضحيات التي بلغت ربع مليون قتيل إذا صدّقنا رواية السلطات وآلاف من المعتقلين في محتشدات الصحراء وعشرات الآلاف من السجناء و ما يقارب 27000 مختطف ومليون مهجّر أن تُنسى وتُهضم حقوق أصحابها وتعفو عليها رياح النسيان وتغفل عنها الأجيال فلا تتعلّم منها ولا تستفيد.

ولا أملك في آخر هذا المقال الذي هو آخر حلقات هذه السلسلة إلا أن أتوجّه بنداء صادق وملحّ إلى كلّ من كان له يد وتأثير وعلاقة بالأحداث أن يسارع إلى كتابة مذكراته وتسجيل شهادته وتأمين ما لديه من أرشيف، وأن أدعو طلبة التاريخ الجزائريّ المعاصر أن يخصّصوا أطروحاتهم وبحوثهم حول هذه الفترة ليجلّوا عنها الغبار ويكشفوا ما أحاط بها من تشويه وتحريف متعمّد مقصود ويزيلوا الباطل الذي التبس فيها بالحقّ، وأقرّ أخيرا أنّني تجرّأتُ على الكتابة في موضوع شائك شحيح المصادر جدّا يتهيّب أكثر المؤرّخين والإعلاميّين الكتابة فيه، وعزائي أن أعرّف إخواني من غير الجزائريّين على فترة حساسّة وحاسمة من تاريخ إخوان لهم في بلدٍ كثيرٌ منهم لا يعرفون عن تاريخه القريب شيئا، وما أبرّئ نفسي من الخطأ و ميل القلب مهما ادّعيتُ ذلك أو حرِصتُ عليه.
‏١٤‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٦:٤٨ م‏
نماذج التغيير داخل الجيش المصري.. والمآلات المحتملة بين حمل السلاح والتغيير السلمي محمود جمال [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] منذ أحداث 03 يوليو 2013م، تعددت محاولات عناصر داخل الجيش المصري لتغيير الأوضاع الحالية، وتنوعت الحالات والأسباب والأهداف، والتي اشتملت في عمومها على معارضة السياسة القائمة التي أنتجت وضعا سياسيا واجتماعيا مضطربا مع كلفة عالية تحملتها قوات الجيش في مكافحة "الإرهاب"، والذي تكبدت من أجله خسائر كبيرة ومتتالية خصوصا في سيناء، وكذلك التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. بعض المحاولات كتبت شهادة وفاتها في مهدها، ومنها التي لا تزال باقية وتحاول ضم المزيد من العناصر في سبيل تحقيق التغيير المأمول من وجهة نظرهم. ونستطيع أن نضع تلك المحاولات ضمن تصنيفين كبيرين: التغيير القانوني، والتغيير بالقوة. أولاً: التغيير القانوني والدستوري: وهو تغيير يتمسك بالحفاظ علي المؤسسة العسكري، ويسلك الطرق القانونية والدستورية للتخلص من القيادات الحالية للجيش المصري، التي يعتبرون أنها "تختطف" المؤسسة العسكرية، وتمثلت في ثلاث محاولات للترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة في مارس 2018: 1-قنصوه يبدأ: في 29 نوفمبر 2017م، أعلن العقيد أحمد عبد الغفار حسن قنصوه، وهو دكتور مهندس معماري استشاري، مدرس الهندسة المعمارية، يبلغ من العمر 42 عام، في بيان عبر قناته على موقع اليوتيوب نيته الترشح لانتخابات الرئاسة، وذكر أنه سعى لإتمام الإجراءات القانونية فتقدم باستقالته من الخدمة العسكرية في مارس 2014، بعد يومين من إعلان السيسي نيتـَـه الترشحَ للرئاسة، وتبرأ "قنصوه" من كل من فهم إعلانه الترشح على أنه تمردٌ أو دعوةٌ لاتخاذ أي موقف فردي أو جماعي داخل صفوف الجيش، وقال إنه يربأ بزملائه وبنفسه أن يكونوا معاول هدم في البنيان الذي يدينون له جميعا. كشفت تلك الكلمات إلى أي مدى يحاول قنصوه التغيير داخل المؤسسة العسكرية ملتزما بالطرق القانونية والدستورية، وحاول أن يبرز في كلماته أن هناك مجموعات متواجدة داخل مؤسسات الدولة تؤمن بتلك الطريقة في تغيير الوضع المزري الذي وصلت إليه الدولة المصرية نتيجة ممارسات النظام "العسكري" الحالي. بعد البيان بأيام اعتُقل قنصوه، وحوكم، وصدر الحكم عليه بالسجن 6 سنوات مع الشغل والنفاذ، وهو ينفذ الحكم الآن بالسجن الحربي. يمثل أحمد قنصوه طبقة القيادات الوسطي داخل المؤسسة العسكرية، إلا أنه في نفس الوقت حاولت قيادات عليا أن تقوم بخطوة مماثلة. 2- شفيق وعنان: في نفس اليوم الذي أعلن فيه العقيد أحمد قنصوه عن نيته للترشح للرئاسة، أعلن الفريق أحمد شفيق، الرئيس الأسبق لأركان القوات الجوية عام 1991، وقائد القوات الجوية (إبريل 1996 – 2002)، ووزير الطيران المدني، عن نيته للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قائلاً بأن مصر تصارع كثيرًا من المشاكل التي أثرت على كل جوانب الحياة والتي أدت إلى تدهور جميع الخدمات. وبعدها بساعات أعلن عن تضييقات تمارسها عليه دولة الإمارات التي ما لبثت أن قامت بترحيله إلى القاهرة بطائرة خاصة، كما صرحت به مي شفيق ابنة الفريق، ومن المطار اصطحبته المخابرات الحربية إلى فندق ماريوت بالقاهرة تحت الإقامة الجبرية، وهُدد بفتح ملفات الفساد وملفات أخرى شخصية وبالتنكيل ببناته الموجودات في الإمارات. وبعدها بأيام أعلن الفريق شفيق تراجعه ليتجنب الحبس في السجن الحربي وحملات التشهير الشخصية والعائلية. بعدها بأيام أخرى أعلن الفريق سامي حافظ عنان (20 يناير 2018م) رئيس أركان الجيش المصري الأسبق ترشحه لانتخابات الرئاسة، بعد ساعتين من إعلان السيسي ترشحه لولاية ثانية، وأرجع عنان قراره بالترشح إلى تردي أوضاع الشعب المصري نتيجة "سياسات خاطئة حملت القوات المسلحة وحدها مسؤولية الإدارة، دون تمكين القطاع الخاص من القيام بدوره في تسيير أمور الدولة". وبعد أقل من 72 ساعة جرى اعتقال سامي عنان بعد نشر بيان منسوب للقيادة العامة للجيش المصري تعتبر ما قاله يمثل تحريضا صريحا ضد القوات المسلحة، "بغرض إحداث الوقيعة بينها وبين الشعب". ثم اعتقلت المخابرات الحربية أكثر من 23 ضابط جيش قيل إنهم كانوا على تواصل مع سامي عنان، منهم قيادات عليا بالجيش في عهد مبارك، وكان موقع «ميدل إيست آي» كشف في وقت سابق، أن اجتماعا عقد في القاهرة، لبحث المرشح لخلافة «السيسي»، شارك فيه عدد من كبار ضباط الجيش، منهم رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق «مجدي حتاتة»، و«أسامة عسكر»، القائد السابق للجيش الثالث الميداني. كذلك شمل التنكيل سمير سامي عنان الذي أوقف عن عمله بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا في الإسكندرية، وأحيل للتحقيق. ثانيا: نماذج التغيير بالقوة: 1-عن طريق الانقلاب العسكري: كانت أبرز تلك المحاولات بتاريخ 16/6/2015، حيث ألقي القبض على 26 ضابطا (عميدان وأربعة عقداء وثلاثة مقدمين و سبعة عشر رائدا ونقيبان)، بتهمة محاولة الانقلاب العسكري واحتلال وزارة الدفاع والمخابرات الحربية ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدينة الإنتاج الإعلامي، ووزارة الداخلية والأمن الوطني. واتُّهم الرائد مصطفى محمد مصطفى، بصفته موظفا عاما بإفشاء أسرار الدولة، وفي 16/8/2015 أصدرت المحكمة العسكرية مصرية حكمها في القضية وتراوحت الأحكام بين 25 عاماً و15 عاماً و10 أعوام. وكشفت مصادر أخرى في 22-12-2015 أن القضاء العسكري حكم بالإعدام على ثلاثة ضباط في الجيش "والأرجح أن الحكم لم ينفذ بعد" بتهمة التحضير لانقلاب عسكري، والتخطيط لاغتيال السيسي، وكان المخطط، وفقاً للاتهامات، ينص على قتل السيسي وخلق حالة من الفوضى، والتمهيد لحراك في الشارع تقوده أطراف من القوات المسلحة، لكن مصدراً آخر أوضح أن “الضباط الثلاثة كانوا يجهزون لتفجير طائرة السيسي خلال إحدى السفريات التي يقوم بها إلى الخارج”، وأشارت بعض مصادر أخري إلى أن عدد الضباط المتهمين أكثر من مائة ضابط برتب مختلفة. 2-العمل الجهادي "عشماوي وعماد عبد الحميد نموذجاً": كانت هذه الوسيلة أحد الطرق التي تبناها بعض ضباط الجيش المصري، إذ انضم بعضهم إلى جماعات مسلحة ومنهم من أسس كيانات مسلحة لمواجهة النظام. "هشام على عشماوي" مواليد عام 1979، تدرج في الخدمة العسكرية إلى أن وصل إلى رتبة رائد بسلاح الصاعقة، وحاصل على فرقة السيل من الولايات المتحدة الأمريكية، خرج للمعاش عام ٢٠١٢ على خلفية أسباب طبية، ولكن كان "عشماوي" على خلاف تام مع النهج التي تسير عليه قيادات الجيش منذ أيام مبارك، وبعد خروج "عشماوي" من الخدمة بدأ رحلته بالانضمام إلي الجماعات الجهادية، ضمن صفوف جماعة أنصار بيت المقدس وليعمل بجوار زميله النقيب بسلاح الصاعقة سابقاً عماد عبد الحميد وكان قد أحيل إلى العمل المدني بقرار جمهوري لدواعٍ أمنية إثر اعتناقه للفكر الجهادي في عام 2007، وكذلك أيضاً الرائد وليد بدر، وهو خدم بالشئون الإدارية بالجيش، وفُصَل من الخدمة العسكرية عام ٢٠٠٥ لميوله الدينية. دشن هشام عشماوي وعماد عبد الحميد ووليد بدر أولى أبرز عمليات جماعة الأنصار، حيث شارك هشام وعماد بالتخطيط، بينما استهدف "وليد بدر" بسيارته المفخخة موكب وزير الداخلية اللواء "محمد إبراهيم" في سبتمبر ٢٠١٣ عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة بشهر واحد. ثم في مارس ٢٠١٤ تولى "هشام عشماوي" مسؤولية خلايا جماعة أنصار بيت المقدس بالوادي، كما قرر فتح جبهة جديدة بالصحراء الغربية ضد نظام السيسي، وأثناء الإعداد لذلك حدث اشتباك مطلع يونيو ٢٠١٤ بين مجموعة من الجماعة ودورية جيش بالفرافرة قتُل خلاله ٥ من عناصر الجيش، ثم أسس "عشماوي" لاحقا معسكرا بالواحات بلغ عدد المتواجدين به ٤٠ عنصرا. ومن ثم شنوا عملياتهم انطلاقا من المعسكر، فهاجموا سرية تابعة لحرس الحدود بالفرافرة وأبادوها بالكامل في يوليو ٢٠١٤. وبتاريخ ٢١/٧/٢٠١٥ أعلن "عشماوي" عن نفسه كأمير لجماعة "المرابطين"، ومن بعد ذلك التاريخ قيل إن عشماوي يوجد في مدينة درنه الليبية، وكان يرافقه أيضا عماد عبد الحميد، حتي قرر "عماد" العودة مرة ثانية إلى مصر في أواخر عام 2016م، ومعه بضعة أفراد من المقاتلين، وظلوا موجودين بالصحراء الغربية حتى أكتوبر من عام 2017م، ذلك الوقت الذي تمكن فيه "عماد" والمجموعة التي معه من نصب كمين محكم لقوات النخبة في وزارة الداخلية وقتلوا 55 عنصرا من عناصر الشرطة المصرية، لكن بعد أيام من تنفيذ العملية قامت القوات الجوية المصرية من رصد "عماد" والمجموعة التي معه وقاموا بقصفهم وقتل "عماد" وأغلبية المجموعة التي كانت معه. أما بخصوص هشام عشماوي فهو ما زال علي قيد الحياه، وكما نقلت مصادر فإن "عشماوي" قام في السنوات القليلة الماضية بحملة تجنيد وأن تلك الحملة بدأت تؤتي ثمارها حاليا من ناحية الأعداد المنضمة، وقد كشفت وكالة رويترز منذ أيام عن أن الشهور القليلة الماضية شهدت انضمام نحو 30 ضابطا من قوات الأمن إلى جماعة أنصار الإسلام التي يرأسها الضابط السابق هشام عشماوي. وأضافت الوكالة أن ثلاثة مصادر أمنية مصرية ذكرت أن مقتل الضابط عماد عبد الحميد لم يثن مزيدا من ضباط الجيش والشرطة عن الانضمام لجماعة أنصار الإسلام. لم تقتصر فقط فئة الضباط المنضمين إلي جماعات مسلحة في الفترة ما بعد 03 يوليو 2013م، على ضباط الجيش فقط بل امتدت أيضا إلى الشرطة المصرية ، وبناء على ما قالته وزارة الداخلية في وقت سابق من عام2016م، عن تفاصيل للضباط الأربعة الذين اختفوا وانقطعوا عن العمل منذ 29 أبريل 2016م، إنه يشتبه في تورطهم في عملية مقتل 8 من أفراد وضباط الشرطة بحلوان. وطالبت وزارة الداخلية بتشديد الخدمة والحراسة على جميع البوابات والمنافذ الخاصة بتأمين قصر الاتحادية ومقار أخرى، وعدم السماح لأى فرد أو مركبة بالاقتراب من البوابات والأسوار وتفتيشها تفتيشاً دقيقاً، والإبلاغ الفوري عند التعرف على الأشخاص الأربعة، وذكرت أسماء الضباط رباعية وتواريخ ميلادهم وسنة تخرجهم، والضباط الأربعة هم خريجو دفعة 2012م، وهم حنفي محمد جمال "ويقال إنه من ضمن المشاركين في حادثة الواحات التي وقعت في 20 أكتوبر 2017م، والضابط محمد جمال عبدالعزيز، والضابط خيرت سامي عبدالحميد محمود السبكي، والضابط إسلام وئام أحمد حسن. وهذا يعني أن هناك شرائح بأعمار مختلفة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية بخلاف شريحة الضباط من أمثال هشام عشماوي الذين قاربوا الأربعين عاما، يرفضون تعامل النظام المصري الحالي، وأصبح لديهم رأي مخالف، ويعملون من أجل تغيير الوضع الحالي، عن طريق المواجهة المسلحة. خلاصات واستنتاجات: إن كل محاولات التغيير التي شهدتها المؤسسة العسكرية طيلة السنوات الماضية بالعموم لم تؤتِ ثمارها، ولكن بغلق كل المنافذ أمام من يطالبون بالتغيير من داخل المؤسسة العسكرية بالطرق القانونية والدستورية "من وجهة نظرهم" بتلك الممارسات التي تمت مع الفريق أحمد شفيق بعد إعلان ترشحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وحبس العقيد أحمد قنصوه، واعتقال الفريق سامي عنان ووضعه بالسجن الحربي هو ومن يوالونه، فقد كتبت شهادة وفاة ذلك النموذج في التغيير داخل الجيش المصري، وهذا قد يدفع المطالبون بالتغيير داخل الجيش المصري دفعاً إلى اللجوء للبحث عن طرق أخرى لإحداث ذلك التغيير الذي يريدونه داخل المؤسسة العسكرية والتي يرون أنها مختطفة من قبل مجموعة من القيادات العسكرية. ولذلك فإن من يريد التغيير الآن داخل المؤسسة العسكرية سيكون أمامه ثلاثة بدائل: أول تلك الطرق انضمام الضباط الراغبين في التغيير إلى الجماعات المسلحة، أو تأسيس كيانات مسلحة جديدة تواجه النظام الحالي عن طريق حمل السلاح، ولعل ما كشفت عنه وكالة رويترز بانضمام 30 ضابطا في الفترة الأخيرة إلى جماعة هشام عشماوي من المحتمل أنه يؤكد على ذلك، وأن الضباط الذين يعفون من الخدمة بغرض أسباب سياسية كما نقلت مصادر إعفاء المئات من أفراد قوات الأمن من الخدمة في الشهور القليلة الماضية بسبب انتماءاتهم السياسية أو الدينية، قد ينضمون إلى تلك الجماعات المسلحة في الفترة المقبلة. أما الخطوة الثانية التي من الممكن أن يتبعها بعض أفراد المؤسسة العسكرية في الفترة المقبلة لإحداث تغيير داخل المؤسسة هو بقاء تلك المجموعات داخل هيكل الجيش وعدم الإعلان عن أنفسهم، ولكن سيقومون بإمداد المجموعات المسلحة بالمعلومات التي قد لا يقدرون على الوصول إليها إلا عن طريق أشخاص من داخل الجيش، ويضرب البعض المثل بحادثة استهداف طائرة وزير الدفاع صدقي صبحي أثناء زيارته الأخيرة إلى العريش، والتي رافقه فيها وزير الداخلية مجدي عبد الغفار كنموذج لذلك الطريق الذي سيتبع من قبل تلك المجموعات، وكذلك أيضا ما ذكرته مصادر تابعة لجهاز المخابرات العامة المصرية أن جماعة أنصار الإسلام كانت تعلم مسبقا على الأرجح بتحركات الشرطة قبيل استهدافهم في حادثة الواحات البحرية التي وقعت في شهر أكتوبر 2017م. أما الخطوة الثالثة المحتملة فهي التفكير في انقلاب عسكري محكم يضم في تشكيلاته الوحدات المهمة داخل الجيش المصري؛ كالوحدات التابعة للمنطقة المركزية العسكرية لقربها من الأماكن الحيوية والهامة بالقاهرة، ووحدات تابعة للجيشين الثاني والثالث الميداني كإمداد وتغطية لقوات المنطقة المركزية، وسيكون العائق الأهم الذي ستحاول التعامل معه هي قوات التدخل السريع التي تدين كل الولاء لعبد الفتاح السيسي كونه أنشأها في مارس 2014م، قبيل تخليه عن منصب وزير الدفاع والترشح لرئاسة الجمهورية، وذلك أن السيسي اهتم بتسليحها بشكل متطور ومتنوع منذ إنشائها، وهو ما سيجعل الأمر مشتملا على التفكير في وحدات تابعة للمنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية لمواجهة قوات التدخل السريع المتواجدة بشكل مكثف بالمحافظة. باستمرار السياسات والممارسات التي تعتمدها قيادات الجيش المصري، فإن المرجح أن تزداد شرائح الضباط المتحمسة لتغيير الوضع الحالي، والتي قد تشمل مستويات مختلفة داخل هيكل الجيش المصري، مع تضاؤل في من سيحاول تكرار الطرق الدستورية والقانونية لصالح من سيسلك الطرق الأكثر خشونة، لا سيما وقد صرح رأس النظام نفسه بأن التخلص منه هو الخطوة الأولى في أي عملية تغيير.
نماذج التغيير داخل الجيش المصري.. والمآلات المحتملة
بين حمل السلاح والتغيير السلمي

محمود جمال

[لتحميل العدد الجديد:
https://goo.gl/5pdPnR]

منذ أحداث 03 يوليو 2013م، تعددت محاولات عناصر داخل الجيش المصري لتغيير الأوضاع الحالية، وتنوعت الحالات والأسباب والأهداف، والتي اشتملت في عمومها على معارضة السياسة القائمة التي أنتجت وضعا سياسيا واجتماعيا مضطربا مع كلفة عالية تحملتها قوات الجيش في مكافحة "الإرهاب"، والذي تكبدت من أجله خسائر كبيرة ومتتالية خصوصا في سيناء، وكذلك التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.

بعض المحاولات كتبت شهادة وفاتها في مهدها، ومنها التي لا تزال باقية وتحاول ضم المزيد من العناصر في سبيل تحقيق التغيير المأمول من وجهة نظرهم. ونستطيع أن نضع تلك المحاولات ضمن تصنيفين كبيرين: التغيير القانوني، والتغيير بالقوة.

أولاً: التغيير القانوني والدستوري:

وهو تغيير يتمسك بالحفاظ علي المؤسسة العسكري، ويسلك الطرق القانونية والدستورية للتخلص من القيادات الحالية للجيش المصري، التي يعتبرون أنها "تختطف" المؤسسة العسكرية، وتمثلت في ثلاث محاولات للترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة في مارس 2018:

1-قنصوه يبدأ:

في 29 نوفمبر 2017م، أعلن العقيد أحمد عبد الغفار حسن قنصوه، وهو دكتور مهندس معماري استشاري، مدرس الهندسة المعمارية، يبلغ من العمر 42 عام، في بيان عبر قناته على موقع اليوتيوب نيته الترشح لانتخابات الرئاسة، وذكر أنه سعى لإتمام الإجراءات القانونية فتقدم باستقالته من الخدمة العسكرية في مارس 2014، بعد يومين من إعلان السيسي نيتـَـه الترشحَ للرئاسة، وتبرأ "قنصوه" من كل من فهم إعلانه الترشح على أنه تمردٌ أو دعوةٌ لاتخاذ أي موقف فردي أو جماعي داخل صفوف الجيش، وقال إنه يربأ بزملائه وبنفسه أن يكونوا معاول هدم في البنيان الذي يدينون له جميعا.

كشفت تلك الكلمات إلى أي مدى يحاول قنصوه التغيير داخل المؤسسة العسكرية ملتزما بالطرق القانونية والدستورية، وحاول أن يبرز في كلماته أن هناك مجموعات متواجدة داخل مؤسسات الدولة تؤمن بتلك الطريقة في تغيير الوضع المزري الذي وصلت إليه الدولة المصرية نتيجة ممارسات النظام "العسكري" الحالي.

بعد البيان بأيام اعتُقل قنصوه، وحوكم، وصدر الحكم عليه بالسجن 6 سنوات مع الشغل والنفاذ، وهو ينفذ الحكم الآن بالسجن الحربي.

يمثل أحمد قنصوه طبقة القيادات الوسطي داخل المؤسسة العسكرية، إلا أنه في نفس الوقت حاولت قيادات عليا أن تقوم بخطوة مماثلة.

2- شفيق وعنان:


في نفس اليوم الذي أعلن فيه العقيد أحمد قنصوه عن نيته للترشح للرئاسة، أعلن الفريق أحمد شفيق، الرئيس الأسبق لأركان القوات الجوية عام 1991، وقائد القوات الجوية (إبريل 1996 – 2002)، ووزير الطيران المدني، عن نيته للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قائلاً بأن مصر تصارع كثيرًا من المشاكل التي أثرت على كل جوانب الحياة والتي أدت إلى تدهور جميع الخدمات.

وبعدها بساعات أعلن عن تضييقات تمارسها عليه دولة الإمارات التي ما لبثت أن قامت بترحيله إلى القاهرة بطائرة خاصة، كما صرحت به مي شفيق ابنة الفريق، ومن المطار اصطحبته المخابرات الحربية إلى فندق ماريوت بالقاهرة تحت الإقامة الجبرية، وهُدد بفتح ملفات الفساد وملفات أخرى شخصية وبالتنكيل ببناته الموجودات في الإمارات. وبعدها بأيام أعلن الفريق شفيق تراجعه ليتجنب الحبس في السجن الحربي وحملات التشهير الشخصية والعائلية.


بعدها بأيام أخرى أعلن الفريق سامي حافظ عنان (20 يناير 2018م) رئيس أركان الجيش المصري الأسبق ترشحه لانتخابات الرئاسة، بعد ساعتين من إعلان السيسي ترشحه لولاية ثانية، وأرجع عنان قراره بالترشح إلى تردي أوضاع الشعب المصري نتيجة "سياسات خاطئة حملت القوات المسلحة وحدها مسؤولية الإدارة، دون تمكين القطاع الخاص من القيام بدوره في تسيير أمور الدولة".

وبعد أقل من 72 ساعة جرى اعتقال سامي عنان بعد نشر بيان منسوب للقيادة العامة للجيش المصري تعتبر ما قاله يمثل تحريضا صريحا ضد القوات المسلحة، "بغرض إحداث الوقيعة بينها وبين الشعب". ثم اعتقلت المخابرات الحربية أكثر من 23 ضابط جيش قيل إنهم كانوا على تواصل مع سامي عنان، منهم قيادات عليا بالجيش في عهد مبارك، وكان موقع «ميدل إيست آي» كشف في وقت سابق، أن اجتماعا عقد في القاهرة، لبحث المرشح لخلافة «السيسي»، شارك فيه عدد من كبار ضباط الجيش، منهم رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق «مجدي حتاتة»، و«أسامة عسكر»، القائد السابق للجيش الثالث الميداني. كذلك شمل التنكيل سمير سامي عنان الذي أوقف عن عمله بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا في الإسكندرية، وأحيل للتحقيق.

ثانيا: نماذج التغيير بالقوة:

1-عن طريق الانقلاب العسكري:

كانت أبرز تلك المحاولات بتاريخ 16/6/2015، حيث ألقي القبض على 26 ضابطا (عميدان وأربعة عقداء وثلاثة مقدمين و سبعة عشر رائدا ونقيبان)، بتهمة محاولة الانقلاب العسكري واحتلال وزارة الدفاع والمخابرات الحربية ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدينة الإنتاج الإعلامي، ووزارة الداخلية والأمن الوطني. واتُّهم الرائد مصطفى محمد مصطفى، بصفته موظفا عاما بإفشاء أسرار الدولة، وفي 16/8/2015 أصدرت المحكمة العسكرية مصرية حكمها في القضية وتراوحت الأحكام بين 25 عاماً و15 عاماً و10 أعوام.

وكشفت مصادر أخرى في 22-12-2015 أن القضاء العسكري حكم بالإعدام على ثلاثة ضباط في الجيش "والأرجح أن الحكم لم ينفذ بعد" بتهمة التحضير لانقلاب عسكري، والتخطيط لاغتيال السيسي، وكان المخطط، وفقاً للاتهامات، ينص على قتل السيسي وخلق حالة من الفوضى، والتمهيد لحراك في الشارع تقوده أطراف من القوات المسلحة، لكن مصدراً آخر أوضح أن “الضباط الثلاثة كانوا يجهزون لتفجير طائرة السيسي خلال إحدى السفريات التي يقوم بها إلى الخارج”، وأشارت بعض مصادر أخري إلى أن عدد الضباط المتهمين أكثر من مائة ضابط برتب مختلفة.

2-العمل الجهادي "عشماوي وعماد عبد الحميد نموذجاً":

كانت هذه الوسيلة أحد الطرق التي تبناها بعض ضباط الجيش المصري، إذ انضم بعضهم إلى جماعات مسلحة ومنهم من أسس كيانات مسلحة لمواجهة النظام.

"هشام على عشماوي" مواليد عام 1979، تدرج في الخدمة العسكرية إلى أن وصل إلى رتبة رائد بسلاح الصاعقة، وحاصل على فرقة السيل من الولايات المتحدة الأمريكية، خرج للمعاش عام ٢٠١٢ على خلفية أسباب طبية، ولكن كان "عشماوي" على خلاف تام مع النهج التي تسير عليه قيادات الجيش منذ أيام مبارك، وبعد خروج "عشماوي" من الخدمة بدأ رحلته بالانضمام إلي الجماعات الجهادية، ضمن صفوف جماعة أنصار بيت المقدس وليعمل بجوار زميله النقيب بسلاح الصاعقة سابقاً عماد عبد الحميد وكان قد أحيل إلى العمل المدني بقرار جمهوري لدواعٍ أمنية إثر اعتناقه للفكر الجهادي في عام 2007، وكذلك أيضاً الرائد وليد بدر، وهو خدم بالشئون الإدارية بالجيش، وفُصَل من الخدمة العسكرية عام ٢٠٠٥ لميوله الدينية.

دشن هشام عشماوي وعماد عبد الحميد ووليد بدر أولى أبرز عمليات جماعة الأنصار، حيث شارك هشام وعماد بالتخطيط، بينما استهدف "وليد بدر" بسيارته المفخخة موكب وزير الداخلية اللواء "محمد إبراهيم" في سبتمبر ٢٠١٣ عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة بشهر واحد.

ثم في مارس ٢٠١٤ تولى "هشام عشماوي" مسؤولية خلايا جماعة أنصار بيت المقدس بالوادي، كما قرر فتح جبهة جديدة بالصحراء الغربية ضد نظام السيسي، وأثناء الإعداد لذلك حدث اشتباك مطلع يونيو ٢٠١٤ بين مجموعة من الجماعة ودورية جيش بالفرافرة قتُل خلاله ٥ من عناصر الجيش، ثم أسس "عشماوي" لاحقا معسكرا بالواحات بلغ عدد المتواجدين به ٤٠ عنصرا. ومن ثم شنوا عملياتهم انطلاقا من المعسكر، فهاجموا سرية تابعة لحرس الحدود بالفرافرة وأبادوها بالكامل في يوليو ٢٠١٤. وبتاريخ ٢١/٧/٢٠١٥ أعلن "عشماوي" عن نفسه كأمير لجماعة "المرابطين"، ومن بعد ذلك التاريخ قيل إن عشماوي يوجد في مدينة درنه الليبية، وكان يرافقه أيضا عماد عبد الحميد، حتي قرر "عماد" العودة مرة ثانية إلى مصر في أواخر عام 2016م، ومعه بضعة أفراد من المقاتلين، وظلوا موجودين بالصحراء الغربية حتى أكتوبر من عام 2017م، ذلك الوقت الذي تمكن فيه "عماد" والمجموعة التي معه من نصب كمين محكم لقوات النخبة في وزارة الداخلية وقتلوا 55 عنصرا من عناصر الشرطة المصرية، لكن بعد أيام من تنفيذ العملية قامت القوات الجوية المصرية من رصد "عماد" والمجموعة التي معه وقاموا بقصفهم وقتل "عماد" وأغلبية المجموعة التي كانت معه.

أما بخصوص هشام عشماوي فهو ما زال علي قيد الحياه، وكما نقلت مصادر فإن "عشماوي" قام في السنوات القليلة الماضية بحملة تجنيد وأن تلك الحملة بدأت تؤتي ثمارها حاليا من ناحية الأعداد المنضمة، وقد كشفت وكالة رويترز منذ أيام عن أن الشهور القليلة الماضية شهدت انضمام نحو 30 ضابطا من قوات الأمن إلى جماعة أنصار الإسلام التي يرأسها الضابط السابق هشام عشماوي. وأضافت الوكالة أن ثلاثة مصادر أمنية مصرية ذكرت أن مقتل الضابط عماد عبد الحميد لم يثن مزيدا من ضباط الجيش والشرطة عن الانضمام لجماعة أنصار الإسلام.

لم تقتصر فقط فئة الضباط المنضمين إلي جماعات مسلحة في الفترة ما بعد 03 يوليو 2013م، على ضباط الجيش فقط بل امتدت أيضا إلى الشرطة المصرية ، وبناء على ما قالته وزارة الداخلية في وقت سابق من عام2016م، عن تفاصيل للضباط الأربعة الذين اختفوا وانقطعوا عن العمل منذ 29 أبريل 2016م، إنه يشتبه في تورطهم في عملية مقتل 8 من أفراد وضباط الشرطة بحلوان. وطالبت وزارة الداخلية بتشديد الخدمة والحراسة على جميع البوابات والمنافذ الخاصة بتأمين قصر الاتحادية ومقار أخرى، وعدم السماح لأى فرد أو مركبة بالاقتراب من البوابات والأسوار وتفتيشها تفتيشاً دقيقاً، والإبلاغ الفوري عند التعرف على الأشخاص الأربعة، وذكرت أسماء الضباط رباعية وتواريخ ميلادهم وسنة تخرجهم، والضباط الأربعة هم خريجو دفعة 2012م، وهم حنفي محمد جمال "ويقال إنه من ضمن المشاركين في حادثة الواحات التي وقعت في 20 أكتوبر 2017م، والضابط محمد جمال عبدالعزيز، والضابط خيرت سامي عبدالحميد محمود السبكي، والضابط إسلام وئام أحمد حسن.

وهذا يعني أن هناك شرائح بأعمار مختلفة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية بخلاف شريحة الضباط من أمثال هشام عشماوي الذين قاربوا الأربعين عاما، يرفضون تعامل النظام المصري الحالي، وأصبح لديهم رأي مخالف، ويعملون من أجل تغيير الوضع الحالي، عن طريق المواجهة المسلحة.


خلاصات واستنتاجات:

إن كل محاولات التغيير التي شهدتها المؤسسة العسكرية طيلة السنوات الماضية بالعموم لم تؤتِ ثمارها، ولكن بغلق كل المنافذ أمام من يطالبون بالتغيير من داخل المؤسسة العسكرية بالطرق القانونية والدستورية "من وجهة نظرهم" بتلك الممارسات التي تمت مع الفريق أحمد شفيق بعد إعلان ترشحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وحبس العقيد أحمد قنصوه، واعتقال الفريق سامي عنان ووضعه بالسجن الحربي هو ومن يوالونه، فقد كتبت شهادة وفاة ذلك النموذج في التغيير داخل الجيش المصري، وهذا قد يدفع المطالبون بالتغيير داخل الجيش المصري دفعاً إلى اللجوء للبحث عن طرق أخرى لإحداث ذلك التغيير الذي يريدونه داخل المؤسسة العسكرية والتي يرون أنها مختطفة من قبل مجموعة من القيادات العسكرية.

ولذلك فإن من يريد التغيير الآن داخل المؤسسة العسكرية سيكون أمامه ثلاثة بدائل:
أول تلك الطرق انضمام الضباط الراغبين في التغيير إلى الجماعات المسلحة، أو تأسيس كيانات مسلحة جديدة تواجه النظام الحالي عن طريق حمل السلاح، ولعل ما كشفت عنه وكالة رويترز بانضمام 30 ضابطا في الفترة الأخيرة إلى جماعة هشام عشماوي من المحتمل أنه يؤكد على ذلك، وأن الضباط الذين يعفون من الخدمة بغرض أسباب سياسية كما نقلت مصادر إعفاء المئات من أفراد قوات الأمن من الخدمة في الشهور القليلة الماضية بسبب انتماءاتهم السياسية أو الدينية، قد ينضمون إلى تلك الجماعات المسلحة في الفترة المقبلة.

أما الخطوة الثانية التي من الممكن أن يتبعها بعض أفراد المؤسسة العسكرية في الفترة المقبلة لإحداث تغيير داخل المؤسسة هو بقاء تلك المجموعات داخل هيكل الجيش وعدم الإعلان عن أنفسهم، ولكن سيقومون بإمداد المجموعات المسلحة بالمعلومات التي قد لا يقدرون على الوصول إليها إلا عن طريق أشخاص من داخل الجيش، ويضرب البعض المثل بحادثة استهداف طائرة وزير الدفاع صدقي صبحي أثناء زيارته الأخيرة إلى العريش، والتي رافقه فيها وزير الداخلية مجدي عبد الغفار كنموذج لذلك الطريق الذي سيتبع من قبل تلك المجموعات، وكذلك أيضا ما ذكرته مصادر تابعة لجهاز المخابرات العامة المصرية أن جماعة أنصار الإسلام كانت تعلم مسبقا على الأرجح بتحركات الشرطة قبيل استهدافهم في حادثة الواحات البحرية التي وقعت في شهر أكتوبر 2017م.

أما الخطوة الثالثة المحتملة فهي التفكير في انقلاب عسكري محكم يضم في تشكيلاته الوحدات المهمة داخل الجيش المصري؛ كالوحدات التابعة للمنطقة المركزية العسكرية لقربها من الأماكن الحيوية والهامة بالقاهرة، ووحدات تابعة للجيشين الثاني والثالث الميداني كإمداد وتغطية لقوات المنطقة المركزية، وسيكون العائق الأهم الذي ستحاول التعامل معه هي قوات التدخل السريع التي تدين كل الولاء لعبد الفتاح السيسي كونه أنشأها في مارس 2014م، قبيل تخليه عن منصب وزير الدفاع والترشح لرئاسة الجمهورية، وذلك أن السيسي اهتم بتسليحها بشكل متطور ومتنوع منذ إنشائها، وهو ما سيجعل الأمر مشتملا على التفكير في وحدات تابعة للمنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية لمواجهة قوات التدخل السريع المتواجدة بشكل مكثف بالمحافظة.

باستمرار السياسات والممارسات التي تعتمدها قيادات الجيش المصري، فإن المرجح أن تزداد شرائح الضباط المتحمسة لتغيير الوضع الحالي، والتي قد تشمل مستويات مختلفة داخل هيكل الجيش المصري، مع تضاؤل في من سيحاول تكرار الطرق الدستورية والقانونية لصالح من سيسلك الطرق الأكثر خشونة، لا سيما وقد صرح رأس النظام نفسه بأن التخلص منه هو الخطوة الأولى في أي عملية تغيير.
‏١١‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٧:٢٠ م‏
المقاومة العراقية.. فصول من قصة الظفر عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] خلال الأشهر القليلة الماضية بدأ زحف الغزاة يمتد إلى المساحة المحررة في الشمال السوري، فسقطت عشرات القرى في غضون أيام؛ ما يهدد آخر معاقل الثورة السورية بالسقوط. تكرر نفس السيناريو في ليبيا حيث باتت عين زعيم الحرب (خليفة حفتر) على مدينة درنة بعد سيطرته على بنغازي، ولن تكون طرابلس بعيدة عن طموحاته ومغامراته قياساً إلى ما يحظى به الرجل من دعم ومساندة من مختلف القوى الإقليمية والدولية كوكيل معتمد في الحرب ضد الحركات الإسلامية الناشطة في ليبيا. هذه التطورات الجديدة كشفت عن إمكانية حدوث تحولات جذرية في أنماط وأساليب الفعل الثوري في المرحلة القادمة. إن الحشود الهائلة لخصوم الثورة وتفوقهم النوعي يجعل من انتقال الثوار من أسلوب المواجهة المباشرة والجبهات الثابتة إلى أساليب حرب العصابات خياراً غير مستبعد. لا شك أن الأوضاع في بلدان الثورات خصوصا ليبيا واليمن وسوريا مرشحة إلى مزيد من التصعيد. ففي سوريا لم يعد الحديث عن ثورة تواجه نظاما طائفيا مستبدا حديثا ذا مصداقية، لأن الذي تواجهه الثورة هناك هو في الحقيقة احتلال أجنبي توزعت قواته على امتداد الخريطة السورية، حيث انتشر عشرات الآلاف من الجنود الروس والأمريكان والإيرانيين على طول البلاد وعرضها، وأقاموا قواعد عسكرية ضخمة في عدة مناطق بشمال وشرق وجنوب سوريا. إن الحديث عن احتلال غازٍ ومقاومة تسعى إلى تحرير الوطن والإنسان يحيلنا إلى عدة تجارب ونماذج على مدار عقود بل قرون مضت، لكننا سنتحدث في هذه المناسبة عن تجربة غضة طرية لم تأخذ حظها من الدراسة والتوثيق، وهي المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، وكيف تمكنت من تجريد القوة الأمريكية الجبارة من عناصر السطوة والتفوق، وكيف نجحت في تحويل الترسانة الحربية المكلفة التي استقدمها الغزاة إلى أجسام معدنية عديمة الجدوى والفاعلية. المقاومة العراقية في لحظة من اللحظات لم تستطع فقط خلق توازن للقوى مع قوات الاحتلال والكيانات الرديفة له؛ بل تفوقت عليه حتى غدا هاجس المحتلين ينحصر في إيجاد طرق وأساليب للتعامل مع ما تستحدثه المقاومة من أدوات ووسائل في الحرب والمواجهة. لقد أمضت القوات الغازية معظم وقتها في العراق وهي في حالة دفاع، وقد أظهرت آلاف المقاطع المصورة (المنشورة) جزءاً من هذا. إذا كانت المقاومة الفيتنامية قد ابتكرت أساليبها وتقنياتها في الكفاح والمقاومة، وتألقت في توظيف تكتيكات الأنفاق الحربية والشراك الخداعية التي أحكم الفيتكونغ نصبها في غابات الفيتنام الكثيفة، فإن المقاومة العراقية انتهجت أساليب وتكتيكات حربية أشد فتكاً وأبلغ أثراً وأقل تكلفة. من الخطأ مقارنة المقاومة العراقية بالمقاومة الفيتنامية فهذه الأخيرة كانت تحظى بدعم كبير من الإمبراطورية السوفياتية، حتى أن بعض الأسلحة التي زود بها السوفييت مقاتلي الفيتكونغ كانت متطورة وفعالة أكثر من تلك التي بحوزة الأمريكيين. كما أن التضاريس الفيتنامية تعتبر بيئة مثالية لإطلاق حرب عصابات ناجحة ومستدامة، عكس الجغرافيا العراقية المكشوفة والمنبسطة والخالية من أية موانع أو سواتر طبيعة يمكن الاعتماد عليها في عمليات الكر والفر، وتحييد بعض الأسلحة كسلاح الطيران والدبابات والآليات الثقيلة، إضافة إلى أن المقاومة العراقية لم تتلق أي دعم أو مساعدة من أية قوة إقليمية أو دولية، بل كان اعتمادها على مخزون النظام السابق من الأسلحة ومعظمها أسلحة خفيفة ومتوسطة، وخبرات الضباط السابقين ومن التحق بالساحة العراقية من الكوادر الجهادية المدربة. انطلق طوفان المقاومة في العراق بعد دخول القوات الأمريكية بغداد، وإعلان جورج بوش على متن حاملة الطائرات (يو إس إس أبراهام لنكون) انتهاء العمليات العسكرية، لقد أدرك الأمريكيون آنذاك أن كل حساباتهم كانت خاطئة. كان هاجسهم الأكبر هو إقدام صدام حسين على استخدام ما تبقى لديه من الأسلحة الكيميائية، أو استماتة الجيش العراقي في الدفاع عن العاصمة بغداد. ولم يكن ضمن السيناريوهات التي توقعوها لما بعد سقوط بغداد أن تنطق مقاومة جهادية تحول العراق إلى مقبرة جماعية لجنودهم وآلياتهم. لقد أقدم سلاح الجو الأمريكي في أولى غاراته على تدمير معسكرات وقواعد جماعة أنصار الإسلام في شمال العراق، على أساس أنها الجماعة الجهادية الوحيدة التي يمكن أن تقاوم وجودهم في العراق، وأظهرت الأيام كم كان رجال البنتاغون مخطئين في توقعاتهم. لا شك أن المعطيات الجغرافية للعراق تقول إن أي فعل مقاوم ينطوي على مجازفة كبيرة، فلا غطاء غابوي ولا سلاسل جبلية تتيح الاختباء والمناورة والتدريب ولا خطوط إمداد مفتوحة، كل شيء يوحي بمقاومة يائسة واحتلال طويل الأمد، إلا أن المقاومة العراقية اعتمدت على تقنيات وأساليب أدهشت العالم وأربكت الغزاة، وزادت جغرافية العراق من نجاعتها وفعاليتها. ولعل من أهم هذه التقنيات والأساليب: (الألغام والعبوات الناسفة؛ الاشتباكات الخاطفة؛ القنص؛ السيارات المفخخة؛ الرمانات الحرارية) سنتحدث في هذه المقالة عن العبوات الناسفة وتوظيف المقاومة العراقية لها، وسنرجئ الحديث عن الأساليب الأخرى إلى مناسبات قادمة. تكتيكات المقاومة العراقية نجحت تماماً في تجريد جيش الاحتلال من عناصر قوته وتفوقه، فسلاح الجو بكل أصنافه وأنواعه لم يعد يجدي، وهو الذي يُراهن عليه عادة في الحسم وترجيح موازين القوة. سلاح الدبابات أيضاً تم تعطيله ونزع الفاعلية منه، لأنها عاجزة عن المناورة السريعة بين الأحياء والممرات السكنية الضيقة، وهي بطيئة وثقيلة ما يجعلها صيداً سهلاً للعبوات الناسفة. ظهر سلاح العبوات الناسفة في الأيام الأولى من الاحتلال وسرعان ما تحول إلى نمط كفاحي عم معظم أرجاء العراق. سلاح بدائي فتاك وغير مكلف. لقد أحس رجال البنتاغون بالغيظ والمرارة وهم يشاهدون ترسانتهم الجبارة تتحول إلى فتات يتناثر في الهواء. زرع رجال المقاومة العراقية عبواتهم في كل الأماكن التي يغلب على الظن أن آليات الاحتلال ورجاله سيمرون فيها، وموهوها بطرق مبتكرة لا تخطر على بال، بطمرها تحت التراب أو وضعها في كيس بلاستيكي لتظهر ككيس قمامة ملقى على قارعة الطريق، أو دسها في جوف الحيوانات النافقة كالكلاب والقطط وغيرها. وأحياناً تعمد المقاومة إلى وضع عبوة تمويهية بارزة ووضع أخرى مخفية على مقربة منها، وعندما يجتمع الخبراء لتفكيك العبوة التمويهية يفجرون العبوات المخفية. أحياناً لا ينتظر رجال المقاومة مرور الآلية العسكرية على عبوتهم، بل يحملونها إلى أماكن تمركز هذه الآليات، حيث أظهرت عدد من المقاطع المصورة زحف هؤلاء بحذر حتى الوصول إلى تحت الدبابة المأهولة وزرع العبوة تحتها ثم تفجيرها عن بعد. الإحصائيات الرسمية التي نشرها البنتاغون تظهر أن أكثر من 70 في المئة من خسائر قوات الاحتلال في العراق ناجمة عن سلاح العبوات الناسفة، وأن معظم حالات الانتحار والأمراض النفسية التي أصابت العائدين من الحرب كانت بسبب رعب العبوات الناسفة. كما أن جل الإصابات الخطيرة وحالات بتر الأطراف والتشوهات الحادة تعود إلى نفس السبب. عجز جيش الاحتلال بما راكمه من خبرات وما طوره من تقنيات على مدار عقود عن التعامل مع التحدي الكبير الذي تمثله "قنابل المقاومة". بعد مقتل الآلاف من جنود الاحتلال دفع البنتاغون بتقنيات متطورة إلى ميدان المواجهة بهدف كشف العبوات وتعطيلها، فظهرت كاسحات الألغام وهي عربات مزودة بأجهزة استشعار وتقنيات تقوم بالتشويش على الموجات الراديوية التي بواسطتها تُفجر العبوات عن بعد. بعد أشهُر من وصل الكاسحات إلى العراق أظهرت أفلام مصورة كيف غدت هذه الكاسحات صيداً سهلاً لعبوات أشد فتكاً وتطوراً، وقد أعلنت فصائل المقاومة آنذاك تطويرها لأجهزة تحكم عن بعد لا تخضع للتشويش، وهكذا ذهبت ملايير الدولارات التي أنفقت على مشاريع الكاسحات أدراج الرياح. مثلت العبوات الناسفة كابوساً مؤرقاً للاحتلال، وسلاحاً مدمراً عجز عن تطوير ما يردعه أو يحد من تأثيره، تماماً مثلما تمثل الطائرات بدون طيار وسلاح الجو عموما كابوساً مؤرقاً للثوار اليوم. هكذا قلبت المقاومة العراقية موازين القوة، وبنت لنفسها قوة ردع ذاتية فعالة وغير مكلفة. في دراسة لخدمة أبحاث الكونجرس صدرت في 25 سبتمبر 2006 حول العبوات الناسفة في العراق فإن ما أُنفق منذ 2004 إلى 2006 لتمويل محاولات يائسة لمكافحة العبوات الناسفة بلغ 6.1 مليار دولار، حيث مُولت عدة هيئات متخصصة في البحث عن التقنية التي تسهم في الكشف عنها بما فيها الطائرات، وعندما عجزوا قرروا تخصيص طرق مؤمنة خاصة لتحرك المعدات. ولمواجهة التطور الذي عرفته عبوات المقاومة دعا البنتاغون إلى عقد مؤتمر في (فورت إيروين)، بصحراء كاليفورنيا، حيث ناقش مهندسون وخبراء وقادة كبار في الجيش الأمريكي المشاكل التي تفرضها التقنيات الجديدة للمقاومة العراقية. وقد وصف الكولونيل بوب ديفيس، خبير المتفجرات في الجيش الأمريكي العناصر الجديدة في بعض المتفجرات، بأنها (مزعجة) على نحو (بارع). مع تصاعد عمليات تفجير المعدات على الطرق أسسوا صندوقاً للإنفاق على برامج تساعد في مواجهة العبوات الناسفة بداية من 2006، واستنزف ميزانية تقدر بـ 16 مليار دولار إلى حدود سنة 2010، دون أن يتم تقديم نموذج ناجع لتقنية قادرة على احتواء تهديد العبوات الناسفة. وفي الأخير اضطرت قوات الاحتلال إلى تقليل تحركاتها والانكفاء في القواعد والثكنات المحصنة ثم الانسحاب الجزئي في وقت لاحق. إنه أمر يبعث على الجنون بالنسبة لمخططي البنتاغون ورجال السياسة في أمريكا أن يروا دبابة (أبرامز) البالغ ثمنها أكثر من 8 ملايين دولار تتحول في أجزاء من الثانية إلى فتات في الهواء بفعل عبوة ناسفة لا يتجاوز سعرها 50 دولاراً. فضلاً عن العربات الأخرى التي كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين ملايير الدولارات مثل "الهامر" و"الهامفي" وأنواع أخرى من الآليات حصدتها العبوات بالمئات والآلاف. جدير بالإشارة في سياق الحديث عن العبوات الناسفة واستنزافها لميزانية الاحتلال أن أكبر قضايا الفساد المالي في العراق مرتبطة باقتناء معدات مزيفة يفترض أنها تساعد على كشف العبوات، وقدرت قيمة العقود المبرمة في هذه الصفقات بمئات الملايين من الدولارات ابتداء من 2007، واستمر العمل بتلك الأجهزة المغشوشة عدة سنوات لأنها تجارة تدر على رجال المنطقة الخضراء ملايين الدولارات. مع الأسف لا توجد كتب أو ملفات توثيقية تتناول بالبحث والدرس تكتيكات المقاومة العراقية وتؤرخ لأيامها، وما يتوفر منها بالعربية لا يتجاوز الكتابين أو الثلاثة، والمواد الإعلامية والتوثيقية التي كانت تصدر عن فصائل المقاومة معظمها اختفى من الشبكة. بينما تقوم الولايات المتحدة عبر صروحها الإعلامية الضخمة بتزييف التاريخ وإعادة كتابته لترميم ما تداعى من هيبة "القوة العظمى"، وإعادة الاعتبار لرجال المارينز "الخارقين"، فقد أنتجت هوليود عدداً من الأفلام بميزانيات ضخمة حول العراق والمقاومة، أحدها يتحدث عن "بطولات وذكاء" خبراء نزع العبوات الناسفة بعنوان (The hurt locker)، وفيلم آخر يتحدث عن بطولات قناص أمريكي في العراق بعنوان (American Sniper) للتغطية وحرف الأنظار عن ملاحم القناص العراقي الشهير "قناص بغداد". وقد بلغ عدد الأفلام الأمريكي التي تناولت الحرب على العراق أكثر من 30 فيلماً روائياً طويلاً، أما إجمالي الأفلام الأمريكية التي تناولت تلك الحرب حسب بعض الإحصائيات فهو يتجاوز 200 فيلم بما فيها الأفلام القصيرة والوثائقية والأفلام الروائية الطويلة التي تناولت الحرب بصورة ثانوية. ورغم أن بعض هذه الأفلام أشاد بالأصوات المعارضة للحرب إلا أنها تقاسمت الرأي ذاته حول الطبيعة الإرهابية والهمجية لأولئك الرجال الذين يقاتلون الجنود الأمريكيين في العراق. وكما صنعت هوليوود من الجنود الأمريكيين في فيتنام أبطالاً مخلدين عبر سلسلة أفلام RAMBO تريد أن تفعل الأمر نفسه مع الجنود الأمريكيين في العراق. فهل يبادر أهل الكفاءة والاختصاص من أمتنا لتقديم خدمة للتاريخ والإنسانية والأجيال القادمة بتدوين ونقل الحقيقة قبل أن يبددها وهْم هوليوود؟
المقاومة العراقية.. فصول من قصة الظفر

عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد:
https://goo.gl/5pdPnR]

خلال الأشهر القليلة الماضية بدأ زحف الغزاة يمتد إلى المساحة المحررة في الشمال السوري، فسقطت عشرات القرى في غضون أيام؛ ما يهدد آخر معاقل الثورة السورية بالسقوط. تكرر نفس السيناريو في ليبيا حيث باتت عين زعيم الحرب (خليفة حفتر) على مدينة درنة بعد سيطرته على بنغازي، ولن تكون طرابلس بعيدة عن طموحاته ومغامراته قياساً إلى ما يحظى به الرجل من دعم ومساندة من مختلف القوى الإقليمية والدولية كوكيل معتمد في الحرب ضد الحركات الإسلامية الناشطة في ليبيا.

هذه التطورات الجديدة كشفت عن إمكانية حدوث تحولات جذرية في أنماط وأساليب الفعل الثوري في المرحلة القادمة. إن الحشود الهائلة لخصوم الثورة وتفوقهم النوعي يجعل من انتقال الثوار من أسلوب المواجهة المباشرة والجبهات الثابتة إلى أساليب حرب العصابات خياراً غير مستبعد.

لا شك أن الأوضاع في بلدان الثورات خصوصا ليبيا واليمن وسوريا مرشحة إلى مزيد من التصعيد. ففي سوريا لم يعد الحديث عن ثورة تواجه نظاما طائفيا مستبدا حديثا ذا مصداقية، لأن الذي تواجهه الثورة هناك هو في الحقيقة احتلال أجنبي توزعت قواته على امتداد الخريطة السورية، حيث انتشر عشرات الآلاف من الجنود الروس والأمريكان والإيرانيين على طول البلاد وعرضها، وأقاموا قواعد عسكرية ضخمة في عدة مناطق بشمال وشرق وجنوب سوريا.

إن الحديث عن احتلال غازٍ ومقاومة تسعى إلى تحرير الوطن والإنسان يحيلنا إلى عدة تجارب ونماذج على مدار عقود بل قرون مضت، لكننا سنتحدث في هذه المناسبة عن تجربة غضة طرية لم تأخذ حظها من الدراسة والتوثيق، وهي المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، وكيف تمكنت من تجريد القوة الأمريكية الجبارة من عناصر السطوة والتفوق، وكيف نجحت في تحويل الترسانة الحربية المكلفة التي استقدمها الغزاة إلى أجسام معدنية عديمة الجدوى والفاعلية.

المقاومة العراقية في لحظة من اللحظات لم تستطع فقط خلق توازن للقوى مع قوات الاحتلال والكيانات الرديفة له؛ بل تفوقت عليه حتى غدا هاجس المحتلين ينحصر في إيجاد طرق وأساليب للتعامل مع ما تستحدثه المقاومة من أدوات ووسائل في الحرب والمواجهة. لقد أمضت القوات الغازية معظم وقتها في العراق وهي في حالة دفاع، وقد أظهرت آلاف المقاطع المصورة (المنشورة) جزءاً من هذا.

إذا كانت المقاومة الفيتنامية قد ابتكرت أساليبها وتقنياتها في الكفاح والمقاومة، وتألقت في توظيف تكتيكات الأنفاق الحربية والشراك الخداعية التي أحكم الفيتكونغ نصبها في غابات الفيتنام الكثيفة، فإن المقاومة العراقية انتهجت أساليب وتكتيكات حربية أشد فتكاً وأبلغ أثراً وأقل تكلفة. من الخطأ مقارنة المقاومة العراقية بالمقاومة الفيتنامية فهذه الأخيرة كانت تحظى بدعم كبير من الإمبراطورية السوفياتية، حتى أن بعض الأسلحة التي زود بها السوفييت مقاتلي الفيتكونغ كانت متطورة وفعالة أكثر من تلك التي بحوزة الأمريكيين. كما أن التضاريس الفيتنامية تعتبر بيئة مثالية لإطلاق حرب عصابات ناجحة ومستدامة، عكس الجغرافيا العراقية المكشوفة والمنبسطة والخالية من أية موانع أو سواتر طبيعة يمكن الاعتماد عليها في عمليات الكر والفر، وتحييد بعض الأسلحة كسلاح الطيران والدبابات والآليات الثقيلة، إضافة إلى أن المقاومة العراقية لم تتلق أي دعم أو مساعدة من أية قوة إقليمية أو دولية، بل كان اعتمادها على مخزون النظام السابق من الأسلحة ومعظمها أسلحة خفيفة ومتوسطة، وخبرات الضباط السابقين ومن التحق بالساحة العراقية من الكوادر الجهادية المدربة.

انطلق طوفان المقاومة في العراق بعد دخول القوات الأمريكية بغداد، وإعلان جورج بوش على متن حاملة الطائرات (يو إس إس أبراهام لنكون) انتهاء العمليات العسكرية، لقد أدرك الأمريكيون آنذاك أن كل حساباتهم كانت خاطئة. كان هاجسهم الأكبر هو إقدام صدام حسين على استخدام ما تبقى لديه من الأسلحة الكيميائية، أو استماتة الجيش العراقي في الدفاع عن العاصمة بغداد. ولم يكن ضمن السيناريوهات التي توقعوها لما بعد سقوط بغداد أن تنطق مقاومة جهادية تحول العراق إلى مقبرة جماعية لجنودهم وآلياتهم. لقد أقدم سلاح الجو الأمريكي في أولى غاراته على تدمير معسكرات وقواعد جماعة أنصار الإسلام في شمال العراق، على أساس أنها الجماعة الجهادية الوحيدة التي يمكن أن تقاوم وجودهم في العراق، وأظهرت الأيام كم كان رجال البنتاغون مخطئين في توقعاتهم.

لا شك أن المعطيات الجغرافية للعراق تقول إن أي فعل مقاوم ينطوي على مجازفة كبيرة، فلا غطاء غابوي ولا سلاسل جبلية تتيح الاختباء والمناورة والتدريب ولا خطوط إمداد مفتوحة، كل شيء يوحي بمقاومة يائسة واحتلال طويل الأمد، إلا أن المقاومة العراقية اعتمدت على تقنيات وأساليب أدهشت العالم وأربكت الغزاة، وزادت جغرافية العراق من نجاعتها وفعاليتها. ولعل من أهم هذه التقنيات والأساليب: (الألغام والعبوات الناسفة؛ الاشتباكات الخاطفة؛ القنص؛ السيارات المفخخة؛ الرمانات الحرارية) سنتحدث في هذه المقالة عن العبوات الناسفة وتوظيف المقاومة العراقية لها، وسنرجئ الحديث عن الأساليب الأخرى إلى مناسبات قادمة.

تكتيكات المقاومة العراقية نجحت تماماً في تجريد جيش الاحتلال من عناصر قوته وتفوقه، فسلاح الجو بكل أصنافه وأنواعه لم يعد يجدي، وهو الذي يُراهن عليه عادة في الحسم وترجيح موازين القوة. سلاح الدبابات أيضاً تم تعطيله ونزع الفاعلية منه، لأنها عاجزة عن المناورة السريعة بين الأحياء والممرات السكنية الضيقة، وهي بطيئة وثقيلة ما يجعلها صيداً سهلاً للعبوات الناسفة. ظهر سلاح العبوات الناسفة في الأيام الأولى من الاحتلال وسرعان ما تحول إلى نمط كفاحي عم معظم أرجاء العراق. سلاح بدائي فتاك وغير مكلف. لقد أحس رجال البنتاغون بالغيظ والمرارة وهم يشاهدون ترسانتهم الجبارة تتحول إلى فتات يتناثر في الهواء.

زرع رجال المقاومة العراقية عبواتهم في كل الأماكن التي يغلب على الظن أن آليات الاحتلال ورجاله سيمرون فيها، وموهوها بطرق مبتكرة لا تخطر على بال، بطمرها تحت التراب أو وضعها في كيس بلاستيكي لتظهر ككيس قمامة ملقى على قارعة الطريق، أو دسها في جوف الحيوانات النافقة كالكلاب والقطط وغيرها. وأحياناً تعمد المقاومة إلى وضع عبوة تمويهية بارزة ووضع أخرى مخفية على مقربة منها، وعندما يجتمع الخبراء لتفكيك العبوة التمويهية يفجرون العبوات المخفية.

أحياناً لا ينتظر رجال المقاومة مرور الآلية العسكرية على عبوتهم، بل يحملونها إلى أماكن تمركز هذه الآليات، حيث أظهرت عدد من المقاطع المصورة زحف هؤلاء بحذر حتى الوصول إلى تحت الدبابة المأهولة وزرع العبوة تحتها ثم تفجيرها عن بعد.

الإحصائيات الرسمية التي نشرها البنتاغون تظهر أن أكثر من 70 في المئة من خسائر قوات الاحتلال في العراق ناجمة عن سلاح العبوات الناسفة، وأن معظم حالات الانتحار والأمراض النفسية التي أصابت العائدين من الحرب كانت بسبب رعب العبوات الناسفة. كما أن جل الإصابات الخطيرة وحالات بتر الأطراف والتشوهات الحادة تعود إلى نفس السبب.

عجز جيش الاحتلال بما راكمه من خبرات وما طوره من تقنيات على مدار عقود عن التعامل مع التحدي الكبير الذي تمثله "قنابل المقاومة". بعد مقتل الآلاف من جنود الاحتلال دفع البنتاغون بتقنيات متطورة إلى ميدان المواجهة بهدف كشف العبوات وتعطيلها، فظهرت كاسحات الألغام وهي عربات مزودة بأجهزة استشعار وتقنيات تقوم بالتشويش على الموجات الراديوية التي بواسطتها تُفجر العبوات عن بعد. بعد أشهُر من وصل الكاسحات إلى العراق أظهرت أفلام مصورة كيف غدت هذه الكاسحات صيداً سهلاً لعبوات أشد فتكاً وتطوراً، وقد أعلنت فصائل المقاومة آنذاك تطويرها لأجهزة تحكم عن بعد لا تخضع للتشويش، وهكذا ذهبت ملايير الدولارات التي أنفقت على مشاريع الكاسحات أدراج الرياح.

مثلت العبوات الناسفة كابوساً مؤرقاً للاحتلال، وسلاحاً مدمراً عجز عن تطوير ما يردعه أو يحد من تأثيره، تماماً مثلما تمثل الطائرات بدون طيار وسلاح الجو عموما كابوساً مؤرقاً للثوار اليوم. هكذا قلبت المقاومة العراقية موازين القوة، وبنت لنفسها قوة ردع ذاتية فعالة وغير مكلفة.

في دراسة لخدمة أبحاث الكونجرس صدرت في 25 سبتمبر 2006 حول العبوات الناسفة في العراق فإن ما أُنفق منذ 2004 إلى 2006 لتمويل محاولات يائسة لمكافحة العبوات الناسفة بلغ 6.1 مليار دولار، حيث مُولت عدة هيئات متخصصة في البحث عن التقنية التي تسهم في الكشف عنها بما فيها الطائرات، وعندما عجزوا قرروا تخصيص طرق مؤمنة خاصة لتحرك المعدات. ولمواجهة التطور الذي عرفته عبوات المقاومة دعا البنتاغون إلى عقد مؤتمر في (فورت إيروين)، بصحراء كاليفورنيا، حيث ناقش مهندسون وخبراء وقادة كبار في الجيش الأمريكي المشاكل التي تفرضها التقنيات الجديدة للمقاومة العراقية. وقد وصف الكولونيل بوب ديفيس، خبير المتفجرات في الجيش الأمريكي العناصر الجديدة في بعض المتفجرات، بأنها (مزعجة) على نحو (بارع).

مع تصاعد عمليات تفجير المعدات على الطرق أسسوا صندوقاً للإنفاق على برامج تساعد في مواجهة العبوات الناسفة بداية من 2006، واستنزف ميزانية تقدر بـ 16 مليار دولار إلى حدود سنة 2010، دون أن يتم تقديم نموذج ناجع لتقنية قادرة على احتواء تهديد العبوات الناسفة. وفي الأخير اضطرت قوات الاحتلال إلى تقليل تحركاتها والانكفاء في القواعد والثكنات المحصنة ثم الانسحاب الجزئي في وقت لاحق. إنه أمر يبعث على الجنون بالنسبة لمخططي البنتاغون ورجال السياسة في أمريكا أن يروا دبابة (أبرامز) البالغ ثمنها أكثر من 8 ملايين دولار تتحول في أجزاء من الثانية إلى فتات في الهواء بفعل عبوة ناسفة لا يتجاوز سعرها 50 دولاراً. فضلاً عن العربات الأخرى التي كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين ملايير الدولارات مثل "الهامر" و"الهامفي" وأنواع أخرى من الآليات حصدتها العبوات بالمئات والآلاف.
جدير بالإشارة في سياق الحديث عن العبوات الناسفة واستنزافها لميزانية الاحتلال أن أكبر قضايا الفساد المالي في العراق مرتبطة باقتناء معدات مزيفة يفترض أنها تساعد على كشف العبوات، وقدرت قيمة العقود المبرمة في هذه الصفقات بمئات الملايين من الدولارات ابتداء من 2007، واستمر العمل بتلك الأجهزة المغشوشة عدة سنوات لأنها تجارة تدر على رجال المنطقة الخضراء ملايين الدولارات.

مع الأسف لا توجد كتب أو ملفات توثيقية تتناول بالبحث والدرس تكتيكات المقاومة العراقية وتؤرخ لأيامها، وما يتوفر منها بالعربية لا يتجاوز الكتابين أو الثلاثة، والمواد الإعلامية والتوثيقية التي كانت تصدر عن فصائل المقاومة معظمها اختفى من الشبكة. بينما تقوم الولايات المتحدة عبر صروحها الإعلامية الضخمة بتزييف التاريخ وإعادة كتابته لترميم ما تداعى من هيبة "القوة العظمى"، وإعادة الاعتبار لرجال المارينز "الخارقين"، فقد أنتجت هوليود عدداً من الأفلام بميزانيات ضخمة حول العراق والمقاومة، أحدها يتحدث عن "بطولات وذكاء" خبراء نزع العبوات الناسفة بعنوان (The hurt locker)، وفيلم آخر يتحدث عن بطولات قناص أمريكي في العراق بعنوان (American Sniper) للتغطية وحرف الأنظار عن ملاحم القناص العراقي الشهير "قناص بغداد".

وقد بلغ عدد الأفلام الأمريكي التي تناولت الحرب على العراق أكثر من 30 فيلماً روائياً طويلاً، أما إجمالي الأفلام الأمريكية التي تناولت تلك الحرب حسب بعض الإحصائيات فهو يتجاوز 200 فيلم بما فيها الأفلام القصيرة والوثائقية والأفلام الروائية الطويلة التي تناولت الحرب بصورة ثانوية. ورغم أن بعض هذه الأفلام أشاد بالأصوات المعارضة للحرب إلا أنها تقاسمت الرأي ذاته حول الطبيعة الإرهابية والهمجية لأولئك الرجال الذين يقاتلون الجنود الأمريكيين في العراق. وكما صنعت هوليوود من الجنود الأمريكيين في فيتنام أبطالاً مخلدين عبر سلسلة أفلام RAMBO تريد أن تفعل الأمر نفسه مع الجنود الأمريكيين في العراق.

فهل يبادر أهل الكفاءة والاختصاص من أمتنا لتقديم خدمة للتاريخ والإنسانية والأجيال القادمة بتدوين ونقل الحقيقة قبل أن يبددها وهْم هوليوود؟
‏٠٩‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٦:٥٥ م‏
استراتيجيات النصر.. تحديد نقاط الضعف خالد فؤاد [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] لن يكون بمقدورك أن تهزم هذا الجسد الضخم، ثمة أمل في أن تصل الى موضع يتهاوى معه الجسد ولكن قبل أن تصل إلى هذا الموضع لا تدع دوامة المعارك الجانبية تستنزف قوتك، ضع نظرك دائما إلى هدف محدد واحسب المآلات والنتائج المترتبة، واعلم ان هذا الجسد الضخم يحتاج استراتيجية تعتمد على فهم دقيق لمفاصل الجسد والعقل الذي تصدر منه القرارت ومواطن الضعف. لطالما كانت المعارك القديمة تزخر بفنون وخطط المواجهة مع الجيوش الضخمة والقوى العظمى، قدمت تلك المعارك أافكار متعددة تستطيع من خلالها القوى الناشئة ليس فقط توجيه ضربات موجعة لتلك الجيوش الضخمة ولكن هزيمتها والقضاء عليها، أصبحت فيما بعد تلك الفنون والأفكار تمثل استراتيجيات ليس فقط للمعارك العسكرية ولكن للثورات وإدارة الأزمات بين الدول وإدارة الشركات والمؤسسات. المشكلة الجوهرية والدائمة في أغلب المواجهات بين قوتين هي تلك المعضلة المتعلقة بمواجهة جسد ضخم أو قوى تفوق إمكانياتك بفروق ليست بسيطة؛ حيث تذهب أغلب هذه المواجهات في اتجاه معارك استنزاف طويلة الأمد لا تسفر عن تحقيق مكسب جوهري للطرف صاحب الإمكانيات الأقل؛ بل خسارة واستنزاف للموارد البشرية والمادية ودون أن ينال من الجسد الضخم بما يساوي حجم الجهد والتضحيات التي بذلت، قليلة هي التجارب التي بدأت بمواجهة العقول قبل مواجهة القوة، وتلك هي التي حققت نجاحات سجلها التاريخ. أحد هذه التجارب تقدم لنا واحدة من الاستراتيجيات الهامة والفعالة في هذا الإطار، قبل أكثر من ألفي عام وتحديداً قبل مائتي عام من الميلاد دارت حرب طاحنة وطويلة بين الإمبراطورية الرومانية والتي كانت تتخذ من مدينة "روما" عاصمة لها، وبين إمبراطورية قرطاجية والتي كانت تتخذ من مدينة "قرطاج" عاصمة لها (تقع بالقرب من تونس العاصمة حالياً)، كان الصراع والمنافسة محتدمة بين الطرفين للسيطرة على منطقة غرب البحر المتوسط، استمرت المعارك بين الجيش الروماني والجيش القرطاجي لفترات طويلة ومتقطعة ولكن تبقى الفترة الأبرز في تلك المعارك هي تلك الفترة التي امتدت أكثر من 18 عاما (218-201 ق.م) والتي كان على رأس قيادة الجيش القرطاجي حينها القائد الفذ "هنيبعل"، ذلك القائد الذي ما زالت خططه العسكرية تستخدم حتى يومنا هذا، تمكن الجيش القرطاجي في تلك الفترة من تهديد الإمبراطورية الرومانية تهديداً بالغاً؛ حيث عبرت جيوش هنيبعل جبال الألب وغزت أجزاء من إيطاليا واقتربت من روما العاصمة التاريخية والحصينة، على الجهة الأخرى لم يتمكن الرومان من صد هذا الهجوم القرطاجي، فقط تمكن أحد القادة الرومان "فابيوس" من وضع استراتيجية تقلل من الخطر القرطاجي والتهديد الدائم لروما. اعتمد فابيوس على استراتيجية الكر والفر من خلال معارك الاستنزاف الخارجية مع العدو، كان هدف فابيوس الرئيسي من وراء هذه الاستراتيجية هو تقليل حجم خسائر الرومان، ومحاولة إشغال الجيش القرطاجي واستنزافه في معارك صغيرة ومتتالية تُبعد الخطر القرطاجي عن روما، نجحت الاستراتيجية في تحقيق هدف عدم تقدم الجيش القرطاجي نحو روما ولكن في الوقت نفسه كانت خسائر الجيش الروماني ضخمة وربما لا تتناسب مع مجرد صد وإيقاف الخطر القرطاجي، بدا واضحاً أن استراتيجية فابيوس في الأساس لا تمتلك مقومات النجاح حيث لم تكن الاستراتيجية تسعى إلى تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بهنيبعل وجيشه، ولكنها اعتمدت فقط على استنزاف قوة الجيش القرطاجي وإبقائه في مكانه دون تقدم وهو ما جعل المعارك تسير في اتجاه لا يبدو معه أن ثمة نهاية قريبة لتلك الحرب مع استمرار الاستنزاف في صفوف الجيش الروماني دون تحقيق نصر حقيقي. بعد عدة سنوات من معارك الاستنزاف بين الطرفين وفي نفس إطار استراتيجية فابيوس، وقف "تسيبيو" ذلك القائد الروماني صغير السن مع جيشه محدود العدد على ضفاف نهر إيبرو (نهر يقع في شمال شرق إسبانيا) للاستعداد للسيطرة على منطقة النهر والدخول في معارك مع الجيش القرطاجي الذي امتلك وراء النهر عدة مستعمرات قوية وغنية بالثروات. كان تسيبيو يدرك أن ثمة إشكالية في استراتيجية فابيوس التي ينتهجها الجيش الروماني في كل معاركه، فمع الوقت واستمرار الاستنزاف بين الطرفين ستكون النهاية الحتمية تهديدا حقيقيا للعاصمة الرومانية، وربما الهزيمة ونهاية مأسوية بسقوط روما، في نفس الوقت كان تسيبيو يدرك الفارق الكبير في إمكانيات جيش هنيبعل وقدراته الفائقة على المناورة السريعة أمام الجيوش الضخمة، وهو ما جعل تسيبيو يذهب بعيداً إلى نقطة لم يسبقه إليها أحداً من طرفي المعركة! حاول تسيبيو أن يفهم جيداً ويحدد خريطة ومراك قوى الجيش القرطاجي الذي بلغ عدده في ذلك الوقت ضعف عدد الجيش الروماني، وامتد في جميع أنحاء إسبانيا مسيطراً على أغلب القبائل الإسبانية. على بعد عدة أميال من هذا المشهد الذي لا يبدو من خلاله أي إمكانية لتحقيق انتصار للرومان حتى لو بدا جزئيا، كانت تقبع في هدوء مدينة قرطاج الجديدة (تسمى الآن "قرطاجينا" وهي مدينة ساحلية تقع في جنوب شرق إسبانيا)، لم تكن تلك المدينة سوى مستودع ثروات الجيش القرطاجي ومركز إمداداته الرئيسي ونقطة انطلاق الدعم اللوجيستي للجيوش القرطاجية في إسبانيا، في ذلك الوقت جاءت التقارير لتسيبيو بمعلومة بسيطة ولكنها فيما بعد ستمثل تحولاً هاماً في مسار المعارك بين الطرفين، لم يكن يوجد في قرطاج الجديدة سوى 1000 جندي فقط حيث كانت بقية الجنود والقيادات العسكرية منشغلة في معارك في مناطق مختلفة في إسبانيا، بدت المعلومة بسيطة لحاملها إلى تسيبيو لكنها مثلت لتسبيو نقطة الانطلاق في تدشين استراتيجيته التي سينتهجها فيما بعد في معركته مع القرطاجيين، هكذا اكتشف تسيبيو أحد أهم مراكز قوى الجيش القرطاجي والتي مثلت في نفس الوقت نقطة ضعفه الأبرز، بدت ملامح استراتيجية تسيبيو في التشكل فوراً، قرر أن يترك نهر إيبرو ويذهب بعيداً، هناك حيث تقبع مدينة قرطاج الجديدة بعيدة عن الأنظار، انطلق تسيبيو مسرعاً بجيشه نحو المدينة في الوقت الذي كان الجيش القرطاجي يستعد لملاقاته عند نهر إيبرو، هكذا خالف تسبيبو كل التوقعات وذهب ليوجه ضربة موجعة لأبرز نقاط ضعف الجيش القرطاجي والتي ستحدث فيما بعد خللاً هائلا في موازين القوى بين الطرفين لصالح الجيش الروماني، غارة سريعة كانت هي ما قام به الجيش الروماني بقيادة تسيبيو حتى يسيطر على أهم نقاط الإمداد بالمال والجنود للجيش القرطاجي، هكذا نجح تسيبيو في الاستيلاء على قرطاج الجديدة بسهولة. سنوات قليلة بعد سقوط قرطاج الجديدة استطاع فيها الرومان فرض سيطرتهم الكاملة على إسبانيا وطرد الجيوش القرطاجية منها وذهبوا إلى أبعد من ذلك، إلى عقر دار القائد هنيبعل في قرطاج نفسها، لتنتهي قصة الجيش القرطاجي والقائد القوي هنيبعل وتصبح قرطاج أحد المدن التابعة إلى روما. تحمل قصة الحرب بين الرومانيين والقرطاجيين الكثير من التفاصيل والكثير من الدروس والعبر؛ لكن يبقى أحد أهم تلك الدروس المستفادة هي تلك الاستراتيجية التي دشنها تسيبيو لتغير من مسار المعارك بشكل كلي لصالح الجيش الروماني. ليست العبرة بتوجيه الضربات إلى العدو وليست العبرة بقوتها وحجمها فقط ولكن العبرة بقدرتها على إحداث خلل في أحد أهم مراكز القوة لدى العدو، ذلك العمود الذي يرتكز عليه ويمثل مركز قوته ولكنه في نفس الوقت يمثل نقطة ضعفه الأبرز والتي تتسبب توجيه ضربة مؤثرة إليه في بداية سقوطه وانهياره. تبدو الإشكالية دائما في تلك الاستراتيجية في أكثر من نقطة جوهرية، وتفقد الاستراتيجية فعاليتها بدون تحقق هذه النقاط: · القدرة على تحديد ذلك العمود (نقطة الضعف الأبرز) بدقة، وهو أمر لا يتوقف فقط على حجم المعلومات التي لديك عن عدوك، ولكنه بالأساس يتوقف على كيفية قراءة تلك المعلومات بنظرة أكثر دقة ومن زوايا مختلفة؛ لتتوفر لك خريطة متكاملة ودقيقة عن أبرز مراكز القوى لدى عدوك وعلاقتها ببعضها البعض، ويحتاج الأمر إلى الابتعاد عن المظهر الخارجي القوي للعدو والذي ربما يكون خادعاً ومبهراً والغوص في أعماق جسد العدو لتصل إلى تلك النقطة الحساسة. · القدرة على إصابة تلك العمود بشكل يسبب خلل واضطراب حقيقي، وهذا الأمر يتطلب نظرة واقعية أبعد ما تكون عن النظرة الحالمة بحيث يمكنك من خلالها تحديد إمكانياتك وقدراتك على توجيه ضربة مؤثرة إلى ذلك العمود. · التوقيت الملائم وهو يتطلب أيضا قراءة واعية لكل ما يحيط بك خارجياً من مؤثرات، ومتابعة دقيقة للعدو لتحيُّن الفرصة والتوقيت الملائم لإنفاذ الضربة وإصابة مركز أعصاب العدو إصابة بالغة. · تقدير رد الفعل لا يقل أهمية عن التخطيط الجيد للفعل حيث تمثل حسابات ردة الفعل والقدرة على امتصاصها دون أن تتسبب في خسائر مكلفة داخل جسدك وبما يحافظ على قوتك، احد العوامل المؤثرة في اتخاذ قرار توجيه الضربة لذلك العمود. يكفي فقط إذاً تحديد ذلك العمود بدقة، ثم الوصول إليه بقدرات مناسبة، وفي توقيت ملائم، مع تقدير مسبق لرد الفعل، بعد ذلك لن يكون عليك سوى التقدم برباطة جأش والانقضاض على ذلك العمود وتحطيمه بلا هوادة. (هذا المقال يستوحي فكرته من أحد فصول كتاب "33 استراتيجية للحرب"، للكاتب "روبرت جرين").
استراتيجيات النصر.. تحديد نقاط الضعف

خالد فؤاد

[لتحميل العدد الجديد:

https://goo.gl/5pdPnR]

لن يكون بمقدورك أن تهزم هذا الجسد الضخم، ثمة أمل في أن تصل الى موضع يتهاوى معه الجسد ولكن قبل أن تصل إلى هذا الموضع لا تدع دوامة المعارك الجانبية تستنزف قوتك، ضع نظرك دائما إلى هدف محدد واحسب المآلات والنتائج المترتبة، واعلم ان هذا الجسد الضخم يحتاج استراتيجية تعتمد على فهم دقيق لمفاصل الجسد والعقل الذي تصدر منه القرارت ومواطن الضعف.

لطالما كانت المعارك القديمة تزخر بفنون وخطط المواجهة مع الجيوش الضخمة والقوى العظمى، قدمت تلك المعارك أافكار متعددة تستطيع من خلالها القوى الناشئة ليس فقط توجيه ضربات موجعة لتلك الجيوش الضخمة ولكن هزيمتها والقضاء عليها، أصبحت فيما بعد تلك الفنون والأفكار تمثل استراتيجيات ليس فقط للمعارك العسكرية ولكن للثورات وإدارة الأزمات بين الدول وإدارة الشركات والمؤسسات.

المشكلة الجوهرية والدائمة في أغلب المواجهات بين قوتين هي تلك المعضلة المتعلقة بمواجهة جسد ضخم أو قوى تفوق إمكانياتك بفروق ليست بسيطة؛ حيث تذهب أغلب هذه المواجهات في اتجاه معارك استنزاف طويلة الأمد لا تسفر عن تحقيق مكسب جوهري للطرف صاحب الإمكانيات الأقل؛ بل خسارة واستنزاف للموارد البشرية والمادية ودون أن ينال من الجسد الضخم بما يساوي حجم الجهد والتضحيات التي بذلت، قليلة هي التجارب التي بدأت بمواجهة العقول قبل مواجهة القوة، وتلك هي التي حققت نجاحات سجلها التاريخ.

أحد هذه التجارب تقدم لنا واحدة من الاستراتيجيات الهامة والفعالة في هذا الإطار، قبل أكثر من ألفي عام وتحديداً قبل مائتي عام من الميلاد دارت حرب طاحنة وطويلة بين الإمبراطورية الرومانية والتي كانت تتخذ من مدينة "روما" عاصمة لها، وبين إمبراطورية قرطاجية والتي كانت تتخذ من مدينة "قرطاج" عاصمة لها (تقع بالقرب من تونس العاصمة حالياً)، كان الصراع والمنافسة محتدمة بين الطرفين للسيطرة على منطقة غرب البحر المتوسط، استمرت المعارك بين الجيش الروماني والجيش القرطاجي لفترات طويلة ومتقطعة ولكن تبقى الفترة الأبرز في تلك المعارك هي تلك الفترة التي امتدت أكثر من 18 عاما (218-201 ق.م) والتي كان على رأس قيادة الجيش القرطاجي حينها القائد الفذ "هنيبعل"، ذلك القائد الذي ما زالت خططه العسكرية تستخدم حتى يومنا هذا، تمكن الجيش القرطاجي في تلك الفترة من تهديد الإمبراطورية الرومانية تهديداً بالغاً؛ حيث عبرت جيوش هنيبعل جبال الألب وغزت أجزاء من إيطاليا واقتربت من روما العاصمة التاريخية والحصينة، على الجهة الأخرى لم يتمكن الرومان من صد هذا الهجوم القرطاجي، فقط تمكن أحد القادة الرومان "فابيوس" من وضع استراتيجية تقلل من الخطر القرطاجي والتهديد الدائم لروما.

اعتمد فابيوس على استراتيجية الكر والفر من خلال معارك الاستنزاف الخارجية مع العدو، كان هدف فابيوس الرئيسي من وراء هذه الاستراتيجية هو تقليل حجم خسائر الرومان، ومحاولة إشغال الجيش القرطاجي واستنزافه في معارك صغيرة ومتتالية تُبعد الخطر القرطاجي عن روما، نجحت الاستراتيجية في تحقيق هدف عدم تقدم الجيش القرطاجي نحو روما ولكن في الوقت نفسه كانت خسائر الجيش الروماني ضخمة وربما لا تتناسب مع مجرد صد وإيقاف الخطر القرطاجي، بدا واضحاً أن استراتيجية فابيوس في الأساس لا تمتلك مقومات النجاح حيث لم تكن الاستراتيجية تسعى إلى تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بهنيبعل وجيشه، ولكنها اعتمدت فقط على استنزاف قوة الجيش القرطاجي وإبقائه في مكانه دون تقدم وهو ما جعل المعارك تسير في اتجاه لا يبدو معه أن ثمة نهاية قريبة لتلك الحرب مع استمرار الاستنزاف في صفوف الجيش الروماني دون تحقيق نصر حقيقي.

بعد عدة سنوات من معارك الاستنزاف بين الطرفين وفي نفس إطار استراتيجية فابيوس، وقف "تسيبيو" ذلك القائد الروماني صغير السن مع جيشه محدود العدد على ضفاف نهر إيبرو (نهر يقع في شمال شرق إسبانيا) للاستعداد للسيطرة على منطقة النهر والدخول في معارك مع الجيش القرطاجي الذي امتلك وراء النهر عدة مستعمرات قوية وغنية بالثروات.

كان تسيبيو يدرك أن ثمة إشكالية في استراتيجية فابيوس التي ينتهجها الجيش الروماني في كل معاركه، فمع الوقت واستمرار الاستنزاف بين الطرفين ستكون النهاية الحتمية تهديدا حقيقيا للعاصمة الرومانية، وربما الهزيمة ونهاية مأسوية بسقوط روما، في نفس الوقت كان تسيبيو يدرك الفارق الكبير في إمكانيات جيش هنيبعل وقدراته الفائقة على المناورة السريعة أمام الجيوش الضخمة، وهو ما جعل تسيبيو يذهب بعيداً إلى نقطة لم يسبقه إليها أحداً من طرفي المعركة!

حاول تسيبيو أن يفهم جيداً ويحدد خريطة ومراك قوى الجيش القرطاجي الذي بلغ عدده في ذلك الوقت ضعف عدد الجيش الروماني، وامتد في جميع أنحاء إسبانيا مسيطراً على أغلب القبائل الإسبانية. على بعد عدة أميال من هذا المشهد الذي لا يبدو من خلاله أي إمكانية لتحقيق انتصار للرومان حتى لو بدا جزئيا، كانت تقبع في هدوء مدينة قرطاج الجديدة (تسمى الآن "قرطاجينا" وهي مدينة ساحلية تقع في جنوب شرق إسبانيا)، لم تكن تلك المدينة سوى مستودع ثروات الجيش القرطاجي ومركز إمداداته الرئيسي ونقطة انطلاق الدعم اللوجيستي للجيوش القرطاجية في إسبانيا، في ذلك الوقت جاءت التقارير لتسيبيو بمعلومة بسيطة ولكنها فيما بعد ستمثل تحولاً هاماً في مسار المعارك بين الطرفين، لم يكن يوجد في قرطاج الجديدة سوى 1000 جندي فقط حيث كانت بقية الجنود والقيادات العسكرية منشغلة في معارك في مناطق مختلفة في إسبانيا، بدت المعلومة بسيطة لحاملها إلى تسيبيو لكنها مثلت لتسبيو نقطة الانطلاق في تدشين استراتيجيته التي سينتهجها فيما بعد في معركته مع القرطاجيين، هكذا اكتشف تسيبيو أحد أهم مراكز قوى الجيش القرطاجي والتي مثلت في نفس الوقت نقطة ضعفه الأبرز، بدت ملامح استراتيجية تسيبيو في التشكل فوراً، قرر أن يترك نهر إيبرو ويذهب بعيداً، هناك حيث تقبع مدينة قرطاج الجديدة بعيدة عن الأنظار، انطلق تسيبيو مسرعاً بجيشه نحو المدينة في الوقت الذي كان الجيش القرطاجي يستعد لملاقاته عند نهر إيبرو، هكذا خالف تسبيبو كل التوقعات وذهب ليوجه ضربة موجعة لأبرز نقاط ضعف الجيش القرطاجي والتي ستحدث فيما بعد خللاً هائلا في موازين القوى بين الطرفين لصالح الجيش الروماني، غارة سريعة كانت هي ما قام به الجيش الروماني بقيادة تسيبيو حتى يسيطر على أهم نقاط الإمداد بالمال والجنود للجيش القرطاجي، هكذا نجح تسيبيو في الاستيلاء على قرطاج الجديدة بسهولة.

سنوات قليلة بعد سقوط قرطاج الجديدة استطاع فيها الرومان فرض سيطرتهم الكاملة على إسبانيا وطرد الجيوش القرطاجية منها وذهبوا إلى أبعد من ذلك، إلى عقر دار القائد هنيبعل في قرطاج نفسها، لتنتهي قصة الجيش القرطاجي والقائد القوي هنيبعل وتصبح قرطاج أحد المدن التابعة إلى روما.

تحمل قصة الحرب بين الرومانيين والقرطاجيين الكثير من التفاصيل والكثير من الدروس والعبر؛ لكن يبقى أحد أهم تلك الدروس المستفادة هي تلك الاستراتيجية التي دشنها تسيبيو لتغير من مسار المعارك بشكل كلي لصالح الجيش الروماني. ليست العبرة بتوجيه الضربات إلى العدو وليست العبرة بقوتها وحجمها فقط ولكن العبرة بقدرتها على إحداث خلل في أحد أهم مراكز القوة لدى العدو، ذلك العمود الذي يرتكز عليه ويمثل مركز قوته ولكنه في نفس الوقت يمثل نقطة ضعفه الأبرز والتي تتسبب توجيه ضربة مؤثرة إليه في بداية سقوطه وانهياره.

تبدو الإشكالية دائما في تلك الاستراتيجية في أكثر من نقطة جوهرية، وتفقد الاستراتيجية فعاليتها بدون تحقق هذه النقاط:

· القدرة على تحديد ذلك العمود (نقطة الضعف الأبرز) بدقة، وهو أمر لا يتوقف فقط على حجم المعلومات التي لديك عن عدوك، ولكنه بالأساس يتوقف على كيفية قراءة تلك المعلومات بنظرة أكثر دقة ومن زوايا مختلفة؛ لتتوفر لك خريطة متكاملة ودقيقة عن أبرز مراكز القوى لدى عدوك وعلاقتها ببعضها البعض، ويحتاج الأمر إلى الابتعاد عن المظهر الخارجي القوي للعدو والذي ربما يكون خادعاً ومبهراً والغوص في أعماق جسد العدو لتصل إلى تلك النقطة الحساسة.

· القدرة على إصابة تلك العمود بشكل يسبب خلل واضطراب حقيقي، وهذا الأمر يتطلب نظرة واقعية أبعد ما تكون عن النظرة الحالمة بحيث يمكنك من خلالها تحديد إمكانياتك وقدراتك على توجيه ضربة مؤثرة إلى ذلك العمود.

· التوقيت الملائم وهو يتطلب أيضا قراءة واعية لكل ما يحيط بك خارجياً من مؤثرات، ومتابعة دقيقة للعدو لتحيُّن الفرصة والتوقيت الملائم لإنفاذ الضربة وإصابة مركز أعصاب العدو إصابة بالغة.

· تقدير رد الفعل لا يقل أهمية عن التخطيط الجيد للفعل حيث تمثل حسابات ردة الفعل والقدرة على امتصاصها دون أن تتسبب في خسائر مكلفة داخل جسدك وبما يحافظ على قوتك، احد العوامل المؤثرة في اتخاذ قرار توجيه الضربة لذلك العمود.

يكفي فقط إذاً تحديد ذلك العمود بدقة، ثم الوصول إليه بقدرات مناسبة، وفي توقيت ملائم، مع تقدير مسبق لرد الفعل، بعد ذلك لن يكون عليك سوى التقدم برباطة جأش والانقضاض على ذلك العمود وتحطيمه بلا هوادة.

(هذا المقال يستوحي فكرته من أحد فصول كتاب "33 استراتيجية للحرب"، للكاتب "روبرت جرين").
‏٠٧‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٨:٢٢ م‏
افتتاحية العدد الجديد: ذكريات كثيرة ودرس مفقود محمد إلهامي [لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR] حفل شهر فبراير لهذا العام بالعديد من الذكريات الملهمة والمؤرقة للأمة الإسلامية عموما وللحركة الإسلامية على وجه الخصوص، وعلى قدر ما يُقال في الذكريات الكثير من الكلام المؤثر والمنمق والمتفاني في الإتيان بالجديد على قدر ما يبدو أن ثمة اتفاقا عاما على الاكتفاء بالتمجيد وعدم الاقتراب من مواضع الخلل والخطأ، والتي هي نفسها موضع العظة والاعتبار. نعم، إننا نجد أنفسنا في حاجة لإنصاف الشخصيات التاريخية الكبيرة التي لطالما هوجمت وشُوِّهت وطُعِن فيها ولهذا تشغلنا مهمة رفع الركام الموضوع فوقها، وهو لا شك واجب تاريخي تجاه هؤلاء جميعا. ولكنه نصف الواجب فقط، فالنصف الآخر هو البحث المنصف المتجرد في السؤال الأهم: لماذا لم يستطع أولئك العظماء أن يحققوا أهدافهم؟ هنا يبدأ النقاش الحقيقي الذي نأخذ منه لأيامنا القادمة فنقوم بواجب المستقبل ولا نكون قد وقفنا فحسب عند القيام بواجب الماضي. في كل تلك الأحوال كان العدو أقوى وأقدر، ولكن الله أخبرنا أن الهزيمة لا تكون أصالة إلا بالأسباب الذاتية (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم). ومهما تبارينا وتسابقنا في إثبات لؤم العدو وغدره فلن يفيدنا هذا شيئا، الإفادة على الحقيقة هي ما نستكشفه في تجربتنا من ثغرات. 1. مائة عام على وفاة عبد الحميد الثاني في العاشر من فبراير الحالي مرت مائة عام على وفاة السلطان عبد الحميد الثاني، آخر الخلفاء المسلمين على الحقيقة، فمن جاءوا من بعده لم يكونوا يحكمون عمليا بل كانوا كمناصب شرفية قليلة التأثير في ظل حكومات تركية قومية متغربة. عبد الحميد مشهور بموقفه التاريخي الصلب في صد ومقاومة تأسيس إسرائيل، ومشهور بمشروعه العظيم: إنشاء خط سكة حديدة تربط أطراف الأمة الإسلامية، ومشهور بمحاولاته المستمرة لمقاومة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي، ولكنه مع هذا انتهى معزولا إثر انقلاب عسكري عام 1909، لتنتهي بهذا صفحة آخر الخلفاء المسلمين، ثم لا تبقى إلا خمسة عشر عاما حافلة لتنتهي الخلافة الإسلامية كلها لأول مرة منذ بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. لعل نكبة انهيار الخلافة هي النكبة الأقسى والأكبر للأمة الإسلامية، وهي المصيبة العظمى بعد مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن بعدها صار المسلمون حرفيا كالفريسة المأكولة المنهوشة المقطعة الأوصال التي يَحكُم فيها أعداؤها فيسومونها سوء العذاب، ولا تزال كل نكبات المسلمين حتى هذه اللحظة هي فرع عن النكبة الكبرى بسقوط الخلافة واختفاء الخليفة المسلم. لكن المهم هنا أن ذكرى عبد الحميد ستمتلئ بالثناء عليه وعلى مواقفه ومشروعاته، وستحاول أن تتجنب التقييم الموضوعي الذي يفسر لم لم يستطع عبد الحميد وقد حكم أكثر من ثلاثين سنة أن يوقف انهيار السلطنة العثمانية أو أن يجدد شبابها؟! لماذا دخل في صراع مع عدد من الزعماء الأفذاذ الذين أرقوا الاحتلال في كل أرض نزل بها كجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم مثلا؟ لماذا وصفه من لا يُتَّهمون في دينهم ولا إخلاصهم من العلماء والأعيان المسلمين بتهمة الاستبداد، بل وفرح بعضهم لأول وهلة بالانقلاب عليه؟ لماذا وكيف تكوَّنت نخبة عسكرية علمانية في ظل من وُصِف بأنه السلطان الأكثر يقظة وتنبها؟ كيف يتفق المؤرخون على ذكاء عبد الحميد ودهائه ثم تكون النتيجة أنه يُعزل بعد اثنتين وثلاثين سنة؟ ما الذي كان بإمكان عبد الحميد أن يفعله لكنه لم يفعله ليعيد تصحيح مسار الانهيار؟ ولماذا لم يفعله؟! 2. استشهاد حسن البنا تسعة وستون عاما مضت على استشهاد حسن البنا (14 فبراير 1949) بطلقات رصاص لم توقف فقط مسيرة روح الشهيد بل كأنها أوقفت مشروعه أيضا! ليس من شك في أن جماعة الإخوان استمرت بعد حسن البنا، بل وملأت الدنيا في العطاء العلمي والتربوي والدعوي، وقليل من العمل الجهادي، وكثير من مسيرة سياسية لم تثمر بعد طول الزمن ثمرة ذات بال! لو كان مشروع حسن البنا علميا أو دعويا أو تربويا فحسب لقلنا بأن الجماعة استكملت مشروعه من بعده على خير وجه، ولقلنا في ذات الوقت بأن دخول الجماعة على الخط الجهادي والسياسي كان انحرافا عن مشروع البنا. أما حيث كان مشروع البنا مشتملا للجانب الجهادي والسياسي بما تدل عليه كتبه ونظراته وكلماته وبما تثبته صفحات التاريخ من تكوينه للنظام الخاص (الجهاز الأمني العسكري السري) وما تكشف عنه أوراق النظام الخاص ومذكرات قادته.. نقول: حيث كان مشروع البنا هكذا فلا بد من القول بأن هذا الجانب توقف باستشهاد البنا، إذ لا نستطيع أن نجد زعيما سياسيا من الإخوان استطاع تحرير بلاده مثلا أو قيادة معركة التغيير لإنشاء نظام إسلامي فيها. كذلك لم نجد بعد البنا حركة جهادية تحريرية من الإخوان استكملت الشوط وبلغت التحرير والاستقلال المنشود[ ربما يضرب أحد القراء مثلا بحركة حماس، وبالنسبة لهذا الموضوع يرجى قراءة مقال: تجربة حماس.. درس للشيوخ والشباب http://melhamy.blogspot.com.tr/2016/10/blog-post.html]. بعد استشهاد البنا ظلت الجماعة نفسها أكثر من عامين بلا مرشد عام، منفرطة العقد، حتى قام بعض قياداتها بلم شملها مرة أخرى.. مجرد انفراط العقد لعامين يطرح بقوة سؤال المؤسسة التي تتوقف لعامين عند غياب مؤسسها. وحين غيبت المحنة الإخوانَ زمن عبد الناصر لم تتجدد الجماعة مرة أخرى إلا بحركة إسلامية نشأت وهم في السجون ثم قبل قادتها الشباب طوعا الانضواء تحت راية الإخوان! على كل حال، ليس هنا مقام تفصيل.. لكن تقييم تجربة البنا لا تزال موضع تجنب عام على كثرة المتحدثين بالمدح والثناء في حسن البنا (وهو مستحق له طبعا)، ولا يوجد على حد ما أعلم دراسات وافية تحاول كشف ثغرات التجربة التي أفضت لاستشهاده ولقدرة الدولة على تدمير الجماعة مرتين على الأقل. وسائر ما في هذا الباب هو محاولات خجولة تلمس الأمور برفق وهي مع هذا ملفوفة ومغطاة بسائر كلام الاعتذار والثناء والتبجيل. ليس يضر حسن البنا –لا سيما وقد صار عند ربه، ونحسبه من الشهداء- أن تُقَيَّم تجربته بعين فاحصة ناقدة، فليس هذا طعنا فيه بل هو استلهام لمن يريدون العمل الآن. 3. عمر عبد الرحمن مر عام واحد على وفاة الشيخ عمر عبد الرحمن بعد ربع قرن من المحنة الشديدة، في السجون الأمريكية. إن مجرد تصور وتخيل صورة سجين مريض ضرير في سجن انفرادي لمدة ربع قرن يصيب بالهلع والحيرة! مجرد العيش مع الصورة نفسها محنة.. فكيف يا ترى كانت محنته على الحقيقة؟! لا يزال شأن إنصاف الرجل وتاريخه واجب في عنق الأمة، وبالأخص في عنق رجال الجماعة الإسلامية المصرية التي كان الشيخ أميرها! ولكننا نتوقف معه في هذه السطور عند واجب المستقبل كما هو موضوعنا. ترى لو أتيح الآن لرجل عالم جسور بعيد الهمة عظيم الفؤاد مشرق النفس في نفس حال الشيخ عمر عبد الرحمن مطلع السبعينات، لو أتيح له الآن أن يرى شبابا موفور العزم مسجور الهمّ ملتاع القلب يعرضون عليه أن يكون أميرهم بعدما نكص الشيوخ الكبار عن المهمات الكبار.. لو أتيح لرجل الآن مثل هذا فكيف يمكن لرجال الجماعة الإسلامية المصرية أن ينصحوه؟! إنه لن تتوفر النصيحة السديدة إلا بالاطلاع الجيد والفهم العميق للتجربة نفسها، ثم بالتجرد التام في تقييمها.. فهل مثل هذا موجود لدى رجال الجماعة الإسلامية الآن؟! أذكر مرة، وكنت مع الشيخ رفاعي طه رحمه الله أنه عرفني على رجل من الجماعة الإسلامية كان مسؤولا عن ملفها الإعلامي، ولديه كم كبير من الوثائق المسموعة والمطبوعة التي يحتفظ بها ولم تنشر بعد، فألححت عليه أن ينشرها، فقال: لا وقت لدي للترتيب والتصنيف وذكر السياق الذي صدرت فيه كل وثيقة. قلت له: انشرها كما هي، ودع الأمر للباحثين والمتابعين فإن مجرد توفر المادة يتيح لكثيرين أن يتكلموا كما يتيح لكثيرين أن يفهموا ويبحثوا ويستخرجوا الرواية من مجموع ما جمعوه. لم يعجبه هذا وقال: لا بد من اجتماع الإخوة وكتابة تاريخ الجماعة الإسلامية بحيث يخرج مكتملا كرواية شاملة من كل الوجوه بدلا من أن يكتب كل واحد من وجهة نظره. قلت له: اعذرني، ولكن أكذب رواية للتاريخ هي الرواية الرسمية! وكان مما أسعدني يومها أن الشيخ رفاعي طه وافقني بشدة.. ومع هذا انتهى اللقاء وكلٌّ على ما هو عليه. إن الحركات الإسلامية تكرر أخطاءها لأسباب عدة من أهمها أن التجربة الحركية الإسلامية غير مكتوبة، وفيما تدور المعركة مع أنظمة وأجهزة أمنية تراكم ملفاتها وتدرسها وتضيف إليها تخوض الحركة الإسلامية معركتها برصيد تاريخي يقترب من الصفر، فيتكرر نفس الخطأ ثم يتكرر عليهم نفس أساليب المواجهة والاختراق والتصفية. إننا بحاجة لكتيبة ممن يفرغون أنفسهم لتسجيل تاريخ الحركة الإسلامية، والتنقيب في صفحات التجربة بما في ذلك التجارب المهزومة لكي يستكمل هذا الدرس المفقود: درس المستقبل!
افتتاحية العدد الجديد:

ذكريات كثيرة ودرس مفقود
محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/5pdPnR]

حفل شهر فبراير لهذا العام بالعديد من الذكريات الملهمة والمؤرقة للأمة الإسلامية عموما وللحركة الإسلامية على وجه الخصوص، وعلى قدر ما يُقال في الذكريات الكثير من الكلام المؤثر والمنمق والمتفاني في الإتيان بالجديد على قدر ما يبدو أن ثمة اتفاقا عاما على الاكتفاء بالتمجيد وعدم الاقتراب من مواضع الخلل والخطأ، والتي هي نفسها موضع العظة والاعتبار.

نعم، إننا نجد أنفسنا في حاجة لإنصاف الشخصيات التاريخية الكبيرة التي لطالما هوجمت وشُوِّهت وطُعِن فيها ولهذا تشغلنا مهمة رفع الركام الموضوع فوقها، وهو لا شك واجب تاريخي تجاه هؤلاء جميعا. ولكنه نصف الواجب فقط، فالنصف الآخر هو البحث المنصف المتجرد في السؤال الأهم: لماذا لم يستطع أولئك العظماء أن يحققوا أهدافهم؟ هنا يبدأ النقاش الحقيقي الذي نأخذ منه لأيامنا القادمة فنقوم بواجب المستقبل ولا نكون قد وقفنا فحسب عند القيام بواجب الماضي.

في كل تلك الأحوال كان العدو أقوى وأقدر، ولكن الله أخبرنا أن الهزيمة لا تكون أصالة إلا بالأسباب الذاتية (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم). ومهما تبارينا وتسابقنا في إثبات لؤم العدو وغدره فلن يفيدنا هذا شيئا، الإفادة على الحقيقة هي ما نستكشفه في تجربتنا من ثغرات.

1. مائة عام على وفاة عبد الحميد الثاني

في العاشر من فبراير الحالي مرت مائة عام على وفاة السلطان عبد الحميد الثاني، آخر الخلفاء المسلمين على الحقيقة، فمن جاءوا من بعده لم يكونوا يحكمون عمليا بل كانوا كمناصب شرفية قليلة التأثير في ظل حكومات تركية قومية متغربة.

عبد الحميد مشهور بموقفه التاريخي الصلب في صد ومقاومة تأسيس إسرائيل، ومشهور بمشروعه العظيم: إنشاء خط سكة حديدة تربط أطراف الأمة الإسلامية، ومشهور بمحاولاته المستمرة لمقاومة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي، ولكنه مع هذا انتهى معزولا إثر انقلاب عسكري عام 1909، لتنتهي بهذا صفحة آخر الخلفاء المسلمين، ثم لا تبقى إلا خمسة عشر عاما حافلة لتنتهي الخلافة الإسلامية كلها لأول مرة منذ بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.

لعل نكبة انهيار الخلافة هي النكبة الأقسى والأكبر للأمة الإسلامية، وهي المصيبة العظمى بعد مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن بعدها صار المسلمون حرفيا كالفريسة المأكولة المنهوشة المقطعة الأوصال التي يَحكُم فيها أعداؤها فيسومونها سوء العذاب، ولا تزال كل نكبات المسلمين حتى هذه اللحظة هي فرع عن النكبة الكبرى بسقوط الخلافة واختفاء الخليفة المسلم.

لكن المهم هنا أن ذكرى عبد الحميد ستمتلئ بالثناء عليه وعلى مواقفه ومشروعاته، وستحاول أن تتجنب التقييم الموضوعي الذي يفسر لم لم يستطع عبد الحميد وقد حكم أكثر من ثلاثين سنة أن يوقف انهيار السلطنة العثمانية أو أن يجدد شبابها؟! لماذا دخل في صراع مع عدد من الزعماء الأفذاذ الذين أرقوا الاحتلال في كل أرض نزل بها كجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم مثلا؟ لماذا وصفه من لا يُتَّهمون في دينهم ولا إخلاصهم من العلماء والأعيان المسلمين بتهمة الاستبداد، بل وفرح بعضهم لأول وهلة بالانقلاب عليه؟ لماذا وكيف تكوَّنت نخبة عسكرية علمانية في ظل من وُصِف بأنه السلطان الأكثر يقظة وتنبها؟ كيف يتفق المؤرخون على ذكاء عبد الحميد ودهائه ثم تكون النتيجة أنه يُعزل بعد اثنتين وثلاثين سنة؟ ما الذي كان بإمكان عبد الحميد أن يفعله لكنه لم يفعله ليعيد تصحيح مسار الانهيار؟ ولماذا لم يفعله؟!

2. استشهاد حسن البنا

تسعة وستون عاما مضت على استشهاد حسن البنا (14 فبراير 1949) بطلقات رصاص لم توقف فقط مسيرة روح الشهيد بل كأنها أوقفت مشروعه أيضا!

ليس من شك في أن جماعة الإخوان استمرت بعد حسن البنا، بل وملأت الدنيا في العطاء العلمي والتربوي والدعوي، وقليل من العمل الجهادي، وكثير من مسيرة سياسية لم تثمر بعد طول الزمن ثمرة ذات بال!

لو كان مشروع حسن البنا علميا أو دعويا أو تربويا فحسب لقلنا بأن الجماعة استكملت مشروعه من بعده على خير وجه، ولقلنا في ذات الوقت بأن دخول الجماعة على الخط الجهادي والسياسي كان انحرافا عن مشروع البنا. أما حيث كان مشروع البنا مشتملا للجانب الجهادي والسياسي بما تدل عليه كتبه ونظراته وكلماته وبما تثبته صفحات التاريخ من تكوينه للنظام الخاص (الجهاز الأمني العسكري السري) وما تكشف عنه أوراق النظام الخاص ومذكرات قادته.. نقول: حيث كان مشروع البنا هكذا فلا بد من القول بأن هذا الجانب توقف باستشهاد البنا، إذ لا نستطيع أن نجد زعيما سياسيا من الإخوان استطاع تحرير بلاده مثلا أو قيادة معركة التغيير لإنشاء نظام إسلامي فيها. كذلك لم نجد بعد البنا حركة جهادية تحريرية من الإخوان استكملت الشوط وبلغت التحرير والاستقلال المنشود[ ربما يضرب أحد القراء مثلا بحركة حماس، وبالنسبة لهذا الموضوع يرجى قراءة مقال: تجربة حماس.. درس للشيوخ والشباب
http://melhamy.blogspot.com.tr/2016/10/blog-post.html].

بعد استشهاد البنا ظلت الجماعة نفسها أكثر من عامين بلا مرشد عام، منفرطة العقد، حتى قام بعض قياداتها بلم شملها مرة أخرى.. مجرد انفراط العقد لعامين يطرح بقوة سؤال المؤسسة التي تتوقف لعامين عند غياب مؤسسها. وحين غيبت المحنة الإخوانَ زمن عبد الناصر لم تتجدد الجماعة مرة أخرى إلا بحركة إسلامية نشأت وهم في السجون ثم قبل قادتها الشباب طوعا الانضواء تحت راية الإخوان!

على كل حال، ليس هنا مقام تفصيل.. لكن تقييم تجربة البنا لا تزال موضع تجنب عام على كثرة المتحدثين بالمدح والثناء في حسن البنا (وهو مستحق له طبعا)، ولا يوجد على حد ما أعلم دراسات وافية تحاول كشف ثغرات التجربة التي أفضت لاستشهاده ولقدرة الدولة على تدمير الجماعة مرتين على الأقل. وسائر ما في هذا الباب هو محاولات خجولة تلمس الأمور برفق وهي مع هذا ملفوفة ومغطاة بسائر كلام الاعتذار والثناء والتبجيل.

ليس يضر حسن البنا –لا سيما وقد صار عند ربه، ونحسبه من الشهداء- أن تُقَيَّم تجربته بعين فاحصة ناقدة، فليس هذا طعنا فيه بل هو استلهام لمن يريدون العمل الآن.

3. عمر عبد الرحمن

مر عام واحد على وفاة الشيخ عمر عبد الرحمن بعد ربع قرن من المحنة الشديدة، في السجون الأمريكية. إن مجرد تصور وتخيل صورة سجين مريض ضرير في سجن انفرادي لمدة ربع قرن يصيب بالهلع والحيرة! مجرد العيش مع الصورة نفسها محنة.. فكيف يا ترى كانت محنته على الحقيقة؟!

لا يزال شأن إنصاف الرجل وتاريخه واجب في عنق الأمة، وبالأخص في عنق رجال الجماعة الإسلامية المصرية التي كان الشيخ أميرها! ولكننا نتوقف معه في هذه السطور عند واجب المستقبل كما هو موضوعنا.

ترى لو أتيح الآن لرجل عالم جسور بعيد الهمة عظيم الفؤاد مشرق النفس في نفس حال الشيخ عمر عبد الرحمن مطلع السبعينات، لو أتيح له الآن أن يرى شبابا موفور العزم مسجور الهمّ ملتاع القلب يعرضون عليه أن يكون أميرهم بعدما نكص الشيوخ الكبار عن المهمات الكبار.. لو أتيح لرجل الآن مثل هذا فكيف يمكن لرجال الجماعة الإسلامية المصرية أن ينصحوه؟!

إنه لن تتوفر النصيحة السديدة إلا بالاطلاع الجيد والفهم العميق للتجربة نفسها، ثم بالتجرد التام في تقييمها.. فهل مثل هذا موجود لدى رجال الجماعة الإسلامية الآن؟!
أذكر مرة، وكنت مع الشيخ رفاعي طه رحمه الله أنه عرفني على رجل من الجماعة الإسلامية كان مسؤولا عن ملفها الإعلامي، ولديه كم كبير من الوثائق المسموعة والمطبوعة التي يحتفظ بها ولم تنشر بعد، فألححت عليه أن ينشرها، فقال: لا وقت لدي للترتيب والتصنيف وذكر السياق الذي صدرت فيه كل وثيقة. قلت له: انشرها كما هي، ودع الأمر للباحثين والمتابعين فإن مجرد توفر المادة يتيح لكثيرين أن يتكلموا كما يتيح لكثيرين أن يفهموا ويبحثوا ويستخرجوا الرواية من مجموع ما جمعوه. لم يعجبه هذا وقال: لا بد من اجتماع الإخوة وكتابة تاريخ الجماعة الإسلامية بحيث يخرج مكتملا كرواية شاملة من كل الوجوه بدلا من أن يكتب كل واحد من وجهة نظره. قلت له: اعذرني، ولكن أكذب رواية للتاريخ هي الرواية الرسمية! وكان مما أسعدني يومها أن الشيخ رفاعي طه وافقني بشدة.. ومع هذا انتهى اللقاء وكلٌّ على ما هو عليه.

إن الحركات الإسلامية تكرر أخطاءها لأسباب عدة من أهمها أن التجربة الحركية الإسلامية غير مكتوبة، وفيما تدور المعركة مع أنظمة وأجهزة أمنية تراكم ملفاتها وتدرسها وتضيف إليها تخوض الحركة الإسلامية معركتها برصيد تاريخي يقترب من الصفر، فيتكرر نفس الخطأ ثم يتكرر عليهم نفس أساليب المواجهة والاختراق والتصفية.

إننا بحاجة لكتيبة ممن يفرغون أنفسهم لتسجيل تاريخ الحركة الإسلامية، والتنقيب في صفحات التجربة بما في ذلك التجارب المهزومة لكي يستكمل هذا الدرس المفقود: درس المستقبل!
‏٠٥‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٨:١٩ م‏
((العدد الجديد )) بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 8 من مجلة (كلمة حق)، لشهر مارس 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/5pdPnR نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog/ تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
((العدد الجديد ))

بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 8 من مجلة (كلمة حق)، لشهر مارس 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/5pdPnR

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:
تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq

المدونة:
https://klmtuhaq.blog/

تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٣‏/٢٠١٨ ٧:٠٨ م‏
التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم – 4 حرية الرأي والتعبير د. البشير عصام المراكشي لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj] الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ما أكثر ما يروج اليومَ مصطلحُ "الحرية" عموما، و"حرية الرأي والتعبير" خصوصا، في كلام السياسيين والإعلاميين والمفكرين .. وما أكثر ما يطالب الناس عندنا بمضمونه، ويَعِد صُناع القرار بتحقيقه في الواقع، دون أن يكون لتلك الوعود كبيرُ وجود فعلي .. ثم ما أكثر ما تختلطُ هذه المطالب المشروعةُ في أصلها، بأفكار مستوردة من خارج المنظومة الإسلامية، فتقع المطالبة بحق ملتبس بباطل، وتغرق أصول الحق بين أمواج الأباطيل المزخرفة برنّان الشعارات! لذلك سأقصد في هذا المقال إلى تأصيل مشروعية حرية الرأي والتعبير، ثم بيان الفرق في هذه الحرية بين النظام السياسي الإسلامي والنظام السياسي الغربي، المهيمن اليوم على العالم كله. تمهيد في المراد بحرية الرأي والتعبير يراد بحرية الرأي والتعبير قدرة الفرد على الاختيار بين الآراء المختلفة دون إكراه، واعتناق ما يشاء منها دون تدخل خارجي، ثم قدرته على التعبير عنها بمختلف وسائل التعبير الممكنة دون رقابة أو قيود. وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – وهو الأصل الذي يستند إليه المعاصرون في هذا المجال: "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". فهنالك إذن تلازم تام بين حرية الرأي وحرية التعبير، إذ ليس المقصود بحرية الرأي: عملية التفكير الباطني المجردة عن حركة التعبير ونشر الأفكار. وتشمل حرية الرأي والتعبير مجالات مختلفة، منها على الخصوص: المجال السياسي والفكري والاعتقادي. والذي يلائم موضوع هذه المقالات، هو حق المحكوم – أي: الفرد - في التعبير عن رأيه – في أي مجال كان - دون أن يتعرض له الحاكم – أي: السلطة السياسية – بعقاب أو تضييق أو تهديد. فلا ينحصر الرأي المقصود هنا في الجانب السياسي، بل في كل فكرة يمكن للفرد التعبير عنها، ويمكن أن يكون للسلطة السياسية فيها نظر مخالف لنظر الفرد. أقسام الرأي في النظر الشرعي يمكن تقسيم الرأي الذي يتبناه الإنسان، بحسب حكمه الشرعي إلى أقسام خمسة، هي أقسام الحكم التكليفي. كما يمكن اختزالها في ثلاثة أقسام: ●المشروع، وهو الواجب والمندوب. ●وغير المشروع، وهو الحرام والمكروه. ●والمباح، وهو المخيَّر فيه. أما القسم الأول، فلا يجوز للحاكم أن يمنعه، بل عليه أن يمنع تركَه والتفريط فيه. ويدخل في هذا النوع الرأيُ السياسي المشروع، كمحاسبة العمال والحكام، وانتقاد عملهم وتقديم النصح لهم، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. كما تدخل الآراء الفقهية الاجتهادية، فليس للحاكم أن يحمل الفقهاء على قول واحد، أو يمنع أقوالا فقهية مخصوصة، ما دامت تدخل في دائرة المشروع. والدليل على عدم جواز تعرض الحاكم لهذا النوع بالمنع: النصوص الدالة على فضل قول كلمة الحق، مثل قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر" (أحمد والنسائي)؛ وحديث: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن" (مسلم)؛ وحديث: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" (أحمد والترمذي وأبو داود). ويدل عليه أيضا ما جاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه علامة خيرية الأمة، وما جاء في فضل الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام. ومن الدليل على ذلك أيضا فعل الصحابة. فقد ثبت في عصر الخلافة الراشدة، أن جماعة من الصحابة أنكروا وبينوا وحاسبوا، ولم يتعرض لهم الخليفة بالمنع. فعدم المنع – مع قيام المقتضي لذلك وهو مخالفة الرأي المنشور لرأي الحاكم – برهانٌ على أنهم لم يكونوا يرون جواز التعرض بالمنع للآراء المشروعة. وأما القسم الثاني، فيندرج فيه جميع الآراء المنهي عنها شرعا، وعلى رأسها: الكفر والبدع والطعن في شعائر الله ونشر الفواحش والقذفُ والسب وما أشبه ذلك. فهذا النوع يجب على الحاكم منعه، ويدل على ذلك أمور، منها: ●وجوب النهي عن المنكر على عامة المسلمين - والحاكمُ منهم. فهو مخاطب بهذا الوجوب، بل هو أول المخاطبين به، لتوفر شرط القدرة لديه. ●فعل الصحابة وهو كثير مستفيض. من ذلك قصة تأديب عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل؛ ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"؛ ومن ذلك أن عمر قال في خطبته: "ومن يضلل فلا هادي له"، فقال نبطي: "إن الله لا يضل أحدا"، فقال عمر: "والذي نفسي بيده لئن عدت لها لأضربن الذي فيه عيناك"؛ ومن ذلك ما جاء عن الصحابة من تطبيق عقوبة المرتد، أو الدعوة إلى تطبيقها، وهو كثير. وجاء نظير ذلك عن عمر بن عبد العزيز، قولا وفعلا؛ فقد قال عن القدرية: "أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا"، وضرب رجلا سبّ معاوية رضي الله عنه ثلاثة أسواط. ●ما تقرر في الفقه السياسي الإسلامي من أن أعظم مسؤوليات الحاكم: حفظ الدين. ولا شك أن مِن حفظ الدين منع الآراء التي تناقض الشرع، وتفسد أديان الناس. ولذلك نص الفقهاء على عدد كبير من العقوبات التي يجب على الحاكم أن يوقعها في باب الآراء المبتدعة، أو نشر الشبهات والضلالات. وأما القسم الثالث، فالأصل فيه عدم جواز تعرض الحاكم للناس في ما يرون من الآراء المباحة. وذلك لحرمة دم المسلم وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له بالعقوبة بغير حجة. وعلى هذا عمل المسلمين في زمن النبوة وعصر الخلافة الراشدة. على أن للحاكم أن يقيّد بعض المباحات، إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وعلى هذا تأصيل الفقهاء المصنفين في السياسة الشرعية، وعليه عملُ السلطات السياسية في الغرب اليوم. إلا أن هذا التقييد، لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة يتخذها الحاكم لمنع الآراء المخالفة لسلطته. والسبيل إلى ذلك ألا ينفرد الحاكم بهذا القرار، بل لا يقيّد المباح لدرء الضرر العام أو مراعاة المصلحة العامة، إلا من خلال مجلس شوري يجمع أهل الاختصاص، من علماء الشريعة والمختصين في الموضوع الذي يراد تقييد المباح فيه. وتفصيل ذلك يدور على الصيغة الشورية الإسلامية لتقييد السلطة السياسية للحاكم. ولتفصيل ذلك مقام آخر. من سد الذرائع بعد أن قررنا آنفا أن من واجب السلطة السياسية أن تمنع الآراء والأفكار المخالفة للشرع، فإن المتماهين مع الحضارة الغربية الحديثة يعترضون بأن تسويغ هذا المنع، يفتح الباب أمام كل منع، ويعطي الحاكم ذريعة للتضييق على ما شاء من الحريات متى شاء، بزعم أنها مخالفة للشريعة. ولن يعدم لذلك تأويلا مناسبا! والجواب على هذا الاعتراض من أوجه: أولها: أن من أهم ما يميز النظام السياسي الإسلامي، وجود مرجعية متجاوزة يعرف من خلالها الممنوع، ويميز عن المشروع. والخوف من عدم انضباط المنع، إنما يرد في حالة غياب هذه المرجعية العليا؛ فالناس حينئذ يرجعون إلى محض أهوائهم وتقلبات آرائهم. والثاني: أن المخالِف حين يدعو نظريا إلى نظام سياسي لا تمنع فيه الآراء مطلقا، فهو يعلم يقينا أن ذلك غير ممكن عمليا، لغلبة شهوات النفوس على المتحكمين في السلطة. فإن قال: لدينا القدرة على تقييد الحاكم، بالضمانات والمؤسسات، فلا يمكنه التعرض للآراء بالمنع، وإلا حوسب على ذلك. فجوابنا: وكذلك ما الذي يمنع أن نضع من الضمانات والمؤسسات ما يجعل الحاكم لا يتعرض بالمنع إلا لآراء مخصوصة لمخالفتها للمرجعية الشرعية، فإن تجاوز الحد إلى ما لا يحلّ له منعه حوسب على ذلك أيضا؟ والثالث: أن الأنظمة السياسة المعاصرة لا تبيح جميع الآراء، مع تبجحها باحترام حرية الرأي والتعبير. بل ما أكثر الآراء التي يمنع نشرها في الغرب، تحت طائلة المحاسبة القانونية. غاية ما في الأمر، أن الغرب – لتخليه عن مرجعية الدين منذ زمن – لم يعد يمنع رأيا ما لاعتبار ديني. أمّا لغير الدين من الاعتبارات السياسية والفكرية والفلسفية، فالمنع عندهم وارد دون اعتراض. الفرق بين المنظور الإسلامي والغربي وهذا يجرنا إلى الفرق بين النظرة الإسلامية والغربية إلى حرية الرأي والتعبير. وملخص الفرق أن المرجعية الإسلامية تعدّ حفظ الدين أول المقاصد الشرعية وأعظمها. ولأجل ذلك فإن الرأي الذي يعارض هذا المقصد، معارضة صريحة لا تحتمل التأويل، هو رأي مرفوض، لا حرية في إبدائه، ولا ضير في منعه. كما أن "الضرر" الذي ينحصر في الثقافة السياسية الغربية في الأذى المادي الذي يلحق الفرد أو مجموعة من الأفراد، يتوسع مفهومه في الإسلام فيشمل الضرر على أديان الناس وعقائدهم. فسبّ الله تعالى ضرر ديني ما بعده ضرر، وجرم ليس بعده جرم؛ أما في الثقافة العلمانية الغربية، فحرّية فردية لا ينكر على صاحبها! وشتم النبي صلى الله عليه وسلم أخطر – في نظر الفقيه المسلم – من شتم أي إنسان آخر، كائنا من كان؛ لكنه في ثقافة العصر لا يقتضي تجريما، بخلاف شتم شخص معاصر! كما أن الإسلام حين يحرم تصرفات عملية معينة (كشرب الخمر والزنا)، فإن من الطبيعي أن يحرم الرأي الذي فيه دعوة إلى فعل هذه التصرفات. ومن التناقض تحريم السلوك، وإباحة الدعوة إليه، لا لشيء إلا لأن الأول فِعلٌ، والثاني رأي! والغربيون أنفسهم يمنعون الدعوة إلى ما هو مجرّم عندهم من الأفعال، كالقتل والسرقة والتهرب الضريبي ونحو ذلك. فهذا ملخص الفرق بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية لقضية حرية الرأي والتعبير، وهو فرق لا بد من استحضاره عند مناقشة هذه القضية. وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم – 4
حرية الرأي والتعبير

د. البشير عصام المراكشي

لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

ما أكثر ما يروج اليومَ مصطلحُ "الحرية" عموما، و"حرية الرأي والتعبير" خصوصا، في كلام السياسيين والإعلاميين والمفكرين ..

وما أكثر ما يطالب الناس عندنا بمضمونه، ويَعِد صُناع القرار بتحقيقه في الواقع، دون أن يكون لتلك الوعود كبيرُ وجود فعلي ..

ثم ما أكثر ما تختلطُ هذه المطالب المشروعةُ في أصلها، بأفكار مستوردة من خارج المنظومة الإسلامية، فتقع المطالبة بحق ملتبس بباطل، وتغرق أصول الحق بين أمواج الأباطيل المزخرفة برنّان الشعارات!

لذلك سأقصد في هذا المقال إلى تأصيل مشروعية حرية الرأي والتعبير، ثم بيان الفرق في هذه الحرية بين النظام السياسي الإسلامي والنظام السياسي الغربي، المهيمن اليوم على العالم كله.

تمهيد في المراد بحرية الرأي والتعبير

يراد بحرية الرأي والتعبير قدرة الفرد على الاختيار بين الآراء المختلفة دون إكراه، واعتناق ما يشاء منها دون تدخل خارجي، ثم قدرته على التعبير عنها بمختلف وسائل التعبير الممكنة دون رقابة أو قيود. وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – وهو الأصل الذي يستند إليه المعاصرون في هذا المجال: "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية".

فهنالك إذن تلازم تام بين حرية الرأي وحرية التعبير، إذ ليس المقصود بحرية الرأي: عملية التفكير الباطني المجردة عن حركة التعبير ونشر الأفكار.

وتشمل حرية الرأي والتعبير مجالات مختلفة، منها على الخصوص: المجال السياسي والفكري والاعتقادي.

والذي يلائم موضوع هذه المقالات، هو حق المحكوم – أي: الفرد - في التعبير عن رأيه – في أي مجال كان - دون أن يتعرض له الحاكم – أي: السلطة السياسية – بعقاب أو تضييق أو تهديد. فلا ينحصر الرأي المقصود هنا في الجانب السياسي، بل في كل فكرة يمكن للفرد التعبير عنها، ويمكن أن يكون للسلطة السياسية فيها نظر مخالف لنظر الفرد.

أقسام الرأي في النظر الشرعي

يمكن تقسيم الرأي الذي يتبناه الإنسان، بحسب حكمه الشرعي إلى أقسام خمسة، هي أقسام الحكم التكليفي. كما يمكن اختزالها في ثلاثة أقسام:

●المشروع، وهو الواجب والمندوب.
●وغير المشروع، وهو الحرام والمكروه.
●والمباح، وهو المخيَّر فيه.

أما القسم الأول، فلا يجوز للحاكم أن يمنعه، بل عليه أن يمنع تركَه والتفريط فيه. ويدخل في هذا النوع الرأيُ السياسي المشروع، كمحاسبة العمال والحكام، وانتقاد عملهم وتقديم النصح لهم، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. كما تدخل الآراء الفقهية الاجتهادية، فليس للحاكم أن يحمل الفقهاء على قول واحد، أو يمنع أقوالا فقهية مخصوصة، ما دامت تدخل في دائرة المشروع.

والدليل على عدم جواز تعرض الحاكم لهذا النوع بالمنع: النصوص الدالة على فضل قول كلمة الحق، مثل قوله عليه الصلاة والسلام حين سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر" (أحمد والنسائي)؛ وحديث: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن" (مسلم)؛ وحديث: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" (أحمد والترمذي وأبو داود).

ويدل عليه أيضا ما جاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه علامة خيرية الأمة، وما جاء في فضل الدعوة إلى الله وتبليغ رسالة الإسلام.

ومن الدليل على ذلك أيضا فعل الصحابة. فقد ثبت في عصر الخلافة الراشدة، أن جماعة من الصحابة أنكروا وبينوا وحاسبوا، ولم يتعرض لهم الخليفة بالمنع. فعدم المنع – مع قيام المقتضي لذلك وهو مخالفة الرأي المنشور لرأي الحاكم – برهانٌ على أنهم لم يكونوا يرون جواز التعرض بالمنع للآراء المشروعة.

وأما القسم الثاني، فيندرج فيه جميع الآراء المنهي عنها شرعا، وعلى رأسها: الكفر والبدع والطعن في شعائر الله ونشر الفواحش والقذفُ والسب وما أشبه ذلك. فهذا النوع يجب على الحاكم منعه، ويدل على ذلك أمور، منها:

●وجوب النهي عن المنكر على عامة المسلمين - والحاكمُ منهم. فهو مخاطب بهذا الوجوب، بل هو أول المخاطبين به، لتوفر شرط القدرة لديه.

●فعل الصحابة وهو كثير مستفيض. من ذلك قصة تأديب عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل؛ ومن ذلك قول علي رضي الله عنه: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"؛ ومن ذلك أن عمر قال في خطبته: "ومن يضلل فلا هادي له"، فقال نبطي: "إن الله لا يضل أحدا"، فقال عمر: "والذي نفسي بيده لئن عدت لها لأضربن الذي فيه عيناك"؛ ومن ذلك ما جاء عن الصحابة من تطبيق عقوبة المرتد، أو الدعوة إلى تطبيقها، وهو كثير.

وجاء نظير ذلك عن عمر بن عبد العزيز، قولا وفعلا؛ فقد قال عن القدرية: "أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا"، وضرب رجلا سبّ معاوية رضي الله عنه ثلاثة أسواط.

●ما تقرر في الفقه السياسي الإسلامي من أن أعظم مسؤوليات الحاكم: حفظ الدين. ولا شك أن مِن حفظ الدين منع الآراء التي تناقض الشرع، وتفسد أديان الناس. ولذلك نص الفقهاء على عدد كبير من العقوبات التي يجب على الحاكم أن يوقعها في باب الآراء المبتدعة، أو نشر الشبهات والضلالات.

وأما القسم الثالث، فالأصل فيه عدم جواز تعرض الحاكم للناس في ما يرون من الآراء المباحة. وذلك لحرمة دم المسلم وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له بالعقوبة بغير حجة. وعلى هذا عمل المسلمين في زمن النبوة وعصر الخلافة الراشدة.

على أن للحاكم أن يقيّد بعض المباحات، إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وعلى هذا تأصيل الفقهاء المصنفين في السياسة الشرعية، وعليه عملُ السلطات السياسية في الغرب اليوم. إلا أن هذا التقييد، لا ينبغي أن يتحول إلى ذريعة يتخذها الحاكم لمنع الآراء المخالفة لسلطته. والسبيل إلى ذلك ألا ينفرد الحاكم بهذا القرار، بل لا يقيّد المباح لدرء الضرر العام أو مراعاة المصلحة العامة، إلا من خلال مجلس شوري يجمع أهل الاختصاص، من علماء الشريعة والمختصين في الموضوع الذي يراد تقييد المباح فيه.

وتفصيل ذلك يدور على الصيغة الشورية الإسلامية لتقييد السلطة السياسية للحاكم. ولتفصيل ذلك مقام آخر.

من سد الذرائع

بعد أن قررنا آنفا أن من واجب السلطة السياسية أن تمنع الآراء والأفكار المخالفة للشرع، فإن المتماهين مع الحضارة الغربية الحديثة يعترضون بأن تسويغ هذا المنع، يفتح الباب أمام كل منع، ويعطي الحاكم ذريعة للتضييق على ما شاء من الحريات متى شاء، بزعم أنها مخالفة للشريعة. ولن يعدم لذلك تأويلا مناسبا!

والجواب على هذا الاعتراض من أوجه:

أولها: أن من أهم ما يميز النظام السياسي الإسلامي، وجود مرجعية متجاوزة يعرف من خلالها الممنوع، ويميز عن المشروع. والخوف من عدم انضباط المنع، إنما يرد في حالة غياب هذه المرجعية العليا؛ فالناس حينئذ يرجعون إلى محض أهوائهم وتقلبات آرائهم.

والثاني: أن المخالِف حين يدعو نظريا إلى نظام سياسي لا تمنع فيه الآراء مطلقا، فهو يعلم يقينا أن ذلك غير ممكن عمليا، لغلبة شهوات النفوس على المتحكمين في السلطة. فإن قال: لدينا القدرة على تقييد الحاكم، بالضمانات والمؤسسات، فلا يمكنه التعرض للآراء بالمنع، وإلا حوسب على ذلك. فجوابنا: وكذلك ما الذي يمنع أن نضع من الضمانات والمؤسسات ما يجعل الحاكم لا يتعرض بالمنع إلا لآراء مخصوصة لمخالفتها للمرجعية الشرعية، فإن تجاوز الحد إلى ما لا يحلّ له منعه حوسب على ذلك أيضا؟

والثالث: أن الأنظمة السياسة المعاصرة لا تبيح جميع الآراء، مع تبجحها باحترام حرية الرأي والتعبير. بل ما أكثر الآراء التي يمنع نشرها في الغرب، تحت طائلة المحاسبة القانونية. غاية ما في الأمر، أن الغرب – لتخليه عن مرجعية الدين منذ زمن – لم يعد يمنع رأيا ما لاعتبار ديني. أمّا لغير الدين من الاعتبارات السياسية والفكرية والفلسفية، فالمنع عندهم وارد دون اعتراض.

الفرق بين المنظور الإسلامي والغربي

وهذا يجرنا إلى الفرق بين النظرة الإسلامية والغربية إلى حرية الرأي والتعبير. وملخص الفرق أن المرجعية الإسلامية تعدّ حفظ الدين أول المقاصد الشرعية وأعظمها. ولأجل ذلك فإن الرأي الذي يعارض هذا المقصد، معارضة صريحة لا تحتمل التأويل، هو رأي مرفوض، لا حرية في إبدائه، ولا ضير في منعه.

كما أن "الضرر" الذي ينحصر في الثقافة السياسية الغربية في الأذى المادي الذي يلحق الفرد أو مجموعة من الأفراد، يتوسع مفهومه في الإسلام فيشمل الضرر على أديان الناس وعقائدهم. فسبّ الله تعالى ضرر ديني ما بعده ضرر، وجرم ليس بعده جرم؛ أما في الثقافة العلمانية الغربية، فحرّية فردية لا ينكر على صاحبها! وشتم النبي صلى الله عليه وسلم أخطر – في نظر الفقيه المسلم – من شتم أي إنسان آخر، كائنا من كان؛ لكنه في ثقافة العصر لا يقتضي تجريما، بخلاف شتم شخص معاصر!

كما أن الإسلام حين يحرم تصرفات عملية معينة (كشرب الخمر والزنا)، فإن من الطبيعي أن يحرم الرأي الذي فيه دعوة إلى فعل هذه التصرفات. ومن التناقض تحريم السلوك، وإباحة الدعوة إليه، لا لشيء إلا لأن الأول فِعلٌ، والثاني رأي! والغربيون أنفسهم يمنعون الدعوة إلى ما هو مجرّم عندهم من الأفعال، كالقتل والسرقة والتهرب الضريبي ونحو ذلك.

فهذا ملخص الفرق بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية لقضية حرية الرأي والتعبير، وهو فرق لا بد من استحضاره عند مناقشة هذه القضية.

وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
‏٢٧‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:١٤ م‏
دماء الشهداء .. والحرية الحمراء د. عطية عدلان لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لم يكن يقصد التعزية والمساواة وحسب؛ عندما قال شوقي هذه الكلمات الخالدة: فَـــفِــي الـقَـْتـلَـى لأجــيــالٍ حــيــاةٌ ... وفـي الأسـرَى فِدىً لَهُمُ وعِتْقُ وللـحـريـةِ الــــحــمــراءِ بـابٌ ... بـكـلِّ يــَـدٍ مـُـضَـرَّجَــةٍ يـُـدَقُّ ولا يَفْهم مراده على الوجه الصحيح إلا من تَلَقَّى هذه الكلمات وهو في الوضع الصحيح، والوضع الصحيح هو ما تدعو إليه هذه الكلمات، وليس وضع القعود لتلقي العزاء واستمداد المواساة، والذي تدعو إليه هذه الكلمات هو الحقُّ الذي صرحت به الآيات البينات المحكمات: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة 193) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الانفال 39). والفتنة التي تمنع من أن يكون الدين لله هي هيمنة الطغيان على الخلق، وما يترتب على ذلك من حرمان الناس من الحرية الحقيقية التي هي الباب لدخول الناس في دين الله أو في الطاعة لأحكام دين الله؛ ولذلك لم تكن الشعوب في يوم من الأيام هدفاً لسيف الجهاد، ولم يكن قهرها على الإسلام غاية من غاياته، وإنَّما كان المستهدف دوماً هو قوى الطغيان التي تحول بين العباد وبين ربهم بالحيلولة بينهم وبين الحرية التي هي باب ولوج العباد إلى رب العباد تبارك وتعالى؛ لأجل ذلك فرق العلماء بين موجب القتال وموجب القتل، فليس الكفر وحده بموجب للقتل حتى تنضم إليه الحرابة، وهذا هو المعنى الذي ينصرف إليه قول الله تعالى من سورة البقرة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة 190) أي: لا تعتدوا بقتل من لا يقاتل من النساء والصبيان وسائر من نسميهم بالمدنيين. وبمجرد سقوط قوى الطغيان في مكان ما أو بلد ما يُرْفَع عنها سيف الجهاد، ويتوقف فيها العمل بآياته، بما في ذلك آية السيف، ويقال للناس عندئذ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة 256) ويبدأ العمل بآيات الحرية التي لم تنسخ على الصحيح: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف 29) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ؛ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية 21-22) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ) (ق 45). هذه الحرية حقٌّ أعطاه الخالق للعباد؛ فهي من ثمَّ جزء من طبيعته؛ إلى حدِّ أنَه لا يملك التنازل عنه وهو في وضعه الطبيعيّ الذي فطره الله عليه، يقول روسُّو: " تَنَزُّل الإنسان عن حريته يعني تَنَزُّلا عن صفة الإنسان فيه، وتَنَزُّلا عن الحقوق الإنسانية ... وتَنَزُّلٌ كهذا يناقض طبيعة الإنسان"([(1) العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة عادل زعيتر - مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت لبنان - ط الثانية 1995م صــــ 37]) ومن ثمَّ تكون الطبيعة الثانية المكتسبة بطول المكث في أغلال العبودية قد غلبت على الطبيعة الأولى التي فطر عليها الإنسان، وهو وضع بطبيعة الحال مقلوب، وكما يقول جون ديوي: " فالاعتراف بأنّ الناس قد يدفعهم طول العهد بالعبودية والرق أن يحبوا أصفادهم التي تقيدهم اعتراف بأن الطبيعة الثانية - أي الطبيعة المكتسبة - أقوى فعلا من الفطرة الأصلية"([(2) الحرية والثقافة - جون ديوي - ترجمة أمين مرسي قنديل - مطبعة التحرير - مصر - ط 2003م صـــــــ 8،9]) أمَّا لماذا هي حمراء ؟ فلأنَّها على مدى التاريخ صبغت بالدم، والذين نشدوها لأنفسهم ولغيرهم - أيَّا كان معتقدهم - قاتلوا في سبيلها فَقَتَلوا وقُتِلُوا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 111) وظل هذا هو منهج الجيل الأول من هذه الأمَّة المباركة؛ حتى تحقق لهم وللبشرية ما أرادوه وأعلنوا عنه: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). ولم تنل الشعوب الأوربية حريتها إلا بنفس الصنيع، ففي بداية الطريق استلهم الإنسانيون فكر شيشرون والرواقيين عن الحرية والقانون الطبيعيّ، ثمّ شقوا بالناس طريق الحرية الحمراء، فكان "الحل الذي اقترحه الإنسانيون في أوائل القرن الرابع عشر قد اتخذ صورة إحياء المثال الأعلى، الذي تمثل في أن يكون المواطنون مسلحين ومستقلين، وهو المثال الأعلى الذي امتدحه أرسطو في الكتاب الثالث من كتاب السياسة، وقالوا بوجوب الدفاع عن فلورنسا، وأن يكون حكمها من قبل رجال يكونون مستعدين - لا لتقديم مهاراتهم السياسية فقط - بل وتقديم حياتهم عند الضرورة، بغية الحفاظ على الجمهورية وحريتها"([(3) أسس الفكر السياسي الحديث (عصر النهضة) الجزء الأول – كوينتن سكنر – ت: د. حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 2012م صــــ161]) وظلت شرارة الثورة على هذا النحو تنتقل من مدن إيطاليا ومقاطعات لمبارديا إلى بريطانيا في ثورتها التي شبَّت قبل الثورة الفرنسية بقرن من الزمان تقريباً، واستمرت الحرب الأهلية عقداً من الزمان أو يزيد لتستقر سفينة الثورة على شاطئ النصر على أثر الثورة البيضاء التي كتب لها أن تكون بيضاء لعجز الملك عن المقاومة أمام جيوش البرلمان الحمراء. إلى أن جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، فكان استيلاء الثوار على الباستيل بهذا العنف الذي رواه التاريخ فتحاً مبيناً بعث الهمَّة والنشوة في شعوب أوربا بأسرها، وقد يقال إنَّ قوة الثوار في الاستيلاء كانت متطرفة إلى حدٍّ بعيد "بيد أنَّ الاستيلاء برغم تدنسه بالجريمة على ذلك السجن القديم الذي في أطراف باريس وهدمه كان عملاً سياسيا فذا ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا؛ مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وبشير لبزوغ فجر الحرية"([(4) تاريخ أوربا في العصر الحديث - هربرت فِشر - ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله- ط دار المعارف - مصر - ط 6 صــــ 12]). هذا هو الطريق؛ وما وقع في مسيرة الثورات عبر التاريخ من أخطاء لا تنسب إلى طبيعة الطريق، وإنَّما تنسب إلى الأداء؛ لذلك يجب أن يسلم الأداء من الاستعجال والارتجال، وأن يسلم كذلك من ردة الفعل غير المحسوبة، وأن يقع عبر رؤية يصنعها الكبار مع الشباب، وعبر مشروع تتجلى فيه هوية الأمَّة، وعلى النحو الذي يحقق الغاية ولا يجر إلى الفوضى العامَّة التي تدمر دون أن تحقق المصالح المرجوة.
دماء الشهداء .. والحرية الحمراء

د. عطية عدلان

لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj]

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يكن يقصد التعزية والمساواة وحسب؛ عندما قال شوقي هذه الكلمات الخالدة:

فَـــفِــي الـقَـْتـلَـى لأجــيــالٍ حــيــاةٌ ... وفـي الأسـرَى فِدىً لَهُمُ وعِتْقُ
وللـحـريـةِ الــــحــمــراءِ بـابٌ ... بـكـلِّ يــَـدٍ مـُـضَـرَّجَــةٍ يـُـدَقُّ

ولا يَفْهم مراده على الوجه الصحيح إلا من تَلَقَّى هذه الكلمات وهو في الوضع الصحيح، والوضع الصحيح هو ما تدعو إليه هذه الكلمات، وليس وضع القعود لتلقي العزاء واستمداد المواساة، والذي تدعو إليه هذه الكلمات هو الحقُّ الذي صرحت به الآيات البينات المحكمات: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة 193) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الانفال 39).

والفتنة التي تمنع من أن يكون الدين لله هي هيمنة الطغيان على الخلق، وما يترتب على ذلك من حرمان الناس من الحرية الحقيقية التي هي الباب لدخول الناس في دين الله أو في الطاعة لأحكام دين الله؛ ولذلك لم تكن الشعوب في يوم من الأيام هدفاً لسيف الجهاد، ولم يكن قهرها على الإسلام غاية من غاياته، وإنَّما كان المستهدف دوماً هو قوى الطغيان التي تحول بين العباد وبين ربهم بالحيلولة بينهم وبين الحرية التي هي باب ولوج العباد إلى رب العباد تبارك وتعالى؛ لأجل ذلك فرق العلماء بين موجب القتال وموجب القتل، فليس الكفر وحده بموجب للقتل حتى تنضم إليه الحرابة، وهذا هو المعنى الذي ينصرف إليه قول الله تعالى من سورة البقرة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة 190) أي: لا تعتدوا بقتل من لا يقاتل من النساء والصبيان وسائر من نسميهم بالمدنيين.

وبمجرد سقوط قوى الطغيان في مكان ما أو بلد ما يُرْفَع عنها سيف الجهاد، ويتوقف فيها العمل بآياته، بما في ذلك آية السيف، ويقال للناس عندئذ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة 256) ويبدأ العمل بآيات الحرية التي لم تنسخ على الصحيح: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف 29) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ؛ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية 21-22) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ) (ق 45).

هذه الحرية حقٌّ أعطاه الخالق للعباد؛ فهي من ثمَّ جزء من طبيعته؛ إلى حدِّ أنَه لا يملك التنازل عنه وهو في وضعه الطبيعيّ الذي فطره الله عليه، يقول روسُّو: " تَنَزُّل الإنسان عن حريته يعني تَنَزُّلا عن صفة الإنسان فيه، وتَنَزُّلا عن الحقوق الإنسانية ... وتَنَزُّلٌ كهذا يناقض طبيعة الإنسان"([(1) العقد الاجتماعي - جان جاك روسو - ترجمة عادل زعيتر - مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت لبنان - ط الثانية 1995م صــــ 37]) ومن ثمَّ تكون الطبيعة الثانية المكتسبة بطول المكث في أغلال العبودية قد غلبت على الطبيعة الأولى التي فطر عليها الإنسان، وهو وضع بطبيعة الحال مقلوب، وكما يقول جون ديوي: " فالاعتراف بأنّ الناس قد يدفعهم طول العهد بالعبودية والرق أن يحبوا أصفادهم التي تقيدهم اعتراف بأن الطبيعة الثانية - أي الطبيعة المكتسبة - أقوى فعلا من الفطرة الأصلية"([(2) الحرية والثقافة - جون ديوي - ترجمة أمين مرسي قنديل - مطبعة التحرير - مصر - ط 2003م صـــــــ 8،9])

أمَّا لماذا هي حمراء ؟ فلأنَّها على مدى التاريخ صبغت بالدم، والذين نشدوها لأنفسهم ولغيرهم - أيَّا كان معتقدهم - قاتلوا في سبيلها فَقَتَلوا وقُتِلُوا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 111) وظل هذا هو منهج الجيل الأول من هذه الأمَّة المباركة؛ حتى تحقق لهم وللبشرية ما أرادوه وأعلنوا عنه: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

ولم تنل الشعوب الأوربية حريتها إلا بنفس الصنيع، ففي بداية الطريق استلهم الإنسانيون فكر شيشرون والرواقيين عن الحرية والقانون الطبيعيّ، ثمّ شقوا بالناس طريق الحرية الحمراء، فكان "الحل الذي اقترحه الإنسانيون في أوائل القرن الرابع عشر قد اتخذ صورة إحياء المثال الأعلى، الذي تمثل في أن يكون المواطنون مسلحين ومستقلين، وهو المثال الأعلى الذي امتدحه أرسطو في الكتاب الثالث من كتاب السياسة، وقالوا بوجوب الدفاع عن فلورنسا، وأن يكون حكمها من قبل رجال يكونون مستعدين - لا لتقديم مهاراتهم السياسية فقط - بل وتقديم حياتهم عند الضرورة، بغية الحفاظ على الجمهورية وحريتها"([(3) أسس الفكر السياسي الحديث (عصر النهضة) الجزء الأول – كوينتن سكنر – ت: د. حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 2012م صــــ161])

وظلت شرارة الثورة على هذا النحو تنتقل من مدن إيطاليا ومقاطعات لمبارديا إلى بريطانيا في ثورتها التي شبَّت قبل الثورة الفرنسية بقرن من الزمان تقريباً، واستمرت الحرب الأهلية عقداً من الزمان أو يزيد لتستقر سفينة الثورة على شاطئ النصر على أثر الثورة البيضاء التي كتب لها أن تكون بيضاء لعجز الملك عن المقاومة أمام جيوش البرلمان الحمراء.

إلى أن جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، فكان استيلاء الثوار على الباستيل بهذا العنف الذي رواه التاريخ فتحاً مبيناً بعث الهمَّة والنشوة في شعوب أوربا بأسرها، وقد يقال إنَّ قوة الثوار في الاستيلاء كانت متطرفة إلى حدٍّ بعيد "بيد أنَّ الاستيلاء برغم تدنسه بالجريمة على ذلك السجن القديم الذي في أطراف باريس وهدمه كان عملاً سياسيا فذا ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا؛ مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وبشير لبزوغ فجر الحرية"([(4) تاريخ أوربا في العصر الحديث - هربرت فِشر - ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله- ط دار المعارف - مصر - ط 6 صــــ 12]).

هذا هو الطريق؛ وما وقع في مسيرة الثورات عبر التاريخ من أخطاء لا تنسب إلى طبيعة الطريق، وإنَّما تنسب إلى الأداء؛ لذلك يجب أن يسلم الأداء من الاستعجال والارتجال، وأن يسلم كذلك من ردة الفعل غير المحسوبة، وأن يقع عبر رؤية يصنعها الكبار مع الشباب، وعبر مشروع تتجلى فيه هوية الأمَّة، وعلى النحو الذي يحقق الغاية ولا يجر إلى الفوضى العامَّة التي تدمر دون أن تحقق المصالح المرجوة.
‏٢٦‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٧:٣٢ م‏
إنه رسول الله! الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل* [لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj] جمهور الأمة الإسلامية لا يعرف فى الحقيقة من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلنكن صرحاء.. إن أغلبنا يعرف واقعة أوقصة، مثل جمعه الحطب، وأنه رحيم بالصغار، وكان رحيما بالكبار، لكن النادر القليل هومن يستطيع أن يعبر عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبيرا كاملا حتى كأنك تراها. ذلك أنه لم يُقصد أن نتعلم ونعلم شخصية رسول الله، بل مجرد شذرات تقال في المناسبات، فإذا أريد الحديث عن الرحمة استدعي من مواقف النبي ما فعله في الرحمة، أوأريد الحديث في العدل استدعيت مواقف العدل، أوالشجاعة استدعيت مواقف الشجاعة.. إلخ، أما أن تعلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكامل فهذا أمر مقصود أن لا يعرفه المسلمون. لا بد أن نصحح هذه الصورة التي تنسب إلى النبي حسن الخلق وسموالطباع لكنها تجهل ملامح شخصيته: كيف يفعل إذا أقبل وإذا أدبر وإذا تصرف وإذا ما كان في موقف غضب أوموقف رضا.. إلخ. *** وأهمية التعرف على شخصية النبي (ص) هوفي أنها تقربنا من حقيقته الكاملة، وذلك أن الشخصية الواحدة فيها متقابلات، فقد تجد إنسانا بالغ الحياء وهو -لهذا- ليس شجاعا ولا مقداما، بل إن حياءه قد يؤذيه ويدفعه إلى السكوت عن منكر. وقد تجد إنسانا غضوبا للحق لا يقبل أن ينتهك الحق عنده ويثور لكي تعود الحقوق لأصحابها، ولكنه تعود هذا الغصب فما يستطيع أن يكون رفيقا سمحا حلوا طيبا. ولذلك فمن القصور أن يتحدث الداعية عن الخلق الواحد فيستقر في أذهان السامعين دون أن يتحدث عن الأخلاق المقابلة التي قد تشتبه به أوقد تتعارض معه. ومن هنا فإن القلة القليلة هي التي تعرف على التيقن والحقيقة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. إن الداعية إذا تحدث مرة عن سماحة النبي ورحمته، ثم تحدث مرة أخرى عن زهده، ومرة ثالثة عن عبادته، ومرة رابعة عن شجاعته.. فإنه يخطئ حين يترك التوفيق بين هذه الأخلاق للناس دون أن يبين ذلك لهم. فالناس لا يستطيعون الجمع والمزج بين هذه الأمور كعلم يصلون به إلى الحقيقة. ومن هنا تفقد الأمة التصور الكامل لشخصية النبي فتفقد بذلك حسن الاتباع والتطبيق لقول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].. إذ كيف يعرفون الأسوة الحسنة؟! ربما الواحد منهم يذهب إلى المسجد مبتسما ويصافح ويبش في وجه صاحبه، ويظن هذا تطبيقا لسنة "اللقاء بالناس"، لكنه إذا عاد إلى البيت غضب وتجهم، ويظن أن هذا "غضب للحق"، كأنما ليس في البيت سنة للقاء الأشقاء أوالوالدين، وكأنما ليس في الطريق أو المسجد غضب لانتهاك حرمة الله! ولهذا ففي التعرف على شخصية النبي نعرف ونتعلم كيف نقابل بين الصفات لنخرج منها مفهوما واحدا وصياغة واحدة ومعنى واحدا. إن أكثر الذين يظنون أنهم يقتدون برسول الله لا يقتدون به إلا المظاهر والقشور، وقليل جدا من الناس من اهتم بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الأمور الكبرى. انظر مثلا إلى كفاءة النبي وانظر كم من يقتدي بها؟ قد يعجب الرجل برجل لصفاته الشخصية: هدوئه واتزانه وتبسمه وأدبه والتزامه بالمواعيد ولطفه.. لكن بمجرد أن يُكلَّف بعملٍ إذا بالعمل ينهار بين يديه، لأنه ليس كفئا، لا يعرف كيف يدير العمل. والعكس صحيح أيضا: فقد يعجب المرء بإنسان كفء تشهد له نجاحات العمل بالأرقام والأوراق، فما أن يلقاه حتى يجده سيئ الأخلاق: سليط اللسان أو كذابا أو منافقا أولا يلتزم بالمواعيد. ولذلك لا ينبغي أن تعجب حين ترى هذه النماذج، ولا ينبغي أن تندهش كيف فشل هذا وهو صادق وأمين وملتزم وكيف نجح هذا وهو كذاب ومنافق. ذلك أن الكفاءة شيء والأخلاق والمميزات شيء آخر. ولذلك نخطئ جميعا حين نتحدث عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فلا نذكر عنها سوى هذه الأخلاق والسجايا، ونخطئ حين نظن أن الاقتداء به هو في مجرد التحلي بهذه الأخلاق والسجايا، دون أن نتحدث ودون أن نتقدي بكفاءته صلى الله عليه وسلم. ولذلك تجد كثيرا من المسلمين قد يُعجبون بنابليون بونابرت أو هتلر أو الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم من الملوك والسياسيين والمصلحين، ولكنهم لا يفهمون -حق الفهم- لماذا نضع النبي صلى الله عليه وسلم على قمة هؤلاء؟! لأنهم لا يعرفون النبي في جانب الكفاءة. *** إن المسلم يحتاج إلى أن تكتمل تصوره عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، لكي يعلم كيف رباه ربه كما في الحديث "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، ونحن لن نفهم كيف أدبه ربه إلا إذا اكتملت لدينا صورة الشخصية؛ فالمرء فينا إذا حُدِّث عن غلام مؤدب: أخلاقه وكفاءته وعقله وأدبه وسلوكه ونجاحه، يتشوق ساعتها إلى أن يعرف كيف رُبِّي هذا الولد، وكيف بلغ هذا. إن بعض المسلمين يتوهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان درويشا، إذا ظلمه أحد عفا عنه، إذا أغضبه أحد سامحه، وإذا رأى فقيرا أو جائعا أعطاه وأطعمه، يهش ويبش لأصحابه حتى إذا صافح أحدا منهم لم ينزع يده حتى ينزع.. وهكذا! لكن إذا رجعنا إلى الحق، واستعرضنا وقائع السيرة سنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلا فذا متفردا لا مثيل له، كان عقلية لو وضعت عباقرة العالم سواء فى التاريخ القديم أو الحديث لرجحت بهم، وأقصد العباقرة في أي مجال: السياسي، العسكري، الإداري، الإصلاحي.. إلخ. كان شخصية ذكية، متفردة، كان عالما مثقفا مدركا يفهم ما حوله، ويفهم المرامي البعيدة، والأسرار، كان ذا ذاكرة قوية، نشيطا وافر المجهود، قويا، محببا إلى الناس، كان صورة متميزة عمن حوله. وكان في غاية النظام في كل كبيرة وصغيرة، يعرف خطوات طريقه، فما أوحاه الله إليه أدركه، وما تركه الله له من خطوات وتخطيط استعد له وعمل حسابه، ماذا سيفعل اليوم؟ وماذا سيفعل غدا؟ وماذا بعد غد؟ وما الذي يؤجل؟ وما الخطوات التي تتخذ قبل هذه الخطوة، وكم يستلزم ذلك من الوقت.. وهكذا! كان شخصية فذة بمعنى الكلمة.. وهو -مع هذا الجد والنظام- رقيق العاطفة، لا يؤدي أعمال البر والرحمة لمجرد أنه منظم يوزع الحقوق كالبر بالزوجات والإحسان إلى الأطفال والرفق بالعبيد والفقراء، بل إنه يهتز من الرقة لمواقف إنسانية طبيعية قد يمر بها كل إنسان؛ فلقد بكى على قبر أمه وهو في الستين من عمره، بعد أربع وخمسين سنة من وفاتها، وينهمر الدمع من عينيه، فيقول له صاحبه: ما هذا يا رسول الله؟ فيقول: "إنها رحمة يودعها الله قلب من يشاء من عباده، والراحمون يرحمهم الرحمن"، يبكي على أمه وقد مرت عليه عشرون سنة من النبوة لقي فيها الأهوال! ويفرح بولده الطفل "إبراهيم" فرحة والد بولده، ويحمله ويهتم له، ثم لما توفي هذا الطفل بكى عليه وقال "إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، وينتفض الولد انتفاضة الموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترى فيه الوالد والأب الكريم. فلم يكن الأمر قرارا عقليا أو إنفاذا لتكليف بحسن الخلق، بل كان عاطفة تلقائية وفطرة مودعة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل فإنك حين تنظر إليه وهو يبكي عند موت ولده إبراهيم تراه وقد جاء أسامة بن زيد -الذي هو حفيده في الميزان الجاهلي، لأنه ابن ربيبه زيد بن حارثة الذي اتخذه النبي ولدا له قبل أن يبطل الله التبني- ورأى النبي على هذه الصورة من الحزن، فصرخ أسامة، فإذا به صلى الله عليه وسلم يوقف بكاء نفسه وينظر إلى أسامة ويقول: “يا أسامة البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان فلا تصرخ”. أى قوة تلك التى جعلته وهو فى قمة انهمار العواطف فى نفسه يقف ليصحح عقيدة أو ليصحح حكما شرعيا لأسامة؟! ولا يشفع له أن الحالة حالة حزن ووفاة! بل يدفن ولده وهو يردد: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون" . ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم، وظنَّ الصحابة -من الحزن- أنها كسفت لموت ابن النبي وحزنه عليه، وقف النبي بين هذا الجمع وقال لهم: “أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان ولا تنخسفان لموت أحد”. ولك أن تعجب في هذه الواقعة كيف كان النبي يتوقف –وهو في ذروة العاطفة- ليمنع من الزيع ويقول: إنها لم تكسف لأجل ابني وإنما هذه من آيات الله. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا للكمال البشري.. كان رجلا يدرك شؤون المجتمع، يتمتع بكفاءة إدارية وسياسية وعسكرية واجتماعية، صاحب لأصحابه، زوج لأزواجه، أب لأبنائه، وهو في ذلك يبلغ الغاية، ثم هو مع الضعفاء من المسلمين فوق ما يُتَصَوَّر، وهو في نفسه رجل رحيم عادل، وهو في كل حال متبع للشرع. هذه إشارة سريعة إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نعرفها. فإنك إذا نظرت إلى نفسك وتفكرت: ماذا فعلت مساء الأمس؟ وماذا فعلت صباح الأمس؟.. انظر إلى نفسك وأنت بعيد عن درس علم أو فعل خير، وقِسْ نفسك على هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].. كم تبلغ درجة تأسيك بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات؟! لا شك أنها ستكون ضعيفة، وهذا لأننا لا نعرف النبي جيدا، فلا نعرف كيف نتأسى به في كل أحوالنا، إن أغلبنا لا يعرف سوى 2% أو3% من شخصية النبي؛ فكيف نتأسى بمن لا نعرف؟ ــــــــــــــــــــــــــــــ * نسأل الله أن يفك أسر الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل وأن يحفظه من كل سوء، (المقال مقتبس من الدرس الأول والثاني في دروسه عن السيرة النبوية).
إنه رسول الله!
الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل*

[لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/zPZ8Pj]

جمهور الأمة الإسلامية لا يعرف فى الحقيقة من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلنكن صرحاء.. إن أغلبنا يعرف واقعة أوقصة، مثل جمعه الحطب، وأنه رحيم بالصغار، وكان رحيما بالكبار، لكن النادر القليل هومن يستطيع أن يعبر عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبيرا كاملا حتى كأنك تراها. ذلك أنه لم يُقصد أن نتعلم ونعلم شخصية رسول الله، بل مجرد شذرات تقال في المناسبات، فإذا أريد الحديث عن الرحمة استدعي من مواقف النبي ما فعله في الرحمة، أوأريد الحديث في العدل استدعيت مواقف العدل، أوالشجاعة استدعيت مواقف الشجاعة.. إلخ، أما أن تعلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكامل فهذا أمر مقصود أن لا يعرفه المسلمون.

لا بد أن نصحح هذه الصورة التي تنسب إلى النبي حسن الخلق وسموالطباع لكنها تجهل ملامح شخصيته: كيف يفعل إذا أقبل وإذا أدبر وإذا تصرف وإذا ما كان في موقف غضب أوموقف رضا.. إلخ.
***

وأهمية التعرف على شخصية النبي (ص) هوفي أنها تقربنا من حقيقته الكاملة، وذلك أن الشخصية الواحدة فيها متقابلات، فقد تجد إنسانا بالغ الحياء وهو -لهذا- ليس شجاعا ولا مقداما، بل إن حياءه قد يؤذيه ويدفعه إلى السكوت عن منكر. وقد تجد إنسانا غضوبا للحق لا يقبل أن ينتهك الحق عنده ويثور لكي تعود الحقوق لأصحابها، ولكنه تعود هذا الغصب فما يستطيع أن يكون رفيقا سمحا حلوا طيبا. ولذلك فمن القصور أن يتحدث الداعية عن الخلق الواحد فيستقر في أذهان السامعين دون أن يتحدث عن الأخلاق المقابلة التي قد تشتبه به أوقد تتعارض معه. ومن هنا فإن القلة القليلة هي التي تعرف على التيقن والحقيقة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن الداعية إذا تحدث مرة عن سماحة النبي ورحمته، ثم تحدث مرة أخرى عن زهده، ومرة ثالثة عن عبادته، ومرة رابعة عن شجاعته.. فإنه يخطئ حين يترك التوفيق بين هذه الأخلاق للناس دون أن يبين ذلك لهم. فالناس لا يستطيعون الجمع والمزج بين هذه الأمور كعلم يصلون به إلى الحقيقة. ومن هنا تفقد الأمة التصور الكامل لشخصية النبي فتفقد بذلك حسن الاتباع والتطبيق لقول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].. إذ كيف يعرفون الأسوة الحسنة؟!

ربما الواحد منهم يذهب إلى المسجد مبتسما ويصافح ويبش في وجه صاحبه، ويظن هذا تطبيقا لسنة "اللقاء بالناس"، لكنه إذا عاد إلى البيت غضب وتجهم، ويظن أن هذا "غضب للحق"، كأنما ليس في البيت سنة للقاء الأشقاء أوالوالدين، وكأنما ليس في الطريق أو المسجد غضب لانتهاك حرمة الله!

ولهذا ففي التعرف على شخصية النبي نعرف ونتعلم كيف نقابل بين الصفات لنخرج منها مفهوما واحدا وصياغة واحدة ومعنى واحدا.

إن أكثر الذين يظنون أنهم يقتدون برسول الله لا يقتدون به إلا المظاهر والقشور، وقليل جدا من الناس من اهتم بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الأمور الكبرى.
انظر مثلا إلى كفاءة النبي وانظر كم من يقتدي بها؟

قد يعجب الرجل برجل لصفاته الشخصية: هدوئه واتزانه وتبسمه وأدبه والتزامه بالمواعيد ولطفه.. لكن بمجرد أن يُكلَّف بعملٍ إذا بالعمل ينهار بين يديه، لأنه ليس كفئا، لا يعرف كيف يدير العمل. والعكس صحيح أيضا: فقد يعجب المرء بإنسان كفء تشهد له نجاحات العمل بالأرقام والأوراق، فما أن يلقاه حتى يجده سيئ الأخلاق: سليط اللسان أو كذابا أو منافقا أولا يلتزم بالمواعيد.

ولذلك لا ينبغي أن تعجب حين ترى هذه النماذج، ولا ينبغي أن تندهش كيف فشل هذا وهو صادق وأمين وملتزم وكيف نجح هذا وهو كذاب ومنافق. ذلك أن الكفاءة شيء والأخلاق والمميزات شيء آخر. ولذلك نخطئ جميعا حين نتحدث عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فلا نذكر عنها سوى هذه الأخلاق والسجايا، ونخطئ حين نظن أن الاقتداء به هو في مجرد التحلي بهذه الأخلاق والسجايا، دون أن نتحدث ودون أن نتقدي بكفاءته صلى الله عليه وسلم. ولذلك تجد كثيرا من المسلمين قد يُعجبون بنابليون بونابرت أو هتلر أو الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم من الملوك والسياسيين والمصلحين، ولكنهم لا يفهمون -حق الفهم- لماذا نضع النبي صلى الله عليه وسلم على قمة هؤلاء؟! لأنهم لا يعرفون النبي في جانب الكفاءة.
***

إن المسلم يحتاج إلى أن تكتمل تصوره عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، لكي يعلم كيف رباه ربه كما في الحديث "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، ونحن لن نفهم كيف أدبه ربه إلا إذا اكتملت لدينا صورة الشخصية؛ فالمرء فينا إذا حُدِّث عن غلام مؤدب: أخلاقه وكفاءته وعقله وأدبه وسلوكه ونجاحه، يتشوق ساعتها إلى أن يعرف كيف رُبِّي هذا الولد، وكيف بلغ هذا.

إن بعض المسلمين يتوهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان درويشا، إذا ظلمه أحد عفا عنه، إذا أغضبه أحد سامحه، وإذا رأى فقيرا أو جائعا أعطاه وأطعمه، يهش ويبش لأصحابه حتى إذا صافح أحدا منهم لم ينزع يده حتى ينزع.. وهكذا!

لكن إذا رجعنا إلى الحق، واستعرضنا وقائع السيرة سنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلا فذا متفردا لا مثيل له، كان عقلية لو وضعت عباقرة العالم سواء فى التاريخ القديم أو الحديث لرجحت بهم، وأقصد العباقرة في أي مجال: السياسي، العسكري، الإداري، الإصلاحي.. إلخ.

كان شخصية ذكية، متفردة، كان عالما مثقفا مدركا يفهم ما حوله، ويفهم المرامي البعيدة، والأسرار، كان ذا ذاكرة قوية، نشيطا وافر المجهود، قويا، محببا إلى الناس، كان صورة متميزة عمن حوله.

وكان في غاية النظام في كل كبيرة وصغيرة، يعرف خطوات طريقه، فما أوحاه الله إليه أدركه، وما تركه الله له من خطوات وتخطيط استعد له وعمل حسابه، ماذا سيفعل اليوم؟ وماذا سيفعل غدا؟ وماذا بعد غد؟ وما الذي يؤجل؟ وما الخطوات التي تتخذ قبل هذه الخطوة، وكم يستلزم ذلك من الوقت.. وهكذا! كان شخصية فذة بمعنى الكلمة..

وهو -مع هذا الجد والنظام- رقيق العاطفة، لا يؤدي أعمال البر والرحمة لمجرد أنه منظم يوزع الحقوق كالبر بالزوجات والإحسان إلى الأطفال والرفق بالعبيد والفقراء، بل إنه يهتز من الرقة لمواقف إنسانية طبيعية قد يمر بها كل إنسان؛ فلقد بكى على قبر أمه وهو في الستين من عمره، بعد أربع وخمسين سنة من وفاتها، وينهمر الدمع من عينيه، فيقول له صاحبه: ما هذا يا رسول الله؟ فيقول: "إنها رحمة يودعها الله قلب من يشاء من عباده، والراحمون يرحمهم الرحمن"، يبكي على أمه وقد مرت عليه عشرون سنة من النبوة لقي فيها الأهوال! ويفرح بولده الطفل "إبراهيم" فرحة والد بولده، ويحمله ويهتم له، ثم لما توفي هذا الطفل بكى عليه وقال "إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، وينتفض الولد انتفاضة الموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترى فيه الوالد والأب الكريم.

فلم يكن الأمر قرارا عقليا أو إنفاذا لتكليف بحسن الخلق، بل كان عاطفة تلقائية وفطرة مودعة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل فإنك حين تنظر إليه وهو يبكي عند موت ولده إبراهيم تراه وقد جاء أسامة بن زيد -الذي هو حفيده في الميزان الجاهلي، لأنه ابن ربيبه زيد بن حارثة الذي اتخذه النبي ولدا له قبل أن يبطل الله التبني- ورأى النبي على هذه الصورة من الحزن، فصرخ أسامة، فإذا به صلى الله عليه وسلم يوقف بكاء نفسه وينظر إلى أسامة ويقول: “يا أسامة البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان فلا تصرخ”.

أى قوة تلك التى جعلته وهو فى قمة انهمار العواطف فى نفسه يقف ليصحح عقيدة أو ليصحح حكما شرعيا لأسامة؟! ولا يشفع له أن الحالة حالة حزن ووفاة! بل يدفن ولده وهو يردد: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون" .

ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم، وظنَّ الصحابة -من الحزن- أنها كسفت لموت ابن النبي وحزنه عليه، وقف النبي بين هذا الجمع وقال لهم: “أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان ولا تنخسفان لموت أحد”. ولك أن تعجب في هذه الواقعة كيف كان النبي يتوقف –وهو في ذروة العاطفة- ليمنع من الزيع ويقول: إنها لم تكسف لأجل ابني وإنما هذه من آيات الله.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا للكمال البشري..

كان رجلا يدرك شؤون المجتمع، يتمتع بكفاءة إدارية وسياسية وعسكرية واجتماعية، صاحب لأصحابه، زوج لأزواجه، أب لأبنائه، وهو في ذلك يبلغ الغاية، ثم هو مع الضعفاء من المسلمين فوق ما يُتَصَوَّر، وهو في نفسه رجل رحيم عادل، وهو في كل حال متبع للشرع.

هذه إشارة سريعة إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نعرفها. فإنك إذا نظرت إلى نفسك وتفكرت: ماذا فعلت مساء الأمس؟ وماذا فعلت صباح الأمس؟.. انظر إلى نفسك وأنت بعيد عن درس علم أو فعل خير، وقِسْ نفسك على هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].. كم تبلغ درجة تأسيك بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات؟!

لا شك أنها ستكون ضعيفة، وهذا لأننا لا نعرف النبي جيدا، فلا نعرف كيف نتأسى به في كل أحوالنا، إن أغلبنا لا يعرف سوى 2% أو3% من شخصية النبي؛ فكيف نتأسى بمن لا نعرف؟

ــــــــــــــــــــــــــــــ
* نسأل الله أن يفك أسر الأستاذ حازم صلاح أبو إسماعيل وأن يحفظه من كل سوء، (المقال مقتبس من الدرس الأول والثاني في دروسه عن السيرة النبوية).
‏٢٥‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:١٣ ص‏
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)* مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (2) ما نشبت الحرب العالمية الثانية في أواخر سبتمبر 1939 ازداد الضغط البريطاني على فرنسا لمطاردة الفلسطينيين والقضاء على الثورة، وألحت بريطانيا على حليفتها فرنسا كي تسلمني إليها لاعتقالي في إحدى الجزر النائية، وأخذت السلطة الفرنسية تنتهز الفرصة الملائمة لتلبية طلب الإنجليز وتسليمي لهم. اشتدت المراقبة علينا بنشوب الحرب العالمية الثانية، وكثر جواسيس الإنجليز، وتستخدم المخابرات البريطانية عددًا ضخمًا منهم، وقد عرفت بعضًا منهم مثل الرجل المشعوذ الذي يفتح البخت، وآخر ماسح أحذية كان يقف بباب الحرم القدسي، وثالث كان يتسول بباب المسجد الأقصى، ورابع كفيف كان يرابط داخل الأقصى متجسسًا على المدرسين والوعاظ، وغيرهم من الجواسيس. وقد اضطرنا ضغط المخابرات البريطانية وملاحقتها الشديدة لنا أن نقوم بدفاع ومقاومة من نفس العمل، فأنشأنا دائرة خاصة لمقاومة التجسس، وأفدنا من ذلك فوائد كبيرة، واستطعنا أن نحصل على معلومات دقيقة لما كان يدور بين السلطات البريطانية في لندن، وسلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، وبين السلطات الفرنسية في لبنان بشأن التدابير التي تقرر اتخاذها لاعتقال رجال اللجنة العربية العليا. في 13 تشرين الأول 1939 وبعد عامين كاملين من إقامتي بلبنان غادرت إلى بغداد بعد خطة قمنا بوضعها وتحديد موعدها بدقة، وكانت الرحلة من لبنان إلى دمشق ثم إلى بغداد. وصلت إلى العراق وذهبت إلى البلاط الملكي، واستقبلنا رئيس الديوان، وقابلنا -أيضًا- الوصي الأمير عبد الإله. سهلت السلطات العراقية الأمور لنا، وكفلت معيشة قادة الثورة وكبار المجاهدين، واتفقنا على ألا يتدخل الفلسطينيون خلال إقامتهم بالعراق في الشؤون الحزبية أو السياسة المحلية. ساور الإنجليز القلق الشديد من وصولي وإخواني المجاهدين إلى العراق، وكانت السفارة البريطانية في بغداد تبادر بالاحتجاج لحكومة العراق على كل حركة من حركاتي. وصلتنا معلومات أن الإنجليز يخططون لخطفي ونقلي خارج العراق، فتم تخصيص دورية قوية من الجيش العراقي لحراستي. طلبنا من السلطات العراقية أن يقوم الجيش بتدريب المجاهدين الفلسطينيين تدريبًا عسكريًّا فوافقت، كما قبلت عددًا من الشبان في دورة ضباط الاحتياط في الكلية الحربية العراقية. كان الجيش العراقي على باب معركة دموية داخلية عندما استقالت وزارة نوري باشا السعيد 1941، حدث نزاع حول من يتولى مكانه، فتدخلنا للصلح بين الأطراف، وكلل الله جهودنا بالتوفيق، وصفا الجو في العراق. ألف السيد رشيد عالي وزارته التي ألغت الأحكام العرفية فور تأليفها، ونالت ثقة الجيش والشعب؛ لوقوفها في وجه المطالب الاستعمارية. حاول الإنجليز حشد جيوشهم في العراق وحمله على قطع السياسات مع إيطاليا، لكن الوزارة الكيلانية رفضت، وسرعان ما نشبت الحرب بين العراق وإنجلترا في شهر مايو 1941. كان لانتصارات ألمانيا المتتالية ولهزائم بريطانيا وحلفائها المتلاحقة تأثير عظيم على العراق وسائر العرب، وقد وقر في نفوسهم أن بريطانيا وحلفائها من المستعمرين هم سبب البلاء، وأصبحوا يعتقدون أن كل ضعف يصيب بريطانيا وحلفائها هو قوة لهم، وأن أعداءها هم أصدقاؤهم. زارني طه باشا الهاشمي وحدثني ملمحًا بفكرة الاتصال بألمانيا، وأن يكون ذلك بواسطة المنظمات الفلسطينية؛ إذ من غير المناسب أن تقوم بذلك الدول المرتبطة مع بريطانيا بمعاهدات، وكانوا يرون أن يتم اللقاء بواسطتي، فأجبته -نحن الفلسطينيين- لا نملك الأسباب والوسائل لذلك، والواقع أني لم أكن مطمئنًّا لبعض العناصر التي كانت معنية بهذا الأمر. تتابعت الأحداث في العراق، وبرز في ميدانه فريقان يختصمان، أما أحدهما فالإنجليز وأتباعهم، والثاني فصفوة الأحرار المخلصين. كانت الحرب بين العراق وبريطانيا على أشدها، وعلى إثر ذلك تحرجت الحالة في منطقة القنال بجبهة بغداد، وفكرت الحكومة العراقية وقيادة الجيش العراقي في الانسحاب إلى منطقة الموصل واتخاذها مقرًّا للدفاع والمقاومة، لكن الأحداث توالت بسرعة، ولم تتمكن الحكومة وقيادة الجيش من الانتقال إلى الموصل، واضطررت لمغادرة العراق إلى الحدود الإيرانية، واللجوء إلى إيران. كان للطابور الخامس أثر كبير في الفشل الذي منيت به حركة العراق، وكان هذا الطابور يتألف من عناصر كثيرة أهمها اليهود في العراق. كان الإنجليز يحرصون على إثارة الأشوريين واليزيديين وغيرهم من الطوائف غير المسلمة، وعلى المباعدة بين المسلمين أنفسهم من أهل السنة والشيعة، كما حرضوا الأكراد وأثاروهم، وفقًا لخطتهم الاستعمارية المعروفة: فرق ثم احكم. كان لزامًا على العراق أن ينشئ إدارة مخابرات قوية لإحباط تلك المؤمرات، وقد دهشت لما علمت بعدم وجود ذلك الجهاز، فاقترحت عليهم إنشاءه، فقال طه باشا الهاشمي وكان وزيرًا للدفاع: لا يجدر بنا أن نفعل كما كان السلطان عبد الحميد يفعل من التجسس على الناس. فقلت له: لعل عناية السلطان عبد الحميد بالمخابرات كانت من أعمال السلطان الذي ضاق الأعداء والمستعمرين ذرعًا بنباهته ودهائه، ولست أعني التجسس على المواطنين الصالحين، بل بث العيون والأرصاد لمعرفة أخبار الأعداء، وتتبع حركاتهم وأعمالهم. ومن الحق أن نقول: إن الغفلة عن أهمية المخابرات كانت عامة في أكثر الأقطار العربية، ففي مصر -مثلاً- وصل الأمر أن تولى دومفيل مدير المخابرات البريطانية رئاسة مخابرات الطيران في الجيش المصري في العهد الملكي. كانت الحكومة العراقية قد بذلت جهدها للحصول على أسلحة للجيش من بعض الدول الصديقة، فوصلها بعض الطائرات الحربية الألمانية والإيطالية، لكن لم يكن لوصولها الأثر الفعال المنتظر؛ لأن العراق الذي يتدفق البترول من أرضه قد حرمته الشركات الاستعمارية من إنشاء مصفاة للبترول الخاص بالطائرات، فكان يستورد بعض حاجة القوة الجوية من (عبادان) في إيران، ولما قامت الحرب لم يكن في استطاعة العراق تموين طائراته ولا الطائرات القادمة لمساعدته من ألمانيا وإيطاليا بالوقود، فظلت مكانها معطلة. كنا في هذه الظروف نبحث أحوال الأمة العربية مع الصفوة المخلصة من أحرار العرب في العراق، بالتعاون مع الحكومة الكيلانية، وانتهى التفكير والبحث إلى محاولة الاتصال بالألمان للتعاون معهم على الوصول إلى هذه الأهداف الوطنية، وكلفنا أحد شباب العرب من طرابلس السيد عثمان كمال حداد بالاتصال بالألمان؛ نظرًا لإجادته عدة لغات، وأصدرت السلطات الألمانية قرارًا بمساعدتنا واعتبارنا حليفًا لها. لقد وضح من الحوادث التي سردناها عن معركة العراق وما اعتزمته ألمانيا من مساعدة للعرب والعراق أن فرصة ثمينة نادرة سنحت للأمة العربية لو أنها استطاعت انتهازها لجنت ثمارها، ولقضت قضاءً مبرمًا على الكيان الصهيوني في فلسطين، لكن أهم العناصر التي فوتت تلك الفرصة الذهبية على الأمة العربية بضعة أفراد من أبنائها استمات بعضهم في مناصرة الاستعمار في سبيل منافعهم الخاصة ومناصبهم، وتخاذل بعضهم الآخر خورًا وجبنًا. في إيران خرجنا من بغداد منتصف ليل 29 مايو 1941، وكان وصولنا طهران يوم 3 يونيو، وطالبتنا الحكومة الإيرانية بكل أدب واحترام بأن نلتزم شروط اللاجئين السياسيين، وأن لا نقوم بأي نشاط سياسي، لذا لم يعد بوسعنا تنفيذ خطة مساعدة الألمان لنا. نشبت الحرب بين ألمانيا وروسيا بعد وصولنا بأقل من ثلاثة أسابيع، وأخبرني أحد القادة العراقيين أنه اطلع على خطة من قبل الحلفاء لاحتلال إيران، فأطلعت الحكومة الإيرانية على تلك الخطة، فشكروني وأخبروني أنهم ليسوا على عداء مع إنجلترا، ولا يتوقعوا منها عدوانًا، لكن لم يمضِ على حديثي معهم بضعة أسابيع حتى حدث العدوان مثل الخطة التي أخبرتهم عنها بالضبط. على إثر إعلان ألمانيا الحرب على روسيا قررنا مغادرة إيران إلى تركيا، طلبنا إذنًا بالدخول فاعتذرت السلطات التركية عن عدم السماح لي ولأسرتي بالإقامة كلاجئ سياسي. دخلت القوات البريطانية طهران وأذاع قائدها بيانًا بمكافأة قدرها 25 ألف استرليني لمن يقدم معلومات تؤدي إلى القبض على المفتي حيًّا أو ميتًا. اضطررت للهرب بأعجوبة نحو الحدود التركية، حتى وصلت إسطنبول بدون أن تعرف السلطات التركية، ثم سافرت بسرعة إلى بلغاريا. عرفت أن أسرتي في طهران قد تم القبض عليها وزجوا بها في سجن الأهواز المعروف بقذارته، وكان عدد أفراد الأسرة عشرة ما بين سيدات وأطفال، فحشروهم جميعا في غرفة واحدة، ولبثت الأسرة 52 يومًا في السجن وصدر قرار بنقلها إلى البصرة في عربة لوري، ثم تم نقلهم بكل قسوة إلى بغداد لترحيلهم إلى القدس، لكن الناس تجمهروا وتمردوا على تلك القرارات، فتم السماح لهم بالذهاب إلى بيتنا في بغداد لمدة أيام، ثم نقلوهم إلى القدس. تحركت إلى بودابست، ثم تابعت السفر بالقطار إلى إيطاليا، وكان قصدي الاتصال برجال دولتي المحور لاسئناف المباحثات التي بدأنها في العراق. بعد بضعة أيام من وصولي روما قابلت الدوتشي موسوليني في قصر فينيسا، بسطت له مطالب العرب الرئيسية وهي الاستقلال الكامل، والسيادة التامة في جميع أقطارهم، وإنقاذ فلسطين من المؤامرة الاستعمارية الصهيونية، وإلغاء الوطن القومي لليهود فيها. وقلت له: إن مقاومتنا لليهود لم تكن بحافز من التعصب الديني، بل دفاعًا عن كياننا وبلدنا، وإن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في الأقطار العربية هي علاقات وثيقة بين مواطنين متحدين متعاونين. فأجابني قائلاً: إني أعلم هذا، وأعلم الكثير عن أحوالكم، ولاسيما دينكم، ولقد درست القرآن والتاريخ الإسلامي، وأعرف تسامح الدين الإسلامي، ولكن هؤلاء لا يعلمون. قال هذا وأشار إلى البارون انفوزو الذي كان واقفًا على قدميه. كما قال لي -أيضًا- موسوليني: إن مطالبكم جديرة بالاحترام والتحقيق، وإن إيطاليا مستعدة أن تعترف بذلك، وتساعد على تحقيق استقلال الأقطار العربية، أما الوطن القومي لليهود فلكم كل الحق في مقاومته، ونحن معكم في ذلك، فاليهود في إيطاليا لا يزيد عددهم عن 45 ألفًا من بين 46 مليون إيطالي، ولهم كل حقوق المواطنة، لكنهم رغم ذلك ليسوا موالين لها، فكل واحد منهم جاسوس عليها وداعية ضدنا، فهم طابور خامس لبلادنا، ولذلك فإن موقفنا منهم سيكون مثل موقفهم منا. ولما علم أني أعتزم السفر إلى برلين قال لي: أرجو أن توجه نظرهم هناك، ولا سيما الفوهرر إلى أهمية منطقة الشرق الأدني، لاسيما قناة السويس؛ فإنها حلق الإمبراطورية البريطانية، فمنها نستطيع خنقها وإخماد أنفسها، إنها أهم من كل جبهة. ولقد كان موسوليني -كما علمت فيما بعد- معارضًا فتح الجبهة الروسية، وكان ينصح باجتناب الدخول في قتال مع روسيا الواسعة الأرجاء. على الرغم من سيطرة موسوليني على إيطاليا، إلا أنه لم يستطع أن يناوئ السيطرة الروحية للكنيسة على نفوس الشعب الإيطالي، ولم يسعه إلا الاعتراف بالفاتيكان كدولة مستقلة ذات سيادة، وكان بداخلها سفراء الحلفاء وباقي الدول المناوئة لإيطاليا، وهم ينقلون ويتجسسون على كل الأخبار داخل إيطاليا بحرية تامة، بفضل الفاتيكان. لمست خلال الأعوام الخمسة التي قضيتها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أن الكتلة الكاثوليكية الملتفة حول الفاتيكان، هي قوة عالمية عظيمة ذات قيمة كبيرة في الميزان الدولي، وأنها ساهمت بسبب كبير في مقاومة ألمانيا ودول المحور، وبالتالي في نتيجة الحرب العالمية الثانية، وقد كتبت في فرنسا حين كنت معتقلاً عقب الحرب إلى عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية، ولفت انتباهه لأهمية الفاتيكان، واقترحت عليه أن يحمل مصر وغيرها من الدول العربية على تبادل التمثيل السياسي معه، ولم يكن لأي دولة عربية حينئذ سوى لبنان من تمثيل سياسي معه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)*

مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (2)

ما نشبت الحرب العالمية الثانية في أواخر سبتمبر 1939 ازداد الضغط البريطاني على فرنسا لمطاردة الفلسطينيين والقضاء على الثورة، وألحت بريطانيا على حليفتها فرنسا كي تسلمني إليها لاعتقالي في إحدى الجزر النائية، وأخذت السلطة الفرنسية تنتهز الفرصة الملائمة لتلبية طلب الإنجليز وتسليمي لهم.

اشتدت المراقبة علينا بنشوب الحرب العالمية الثانية، وكثر جواسيس الإنجليز، وتستخدم المخابرات البريطانية عددًا ضخمًا منهم، وقد عرفت بعضًا منهم مثل الرجل المشعوذ الذي يفتح البخت، وآخر ماسح أحذية كان يقف بباب الحرم القدسي، وثالث كان يتسول بباب المسجد الأقصى، ورابع كفيف كان يرابط داخل الأقصى متجسسًا على المدرسين والوعاظ، وغيرهم من الجواسيس.

وقد اضطرنا ضغط المخابرات البريطانية وملاحقتها الشديدة لنا أن نقوم بدفاع ومقاومة من نفس العمل، فأنشأنا دائرة خاصة لمقاومة التجسس، وأفدنا من ذلك فوائد كبيرة، واستطعنا أن نحصل على معلومات دقيقة لما كان يدور بين السلطات البريطانية في لندن، وسلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، وبين السلطات الفرنسية في لبنان بشأن التدابير التي تقرر اتخاذها لاعتقال رجال اللجنة العربية العليا.

في 13 تشرين الأول 1939 وبعد عامين كاملين من إقامتي بلبنان غادرت إلى بغداد بعد خطة قمنا بوضعها وتحديد موعدها بدقة، وكانت الرحلة من لبنان إلى دمشق ثم إلى بغداد.

وصلت إلى العراق وذهبت إلى البلاط الملكي، واستقبلنا رئيس الديوان، وقابلنا -أيضًا- الوصي الأمير عبد الإله.

سهلت السلطات العراقية الأمور لنا، وكفلت معيشة قادة الثورة وكبار المجاهدين، واتفقنا على ألا يتدخل الفلسطينيون خلال إقامتهم بالعراق في الشؤون الحزبية أو السياسة المحلية.

ساور الإنجليز القلق الشديد من وصولي وإخواني المجاهدين إلى العراق، وكانت السفارة البريطانية في بغداد تبادر بالاحتجاج لحكومة العراق على كل حركة من حركاتي.

وصلتنا معلومات أن الإنجليز يخططون لخطفي ونقلي خارج العراق، فتم تخصيص دورية قوية من الجيش العراقي لحراستي.

طلبنا من السلطات العراقية أن يقوم الجيش بتدريب المجاهدين الفلسطينيين تدريبًا عسكريًّا فوافقت، كما قبلت عددًا من الشبان في دورة ضباط الاحتياط في الكلية الحربية العراقية.

كان الجيش العراقي على باب معركة دموية داخلية عندما استقالت وزارة نوري باشا السعيد 1941، حدث نزاع حول من يتولى مكانه، فتدخلنا للصلح بين الأطراف، وكلل الله جهودنا بالتوفيق، وصفا الجو في العراق.

ألف السيد رشيد عالي وزارته التي ألغت الأحكام العرفية فور تأليفها، ونالت ثقة الجيش والشعب؛ لوقوفها في وجه المطالب الاستعمارية.

حاول الإنجليز حشد جيوشهم في العراق وحمله على قطع السياسات مع إيطاليا، لكن الوزارة الكيلانية رفضت، وسرعان ما نشبت الحرب بين العراق وإنجلترا في شهر مايو 1941.

كان لانتصارات ألمانيا المتتالية ولهزائم بريطانيا وحلفائها المتلاحقة تأثير عظيم على العراق وسائر العرب، وقد وقر في نفوسهم أن بريطانيا وحلفائها من المستعمرين هم سبب البلاء، وأصبحوا يعتقدون أن كل ضعف يصيب بريطانيا وحلفائها هو قوة لهم، وأن أعداءها هم أصدقاؤهم.

زارني طه باشا الهاشمي وحدثني ملمحًا بفكرة الاتصال بألمانيا، وأن يكون ذلك بواسطة المنظمات الفلسطينية؛ إذ من غير المناسب أن تقوم بذلك الدول المرتبطة مع بريطانيا بمعاهدات، وكانوا يرون أن يتم اللقاء بواسطتي، فأجبته -نحن الفلسطينيين- لا نملك الأسباب والوسائل لذلك، والواقع أني لم أكن مطمئنًّا لبعض العناصر التي كانت معنية بهذا الأمر.

تتابعت الأحداث في العراق، وبرز في ميدانه فريقان يختصمان، أما أحدهما فالإنجليز وأتباعهم، والثاني فصفوة الأحرار المخلصين.

كانت الحرب بين العراق وبريطانيا على أشدها، وعلى إثر ذلك تحرجت الحالة في منطقة القنال بجبهة بغداد، وفكرت الحكومة العراقية وقيادة الجيش العراقي في الانسحاب إلى منطقة الموصل واتخاذها مقرًّا للدفاع والمقاومة، لكن الأحداث توالت بسرعة، ولم تتمكن الحكومة وقيادة الجيش من الانتقال إلى الموصل، واضطررت لمغادرة العراق إلى الحدود الإيرانية، واللجوء إلى إيران.

كان للطابور الخامس أثر كبير في الفشل الذي منيت به حركة العراق، وكان هذا الطابور يتألف من عناصر كثيرة أهمها اليهود في العراق.

كان الإنجليز يحرصون على إثارة الأشوريين واليزيديين وغيرهم من الطوائف غير المسلمة، وعلى المباعدة بين المسلمين أنفسهم من أهل السنة والشيعة، كما حرضوا الأكراد وأثاروهم، وفقًا لخطتهم الاستعمارية المعروفة: فرق ثم احكم.

كان لزامًا على العراق أن ينشئ إدارة مخابرات قوية لإحباط تلك المؤمرات، وقد دهشت لما علمت بعدم وجود ذلك الجهاز، فاقترحت عليهم إنشاءه، فقال طه باشا الهاشمي وكان وزيرًا للدفاع: لا يجدر بنا أن نفعل كما كان السلطان عبد الحميد يفعل من التجسس على الناس.

فقلت له: لعل عناية السلطان عبد الحميد بالمخابرات كانت من أعمال السلطان الذي ضاق الأعداء والمستعمرين ذرعًا بنباهته ودهائه، ولست أعني التجسس على المواطنين الصالحين، بل بث العيون والأرصاد لمعرفة أخبار الأعداء، وتتبع حركاتهم وأعمالهم.

ومن الحق أن نقول: إن الغفلة عن أهمية المخابرات كانت عامة في أكثر الأقطار العربية، ففي مصر -مثلاً- وصل الأمر أن تولى دومفيل مدير المخابرات البريطانية رئاسة مخابرات الطيران في الجيش المصري في العهد الملكي.

كانت الحكومة العراقية قد بذلت جهدها للحصول على أسلحة للجيش من بعض الدول الصديقة، فوصلها بعض الطائرات الحربية الألمانية والإيطالية، لكن لم يكن لوصولها الأثر الفعال المنتظر؛ لأن العراق الذي يتدفق البترول من أرضه قد حرمته الشركات الاستعمارية من إنشاء مصفاة للبترول الخاص بالطائرات، فكان يستورد بعض حاجة القوة الجوية من (عبادان) في إيران، ولما قامت الحرب لم يكن في استطاعة العراق تموين طائراته ولا الطائرات القادمة لمساعدته من ألمانيا وإيطاليا بالوقود، فظلت مكانها معطلة.

كنا في هذه الظروف نبحث أحوال الأمة العربية مع الصفوة المخلصة من أحرار العرب في العراق، بالتعاون مع الحكومة الكيلانية، وانتهى التفكير والبحث إلى محاولة الاتصال بالألمان للتعاون معهم على الوصول إلى هذه الأهداف الوطنية، وكلفنا أحد شباب العرب من طرابلس السيد عثمان كمال حداد بالاتصال بالألمان؛ نظرًا لإجادته عدة لغات، وأصدرت السلطات الألمانية قرارًا بمساعدتنا واعتبارنا حليفًا لها.

لقد وضح من الحوادث التي سردناها عن معركة العراق وما اعتزمته ألمانيا من مساعدة للعرب والعراق أن فرصة ثمينة نادرة سنحت للأمة العربية لو أنها استطاعت انتهازها لجنت ثمارها، ولقضت قضاءً مبرمًا على الكيان الصهيوني في فلسطين، لكن أهم العناصر التي فوتت تلك الفرصة الذهبية على الأمة العربية بضعة أفراد من أبنائها استمات بعضهم في مناصرة الاستعمار في سبيل منافعهم الخاصة ومناصبهم، وتخاذل بعضهم الآخر خورًا وجبنًا.

في إيران

خرجنا من بغداد منتصف ليل 29 مايو 1941، وكان وصولنا طهران يوم 3 يونيو، وطالبتنا الحكومة الإيرانية بكل أدب واحترام بأن نلتزم شروط اللاجئين السياسيين، وأن لا نقوم بأي نشاط سياسي، لذا لم يعد بوسعنا تنفيذ خطة مساعدة الألمان لنا.

نشبت الحرب بين ألمانيا وروسيا بعد وصولنا بأقل من ثلاثة أسابيع، وأخبرني أحد القادة العراقيين أنه اطلع على خطة من قبل الحلفاء لاحتلال إيران، فأطلعت الحكومة الإيرانية على تلك الخطة، فشكروني وأخبروني أنهم ليسوا على عداء مع إنجلترا، ولا يتوقعوا منها عدوانًا، لكن لم يمضِ على حديثي معهم بضعة أسابيع حتى حدث العدوان مثل الخطة التي أخبرتهم عنها بالضبط.

على إثر إعلان ألمانيا الحرب على روسيا قررنا مغادرة إيران إلى تركيا، طلبنا إذنًا بالدخول فاعتذرت السلطات التركية عن عدم السماح لي ولأسرتي بالإقامة كلاجئ سياسي.

دخلت القوات البريطانية طهران وأذاع قائدها بيانًا بمكافأة قدرها 25 ألف استرليني لمن يقدم معلومات تؤدي إلى القبض على المفتي حيًّا أو ميتًا.

اضطررت للهرب بأعجوبة نحو الحدود التركية، حتى وصلت إسطنبول بدون أن تعرف السلطات التركية، ثم سافرت بسرعة إلى بلغاريا.

عرفت أن أسرتي في طهران قد تم القبض عليها وزجوا بها في سجن الأهواز المعروف بقذارته، وكان عدد أفراد الأسرة عشرة ما بين سيدات وأطفال، فحشروهم جميعا في غرفة واحدة، ولبثت الأسرة 52 يومًا في السجن وصدر قرار بنقلها إلى البصرة في عربة لوري، ثم تم نقلهم بكل قسوة إلى بغداد لترحيلهم إلى القدس، لكن الناس تجمهروا وتمردوا على تلك القرارات، فتم السماح لهم بالذهاب إلى بيتنا في بغداد لمدة أيام، ثم نقلوهم إلى القدس.

تحركت إلى بودابست، ثم تابعت السفر بالقطار إلى إيطاليا، وكان قصدي الاتصال برجال دولتي المحور لاسئناف المباحثات التي بدأنها في العراق.

بعد بضعة أيام من وصولي روما قابلت الدوتشي موسوليني في قصر فينيسا، بسطت له مطالب العرب الرئيسية وهي الاستقلال الكامل، والسيادة التامة في جميع أقطارهم، وإنقاذ فلسطين من المؤامرة الاستعمارية الصهيونية، وإلغاء الوطن القومي لليهود فيها.

وقلت له: إن مقاومتنا لليهود لم تكن بحافز من التعصب الديني، بل دفاعًا عن كياننا وبلدنا، وإن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في الأقطار العربية هي علاقات وثيقة بين مواطنين متحدين متعاونين.

فأجابني قائلاً: إني أعلم هذا، وأعلم الكثير عن أحوالكم، ولاسيما دينكم، ولقد درست القرآن والتاريخ الإسلامي، وأعرف تسامح الدين الإسلامي، ولكن هؤلاء لا يعلمون.

قال هذا وأشار إلى البارون انفوزو الذي كان واقفًا على قدميه.

كما قال لي -أيضًا- موسوليني: إن مطالبكم جديرة بالاحترام والتحقيق، وإن إيطاليا مستعدة أن تعترف بذلك، وتساعد على تحقيق استقلال الأقطار العربية، أما الوطن القومي لليهود فلكم كل الحق في مقاومته، ونحن معكم في ذلك، فاليهود في إيطاليا لا يزيد عددهم عن 45 ألفًا من بين 46 مليون إيطالي، ولهم كل حقوق المواطنة، لكنهم رغم ذلك ليسوا موالين لها، فكل واحد منهم جاسوس عليها وداعية ضدنا، فهم طابور خامس لبلادنا، ولذلك فإن موقفنا منهم سيكون مثل موقفهم منا.

ولما علم أني أعتزم السفر إلى برلين قال لي: أرجو أن توجه نظرهم هناك، ولا سيما الفوهرر إلى أهمية منطقة الشرق الأدني، لاسيما قناة السويس؛ فإنها حلق الإمبراطورية البريطانية، فمنها نستطيع خنقها وإخماد أنفسها، إنها أهم من كل جبهة.

ولقد كان موسوليني -كما علمت فيما بعد- معارضًا فتح الجبهة الروسية، وكان ينصح باجتناب الدخول في قتال مع روسيا الواسعة الأرجاء.

على الرغم من سيطرة موسوليني على إيطاليا، إلا أنه لم يستطع أن يناوئ السيطرة الروحية للكنيسة على نفوس الشعب الإيطالي، ولم يسعه إلا الاعتراف بالفاتيكان كدولة مستقلة ذات سيادة، وكان بداخلها سفراء الحلفاء وباقي الدول المناوئة لإيطاليا، وهم ينقلون ويتجسسون على كل الأخبار داخل إيطاليا بحرية تامة، بفضل الفاتيكان.

لمست خلال الأعوام الخمسة التي قضيتها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أن الكتلة الكاثوليكية الملتفة حول الفاتيكان، هي قوة عالمية عظيمة ذات قيمة كبيرة في الميزان الدولي، وأنها ساهمت بسبب كبير في مقاومة ألمانيا ودول المحور، وبالتالي في نتيجة الحرب العالمية الثانية، وقد كتبت في فرنسا حين كنت معتقلاً عقب الحرب إلى عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية، ولفت انتباهه لأهمية الفاتيكان، واقترحت عليه أن يحمل مصر وغيرها من الدول العربية على تبادل التمثيل السياسي معه، ولم يكن لأي دولة عربية حينئذ سوى لبنان من تمثيل سياسي معه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
‏٢٣‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٨:٣٦ م‏
المجلس العسكري.. طبيعة التشكيل وحدود الدور محمود جمال [لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj] المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية هو المجلس المنوط بشؤون القوات المسلحة المصرية، طبقا للقانون رقم 20 لسنة 2014 في شأن إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويختص المجلس بدراسة كافة المسائل المتعلقة بالقوات المسلحة وإعدادها للحرب كما يقوم بدراسة وإعداد التوصيات الخاصة بشئون الدفاع عن الدولة. وتصدر قرارات المجلس في صورة قرار أو توجيه من وزير الدفاع، وتوقع محاضر وقرارات المجلس من رئيسه وأمين سر المجلس وترسل للجهات المختصة للتنفيذ. يتكون المجلس من رئيس الجمهورية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة طبقا للدستور المصري، وقادة القوات المسلحة وهم قيادات الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، بالإضافة إلى قيادات الجيوش والمناطق العسكرية، وكذلك أيضاً رؤساء الهيئات العسكرية وأمين عام وزارة الدفاع، ويترأس المجلس حالياً القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي، ونائب رئيس المجلس هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق محمد فريد حجازي الذي عُين في 28 أكتوبر 2017، بعد الإطاحة بالفريق محمود حجازي من رئاسة الأركان.[ مصر تطورات المشهد العسكري 9 أكتوبر 2016، المعهد المصري للدراسات، تاريخ الدخول 11 يناير 2018] المناصب التي يتشكل منها المجلس العسكري: م الاسم م الاسم 1 رئيس الجمهورية 14 رئيس هيئة التسليح للقوات المسلحة 2 وزير الدفاع 15 رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة 3 رئيس أركان حرب القوات المسلحة 16 رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة 4 قائد القوات البحرية 17 رئيس هيئة القضاء العسكري 5 قائد القوات الجوية 18 قائد الجيش الثاني الميداني 6 قائد قوات الدفاع الجوي 19 قائد الجيش الثالث الميداني 7 مساعدا وزير الدفاع للشئون القانونية والدستورية. 20 قائد المنطقة المركزية العسكرية 8 أمين عام وزارة الدفاع 21 قائد المنطقة الشمالية العسكرية 9 قائد قوات حرس الحدود 22 قائد المنطقة الجنوبية العسكرية 10 رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة 23 قائد المنطقة الغربية العسكرية 11 رئيس هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة 24 مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع 12 رئيس هيئة التدريب للقوات المسلحة 25 مدير إدارة شئون ضباط القوات المسلحة 13 رئيس هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة 26 قائد القيادة الموحدة لمنطقة شرق القناة. ويضم المجلس الأعلى للقوات المسلحة أعضاء جددا له حسب الحاجة في الفترة الانتقالية، ويحق للمجلس استدعاء أي وزير عند الحاجة، مثلا استدعاء مدير المخابرات العامة للسؤال أو الاستفسار عن موضوع معين، كذلك وزير الداخلية، أو أي وزير للحديث بشأن موضوع بعينه. قانون رقم 20 لسنة 2014: طبقا للقانون رقم 20 لسنة 2014 في شأن إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، يختص المجلس ب19 مهمه وهم على النحو التالي[ قراران جمهوريان بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني، المصري اليوم، تاريخ النشر 27 فبراير 2014، تاريخ الدخول 11 يناير 2018]: 1-تحديد الأهداف والمهام الاستراتيجية بما يحقق الأهداف السياسية وأهداف السياسة العسكرية التي تحددها القيادة السياسية للدولة. 2-تحديد حجم وشكل القوات المسلحة وتركيبها التنظيمي والتطور المستقبلي. 3-الاستعداد القتالي للقوات المسلحة. 4-إعداد سياسة استكمال القوات المسلحة وأسس التعبئة لها. 5-وضع سياسة إيواء القوات المسلحة ودراسة حالة الانضباط العسكري والروح المعنوية. 6-إقرار سياسة تدريب القوات المسلحة وإجراء المناورات والتدريبات المشتركة. 7-إقرار سياسة تجهيز مسارح العمليات الحربية. 8-إعداد مشروعات القوانين والقواعد المنظمة لخدمة الأفراد بالقوات المسلحة والاقتراحات الخاصة بنظام التجنيد. 9-إقرار سياسة المحافظة على أمن وسلامة القوات المسلحة. 10-استعراض تقارير قادة الأفرع الرئيسية ورؤساء الهيئات وقادة الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية ومديري الإدارات للوقوف على حالة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة. 11-دراسة إعلان حالة الحرب أو إرسال قوات عسكرية إلى خارج الدولة. 12-إعداد تقدير الموقف السياسي العسكري. 13-إصدار وثيقة التهديدات والتحديات العسكرية للدولة. 14-إعداد وثيقة السياسة العسكرية. 15-إعداد الدولة للحرب أو الدفاع بالتعاون مع مجلس الدفاع الوطني ومجلس الأمن القومي. 16-التعاون والتنسيق مع مجلس الأمن القومي بشأن تحديد العدائيات الداخلية ارتباطا بدور القوات المسلحة في هذا الشأن. 17-الموافقة على تعيين وزير الدفاع ويسري ذلك لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بدستور 2014. 18-إبداء الرأي في إعلان الحرب أو إرسال القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة. 19-أي موضوعات أخرى يرى وزير الدفاع عرضها على المجلس مثل الأوضاع الاقتصادية في البلاد والأوضاع الأمنية، وضع خطط مواجهة الاحتجاجات. وخصصت فقرة في القانون نصت على أن "يدعو وزير الدفاع المجلس للانعقاد مرة كل 3 أشهر، وكلما دعت الضرورة لذلك، ولا يكون انعقاد المجلس صحيحاً إلا بحضور أغلبية أعضائه، وتصدر قرارات وتوجيهات المجلس بأغلبية أصوات الأعضاء الحاضرين، وفي حالة قيام حظر الحرب أو إعلان التعبئة العامة يعتبر المجلس منعقداً بصفة مستمرة"، ونصت المادة الثالثة، على أنه "لوزير الدفاع دعوة أي من قيادات القوات المسلحة أو من يرى من المختصين أو الخبراء من خارج القوات المسلحة لحضور اجتماع المجلس إذا تطلبت دراسة الموضوعات المعروضة ذلك، دون أن يكون لهم صوت معدود". ولرئيس الجمهورية، بحسب القانون، دعوة المجلس للانعقاد كلما دعت الضرورة لذلك، ويتولى رئيس الجمهورية رئاسة الاجتماع في حالة حضوره. وتصدر قرارات المجلس في صورة قرار أو توجيه من وزير الدفاع، وتوقع محاضر وقرارات المجلس من رئيسه وأمين سر المجلس وترسل للجهات المختص للتنفيذ. يتكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة في الوقت الحالي من 26 قائد عسكري وهم: الاسم المنصب 1- عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي. طبقاُ للدستور المصري فإن السيسي حالياً هو القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، وأيضا هو القائد الأعلى لجهاز الشرطة. 2-الفريق أول صدقي صبحي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع المصري والقائد العام للقوات المسلحة 3-الفريق محمد فريد حجازي نائب رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيس أركان حرب القوات المسلحة 4- اللواء أركان حرب محمد عبداللاه أمين سر المجلس الأعلى للقوات المسلحة أمين عام وزارة الدفاع 5-الفريق يونس المصري قائد القوات الجوية 6-الفريق على فهمى محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوي 7-الفريق أحمد خالد حسن سعيد أحمد قائد القوات البحرية 8- اللواء أركان حرب باسم رياض هلال قائد قوات حرس الحدود 9-اللواء أركان حرب خالد مجاور قائد الجيش الثاني الميداني 10-اللواء أركان حرب محمد رأفت سليمان الدش قائد الجيش الثالث الميداني 11-اللواء أركان حرب أيمن عبد الحميد عامر. قائد المنطقة المركزية العسكرية. 12- اللواء أركان حرب على عادل عشماوي قائد المنطقة الشمالية العسكرية. 13- اللواء أح شريف سيف الدين حسين قائد المنطقة الجنوبية العسكرية 14- اللواء أركان حرب شريف فهمى بشارة قائد المنطقة الغربية العسكرية 15-اللواء أركان حرب وحيد عزت رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة 16-اللواء أركان حرب عبد المحسن موسى. رئيس هيئة التسليح بالقوات المسلحة 17-اللواء أركان حرب ناصر عاصي رئيس هيئة التدريب بالقوات المسلحة 18-اللواء أركان حرب صلاح الدين حلمى رئيس هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة 19-اللواء أركان حرب محمد أمين نصر. رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة 20-اللواء عماد عبد العزيز رئيس هيئة القضاء العسكري 21-لواء أركان حرب عبد الغنى الصغير. رئيس هيئة التنظيم والإدارة 22-اللواء ممدوح شاهين. مساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية. 23-اللواء أركان حرب محمد فرج الشحات. مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع 24-اللواء أركان حرب خيرت بركات. مدير إدارة شئون ضباط القوات المسلحة 25-اللواء أركان حرب كامل الوزير لواء مهندس أركان حرب 26-اللواء أركان حرب محمد المصري قائد القيادة الموحدة لمنطقة شرق القناة التغيرات الدورية لقيادات المجلس العسكري: بالرغم من أن كل القيادات التي سبق ذكرها هم من يضعون أجندة الجيش المصري حالياً إلا أنه يتواجد قاده آخرون قد قاموا بالمشاركة في رسم خطة الجيش المصري التي يسير على نهجها الآن، تلك الخطة التي فقط تضمن للمؤسسة العسكرية ألا تمس مصالحها، وتقوم بالتنكيل بكل من له رأي مخالف للمؤسسة العسكرية سواء من داخل المؤسسة أو من خارجها، وكان آخر من نكل به من داخل الجيش المصري هو العقيد أحمد قنصوه الذي أعلن عن ترشحه لانتخابات رئاسية الجمهورية وحكم عليه بست سنوات سجن مع الشغل والنفاذ، هذا بخلاف ما يلقاه المدنيون العزل من أعمال قتل وتشريد على أيدي بعض أفراد وضباط الجيش المصري الذين ينفذون خطط وقرارات تلك القيادات. فذلك المجلس بتشكيله الجديد استقر في أكتوبر 2017، بمعنى أن هناك قادة آخرين قد شاركوا في وضع الخطة التي مارسها ويمارسها الجيش المصري منذ الانقلاب العسكري الذي نفذ علي الدكتور محمد مرسي، أو على الأقل كانوا راضين عن ممارسات الجيش المصري، فمنذ 03 يوليو 2013 إلى وقتنا هذا قام السيسي بإخراج 28 قائد عسكري من داخل الجيش المصري وأغلبهم كانوا أعضاء بالمجلس العسكري المصري، وهم:[ مصر: إقالة رئيس الأركان ـ الأبعاد والتفسيرات، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر 30 أكتوبر 2017] الاسم المنصب 1-الفريق عبدالمنعم التراس قائد قوات الدفاع الجوي السابق. 2-الفريق أسامة منير ربيع قائد القوات البحرية السابق. 3-الفريق أسامة الجندي قائد القوات البحرية الأسبق. 4-اللواء أركان حرب أحمد وصفي قائد الجيش الثاني الميداني الأسبق. 5-اللواء أركان حرب ناصر العاصي قائد الجيش الثاني الميداني السابق. 6-الفريق أسامة عسكر قائد الجيش الثالث الميداني الأسبق. 7-اللواء صلاح البدري مدير المخابرات الحربية السابق. 8-اللواء محمد فريد التهامي مدير المخابرات العامة السابق. 9-اللواء أركان حرب سعيد عباس قائد المنطقة الشمالية الأسبق. 10-اللواء أركان حرب محمد سليمان الزملوط قائد المنطقة الشمالية الأسبق. 11-اللواء أركان حرب محمد لطفي يوسف قائد المنطقة الشمالية السابق. (لقي مصرعه في حادث) 12-اللواء أركان حرب محمد عرفات قائد المنطقة الجنوبية الأسبق. 13-اللواء أركان حرب يحيي طه الحميلي قائد المنطقة الجنوبية السابق. 14-اللواء أركان حرب محمد المصري قائد المنطقة الغربية الأسبق. 15-اللواء أركان حرب وحيد عزت قائد المنطقة الغربية السابق. 16-اللواء أركان حرب محمد سعيد العصار رئيس هيئة التسليح السابق. 17-اللواء أركان حرب أبو الدهب رئيس هيئة التنظيم والإدارة السابق. 18-اللواء أركان حرب توحيد توفيق رئيس هيئة العمليات السابق. 19-اللواء أركان حرب محسن الشاذلي. رئيس هيئة العمليات السابق 20-اللواء أركان حرب جمال إسماعيل رئيس هيئة الإمداد والتموين.. 21-اللواء أركان حرب إبراهيم النصوحي رئيس هيئة التدريب الأسبق. 22-اللواء أركان حرب طاهر عبدالله رئيس الهيئة الهندسية الأسبق. 23-اللواء أركان حرب عماد الألفي رئيس الهيئة الهندسية السابق. 24-اللواء أركان حرب مدحت غزي رئيس هيئة القضاء العسكري السابق. 25- اللواء أحمد إبراهيم. قائد قوات حرس الحدود. 26-العقيد أحمد علي المتحدث العسكري الأسبق. 27-العميد محمد سمير المتحدث العسكري السابق. 28-اللواء عبد المرضي عبد السلام رئيس هيئة الإمداد والتموين السابق أيضاً من أهم أحد راسمي سياسات الجيش المصري المشير محمد حسين طنطاوي وكان وزير الدفاع والإنتاج الحربي المصري، والقائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس الوزراء، منذ 4 أبريل 1993، حتى إقالته في 12 أغسطس 2012، وإلى وقتنا هذا لم يختف المشير طنطاوي من المشهد فهو يحضر أغلب الفاعليات التي تنظمها القوات المسلحة، وله دور بارز أيضا في اختيار القادة الجدد للجيش المصري، وهو من قام بعملية تسليم وتسلم قيادة الجيش الثاني الميداني[ بالصور.. وزير الدفاع يشهد مراسم تسليم قيادة الجيش الثاني لـ "خالد مجاور"، اليوم السابع، تاريخ النشر 28 مايو 2017، تاريخ الدخول 11 يناير 2018] والتي قد تمت في 08 مايو 2017، في وجود وزير الدفاع صدقي صبحي ورئيس الأركان وقتها الفريق محمود حجازي وعدم وجود عبدالفتاح السيسي، وسلم وقتها المشير طنطاوي قيادة الجيش الثاني الميداني للواء أركان حرب خالد مجاور قائد للجيش الثاني الميداني بدلاً من اللواء أركان حرب ناصر العاصي. هذا بخلاف ما يقال بأن "طنطاوي" هو من أختار الفريق محمد فريد حجازي لكي يخلف الفرق محمود حجازي في رئاسة الأركان، وما يدار عن العلاقة التي تربطهم منذ كان محمد حجازي أمينا عاما لوزارة الدفاع في وقت كان فيه طنطاوي وزيراً للدفاع، فالمشير حسين طنطاوي ما زال الفقرة الأهم داخل المجلس العسكري إلى الآن ويصفه البعض بأنه "عراب" الجيش المصري، وأنه أحد أهم راسمي سياسات الجيش وحلقة الوصل بين المؤسسة العسكرية وداعميها الإقليمين والدوليين، وعلى رأسهم كل من السعودية والإمارات وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت في 15 نوفمبر 2011م، قد وصفت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تقرير لها باسم محمد حسين طنطاوي الخيار المثالي لأميركا و”إسرائيل” وفي فقرة تحت عنوان "مطمئن خارجيا" تقول لوموند من خلال عشرات سنوات يبدو طنطاوي المرشح المثالي خصوصا للولايات المتحدة و"إسرائيل" الذين يقيم معهم علاقات كثيرة. تلك القيادات هي من وضعت وأقرت السياسة الحالية للجيش المصري، وإن ظهر خلاف بين بعضهم فيما بعد فهو بسبب مصالح شخصية ليس إلا، وهذا كما وصف إيريك تريجر الباحث بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، "داعم للنظام العسكري في مصر" الوضع داخل المجلس العسكري. وإن كان من ضمن هؤلاء قادة منضمون حديثاً للمجلس العسكري، لكن معظمهم في يونيو 2013م، كانوا في مراكز عليا داخل الجيش المصري كرؤساء أركان مناطق وجيوش عسكرية وقادة أسلحة كالمدفعية والمشاة وغيرها، وما كان لهم أن يصلوا إلى مراكز عليا تمكنهم من أن يكونوا أعضاء بالمجلس العسكري إلا لأنهم متماهون مع المنظومة العسكرية في النهج الذي تسير علية منذ يونيو 2013م. وأيضا هؤلاء القادة منهم من أصبح ليس له أي صفة رسمية داخل المجلس العسكري الحالي، ولكن كل القيادات التي خرجت من المجلس العسكري عُينوا مساعدين ومستشارين لوزير الدفاع، ومنهم من خرج وأعلن بعد خروجه من الخدمة أن المجلس العسكري أثناء انقلاب 03 يوليو 2013م، وما ترتب عليه كان مع ما فعله السيسي، وما صرح به قائد قوات الدفاع الجوي السابق الفريق عبد المنعم التراس مؤخراً أثناء لقائه بمجموعة من دعاة وزارة الأوقاف، في مسجد النور في العباسية دليل علي هذا، حيث قال إن السيسي تحرك في 30 يونيو بعد رسالة أرسلها له بأنه يقوم” بدرء المفسدة وتخليص البلاد من الفتنة”. وتلك القيادات التي قد قام السيسي بإخراجها من المجلس العسكري ما أطاح بهم إلا لأنه قائداً لانقلاب عسكري، وديدن من يقومون بانقلابات عسكرية أنهم يبعدون شركاءهم في تنفيذ الانقلاب من مراكز قواهم حتى ينفردوا بالحكم وكي يأمنوا خيانتهم، حتى لا يفعلوا بهم كما فعلوا بغيرهم. ويري البعض أنه بناء على قرارات تلك القيادات تعيش الدولة المصرية أصعب مراحلها في تاريخها المعاصر على كل المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد كل ما شهدته الدولة المصرية على مدار الأربعة أعوام الماضية لم تتراجع تلك القيادات عن قراراتها التي أدخلت الدولة في نفق مظلم، بل تقوم إلى وقتنا هذا بإعطاء الأوامر باستخدام وسائل العنف تجاه من يخالف قراراتهم وتوجهاتهم، ولكن هذا العنف المستخدم من قبل الجيش المصري، سيولد مزيداً من الجماعات والأفراد التي ستنتهج الأساليب المناسبة لمواجهة ذلك العنف. ويوماً بعد يوم ونتيجة تلك الممارسات التي تسير عليها قيادات المؤسسة العسكرية، ستزداد الشرائح التي ترغب في تغيير الوضع الحالي، ليس شرطا أن يكونوا مدنيين قد طالهم الظلم، بل أيضاُ قد يكونون من داخل المؤسسة العسكرية وفي مستويات مختلفة داخل الهيكل، قد يحذون نهج ضابط الصاعقة هشام عشماوي وضابط الصاعقة عماد عبد الحميد، الذين قرروا التغيير بمواجهة النظام بالسلاح، أو كنموذج العقيد أحمد قنصوه[ محكمة عسكرية تقضي بحبس العقيد قنصوه 6 سنوات على خلفية إعلانه نيته للترشح للرئاسة، مدي مصر، تاريخ النشر 19 ديسمبر 2017، تاريخ الدخول 11 يناير 2018، الرابط] الذي أراد تغيير نهج المؤسسة العسكرية ولكن بالطرق الدستورية والقانونية من وجهة نظرة وقام بالترشح لرئاسة الجمهورية، وقد يكون هناك أفراد آخرون متواجدون داخل المؤسسة العسكرية راغبين في تغيير الوضع المزرى داخل المؤسسة، ولكن لن تعتمد طريق "عشماوي" ولا طريق "قنصوه" بل من المحتمل أنها ستتبع طرق أخري قد يرونها أنها ستحدث ذلك التغيير المأمول، وتسريب معلومة زيارة صدقي صبحي ومجدي عبد الغفار إلى سيناء والتي بناء عليها قد استُهدفت طائرة وزيري الدفاع والداخلية قد تكون إحدى هذه الطرق.[ ما وراء استهداف طائرة وزير الدفاع المصري، تقدير موقف، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر 27 ديسمبر 2017]
المجلس العسكري.. طبيعة التشكيل وحدود الدور
محمود جمال

[لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj]

المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية هو المجلس المنوط بشؤون القوات المسلحة المصرية، طبقا للقانون رقم 20 لسنة 2014 في شأن إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويختص المجلس بدراسة كافة المسائل المتعلقة بالقوات المسلحة وإعدادها للحرب كما يقوم بدراسة وإعداد التوصيات الخاصة بشئون الدفاع عن الدولة.

وتصدر قرارات المجلس في صورة قرار أو توجيه من وزير الدفاع، وتوقع محاضر وقرارات المجلس من رئيسه وأمين سر المجلس وترسل للجهات المختصة للتنفيذ.
يتكون المجلس من رئيس الجمهورية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة طبقا للدستور المصري، وقادة القوات المسلحة وهم قيادات الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، بالإضافة إلى قيادات الجيوش والمناطق العسكرية، وكذلك أيضاً رؤساء الهيئات العسكرية وأمين عام وزارة الدفاع، ويترأس المجلس حالياً القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي، ونائب رئيس المجلس هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق محمد فريد حجازي الذي عُين في 28 أكتوبر 2017، بعد الإطاحة بالفريق محمود حجازي من رئاسة الأركان.[ مصر تطورات المشهد العسكري 9 أكتوبر 2016، المعهد المصري للدراسات، تاريخ الدخول 11 يناير 2018]

المناصب التي يتشكل منها المجلس العسكري:
م الاسم م الاسم

1 رئيس الجمهورية 14 رئيس هيئة التسليح للقوات المسلحة
2 وزير الدفاع 15 رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة
3 رئيس أركان حرب القوات المسلحة 16 رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة
4 قائد القوات البحرية 17 رئيس هيئة القضاء العسكري
5 قائد القوات الجوية 18 قائد الجيش الثاني الميداني
6 قائد قوات الدفاع الجوي 19 قائد الجيش الثالث الميداني
7 مساعدا وزير الدفاع للشئون القانونية والدستورية. 20 قائد المنطقة المركزية العسكرية
8 أمين عام وزارة الدفاع 21 قائد المنطقة الشمالية العسكرية
9 قائد قوات حرس الحدود 22 قائد المنطقة الجنوبية العسكرية
10 رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة 23 قائد المنطقة الغربية العسكرية
11 رئيس هيئة التنظيم والإدارة للقوات المسلحة 24 مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع
12 رئيس هيئة التدريب للقوات المسلحة 25 مدير إدارة شئون ضباط القوات المسلحة
13 رئيس هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة 26 قائد القيادة الموحدة لمنطقة شرق القناة.

ويضم المجلس الأعلى للقوات المسلحة أعضاء جددا له حسب الحاجة في الفترة الانتقالية، ويحق للمجلس استدعاء أي وزير عند الحاجة، مثلا استدعاء مدير المخابرات العامة للسؤال أو الاستفسار عن موضوع معين، كذلك وزير الداخلية، أو أي وزير للحديث بشأن موضوع بعينه.


قانون رقم 20 لسنة 2014:

طبقا للقانون رقم 20 لسنة 2014 في شأن إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، يختص المجلس ب19 مهمه وهم على النحو التالي[ قراران جمهوريان بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني، المصري اليوم، تاريخ النشر 27 فبراير 2014، تاريخ الدخول 11 يناير 2018]:


1-تحديد الأهداف والمهام الاستراتيجية بما يحقق الأهداف السياسية وأهداف السياسة العسكرية التي تحددها القيادة السياسية للدولة.
2-تحديد حجم وشكل القوات المسلحة وتركيبها التنظيمي والتطور المستقبلي.
3-الاستعداد القتالي للقوات المسلحة.
4-إعداد سياسة استكمال القوات المسلحة وأسس التعبئة لها.
5-وضع سياسة إيواء القوات المسلحة ودراسة حالة الانضباط العسكري والروح المعنوية.
6-إقرار سياسة تدريب القوات المسلحة وإجراء المناورات والتدريبات المشتركة.
7-إقرار سياسة تجهيز مسارح العمليات الحربية.
8-إعداد مشروعات القوانين والقواعد المنظمة لخدمة الأفراد بالقوات المسلحة والاقتراحات الخاصة بنظام التجنيد.
9-إقرار سياسة المحافظة على أمن وسلامة القوات المسلحة.
10-استعراض تقارير قادة الأفرع الرئيسية ورؤساء الهيئات وقادة الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية ومديري الإدارات للوقوف على حالة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة.
11-دراسة إعلان حالة الحرب أو إرسال قوات عسكرية إلى خارج الدولة.
12-إعداد تقدير الموقف السياسي العسكري.
13-إصدار وثيقة التهديدات والتحديات العسكرية للدولة.
14-إعداد وثيقة السياسة العسكرية.
15-إعداد الدولة للحرب أو الدفاع بالتعاون مع مجلس الدفاع الوطني ومجلس الأمن القومي.
16-التعاون والتنسيق مع مجلس الأمن القومي بشأن تحديد العدائيات الداخلية ارتباطا بدور القوات المسلحة في هذا الشأن.
17-الموافقة على تعيين وزير الدفاع ويسري ذلك لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بدستور 2014.
18-إبداء الرأي في إعلان الحرب أو إرسال القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة.
19-أي موضوعات أخرى يرى وزير الدفاع عرضها على المجلس مثل الأوضاع الاقتصادية في البلاد والأوضاع الأمنية، وضع خطط مواجهة الاحتجاجات.

وخصصت فقرة في القانون نصت على أن "يدعو وزير الدفاع المجلس للانعقاد مرة كل 3 أشهر، وكلما دعت الضرورة لذلك، ولا يكون انعقاد المجلس صحيحاً إلا بحضور أغلبية أعضائه، وتصدر قرارات وتوجيهات المجلس بأغلبية أصوات الأعضاء الحاضرين، وفي حالة قيام حظر الحرب أو إعلان التعبئة العامة يعتبر المجلس منعقداً بصفة مستمرة"، ونصت المادة الثالثة، على أنه "لوزير الدفاع دعوة أي من قيادات القوات المسلحة أو من يرى من المختصين أو الخبراء من خارج القوات المسلحة لحضور اجتماع المجلس إذا تطلبت دراسة الموضوعات المعروضة ذلك، دون أن يكون لهم صوت معدود".

ولرئيس الجمهورية، بحسب القانون، دعوة المجلس للانعقاد كلما دعت الضرورة لذلك، ويتولى رئيس الجمهورية رئاسة الاجتماع في حالة حضوره.

وتصدر قرارات المجلس في صورة قرار أو توجيه من وزير الدفاع، وتوقع محاضر وقرارات المجلس من رئيسه وأمين سر المجلس وترسل للجهات المختص للتنفيذ.
يتكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة في الوقت الحالي من 26 قائد عسكري وهم:

الاسم المنصب

1- عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي. طبقاُ للدستور المصري فإن السيسي حالياً هو القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، وأيضا هو القائد الأعلى لجهاز الشرطة.

2-الفريق أول صدقي صبحي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع المصري والقائد العام للقوات المسلحة

3-الفريق محمد فريد حجازي نائب رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيس أركان حرب القوات المسلحة

4- اللواء أركان حرب محمد عبداللاه أمين سر المجلس الأعلى للقوات المسلحة أمين عام وزارة الدفاع

5-الفريق يونس المصري قائد القوات الجوية

6-الفريق على فهمى محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوي

7-الفريق أحمد خالد حسن سعيد أحمد قائد القوات البحرية

8- اللواء أركان حرب باسم رياض هلال قائد قوات حرس الحدود

9-اللواء أركان حرب خالد مجاور قائد الجيش الثاني الميداني

10-اللواء أركان حرب محمد رأفت سليمان الدش قائد الجيش الثالث الميداني

11-اللواء أركان حرب أيمن عبد الحميد عامر. قائد المنطقة المركزية العسكرية.

12- اللواء أركان حرب على عادل عشماوي قائد المنطقة الشمالية العسكرية.

13- اللواء أح شريف سيف الدين حسين قائد المنطقة الجنوبية العسكرية

14- اللواء أركان حرب شريف فهمى بشارة قائد المنطقة الغربية العسكرية

15-اللواء أركان حرب وحيد عزت رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة

16-اللواء أركان حرب عبد المحسن موسى. رئيس هيئة التسليح بالقوات المسلحة

17-اللواء أركان حرب ناصر عاصي رئيس هيئة التدريب بالقوات المسلحة

18-اللواء أركان حرب صلاح الدين حلمى رئيس هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة

19-اللواء أركان حرب محمد أمين نصر. رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة

20-اللواء عماد عبد العزيز رئيس هيئة القضاء العسكري

21-لواء أركان حرب عبد الغنى الصغير. رئيس هيئة التنظيم والإدارة

22-اللواء ممدوح شاهين. مساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية.

23-اللواء أركان حرب محمد فرج الشحات. مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع

24-اللواء أركان حرب خيرت بركات. مدير إدارة شئون ضباط القوات المسلحة

25-اللواء أركان حرب كامل الوزير لواء مهندس أركان حرب

26-اللواء أركان حرب محمد المصري قائد القيادة الموحدة لمنطقة شرق القناة

التغيرات الدورية لقيادات المجلس العسكري:

بالرغم من أن كل القيادات التي سبق ذكرها هم من يضعون أجندة الجيش المصري حالياً إلا أنه يتواجد قاده آخرون قد قاموا بالمشاركة في رسم خطة الجيش المصري التي يسير على نهجها الآن، تلك الخطة التي فقط تضمن للمؤسسة العسكرية ألا تمس مصالحها، وتقوم بالتنكيل بكل من له رأي مخالف للمؤسسة العسكرية سواء من داخل المؤسسة أو من خارجها، وكان آخر من نكل به من داخل الجيش المصري هو العقيد أحمد قنصوه الذي أعلن عن ترشحه لانتخابات رئاسية الجمهورية وحكم عليه بست سنوات سجن مع الشغل والنفاذ، هذا بخلاف ما يلقاه المدنيون العزل من أعمال قتل وتشريد على أيدي بعض أفراد وضباط الجيش المصري الذين ينفذون خطط وقرارات تلك القيادات.

فذلك المجلس بتشكيله الجديد استقر في أكتوبر 2017، بمعنى أن هناك قادة آخرين قد شاركوا في وضع الخطة التي مارسها ويمارسها الجيش المصري منذ الانقلاب العسكري الذي نفذ علي الدكتور محمد مرسي، أو على الأقل كانوا راضين عن ممارسات الجيش المصري، فمنذ 03 يوليو 2013 إلى وقتنا هذا قام السيسي بإخراج 28 قائد عسكري من داخل الجيش المصري وأغلبهم كانوا أعضاء بالمجلس العسكري المصري، وهم:[ مصر: إقالة رئيس الأركان ـ الأبعاد والتفسيرات، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر 30 أكتوبر 2017]

الاسم المنصب

1-الفريق عبدالمنعم التراس قائد قوات الدفاع الجوي السابق.
2-الفريق أسامة منير ربيع قائد القوات البحرية السابق.
3-الفريق أسامة الجندي قائد القوات البحرية الأسبق.
4-اللواء أركان حرب أحمد وصفي قائد الجيش الثاني الميداني الأسبق.
5-اللواء أركان حرب ناصر العاصي قائد الجيش الثاني الميداني السابق.
6-الفريق أسامة عسكر قائد الجيش الثالث الميداني الأسبق.
7-اللواء صلاح البدري مدير المخابرات الحربية السابق.
8-اللواء محمد فريد التهامي مدير المخابرات العامة السابق.
9-اللواء أركان حرب سعيد عباس قائد المنطقة الشمالية الأسبق.
10-اللواء أركان حرب محمد سليمان الزملوط قائد المنطقة الشمالية الأسبق.
11-اللواء أركان حرب محمد لطفي يوسف قائد المنطقة الشمالية السابق. (لقي مصرعه في حادث)
12-اللواء أركان حرب محمد عرفات قائد المنطقة الجنوبية الأسبق.
13-اللواء أركان حرب يحيي طه الحميلي قائد المنطقة الجنوبية السابق.
14-اللواء أركان حرب محمد المصري قائد المنطقة الغربية الأسبق.
15-اللواء أركان حرب وحيد عزت قائد المنطقة الغربية السابق.
16-اللواء أركان حرب محمد سعيد العصار رئيس هيئة التسليح السابق.
17-اللواء أركان حرب أبو الدهب رئيس هيئة التنظيم والإدارة السابق.
18-اللواء أركان حرب توحيد توفيق رئيس هيئة العمليات السابق.
19-اللواء أركان حرب محسن الشاذلي. رئيس هيئة العمليات السابق
20-اللواء أركان حرب جمال إسماعيل رئيس هيئة الإمداد والتموين..
21-اللواء أركان حرب إبراهيم النصوحي رئيس هيئة التدريب الأسبق.
22-اللواء أركان حرب طاهر عبدالله رئيس الهيئة الهندسية الأسبق.
23-اللواء أركان حرب عماد الألفي رئيس الهيئة الهندسية السابق.
24-اللواء أركان حرب مدحت غزي رئيس هيئة القضاء العسكري السابق.
25- اللواء أحمد إبراهيم. قائد قوات حرس الحدود.
26-العقيد أحمد علي المتحدث العسكري الأسبق.
27-العميد محمد سمير المتحدث العسكري السابق.
28-اللواء عبد المرضي عبد السلام رئيس هيئة الإمداد والتموين السابق

أيضاً من أهم أحد راسمي سياسات الجيش المصري المشير محمد حسين طنطاوي وكان وزير الدفاع والإنتاج الحربي المصري، والقائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس الوزراء، منذ 4 أبريل 1993، حتى إقالته في 12 أغسطس 2012، وإلى وقتنا هذا لم يختف المشير طنطاوي من المشهد فهو يحضر أغلب الفاعليات التي تنظمها القوات المسلحة، وله دور بارز أيضا في اختيار القادة الجدد للجيش المصري، وهو من قام بعملية تسليم وتسلم قيادة الجيش الثاني الميداني[ بالصور.. وزير الدفاع يشهد مراسم تسليم قيادة الجيش الثاني لـ "خالد مجاور"، اليوم السابع، تاريخ النشر 28 مايو 2017، تاريخ الدخول 11 يناير 2018] والتي قد تمت في 08 مايو 2017، في وجود وزير الدفاع صدقي صبحي ورئيس الأركان وقتها الفريق محمود حجازي وعدم وجود عبدالفتاح السيسي، وسلم وقتها المشير طنطاوي قيادة الجيش الثاني الميداني للواء أركان حرب خالد مجاور قائد للجيش الثاني الميداني بدلاً من اللواء أركان حرب ناصر العاصي.

هذا بخلاف ما يقال بأن "طنطاوي" هو من أختار الفريق محمد فريد حجازي لكي يخلف الفرق محمود حجازي في رئاسة الأركان، وما يدار عن العلاقة التي تربطهم منذ كان محمد حجازي أمينا عاما لوزارة الدفاع في وقت كان فيه طنطاوي وزيراً للدفاع، فالمشير حسين طنطاوي ما زال الفقرة الأهم داخل المجلس العسكري إلى الآن ويصفه البعض بأنه "عراب" الجيش المصري، وأنه أحد أهم راسمي سياسات الجيش وحلقة الوصل بين المؤسسة العسكرية وداعميها الإقليمين والدوليين، وعلى رأسهم كل من السعودية والإمارات وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت في 15 نوفمبر 2011م، قد وصفت صحيفة "لوموند" الفرنسية في تقرير لها باسم محمد حسين طنطاوي الخيار المثالي لأميركا و”إسرائيل” وفي فقرة تحت عنوان "مطمئن خارجيا" تقول لوموند من خلال عشرات سنوات يبدو طنطاوي المرشح المثالي خصوصا للولايات المتحدة و"إسرائيل" الذين يقيم معهم علاقات كثيرة.

تلك القيادات هي من وضعت وأقرت السياسة الحالية للجيش المصري، وإن ظهر خلاف بين بعضهم فيما بعد فهو بسبب مصالح شخصية ليس إلا، وهذا كما وصف إيريك تريجر الباحث بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، "داعم للنظام العسكري في مصر" الوضع داخل المجلس العسكري.

وإن كان من ضمن هؤلاء قادة منضمون حديثاً للمجلس العسكري، لكن معظمهم في يونيو 2013م، كانوا في مراكز عليا داخل الجيش المصري كرؤساء أركان مناطق وجيوش عسكرية وقادة أسلحة كالمدفعية والمشاة وغيرها، وما كان لهم أن يصلوا إلى مراكز عليا تمكنهم من أن يكونوا أعضاء بالمجلس العسكري إلا لأنهم متماهون مع المنظومة العسكرية في النهج الذي تسير علية منذ يونيو 2013م.

وأيضا هؤلاء القادة منهم من أصبح ليس له أي صفة رسمية داخل المجلس العسكري الحالي، ولكن كل القيادات التي خرجت من المجلس العسكري عُينوا مساعدين ومستشارين لوزير الدفاع، ومنهم من خرج وأعلن بعد خروجه من الخدمة أن المجلس العسكري أثناء انقلاب 03 يوليو 2013م، وما ترتب عليه كان مع ما فعله السيسي، وما صرح به قائد قوات الدفاع الجوي السابق الفريق عبد المنعم التراس مؤخراً أثناء لقائه بمجموعة من دعاة وزارة الأوقاف، في مسجد النور في العباسية دليل علي هذا، حيث قال إن السيسي تحرك في 30 يونيو بعد رسالة أرسلها له بأنه يقوم” بدرء المفسدة وتخليص البلاد من الفتنة”.

وتلك القيادات التي قد قام السيسي بإخراجها من المجلس العسكري ما أطاح بهم إلا لأنه قائداً لانقلاب عسكري، وديدن من يقومون بانقلابات عسكرية أنهم يبعدون شركاءهم في تنفيذ الانقلاب من مراكز قواهم حتى ينفردوا بالحكم وكي يأمنوا خيانتهم، حتى لا يفعلوا بهم كما فعلوا بغيرهم.

ويري البعض أنه بناء على قرارات تلك القيادات تعيش الدولة المصرية أصعب مراحلها في تاريخها المعاصر على كل المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد كل ما شهدته الدولة المصرية على مدار الأربعة أعوام الماضية لم تتراجع تلك القيادات عن قراراتها التي أدخلت الدولة في نفق مظلم، بل تقوم إلى وقتنا هذا بإعطاء الأوامر باستخدام وسائل العنف تجاه من يخالف قراراتهم وتوجهاتهم، ولكن هذا العنف المستخدم من قبل الجيش المصري، سيولد مزيداً من الجماعات والأفراد التي ستنتهج الأساليب المناسبة لمواجهة ذلك العنف.

ويوماً بعد يوم ونتيجة تلك الممارسات التي تسير عليها قيادات المؤسسة العسكرية، ستزداد الشرائح التي ترغب في تغيير الوضع الحالي، ليس شرطا أن يكونوا مدنيين قد طالهم الظلم، بل أيضاُ قد يكونون من داخل المؤسسة العسكرية وفي مستويات مختلفة داخل الهيكل، قد يحذون نهج ضابط الصاعقة هشام عشماوي وضابط الصاعقة عماد عبد الحميد، الذين قرروا التغيير بمواجهة النظام بالسلاح، أو كنموذج العقيد أحمد قنصوه[ محكمة عسكرية تقضي بحبس العقيد قنصوه 6 سنوات على خلفية إعلانه نيته للترشح للرئاسة، مدي مصر، تاريخ النشر 19 ديسمبر 2017، تاريخ الدخول 11 يناير 2018، الرابط] الذي أراد تغيير نهج المؤسسة العسكرية ولكن بالطرق الدستورية والقانونية من وجهة نظرة وقام بالترشح لرئاسة الجمهورية، وقد يكون هناك أفراد آخرون متواجدون داخل المؤسسة العسكرية راغبين في تغيير الوضع المزرى داخل المؤسسة، ولكن لن تعتمد طريق "عشماوي" ولا طريق "قنصوه" بل من المحتمل أنها ستتبع طرق أخري قد يرونها أنها ستحدث ذلك التغيير المأمول، وتسريب معلومة زيارة صدقي صبحي ومجدي عبد الغفار إلى سيناء والتي بناء عليها قد استُهدفت طائرة وزيري الدفاع والداخلية قد تكون إحدى هذه الطرق.[ ما وراء استهداف طائرة وزير الدفاع المصري، تقدير موقف، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر 27 ديسمبر 2017]
‏٢١‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٧:٥٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏١٩‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٩:٠٤ م‏
مسيرة الجماعة الإسلامية م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed Fared Mawlana] [لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj] ازدادت النزعة للتدين عقب انكسار المشروع الناصري عام 1967، ثم اتسعت رقعة الحرية بموت عبدالناصر عام 1970، وبتحجيم السادات لنفوذ أجهزة الأمن والمخابرات عقب قضائه على مراكز القوى في أحداث 15 مايو 1971(1). في تلك الأجواء نشأت الجماعة الإسلامية كحركة اجتماعية في الوسط الطلابي الجامعي عام 1971 دون أن تكون لها (مرجعية فكرية أو شرعية محددة)، إنما تأثرت بروافد متنوعة كالجمعية الشرعية وأنصار السنة، وبعض الدعاة كمحمد الغزالي وسيد سابق ويوسف القرضاوي، فضلا عن كتابات المودودي وسيد قطب. تأسست أولى نويات الجماعة بكلية طب القصر العيني تحت اسم "لجنة التوعية الدينية" المتفرعة عن "اللجنة الثقافية باتحاد الطلبة"، وكان من أبرز مؤسسيها د.عبدالمنعم أبو الفتوح، ثم تحول اسمها إلى "الجمعية الدينية"(2)، التي امتد نشاطها إلى جامعات أخرى كجامعة أسيوط على يد "صلاح هاشم"(3) وبعض رفاقه. اقتصر نشاط "الجمعية الدينية" في البداية على إقامة حلقات تلاوة للقرآن ودروس للتجويد وإلقاء مواعظ قبيل المحاضرات وتعليق مجلات حائط، دون الانخراط بشكل مباشر في العمل السياسي، ثم دخل أفرادها انتخابات اتحاد الطلاب بكلية طب القاهرة عام 1973 وفازوا بخمس من لجان الاتحاد الست، وتحولت الكلية إلى مركز عام للنشاط الإسلامي بالجامعات. وتحول اسم اللجنة إلى "الجماعة الإسلامية"(4) عام 1973، تيمنا بالجماعة الإسلامية الباكستانية التي تزعمها أبو الأعلى المودودي. سيطرت نزعة سلفية جهادية على شباب الجماعة، فأطلقوا لحاهم واعتادوا دخول الجامعات بالجلباب، وانتشر النقاب بين الطالبات، وبرز استخدام القوة كوسيلة للتغيير بين أفرادها، فيقول عبدالمنعم أبوالفتوح: "استخدام العنف كان مقبولا والاختلاف حول توقيته وجدواه فحسب"(5). ويؤكد "صلاح هاشم" أن نظام السادات لم تكن له يد في تأسيس الجماعة، ولكنه سمح لها بالعمل دون تضييق كي يوجد معادلة توازن مع خصومه من الناصريين واليساريين، فعلى سبيل المثال كان محافظ أسيوط "محمد عثمان اسماعيل" يدعم معسكرات الجماعة ماليا من صندوق المحافظة، دون أي يشترط أي شروط أو أن يعطي أي توجيهات(6). كان لكل كلية أمير(7) يُختار بالتوافق، وتم لاحقا تدشين مجلس أمراء للجماعة على مستوى الجمهورية، عُقدت اجتماعاته الشهرية في مسجد كلية طب القصر العيني، وفي عام 1977 انتخب د.حلمي الجزار كأمير لأمراء الجماعة الإسلامية على مستوى الجامعات. خرج قادة جماعة الإخوان المسلمين من السجون عام 1974 بعد إقامتهم 20 سنة بها، ونجحوا سرا بنهاية السبعينات في استمالة أبرز قادة الجماعة الإسلامية إلى صفوفهم؛ كعبد المنعم أبوالفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار من جامعة القاهرة، وإبراهيم الزعفراني من جامعة الاسكندرية، ومحيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي من جامعة المنيا، وخيرت الشاطر من جامعة المنصورة، فوهب الإخوان لهؤلاء الطلبة (الفكرة والمشروع والتاريخ، بينما وهب الطلبة للإخوان جسد التنظيم الذي أقاموه بالجامعات(8)، أما الخلافات حول قضايا الهدي الظاهر فحلها قادة الإخوان بإطلاق لحاهم. مع تزايد نشاط الجماعة الإسلامية وانتقاله إلى خارج أسوار الجامعة، واعتراضها على اتفاقية كامب ديفيد، سقط أول قتيل(9) منها على يد الشرطة بأسيوط عام 1979، أثناء فض تظاهرة مناهضة لاستقبال شاه إيران بمصر، كما بدأ التضييق على أنشطتها، وحُل اتحاد الطلبة، واعتُقل عدد من قياداتها الطلابية. سرعان ما اكتشف بقية قادة الجماعة الإسلامية انضمام رفاقهم سرا للإخوان؛ فانفصلت مجموعة من طلبة جامعة الإسكندرية عام 1980، وأسسوا الدعوة السلفية، بينما استمرت مجموعة الصعيد في العمل تحت اسم "الجماعة الإسلامية"، ورفضوا العمل مع جماعة الإخوان لاعتبارهم إياها "جماعة مداهنة تخلت عن الجهاد، وتحاول استيعاب الشباب الجهادي ضمن صفوفها ليمنحها النظام شرعية الوجود، ويسمح لها بمعاودة النشاط"(10). برز من قادة مجموعة الصعيد آنذاك كرم زهدي وصلاح هاشم ورفاعي طه وناجح إبراهيم وعاصم عبدالماجد وعصام دربالة، وصار الشيخ الأزهري الدكتور عمر عبدالرحمن بمثابة أمير الجماعة والأب الروحي الذي يلتف شبابها حوله، بينما ابتعدت المجموعة التي انضمت لجماعة الإخوان عن استعمال اسم الجماعة الإسلامية إثر توجه مجموعة الصعيد لاستعمال القوة في إنكار المنكرات. تحول الجماعة الإسلامية للعمل المسلح لم تمتلك الجماعة مشروعا محددا للتغيير إلى أن التقى رئيس مجلس شوراها كرم زهدي عام 1980 بالقيادي الجهادي "محمد عبدالسلام فرج"، الذي أقنعه بمشروعه المتمثل في القيام بانقلاب عسكري مصحوب بثورة شعبية، ومن ثم بدأت الجماعة في تمويل تسليح بعض أفرادها من خلال السطو على محلات الذهب المملوكة لنصارى بـ"قنا"(11). وفي 8 أكتوبر 1981 عقب اغتيال السادات بيومين، قام 35 من أعضاء الجماعة يمتلكون 7 بنادق آلية وبعض المسدسات والقنابل اليدوية، بالهجوم على مديرية أمن أسيوط وبعض أقسام الشرطة والتمركزات الأمنية، سعيا للسيطرة على أسيوط(12) والزحف منها على المحافظات الأخرى، وحدثت اشتباكات عنيفة انتهت بتدخل قوات الجيش؛ لتسفر الأحداث عن مقتل 7 من أفراد الجماعة وما يزيد عن ثمانين من أفراد الشرطة، وصدرت أحكام متفاوتة بالسجن على المتهمين في الأحداث، وكان المؤبد من نصيب قادة الجماعة البارزين. التأسيس الفكري وإعادة البناء تفكك تنظيم محمد عبدالسلام فرج داخل السجون، وعملت الجماعة الإسلامية بشكل منفرد عن المجموعات الجهادية الأخرى، وحرص قادتها على تأطير منهج الجماعة وتقديم تنظير فكري وشرعي يوضح الملامح العامة لها، فأصدروا رسالة (ميثاق العمل الإسلامي) عام 1984 مؤكدين فيها على سلفية المعتقد وتبنيهم لثلاثية "الدعوة كأداة لتغيير المفاهيم، والحسبة كأداة لتغيير المجتمع، والجهاد كأداة للتغيير عندما لا تجدي الدعوة ولا تكفي الحسبة"(13). تواكب إصدار الميثاق مع إعادة بناء الجماعة على يد قيادات الصف الثاني - مثل صفوت عبدالغني - عقب خروجهم من السجن عام 1984؛ إذ اعتمدوا العمل الدعوي العلني في المساجد والجامعات، فضلا عن تقديم الخدمات الاجتماعية في المناطق الشعبية؛ كتوزيع المساعدات العينية على الأسر المحتاجة وتنظيم معارض للسلع المخفضة وإقامة شوادر للجزارة، والمساهمة في ترميم وبناء المساجد، وإقامة الأفراح الإسلامية بأسعار مخفضة. وامتد نطاق الوجود الجغرافي للجماعة إلى القاهرة الكبرى وبعض محافظات وجه بحري، وتحولت أحياء عين شمس وإمبابة والعمرانية إلى معاقل قوية للجماعة التي قامت بالاحتساب على (محلات بيع الخمور ومحلات الفيديو والحفلات الموسيقية والاختلاط بالجامعات)(14)، وبلغ من نفوذ الجماعة في بعض المناطق أن صارت أجهزة الأمن تحيل مشاكل المواطنين إلى قادتها لحلها(15). رفع وزير الداخلية "زكي بدر" شعار (الضرب في سويداء القلب) وبدأ الأمن يتصدى لأنشطة الجماعة، فقتل عام 1986 طالب كلية التجارة "شعبان راشد" أثناء تعليقه إعلانا عن درس للجماعة بأسيوط، وهو أول قتيل للجماعة منذ أحداث 81، ثم تصاعدت الأحداث في أغسطس 1988 إثر مقتل 6 من أعضاء الجماعة أثناء اقتحام الأمن لمسجد آدم بعين شمس، وخلال الفترة الممتدة من عام 1986 إلى 1990 اقتحم الأمن (40 مسجدا تابعا للجماعة وقتل 70 من أفرادها)(16). من جهتها ردت الجماعة بإصدار رسالة (حتمية المواجهة) عام 1987 والتي بررت فيها الصراع مع النظام الحاكم بأربعة أسباب، تتمثل في وجوب (خلع الحاكم الكافر المبدِّل لشرع الله، وقتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام، وإقامة الخلافة وتنصيب خليفة للمسلمين، وتحرير البلاد واستنقاذ الأسرى ونشر الدين)(17). ومن ثم بدأت الجماعة في إرسال بعض شبابها للتدرب في أفغانستان تمهيدا لتأسيس جناح عسكري يحميها من اعتداءات الأمن، وأطلقت مجلتها "المرابطون" من بيشاور عام 1990. الثأر وغياب الاستراتيجية لم تكن الجماعة تبغي الوصول للحكم إنما كنت تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن ثم لم تقدم في أدبياتها رؤية واضحة لوسيلة تغيير محددة تتبناها، وخاضت صراعها مع النظام ردا على تجاوزات الأمن تجاه أفرادها، وللضغط من أجل تنفيذ طلباتها، والتي تمثلت في إيقاف التعذيب والمحاكمات العسكرية والإفراج عن المعتقلين والرهائن من أهالي عناصرها، والسماح بحرية العمل الدعوي. نفذت الجماعة أولى عملياتها الثأرية الكبرى في ديسمبر عام 1989 بمحاولة اغتيال وزير الداخلية زكي بدر بواسطة عربة مفخخة، وسرعان ما اغتال الأمن المتحدث الإعلامي للجماعة د.علاء محيي الدين عاشور في سبتمبر 1990 أثناء سيره في الشارع بالجيزة، فأصدرت الجماعة بيانا بعنوان (ومضى عهد الكلام) ثم ردت في 12 أكتوبر 1990 باغتيال رئيس مجلس الشعب "رفعت المحجوب" وتصفية حراسه على كورنيش النيل، وصار خطاب الثأر حاضرا في بيانات الجماعة وممارساتها، فتعهدت بالانتقام من اعتداء أجهزة الأمن على زوجات قادتها المتهمين باغتيال المحجوب في بيان بعنوان (لبيك يا أختاه)(18) قائلة (لبيكن سنثأرن ، لبيكن سننتقم) كما قتلت عام 1993 فرد الشرطة الذي قتل "شعبان راشد" قبل سنوات. ويمكن تحديد ملامح العمل العسكري لدى الجماعة في المحاور التالية: استهداف رموز النظام السياسية والأمنية والثقافية قتلت الجماعة رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب عام1990 و المفكر العلماني فرج فودة عام 1992، واللواء رؤوف خيرت مسئول التطرف الديني بأمن الدولة عام 1994،واستهدفت وزير الإعلام صفوت الشريف عام 1993 مما أدى لإصابته، وأصابت الأديب نجيب محفوظ عام 1994، واستهدفت حسني مبارك عدة مرات من أبرزها في أديس أبابا عام 1995. استهداف ضباط وأفراد الشرطة بالصعيد(19) نظرا لثقل الجماعة بالصعيد فقد ركزت عملياتها ضد عناصر الشرطة به، وبالأخص في أسيوط التي بلغ عدد قتلى الشرطة فيها خلال عامي (1992- 1993) قرابة 43 شرطيا بينهم 7 ضباط منهم مساعد مدير الأمن اللواء محمد الشيمي، ومفتش الداخلية العميد محمد طعيمة، ورئيس مكتب أمن الدولة بديروط المقدم مهران عبدالرحيم. كما امتدت عملياتها إلى محافظة المنيا وبالأخص مدينة ملوي. استهداف السياح والأقباط للضغط على النظام بدأت الجماعة باستهداف البواخر السياحية وأتوبيسات نقل السياح في الصعيد بإطلاق النيران عليها بدءا من أكتوبر عام 1992، وشنت هجوما دمويا على أتوبيس سياحي أمام فندق أوربا بالهرم عام 1996 مما أدى لمصرع 18 سائحا ، كما نفذ 6 من عناصرها هجوما واسعا عام 1997 على معبد حتشبسوت بالأقصر مما أسفر عن مقتل 58 سائحا، بالإضافة إلى استهداف المواطنين النصارى في عدة هجمات مثل قتل 14 قبطيا في قرية صنبو بأسيوط عام 1992، وقتل 9 أقباط في الهجوم على كنيسة ماري جرجس بأبي قرقاص عام 1997. انهاك الجماعة وتجربة المراجعات أدت عمليات الجماعة إلى ازدياد البطش الأمني ضدها، فاقتحم الأمن مساجدها الكبرى كمسجد الرحمن(20) بأسوان والرحمة بأسيوط ، واعتقل قرابة 20 ألف من أعضائها والمتعاطفين معهم، وقتل 434 من أعضاءها في مواجهات خلال الفترة الممتدة من عام 1993 إلى 1997(21) فضلا عن إعدام العشرات(22) من عناصرها إثر محاكمات عسكرية، بالإضافة إلى مقتل المئات منهم في السجون نتيجة التعذيب والإهمال الطبي، كما تعرض معتقلوها لأبشع أنواع التعذيب اليومي في السجون، ومنعوا من رؤية أهاليهم لأعوام طويلة، فضلا عن تعرض الجماعة لهزة قوية باختطاف مسئولها خارج مصر طلعت فؤاد قاسم عام 1995 من كرواتيا على يد المخابرات الأمريكية وتسليمه إلى مصر ليختفي إلى الأبد، بالتوازي مع التضييق على ملاذات الجماعة الآمنة بالسودان وأفغانستان. لم تحظ الجماعة بدعم شعبي أثناء صراعها مع النظام، بل وتعرضت للنقد الحاد من قبل العديد من الجماعات والتيارات الإسلامية الأخرى. ووصلت عمليا إلى حائط مسدود، فأعلن القادة التاريخيون للجماعة داخل السجون مبادرة لوقف العنف من طرف واحد عام 1997، وأجبروا رئيس مجلس شورى الجماعة بالخارج رفاعي طه(23) على الاستقالة من منصبه عقب تبنيه لحادثة الأقصر التي وقعت عقب إعلانهم المبادرة، كما أجبروه على سحب تأييده لإنشاء الجبهة العالمية لمواجهة اليهود والصليبيين عام 1998 بالتعاون مع بن لادن والظواهري. مثلت أحداث سبتمبر 2001 طوق النجاة للجماعة، إذ سارع الأمن المصري لتفعيل المبادرة منعا لتشكل بؤر داخل الجماعة تتعاطف مع تنظيم القاعدة ، فصدرت في يناير 2002 أولى المراجعات الخاصة بالجماعة على هيئة 4 كتب يفند فيها قادة الجماعة أطروحاتهم وممارساتهم السابقة، ثم تلاحقت إصداراتهم التي انتقدوا فيها تنظيم القاعدة. وبدأ خروج عناصرها من السجون بشكل تدريجي خلال السنوات التالية مع تقييد حريتهم في العمل العام ، بينما لم يخرج عبود وطارق الزمر إلا بعد الثورة نظرا لمطالبتهما بالسماح لهما بالعمل السياسي. عقب الثورة أطاحت الجماعة في انتخاباتها الداخلية بكرم زهدي وناجح إبراهيم وحمدي عبدالرحمن وفؤاد الدواليبي من قيادتها، وتولى إمارة الجماعة "عصام دربالة"، كما أسست حزب (البناء والتنمية). وفازت بخمسة عشر مقعدا من مقاعد مجلس النواب في انتخابات 2011. وبدأت الجماعة تعود للمشهد العام مجددا، وإن كان تأثيرها تراجع بشكل كبير نتيجة المدة الطويلة التي قضاها معظم قادتها وأفرادها بالسجون مما أثر على متطلباتهم الحياتية، ولوجود خلافات بينية حول المبادرات وحجم التنازلات الذي قدمته الجماعة فيها، بالإضافة لعدم القدرة على تجديد دماء الجماعة بعناصر شبابية جديدة. عقب الانقلاب العسكري منتصف 2013 انضمت الجماعة إلى تحالف دعم الشرعية، وتعرض العديد من قادتها وكوادرها للاعتقال مجددا، بل ومات بعضهم في السجون مثل أمير الجماعة "عصام دربالة" والقيادي "عزت السلاموني"، بينما سافر معظم قادة جناحها العسكري السابق إلى خارج مصر، وقُتل أبرزهم الشيخ "رفاعي طه" في الشام عام 2016 بغارة أمريكية. ومازالت تتعرض الجماعة داخل مصر لتهديدات مستمرة بحظر حزبها وتصفية نشاطها. وتظل تجربتها تجربة فريدة تقارب 45 سنة، تعرضت خلالها لضربات أمنية كاسحة، ومرت بتحولات وتطورات متنوعة تستحق التأمل والاستفادة من عبرها ودروسها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - في أحداث 15 مايو تم القبض على رئيس المخابرات العامة أحمد كامل ورئيس المباحث العامة "أمن الدولة" حسن طلعت. 2- عبدالمنعم أبوالفتوح- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص67– ط. دار الشروق. 3 - مهندس خريج جامعة أسيوط- من أقدم مؤسسي الجماعة الإسلامية منذ عام 1972. 4- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص47، بينما يذكر صلاح هاشم في حوار مع موقع إسلام أون لاين بتاريخ 2 أكتوبر 2010 أن اللجنة الدينية تأسست عام 1972 وتحول اسمها إلى الجماعة الإسلامية عام 1975. 5- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص65. 6- حوار صلاح هاشم مع موقع إسلام أون لاين. 7 - لمزيد من التفاصيل انظر : أبوالعلا ماضي (جماعات العنف المصرية وتأويلاتها للإسلام) - ط. مكتبة الشروق الدولية. 8- انظر: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص91. 9- اسمه "عنتر كمال". 10 - مجلة "المرابطون" – عدد 1 – مايو 1990 - مقال "الإرهاب فرض والقوة واجبة". 11 - استصدر قادة الجماعة فتوى من الشيخ عمر عبدالرحمن بجواز الاستيلاء على أموال تجار الذهب النصارى الداعمين للكنيسة في ظل أجواء الفتنة الطائفية آنذاك ، ففي أحداث الزاوية الحمراء في يونيو ١٩٨١ قُتل ١٧ شخصا وإصابة ٥٠ آخرين، وبالفعل قاد "علي الشريف" عملية السطو على محلات عدد من تجار الذهب بقنا في 26 يونيو 1981. 12- مجلة المرابطون- العدد 6 – ص24. 13- لمزيد من التفاصيل انظر "ميثاق العمل الإسلامي" – نسخة الكترونية على موقع منبر التوحيد والجهاد. 14- للاطلاع على تنظير الجماعة الشرعي لهذه الممارسات انظر: مجلة المرابطون- العدد1- مقال (الإرهاب فرض والقوة واجبة). 15 - تصريح لوزير الداخلية السابق حسن الألفي – خارج السلطة وأسرار الداخل- ص25 – ط. المكتب العربي للمعارف. 16 - مجلة "المرابطون" – عدد 8 – شهر ديسمبر1990 – ص49. 17 - حتمية المواجهة – نسخة إلكترونية. 18 - مجلة "المرابطون" – العدد 9- شهر يناير 1991 – ص36. 19 - لمزيد من التفاصيل انظر : أحمد عمر – أسيوط مدينة النار- ط.سفنكس للنشر والتوزيع. 20- قتل الأمن في اقتحام مسجد الرحمن بأسوان 8 من أعضاء الجماعة واعتقل 100 آخرين. 21- وزير الداخلية حسن الألفي – مصدر سابق – ص85. 22- أعدم 88 عنصرا من الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في عهد مبارك، وفقا لدراسة رسمية نشرتها وزارة الداخلية المصرية عام 2012 بعنوان ( مكافحة التطرف والإرهاب وأسلوب المواجهة الفكرية) – إعداد الرائد "محمد حمزة". 23 - قتل بغارة أمريكية في سوريا عام 2016
مسيرة الجماعة الإسلامية
م. أحمد مولانا Ahmed Fared Mawlana

[لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj]

ازدادت النزعة للتدين عقب انكسار المشروع الناصري عام 1967، ثم اتسعت رقعة الحرية بموت عبدالناصر عام 1970، وبتحجيم السادات لنفوذ أجهزة الأمن والمخابرات عقب قضائه على مراكز القوى في أحداث 15 مايو 1971(1).

في تلك الأجواء نشأت الجماعة الإسلامية كحركة اجتماعية في الوسط الطلابي الجامعي عام 1971 دون أن تكون لها (مرجعية فكرية أو شرعية محددة)، إنما تأثرت بروافد متنوعة كالجمعية الشرعية وأنصار السنة، وبعض الدعاة كمحمد الغزالي وسيد سابق ويوسف القرضاوي، فضلا عن كتابات المودودي وسيد قطب.

تأسست أولى نويات الجماعة بكلية طب القصر العيني تحت اسم "لجنة التوعية الدينية" المتفرعة عن "اللجنة الثقافية باتحاد الطلبة"، وكان من أبرز مؤسسيها د.عبدالمنعم أبو الفتوح، ثم تحول اسمها إلى "الجمعية الدينية"(2)، التي امتد نشاطها إلى جامعات أخرى كجامعة أسيوط على يد "صلاح هاشم"(3) وبعض رفاقه.

اقتصر نشاط "الجمعية الدينية" في البداية على إقامة حلقات تلاوة للقرآن ودروس للتجويد وإلقاء مواعظ قبيل المحاضرات وتعليق مجلات حائط، دون الانخراط بشكل مباشر في العمل السياسي، ثم دخل أفرادها انتخابات اتحاد الطلاب بكلية طب القاهرة عام 1973 وفازوا بخمس من لجان الاتحاد الست، وتحولت الكلية إلى مركز عام للنشاط الإسلامي بالجامعات. وتحول اسم اللجنة إلى "الجماعة الإسلامية"(4) عام 1973، تيمنا بالجماعة الإسلامية الباكستانية التي تزعمها أبو الأعلى المودودي.

سيطرت نزعة سلفية جهادية على شباب الجماعة، فأطلقوا لحاهم واعتادوا دخول الجامعات بالجلباب، وانتشر النقاب بين الطالبات، وبرز استخدام القوة كوسيلة للتغيير بين أفرادها، فيقول عبدالمنعم أبوالفتوح: "استخدام العنف كان مقبولا والاختلاف حول توقيته وجدواه فحسب"(5).

ويؤكد "صلاح هاشم" أن نظام السادات لم تكن له يد في تأسيس الجماعة، ولكنه سمح لها بالعمل دون تضييق كي يوجد معادلة توازن مع خصومه من الناصريين واليساريين، فعلى سبيل المثال كان محافظ أسيوط "محمد عثمان اسماعيل" يدعم معسكرات الجماعة ماليا من صندوق المحافظة، دون أي يشترط أي شروط أو أن يعطي أي توجيهات(6).

كان لكل كلية أمير(7) يُختار بالتوافق، وتم لاحقا تدشين مجلس أمراء للجماعة على مستوى الجمهورية، عُقدت اجتماعاته الشهرية في مسجد كلية طب القصر العيني، وفي عام 1977 انتخب د.حلمي الجزار كأمير لأمراء الجماعة الإسلامية على مستوى الجامعات.

خرج قادة جماعة الإخوان المسلمين من السجون عام 1974 بعد إقامتهم 20 سنة بها، ونجحوا سرا بنهاية السبعينات في استمالة أبرز قادة الجماعة الإسلامية إلى صفوفهم؛ كعبد المنعم أبوالفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار من جامعة القاهرة، وإبراهيم الزعفراني من جامعة الاسكندرية، ومحيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي من جامعة المنيا، وخيرت الشاطر من جامعة المنصورة، فوهب الإخوان لهؤلاء الطلبة (الفكرة والمشروع والتاريخ، بينما وهب الطلبة للإخوان جسد التنظيم الذي أقاموه بالجامعات(8)، أما الخلافات حول قضايا الهدي الظاهر فحلها قادة الإخوان بإطلاق لحاهم.

مع تزايد نشاط الجماعة الإسلامية وانتقاله إلى خارج أسوار الجامعة، واعتراضها على اتفاقية كامب ديفيد، سقط أول قتيل(9) منها على يد الشرطة بأسيوط عام 1979، أثناء فض تظاهرة مناهضة لاستقبال شاه إيران بمصر، كما بدأ التضييق على أنشطتها، وحُل اتحاد الطلبة، واعتُقل عدد من قياداتها الطلابية.

سرعان ما اكتشف بقية قادة الجماعة الإسلامية انضمام رفاقهم سرا للإخوان؛ فانفصلت مجموعة من طلبة جامعة الإسكندرية عام 1980، وأسسوا الدعوة السلفية، بينما استمرت مجموعة الصعيد في العمل تحت اسم "الجماعة الإسلامية"، ورفضوا العمل مع جماعة الإخوان لاعتبارهم إياها "جماعة مداهنة تخلت عن الجهاد، وتحاول استيعاب الشباب الجهادي ضمن صفوفها ليمنحها النظام شرعية الوجود، ويسمح لها بمعاودة النشاط"(10).

برز من قادة مجموعة الصعيد آنذاك كرم زهدي وصلاح هاشم ورفاعي طه وناجح إبراهيم وعاصم عبدالماجد وعصام دربالة، وصار الشيخ الأزهري الدكتور عمر عبدالرحمن بمثابة أمير الجماعة والأب الروحي الذي يلتف شبابها حوله، بينما ابتعدت المجموعة التي انضمت لجماعة الإخوان عن استعمال اسم الجماعة الإسلامية إثر توجه مجموعة الصعيد لاستعمال القوة في إنكار المنكرات.

تحول الجماعة الإسلامية للعمل المسلح

لم تمتلك الجماعة مشروعا محددا للتغيير إلى أن التقى رئيس مجلس شوراها كرم زهدي عام 1980 بالقيادي الجهادي "محمد عبدالسلام فرج"، الذي أقنعه بمشروعه المتمثل في القيام بانقلاب عسكري مصحوب بثورة شعبية، ومن ثم بدأت الجماعة في تمويل تسليح بعض أفرادها من خلال السطو على محلات الذهب المملوكة لنصارى بـ"قنا"(11).

وفي 8 أكتوبر 1981 عقب اغتيال السادات بيومين، قام 35 من أعضاء الجماعة يمتلكون 7 بنادق آلية وبعض المسدسات والقنابل اليدوية، بالهجوم على مديرية أمن أسيوط وبعض أقسام الشرطة والتمركزات الأمنية، سعيا للسيطرة على أسيوط(12) والزحف منها على المحافظات الأخرى، وحدثت اشتباكات عنيفة انتهت بتدخل قوات الجيش؛ لتسفر الأحداث عن مقتل 7 من أفراد الجماعة وما يزيد عن ثمانين من أفراد الشرطة، وصدرت أحكام متفاوتة بالسجن على المتهمين في الأحداث، وكان المؤبد من نصيب قادة الجماعة البارزين.

التأسيس الفكري وإعادة البناء

تفكك تنظيم محمد عبدالسلام فرج داخل السجون، وعملت الجماعة الإسلامية بشكل منفرد عن المجموعات الجهادية الأخرى، وحرص قادتها على تأطير منهج الجماعة وتقديم تنظير فكري وشرعي يوضح الملامح العامة لها، فأصدروا رسالة (ميثاق العمل الإسلامي) عام 1984 مؤكدين فيها على سلفية المعتقد وتبنيهم لثلاثية "الدعوة كأداة لتغيير المفاهيم، والحسبة كأداة لتغيير المجتمع، والجهاد كأداة للتغيير عندما لا تجدي الدعوة ولا تكفي الحسبة"(13).

تواكب إصدار الميثاق مع إعادة بناء الجماعة على يد قيادات الصف الثاني - مثل صفوت عبدالغني - عقب خروجهم من السجن عام 1984؛ إذ اعتمدوا العمل الدعوي العلني في المساجد والجامعات، فضلا عن تقديم الخدمات الاجتماعية في المناطق الشعبية؛ كتوزيع المساعدات العينية على الأسر المحتاجة وتنظيم معارض للسلع المخفضة وإقامة شوادر للجزارة، والمساهمة في ترميم وبناء المساجد، وإقامة الأفراح الإسلامية بأسعار مخفضة. وامتد نطاق الوجود الجغرافي للجماعة إلى القاهرة الكبرى وبعض محافظات وجه بحري، وتحولت أحياء عين شمس وإمبابة والعمرانية إلى معاقل قوية للجماعة التي قامت بالاحتساب على (محلات بيع الخمور ومحلات الفيديو والحفلات الموسيقية والاختلاط بالجامعات)(14)، وبلغ من نفوذ الجماعة في بعض المناطق أن صارت أجهزة الأمن تحيل مشاكل المواطنين إلى قادتها لحلها(15).

رفع وزير الداخلية "زكي بدر" شعار (الضرب في سويداء القلب) وبدأ الأمن يتصدى لأنشطة الجماعة، فقتل عام 1986 طالب كلية التجارة "شعبان راشد" أثناء تعليقه إعلانا عن درس للجماعة بأسيوط، وهو أول قتيل للجماعة منذ أحداث 81، ثم تصاعدت الأحداث في أغسطس 1988 إثر مقتل 6 من أعضاء الجماعة أثناء اقتحام الأمن لمسجد آدم بعين شمس، وخلال الفترة الممتدة من عام 1986 إلى 1990 اقتحم الأمن (40 مسجدا تابعا للجماعة وقتل 70 من أفرادها)(16).

من جهتها ردت الجماعة بإصدار رسالة (حتمية المواجهة) عام 1987 والتي بررت فيها الصراع مع النظام الحاكم بأربعة أسباب، تتمثل في وجوب (خلع الحاكم الكافر المبدِّل لشرع الله، وقتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام، وإقامة الخلافة وتنصيب خليفة للمسلمين، وتحرير البلاد واستنقاذ الأسرى ونشر الدين)(17). ومن ثم بدأت الجماعة في إرسال بعض شبابها للتدرب في أفغانستان تمهيدا لتأسيس جناح عسكري يحميها من اعتداءات الأمن، وأطلقت مجلتها "المرابطون" من بيشاور عام 1990.


الثأر وغياب الاستراتيجية

لم تكن الجماعة تبغي الوصول للحكم إنما كنت تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن ثم لم تقدم في أدبياتها رؤية واضحة لوسيلة تغيير محددة تتبناها، وخاضت صراعها مع النظام ردا على تجاوزات الأمن تجاه أفرادها، وللضغط من أجل تنفيذ طلباتها، والتي تمثلت في إيقاف التعذيب والمحاكمات العسكرية والإفراج عن المعتقلين والرهائن من أهالي عناصرها، والسماح بحرية العمل الدعوي.

نفذت الجماعة أولى عملياتها الثأرية الكبرى في ديسمبر عام 1989 بمحاولة اغتيال وزير الداخلية زكي بدر بواسطة عربة مفخخة، وسرعان ما اغتال الأمن المتحدث الإعلامي للجماعة د.علاء محيي الدين عاشور في سبتمبر 1990 أثناء سيره في الشارع بالجيزة، فأصدرت الجماعة بيانا بعنوان (ومضى عهد الكلام) ثم ردت في 12 أكتوبر 1990 باغتيال رئيس مجلس الشعب "رفعت المحجوب" وتصفية حراسه على كورنيش النيل، وصار خطاب الثأر حاضرا في بيانات الجماعة وممارساتها، فتعهدت بالانتقام من اعتداء أجهزة الأمن على زوجات قادتها المتهمين باغتيال المحجوب في بيان بعنوان (لبيك يا أختاه)(18) قائلة (لبيكن سنثأرن ، لبيكن سننتقم) كما قتلت عام 1993 فرد الشرطة الذي قتل "شعبان راشد" قبل سنوات.

ويمكن تحديد ملامح العمل العسكري لدى الجماعة في المحاور التالية:

استهداف رموز النظام السياسية والأمنية والثقافية

قتلت الجماعة رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب عام1990 و المفكر العلماني فرج فودة عام 1992، واللواء رؤوف خيرت مسئول التطرف الديني بأمن الدولة عام 1994،واستهدفت وزير الإعلام صفوت الشريف عام 1993 مما أدى لإصابته، وأصابت الأديب نجيب محفوظ عام 1994، واستهدفت حسني مبارك عدة مرات من أبرزها في أديس أبابا عام 1995.

استهداف ضباط وأفراد الشرطة بالصعيد(19)

نظرا لثقل الجماعة بالصعيد فقد ركزت عملياتها ضد عناصر الشرطة به، وبالأخص في أسيوط التي بلغ عدد قتلى الشرطة فيها خلال عامي (1992- 1993) قرابة 43 شرطيا بينهم 7 ضباط منهم مساعد مدير الأمن اللواء محمد الشيمي، ومفتش الداخلية العميد محمد طعيمة، ورئيس مكتب أمن الدولة بديروط المقدم مهران عبدالرحيم. كما امتدت عملياتها إلى محافظة المنيا وبالأخص مدينة ملوي.

استهداف السياح والأقباط للضغط على النظام

بدأت الجماعة باستهداف البواخر السياحية وأتوبيسات نقل السياح في الصعيد بإطلاق النيران عليها بدءا من أكتوبر عام 1992، وشنت هجوما دمويا على أتوبيس سياحي أمام فندق أوربا بالهرم عام 1996 مما أدى لمصرع 18 سائحا ، كما نفذ 6 من عناصرها هجوما واسعا عام 1997 على معبد حتشبسوت بالأقصر مما أسفر عن مقتل 58 سائحا، بالإضافة إلى استهداف المواطنين النصارى في عدة هجمات مثل قتل 14 قبطيا في قرية صنبو بأسيوط عام 1992، وقتل 9 أقباط في الهجوم على كنيسة ماري جرجس بأبي قرقاص عام 1997.

انهاك الجماعة وتجربة المراجعات

أدت عمليات الجماعة إلى ازدياد البطش الأمني ضدها، فاقتحم الأمن مساجدها الكبرى كمسجد الرحمن(20) بأسوان والرحمة بأسيوط ، واعتقل قرابة 20 ألف من أعضائها والمتعاطفين معهم، وقتل 434 من أعضاءها في مواجهات خلال الفترة الممتدة من عام 1993 إلى 1997(21) فضلا عن إعدام العشرات(22) من عناصرها إثر محاكمات عسكرية، بالإضافة إلى مقتل المئات منهم في السجون نتيجة التعذيب والإهمال الطبي، كما تعرض معتقلوها لأبشع أنواع التعذيب اليومي في السجون، ومنعوا من رؤية أهاليهم لأعوام طويلة، فضلا عن تعرض الجماعة لهزة قوية باختطاف مسئولها خارج مصر طلعت فؤاد قاسم عام 1995 من كرواتيا على يد المخابرات الأمريكية وتسليمه إلى مصر ليختفي إلى الأبد، بالتوازي مع التضييق على ملاذات الجماعة الآمنة بالسودان وأفغانستان.

لم تحظ الجماعة بدعم شعبي أثناء صراعها مع النظام، بل وتعرضت للنقد الحاد من قبل العديد من الجماعات والتيارات الإسلامية الأخرى. ووصلت عمليا إلى حائط مسدود، فأعلن القادة التاريخيون للجماعة داخل السجون مبادرة لوقف العنف من طرف واحد عام 1997، وأجبروا رئيس مجلس شورى الجماعة بالخارج رفاعي طه(23) على الاستقالة من منصبه عقب تبنيه لحادثة الأقصر التي وقعت عقب إعلانهم المبادرة، كما أجبروه على سحب تأييده لإنشاء الجبهة العالمية لمواجهة اليهود والصليبيين عام 1998 بالتعاون مع بن لادن والظواهري.

مثلت أحداث سبتمبر 2001 طوق النجاة للجماعة، إذ سارع الأمن المصري لتفعيل المبادرة منعا لتشكل بؤر داخل الجماعة تتعاطف مع تنظيم القاعدة ، فصدرت في يناير 2002 أولى المراجعات الخاصة بالجماعة على هيئة 4 كتب يفند فيها قادة الجماعة أطروحاتهم وممارساتهم السابقة، ثم تلاحقت إصداراتهم التي انتقدوا فيها تنظيم القاعدة. وبدأ خروج عناصرها من السجون بشكل تدريجي خلال السنوات التالية مع تقييد حريتهم في العمل العام ، بينما لم يخرج عبود وطارق الزمر إلا بعد الثورة نظرا لمطالبتهما بالسماح لهما بالعمل السياسي.

عقب الثورة أطاحت الجماعة في انتخاباتها الداخلية بكرم زهدي وناجح إبراهيم وحمدي عبدالرحمن وفؤاد الدواليبي من قيادتها، وتولى إمارة الجماعة "عصام دربالة"، كما أسست حزب (البناء والتنمية). وفازت بخمسة عشر مقعدا من مقاعد مجلس النواب في انتخابات 2011. وبدأت الجماعة تعود للمشهد العام مجددا، وإن كان تأثيرها تراجع بشكل كبير نتيجة المدة الطويلة التي قضاها معظم قادتها وأفرادها بالسجون مما أثر على متطلباتهم الحياتية، ولوجود خلافات بينية حول المبادرات وحجم التنازلات الذي قدمته الجماعة فيها، بالإضافة لعدم القدرة على تجديد دماء الجماعة بعناصر شبابية جديدة.

عقب الانقلاب العسكري منتصف 2013 انضمت الجماعة إلى تحالف دعم الشرعية، وتعرض العديد من قادتها وكوادرها للاعتقال مجددا، بل ومات بعضهم في السجون مثل أمير الجماعة "عصام دربالة" والقيادي "عزت السلاموني"، بينما سافر معظم قادة جناحها العسكري السابق إلى خارج مصر، وقُتل أبرزهم الشيخ "رفاعي طه" في الشام عام 2016 بغارة أمريكية. ومازالت تتعرض الجماعة داخل مصر لتهديدات مستمرة بحظر حزبها وتصفية نشاطها. وتظل تجربتها تجربة فريدة تقارب 45 سنة، تعرضت خلالها لضربات أمنية كاسحة، ومرت بتحولات وتطورات متنوعة تستحق التأمل والاستفادة من عبرها ودروسها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - في أحداث 15 مايو تم القبض على رئيس المخابرات العامة أحمد كامل ورئيس المباحث العامة "أمن الدولة" حسن طلعت.
2- عبدالمنعم أبوالفتوح- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص67– ط. دار الشروق.
3 - مهندس خريج جامعة أسيوط- من أقدم مؤسسي الجماعة الإسلامية منذ عام 1972.
4- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص47، بينما يذكر صلاح هاشم في حوار مع موقع إسلام أون لاين بتاريخ 2 أكتوبر 2010 أن اللجنة الدينية تأسست عام 1972 وتحول اسمها إلى الجماعة الإسلامية عام 1975.
5- شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص65.
6- حوار صلاح هاشم مع موقع إسلام أون لاين.
7 - لمزيد من التفاصيل انظر : أبوالعلا ماضي (جماعات العنف المصرية وتأويلاتها للإسلام) - ط. مكتبة الشروق الدولية.
8- انظر: شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية – ص91.
9- اسمه "عنتر كمال".
10 - مجلة "المرابطون" – عدد 1 – مايو 1990 - مقال "الإرهاب فرض والقوة واجبة".
11 - استصدر قادة الجماعة فتوى من الشيخ عمر عبدالرحمن بجواز الاستيلاء على أموال تجار الذهب النصارى الداعمين للكنيسة في ظل أجواء الفتنة الطائفية آنذاك ، ففي أحداث الزاوية الحمراء في يونيو ١٩٨١ قُتل ١٧ شخصا وإصابة ٥٠ آخرين، وبالفعل قاد "علي الشريف" عملية السطو على محلات عدد من تجار الذهب بقنا في 26 يونيو 1981.
12- مجلة المرابطون- العدد 6 – ص24.
13- لمزيد من التفاصيل انظر "ميثاق العمل الإسلامي" – نسخة الكترونية على موقع منبر التوحيد والجهاد.
14- للاطلاع على تنظير الجماعة الشرعي لهذه الممارسات انظر: مجلة المرابطون- العدد1- مقال (الإرهاب فرض والقوة واجبة).
15 - تصريح لوزير الداخلية السابق حسن الألفي – خارج السلطة وأسرار الداخل- ص25 – ط. المكتب العربي للمعارف.
16 - مجلة "المرابطون" – عدد 8 – شهر ديسمبر1990 – ص49.
17 - حتمية المواجهة – نسخة إلكترونية.
18 - مجلة "المرابطون" – العدد 9- شهر يناير 1991 – ص36.
19 - لمزيد من التفاصيل انظر : أحمد عمر – أسيوط مدينة النار- ط.سفنكس للنشر والتوزيع.
20- قتل الأمن في اقتحام مسجد الرحمن بأسوان 8 من أعضاء الجماعة واعتقل 100 آخرين.
21- وزير الداخلية حسن الألفي – مصدر سابق – ص85.
22- أعدم 88 عنصرا من الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في عهد مبارك، وفقا لدراسة رسمية نشرتها وزارة الداخلية المصرية عام 2012 بعنوان ( مكافحة التطرف والإرهاب وأسلوب المواجهة الفكرية) – إعداد الرائد "محمد حمزة".
23 - قتل بغارة أمريكية في سوريا عام 2016
‏١٦‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٧:١٧ م‏
ملامح خطة عامة للأمة الإسلامية @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الأخير كاملاً https://goo.gl/zPZ8Pj] منذ سمعت أبيات الشعر هذه حتى حفظتها في لحظتها، كانت قوية ومعبرة عن حال الأمة إلى الحد الذي تخترق فيه القلب والعقل معا: قد استردَّ السبايا كلُّ منهزمٍ .. لم يبق في أسرها إلا سبايانا وما رأيت سياط الظلم دامية .. إلا رأيتُ عليها لحم قتلانا وما نموت على حدِّ الظُبا أنَفًا .. حتى لقد خجلت منا منايانا كان أكثرها قسوة هذا البيت الأخير، فهو يُصَوِّر الأمة وكأنها في هروب جماعي من تكاليف البذل والجهاد والعطاء، والعدو من ورائها بسلاحه يقتنص ويلتقط وينتقي القتلى والأسرى والسبايا، حتى إن تلك الميتات قد خجلت أن تقع. وبعيدا عن لغة الشعر والأدب، ومدى مبالغاتها ومفارقتها للحقيقة، فالمهم الآن أن الأمة لم تعد تموت وهي مدبرة، بل هي تخوض أشرف المعارك وتحاول التحرر رغم الثقل الشديد للاستبداد المحلي والطغيان العالمي وما أسفرت عنه سنين الاستبداد والاحتلال من فجوة هائلة علمية وعسكرية وسياسية واقتصادية. فلئن كانت الأمة لا تزال تعاني القتل والأسر –كما يصور البيت الأول والثاني- فإنها لم تعد تهرب من المواجهة، بل يموت شبابها وهم مقبلون لا مدبرون، يدفعون ثمن التحرر من أرواحهم ودمائهم وأموالهم وأهلهم.. على أن كثرة التضحيات لا تناسب الحصاد والثمرات، لا سيما ونحن لا نزال في بداية طريق التحرر، ولا تزال عصور الملاحم قادمة، فالعدو الذي ربض على أرضنا ويتمتع بخيراتنا سيبذل كل ما لديه من طاقة بكل ما فيها من التوحش والشيطانية لئلا نتحرر [راجع: مكافحة الوهم https://goo.gl/jJwjhx وطبقات الاستبداد https://goo.gl/5QD1Hg]. أسباب عديدة تجعل التضحيات أكثر بكثير من المردود، منها الجهل بالواقع وبالسياسة وبالنظام العالمي وأساليبه وبالتاريخ والتجارب السابقة، ومنها حظ النفوس في السلطة والإمارة والوجاهة، ومنها الغلو والإفراط الذي يشوش الرؤية ويستثير الأعداء، ومنها افتقاد الخطة والمشروع والاكتفاء بمنطق رد الفعل... أمور كثيرة، نركز منها في هذا المقال على: الخطة العامة للأمة الإسلامية. 1.نظرة عامة كبرى تعاني الأمة استضعافا عاما، من أقصى مشرقها إلى أقصى مغربها، إلا أن التفكير في الإصلاح لن يكون بالسعي وراء كل فرد في هذه الأمة المليارية لنصلحه، إن اتساع المكان وكثرة البشر فضلا عن تجارب الأمم لا تقول بهذا. يصوغ بعضهم "نظرية العواصم"، ومعناها ببساطة في موضوعنا هذا، أن كل هذه الأمة المليارية يمكن إصلاح أحوالها عبر إصلاح أحوال مناطق معينة رئيسية مركزية منها، فنحن إن اجتهدنا في تحديد أهم البلدان التي تصلح بصلاحها مناطق واسعة سنكون قد اختصرنا الطريق كثيرا. ثم لو استطعنا تحديد العواصم المركزية الملهمة في تلك البلاد فسنكون قد اختصرنا الأمة المليارية في مدن محددة. بعد تفكير وبحث طويل مع العديد من عقول الأمة الذين التقيتهم عبر السنوات الماضية، كانت الآراء تؤول إلى هذه المدن الست: القاهرة، مكة، اسطنبول، دمشق، بغداد، الجزائر. هنا مفاصل الأمة ومراكزها وعواصمها، إن استطاعت الأمة تحرير هذه العواصم وإقامة دول مستقلة تملك قرارها وتستطيع حماية نفسها، فهي قد خطت أكثر من نصف الطريق نحو التحرر النهائي للأمة. ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن هذه العواصم هي أواخر ما سقط من الأمة في رحلة الاحتلال الغربي التي بدأت قبل 500 عام ولا تزال مستمرة، لكنها أخذت في قضم أطراف الأمة، حتى كان سقوط كل عاصمة من هذه ضربة هائلة. تبدو اسطنبول الآن أقرب هذه العواصم للتحرر ولامتلاك قرارها، وكانت ليلة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ليلة للأمة كلها. مثلما كانت ليلة فوز الرئيس مرسي وليلة الانقلاب العسكري عليه ليلة للأمة كلها. وقد التقيت من أقليات الصين وإفريقيا وأوروبا ما أدهشني وأفزعني في الوقت نفسه: لم أكن أتخيل أن الانقلاب على مرسي في مصر قد ألقى بآثار بعيدة على المسلمين في الصين وأدغال إفريقيا والأقليات في أوروبا وروسيا والأمريكتين أيضا. تلك العواصم ذات أثر هائل بعيد في كل الأمة، بما لها من عمق تاريخي وحضور ثقافي وقوة بشرية وموقع استراتيجي.. وهو أمر يعرفه العدو ربما أكثر مما نعرفه نحن، ولذلك فمعركة التحرر في هذه العواصم هي أصعب وأعسر المعارك الحضارية الكبرى. ولذلك لا يجدي الهروب منها بحال فإنها واقعة لا محالة، ولا بديل عنها، اللهم إلا إذا تخيل أحد أنه بالإمكان –تجنبا لمعركة التحرر- هداية مليار ونصف المليار شخص كل على حدة، هذا مع أنهم إذا اهتدوا فسيخوضون المعركة أيضا مع الاحتلال الأجنبي الرابض! 2. الفرصة السانحة لئن كانت تلك العواصم مؤثرة في الأمة كلها فإن من حقائق الواقع أنه قد صارت لكل بلد منها مع طول فترة انقسام الأمة ظروفها ومشكلاتها وأوضاعها التي تجعل بعضها أقرب من بعض إلى لحظة الثورة والتحرر والتغيير. ولذلك بقدر ما تبدو عواصم كدمشق والقاهرة أقرب إلى إمكانية التحرر، تبدو عواصم أخرى أبعد في المدى المنظور كبغداد والجزائر، ويثور الخلاف حول مكة ما إن كانت قريبة أم بعيدة. في تقديري أن أهم عاصمة مرشحة الآن لحصول التغيير فيها هي القاهرة، بل إن مجرد انفلات القاهرة من الهيمنة الأجنبية الغربية هو بحد ذاته مسكب واسع للأمة وخسارة واسعة لعدوها، [راجع: عاصمة الثورة https://goo.gl/N1JSKa] ولهذا فالمعركة حولها ستكون هائلة، لكن كثيرا من الأوضاع الطبيعية والظرفية تجعل الأمر أسهل من أوقات كثيرة مضت: فمن الأوضاع الطبيعية: أن القاهرة تختزل كل مصر، ولذلك ثورة مصر تندلع في القاهرة وتنتهي في القاهرة، لا كغيرها من البلدان التي ربما تقضي الثورة سنين قبل أن تصل إلى العاصمة. ومن الأوضاع الطبيعية أن الثورات فيها لا تطول لطبيعة القاهرة وناسها وطبيعة موقعها الجغرافي العالمي الذي يجعل كثيرا من الأطراف تحرص وتنحو إلى التهدئة. ومن الأوضاع الظرفية وجود ثورة لم تنطفئ ولا يزال طيفها يداعب الخيال ويغري بالتكرار لدى كثيرين، ووجود حالة سخط شعبية عارمة على السيسي ونظامه، ولا تزال قوات الأمن والجيش غير محترفة ولا يمكنها الصمود في معركة شعبية غير سلمية، والبديل المتوقع في مصر ليس خطرا جذريا على المصالح الأجنبية والنظام العالمي بما يجعل الدفع الأجنبي مائلا نحو استكشاف البدائل واختبارها لا نحو إشعال معركة دموية حفاظا على السيسي. مجرد اهتزاز النظام العسكري في مصر يساوي ما يشبه انقلابا في الخريطة السياسية الإقليمية، ويلقي بآثاره على غزة وليبيا والسودان والخليج والشام وتركيا، أما لو توقعنا بأن الثورة استطاعت تحرير مصر فسنكون في مستوى آخر من الآمال والتطلعات، ويكفي فقط أن يتكون محور مصري تركي ليكون هذا بداية وجود الأمة كفاعل على المستوى الدولي [راجع خلاصة هذه الدراسة https://goo.gl/ihRaet]. 3. ما يلزم حركة التغيير أحسب أن لو كان للأمة خليفة يستطيع تجنيد طاقة الأمة في معركة بعينها لم يكن أمامه إلا معركة مصر في الوقت الحالي. ولو أن كل صاحب طاقة ومجهود في خدمة الإسلام أنفق من طاقته في معركة الثورة المصرية لعاد عليه هذا بأكثر مما يعود على المستثمر ما ينفقه في المشروع التجاري والمالي. أهم ما تحتاجه حركة التغيير في مصر قيادة ثورية راشدة، تجمع بين الفهم للواقع وضغوطه وإكراهاته مع تمتعها بحلم كبير وأمل واسع وثقة في الأمة وقدراتها، فالأمة لم تخذل قيادة ناصحة راشدة من قبل، بل الأمة تفاجئنا في كل مرة بما لم نكن نتوقع. ويجب أن يكون لهذه القيادة جهاز أمني، يجمع المعلومات ويضعها في صورة الواقع، فلا تكون كالتي تضرب وتخبط خبط عشواء لا تدري أين تضرب ولا من تصالح، من تعادي ومن تصادق ومن تتجاهل، فلا تقع بهذا تحت طائلة التضليل والإشاعات ولا تحت قصف الإعلام ونباحيه ولا تحت خيالات وتصورات المتفلسفة والمنظرين الذين تكونت أفكارهم من الكتب والأكاديميات وحدها، فأولئك ولو كانوا مخلصين وقامات علمية إلا أن حظهم من معالجة الواقع ضئيل ومضلل أيضا. إذا وُجِد هذان فما سواهما أهون وأيسر، فالطاقات المطلوبة موجودة في الأمة لكنها كالمتناثرة لا تجد الخيط الجامع لها، ولا الملتقي الذي تتكامل فيه.. وصحيحٌ أن الناس كإبل المائة لا تجد فيها راحلة، إلا أن أمتنا أكثر من مليار ونصف المليار، ولهذا فرواحلها ملايين الرواحل. إذا تمكنت هذه القيادة من تقديم خطاب إسلامي جامع، يجمع بين الرشد والنضج وبين التمسك والحماسة له، وسارت برؤية تهدف إلى تمكين المجتمع وإخراجه من عبودية "السلطة/ الدولة" [راجع طبقات الاستبداد https://goo.gl/R2AfXr] فهنا يكون قد بدأ طريق نهوض الأمة الإسلامية. بهذا التصور يمكن لجميع المتشوقين لنهضة الأمة أن يكون له عمل ودور، في مجاله وتخصصه، في جمع المعلومات وتكوين خريطة المجتمع والنافذين فيه وشبكة العلاقات المهيمنة عليه وامتداداتها الخارجية والداخلية، في فهم وترتيب الأولويات المتعلقة بإصلاح كل مجال، في صياغة الخطاب الدعوي والإعلامي والسياسي والخارجي لمختلف الشرائح والفئات.. كل هذه الملفات ستشتد الحاجة إليها وسيتلهف عليها كل ساعٍ للإصلاح، وكلما صيغت الحلول على أنماط مجتمعية لا على قرارات سلطوية كلما كان تنفيذها أيسر وأسرع، وكلما رفع عبئها عن تلك القيادة المنتظرة. ولعلنا في يوم قريب نهجر قول الشاعر الذي افتتحنا به المقال، لننشد مع الشاعر الآخر: يا أمة الإسلام فجرك نوَّرا .. والروض في ساحات مجدك أزهرا سُحُب المعالي في سمائك أمطرت .. غيثا، وأجرت في رحابك أنهرا نشرت رياحك في جوانب كوننا .. أمنا، وإيمانا، وفكر نيِّرا لبست به الأشجار ثوبا مورقا .. وغدت به الصحراء روضا أخضرا
ملامح خطة عامة للأمة الإسلامية
محمد إلهامي

[لتحميل العدد الأخير كاملاً https://goo.gl/zPZ8Pj]

منذ سمعت أبيات الشعر هذه حتى حفظتها في لحظتها، كانت قوية ومعبرة عن حال الأمة إلى الحد الذي تخترق فيه القلب والعقل معا:

قد استردَّ السبايا كلُّ منهزمٍ .. لم يبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية .. إلا رأيتُ عليها لحم قتلانا
وما نموت على حدِّ الظُبا أنَفًا .. حتى لقد خجلت منا منايانا

كان أكثرها قسوة هذا البيت الأخير، فهو يُصَوِّر الأمة وكأنها في هروب جماعي من تكاليف البذل والجهاد والعطاء، والعدو من ورائها بسلاحه يقتنص ويلتقط وينتقي القتلى والأسرى والسبايا، حتى إن تلك الميتات قد خجلت أن تقع.

وبعيدا عن لغة الشعر والأدب، ومدى مبالغاتها ومفارقتها للحقيقة، فالمهم الآن أن الأمة لم تعد تموت وهي مدبرة، بل هي تخوض أشرف المعارك وتحاول التحرر رغم الثقل الشديد للاستبداد المحلي والطغيان العالمي وما أسفرت عنه سنين الاستبداد والاحتلال من فجوة هائلة علمية وعسكرية وسياسية واقتصادية. فلئن كانت الأمة لا تزال تعاني القتل والأسر –كما يصور البيت الأول والثاني- فإنها لم تعد تهرب من المواجهة، بل يموت شبابها وهم مقبلون لا مدبرون، يدفعون ثمن التحرر من أرواحهم ودمائهم وأموالهم وأهلهم..

على أن كثرة التضحيات لا تناسب الحصاد والثمرات، لا سيما ونحن لا نزال في بداية طريق التحرر، ولا تزال عصور الملاحم قادمة، فالعدو الذي ربض على أرضنا ويتمتع بخيراتنا سيبذل كل ما لديه من طاقة بكل ما فيها من التوحش والشيطانية لئلا نتحرر [راجع: مكافحة الوهم
https://goo.gl/jJwjhx وطبقات الاستبداد https://goo.gl/5QD1Hg].

أسباب عديدة تجعل التضحيات أكثر بكثير من المردود، منها الجهل بالواقع وبالسياسة وبالنظام العالمي وأساليبه وبالتاريخ والتجارب السابقة، ومنها حظ النفوس في السلطة والإمارة والوجاهة، ومنها الغلو والإفراط الذي يشوش الرؤية ويستثير الأعداء، ومنها افتقاد الخطة والمشروع والاكتفاء بمنطق رد الفعل... أمور كثيرة، نركز منها في هذا المقال على: الخطة العامة للأمة الإسلامية.

1.نظرة عامة كبرى

تعاني الأمة استضعافا عاما، من أقصى مشرقها إلى أقصى مغربها، إلا أن التفكير في الإصلاح لن يكون بالسعي وراء كل فرد في هذه الأمة المليارية لنصلحه، إن اتساع المكان وكثرة البشر فضلا عن تجارب الأمم لا تقول بهذا.

يصوغ بعضهم "نظرية العواصم"، ومعناها ببساطة في موضوعنا هذا، أن كل هذه الأمة المليارية يمكن إصلاح أحوالها عبر إصلاح أحوال مناطق معينة رئيسية مركزية منها، فنحن إن اجتهدنا في تحديد أهم البلدان التي تصلح بصلاحها مناطق واسعة سنكون قد اختصرنا الطريق كثيرا. ثم لو استطعنا تحديد العواصم المركزية الملهمة في تلك البلاد فسنكون قد اختصرنا الأمة المليارية في مدن محددة.

بعد تفكير وبحث طويل مع العديد من عقول الأمة الذين التقيتهم عبر السنوات الماضية، كانت الآراء تؤول إلى هذه المدن الست: القاهرة، مكة، اسطنبول، دمشق، بغداد، الجزائر.

هنا مفاصل الأمة ومراكزها وعواصمها، إن استطاعت الأمة تحرير هذه العواصم وإقامة دول مستقلة تملك قرارها وتستطيع حماية نفسها، فهي قد خطت أكثر من نصف الطريق نحو التحرر النهائي للأمة. ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن هذه العواصم هي أواخر ما سقط من الأمة في رحلة الاحتلال الغربي التي بدأت قبل 500 عام ولا تزال مستمرة، لكنها أخذت في قضم أطراف الأمة، حتى كان سقوط كل عاصمة من هذه ضربة هائلة.

تبدو اسطنبول الآن أقرب هذه العواصم للتحرر ولامتلاك قرارها، وكانت ليلة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ليلة للأمة كلها. مثلما كانت ليلة فوز الرئيس مرسي وليلة الانقلاب العسكري عليه ليلة للأمة كلها. وقد التقيت من أقليات الصين وإفريقيا وأوروبا ما أدهشني وأفزعني في الوقت نفسه: لم أكن أتخيل أن الانقلاب على مرسي في مصر قد ألقى بآثار بعيدة على المسلمين في الصين وأدغال إفريقيا والأقليات في أوروبا وروسيا والأمريكتين أيضا.

تلك العواصم ذات أثر هائل بعيد في كل الأمة، بما لها من عمق تاريخي وحضور ثقافي وقوة بشرية وموقع استراتيجي.. وهو أمر يعرفه العدو ربما أكثر مما نعرفه نحن، ولذلك فمعركة التحرر في هذه العواصم هي أصعب وأعسر المعارك الحضارية الكبرى. ولذلك لا يجدي الهروب منها بحال فإنها واقعة لا محالة، ولا بديل عنها، اللهم إلا إذا تخيل أحد أنه بالإمكان –تجنبا لمعركة التحرر- هداية مليار ونصف المليار شخص كل على حدة، هذا مع أنهم إذا اهتدوا فسيخوضون المعركة أيضا مع الاحتلال الأجنبي الرابض!

2. الفرصة السانحة

لئن كانت تلك العواصم مؤثرة في الأمة كلها فإن من حقائق الواقع أنه قد صارت لكل بلد منها مع طول فترة انقسام الأمة ظروفها ومشكلاتها وأوضاعها التي تجعل بعضها أقرب من بعض إلى لحظة الثورة والتحرر والتغيير. ولذلك بقدر ما تبدو عواصم كدمشق والقاهرة أقرب إلى إمكانية التحرر، تبدو عواصم أخرى أبعد في المدى المنظور كبغداد والجزائر، ويثور الخلاف حول مكة ما إن كانت قريبة أم بعيدة.

في تقديري أن أهم عاصمة مرشحة الآن لحصول التغيير فيها هي القاهرة، بل إن مجرد انفلات القاهرة من الهيمنة الأجنبية الغربية هو بحد ذاته مسكب واسع للأمة وخسارة واسعة لعدوها، [راجع: عاصمة الثورة
https://goo.gl/N1JSKa]

ولهذا فالمعركة حولها ستكون هائلة، لكن كثيرا من الأوضاع الطبيعية والظرفية تجعل الأمر أسهل من أوقات كثيرة مضت:

فمن الأوضاع الطبيعية: أن القاهرة تختزل كل مصر، ولذلك ثورة مصر تندلع في القاهرة وتنتهي في القاهرة، لا كغيرها من البلدان التي ربما تقضي الثورة سنين قبل أن تصل إلى العاصمة. ومن الأوضاع الطبيعية أن الثورات فيها لا تطول لطبيعة القاهرة وناسها وطبيعة موقعها الجغرافي العالمي الذي يجعل كثيرا من الأطراف تحرص وتنحو إلى التهدئة.

ومن الأوضاع الظرفية وجود ثورة لم تنطفئ ولا يزال طيفها يداعب الخيال ويغري بالتكرار لدى كثيرين، ووجود حالة سخط شعبية عارمة على السيسي ونظامه، ولا تزال قوات الأمن والجيش غير محترفة ولا يمكنها الصمود في معركة شعبية غير سلمية، والبديل المتوقع في مصر ليس خطرا جذريا على المصالح الأجنبية والنظام العالمي بما يجعل الدفع الأجنبي مائلا نحو استكشاف البدائل واختبارها لا نحو إشعال معركة دموية حفاظا على السيسي.

مجرد اهتزاز النظام العسكري في مصر يساوي ما يشبه انقلابا في الخريطة السياسية الإقليمية، ويلقي بآثاره على غزة وليبيا والسودان والخليج والشام وتركيا، أما لو توقعنا بأن الثورة استطاعت تحرير مصر فسنكون في مستوى آخر من الآمال والتطلعات، ويكفي فقط أن يتكون محور مصري تركي ليكون هذا بداية وجود الأمة كفاعل على المستوى الدولي [راجع خلاصة هذه الدراسة
https://goo.gl/ihRaet].

3. ما يلزم حركة التغيير

أحسب أن لو كان للأمة خليفة يستطيع تجنيد طاقة الأمة في معركة بعينها لم يكن أمامه إلا معركة مصر في الوقت الحالي. ولو أن كل صاحب طاقة ومجهود في خدمة الإسلام أنفق من طاقته في معركة الثورة المصرية لعاد عليه هذا بأكثر مما يعود على المستثمر ما ينفقه في المشروع التجاري والمالي.

أهم ما تحتاجه حركة التغيير في مصر قيادة ثورية راشدة، تجمع بين الفهم للواقع وضغوطه وإكراهاته مع تمتعها بحلم كبير وأمل واسع وثقة في الأمة وقدراتها، فالأمة لم تخذل قيادة ناصحة راشدة من قبل، بل الأمة تفاجئنا في كل مرة بما لم نكن نتوقع.
ويجب أن يكون لهذه القيادة جهاز أمني، يجمع المعلومات ويضعها في صورة الواقع، فلا تكون كالتي تضرب وتخبط خبط عشواء لا تدري أين تضرب ولا من تصالح، من تعادي ومن تصادق ومن تتجاهل، فلا تقع بهذا تحت طائلة التضليل والإشاعات ولا تحت قصف الإعلام ونباحيه ولا تحت خيالات وتصورات المتفلسفة والمنظرين الذين تكونت أفكارهم من الكتب والأكاديميات وحدها، فأولئك ولو كانوا مخلصين وقامات علمية إلا أن حظهم من معالجة الواقع ضئيل ومضلل أيضا.

إذا وُجِد هذان فما سواهما أهون وأيسر، فالطاقات المطلوبة موجودة في الأمة لكنها كالمتناثرة لا تجد الخيط الجامع لها، ولا الملتقي الذي تتكامل فيه.. وصحيحٌ أن الناس كإبل المائة لا تجد فيها راحلة، إلا أن أمتنا أكثر من مليار ونصف المليار، ولهذا فرواحلها ملايين الرواحل.

إذا تمكنت هذه القيادة من تقديم خطاب إسلامي جامع، يجمع بين الرشد والنضج وبين التمسك والحماسة له، وسارت برؤية تهدف إلى تمكين المجتمع وإخراجه من عبودية "السلطة/ الدولة" [راجع طبقات الاستبداد
https://goo.gl/R2AfXr] فهنا يكون قد بدأ طريق نهوض الأمة الإسلامية.

بهذا التصور يمكن لجميع المتشوقين لنهضة الأمة أن يكون له عمل ودور، في مجاله وتخصصه، في جمع المعلومات وتكوين خريطة المجتمع والنافذين فيه وشبكة العلاقات المهيمنة عليه وامتداداتها الخارجية والداخلية، في فهم وترتيب الأولويات المتعلقة بإصلاح كل مجال، في صياغة الخطاب الدعوي والإعلامي والسياسي والخارجي لمختلف الشرائح والفئات.. كل هذه الملفات ستشتد الحاجة إليها وسيتلهف عليها كل ساعٍ للإصلاح، وكلما صيغت الحلول على أنماط مجتمعية لا على قرارات سلطوية كلما كان تنفيذها أيسر وأسرع، وكلما رفع عبئها عن تلك القيادة المنتظرة.
ولعلنا في يوم قريب نهجر قول الشاعر الذي افتتحنا به المقال، لننشد مع الشاعر الآخر:

يا أمة الإسلام فجرك نوَّرا .. والروض في ساحات مجدك أزهرا
سُحُب المعالي في سمائك أمطرت .. غيثا، وأجرت في رحابك أنهرا
نشرت رياحك في جوانب كوننا .. أمنا، وإيمانا، وفكر نيِّرا
لبست به الأشجار ثوبا مورقا .. وغدت به الصحراء روضا أخضرا
‏١٤‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٦:٢١ م‏
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (04) الصغير @[100001613664823:2048:منير] [لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj] كانت نقاط قوة الجبهة الإسلامية كثيرة، بعضها تمّ استثماره بشكل جيّد وإلى أبعد الحدود، وبعضها لم يحظ بالمتابعة والتوجيه لتكون نتائجه أفضل وأعمق. من القضايا التي تنبّهت لها الجبهة تأسيسها ل(الرابطة الإسلاميّة للطلبة)، خريف عام 1990، بعد انتخابات المجالس البلدية والولائيّة. وقد كان حضور هذه الرابطة الطلابيّة قويّا ومؤثّرا وانتسب إليها آلاف من الطلبة، حتى ممّن لم يكونوا منخرطين في الجبهة سياسيّا. وقد كانت مطالب الرابطة مثل كل الاتّحادات الطلابية ذات علاقة مباشرة بحياة الطلبة ومشاغلهم الاجتماعية والمعيشية في الأحياء الجامعيّة وبقضاياهم التعليمية ي معاهدهم وكلّياتهم. ولم يكن حضور الرابطة بالقوة نفسها في كلّ الجامعات، فقد كان في بعضها أقوى من بعض بحسب نشاط وفعالية المنتسبين إليها. وكان غالبية الطلبة ومديري الجامعات والمعاهد يعلمون صلتها بالجبهة الإسلامية ولكنّ ذلك لم يكن مهمّا لأنّها كانت قدّمت وثائق اعتمادها إلى وزارة الداخليّة التي تثاقلت عن اعتماد الرابطة قانونيا حتى حدث الانقلاب عام 92 وأصبحت بذلك تنظيما غير قانوني يعاقب كلّ من ينتسب إليه أو ينشط من خلاله. لقد كانت أبرز محطّة ظهر فيها أداء وفعالية الرابطة هي محطّة الإضراب السياسي، التي استطاع فيه الطلبة المنتسبون إليها تجنيد وحشد الطلبة وتعطيل الدراسة في الجامعات وتنظيم مسيرات داخل الأحياء والكلّيات والخروج في مسيرات من الجامعة إلى خارجها تكثيرا لسواد المضربين والمعتصمين والمشاركين في المسيرات. لم يكن تنظيم الرابطة وهيكلتها قد تمّت بعد، ولم يكن نشاطها مركزيا، فقد كان للمنتسبين إليها في كلّ جامعة حرّية اتّخاذ ما يرونه من قرارات ومواقف، وقد أعجل الرابطة عن أمرها ما أعجل الجبهة من تسارع للأحداث وضغط سياسي وكثرة عددية في غياب رؤية واضحة واستراتيجية للحركة والأداء، فلم يكن للرابطة قيادة وطنية معروفة ولا ناطق رسميّ يعبّر عن مواقفها ولا إصدارات مكتوبة ولم تعقد مؤتمرها التأسيسي، غير أنّها استفادت من الزخم السياسي العام ومن انتصارات الجبهة ومن تذمّر أكثر الطلبة من الاتّحادات الطلابية السابقة التي كان يسيطر عليها بشكل شبه كلي اليساريون والعلمانيّون. كما لم تولِ قيادة الجبهة أيّ اهتمام حقيقيّ بالرابطة من حيث التوجيه والمتابعة والدعم والتنظيم، وهو الأمر الذي حدث مع كلّ التنظيمات والهياكل التابعة للجبهة. وبعد الانقلاب كان حنق أجهزة الأمن على الطلبة كبيرا، فنالهم حظّهم من المطاردات والتضييق والسجون والقتل، وقد التحق عدد كبير جدّا من الطلبة بالعمل المسلّح في الجبال والمدن، وقُتل منهم وسُجن الآلاف زيادة على من فرّوا إلى الخارج لاجئين. لقد كان تأسيس تنظيم طلابي نقطة قوّة للجبهة، ولكنه إنجاز أضعفه الإهمال واللامبالاة من قيادة الجبهة وضعف الخبرة في العمل الطلابي عند الغالبية العظمة من منتسبي الرابطة وتسارع الأحداث بشكل حال دون رسم أي استراتيجية للرابطة يمكّنها من الاستجابة للتحدّيات الكبرى التي كانت تواجهها يومئذ الجزائر سياسيا وثقافيا واجتماعيا ثم أمنيّا وعسكريّا بعد ذلك، وكان غياب الرؤية والتخطيط سببا في ضرب الرابطة وتفكّكها بسرعة بعد الانقلاب وعدم استثمارها في أي حراك احتجاجي رافض للانقلاب أو داعم للأداء السياسيّ للجبهة بَعْدَه. و على منوال الرابطة الإسلاميّة للطلبة تمّ تأسيس (النقابة الإسلاميّة للعمل)، التي كانت النقابة الوحيدة المنافسة والمزاحمة للاتّحاد العام للعمّال الجزائريّين الذي كان ذراع السلطة في كلّ المؤسسات الاقتصاديّة في الجزائر. غير أنّ ما يميّز النقابة الإسلاميّة هو أنّ مؤسسيها كانوا ممّن لهم سابقة في العمل النقابي وخبرة في كواليسه، ممّا جعل أداءه أفضل وأبعد أثرا من أداء رابطة الطلبة. وقد حظيت النقابة بدعم واضح من المكتب الوطني للجبهة بحكم أن عددا من الأعضاء مؤسسيها كانوا أعضاء في مكاتب الجبهة ومجالس شوراها وطنيا وولائيّا، و لأنّ تأثير النقابة كان – ربما - أوضح وأظهر من العمل الطلابي في تصوّر قيادة الجبهة. وقد ظهرت فعالية النقابة الإسلاميّة كذلك في الإضراب السياسيّ، فقد ارتبط مفهوم الإضراب منذ نشأته وتطوّر أساليبه في الغرب بالنقابات العمّاليّة. واستطاعت النقابة تجنيد العمال للمشاركة في الإضراب والخروج في مسيرات ومظاهرات في فترة الإضراب، برغم تفاوت نسب المشاركة بين الولايات وبين المؤسسات الاقتصادية الكبرى والمدارس والثانويات. وهنا يجب أن نسجّل أنّ الجزائريّين لم يعرفوا منذ الاستقلال عملا نقابيا أو طلابيّا مستقلّا عن أذرع السلطة والحزب الواحد، وكانت النقابات والاتّحادات السلطويّة متجذّرة في كل المؤسسات والقطاعات، ممّا يجعل أداء النقابة الإسلامية متميّزا وهي النقابة التي لم يتجاوز عمرها بين التأسيس والإضراب سوى سنة واحدة. وقد كان النظام يشعر بالقلق من تزايد عدد المنتسبين إلى النقابة الإسلاميّة و من حركية أعضائها وفعاليتهم ويخشى من تهميش وإقصاء الأذرع النقابية التي كان يرعاها ويدعمها. وشاركه القلق والخشية اليساريّون والعلمانيّون الذين كانوا ظاهريّا يعارضون النظام، فقد كانوا هم المسيطرين فعليّا على قيادة هذه الكيانات وكان ظهور أي منافس جديد يستمدّ من إيديولوجية وتصورات مخالفة لهم يعتبر تهديدا وجوديا لهم. وقد كان هؤلاء ومن خلفهم النظام يعبّرون عن هذا القلق والخشية عن طريق الجرائد والصحف والتلفزيون والإذاعة العموميين والتي كان نفوذ اليساريين والعلمانيين فيها شبه كلّي باختلاق الإشاعات وترويج التّهم والتشكيك في نسب المشاركين في الإضراب وأعداد المنتسبين للنقابة حتى لا يتوسّع تأثيرها وتستقطب مزيدا من الطبقة العاملة. والنقابة الإسلامية للعمل هي النقابة الوحيدة التي تأسست لتنافس وتزاحم النقابات العمالية التي كان يسيطر عليها اليساريون، وقد تعرضت بعد الانقلاب إلى الحلّ ونال أعضاءها من الاغتيالات والسجن والتضييق ما نال كلّ المنتسبين إلى الجبهة الإسلامية وأذرعها وفروعها، ولم تتأسّس بعدها أيّ نقابة من منطلق إسلاميّ إلى يوم النّاس هذا، برغم انفتاح العمل النقابي والتعددية النقابية التي تشهدها الساحة العمّالية الجزائريّة إذا استثنينا النقابات الصغيرة المتخصصة مثل تنسيقية أساتذة التربية الإسلامية وغيرها. لم يقتصر نشاط الجبهة الإسلامية على العمل الطلابي والعمّالي بل انفتحت على العمل الخيريّ والاجتماعيّ الذي تمثّل خاصّة فيما يسمّيه الجزائريّون ب (أسواق الرحمة) أو (الأسواق الإسلاميّة)، وهي أسواق شعبية صغيرة ومتوسّطة أشرفت عليها مكاتب الجبهة في عواصم الولايات وبلدياتها الكبرى تُعرَض فيها الخضراوات والفواكه والموادّ الغذائية وأحيانا الألبسة بأسعار رخيصة جدّا تكسر كلّ منافسة، وكان القائمون عليها في الغالب شبابا متطوّعين أو يأخذ بعضهم أجرا زهيدا. كانت أسواق الرحمة هذه شيئا جديدا على الجزائريّين لم يألفوا مثيلا له من قبل، وفرح بها واستفاد منها الفقراء والمحتاجون، وأحْيَت روح التكافل والتضامن بين الجزائريّين، وكسرت احتكار التجّار والمضاربين. وكان موقف المزارعين والفلّاحين خاصّة موقفا جميلا ومعبّرا، فقد كانوا يبيعون منتجاتهم للمشرفين على هذه الأسواق بأسعار زهيدة أقلّ بكثير من تلك التي يبيعون بها للتجّار، بل كانوا أحيانا عند وفرة المنتوج يهبونها بلا مقابل ولا يسألون إلا الدعاء بالبركة. وقد بلغ من نزول الأسعار ووفرة المعروض أن أصبح حتى الميسورون من الطبقة المتوسّطة وبعض الأغنياء يقتنون احتياجاتهم من هذه الأسواق. ولم تسلم هذه المبادرة أو التجربة من اللمز والتشويه والتشكيك مثل كلّ المبادرات والمشاريع التي تكون وراءها الجبهة الإسلاميّة خاصّة والتيّار الإسلاميّ عموما. فقد كان الإعلام يكرّر أن الجبهة تستغلّ موارد البلديّات من مقرّات وساحات عرض وشاحنات وسيّارات بلا مقابل، وأنّ الجبهة في مشاريعها تتلقّى دعما وتحيّزا من رؤساء المجالس البلدية والولائية المنتمين إليها، وأنّ البيع في هذه الأسواق يتمّ بصفة غير قانونيّة ومعفى من الضرائب وبدون سجلّات تجارية، وأنّ العمّال في هذه الأسواق غير مؤمّنين والسلع غير مراقبة ....إلخ. بعض هذه الانتقادات صحيح وبعضها تافه وكذب، ولكن الفقراء والمحتاجين لم تكن تهمّهم هذه الإشاعات والاتّهامات بقدر ما كان يهمّهم قوت يومهم وما يسدّون به الرّمق، ولم يكن أعضاء الجبهة الإسلاميّة في الحقيقة يلقون بالا لهذه الاعتبارات وهم يرون مثل كلّ الجزائريّين الفساد المتفشّي في كلّ مؤسسات الدولة، ويعتبرون النظام وما يصدر عنه غير شرعيّ من الأساس، ولم يكلّفوا أنفسهم أصلا الردّ على ما تدّعيه الصحف والجرائد. ورافق تجربة أسواق الرحمة مبادرات أخرى مثل المطاعم الخيريّة و سلّة رمضان وغيرها، وهي مبادرات أقبل المواطنون من كل الفئات على دعمها واحتضانها وتموينها. ولئن كان الجزائريّون منذ سنة 2000 وما بعدها إلى يومنا هذا قد اعتادوا على مثل هذه الأنشطة والمشاريع والمبادرات الخيريّة بحيث لا تكاد تخلو منها بلدية أو مدينة في الجزائر، فإنّها ما بين 1990 إلى 1992 كانت شيئا جديدا تماما على من عايشوا تلك الفترة، بحيث بقيت راسخة في أذهانهم ومشاعرهم سنوات بعد الانقلاب، زيادة على أنها كانت يومئذ مرتبطة بوضوح بمشروع سياسيّ يحاول تقديم نفسه كبديل للنظام القائم وليس مثلما يحدث اليوم وبرغم كل الخير والإحسان والفضل الذي تقدّمه فإنّها مشتتة لا يجمعها رابط ولا يضمّها مشروع ولا تقف وراءها رؤية ولا هدف، سوى سعي أصحابها للأجر والثواب وهو أمر محمود ومطلوب بلا شكّ أو أهداف أخرى لا علاقة لها بدين ولا نُبْل ولا أخلاق. كان التنافس السياسيّ بين الجبهة الإسلاميّة وأعدائها شرسا وعنيفا، وكانت السلطة - ممثلة في حزبها الرئيسيّ : جبهة التحرير الوطني وأذرعها النقابية والمعارضة في شقّها اليساريّ/ اللائكيّ والإعلام الذي كان كلّه تقريبا تحت يد أعداء التيّار التغريبيّ – لا تتورّع عن استخدام أيّ وسيلة تخصم بها من رصيد الجبهة الإسلاميّة أو تحجّم من انتشارها أو تشوّهها أو تحوّل إنجازاتها إلى هزائم واتّهامات، وبرغم أن الجبهة كما ذكرنا في الجزء السابق كان لديها إعلامها الموازي والقويّ ولكنه كان موجّها بالأساس إلى أنصار الجبهة والمتعاطفين معها، أما الرأي العام فقد كان يصنعه ويؤثّر في توجّهاته الإعلام المعادي للجبهة ومشروعها. ومن هنا لجأت الجبهة الإسلامية إلى (المساجد) كمنصّة بديلة عن إعلام مؤثّر ومباشر وجواريّ تفتقده. فقد كان خطباء الجبهة ودعاتها يروّجون لمشروعهم من على منابر المساجد، وسهّل الأمر على الجبهة أن عدا كبيرا من الأئمة والدعاة في كل الولايات انخرطوا في الجبهة وتبنّوا مشروعها وخطابها، بحيث لم تكن الجبهة في حاجة إلى استقدام خطباء ودعاة يقتحمون المساجد على كره من أئمتها، كما أن الجبهة بعد الفوز في انتخابات المجالس البلديّة والولائيّة ألزمت منتخبيها بتقديم عروض حال عن أنشطتهم ومشاريعهم وخدماتهم أمام المواطنين حتى تفكّ الحصار الإعلاميّ المضروب عليهم، فكانت هذه العروض تتمّ غالبا في المساجد وقبل صلوات الجمعة تحديدا، حيث كان الوافدون على المساجد يستمعون إلى أرقام وإحصاءات وتقييم لأداء المنتخبين في أسلوب جديد لم يعهدوه من قبل. كما كانت الحملات الانتخابية يُدار جزء منها في المساجد، باستضافة دعاة وخطباء يشرحون مشروع الجبهة وينافحون عنه ويدعون إليه ويحرّضون الناس على الالتفاف حوله. وكانت كثير من المسيرات الحاشدة تنطلق من المساجد، واثناء التجمعات الكبرى في العاصمة خاصّة كانت المساجد تفتح أبوابها لتأوي الوافدين من جهات الجزائر الأربع للراحة و المبيت أحيانا. لم يكن كلّ الأئمة راضين بهذه الطريقة التي انتهجتها الجبهة الإسلاميّة في استخدام المساجد، وإذا كان كثير منهم قد انخرطوا في الجبهة فإنّ عددا معتبرا منهم كان يقبل بذلك إما مجاراة ومصانعة لأعضاء الجبهة في مدينته وحيّه أو خوفا من ردود أفعالهم وغضبهم التي قد تحول إلى سلوك عنيف بطريقة ما. وما كان الإعلام الذي يمثل السلطة أو المعارضة ليفوّت هذه الفرصة من أجل أن يتّهم الجبهة ويشنّع عليها و يتحدّث عن استغلال الجبهة للمساجد وتسييسها وأن ذلك يعطيها أفضليّة في المنافسة مع خصومها ويمنح مشروعها وخطابها قداسة تُشعِر المواطن أن مخالفة الجبهة أو معارضتها مخالفة أو رفض للدّين .....إلخ. لا شكّ أن الجبهة كما قلنا آنفا لم تكن تأبه كثيرا لاستنكار الإعلام والأحزاب والسلطة لكثير من تصرفاتها ومواقفها، ولا شكّ أيضا أن الشعب الجزائريّ في عمومه لم يكن يرى في استخدام الجبهة ودعاتها وسياسييها للمسجد خطرا كبيرا أو يلقى منهم معارضة أو رفضا إلا في حدود ضيّقة وغير معلنة في الغالب. ومع ذلك فإن المساجد كانت بالفعل مرتكزا قويا لانطلاق الجبهة في مشروعها ومنحها قوّة في التأثير وحضورا شعبيا كبيرا جدّا والتصاقا بالمواطنين ومعايشة لاهتماماتهم ومعرفة بأسئلتهم وقدرة على التفاعل معهم. لقد كانت الجبهة في الحقيقة تنطلق من منطلق براجماتي سياسي واضح، فما دامت السلطة وأعداؤها يمتلكون كلّ مواقع ووسائل التأثير والتواصل ويحتكرونها ويمنعون الجبهة من استخدامها ولو في حدّها الأدنى فإنّ الجبهة في المقابل تعطي لنفسها ومناضليها الحقّ في استخدام المسجد الذي لا يستطيع اليساريّون واللائكيّون ولوجه ولا يحسنون خطابه كما لا تستطيع السلطة استخدامه إلا على استحياء لأنّ أحداث أكتوبر ونشاط الجبهة وقبلها ومعها الحركة الإسلامية كانت قد وضعت الأئمة والخطباء المنتمين للسلطة والمتبنّين لخطابها في موقع ضعف واتّهام بالعمالة للنظام والاستفادة منه وكانت صورة أولئك الأئمة سيّئة في نظر أغلبيّة الجزائريّين الذين كاوا يطلقون عليهم وصف (أئمة الحساب البريدي الجاري)، إضافة إلى أن الجبهة الإسلاميّة استطاعت استقطاب خيرة الأئمة والدعاة والشيوخ المعروفين والمؤثّرين في كل الولايات تقريبا وكان حضورهم ظاهرا جدّا في التجمّعات والمسيرات.
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (04)
الصغير منير

[لتحميل العدد الأخير https://goo.gl/zPZ8Pj]

كانت نقاط قوة الجبهة الإسلامية كثيرة، بعضها تمّ استثماره بشكل جيّد وإلى أبعد الحدود، وبعضها لم يحظ بالمتابعة والتوجيه لتكون نتائجه أفضل وأعمق.

من القضايا التي تنبّهت لها الجبهة تأسيسها ل(الرابطة الإسلاميّة للطلبة)، خريف عام 1990، بعد انتخابات المجالس البلدية والولائيّة. وقد كان حضور هذه الرابطة الطلابيّة قويّا ومؤثّرا وانتسب إليها آلاف من الطلبة، حتى ممّن لم يكونوا منخرطين في الجبهة سياسيّا. وقد كانت مطالب الرابطة مثل كل الاتّحادات الطلابية ذات علاقة مباشرة بحياة الطلبة ومشاغلهم الاجتماعية والمعيشية في الأحياء الجامعيّة وبقضاياهم التعليمية ي معاهدهم وكلّياتهم. ولم يكن حضور الرابطة بالقوة نفسها في كلّ الجامعات، فقد كان في بعضها أقوى من بعض بحسب نشاط وفعالية المنتسبين إليها. وكان غالبية الطلبة ومديري الجامعات والمعاهد يعلمون صلتها بالجبهة الإسلامية ولكنّ ذلك لم يكن مهمّا لأنّها كانت قدّمت وثائق اعتمادها إلى وزارة الداخليّة التي تثاقلت عن اعتماد الرابطة قانونيا حتى حدث الانقلاب عام 92 وأصبحت بذلك تنظيما غير قانوني يعاقب كلّ من ينتسب إليه أو ينشط من خلاله.

لقد كانت أبرز محطّة ظهر فيها أداء وفعالية الرابطة هي محطّة الإضراب السياسي، التي استطاع فيه الطلبة المنتسبون إليها تجنيد وحشد الطلبة وتعطيل الدراسة في الجامعات وتنظيم مسيرات داخل الأحياء والكلّيات والخروج في مسيرات من الجامعة إلى خارجها تكثيرا لسواد المضربين والمعتصمين والمشاركين في المسيرات.

لم يكن تنظيم الرابطة وهيكلتها قد تمّت بعد، ولم يكن نشاطها مركزيا، فقد كان للمنتسبين إليها في كلّ جامعة حرّية اتّخاذ ما يرونه من قرارات ومواقف، وقد أعجل الرابطة عن أمرها ما أعجل الجبهة من تسارع للأحداث وضغط سياسي وكثرة عددية في غياب رؤية واضحة واستراتيجية للحركة والأداء، فلم يكن للرابطة قيادة وطنية معروفة ولا ناطق رسميّ يعبّر عن مواقفها ولا إصدارات مكتوبة ولم تعقد مؤتمرها التأسيسي، غير أنّها استفادت من الزخم السياسي العام ومن انتصارات الجبهة ومن تذمّر أكثر الطلبة من الاتّحادات الطلابية السابقة التي كان يسيطر عليها بشكل شبه كلي اليساريون والعلمانيّون. كما لم تولِ قيادة الجبهة أيّ اهتمام حقيقيّ بالرابطة من حيث التوجيه والمتابعة والدعم والتنظيم، وهو الأمر الذي حدث مع كلّ التنظيمات والهياكل التابعة للجبهة.

وبعد الانقلاب كان حنق أجهزة الأمن على الطلبة كبيرا، فنالهم حظّهم من المطاردات والتضييق والسجون والقتل، وقد التحق عدد كبير جدّا من الطلبة بالعمل المسلّح في الجبال والمدن، وقُتل منهم وسُجن الآلاف زيادة على من فرّوا إلى الخارج لاجئين.

لقد كان تأسيس تنظيم طلابي نقطة قوّة للجبهة، ولكنه إنجاز أضعفه الإهمال واللامبالاة من قيادة الجبهة وضعف الخبرة في العمل الطلابي عند الغالبية العظمة من منتسبي الرابطة وتسارع الأحداث بشكل حال دون رسم أي استراتيجية للرابطة يمكّنها من الاستجابة للتحدّيات الكبرى التي كانت تواجهها يومئذ الجزائر سياسيا وثقافيا واجتماعيا ثم أمنيّا وعسكريّا بعد ذلك، وكان غياب الرؤية والتخطيط سببا في ضرب الرابطة وتفكّكها بسرعة بعد الانقلاب وعدم استثمارها في أي حراك احتجاجي رافض للانقلاب أو داعم للأداء السياسيّ للجبهة بَعْدَه.

و على منوال الرابطة الإسلاميّة للطلبة تمّ تأسيس (النقابة الإسلاميّة للعمل)، التي كانت النقابة الوحيدة المنافسة والمزاحمة للاتّحاد العام للعمّال الجزائريّين الذي كان ذراع السلطة في كلّ المؤسسات الاقتصاديّة في الجزائر. غير أنّ ما يميّز النقابة الإسلاميّة هو أنّ مؤسسيها كانوا ممّن لهم سابقة في العمل النقابي وخبرة في كواليسه، ممّا جعل أداءه أفضل وأبعد أثرا من أداء رابطة الطلبة.

وقد حظيت النقابة بدعم واضح من المكتب الوطني للجبهة بحكم أن عددا من الأعضاء مؤسسيها كانوا أعضاء في مكاتب الجبهة ومجالس شوراها وطنيا وولائيّا، و لأنّ تأثير النقابة كان – ربما - أوضح وأظهر من العمل الطلابي في تصوّر قيادة الجبهة.

وقد ظهرت فعالية النقابة الإسلاميّة كذلك في الإضراب السياسيّ، فقد ارتبط مفهوم الإضراب منذ نشأته وتطوّر أساليبه في الغرب بالنقابات العمّاليّة. واستطاعت النقابة تجنيد العمال للمشاركة في الإضراب والخروج في مسيرات ومظاهرات في فترة الإضراب، برغم تفاوت نسب المشاركة بين الولايات وبين المؤسسات الاقتصادية الكبرى والمدارس والثانويات. وهنا يجب أن نسجّل أنّ الجزائريّين لم يعرفوا منذ الاستقلال عملا نقابيا أو طلابيّا مستقلّا عن أذرع السلطة والحزب الواحد، وكانت النقابات والاتّحادات السلطويّة متجذّرة في كل المؤسسات والقطاعات، ممّا يجعل أداء النقابة الإسلامية متميّزا وهي النقابة التي لم يتجاوز عمرها بين التأسيس والإضراب سوى سنة واحدة.

وقد كان النظام يشعر بالقلق من تزايد عدد المنتسبين إلى النقابة الإسلاميّة و من حركية أعضائها وفعاليتهم ويخشى من تهميش وإقصاء الأذرع النقابية التي كان يرعاها ويدعمها. وشاركه القلق والخشية اليساريّون والعلمانيّون الذين كانوا ظاهريّا يعارضون النظام، فقد كانوا هم المسيطرين فعليّا على قيادة هذه الكيانات وكان ظهور أي منافس جديد يستمدّ من إيديولوجية وتصورات مخالفة لهم يعتبر تهديدا وجوديا لهم. وقد كان هؤلاء ومن خلفهم النظام يعبّرون عن هذا القلق والخشية عن طريق الجرائد والصحف والتلفزيون والإذاعة العموميين والتي كان نفوذ اليساريين والعلمانيين فيها شبه كلّي باختلاق الإشاعات وترويج التّهم والتشكيك في نسب المشاركين في الإضراب وأعداد المنتسبين للنقابة حتى لا يتوسّع تأثيرها وتستقطب مزيدا من الطبقة العاملة.

والنقابة الإسلامية للعمل هي النقابة الوحيدة التي تأسست لتنافس وتزاحم النقابات العمالية التي كان يسيطر عليها اليساريون، وقد تعرضت بعد الانقلاب إلى الحلّ ونال أعضاءها من الاغتيالات والسجن والتضييق ما نال كلّ المنتسبين إلى الجبهة الإسلامية وأذرعها وفروعها، ولم تتأسّس بعدها أيّ نقابة من منطلق إسلاميّ إلى يوم النّاس هذا، برغم انفتاح العمل النقابي والتعددية النقابية التي تشهدها الساحة العمّالية الجزائريّة إذا استثنينا النقابات الصغيرة المتخصصة مثل تنسيقية أساتذة التربية الإسلامية وغيرها.

لم يقتصر نشاط الجبهة الإسلامية على العمل الطلابي والعمّالي بل انفتحت على العمل الخيريّ والاجتماعيّ الذي تمثّل خاصّة فيما يسمّيه الجزائريّون ب (أسواق الرحمة) أو (الأسواق الإسلاميّة)، وهي أسواق شعبية صغيرة ومتوسّطة أشرفت عليها مكاتب الجبهة في عواصم الولايات وبلدياتها الكبرى تُعرَض فيها الخضراوات والفواكه والموادّ الغذائية وأحيانا الألبسة بأسعار رخيصة جدّا تكسر كلّ منافسة، وكان القائمون عليها في الغالب شبابا متطوّعين أو يأخذ بعضهم أجرا زهيدا.

كانت أسواق الرحمة هذه شيئا جديدا على الجزائريّين لم يألفوا مثيلا له من قبل، وفرح بها واستفاد منها الفقراء والمحتاجون، وأحْيَت روح التكافل والتضامن بين الجزائريّين، وكسرت احتكار التجّار والمضاربين.

وكان موقف المزارعين والفلّاحين خاصّة موقفا جميلا ومعبّرا، فقد كانوا يبيعون منتجاتهم للمشرفين على هذه الأسواق بأسعار زهيدة أقلّ بكثير من تلك التي يبيعون بها للتجّار، بل كانوا أحيانا عند وفرة المنتوج يهبونها بلا مقابل ولا يسألون إلا الدعاء بالبركة.

وقد بلغ من نزول الأسعار ووفرة المعروض أن أصبح حتى الميسورون من الطبقة المتوسّطة وبعض الأغنياء يقتنون احتياجاتهم من هذه الأسواق.

ولم تسلم هذه المبادرة أو التجربة من اللمز والتشويه والتشكيك مثل كلّ المبادرات والمشاريع التي تكون وراءها الجبهة الإسلاميّة خاصّة والتيّار الإسلاميّ عموما.

فقد كان الإعلام يكرّر أن الجبهة تستغلّ موارد البلديّات من مقرّات وساحات عرض وشاحنات وسيّارات بلا مقابل، وأنّ الجبهة في مشاريعها تتلقّى دعما وتحيّزا من رؤساء المجالس البلدية والولائية المنتمين إليها، وأنّ البيع في هذه الأسواق يتمّ بصفة غير قانونيّة ومعفى من الضرائب وبدون سجلّات تجارية، وأنّ العمّال في هذه الأسواق غير مؤمّنين والسلع غير مراقبة ....إلخ.

بعض هذه الانتقادات صحيح وبعضها تافه وكذب، ولكن الفقراء والمحتاجين لم تكن تهمّهم هذه الإشاعات والاتّهامات بقدر ما كان يهمّهم قوت يومهم وما يسدّون به الرّمق، ولم يكن أعضاء الجبهة الإسلاميّة في الحقيقة يلقون بالا لهذه الاعتبارات وهم يرون مثل كلّ الجزائريّين الفساد المتفشّي في كلّ مؤسسات الدولة، ويعتبرون النظام وما يصدر عنه غير شرعيّ من الأساس، ولم يكلّفوا أنفسهم أصلا الردّ على ما تدّعيه الصحف والجرائد.

ورافق تجربة أسواق الرحمة مبادرات أخرى مثل المطاعم الخيريّة و سلّة رمضان وغيرها، وهي مبادرات أقبل المواطنون من كل الفئات على دعمها واحتضانها وتموينها.

ولئن كان الجزائريّون منذ سنة 2000 وما بعدها إلى يومنا هذا قد اعتادوا على مثل هذه الأنشطة والمشاريع والمبادرات الخيريّة بحيث لا تكاد تخلو منها بلدية أو مدينة في الجزائر، فإنّها ما بين 1990 إلى 1992 كانت شيئا جديدا تماما على من عايشوا تلك الفترة، بحيث بقيت راسخة في أذهانهم ومشاعرهم سنوات بعد الانقلاب، زيادة على أنها كانت يومئذ مرتبطة بوضوح بمشروع سياسيّ يحاول تقديم نفسه كبديل للنظام القائم وليس مثلما يحدث اليوم وبرغم كل الخير والإحسان والفضل الذي تقدّمه فإنّها مشتتة لا يجمعها رابط ولا يضمّها مشروع ولا تقف وراءها رؤية ولا هدف، سوى سعي أصحابها للأجر والثواب وهو أمر محمود ومطلوب بلا شكّ أو أهداف أخرى لا علاقة لها بدين ولا نُبْل ولا أخلاق.

كان التنافس السياسيّ بين الجبهة الإسلاميّة وأعدائها شرسا وعنيفا، وكانت السلطة - ممثلة في حزبها الرئيسيّ : جبهة التحرير الوطني وأذرعها النقابية والمعارضة في شقّها اليساريّ/ اللائكيّ والإعلام الذي كان كلّه تقريبا تحت يد أعداء التيّار التغريبيّ – لا تتورّع عن استخدام أيّ وسيلة تخصم بها من رصيد الجبهة الإسلاميّة أو تحجّم من انتشارها أو تشوّهها أو تحوّل إنجازاتها إلى هزائم واتّهامات، وبرغم أن الجبهة كما ذكرنا في الجزء السابق كان لديها إعلامها الموازي والقويّ ولكنه كان موجّها بالأساس إلى أنصار الجبهة والمتعاطفين معها، أما الرأي العام فقد كان يصنعه ويؤثّر في توجّهاته الإعلام المعادي للجبهة ومشروعها.

ومن هنا لجأت الجبهة الإسلامية إلى (المساجد) كمنصّة بديلة عن إعلام مؤثّر ومباشر وجواريّ تفتقده. فقد كان خطباء الجبهة ودعاتها يروّجون لمشروعهم من على منابر المساجد، وسهّل الأمر على الجبهة أن عدا كبيرا من الأئمة والدعاة في كل الولايات انخرطوا في الجبهة وتبنّوا مشروعها وخطابها، بحيث لم تكن الجبهة في حاجة إلى استقدام خطباء ودعاة يقتحمون المساجد على كره من أئمتها، كما أن الجبهة بعد الفوز في انتخابات المجالس البلديّة والولائيّة ألزمت منتخبيها بتقديم عروض حال عن أنشطتهم ومشاريعهم وخدماتهم أمام المواطنين حتى تفكّ الحصار الإعلاميّ المضروب عليهم، فكانت هذه العروض تتمّ غالبا في المساجد وقبل صلوات الجمعة تحديدا، حيث كان الوافدون على المساجد يستمعون إلى أرقام وإحصاءات وتقييم لأداء المنتخبين في أسلوب جديد لم يعهدوه من قبل.

كما كانت الحملات الانتخابية يُدار جزء منها في المساجد، باستضافة دعاة وخطباء يشرحون مشروع الجبهة وينافحون عنه ويدعون إليه ويحرّضون الناس على الالتفاف حوله. وكانت كثير من المسيرات الحاشدة تنطلق من المساجد، واثناء التجمعات الكبرى في العاصمة خاصّة كانت المساجد تفتح أبوابها لتأوي الوافدين من جهات الجزائر الأربع للراحة و المبيت أحيانا.

لم يكن كلّ الأئمة راضين بهذه الطريقة التي انتهجتها الجبهة الإسلاميّة في استخدام المساجد، وإذا كان كثير منهم قد انخرطوا في الجبهة فإنّ عددا معتبرا منهم كان يقبل بذلك إما مجاراة ومصانعة لأعضاء الجبهة في مدينته وحيّه أو خوفا من ردود أفعالهم وغضبهم التي قد تحول إلى سلوك عنيف بطريقة ما.

وما كان الإعلام الذي يمثل السلطة أو المعارضة ليفوّت هذه الفرصة من أجل أن يتّهم الجبهة ويشنّع عليها و يتحدّث عن استغلال الجبهة للمساجد وتسييسها وأن ذلك يعطيها أفضليّة في المنافسة مع خصومها ويمنح مشروعها وخطابها قداسة تُشعِر المواطن أن مخالفة الجبهة أو معارضتها مخالفة أو رفض للدّين .....إلخ.

لا شكّ أن الجبهة كما قلنا آنفا لم تكن تأبه كثيرا لاستنكار الإعلام والأحزاب والسلطة لكثير من تصرفاتها ومواقفها، ولا شكّ أيضا أن الشعب الجزائريّ في عمومه لم يكن يرى في استخدام الجبهة ودعاتها وسياسييها للمسجد خطرا كبيرا أو يلقى منهم معارضة أو رفضا إلا في حدود ضيّقة وغير معلنة في الغالب. ومع ذلك فإن المساجد كانت بالفعل مرتكزا قويا لانطلاق الجبهة في مشروعها ومنحها قوّة في التأثير وحضورا شعبيا كبيرا جدّا والتصاقا بالمواطنين ومعايشة لاهتماماتهم ومعرفة بأسئلتهم وقدرة على التفاعل معهم.

لقد كانت الجبهة في الحقيقة تنطلق من منطلق براجماتي سياسي واضح، فما دامت السلطة وأعداؤها يمتلكون كلّ مواقع ووسائل التأثير والتواصل ويحتكرونها ويمنعون الجبهة من استخدامها ولو في حدّها الأدنى فإنّ الجبهة في المقابل تعطي لنفسها ومناضليها الحقّ في استخدام المسجد الذي لا يستطيع اليساريّون واللائكيّون ولوجه ولا يحسنون خطابه كما لا تستطيع السلطة استخدامه إلا على استحياء لأنّ أحداث أكتوبر ونشاط الجبهة وقبلها ومعها الحركة الإسلامية كانت قد وضعت الأئمة والخطباء المنتمين للسلطة والمتبنّين لخطابها في موقع ضعف واتّهام بالعمالة للنظام والاستفادة منه وكانت صورة أولئك الأئمة سيّئة في نظر أغلبيّة الجزائريّين الذين كاوا يطلقون عليهم وصف (أئمة الحساب البريدي الجاري)، إضافة إلى أن الجبهة الإسلاميّة استطاعت استقطاب خيرة الأئمة والدعاة والشيوخ المعروفين والمؤثّرين في كل الولايات تقريبا وكان حضورهم ظاهرا جدّا في التجمّعات والمسيرات.
‏١٢‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٧:٣٩ م‏
نحو تفكيك الأنظمة القضائية الحديثة @[100001347771646:2048:محمد وفيق زين العابدين] [لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/zPZ8Pj] القضاء أحد سلطات الدولة العامة التي يُباشرها أشخاص (القضاة) بهدف تحقيق سيادة الدولة (القانون) على المصالح المتنازعة في العلاقات الاجتماعية. لكنه ليس الشكل الوحيد للفصل في الخصومات، بل أشكال تسوية منازعات المجتمع البشري قديمة قدم المجتمع نفسه، فحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت أنظمة الحُكم التقليدية التي تمارسها النُخب والمجالس العرفية تُمثل الصور الأغلب شيوعًا، إلى أن أحكمت الدولة الحديثة قبضتها على كل ما يتعلق بالفصل في الأقضية، ومع دخول القرن التاسع عشر قُوضت كل الأنظمة الأخرى بسبب الرغبة السياسية الجامحة للدولة في تحكيم قوانينها وفرض سيادتها، ووأدًا لنمو أي نظام قانوني من جديد على حساب "النظام القانوني النابليوني" الذي لم يكن مجرد خطوة في بناء الدولة الحديثة وتعزيز نفوذها على المجتمع، بل كان في الواقع تأسيس للنظام القانوني العالمي. وبرغم المكانة الكبيرة التي اكتسبتها الأنظمة القضائية الحديثة - على اختلاف صورها - والخطوات التي قطعتها في التطور في القرن التاسع عشر، إلا أنها تعرضت لتهديد شديد في النصف الأول من القرن العشرين، حيث استطاعت بؤر الأنظمة التقليدية - التي كانت متبقية في نواح متناثرة من العالم ضعيفة البنية الحداثية - الاستفادة من تكلس القوانين وبيروقراطية المحاكم، فتركت آثارًا أكثر كفاءة وفعالية من حيث سرعة الفصل ومرونة الإجراءات وعدالة النتائج، الأمر الذي عَرض مصالح وسُبل معيشة الذين يعتمدون على نظام المحاكم لخطر حقيقي. ذلك أن الفارق الجوهري بين الأنظمة القضائية الحديثة والتقليدية في علاقتهما بالمجتمع، يكمن في أن الأولى تُعيد إنتاج المجتمع من جهة القانون، والثانية تُعيد إنتاج القانون من جهة المجتمع، فالأنظمة التقليدية تُنتج القواعد الملائمة للحاجات الاجتماعية وتراعي مصالحها الحقيقية أكثر من اعتبار مصالح الدولة (أو بعبارة أدق مصالح السُّلطة). ولنأخذ نموذجًا واحدًا من نماذج الأنظمة التقليدية وهو "التحكيم"، فإن عودة المجتمعات الحديثة إليه، إنما كان باعتباره عقد مسمى يخضع للنظرية العامة للعقود [ ) وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل عدد كبير من أساتذة وفلاسفة القانون في فرنسا وإيطاليا ومصر في منتصف القرن الماضي يقولون بالطبيعة العقدية للتحكيم، عكس ما ساد لاحقًا في الفقه القانوني وأحكام المحاكم من اعتبار طبيعته قضائية، ثم تحول النظرة إلى التوفيق بين الطبيعتين للتحكيم باعتباره يبدأ باتفاق الأطراف وينتهي بحكم قضائي، أو بعبارة أخرى يبدأ عقدًا وينتهي قضاءً.]بغض النظر عما آل إليه الأمر بعد ذلك من إخضاعه للنظام السياسي للدولة؛ فأساس وظيفة "التحكيم" اجتماعي، بينما أساس وظيفة "القضاء" سياسي [ ) لأن كل ما يهم القاضي - في الغالب - هو إنزال حكم القانون على النزاع المعروض، بصرف النظر عن أثر هذا على مستقبل علاقات المتنازعين ومصالحهم، التي قد تتغير وتتبدل بل قد تتلاقى بمرور الزمن. وبهذا يختلف القضاء تمامًا عن الأنظمة التقليدية - كما الوساطة أو التوفيق أو التسوية أو التفويض بالصلح - التي تسعى في الأساس لتقريب وجهات النظر أو إيجاد الحل الأكثر توفيقًا بين الأطراف المتنازعة، لتحقيق مصالح الجميع، وهو ما يعني في الحقيقة تعطيل أحكام القانون.]، ولذلك نجد أن أهم ما يُميز "التحكيم": الإرادة والحرية، إرادة وحرية تمنحان الفرد حق اختيار قاضيه وحق تحديد ضمانات التقاضي وحق ابتكار الإجراءات التي يراها أكثر ملائمة له وأخيرًا حق تنفيذ الحُكم، وهي أربعة حقوق رئيسية لا يتمتع بها الأفراد في القضاء العادي. ويرجع هذا الاختلاف إلى مركزية القوانين في الدولة الحديثة، والتي تكتسب بموجبها الدولة مركزيتها الحقيقية على حساب المجتمع، ولذلك كان لابُد للقوانين كما يقول Halpérin أن تقمع - أو بالأحرى تحاول قمع - النظم العرفية وجميع التعدديات التي تشكل مصادر لنظم قانونية مستقلة عن الدولة، بُغية الحفاظ على بقاء هذه الدولة واستمرارها[ Five Legal Revolutions Since the 17th Century, Springer International Publishing Switzerland, 2014, P. 36.]. بل ذهبت لأكثر من ذلك حين تبنت ما يُعرف بالنظام القانوني المُقيد، الذي لا يمتلك فيه القضاة أدنى حرية في تقدير أدلة الإثبات، بقصد الحد من سُلطتهم، كما في النظم القانونية "الأنجلوسكسونية"، ليبلغ بذلك احتكار الدولة للنظام القضائي ذروته، فلا يملك حتى القضاة أنفسهم حق تطوير القواعد القانونية أو تغييرها إذا كانت غير ملائمة. وبرغم ذلك، فإن النظم القضائية الحديثة لم تصمد أمام النظم التقليدية التي استعادت هيبتها وحضورها [ ) بل بلغت هذه الهيبة وهذا الحضور مبلغًا كبيرًا في بعض المشاهد، مثل: - تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال، مع الأخذ في الاعتبار أن المحاكم في التجربة الصومالية لم تكن وليدة تفاعل العاملين القانوني والاجتماعي مع بعضهما فقط، بل إلى جانب ذلك كان من العوامل التي دعمتها وهي الأهم: تفكك النظام السياسي والتعبئة الشعبية ضد التدخل الأجنبي في الشأن الصومالي، وهو ما يخرجها نوعًا ما عن نطاق البحث الذي نحن بصدده. - تجربة مراكز التحكيم الإسلامية في أوروبا، والتي تختص بالفصل في الشئون الأسرية والمدنية للمسلمين ، وحسب تصريح قرأته منذ عدة سنوات لدينيس ماكيون ­ المختص في الشئون الإسلامية ببريطانيا - بلغت على مستوى بريطانيا وحدها نحو خمسة وثمانين مركزًا، ونفس الحال أو قريبًا منه في فرنسا وفي الولايات المتحدة، غير أن هذه التجربة أيضًا لها عوامل دينية وأيديولوجية تبعدها عن نطاق بحثنا.] ، على مستوى المؤسسات في المدن والمراكز الحضارية، وعلى مستوى الأفراد في القرى والمراكز الريفية. في الحقيقة يُمكن إرجاع ذلك لعاملين رئيسيين: الأول: قدر الثقة الذي انتزعته النظم التقليدية من النظم الحديثة. فإن سر بقاء أي نظام قضائي واستمراره هو "الثقة"، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية المتقدمة دومًا على الحفاظ على ثقة الجمهور في قضائها، أكثر من غيره من السلطات العامة، لأن تآكل هذه الثقة العامة يُقوض النظام القانوني للدولة ذاته، ويُؤدي مع مرور الوقت إما إلى الفوضى باستيفاء الناس الحقوق اعتمادًا على القوة والقهر، وإما إلى تعددية النظم القانونية بفزعهم إلى النظم التقليدية من وسائل فض النزاعات، وهو وجه السر في المقولة الشهيرة لبعض فلاسفة القانون؛ "العدالة تتجذر في الثقة". الثاني: قدر مطابقة كل منها [ ) أي النظم التقليدية والحديثة.] للمصالح الحيوية للمجتمع. فصلاحية القانون نفسه رهن موازنته بين مكونات المجتمع المختلفة وحفاظه على المصالح الحيوية فيه، وحين لا يعود القانون يطابق المصالح الحيوية للمجتمع، فإنه كما يقول نجيب بودربالة: “يُصبح من المشروع التخلي عن العمل به وتطبيقه”[ ) القانون بين القبيلة والأُمة والدولة، ترجمة محمد زرنين، دار أفريقيا الشرق (الدار البيضاء)، طبعة ٢٠١٥م، ص ٣٠٦.]. بالنظر إلى ما سبق، يُمكن القول إن نزوع الأفراد والمؤسسات لأنظمة فض المنازعات من خارج القضاء كالتحكيم والوساطة والتسوية والتفاوض بالصلح وغير ذلك، أحد مظاهر تفكك النظام القضائي للدولة الحديثة، أو بعبارة أخرى؛ تفكيك هذا النظام رهن ما يُمكن تحقيقه من تجريده من الثقة، ولذلك تكون النظم الاستبدادية أكثر سهولة من غيرها في تفكيك نظامها القضائي بمجرد سقوط قوتها العسكرية التي يستند عليها استبدادها، لضَعف تمتعها بالثقة في سلطاتها العامة. فلا غرابة إذن أن نجد الدولة الحديثة قد تحولت نظرتها منذ منتصف القرن المنصرم إلى هذه الأنظمة التقليدية من نظرة "المُنافس" إلى نظرة "الصديق"، ومن ثمَّ تحول سياستها حيالها من "الوأد" إلى "الاحتواء" [ ) وهذا توجه عام أصبح جزءا من طبيعة النظام السياسي المعاصر، بالطبع لم يحدث التحول نحوه في العالم في وقت واحد، بل اختلف من بلد لآخر، وعلى سبيل المثال يُمكن القول إنه بدأ في الولايات المتحدة في عشرينات القرن العشرين، بينما بدأ في بريطانيا مع الخمسينات، وفي فرنسا في الستينات، ومع دخول التسعينات أصبحت هذه النظم التقليدية بثوبها الجديد وصورتها الحداثية جزءا لا يتجزأ من النظم القانونية والقضائية في أغلب دول العالم.]؛ فوجهت كل جهدها نحو احتضانها وإدماجها داخل إطارها، مستخدمة في ذلك عدة سُبل، أهمها: (١) تقنين أوضاع الأنظمة التقليدية، وهيكلتها من قِبل الدولة، وحظر كل ما يستعصي على هذه الهيكلة أو يخرج عن نطاقها. (٢) تفسيرها وتطويرها من خلال الدراسة والبحث والممارسة من قِبل تشكيلات الدولة القانونية، كالتعليم القانوني والمهن القانونية، التي تَقصر - في الغالب - هذا التفسير والتطوير في نطاق قوانين الدولة فقط. بيد أن التجربة الواقعية، أثبتت أن هذه السيطرة تُفقد الأنظمة التقليدية قيمتها بمرور الوقت فتمسخها إلى كائنات مشوهة شبيهة بما أفرزته الأنظمة السلطوية، إما لبيروقراطية الأُطر القانونية المستخدمة ومن ثمَّ فَقد ميزتي الإرادة والحرية، أو فقدان آليات التنفيذ والتدابير الوقتية التي تتمتع بها ذات الأنظمة في الأُطر العُرفية، ومن ثمَّ تفريغ الساحة لنمو أنظمة تقليدية حقيقية يمارسها أفراد غير خاضعين للدولة أو متحررون من أُطرها القانونية. لكن ستظل هذه الأنظمة التقليدية تواجه تهديدًا أساسيًا له ما له من تأثير في إضعافها وإطالة أمد صراعها مع الأنظمة السلطوية، وهو عدم امتلاكها وسائل قسرية تجبر الأطراف على احترامها وتنفيذها، إذ يرتبط ذلك - في الغالب الأعم - بقدر ما يُمكن أن تضعه تحت يدها من أموال النزاع أو حقوق لطرفيه، تستطيع من خلالهما استيفاء ما عسى أن يُقضى به[ ) وعلى سبيل المثال يذكر Thomas Schultz في مقال Online Arbitration: Binding or Non-Binding? بعض نماذج لممارسات تحكيمية على الإنترنت (أون لاين) استطاعت خلق وسائل قسرية لإجبار الأطراف على قبول حكمها والإذعان لقراراتها. المقال متاح على رابط www.ombuds.org/center/adr2002-11-schultz.html] أو قدر ما تحطه من سمعة الطرفين إن لم يُذعنا لقرارها وحُكمها. وفي جميع الأحوال، فإن هذا التحول والصراع داخل النظام القانوني - الذي يحدث بعيدًا عن ملاحظة الكثيرين ومراقبتهم - يُمكن اعتباره بحق مقدمات لانقلاب في المجال القانوني، لأنه إما أن يخلق نظامًا قانونيًا جديدًا، أو يُعيد صياغة النظام القائم ؛ إذ يرتبط بتغييرات عميقة في الإجراءات القانونية والمهن القانونية والتعليم القانوني ، مع الأخذ في الاعتبار أنه يلزم لاستكمال هذا الانقلاب أن تترافق مع هذه التغييرات أوضاع اجتماعية جديدة تحول دون أي إصلاحات سلطوية للتشكيلات القانونية سالفة الذكر، أو على الأقل تجفيف فاعليتها [ ) أي فاعلية هذه الإصلاحات السلطوية.]. فالنتيجة النظرية - والتي هي رهن اختبار الواقع - أن تفكيك الأنظمة القضائية الحديثة، والإسراع من وتيرته رهن عوامل مختلفة، أهمها: - وجود أنظمة تقليدية حقيقية تنافس أنظمة الدولة في أداء وظيفة القانون الاجتماعية التي تقوم بها. - تحرير هذه الأنظمة التقليدية من محاولات السيطرة والإخضاع لمؤسسات الدولة القانونية، أو أي تكوينات اجتماعية مُمالئة لها. - قدر الثقة التي تنتزعها هذه الأنظمة من أنظمة الدولة، نتيجة بيروقراطيتها أو استبدادها. - تأهيل المجتمع - لاسيما نُخبه بمختلف تخصصاتهم العلمية والمهنية - لممارسة هذا النوع التقليدي من أنظمة فض النزاعات. وبقدر ما تكتسبه هذه الأنظمة من وجود وتحرر وثقة وتطور بقدر ما يكتسب المجتمع من قوة على حساب الدولة.
نحو تفكيك الأنظمة القضائية الحديثة
محمد وفيق زين العابدين

[لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/zPZ8Pj]

القضاء أحد سلطات الدولة العامة التي يُباشرها أشخاص (القضاة) بهدف تحقيق سيادة الدولة (القانون) على المصالح المتنازعة في العلاقات الاجتماعية.

لكنه ليس الشكل الوحيد للفصل في الخصومات، بل أشكال تسوية منازعات المجتمع البشري قديمة قدم المجتمع نفسه، فحتى أواخر القرن الثامن عشر كانت أنظمة الحُكم التقليدية التي تمارسها النُخب والمجالس العرفية تُمثل الصور الأغلب شيوعًا، إلى أن أحكمت الدولة الحديثة قبضتها على كل ما يتعلق بالفصل في الأقضية، ومع دخول القرن التاسع عشر قُوضت كل الأنظمة الأخرى بسبب الرغبة السياسية الجامحة للدولة في تحكيم قوانينها وفرض سيادتها، ووأدًا لنمو أي نظام قانوني من جديد على حساب "النظام القانوني النابليوني" الذي لم يكن مجرد خطوة في بناء الدولة الحديثة وتعزيز نفوذها على المجتمع، بل كان في الواقع تأسيس للنظام القانوني العالمي.

وبرغم المكانة الكبيرة التي اكتسبتها الأنظمة القضائية الحديثة - على اختلاف صورها - والخطوات التي قطعتها في التطور في القرن التاسع عشر، إلا أنها تعرضت لتهديد شديد في النصف الأول من القرن العشرين، حيث استطاعت بؤر الأنظمة التقليدية - التي كانت متبقية في نواح متناثرة من العالم ضعيفة البنية الحداثية - الاستفادة من تكلس القوانين وبيروقراطية المحاكم، فتركت آثارًا أكثر كفاءة وفعالية من حيث سرعة الفصل ومرونة الإجراءات وعدالة النتائج، الأمر الذي عَرض مصالح وسُبل معيشة الذين يعتمدون على نظام المحاكم لخطر حقيقي.

ذلك أن الفارق الجوهري بين الأنظمة القضائية الحديثة والتقليدية في علاقتهما بالمجتمع، يكمن في أن الأولى تُعيد إنتاج المجتمع من جهة القانون، والثانية تُعيد إنتاج القانون من جهة المجتمع، فالأنظمة التقليدية تُنتج القواعد الملائمة للحاجات الاجتماعية وتراعي مصالحها الحقيقية أكثر من اعتبار مصالح الدولة (أو بعبارة أدق مصالح السُّلطة).

ولنأخذ نموذجًا واحدًا من نماذج الأنظمة التقليدية وهو "التحكيم"، فإن عودة المجتمعات الحديثة إليه، إنما كان باعتباره عقد مسمى يخضع للنظرية العامة للعقود [ ) وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل عدد كبير من أساتذة وفلاسفة القانون في فرنسا وإيطاليا ومصر في منتصف القرن الماضي يقولون بالطبيعة العقدية للتحكيم، عكس ما ساد لاحقًا في الفقه القانوني وأحكام المحاكم من اعتبار طبيعته قضائية، ثم تحول النظرة إلى التوفيق بين الطبيعتين للتحكيم باعتباره يبدأ باتفاق الأطراف وينتهي بحكم قضائي، أو بعبارة أخرى يبدأ عقدًا وينتهي قضاءً.]بغض النظر عما آل إليه الأمر بعد ذلك من إخضاعه للنظام السياسي للدولة؛ فأساس وظيفة "التحكيم" اجتماعي، بينما أساس وظيفة "القضاء" سياسي [ ) لأن كل ما يهم القاضي - في الغالب - هو إنزال حكم القانون على النزاع المعروض، بصرف النظر عن أثر هذا على مستقبل علاقات المتنازعين ومصالحهم، التي قد تتغير وتتبدل بل قد تتلاقى بمرور الزمن.

وبهذا يختلف القضاء تمامًا عن الأنظمة التقليدية - كما الوساطة أو التوفيق أو التسوية أو التفويض بالصلح - التي تسعى في الأساس لتقريب وجهات النظر أو إيجاد الحل الأكثر توفيقًا بين الأطراف المتنازعة، لتحقيق مصالح الجميع، وهو ما يعني في الحقيقة تعطيل أحكام القانون.]، ولذلك نجد أن أهم ما يُميز "التحكيم": الإرادة والحرية، إرادة وحرية تمنحان الفرد حق اختيار قاضيه وحق تحديد ضمانات التقاضي وحق ابتكار الإجراءات التي يراها أكثر ملائمة له وأخيرًا حق تنفيذ الحُكم، وهي أربعة حقوق رئيسية لا يتمتع بها الأفراد في القضاء العادي.

ويرجع هذا الاختلاف إلى مركزية القوانين في الدولة الحديثة، والتي تكتسب بموجبها الدولة مركزيتها الحقيقية على حساب المجتمع، ولذلك كان لابُد للقوانين كما يقول Halpérin أن تقمع - أو بالأحرى تحاول قمع - النظم العرفية وجميع التعدديات التي تشكل مصادر لنظم قانونية مستقلة عن الدولة، بُغية الحفاظ على بقاء هذه الدولة واستمرارها[ Five Legal Revolutions Since the 17th Century, Springer International Publishing Switzerland, 2014, P. 36.].

بل ذهبت لأكثر من ذلك حين تبنت ما يُعرف بالنظام القانوني المُقيد، الذي لا يمتلك فيه القضاة أدنى حرية في تقدير أدلة الإثبات، بقصد الحد من سُلطتهم، كما في النظم القانونية "الأنجلوسكسونية"، ليبلغ بذلك احتكار الدولة للنظام القضائي ذروته، فلا يملك حتى القضاة أنفسهم حق تطوير القواعد القانونية أو تغييرها إذا كانت غير ملائمة.
وبرغم ذلك، فإن النظم القضائية الحديثة لم تصمد أمام النظم التقليدية التي استعادت هيبتها وحضورها [ ) بل بلغت هذه الهيبة وهذا الحضور مبلغًا كبيرًا في بعض المشاهد، مثل:

- تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال، مع الأخذ في الاعتبار أن المحاكم في التجربة الصومالية لم تكن وليدة تفاعل العاملين القانوني والاجتماعي مع بعضهما فقط، بل إلى جانب ذلك كان من العوامل التي دعمتها وهي الأهم: تفكك النظام السياسي والتعبئة الشعبية ضد التدخل الأجنبي في الشأن الصومالي، وهو ما يخرجها نوعًا ما عن نطاق البحث الذي نحن بصدده.

- تجربة مراكز التحكيم الإسلامية في أوروبا، والتي تختص بالفصل في الشئون الأسرية والمدنية للمسلمين ، وحسب تصريح قرأته منذ عدة سنوات لدينيس ماكيون ­ المختص في الشئون الإسلامية ببريطانيا - بلغت على مستوى بريطانيا وحدها نحو خمسة وثمانين مركزًا، ونفس الحال أو قريبًا منه في فرنسا وفي الولايات المتحدة، غير أن هذه التجربة أيضًا لها عوامل دينية وأيديولوجية تبعدها عن نطاق بحثنا.] ، على مستوى المؤسسات في المدن والمراكز الحضارية، وعلى مستوى الأفراد في القرى والمراكز الريفية.

في الحقيقة يُمكن إرجاع ذلك لعاملين رئيسيين:

الأول: قدر الثقة الذي انتزعته النظم التقليدية من النظم الحديثة.

فإن سر بقاء أي نظام قضائي واستمراره هو "الثقة"، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية المتقدمة دومًا على الحفاظ على ثقة الجمهور في قضائها، أكثر من غيره من السلطات العامة، لأن تآكل هذه الثقة العامة يُقوض النظام القانوني للدولة ذاته، ويُؤدي مع مرور الوقت إما إلى الفوضى باستيفاء الناس الحقوق اعتمادًا على القوة والقهر، وإما إلى تعددية النظم القانونية بفزعهم إلى النظم التقليدية من وسائل فض النزاعات، وهو وجه السر في المقولة الشهيرة لبعض فلاسفة القانون؛ "العدالة تتجذر في الثقة".

الثاني: قدر مطابقة كل منها [ ) أي النظم التقليدية والحديثة.] للمصالح الحيوية للمجتمع.

فصلاحية القانون نفسه رهن موازنته بين مكونات المجتمع المختلفة وحفاظه على المصالح الحيوية فيه، وحين لا يعود القانون يطابق المصالح الحيوية للمجتمع، فإنه كما يقول نجيب بودربالة: “يُصبح من المشروع التخلي عن العمل به وتطبيقه”[ ) القانون بين القبيلة والأُمة والدولة، ترجمة محمد زرنين، دار أفريقيا الشرق (الدار البيضاء)، طبعة ٢٠١٥م، ص ٣٠٦.].

بالنظر إلى ما سبق، يُمكن القول إن نزوع الأفراد والمؤسسات لأنظمة فض المنازعات من خارج القضاء كالتحكيم والوساطة والتسوية والتفاوض بالصلح وغير ذلك، أحد مظاهر تفكك النظام القضائي للدولة الحديثة، أو بعبارة أخرى؛ تفكيك هذا النظام رهن ما يُمكن تحقيقه من تجريده من الثقة، ولذلك تكون النظم الاستبدادية أكثر سهولة من غيرها في تفكيك نظامها القضائي بمجرد سقوط قوتها العسكرية التي يستند عليها استبدادها، لضَعف تمتعها بالثقة في سلطاتها العامة.

فلا غرابة إذن أن نجد الدولة الحديثة قد تحولت نظرتها منذ منتصف القرن المنصرم إلى هذه الأنظمة التقليدية من نظرة "المُنافس" إلى نظرة "الصديق"، ومن ثمَّ تحول سياستها حيالها من "الوأد" إلى "الاحتواء" [ ) وهذا توجه عام أصبح جزءا من طبيعة النظام السياسي المعاصر، بالطبع لم يحدث التحول نحوه في العالم في وقت واحد، بل اختلف من بلد لآخر، وعلى سبيل المثال يُمكن القول إنه بدأ في الولايات المتحدة في عشرينات القرن العشرين، بينما بدأ في بريطانيا مع الخمسينات، وفي فرنسا في الستينات، ومع دخول التسعينات أصبحت هذه النظم التقليدية بثوبها الجديد وصورتها الحداثية جزءا لا يتجزأ من النظم القانونية والقضائية في أغلب دول العالم.]؛ فوجهت كل جهدها نحو احتضانها وإدماجها داخل إطارها، مستخدمة في ذلك عدة سُبل، أهمها:

(١) تقنين أوضاع الأنظمة التقليدية، وهيكلتها من قِبل الدولة، وحظر كل ما يستعصي على هذه الهيكلة أو يخرج عن نطاقها.

(٢) تفسيرها وتطويرها من خلال الدراسة والبحث والممارسة من قِبل تشكيلات الدولة القانونية، كالتعليم القانوني والمهن القانونية، التي تَقصر - في الغالب - هذا التفسير والتطوير في نطاق قوانين الدولة فقط.

بيد أن التجربة الواقعية، أثبتت أن هذه السيطرة تُفقد الأنظمة التقليدية قيمتها بمرور الوقت فتمسخها إلى كائنات مشوهة شبيهة بما أفرزته الأنظمة السلطوية، إما لبيروقراطية الأُطر القانونية المستخدمة ومن ثمَّ فَقد ميزتي الإرادة والحرية، أو فقدان آليات التنفيذ والتدابير الوقتية التي تتمتع بها ذات الأنظمة في الأُطر العُرفية، ومن ثمَّ تفريغ الساحة لنمو أنظمة تقليدية حقيقية يمارسها أفراد غير خاضعين للدولة أو متحررون من أُطرها القانونية.

لكن ستظل هذه الأنظمة التقليدية تواجه تهديدًا أساسيًا له ما له من تأثير في إضعافها وإطالة أمد صراعها مع الأنظمة السلطوية، وهو عدم امتلاكها وسائل قسرية تجبر الأطراف على احترامها وتنفيذها، إذ يرتبط ذلك - في الغالب الأعم - بقدر ما يُمكن أن تضعه تحت يدها من أموال النزاع أو حقوق لطرفيه، تستطيع من خلالهما استيفاء ما عسى أن يُقضى به[ ) وعلى سبيل المثال يذكر Thomas Schultz في مقال Online Arbitration: Binding or Non-Binding? بعض نماذج لممارسات تحكيمية على الإنترنت (أون لاين) استطاعت خلق وسائل قسرية لإجبار الأطراف على قبول حكمها والإذعان لقراراتها.
المقال متاح على رابط
www.ombuds.org/center/adr2002-11-schultz.html] أو قدر ما تحطه من سمعة الطرفين إن لم يُذعنا لقرارها وحُكمها.

وفي جميع الأحوال، فإن هذا التحول والصراع داخل النظام القانوني - الذي يحدث بعيدًا عن ملاحظة الكثيرين ومراقبتهم - يُمكن اعتباره بحق مقدمات لانقلاب في المجال القانوني، لأنه إما أن يخلق نظامًا قانونيًا جديدًا، أو يُعيد صياغة النظام القائم ؛ إذ يرتبط بتغييرات عميقة في الإجراءات القانونية والمهن القانونية والتعليم القانوني ، مع الأخذ في الاعتبار أنه يلزم لاستكمال هذا الانقلاب أن تترافق مع هذه التغييرات أوضاع اجتماعية جديدة تحول دون أي إصلاحات سلطوية للتشكيلات القانونية سالفة الذكر، أو على الأقل تجفيف فاعليتها [ ) أي فاعلية هذه الإصلاحات السلطوية.].

فالنتيجة النظرية - والتي هي رهن اختبار الواقع - أن تفكيك الأنظمة القضائية الحديثة، والإسراع من وتيرته رهن عوامل مختلفة، أهمها:

- وجود أنظمة تقليدية حقيقية تنافس أنظمة الدولة في أداء وظيفة القانون الاجتماعية التي تقوم بها.

- تحرير هذه الأنظمة التقليدية من محاولات السيطرة والإخضاع لمؤسسات الدولة القانونية، أو أي تكوينات اجتماعية مُمالئة لها.

- قدر الثقة التي تنتزعها هذه الأنظمة من أنظمة الدولة، نتيجة بيروقراطيتها أو استبدادها.

- تأهيل المجتمع - لاسيما نُخبه بمختلف تخصصاتهم العلمية والمهنية - لممارسة هذا النوع التقليدي من أنظمة فض النزاعات.

وبقدر ما تكتسبه هذه الأنظمة من وجود وتحرر وثقة وتطور بقدر ما يكتسب المجتمع من قوة على حساب الدولة.
‏١٠‏/٠٢‏/٢٠١٨ ١٢:٢٢ م‏
حروب الأنفاق.. تفوق المستضعفين عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/zPZ8Pj] يشكل التفوق التقني الهائل للقوى الكبرى المهيمنة أكبر التحديات التي اعترضت حروب التحرير الشعبية والثورات المسلحة في عصرنا، إذ لا يمكن مقارنة مستوى التقدم التكنولوجي والحربي لهذه القوى بذلك الذي تتمتع به المجموعات والكيانات المتمردة على سيطرتها الساعية للتحرر من هيمنتها واحتلالها، لكن ما فتئت عقلية المستضعفين الخلاقة تبدع مناهج المواجهة وأساليب التصدي والنكاية في قوى الجبر والاحتلال، مكنتهم في النهاية إما من الانتصار ودحر الغزاة أو الصمود في وجههم واستنزافهم في مقاومة مستدامة ستسفر لا محالة عن هزيمتهم في يوم من الأيام. تقوم فلسفة حروب المستضعفين على تحييد التفوق التقني والتكنولوجي للعدو من خلال اللجوء إلى أساليب بدائية في المواجهة والحركة والتواصل، فمثلا تحييد قدرة العدو الجبارة على اعتراض الرسائل والمكالمات وتفكيك الشفرات وكشف البصمة الصوتية واختراق أجهزة الاتصال المختلفة يتم عبر اعتماد نظام تواصلي يتجنب توظيف التكنولوجيا الحديثة، كتوصيل الرسائل باليد أو استخدام منصات وأجهزة لا تُستعمل عادة في التواصل ولا تخضع بسبب ذلك للرصد والمراقبة[ فاجأ تنظيم داعش المخابرات البلجيكية عندما استخدم ألعاب الفيديو " بلاي ستيشن" للتواصل مع منفذي هجمات باريس. http://www.huffpostarabi.com/2015/11/16/story_n_8574608.html]. وإذا كان العدو يسعى لفرض سيطرته على الأرض وإقامة القواعد العسكرية الضخمة، ونشر الجنود والآليات في الأحياء والمدن، فحروب المستضعفين تقوم على اللا سيطرة وتجنب إقامة قواعد ومقرات عسكرية ثابتة وقابلة للرصد والملاحظة. وإذا كان العدو قد طور طائرات مقاتلة وأقمار اصطناعية فرض بها سيطرته على الأجواء ورصد بها ما يجري على سطح الأرض، فإن المستضعفين قد شقوا لأنفسهم أخاديد وأنفاق في باطن الأرض، وحيدوا بها ترسانة تكنلوجية كلفت ملايير الدولارات، وسنوات طويلة من الأبحاث والتطوير، مجسدين بذلك الحكمة الصينية القديمة " عندما تكون قويا انقض من أعلى مثل العقاب وعندما تكون ضعيفا احفر عميقا في باطن الأرض". سنتحدث في هذه المقالة عن الأنفاق الحربية وأنواعها وكيف ساهمت في حسم بعض الصراعات الحديثة، وأهميتها لحروب المستضعفين. يمكن تعريف الأنفاق بأنها: عبارة عن ممرات أرضية تستخدم لقطع مسافات يصعب التحرك فيها فوق الأرض لتحقيق مبدأ التماس مع العدو أو الامداد والانتقال من مكان لآخر، حسب نشرة لكتائب عز الدين القسام غير متاحة للعموم[ رامي أبو زبيدة، استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م (رسالة ماجستير) ص 57]. تنقسم الأنفاق الحربية إلى عدة أنواع تبعا لاستخداماتها وأغراض حفرها، ويمكن حصرها في ثلاثة أنواع: أنفاق هجومية؛ أنفاق دفاعية؛ أنفاق لوجستية، وهناك أنفاق أخرى تستخدم في مناطق الحروب لكن أهدافها إنسانية ومدنية محضة. الأنفاق الهجومية: ويتم استخدامها للوصول إلى عمق مواقع العدو، بهدف القيام بعمليات سريعة هناك، وخطف أفراده وعناصره، وتفخيخ المقرات ومخازن السلاح، وتستخدم الأنفاق الهجومية أيضا في عمليات القصف بالهاون والصواريخ لتجنب رصدها قواعدها من طيران الاستطلاع. وبواسطة هذا النوع من الأنفاق يتم الالتفاف حول قوات العدو والتسلل إلى قواعده الخلفية. وفي بعض الأحيان تُحفر الأنفاق تحت المقرات والقواعد العسكرية فيجري تفجيرها بعد تلغيمها بالمواد المتفجرة. الأنفاق الدفاعية: وتُستخدم الأنفاق الدفاعية في امتصاص كثافة النيران، وكمون المقاتلين في انتظار تقدم القوات المهاجمة، كما تستخدم كمخابئ وأماكن اجتماع القادة، وكممرات للتنقل واجتياز المساحات المكشوفة ناريا واستطلاعيا للعدو. وتزداد أهمية هذا النوع من الأنفاق في حالة اعتماد العدو على سلاح الطيران والمسح الجوي لرصد واستهداف أية حركة غير عادية على الأرض. الأنفاق اللوجستية: وهي الأنفاق التي يُلجأ إليها بهدف تأمين الإمدادات اللازمة لاستمرار المعارك؛ من أسلحة ومعدات عسكرية ومواد غذائية وطبية وغيرها، وغالبا ما تكون وسيلة لربط الجبهات المحاصرة بالجبهات المفتوحة، وهي بمثابة شرايين الحياة لهذه الجبهات إذ لا تستطيع الصمود وتوفير متطلبات المعركة من دونها. لا يمكن الحديث عن حروب التحرير المعاصرة واستراتيجياتها وأساليبها وعوامل نجاحها دون الحديث عن "الأنفاق الحربية" ودورها في تغيير موازين هذه الحروب وبلورة نتائجها التي حددت لاحقا معالم الخريطة السياسية للعالم، ولا زالت الأنفاق الحربية رقما صعبا في الثورات الشعبية المسلحة وحروب التحرير والاستقلال إلى اليوم. تتطور أساليب حفرها وهندستها وتتطور معها طرق اكتشافها وتدميرها والحد من تأثيرها؛ ابتداء من إنشاء الولايات المتحدة الامريكية لوحدة "جرذان الأنفاق" المتخصصة في كشف أنفاق الفيتكونغ إبان الحرب الفيتنامية وانتهاء بمشروع "المجرفة الحديدية" التي يقال إن إسرائيل تشتغل عليه لوضع حد لرعب أنفاق المقاومة الإسلامية في غزة. أنفاق كوتشي تعتبر حرب الأنفاق في الثورة الفيتنامية أوضح تعبير عن انسجام الإنسان الفيتنامي المقاتل مع الطبيعة الفيتنامية واستغلاله التام للإمكانيات المتوفرة فيها في مواجهة الجنود والأسلحة والآليات من جانب، وفي تجنب أو الحد من آثار الغازات والقنابل الدخانية من جانب آخر[ علي فياض، التجربة الفيتنامية ص 335]. تقع مقاطعة كوتشي cu che على بعد 70 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة سايغون، وتقع وسط أربعة قواعد عسكرية هامة، وموقعها الاستراتيجي هذا منح للأنفاق التي حفرت تحتها دورا محوريا في عملية دخول الفيتكونج للعاصمة سايغون ودحر القوات الأمريكية الغازية. امتدت ممرات وأنفاق كوتشي مسافة تصل إلى 200 ميل، وكانت عبارة عن قرية مصغرة مبنية تحت الأرض، وكانت هذه الأنفاق تؤوي العشرات من القرويين ومواشيهم خلال فترات القصف الشديد الذي تتعرض له المقاطعة، ولمواجهة آثار القنابل الثقيلة وقاذفات B52 روعيت خلال بناء الأنفاق مواصفات خاصة بحيث تكون على عمق 12 مترا، وأن تتوفر على منافذ كافية للتهوية، ويمتد بعضها تحت مناطق ومراكز تابعة للقيادة الأمريكية أو السايجونية لتجنب القصف.[ المصدر السابق 37] وبإمكان هذه الأنفاق أن تتحمل ضغط القنابل من 500 رطل[ روبرت تابر، حرب المستضعفين، ص 72 ]. اشتهرت كوتشي عالميا بعد قرار الولايات المتحدة الرد على عملية للثوار في المنطقة، حيث استخدمت قاذفات B52، وطائرات إنزال ومروحيات و170 ألف قذيفة مدفعية، وآلاف الجنود من المظليين والمشاة والصاعقة الاستوائية، واستمرت العملية 11 يوما دون أن تدمر أنفاق كوتشي كما وعدت القيادة الأمريكية، وبعد عامين من العملية انقض ثوار كوتشي على العاصمة سايغون وأعلنوا انتصار الثورة الفيتنامية. أنفاق خوست يحلو للبعض أن يعزو انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفييتي إلى الأسلحة والمعدات التي كانت تدعمهم بها الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن من هذا البعض من يختزل ملحة الجهاد الأفغاني بصواريخ "ستينغر" الأمريكية. بينما شواهد الواقع والتاريخ تقول إن الشعب الأفغاني حساس جدا تجاه الغزاة، ويبدل في سبيل التصدي لهم كل ما يملكه من طاقة وقوة، سواء كان هذا العدو شرقيا أم غربيا، ولا يزال إلى يومنا هذا يحارب قوات الناتو التي احتلت أرضه منذ 17 عاما دون أن يتلقى دعما معتبرا من أحد. استغل الشعب الأفغاني تضاريس بلاده في التصدي للغزاة والمحتلين، وحفر أنفاقا تحت الأرض وكهوفا في قمم الجبال ليعزز صموده ومقاومته. كانت معركة خوست خارج برنامج الدعم الغربي للجهاد الأفغاني، لأن الاتحاد السوفياتي خرج من أفغانستان قبلها بسنتين تقريبا، لكنه ظل يدعم حكومة نجيب الله ويوفر لها الاسناد اللازم لتفرض سيطرتها على مدن البلاد. ومعركة خوست كانت تعبيرا عن إرادة الأفغان في التحرر من فلول النظام الشيوعي وكذا والوصاية الغربية وبالتالي سعى الجميع لإفشالها. تحدث أبو الوليد المصري (مصطفى حامد) في كتابة فتح خوست عن دور أعمال الحفر التي قام بها المقاتلون الأفغان في حسم المعركة لصالحهم، وكيف أنها كانت سببا في تحييد سلاح الجو وتجريده من فاعليته، كانت أعمال حفر الأنفاق والكهوف في خوست يتولاها مجموعة من الشباب مكلفون خصيصا بهذه المهمة سماهم مصطفى حامد (شركة وردك للحفريات)[ مصطفى حامد، فتح خوست ص 27] وكان لهم دور بارز في انتصارات خوست. استخدمت المقاومة الأفغانية أدوات بدائية في عمليات الحفر وشق الأخاديد في الصخور وحفر الكهوف في قمم الجبال، وكانت هذه الكهوف والأخاديد تحصينات منيعة لم تحيد سلاح الجو بمختلف أنواعه وأصنافه فقط بل حيدت أيضا كل الآليات والعربات الثقيلة التي استقدمها الاتحاد السوفييتي وبعده حلف الناتو إلى بلاد الأفغان. فاكتفى الغزاة بالسيطرة على المدن الرئيسية تاركين الأرياف والمديريات النائية بأيدي المقاومة الأفغانية. وقد استخدمت الولايات المتحدة مؤخرا ما سمتها بأم القنابل وهي أفتك قنبلة بعد القنبلة النووية لتدمير التحصينات الأفغانية لكن دون جدوى. نفق سراييفو أطبق الصرب حصارهم الخانق على مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك مطلع عام 1992، واستمر الحصار أكثر من ثلاث سنوات، عاش خلالها أهل سراييفو أهوالا لا توصف، ورأوا الموت البطيء يزحف إليهم مع مرور كل يوم من الحصار، عانت المقاومة البوسنية من الحصار حيت لا سلاح ولا ذخيرة ولا إمدادات، وتزامن الحصار مع حملات قصف شديدة شنها الصرب على المدينة من المرتفعات والجبال المحيطة بها. ووقف العالم يشاهد احتضار مدينة مسلمة دون أن يحرك ساكنا. أشار مهاجر عربي (أبو عمر المصري) قدم من أفغانستان وكان شاهدا على حروب الأنفاق هناك؛ أشار على أهل المدينة بحفر نفق يمتد إلى خارجها لكسر الحصار وإدخال السلاح والإمدادات الغذائية والطبية إلى الأهالي المنكوبين. استغرب الناس من الفكرة ورأوها مستحيلة التحقق، لكنها كانت شاهدة على إرادة الصمود والمقاومة من شعب أعزل ومحاصر، فكان أن أطلقوا على النفق اسم " نفق الأمل ". استغرق حفر النفق 6 أشهر وكان ممرا أرضيا ممتدا على مسافة 800 متر ومدعما بـ 170 مترا مكعبا من الأخشاب. يمر عبر النفق يوميا ما يقارب 3000 شخص و30 طنا من المواد الغذائية والتموينية، والأهم من كل ذلك مكن النفق من تسليح البوسنيين المحاصرين وإمدادهم بالذخيرة الكافية للصمود والمقاومة[ البوسنة بالعربي، قصة نفق الأمل وتاريخه، http://www.arbosnia.com/sarajevo-tunnel-story-and-importance/]. أنفاق غزة ربما لم تشعر إسرائيل بالرعب في تاريخ صراعها مع العرب كما تشعر به اتجاه أنفاق غزة، وإذا كانت القبة الحديدية أشعرت الإسرائيليين ببعض الأمل في إمكانية إيجاد حل لصواريخ المقاومة، فإنها ليست متأكدة من إمكانية إيجاد حل مجدي لرعب الأنفاق، فكل الدراسات والأبحاث التي تقوم بها في هذا الإطار لا تثق تماما في نتائجها كما يقول الباحث المتخصص في أنفاق المقاومة رامي أبو زبيدة[ ننوه إلى أهمية الاطلاع على الدراسة التي أنجزها الباحث رامي أبو زبيدة حول " استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م " وهي عبارة عن رسالة ماجستير تطرق فيها الباحث إلى كل ما له علاقة بأنفاق المقاومة في غزة وختمها بمجموعة من التوصيات المفيدة في مجال حفر الأنفاق. والدراسة متاحة للتحميل في هذا الرابط: http://mpa.edu.ps/uploads/120110244.pdf]، خصوصا وهذه الأنفاق تشهد تطورا متواصلا في تقنيات حفرها وتمويهها وتجهيزها لتعزز فعاليتها ونجاعتها. خاضت المقاومة الإسلامية في غزة حربا شرسة مع أقوى جيش في المنطقة، واستطاعت الصمود وتكبيده خسائر فادحة، وأسر جنوده بفضل توظيفها المتقن للأنفاق والممرات الأرضية، كما حافظت المقاومة على قادتها وكوادرها بعيدا عن الاغتيال والاستهداف في فترة اشتداد المواجهات، بل إنهم أداروا المعركة بكفاءة واقتدار في مقراتهم الأرضية الحصينة. استخدمت المقاومة في غزة الأنفاق للدعم والإمداد، والتسلل إلى خلف خطوط العدو والوصول إلى عمق مناطقه، واستخدمتها كمنصات لإطلاق القذائف والصواريخ. وتمكنت في 2006 من أسر الجندي جلعاد شاليط وتهريبه إلى داخل القطاع عبر أحد الأنفاق. ولا تزال المقاومة تبدع في تكتيكات الأنفاق وتراهن عليها في صناعة التفوق أمام ترسانة الجيش الإسرائيلي الذي قيل يوما إنه لا يُقهر!! دفعت أعمال التطوير المفاجئة في تقنيات المقاومة التي تجلت في حرب الأنفاق، المراسل العسكري "روني دانيئيل" في التلفزيون الإسرائيلي للقول: "يبدو أننا خسرنا صراع الأدمغة في مواجهة حماس"، واتهم محللون عسكريون الجيش الإسرائيلي بالبطء والتأخر في البحث عن الحلول التكنولوجية والميدانية الملائمة لمشكلة الأنفاق وتطبيقها، رغم أن قادته أخذوا يتحدثون عنها منذ مدة من الزمن، باعتبارها سلاحا "يخرق التوازن"، وقد يخرج الجيش في غزة عن أطواره واتزانه، لكن هذا الأمر لم يقُد إلى "خياطة البدلة الملائمة لمواجهة تهديد الأنفاق".[ أنفاق غزة، ساحة المواجهة القادمة، الجزيرة نت] خاتمة: حفر الأنفاق ليس تكتيكا أو أسلوبا حربيا فقط يلجأ إليه المستضعفون عند الضرورة الملحة بل هو سلاح استراتيجي قادر على قلب موازين القوى، وصياغة معادلات صراعية جديدة تصنع التفوق وتدفع في اتجاه الحسم أو تضع بنية تحتية متماسكة لمقاومة مستدامة. إن حفر نفق استراتيجي يشبه بناء غواصة أو سفينة مدمرة. لقد أبدت المقاومة في غزة استعدادها لوضع خبرتها في مجال الأنفاق رهن إشارة الحركات الثورية، وقد ساعدت كتائب القسام ثوار سوريا في حفر الأنفاق وتجويدها. ولا يكفي هذا بل يجب أن تتفرغ لجنة تضم مهندسين وخبراء في الجيولوجيا لتطوير هذا المجال الحيوي بالنسبة لمعارك المستضعفين، وبعث متخصصين لزيارة أنفاق سوتشي وسراييفو لجمع المعلومات والملاحظات حولها وهي مفتوحة للسياح والزوار على مدار السنة. إن أول ما ينبغي التفكير فيه عند السيطرة على أي مدينة أو قرية استراتيجية هو وضع مخطط هندسي للأنفاق والممرات والمباشرة إلى حفرها تعزيزا لمناعتها ومقاومتها واستعدادا لأي حصار قد يفرض عليها، وتوفيرا للملاجئ والأماكن الآمنة للمدنيين والثوار في حالات القصف الشديد.
حروب الأنفاق.. تفوق المستضعفين
عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/zPZ8Pj]

يشكل التفوق التقني الهائل للقوى الكبرى المهيمنة أكبر التحديات التي اعترضت حروب التحرير الشعبية والثورات المسلحة في عصرنا، إذ لا يمكن مقارنة مستوى التقدم التكنولوجي والحربي لهذه القوى بذلك الذي تتمتع به المجموعات والكيانات المتمردة على سيطرتها الساعية للتحرر من هيمنتها واحتلالها، لكن ما فتئت عقلية المستضعفين الخلاقة تبدع مناهج المواجهة وأساليب التصدي والنكاية في قوى الجبر والاحتلال، مكنتهم في النهاية إما من الانتصار ودحر الغزاة أو الصمود في وجههم واستنزافهم في مقاومة مستدامة ستسفر لا محالة عن هزيمتهم في يوم من الأيام.

تقوم فلسفة حروب المستضعفين على تحييد التفوق التقني والتكنولوجي للعدو من خلال اللجوء إلى أساليب بدائية في المواجهة والحركة والتواصل، فمثلا تحييد قدرة العدو الجبارة على اعتراض الرسائل والمكالمات وتفكيك الشفرات وكشف البصمة الصوتية واختراق أجهزة الاتصال المختلفة يتم عبر اعتماد نظام تواصلي يتجنب توظيف التكنولوجيا الحديثة، كتوصيل الرسائل باليد أو استخدام منصات وأجهزة لا تُستعمل عادة في التواصل ولا تخضع بسبب ذلك للرصد والمراقبة[ فاجأ تنظيم داعش المخابرات البلجيكية عندما استخدم ألعاب الفيديو " بلاي ستيشن" للتواصل مع منفذي هجمات باريس.
http://www.huffpostarabi.com/2015/11/16/story_n_8574608.html].

وإذا كان العدو يسعى لفرض سيطرته على الأرض وإقامة القواعد العسكرية الضخمة، ونشر الجنود والآليات في الأحياء والمدن، فحروب المستضعفين تقوم على اللا سيطرة وتجنب إقامة قواعد ومقرات عسكرية ثابتة وقابلة للرصد والملاحظة. وإذا كان العدو قد طور طائرات مقاتلة وأقمار اصطناعية فرض بها سيطرته على الأجواء ورصد بها ما يجري على سطح الأرض، فإن المستضعفين قد شقوا لأنفسهم أخاديد وأنفاق في باطن الأرض، وحيدوا بها ترسانة تكنلوجية كلفت ملايير الدولارات، وسنوات طويلة من الأبحاث والتطوير، مجسدين بذلك الحكمة الصينية القديمة " عندما تكون قويا انقض من أعلى مثل العقاب وعندما تكون ضعيفا احفر عميقا في باطن الأرض".

سنتحدث في هذه المقالة عن الأنفاق الحربية وأنواعها وكيف ساهمت في حسم بعض الصراعات الحديثة، وأهميتها لحروب المستضعفين.

يمكن تعريف الأنفاق بأنها: عبارة عن ممرات أرضية تستخدم لقطع مسافات يصعب التحرك فيها فوق الأرض لتحقيق مبدأ التماس مع العدو أو الامداد والانتقال من مكان لآخر، حسب نشرة لكتائب عز الدين القسام غير متاحة للعموم[ رامي أبو زبيدة، استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م (رسالة ماجستير) ص 57].

تنقسم الأنفاق الحربية إلى عدة أنواع تبعا لاستخداماتها وأغراض حفرها، ويمكن حصرها في ثلاثة أنواع: أنفاق هجومية؛ أنفاق دفاعية؛ أنفاق لوجستية، وهناك أنفاق أخرى تستخدم في مناطق الحروب لكن أهدافها إنسانية ومدنية محضة.

الأنفاق الهجومية: ويتم استخدامها للوصول إلى عمق مواقع العدو، بهدف القيام بعمليات سريعة هناك، وخطف أفراده وعناصره، وتفخيخ المقرات ومخازن السلاح، وتستخدم الأنفاق الهجومية أيضا في عمليات القصف بالهاون والصواريخ لتجنب رصدها قواعدها من طيران الاستطلاع. وبواسطة هذا النوع من الأنفاق يتم الالتفاف حول قوات العدو والتسلل إلى قواعده الخلفية. وفي بعض الأحيان تُحفر الأنفاق تحت المقرات والقواعد العسكرية فيجري تفجيرها بعد تلغيمها بالمواد المتفجرة.

الأنفاق الدفاعية: وتُستخدم الأنفاق الدفاعية في امتصاص كثافة النيران، وكمون المقاتلين في انتظار تقدم القوات المهاجمة، كما تستخدم كمخابئ وأماكن اجتماع القادة، وكممرات للتنقل واجتياز المساحات المكشوفة ناريا واستطلاعيا للعدو. وتزداد أهمية هذا النوع من الأنفاق في حالة اعتماد العدو على سلاح الطيران والمسح الجوي لرصد واستهداف أية حركة غير عادية على الأرض.

الأنفاق اللوجستية: وهي الأنفاق التي يُلجأ إليها بهدف تأمين الإمدادات اللازمة لاستمرار المعارك؛ من أسلحة ومعدات عسكرية ومواد غذائية وطبية وغيرها، وغالبا ما تكون وسيلة لربط الجبهات المحاصرة بالجبهات المفتوحة، وهي بمثابة شرايين الحياة لهذه الجبهات إذ لا تستطيع الصمود وتوفير متطلبات المعركة من دونها.

لا يمكن الحديث عن حروب التحرير المعاصرة واستراتيجياتها وأساليبها وعوامل نجاحها دون الحديث عن "الأنفاق الحربية" ودورها في تغيير موازين هذه الحروب وبلورة نتائجها التي حددت لاحقا معالم الخريطة السياسية للعالم، ولا زالت الأنفاق الحربية رقما صعبا في الثورات الشعبية المسلحة وحروب التحرير والاستقلال إلى اليوم. تتطور أساليب حفرها وهندستها وتتطور معها طرق اكتشافها وتدميرها والحد من تأثيرها؛ ابتداء من إنشاء الولايات المتحدة الامريكية لوحدة "جرذان الأنفاق" المتخصصة في كشف أنفاق الفيتكونغ إبان الحرب الفيتنامية وانتهاء بمشروع "المجرفة الحديدية" التي يقال إن إسرائيل تشتغل عليه لوضع حد لرعب أنفاق المقاومة الإسلامية في غزة.

أنفاق كوتشي

تعتبر حرب الأنفاق في الثورة الفيتنامية أوضح تعبير عن انسجام الإنسان الفيتنامي المقاتل مع الطبيعة الفيتنامية واستغلاله التام للإمكانيات المتوفرة فيها في مواجهة الجنود والأسلحة والآليات من جانب، وفي تجنب أو الحد من آثار الغازات والقنابل الدخانية من جانب آخر[ علي فياض، التجربة الفيتنامية ص 335]. تقع مقاطعة كوتشي cu che على بعد 70 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة سايغون، وتقع وسط أربعة قواعد عسكرية هامة، وموقعها الاستراتيجي هذا منح للأنفاق التي حفرت تحتها دورا محوريا في عملية دخول الفيتكونج للعاصمة سايغون ودحر القوات الأمريكية الغازية.

امتدت ممرات وأنفاق كوتشي مسافة تصل إلى 200 ميل، وكانت عبارة عن قرية مصغرة مبنية تحت الأرض، وكانت هذه الأنفاق تؤوي العشرات من القرويين ومواشيهم خلال فترات القصف الشديد الذي تتعرض له المقاطعة، ولمواجهة آثار القنابل الثقيلة وقاذفات B52 روعيت خلال بناء الأنفاق مواصفات خاصة بحيث تكون على عمق 12 مترا، وأن تتوفر على منافذ كافية للتهوية، ويمتد بعضها تحت مناطق ومراكز تابعة للقيادة الأمريكية أو السايجونية لتجنب القصف.[ المصدر السابق 37] وبإمكان هذه الأنفاق أن تتحمل ضغط القنابل من 500 رطل[ روبرت تابر، حرب المستضعفين، ص 72 ].

اشتهرت كوتشي عالميا بعد قرار الولايات المتحدة الرد على عملية للثوار في المنطقة، حيث استخدمت قاذفات B52، وطائرات إنزال ومروحيات و170 ألف قذيفة مدفعية، وآلاف الجنود من المظليين والمشاة والصاعقة الاستوائية، واستمرت العملية 11 يوما دون أن تدمر أنفاق كوتشي كما وعدت القيادة الأمريكية، وبعد عامين من العملية انقض ثوار كوتشي على العاصمة سايغون وأعلنوا انتصار الثورة الفيتنامية.

أنفاق خوست

يحلو للبعض أن يعزو انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفييتي إلى الأسلحة والمعدات التي كانت تدعمهم بها الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن من هذا البعض من يختزل ملحة الجهاد الأفغاني بصواريخ "ستينغر" الأمريكية. بينما شواهد الواقع والتاريخ تقول إن الشعب الأفغاني حساس جدا تجاه الغزاة، ويبدل في سبيل التصدي لهم كل ما يملكه من طاقة وقوة، سواء كان هذا العدو شرقيا أم غربيا، ولا يزال إلى يومنا هذا يحارب قوات الناتو التي احتلت أرضه منذ 17 عاما دون أن يتلقى دعما معتبرا من أحد. استغل الشعب الأفغاني تضاريس بلاده في التصدي للغزاة والمحتلين، وحفر أنفاقا تحت الأرض وكهوفا في قمم الجبال ليعزز صموده ومقاومته.

كانت معركة خوست خارج برنامج الدعم الغربي للجهاد الأفغاني، لأن الاتحاد السوفياتي خرج من أفغانستان قبلها بسنتين تقريبا، لكنه ظل يدعم حكومة نجيب الله ويوفر لها الاسناد اللازم لتفرض سيطرتها على مدن البلاد. ومعركة خوست كانت تعبيرا عن إرادة الأفغان في التحرر من فلول النظام الشيوعي وكذا والوصاية الغربية وبالتالي سعى الجميع لإفشالها.

تحدث أبو الوليد المصري (مصطفى حامد) في كتابة فتح خوست عن دور أعمال الحفر التي قام بها المقاتلون الأفغان في حسم المعركة لصالحهم، وكيف أنها كانت سببا في تحييد سلاح الجو وتجريده من فاعليته، كانت أعمال حفر الأنفاق والكهوف في خوست يتولاها مجموعة من الشباب مكلفون خصيصا بهذه المهمة سماهم مصطفى حامد (شركة وردك للحفريات)[ مصطفى حامد، فتح خوست ص 27] وكان لهم دور بارز في انتصارات خوست.

استخدمت المقاومة الأفغانية أدوات بدائية في عمليات الحفر وشق الأخاديد في الصخور وحفر الكهوف في قمم الجبال، وكانت هذه الكهوف والأخاديد تحصينات منيعة لم تحيد سلاح الجو بمختلف أنواعه وأصنافه فقط بل حيدت أيضا كل الآليات والعربات الثقيلة التي استقدمها الاتحاد السوفييتي وبعده حلف الناتو إلى بلاد الأفغان.

فاكتفى الغزاة بالسيطرة على المدن الرئيسية تاركين الأرياف والمديريات النائية بأيدي المقاومة الأفغانية. وقد استخدمت الولايات المتحدة مؤخرا ما سمتها بأم القنابل وهي أفتك قنبلة بعد القنبلة النووية لتدمير التحصينات الأفغانية لكن دون جدوى.

نفق سراييفو

أطبق الصرب حصارهم الخانق على مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك مطلع عام 1992، واستمر الحصار أكثر من ثلاث سنوات، عاش خلالها أهل سراييفو أهوالا لا توصف، ورأوا الموت البطيء يزحف إليهم مع مرور كل يوم من الحصار، عانت المقاومة البوسنية من الحصار حيت لا سلاح ولا ذخيرة ولا إمدادات، وتزامن الحصار مع حملات قصف شديدة شنها الصرب على المدينة من المرتفعات والجبال المحيطة بها. ووقف العالم يشاهد احتضار مدينة مسلمة دون أن يحرك ساكنا.

أشار مهاجر عربي (أبو عمر المصري) قدم من أفغانستان وكان شاهدا على حروب الأنفاق هناك؛ أشار على أهل المدينة بحفر نفق يمتد إلى خارجها لكسر الحصار وإدخال السلاح والإمدادات الغذائية والطبية إلى الأهالي المنكوبين. استغرب الناس من الفكرة ورأوها مستحيلة التحقق، لكنها كانت شاهدة على إرادة الصمود والمقاومة من شعب أعزل ومحاصر، فكان أن أطلقوا على النفق اسم " نفق الأمل ". استغرق حفر النفق 6 أشهر وكان ممرا أرضيا ممتدا على مسافة 800 متر ومدعما بـ 170 مترا مكعبا من الأخشاب. يمر عبر النفق يوميا ما يقارب 3000 شخص و30 طنا من المواد الغذائية والتموينية، والأهم من كل ذلك مكن النفق من تسليح البوسنيين المحاصرين وإمدادهم بالذخيرة الكافية للصمود والمقاومة[ البوسنة بالعربي، قصة نفق الأمل وتاريخه،
http://www.arbosnia.com/sarajevo-tunnel-story-and-importance/].

أنفاق غزة

ربما لم تشعر إسرائيل بالرعب في تاريخ صراعها مع العرب كما تشعر به اتجاه أنفاق غزة، وإذا كانت القبة الحديدية أشعرت الإسرائيليين ببعض الأمل في إمكانية إيجاد حل لصواريخ المقاومة، فإنها ليست متأكدة من إمكانية إيجاد حل مجدي لرعب الأنفاق، فكل الدراسات والأبحاث التي تقوم بها في هذا الإطار لا تثق تماما في نتائجها كما يقول الباحث المتخصص في أنفاق المقاومة رامي أبو زبيدة[ ننوه إلى أهمية الاطلاع على الدراسة التي أنجزها الباحث رامي أبو زبيدة حول " استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م " وهي عبارة عن رسالة ماجستير تطرق فيها الباحث إلى كل ما له علاقة بأنفاق المقاومة في غزة وختمها بمجموعة من التوصيات المفيدة في مجال حفر الأنفاق. والدراسة متاحة للتحميل في هذا الرابط:
http://mpa.edu.ps/uploads/120110244.pdf]، خصوصا وهذه الأنفاق تشهد تطورا متواصلا في تقنيات حفرها وتمويهها وتجهيزها لتعزز فعاليتها ونجاعتها.

خاضت المقاومة الإسلامية في غزة حربا شرسة مع أقوى جيش في المنطقة، واستطاعت الصمود وتكبيده خسائر فادحة، وأسر جنوده بفضل توظيفها المتقن للأنفاق والممرات الأرضية، كما حافظت المقاومة على قادتها وكوادرها بعيدا عن الاغتيال والاستهداف في فترة اشتداد المواجهات، بل إنهم أداروا المعركة بكفاءة واقتدار في مقراتهم الأرضية الحصينة.

استخدمت المقاومة في غزة الأنفاق للدعم والإمداد، والتسلل إلى خلف خطوط العدو والوصول إلى عمق مناطقه، واستخدمتها كمنصات لإطلاق القذائف والصواريخ. وتمكنت في 2006 من أسر الجندي جلعاد شاليط وتهريبه إلى داخل القطاع عبر أحد الأنفاق. ولا تزال المقاومة تبدع في تكتيكات الأنفاق وتراهن عليها في صناعة التفوق أمام ترسانة الجيش الإسرائيلي الذي قيل يوما إنه لا يُقهر!!

دفعت أعمال التطوير المفاجئة في تقنيات المقاومة التي تجلت في حرب الأنفاق، المراسل العسكري "روني دانيئيل" في التلفزيون الإسرائيلي للقول: "يبدو أننا خسرنا صراع الأدمغة في مواجهة حماس"، واتهم محللون عسكريون الجيش الإسرائيلي بالبطء والتأخر في البحث عن الحلول التكنولوجية والميدانية الملائمة لمشكلة الأنفاق وتطبيقها، رغم أن قادته أخذوا يتحدثون عنها منذ مدة من الزمن، باعتبارها سلاحا "يخرق التوازن"، وقد يخرج الجيش في غزة عن أطواره واتزانه، لكن هذا الأمر لم يقُد إلى "خياطة البدلة الملائمة لمواجهة تهديد الأنفاق".[ أنفاق غزة، ساحة المواجهة القادمة، الجزيرة نت]

خاتمة:
حفر الأنفاق ليس تكتيكا أو أسلوبا حربيا فقط يلجأ إليه المستضعفون عند الضرورة الملحة بل هو سلاح استراتيجي قادر على قلب موازين القوى، وصياغة معادلات صراعية جديدة تصنع التفوق وتدفع في اتجاه الحسم أو تضع بنية تحتية متماسكة لمقاومة مستدامة. إن حفر نفق استراتيجي يشبه بناء غواصة أو سفينة مدمرة. لقد أبدت المقاومة في غزة استعدادها لوضع خبرتها في مجال الأنفاق رهن إشارة الحركات الثورية، وقد ساعدت كتائب القسام ثوار سوريا في حفر الأنفاق وتجويدها.

ولا يكفي هذا بل يجب أن تتفرغ لجنة تضم مهندسين وخبراء في الجيولوجيا لتطوير هذا المجال الحيوي بالنسبة لمعارك المستضعفين، وبعث متخصصين لزيارة أنفاق سوتشي وسراييفو لجمع المعلومات والملاحظات حولها وهي مفتوحة للسياح والزوار على مدار السنة. إن أول ما ينبغي التفكير فيه عند السيطرة على أي مدينة أو قرية استراتيجية هو وضع مخطط هندسي للأنفاق والممرات والمباشرة إلى حفرها تعزيزا لمناعتها ومقاومتها واستعدادا لأي حصار قد يفرض عليها، وتوفيرا للملاجئ والأماكن الآمنة للمدنيين والثوار في حالات القصف الشديد.
‏٠٦‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٦:٤٥ م‏
افتتاحية العدد الجديد: القرآن المحفوظ دليل المقاومة @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد https://goo.gl/zPZ8Pj] لو لم يكن نص القرآن محفوظا من عند الله لكان الذين حرفوه وبدلوه هم المسلمون أنفسهم لا أعداؤهم! ربما تكون هذه مفاجئة للأكثرين، لكن الواقع أن هذا هو ما كان سيكون، فكذلك فعلت الأمم السابقة بكتبها، هم من بدلوه وغيروه وليس أعداؤهم! ولو لم يحدث هذا لشهوة حاكم أو لانحراف عالِم لحدث للأمة في وقت استضعافها، ففي ذلك الوقت يُنتج المهزومون نفسيا نسخة من الإسلام توافق وتتماهي مع الثقافة الغالبة، يحاولون بها التوفيق بين أصولهم وجذورهم الإسلامية وبين إكراهات وضغوط الواقع الذي يمتحن دينهم ويضعهم في قفص الاتهام! ها نحن في زمن استضعاف، وكثير من الناس، بمن فيهم محسوبون على المشيخة والعلماء يعملون بكل جد واجتهاد في إنتاج نسخة من الإسلام توافق الثقافة الغربية الحديثة ذات السطوة والهيمنة، ويمكنك ببساطة أن تعرف هؤلاء من طريقتهم في التعامل مع النصوص.. فإذا كثر في كلامه رد النص أو تأويله أو تمييعه أو صرفه عن وجهه إلى معانٍ أخرى فأغلب الظن أن هذا من هؤلاء الذين نتحدث عنهم. لنضرب مثليْن: 1. حين سادت الثقافة الشيوعية الاشتراكية في بلادنا، اضطر جمهرة من المشايخ والعلماء إلى بيان ما في الإسلام من عدالة اجتماعية وتكافل ومحاربة للغنى الفاحش وفرض للزكاة على الأغنياء باعتبارها حقا للفقراء، وافتخروا بأن أبا بكر حارب مانعي الزكاة لأنها حق الله الذي قرره للفقير. إلى هذا الحد والأمر مفهوم وطبيعي وهو استجابة للتحدي الشيوعي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف فزعم مثلا أن رأي أبا ذر (وقد كان يرى ألا يحتفظ المرء إلا بقوت يومه، وما زاد على هذا فهو اكتناز) هو منهج الإسلام مع أن أبا ذر هو المخالف في هذه المسألة لبقية الصحابة، فعمدوا إلى رفع قول أبي ذر وتعظيمه، فصار مخالفوه هم المخطئون، وصار هو وحده المصيب. وهي نتيجة عظيمة ترمي جمهرة الصحابة والتابعين بحب الدنيا والانحراف عن الإسلام. ثم منهم من زاد في الانحراف مزيدا فجعل تمردا دمويا قبيحا شنيعا انتهك الأعراض وأسرف في الدماء كثورة الزنج ثورة مشروعة، وصار زعيمها ثوريا مطالبا بحق الفقراء في وجه السلطة المترفة!! 2. فأما حين انتصرت الرأسمالية الليبرالية ورفعت شعارات حقوق الإنسان فقد تغير التحدي، وصارت الثقافة الغالبة تنحو منحى آخر، فهنا كان طبيعيا أن ينتج العلماء خطابا يظهر أثر الإسلام في تحرر البشر وفي كفالته للحرية والخصوصية والحق في التعبير والاعتراض في وجه الحكام ورفعه لشأن المرأة وما وفره لها من حقوق وما قيَّد فيه السلطة لئلا تستبد.. إلخ! أيضا إلى هنا والأمر مفهوم، وهو الواجب الطبيعي في ظل التحدي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف ليجعل من ضمن الحريات الشخصية التي يكفلها الإسلام حق الردة فاجتهد في نفي حد الردة وتأويل ما جاء فيه، وفي نفي الرجم للزاني المحصن.. بل زاد آخرون فجعلوا من حقوق المرء حقه في اللواط فقالوا بأنه لا ينبغي للدولة أن تعاقب على مثل هذا لأنه من الحرية، وكذلك ترك الصلاة والمجاهرة بالفطر في نهار رمضان وحق المرأة في أن ترتدي الحجاب أو تخلعه أو تسافر بمحرم أو بغير محرم... وهكذا! ولدى هؤلاء صارت مسائل كجهاد الطلب أو كحرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة أو لضرب عمر لبعض الناس بالدرة أو غير ذلك من المسائل التي ترفضها "الثقافة الغالبة" من الأمور الحرجة التي يعانون في ردها وصرفها وتأويلها على غير وجهها وإنتاج فتاوى تجعلها من خصوصيات الزمان والمكان السابقين. لا شك أن هناك من انحرف أكثر من هذا وأكثر فجعل كل السنة نصا تاريخيا، بمعنى أنه إنتاج بشري من الرسول متعلق بآثار الزمان والمكان والبيئة والطبيعة الشخصية، فليست له قداسة الوحي.. وهناك من انحرف فجعل القرآن نفسه نصا تاريخيا ناتجا عن البيئة ولا يمكن أن يكون ملبيا لحاجات الناس بعد نزوله بألف وخمسمائة سنة وفي بيئة تغيرت تماما عن بيئة العرب! وهكذا نشأت غابة ضخمة من آثار الثقافة الغالبة، الثقافة ذات السطوة والحضور والسلاح والإعلام، فمنهم من كان صريحا ومباشرا في تطويع الإسلام لها ودعوته لهذا كالعلمانيين، ومنهم من تلبس ببعض هذا حتى وصل به الحال أن يلبس العلمانية ثوبا إسلاميا، يتوسل إلى هذا بعناوين عريضة منها: المقاصد الشرعية ودلالة اللغة وحجية السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية وحجية تصرفات النبي في السياسة والتجديد في الأصول والتجديد في الفقه... إلى آخر هذه العناوين التي بعضها حق لا شك وقد وضعها العلماء أصلا لضبط الدين وفهم أحكامه ورسم بنيانه وإرشاد المفتي والقاضي إلى سواء السبيل، فجاء هؤلاء فأخرجوها عن المقصد من وضعها لتكون وسيلة لتمييع الدين وتفكيكه وإذابته وإخضاعه للثقافة الغالبة المعاصرة. كيف نعرف هؤلاء؟! نعرفهم في لحن القول.. ذلك أن الذي يتعامل مع نص القرآن أو السنة باعتباره هاديا يخالف الذي يتعامل معه باعتباره أزمة، أولئك الذين نتحدث عنهم يظهر في كلامهم بوضوح التعامل مع النص وكأنه أزمة، فيجتهد في التخلص منه وإهداره: -فإن كان النص قول عالم أو فقيه مهما بلغ مقامه من الإمامة تحول إلى ناقد متشدد وقال: ليس هو بالمعصوم، واجتهد في البحث عما يعارضه.. لا للوصول إلى ترجيح في المسألة بل لضرب الأقول المتعارضة بعضها ببعض ليسهل عليه إخراج قول لم يقل به أحد من أهل العلم! -فإن كان النص قول صحابي تحول إلى ظاهري متشدد وقال: ليس لأحد حجة دون رسول الله. فإن كان الرأي في المسألة إجماعا من الصحابة لا قول واحد منهم تحول إلى منطقي متشدد في ثوب أصولي متشدد يتحدث عن حجية الإجماع وإمكانية وقوعه، أو صار حنبليا متشددا يرفع قول أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب (وهي قوله لا يفقه معناها كما قاله أحمد نفسه). -فإن كان النص في السنة تحول إلى محدث متشدد لا يقبل ما يتطرق إليه أقل الضعف، فإن كان النص صحيحا اجتهد في تأويله وصرف معناه إلى معنى آخر، ودخل في سبيل الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد لا لكي يضبط المسألة وينزل النص عليها بل ليجعل النص بلا حجة ولا إلزام. -فإن كان النص في القرآن فربما تحول إلى لغوي متشدد يقيس ألفاظ القرآن (حتى ما صار منها مصطلحا له دلالة شرعية) على معجم لغة العرب، ونعى على المفسرين مناهجهم في التفسير ووجود الضعيف في تفاسيرهم، وتوسع في دلالة اللفظ على المعنى.. لا للوصول إلى المعنى المطلوب بل لرفع دلالة الآية. هذا بخلاف ما يقع كثيرا من إيراد نصوص مع السكوت على الرد على ما يخالفها (وهو منهج الفقهاء الذي يتوصلون به لضبط المسائل وإنزال النصوص في مواضعها)، أو إيراد بعض النصوص مع تغييب النصوص المخالفة لرأيه، أو البحث عن مخالفات وشذوذات العلماء والفرق ليتكون منها فقه جديد لا يعرف من قبل، أو رفع شعار المصلحة (التي لم تعد المصلحة الشرعية التي أرادها علماء الأصول) ليكون الهوى هو المصلحة، أو رفع شعار المقاصد لإهدار النصوص باعتبار المقاصد كلية والنصوص جزئية (بينما العلماء استخرجوا المقاصد نفسها من النصوص)... وهكذا! لهذا نقول بأن هؤلاء لو استطاعوا أن يحرفوا القرآن لحرفوه، وربما ظنوا أنهم يؤدون بهذا خدمة للإسلام بتجنبيه العداء مثلا أو حمايته في لحظة الضعف مثلا أو غير ذلك مما يسوله المرء لنفسه.. ولهذا كان حفظ القرآن هو نعمة الله العظمى على الأمة! وكان حفظه –تبارك وتعالى- لسنة نبيه بعمل الجهابذة المحدثين الذين بذلوا مجهودا خرافيا لم تبذله أمة قط في تاريخها هو نعمة عظمى على الأمة أيضا.. نعمة حفظت الدين وصانته عن أيدي العابثين مهما كانوا مهزومين. وهنا يأتي السؤال الذي أحسب أنه طاف برأس قارئ هذه المجلة التي ليست مجلة علم ولا فقه ولا دخل لها بهذا الاشتباك.. وهو: ما مناسبة كل هذا الكلام في مجلة كمجلة "كلمة حق"؟ والجواب ببساطة ووضوح شديد: أننا إذا كنا نتحدث في سياق ثورة أمة ومواجهة طغيان ومقاومة استبداد وتحدي الثقافة الغالبة بسلاحها وأفكارها، فأول خطوات هذا كله أن نقرأ ديننا قراءة من يريد فهم الدين كما هو لا من يريد أن يتصالح به مع الواقع. إن أول الواجب لأهل الثورة والمقاومة: مطالعة فقه النبي في البحث عن دولة، وتأسيسها، ومقاومة خصومه داخلها وخارجها، ثم جهاده لتثبيتها وترسيخها، ثم معاهداته ثم دعوته العالمية ثم جهاده خارجها. وإن مطالعة هذا كله بروح وغرض من يريد الفهم والاقتداء سيثمر ثمرة لا علاقة لها أبدا بمن سيطالع هذا كله بروح وغرض من يريد إقناع خصومه أن الإسلام دين جميل ورحيم وإنساني... إلخ! نعم! الإسلام دين عظيم وجميل ورحيم وإنساني لكن بغير المعاني التي يفهمها الغربيون من كل هذا. فمحاولة حشر الإسلام في القالب الذي يفهمه الغربي ليست فقط محاولة تزوير بل هي ضربة في صميم فكرة الدعوة نفسها.. فلماذا ندعو الغربي إلى شيء هو يظن أن حضارته تنتجه مع إلحادها؟! ثم مطالعة سير الراشدين: حرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة، وهي كنز دروس ساطعة جامعة في تأسيس الدولة وسط أمواج المتربصين بها، وفيها من المواقف ما لا يفهمه إلا السياسي المجرب الخبير بينما الداعية اللطيف المتأنسن المتفلسف لا يستطيع ابتلاعها.. وكذا سيرة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا! وبعد هذا تأتي سيرة مؤسسي الدول، وأولى السير التي ينبغي أن نقتدي بها سير أجدادنا الذين أسسوا الدول العظمى: معاوية وعبد الملك بن مروان وأبو العباس وأبو جعفر وهارون الرشيد والمعتضد وعثمان بن أرطغرل، فضلا عن مؤسسي الدول الأصغر كعبد الرحمن الداخل وإبراهيم الأغلبي وابن طولون ونور الدين زنكي وصلاح الدين وقطز وبيبرس.. وكل هؤلاء مع ما فيهم من أخطاء أعلى شرفا وأحسن أخلاقا وأقوم طريقة من كل مؤسسي الدول الأخرى الذين يقدمون كقدوات ومُثُل! بل إن أخطائهم لم تصر أصلا أخطاء إلا لأننا نحاكمهم إلى الإسلام وإلى سيرة الراشدين، ولو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى وتاريخ آخر لكانت قُوِّمت على أنها ضرورات وخسائر لا بد منها في الطريق إلى بناء المجد! الواجب الأول ألا نستحيي من ديننا وألا نحاكمه إلى ثقافة غالبة مهيمنة تأثرنا بها.. بل لا بد من فهم الدين كما أراده الله ورسوله، ساعتها سنستطيع أن نبدأ مقاومة راشدة حقيقية!
افتتاحية العدد الجديد:

القرآن المحفوظ دليل المقاومة
محمد إلهامي

[لتحميل العدد https://goo.gl/zPZ8Pj]

لو لم يكن نص القرآن محفوظا من عند الله لكان الذين حرفوه وبدلوه هم المسلمون أنفسهم لا أعداؤهم!

ربما تكون هذه مفاجئة للأكثرين، لكن الواقع أن هذا هو ما كان سيكون، فكذلك فعلت الأمم السابقة بكتبها، هم من بدلوه وغيروه وليس أعداؤهم!

ولو لم يحدث هذا لشهوة حاكم أو لانحراف عالِم لحدث للأمة في وقت استضعافها، ففي ذلك الوقت يُنتج المهزومون نفسيا نسخة من الإسلام توافق وتتماهي مع الثقافة الغالبة، يحاولون بها التوفيق بين أصولهم وجذورهم الإسلامية وبين إكراهات وضغوط الواقع الذي يمتحن دينهم ويضعهم في قفص الاتهام!

ها نحن في زمن استضعاف، وكثير من الناس، بمن فيهم محسوبون على المشيخة والعلماء يعملون بكل جد واجتهاد في إنتاج نسخة من الإسلام توافق الثقافة الغربية الحديثة ذات السطوة والهيمنة، ويمكنك ببساطة أن تعرف هؤلاء من طريقتهم في التعامل مع النصوص.. فإذا كثر في كلامه رد النص أو تأويله أو تمييعه أو صرفه عن وجهه إلى معانٍ أخرى فأغلب الظن أن هذا من هؤلاء الذين نتحدث عنهم.

لنضرب مثليْن:

1. حين سادت الثقافة الشيوعية الاشتراكية في بلادنا، اضطر جمهرة من المشايخ والعلماء إلى بيان ما في الإسلام من عدالة اجتماعية وتكافل ومحاربة للغنى الفاحش وفرض للزكاة على الأغنياء باعتبارها حقا للفقراء، وافتخروا بأن أبا بكر حارب مانعي الزكاة لأنها حق الله الذي قرره للفقير.

إلى هذا الحد والأمر مفهوم وطبيعي وهو استجابة للتحدي الشيوعي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف فزعم مثلا أن رأي أبا ذر (وقد كان يرى ألا يحتفظ المرء إلا بقوت يومه، وما زاد على هذا فهو اكتناز) هو منهج الإسلام مع أن أبا ذر هو المخالف في هذه المسألة لبقية الصحابة، فعمدوا إلى رفع قول أبي ذر وتعظيمه، فصار مخالفوه هم المخطئون، وصار هو وحده المصيب. وهي نتيجة عظيمة ترمي جمهرة الصحابة والتابعين بحب الدنيا والانحراف عن الإسلام. ثم منهم من زاد في الانحراف مزيدا فجعل تمردا دمويا قبيحا شنيعا انتهك الأعراض وأسرف في الدماء كثورة الزنج ثورة مشروعة، وصار زعيمها ثوريا مطالبا بحق الفقراء في وجه السلطة المترفة!!

2. فأما حين انتصرت الرأسمالية الليبرالية ورفعت شعارات حقوق الإنسان فقد تغير التحدي، وصارت الثقافة الغالبة تنحو منحى آخر، فهنا كان طبيعيا أن ينتج العلماء خطابا يظهر أثر الإسلام في تحرر البشر وفي كفالته للحرية والخصوصية والحق في التعبير والاعتراض في وجه الحكام ورفعه لشأن المرأة وما وفره لها من حقوق وما قيَّد فيه السلطة لئلا تستبد.. إلخ!

أيضا إلى هنا والأمر مفهوم، وهو الواجب الطبيعي في ظل التحدي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف ليجعل من ضمن الحريات الشخصية التي يكفلها الإسلام حق الردة فاجتهد في نفي حد الردة وتأويل ما جاء فيه، وفي نفي الرجم للزاني المحصن.. بل زاد آخرون فجعلوا من حقوق المرء حقه في اللواط فقالوا بأنه لا ينبغي للدولة أن تعاقب على مثل هذا لأنه من الحرية، وكذلك ترك الصلاة والمجاهرة بالفطر في نهار رمضان وحق المرأة في أن ترتدي الحجاب أو تخلعه أو تسافر بمحرم أو بغير محرم... وهكذا!

ولدى هؤلاء صارت مسائل كجهاد الطلب أو كحرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة أو لضرب عمر لبعض الناس بالدرة أو غير ذلك من المسائل التي ترفضها "الثقافة الغالبة" من الأمور الحرجة التي يعانون في ردها وصرفها وتأويلها على غير وجهها وإنتاج فتاوى تجعلها من خصوصيات الزمان والمكان السابقين.

لا شك أن هناك من انحرف أكثر من هذا وأكثر فجعل كل السنة نصا تاريخيا، بمعنى أنه إنتاج بشري من الرسول متعلق بآثار الزمان والمكان والبيئة والطبيعة الشخصية، فليست له قداسة الوحي.. وهناك من انحرف فجعل القرآن نفسه نصا تاريخيا ناتجا عن البيئة ولا يمكن أن يكون ملبيا لحاجات الناس بعد نزوله بألف وخمسمائة سنة وفي بيئة تغيرت تماما عن بيئة العرب!

وهكذا نشأت غابة ضخمة من آثار الثقافة الغالبة، الثقافة ذات السطوة والحضور والسلاح والإعلام، فمنهم من كان صريحا ومباشرا في تطويع الإسلام لها ودعوته لهذا كالعلمانيين، ومنهم من تلبس ببعض هذا حتى وصل به الحال أن يلبس العلمانية ثوبا إسلاميا، يتوسل إلى هذا بعناوين عريضة منها: المقاصد الشرعية ودلالة اللغة وحجية السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية وحجية تصرفات النبي في السياسة والتجديد في الأصول والتجديد في الفقه... إلى آخر هذه العناوين التي بعضها حق لا شك وقد وضعها العلماء أصلا لضبط الدين وفهم أحكامه ورسم بنيانه وإرشاد المفتي والقاضي إلى سواء السبيل، فجاء هؤلاء فأخرجوها عن المقصد من وضعها لتكون وسيلة لتمييع الدين وتفكيكه وإذابته وإخضاعه للثقافة الغالبة المعاصرة.

كيف نعرف هؤلاء؟!

نعرفهم في لحن القول.. ذلك أن الذي يتعامل مع نص القرآن أو السنة باعتباره هاديا يخالف الذي يتعامل معه باعتباره أزمة، أولئك الذين نتحدث عنهم يظهر في كلامهم بوضوح التعامل مع النص وكأنه أزمة، فيجتهد في التخلص منه وإهداره:

-فإن كان النص قول عالم أو فقيه مهما بلغ مقامه من الإمامة تحول إلى ناقد متشدد وقال: ليس هو بالمعصوم، واجتهد في البحث عما يعارضه.. لا للوصول إلى ترجيح في المسألة بل لضرب الأقول المتعارضة بعضها ببعض ليسهل عليه إخراج قول لم يقل به أحد من أهل العلم!

-فإن كان النص قول صحابي تحول إلى ظاهري متشدد وقال: ليس لأحد حجة دون رسول الله. فإن كان الرأي في المسألة إجماعا من الصحابة لا قول واحد منهم تحول إلى منطقي متشدد في ثوب أصولي متشدد يتحدث عن حجية الإجماع وإمكانية وقوعه، أو صار حنبليا متشددا يرفع قول أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب (وهي قوله لا يفقه معناها كما قاله أحمد نفسه).

-فإن كان النص في السنة تحول إلى محدث متشدد لا يقبل ما يتطرق إليه أقل الضعف، فإن كان النص صحيحا اجتهد في تأويله وصرف معناه إلى معنى آخر، ودخل في سبيل الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد لا لكي يضبط المسألة وينزل النص عليها بل ليجعل النص بلا حجة ولا إلزام.

-فإن كان النص في القرآن فربما تحول إلى لغوي متشدد يقيس ألفاظ القرآن (حتى ما صار منها مصطلحا له دلالة شرعية) على معجم لغة العرب، ونعى على المفسرين مناهجهم في التفسير ووجود الضعيف في تفاسيرهم، وتوسع في دلالة اللفظ على المعنى.. لا للوصول إلى المعنى المطلوب بل لرفع دلالة الآية.

هذا بخلاف ما يقع كثيرا من إيراد نصوص مع السكوت على الرد على ما يخالفها (وهو منهج الفقهاء الذي يتوصلون به لضبط المسائل وإنزال النصوص في مواضعها)، أو إيراد بعض النصوص مع تغييب النصوص المخالفة لرأيه، أو البحث عن مخالفات وشذوذات العلماء والفرق ليتكون منها فقه جديد لا يعرف من قبل، أو رفع شعار المصلحة (التي لم تعد المصلحة الشرعية التي أرادها علماء الأصول) ليكون الهوى هو المصلحة، أو رفع شعار المقاصد لإهدار النصوص باعتبار المقاصد كلية والنصوص جزئية (بينما العلماء استخرجوا المقاصد نفسها من النصوص)... وهكذا!

لهذا نقول بأن هؤلاء لو استطاعوا أن يحرفوا القرآن لحرفوه، وربما ظنوا أنهم يؤدون بهذا خدمة للإسلام بتجنبيه العداء مثلا أو حمايته في لحظة الضعف مثلا أو غير ذلك مما يسوله المرء لنفسه.. ولهذا كان حفظ القرآن هو نعمة الله العظمى على الأمة! وكان حفظه –تبارك وتعالى- لسنة نبيه بعمل الجهابذة المحدثين الذين بذلوا مجهودا خرافيا لم تبذله أمة قط في تاريخها هو نعمة عظمى على الأمة أيضا.. نعمة حفظت الدين وصانته عن أيدي العابثين مهما كانوا مهزومين.

وهنا يأتي السؤال الذي أحسب أنه طاف برأس قارئ هذه المجلة التي ليست مجلة علم ولا فقه ولا دخل لها بهذا الاشتباك.. وهو: ما مناسبة كل هذا الكلام في مجلة كمجلة "كلمة حق"؟

والجواب ببساطة ووضوح شديد: أننا إذا كنا نتحدث في سياق ثورة أمة ومواجهة طغيان ومقاومة استبداد وتحدي الثقافة الغالبة بسلاحها وأفكارها، فأول خطوات هذا كله أن نقرأ ديننا قراءة من يريد فهم الدين كما هو لا من يريد أن يتصالح به مع الواقع.

إن أول الواجب لأهل الثورة والمقاومة: مطالعة فقه النبي في البحث عن دولة، وتأسيسها، ومقاومة خصومه داخلها وخارجها، ثم جهاده لتثبيتها وترسيخها، ثم معاهداته ثم دعوته العالمية ثم جهاده خارجها. وإن مطالعة هذا كله بروح وغرض من يريد الفهم والاقتداء سيثمر ثمرة لا علاقة لها أبدا بمن سيطالع هذا كله بروح وغرض من يريد إقناع خصومه أن الإسلام دين جميل ورحيم وإنساني... إلخ! نعم! الإسلام دين عظيم وجميل ورحيم وإنساني لكن بغير المعاني التي يفهمها الغربيون من كل هذا.

فمحاولة حشر الإسلام في القالب الذي يفهمه الغربي ليست فقط محاولة تزوير بل هي ضربة في صميم فكرة الدعوة نفسها.. فلماذا ندعو الغربي إلى شيء هو يظن أن حضارته تنتجه مع إلحادها؟!

ثم مطالعة سير الراشدين: حرب أبي بكر للمرتدين ومانعي الزكاة، وهي كنز دروس ساطعة جامعة في تأسيس الدولة وسط أمواج المتربصين بها، وفيها من المواقف ما لا يفهمه إلا السياسي المجرب الخبير بينما الداعية اللطيف المتأنسن المتفلسف لا يستطيع ابتلاعها.. وكذا سيرة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا!

وبعد هذا تأتي سيرة مؤسسي الدول، وأولى السير التي ينبغي أن نقتدي بها سير أجدادنا الذين أسسوا الدول العظمى: معاوية وعبد الملك بن مروان وأبو العباس وأبو جعفر وهارون الرشيد والمعتضد وعثمان بن أرطغرل، فضلا عن مؤسسي الدول الأصغر كعبد الرحمن الداخل وإبراهيم الأغلبي وابن طولون ونور الدين زنكي وصلاح الدين وقطز وبيبرس.. وكل هؤلاء مع ما فيهم من أخطاء أعلى شرفا وأحسن أخلاقا وأقوم طريقة من كل مؤسسي الدول الأخرى الذين يقدمون كقدوات ومُثُل! بل إن أخطائهم لم تصر أصلا أخطاء إلا لأننا نحاكمهم إلى الإسلام وإلى سيرة الراشدين، ولو أنهم كانوا في سياق حضارة أخرى وتاريخ آخر لكانت قُوِّمت على أنها ضرورات وخسائر لا بد منها في الطريق إلى بناء المجد!

الواجب الأول ألا نستحيي من ديننا وألا نحاكمه إلى ثقافة غالبة مهيمنة تأثرنا بها.. بل لا بد من فهم الدين كما أراده الله ورسوله، ساعتها سنستطيع أن نبدأ مقاومة راشدة حقيقية!
‏٠٣‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٦:٥١ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 7 من مجلة (كلمة حق)، لشهر فبراير 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/zPZ8Pj نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الجديد، عدد 7 من مجلة (كلمة حق)، لشهر فبراير 2018، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/zPZ8Pj


نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq

المدونة:
https://klmtuhaq.blog/

تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٢‏/٢٠١٨ ٦:٢٨ م‏
العلماء وقضية القدس وفلسطين د. وصفي عاشور أبو زيد [لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK]. العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وقد أقام الله العلماء أمناء على وحيه، واستحفظهم عليه بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتضى هذا الاستحفاظ أن يقوم العلماء بوظائفهم؛ تبليغا للدعوة، وإقامة للحجة، ودفعا للشبهة. ولا شك أن قضية القدس وفلسطين من أهم قضايا الأمة الإسلامية التي يقاس (ترمومتر) الأمة الإيماني بها، ومحور الصرع في الأمة، بل هي مناط تحقيق سنة المدافعة بين الحق والباطل الذي يتجلى في القتال الدائر بين مشروع الصهاينة والإسلام. والذي يجري الآن على أرض فلسطين من تهويد واغتصاب للحقوق والحريات، والأرض والعرض .. يوجب على العلماء القيام بواجبهم نحو هذه القضية المقدسة، التي تستمد قداستها من وجود بيت المقدس والأقصى الشريف. نماذج من جهاد العلماء لفلسطين: وقد قام العلماء قديما بواجبهم نحو هذه القضية المحورية من قديم، وتتابعوا بعضهم بعد بعض، متمثلين قول الشاعر العربي القديم: إذا سيدٌ منا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول ها هو العالم المجاهد الحر عز الدين القسام الذي ولد بسوريا وتعلم في الأزهر الشريف، وكان يعتبر الاحتلال البريطاني العدو الأول لفلسطين، ويدعو أيضا إلى محاربة النفوذ الصهيوني الذي كان يتزايد بصورة كبيرة، وظل ينادي الأهالي إلى الاتحاد ونبذ الفرقة والشقاق حتى تقوى شوكتهم. وكان يردد دائماً أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين، في وقت لم يكن فيه أسلوب الثورة القتالية أمرا مألوفا للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، حيث كان نشاطها يتركز في الغالب على المظاهرات والمؤتمرات. ولما شعر الاستعمار الإنجليزي بخطورته اغتاله بعد أن دارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، سقط الشيخ عز الدين القسام وبعض رفاقه فيها شهداء في نهايتها يوم 20 نوفمبر 1935م، وجرح وأسر الباقون، وكان لاستشهاده أثر هائل في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك، وكان (عز الدين القسام) هو الاسم المناسب الذي يتسمى الجناح العسكري لحركة حماس به (كتائب عز الدين القسام). وهذا العلامة الفقيه الدكتور مصطفى السباعي الذي كان عالما متمكنا؛ حيث تعلم في الأزهر الشريف وحصل على درجة العالِمية منه، وهو ممن شاركوا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وكذلك الاحتلال الإنجليزي في مصر، وقاد الكتيبة السورية في حرب فلسطين عام 1948. أصدر عددا من المجلات، وألف كتبا، وكان له حضور واضح في الحياة البرلمانية في سوريا، حتى توفي عام 1964م. وقد قاد الإمام حسن البنا الكتائب لمواجهة الصهاينة وتحرير فلسطين عام 1948م، وكان هذا سببا مباشرا لاغتياله وهو ما يزال شابا؛ حيث استشهد في 12 فبراير 1949م عن 42 عاما. ولعلماء فلسطين أثر يذكر فيشكر حتى تبلور في رابطة تجمع عملهم وأنشطتهم وجهادهم في الداخل والخارج، هي رابطة علماء فلسطين في الداخل، وهيئة علماء فلسطين في الخارج، ولها مواقف مشرفة من قضية فلسطين وقضايا الأمة كلها. وهاهم علماء الأمة يقيمون مؤتمراتهم العلمية، ويكتبون بياناتهم الشرعية فيما أهم فلسطين من أمر دينها ودنياها، وبخاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي ترمب باعتماد القدس عاصمة للصهاينة، وهو ما جعل العلماء يتداعون لرفض ذلك والتحريض ضده واستنهاض الشعوب لرفض هذه الخطوة واستنكار هذا القرار االمخالف للشرائع والحقائق والأعراف والقوانين الدولية. ثم ها هم يصدرون ميثاقهم لمقاومة موجة التطبيع التي يسارع لها كثير من المسلمين اليوم حتى انتهت بزيارات للبعض إلى الأرض المحتلة .. أصدر علماء الأمة ميثاقهم الذي يرفضون فيه هذا التطبيع فبينوا مفهومه وصوره وأشكاله، وحكمه الشرعي، وذكروا مفاسده على الأنحاء كافة، ورسموا به الطريق أمام الأمة بشرائحها كافة ليقوم كل بواجبه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم. وسوف يظل العلماء يبينون للناس حكم الشرع في المستجدات والنوازل، وبخاصة ما يتعلق بقضيتنا الأولى فلسطين، ينفون عن الدين تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، والله متم نوره ولو كره الكافرون، ولينضرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
العلماء وقضية القدس وفلسطين

د. وصفي عاشور أبو زيد

[لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK].

العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وقد أقام الله العلماء أمناء على وحيه، واستحفظهم عليه بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتضى هذا الاستحفاظ أن يقوم العلماء بوظائفهم؛ تبليغا للدعوة، وإقامة للحجة، ودفعا للشبهة.

ولا شك أن قضية القدس وفلسطين من أهم قضايا الأمة الإسلامية التي يقاس (ترمومتر) الأمة الإيماني بها، ومحور الصرع في الأمة، بل هي مناط تحقيق سنة المدافعة بين الحق والباطل الذي يتجلى في القتال الدائر بين مشروع الصهاينة والإسلام.

والذي يجري الآن على أرض فلسطين من تهويد واغتصاب للحقوق والحريات، والأرض والعرض .. يوجب على العلماء القيام بواجبهم نحو هذه القضية المقدسة، التي تستمد قداستها من وجود بيت المقدس والأقصى الشريف.

نماذج من جهاد العلماء لفلسطين:

وقد قام العلماء قديما بواجبهم نحو هذه القضية المحورية من قديم، وتتابعوا بعضهم بعد بعض، متمثلين قول الشاعر العربي القديم:
إذا سيدٌ منا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول

ها هو العالم المجاهد الحر عز الدين القسام الذي ولد بسوريا وتعلم في الأزهر الشريف، وكان يعتبر الاحتلال البريطاني العدو الأول لفلسطين، ويدعو أيضا إلى محاربة النفوذ الصهيوني الذي كان يتزايد بصورة كبيرة، وظل ينادي الأهالي إلى الاتحاد ونبذ الفرقة والشقاق حتى تقوى شوكتهم.

وكان يردد دائماً أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين، في وقت لم يكن فيه أسلوب الثورة القتالية أمرا مألوفا للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، حيث كان نشاطها يتركز في الغالب على المظاهرات والمؤتمرات.

ولما شعر الاستعمار الإنجليزي بخطورته اغتاله بعد أن دارت معركة غير متكافئة بين الطرفين لمدة ست ساعات، سقط الشيخ عز الدين القسام وبعض رفاقه فيها شهداء في نهايتها يوم 20 نوفمبر 1935م، وجرح وأسر الباقون، وكان لاستشهاده أثر هائل في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك، وكان (عز الدين القسام) هو الاسم المناسب الذي يتسمى الجناح العسكري لحركة حماس به (كتائب عز الدين القسام).

وهذا العلامة الفقيه الدكتور مصطفى السباعي الذي كان عالما متمكنا؛ حيث تعلم في الأزهر الشريف وحصل على درجة العالِمية منه، وهو ممن شاركوا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وكذلك الاحتلال الإنجليزي في مصر، وقاد الكتيبة السورية في حرب فلسطين عام 1948. أصدر عددا من المجلات، وألف كتبا، وكان له حضور واضح في الحياة البرلمانية في سوريا، حتى توفي عام 1964م.

وقد قاد الإمام حسن البنا الكتائب لمواجهة الصهاينة وتحرير فلسطين عام 1948م، وكان هذا سببا مباشرا لاغتياله وهو ما يزال شابا؛ حيث استشهد في 12 فبراير 1949م عن 42 عاما.

ولعلماء فلسطين أثر يذكر فيشكر حتى تبلور في رابطة تجمع عملهم وأنشطتهم وجهادهم في الداخل والخارج، هي رابطة علماء فلسطين في الداخل، وهيئة علماء فلسطين في الخارج، ولها مواقف مشرفة من قضية فلسطين وقضايا الأمة كلها.
وهاهم علماء الأمة يقيمون مؤتمراتهم العلمية، ويكتبون بياناتهم الشرعية فيما أهم فلسطين من أمر دينها ودنياها، وبخاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي ترمب باعتماد القدس عاصمة للصهاينة، وهو ما جعل العلماء يتداعون لرفض ذلك والتحريض ضده واستنهاض الشعوب لرفض هذه الخطوة واستنكار هذا القرار االمخالف للشرائع والحقائق والأعراف والقوانين الدولية.

ثم ها هم يصدرون ميثاقهم لمقاومة موجة التطبيع التي يسارع لها كثير من المسلمين اليوم حتى انتهت بزيارات للبعض إلى الأرض المحتلة .. أصدر علماء الأمة ميثاقهم الذي يرفضون فيه هذا التطبيع فبينوا مفهومه وصوره وأشكاله، وحكمه الشرعي، وذكروا مفاسده على الأنحاء كافة، ورسموا به الطريق أمام الأمة بشرائحها كافة ليقوم كل بواجبه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

وسوف يظل العلماء يبينون للناس حكم الشرع في المستجدات والنوازل، وبخاصة ما يتعلق بقضيتنا الأولى فلسطين، ينفون عن الدين تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، والله متم نوره ولو كره الكافرون، ولينضرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
‏٢٩‏/٠١‏/٢٠١٨ ٨:٠٥ م‏
أُمُّ القضايا د. @[100002583464860:2048:عطية عدلان] [لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK] الحمد لله .. الصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. ليس لأنَّها أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، وإن كان كل اعتبار من هذه الاعتبارات الثلاث له وزنه في الحسّ الإسلاميِّ العام، وإنَّما تُعَدُّ قضية القدس أمَّ القضايا لهذه الاعتبارات ولأمر آخر أشد خطراً وأبعد أثراً، له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وله آثاره الممتدة إلى قرب ظهور المسيخ. والاطلاع على هذا الأمر يسهم بقدر عظيم في إيجاد حالة من الوعي الجامع لقضايانا المتفرقة، ويسهم مِن ثمَّ في وضع رؤية جامعة تُعَدُّ بمثابة مركز الدائرة بالنسبة لكل مشاريع حركات التحرير سواء منها القائمة أو القادمة، ويساعد على رؤية الطريق الجامع الذي يجب أن تصب فيه كل الطرق؛ حتى لا تتشعب بنا السبل. ومن هناك، من تلك النقطة الغائصة في أعماق التاريخ الإنسانيّ تبدأ مسيرة الصراع الذي قدر له أن يستمر ويدوم إلى يوم يبعثون، هناك في العمق التاريخي السحيق يتلقى إبراهيم عليه السلام ذلك الوعد الإلهيّ بشرف الإمامة على البشرية: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) وبدعوة منه مستجابة يمتد الوعد في ذريته، مشروطاً بأنَّه لن ينال الظالمين منهم: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). ويتدفق نسل النبيُّ الأمَّة في فرعين منحدرين من صلبه المبارك: فرع إسحاق الذي تشعب على تؤدة، فغرس في رحبة التاريخ شجرة بني إسرائيل، الذين فضلوا - رغم ما وقع منهم - على العالمين في تلك الأزمان، وفرع إسماعيل الذي ألقى بخلاصة عصارته في منتهى طرفه فكانت هذه الأمَّة المباركة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح 29). وسياق الشطر الأول من سورة البقرة قبل أن ينتهي إلى وعد الله لإبراهيم وذريته بالإمامة ينتهي إلى نتيجة مفادها أنَّ بني إسرائيل غيروا وبدلوا؛ بما يقضي بنزع الإمامة منهم؛ أمَّا سياق الآيات التالية لهذا الوعد الكريم فيسلط الضوء على الفرع الآخر من نسل إبراهيم عليه السلام، فيتحدث عن مكة والبيت العتيق وعن دعوة إبراهيم وإسماعيل بإخراج هذه الأمّة وبعث هذا النبيّ، وهذا يعني انتقال الوعد لهذه الأمَّة. وهذا الفضل الذي حازته الأمِّة الإسلامية بميراثها لوعد إبراهيم عليه السلام هو الذي حرك الحسد اليهودي المشار إليه في قول الله تعالى من سورة النساء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء 54) والناس هنا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. وقد مارست الأمَّة حقها هذا في وقت مبكر؛ وذلك بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إيذاناً بأيلولة ميراث إبراهيم كله إلى هذه الأمَّة، بما في ذلك الوعد لإبراهيم بالإمامة، والوعد له بأن يعطيه هذه الأرض المباركة له ولنسله من بعده - كما تنص على ذلك التوراة - فبالإسراء آلت القدس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصلاته بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى توثق عقد الملكية الذي أوقف تنفيذه إلى أن تسلم أمير المؤمنين عمر مفاتيح بيت المقدس بعد الفتح الإسلاميّ له. واللافت للنظر أنَّ الإسراء بما يحمله من هذه المعاني جاء على رأس منعطف هام في طريق الدعوة الإسلامية، وهو انتهاء القرآن الكريم من معركته مع الوثنية، وتقويضه لنظريتها من أصولها، ليبدأ مرحلة في الصراع جديدة استدعت إعداداً جديداً وتهيئة للأوضاع على نحو مناسب لها، وهي مرحلة الصدام مع عقيدة أهل الكتاب، تلك التي بدأت قبل الهجرة، وبدت خطوطها العريضة بعد آية الإسراء مباشرة: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)) (الإسراء 2-7). ولئن كانت الحروب الصليبية التي استمرت قرونا قد تولاها النصارى بدافع الاستيلاء على القدس واستردادها من أيدي المسلمين، فإنَّ هذا الدافع قد أخذ بعداً عقدياً أعمق في الحملات المعاصرة بعد التحام العهد القديم مع العهد الجديد، وبعد تحالف الفكر اليهودي مع الفكر الصليبي تحت مظلة المذهب البروتستانتي الممزوج بالنزعة الهمجية للأنجلوساكسون؛ ليبدأ الهوس الغربيّ بالوعد القديم، فيصدر وعد بلفور وبعده بقرن يصدر وعد ترامب. إنَّها إذن حرب عقيدة، ومحورها القدس، ورحاها تدور على المسلمين في كل بلاد العرب، وتقف الشعوب منفردة في مواجهة هذه الحرب الضروس؛ بينما الحكام وأنظمتهم في نفق أعداء الأمَّة، ومن هنا نقول إنَّ المعركة واحدة، وإن العدو واحد، وإنَّ الثورة عليه واحدة، تتعدد ساحاتها وميادينها، وتتوسط القدس هذه الساحات والميادين، والغاية لنا ولهم واحدة، وغايتنا البعيدة هي عودة الأمَّة كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدورها القيادي ومحورها يومئذ المسجد الأقصى والقدس. وهذا السياق الذي يبرهن على صحته الشرع والواقع يوجب علينا التمسك بالهوية الإسلامية للثورة، كما يوجب علينا الاسترشاد بالأحكام الشرعية وبمعطيات ديننا في كل ما يتعلق بالتغيير بدء من المبادئ والأسس والهدايات، وانتهاء بالأدوات والآليات.
أُمُّ القضايا

د. عطية عدلان

[لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK]

الحمد لله .. الصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

ليس لأنَّها أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، وإن كان كل اعتبار من هذه الاعتبارات الثلاث له وزنه في الحسّ الإسلاميِّ العام، وإنَّما تُعَدُّ قضية القدس أمَّ القضايا لهذه الاعتبارات ولأمر آخر أشد خطراً وأبعد أثراً، له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وله آثاره الممتدة إلى قرب ظهور المسيخ.

والاطلاع على هذا الأمر يسهم بقدر عظيم في إيجاد حالة من الوعي الجامع لقضايانا المتفرقة، ويسهم مِن ثمَّ في وضع رؤية جامعة تُعَدُّ بمثابة مركز الدائرة بالنسبة لكل مشاريع حركات التحرير سواء منها القائمة أو القادمة، ويساعد على رؤية الطريق الجامع الذي يجب أن تصب فيه كل الطرق؛ حتى لا تتشعب بنا السبل.

ومن هناك، من تلك النقطة الغائصة في أعماق التاريخ الإنسانيّ تبدأ مسيرة الصراع الذي قدر له أن يستمر ويدوم إلى يوم يبعثون، هناك في العمق التاريخي السحيق يتلقى إبراهيم عليه السلام ذلك الوعد الإلهيّ بشرف الإمامة على البشرية: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) وبدعوة منه مستجابة يمتد الوعد في ذريته، مشروطاً بأنَّه لن ينال الظالمين منهم: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

ويتدفق نسل النبيُّ الأمَّة في فرعين منحدرين من صلبه المبارك: فرع إسحاق الذي تشعب على تؤدة، فغرس في رحبة التاريخ شجرة بني إسرائيل، الذين فضلوا - رغم ما وقع منهم - على العالمين في تلك الأزمان، وفرع إسماعيل الذي ألقى بخلاصة عصارته في منتهى طرفه فكانت هذه الأمَّة المباركة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح 29).

وسياق الشطر الأول من سورة البقرة قبل أن ينتهي إلى وعد الله لإبراهيم وذريته بالإمامة ينتهي إلى نتيجة مفادها أنَّ بني إسرائيل غيروا وبدلوا؛ بما يقضي بنزع الإمامة منهم؛ أمَّا سياق الآيات التالية لهذا الوعد الكريم فيسلط الضوء على الفرع الآخر من نسل إبراهيم عليه السلام، فيتحدث عن مكة والبيت العتيق وعن دعوة إبراهيم وإسماعيل بإخراج هذه الأمّة وبعث هذا النبيّ، وهذا يعني انتقال الوعد لهذه الأمَّة.

وهذا الفضل الذي حازته الأمِّة الإسلامية بميراثها لوعد إبراهيم عليه السلام هو الذي حرك الحسد اليهودي المشار إليه في قول الله تعالى من سورة النساء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء 54) والناس هنا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.

وقد مارست الأمَّة حقها هذا في وقت مبكر؛ وذلك بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إيذاناً بأيلولة ميراث إبراهيم كله إلى هذه الأمَّة، بما في ذلك الوعد لإبراهيم بالإمامة، والوعد له بأن يعطيه هذه الأرض المباركة له ولنسله من بعده - كما تنص على ذلك التوراة - فبالإسراء آلت القدس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصلاته بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى توثق عقد الملكية الذي أوقف تنفيذه إلى أن تسلم أمير المؤمنين عمر مفاتيح بيت المقدس بعد الفتح الإسلاميّ له.

واللافت للنظر أنَّ الإسراء بما يحمله من هذه المعاني جاء على رأس منعطف هام في طريق الدعوة الإسلامية، وهو انتهاء القرآن الكريم من معركته مع الوثنية، وتقويضه لنظريتها من أصولها، ليبدأ مرحلة في الصراع جديدة استدعت إعداداً جديداً وتهيئة للأوضاع على نحو مناسب لها، وهي مرحلة الصدام مع عقيدة أهل الكتاب، تلك التي بدأت قبل الهجرة، وبدت خطوطها العريضة بعد آية الإسراء مباشرة: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)) (الإسراء 2-7).

ولئن كانت الحروب الصليبية التي استمرت قرونا قد تولاها النصارى بدافع الاستيلاء على القدس واستردادها من أيدي المسلمين، فإنَّ هذا الدافع قد أخذ بعداً عقدياً أعمق في الحملات المعاصرة بعد التحام العهد القديم مع العهد الجديد، وبعد تحالف الفكر اليهودي مع الفكر الصليبي تحت مظلة المذهب البروتستانتي الممزوج بالنزعة الهمجية للأنجلوساكسون؛ ليبدأ الهوس الغربيّ بالوعد القديم، فيصدر وعد بلفور وبعده بقرن يصدر وعد ترامب.

إنَّها إذن حرب عقيدة، ومحورها القدس، ورحاها تدور على المسلمين في كل بلاد العرب، وتقف الشعوب منفردة في مواجهة هذه الحرب الضروس؛ بينما الحكام وأنظمتهم في نفق أعداء الأمَّة، ومن هنا نقول إنَّ المعركة واحدة، وإن العدو واحد، وإنَّ الثورة عليه واحدة، تتعدد ساحاتها وميادينها، وتتوسط القدس هذه الساحات والميادين، والغاية لنا ولهم واحدة، وغايتنا البعيدة هي عودة الأمَّة كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدورها القيادي ومحورها يومئذ المسجد الأقصى والقدس.

وهذا السياق الذي يبرهن على صحته الشرع والواقع يوجب علينا التمسك بالهوية الإسلامية للثورة، كما يوجب علينا الاسترشاد بالأحكام الشرعية وبمعطيات ديننا في كل ما يتعلق بالتغيير بدء من المبادئ والأسس والهدايات، وانتهاء بالأدوات والآليات.
‏٢٧‏/٠١‏/٢٠١٨ ٨:١٩ م‏
التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم 3- الرقابة المالية للأمة على الحاكم د. @[1252740136:2048:البشير عصام] [لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK] الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله في الوقت الذي نسمع فيه هنا وهناك أن حاكما من حكام المسلمين، ينفق أموالا طائلة على شهواته الشخصية ولموافقة هوى الكِبر والخيلاء، والحال أن الملايين من المسلمين يتضورون جوعا أو يفترشون العراء أو يكابدون آلام الفقر، فإن أول ما يخطر ببالنا هو: كيف وصل هؤلاء الحكام إلى هذه الدرجة من الاستهانة بأموال المسلمين؟ ولم لا تقوم الأمة بدورها في الرقابة المالية على حكامها؟ من البدهي الذي كاد أن يُنسى: أن هذه الأموال التي تَصرفها طائفةٌ مخصوصة من الناس في ما لا يرضي الله تعالى، على وفق أهوائهم ونزواتهم، ليست ملكا لهم، وإنما هي أموال المسلمين، اقتُطعت منهم ظلما وبغيا! إن من المقطوع به أن الرقابة المالية على أصحاب السلطة السياسية، لمنعهم من التصرف التبذيري أو الاستئثاري به، من أهم مداخل الإصلاح التي فرطت الأمة فيها منذ زمن، ولم يعد بالإمكان الاستمرار في التفريط فيها. وذلك لأن ضغط الثقافة العلمانية الغربية المهيمنة اليوم، يفرض على الناس الكلام في الموضوع، وإعادة النظر في كثير من المسلمات فيه. والمؤسف أن الكثيرين حين يرون هذا التسلط من الحكام على أموال المسلمين، يفزعون إلى صور العدالة المالية عند الغربيين. ونحن لا نشك أن حال الغربيين اليوم في هذا المجال أفضل بكثير من حالنا .. ولكن لا نشك أيضا أن الأفضل من الاثنين معا، هو التصور الإسلامي السامي في هذا الموضوع؛ وهو التصور الذي طمسه اجتماع تصرفات الحكام الظلمة، مع تسويغات "أحبار السوء" الجهلة، المستندين في ضلالهم إلى قواعد إجمالية متعلقة بما يندرج تحت عنوانَي الفتنة والطاعة، مع تناسي قواعد السياسة الشرعية الأخرى، والتي سيأتي بيان بعضها في هذا المقال. تنبيه لا بد منه حين تمر أمام أعين المسلمين صورُ هذا التبذير والاستهانة بالمال العام، تخطر ببال الكثيرين سيرةُ الخلفاء الراشدين في حفظهم لأموال الأمة، وزهدهم فيها. ولكن المشكلة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح: أن هذه السيرة تخطر كما تخطر الحكايات التي يتناقلها الوعاظ والقصاص، صعبةً مثالية لا ارتباط لها بواقع الناس اليوم، فوق كونها مناقضة لهدي السنة النبوية في التوسط والاعتدال (مثل قصص العُبّاد الذي يصلّون الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، أو يبكون من خشية الله حتى تتلف أعينهم، أو نحو ذلك)! ولذلك، نحتاج أن نوضح أن منهج الخلفاء الراشدين في مجال تدبير المال العام، ليس محالا في ذاته، ولا مخالفا للسنة البيضاء – كاجتهادات هؤلاء المغالين من العُباد والزهاد - بل هو منهج إسلامي واقعي، طُبّق فعلا على أرض الواقع، وأُمر المسلمون – في كل عصر - بالاقتداء به (كما في حديث: "اقتدوا باللذَين من بعدي"، وحديث: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"). إن فِعل الخلفاء الراشدين الأربعة (ومعهم عمر بن عبد العزيز الذي أُلحق بهم في سيرته بإجماع العلماء، وإن لم يكن منهم)، ليس كتصرفات من جاء بعدهم؛ فإن هؤلاء لا يمتنع أن يسلكوا طرقا في الدين تخالف المنهج الإسلامي الصحيح، وإن كانوا معذورين باجتهادهم. أما أولئك الراشدون المهديون، ففيهم تمثلَ هذا المنهج الإسلامي، إذ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق، وجعلهم قدوة للمسلمين. وإذا ثبت وجوب الاقتداء بهم، فلا يمكن أن نقتدي بهم في الطهارة والصلاة، فإذا جاء ذكر سيرتهم في السياسة الشرعية، قلنا – كما يزعم بعضهم -: ذاك جيل رباني مخصوص، وظروف متميزة، ونحن جيل آخر، له ظروفه الخاصة به؟ فما معنى أن يكون الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، إذا نحن حصرنا هذه الصلاحية في العبادات الفردية؟ أليست هذه خطوة أولى نحو العلمانية، كما وقع للنصرانية منذ أصولها الأولى حين جعلت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فتفرّد قيصر – ومن تبعه من الملوك - بسياسة الدنيا على أصول أهل الدنيا، وتُركت سياسة أرواح الناس وقلوبهم للكنيسة؟ نعم .. لست أنازع في أن جيل الصحابة جيل فريد لا سبيل إلى تكراره، ولكن الاقتداء بهم فوق كونه واجبا شرعيا، هو أمر محمود في الواقع أيضا. وذلك أن سيرة الصحابة هي المرجعية التي ينبغي أن تُنصَب على أنها الغاية العليا التي نسعى إلى الاقتراب منها ما أمكن. فعلينا أن نقرر أن هذه الغاية هي دين الله الذي نعمل على تطبيقه، ولو لم نستطع اليوم أن نطبقه بحذافيره. فإن بقاء الغاية واضحة جلية – بقطع النظر عن القدرة الراهنة على تنزيلها في الواقع -، هو ما يوضح الطريق، ويحمي من الانحراف. سيرة الخلفاء الراشدين في الموضوع فلننظر إلى بعض المأثور عن الخلفاء الراشدين في هذا الباب. روى ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن عطاء بن السائب قال: (لما استُخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن). فالرواية صريحة في أن أبا بكر رضي الله عنه لم يرضَ أن يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا، حتى أذِن له الصحابة بذلك، وأنهم هم الذين فرضوا له ما يكفيه. وفي رواية أخرى أنه احتاج إلى أن يفاوضهم كي يزيدوه من العطاء: "لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، قال: زيدوني فإن لي عيالا، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة". وهذا صريح غاية الصراحة، في أن الأمة – ممثلة هنا في الصحابة الذين هم أهل الحل والعقد، ومجمع الشورى – هي التي تقرر ما يكون للحاكم من نصيب في بيت المال، وليس له أن يستأثر بشيء من ذلك دون رضاها الواضح. ولما حضرته الوفاة – رضي الله عنه – أمر برد الزائد عنده من المال إلى بيت مال المسلمين، إيذانا منه بأن المال الذي فرضته الأمة له ليس ملكا له. فقارِن هذا بمن يورّث أموال المسلمين لأبنائه وأحفاده، دون أن تطرف له عين، ولا لمن يسوغون له ذلك! وقد سار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أيضا على الطريق نفسه، فلم يأخذ من المال إلا ما فرض المسلمون له. فقد أخرج ابن سعد أنه مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعِم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك). وكان يقول فيما رواه أحمد وأبو داود: (والله ما أحدٌ أحق بهذا المال من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب ..). وقد سار عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - على الدرب نفسه، فبدأ بعد توليه الخلافة برد أموال أسرته إلى بيت المال، ثم أجبر بني أمية على ردّ الأموال التي أخذوها بغير وجه حق إلى بيت مال المسلمين، وسماها "أموال المظالم". وقد قيل له وهو على فراش الموت: تركت ولدك ولا مال لهم؟ فقال: (ما كنت أعطيهم شيئا ليس لهم، وما كنت لآخذ منهم حقا لهم ..). وهكذا سنّ الخلفاء الراشدون للأمة طريق الرقابة المالية على حكامها، فاستنبط الفقهاء من ذلك الأصول والقواعد اللازمة لضبط هذا الباب. ملخص حكم الشرع في الموضوع في قوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) تقرير أصل قرآني عظيم في مجال تداول الأموال بين أفراد الأمة، ومنع استئثار الأقوياء وأصحاب السلطة بها. وما ورد في الشرع من الأدلة على تحريم الظلم والاحتكار والغش والربا وأكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على مال اليتيم والنساء وغير ذلك، يصب جميعه في اتجاه حسن قسمة الأموال بين المسلمين، على جهة العدل والمعروف. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن المال مال الله، ولا يملك منه – عليه الصلاة والسلام – لنفسه إلا ما شرعه الله له. ففي الصحيح: (ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت). ومما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: مرّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأخذ وبرة من ظهر بعير فقال‏:‏ ‏(‏ما أنا بأحق بهذه الوبرة من رجل من المسلمين‏). فإذا كان الحبيب المعصوم – صلى الله عليه وسلم – لا يملك من أموال المسلمين إلا ما فرض الله له، فكيف يحلّ لمن دونه أن يأخذها غصبا، وتسكت عن ذلك الأمة، بعلمائها وعامتها؟ وقد خطر شيء من هذا ببال معاوية رضي الله عنه، لكنه وجد من المسلمين في ذلك الزمن الفاضل من بين له حرمة ذلك الفعل. فعن ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي ( قبيل ) قال: خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: "إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا"؛ فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد فقال: "كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا، من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: "أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة، فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياهُ الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، و رجوت أن لا يجعلني الله منهم". فرقابة الأمة على أموال المسلمين، وإنكارها على من يأخذ منها بغير حق، هو المنهج الإسلامي الصحيح لدرء الفساد المالي، والاغتناء غير المشروع، وذلك بقرون عديدة قبل أن تؤصل لذلك الديمقراطيات الحديثة. وقد أجمع العلماء على أن المال الموجود في بيت مال المسلمين حق للأمة، لا يحلّ للحاكم أن يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ولا يجوز له التصرف فيه إلا وفق ما حكم به الشرع. وتفصيل مصارف بيت المال موجود في كتب الفقه والسياسة الشرعية بما لا مزيد عليه. فلن يجد الظالم في التراث الفقهي مستندا يعتمد عليه لتجويز عبثه بأموال المسلمين، ومصالحهم المادية. وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم
3- الرقابة المالية للأمة على الحاكم

د. البشير عصام

[لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

في الوقت الذي نسمع فيه هنا وهناك أن حاكما من حكام المسلمين، ينفق أموالا طائلة على شهواته الشخصية ولموافقة هوى الكِبر والخيلاء، والحال أن الملايين من المسلمين يتضورون جوعا أو يفترشون العراء أو يكابدون آلام الفقر، فإن أول ما يخطر ببالنا هو: كيف وصل هؤلاء الحكام إلى هذه الدرجة من الاستهانة بأموال المسلمين؟ ولم لا تقوم الأمة بدورها في الرقابة المالية على حكامها؟

من البدهي الذي كاد أن يُنسى: أن هذه الأموال التي تَصرفها طائفةٌ مخصوصة من الناس في ما لا يرضي الله تعالى، على وفق أهوائهم ونزواتهم، ليست ملكا لهم، وإنما هي أموال المسلمين، اقتُطعت منهم ظلما وبغيا!

إن من المقطوع به أن الرقابة المالية على أصحاب السلطة السياسية، لمنعهم من التصرف التبذيري أو الاستئثاري به، من أهم مداخل الإصلاح التي فرطت الأمة فيها منذ زمن، ولم يعد بالإمكان الاستمرار في التفريط فيها. وذلك لأن ضغط الثقافة العلمانية الغربية المهيمنة اليوم، يفرض على الناس الكلام في الموضوع، وإعادة النظر في كثير من المسلمات فيه.

والمؤسف أن الكثيرين حين يرون هذا التسلط من الحكام على أموال المسلمين، يفزعون إلى صور العدالة المالية عند الغربيين.

ونحن لا نشك أن حال الغربيين اليوم في هذا المجال أفضل بكثير من حالنا .. ولكن لا نشك أيضا أن الأفضل من الاثنين معا، هو التصور الإسلامي السامي في هذا الموضوع؛ وهو التصور الذي طمسه اجتماع تصرفات الحكام الظلمة، مع تسويغات "أحبار السوء" الجهلة، المستندين في ضلالهم إلى قواعد إجمالية متعلقة بما يندرج تحت عنوانَي الفتنة والطاعة، مع تناسي قواعد السياسة الشرعية الأخرى، والتي سيأتي بيان بعضها في هذا المقال.

تنبيه لا بد منه

حين تمر أمام أعين المسلمين صورُ هذا التبذير والاستهانة بالمال العام، تخطر ببال الكثيرين سيرةُ الخلفاء الراشدين في حفظهم لأموال الأمة، وزهدهم فيها.

ولكن المشكلة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح: أن هذه السيرة تخطر كما تخطر الحكايات التي يتناقلها الوعاظ والقصاص، صعبةً مثالية لا ارتباط لها بواقع الناس اليوم، فوق كونها مناقضة لهدي السنة النبوية في التوسط والاعتدال (مثل قصص العُبّاد الذي يصلّون الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، أو يبكون من خشية الله حتى تتلف أعينهم، أو نحو ذلك)!

ولذلك، نحتاج أن نوضح أن منهج الخلفاء الراشدين في مجال تدبير المال العام، ليس محالا في ذاته، ولا مخالفا للسنة البيضاء – كاجتهادات هؤلاء المغالين من العُباد والزهاد - بل هو منهج إسلامي واقعي، طُبّق فعلا على أرض الواقع، وأُمر المسلمون – في كل عصر - بالاقتداء به (كما في حديث: "اقتدوا باللذَين من بعدي"، وحديث: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ").

إن فِعل الخلفاء الراشدين الأربعة (ومعهم عمر بن عبد العزيز الذي أُلحق بهم في سيرته بإجماع العلماء، وإن لم يكن منهم)، ليس كتصرفات من جاء بعدهم؛ فإن هؤلاء لا يمتنع أن يسلكوا طرقا في الدين تخالف المنهج الإسلامي الصحيح، وإن كانوا معذورين باجتهادهم. أما أولئك الراشدون المهديون، ففيهم تمثلَ هذا المنهج الإسلامي، إذ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق، وجعلهم قدوة للمسلمين.

وإذا ثبت وجوب الاقتداء بهم، فلا يمكن أن نقتدي بهم في الطهارة والصلاة، فإذا جاء ذكر سيرتهم في السياسة الشرعية، قلنا – كما يزعم بعضهم -: ذاك جيل رباني مخصوص، وظروف متميزة، ونحن جيل آخر، له ظروفه الخاصة به؟

فما معنى أن يكون الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، إذا نحن حصرنا هذه الصلاحية في العبادات الفردية؟ أليست هذه خطوة أولى نحو العلمانية، كما وقع للنصرانية منذ أصولها الأولى حين جعلت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فتفرّد قيصر – ومن تبعه من الملوك - بسياسة الدنيا على أصول أهل الدنيا، وتُركت سياسة أرواح الناس وقلوبهم للكنيسة؟

نعم .. لست أنازع في أن جيل الصحابة جيل فريد لا سبيل إلى تكراره، ولكن الاقتداء بهم فوق كونه واجبا شرعيا، هو أمر محمود في الواقع أيضا. وذلك أن سيرة الصحابة هي المرجعية التي ينبغي أن تُنصَب على أنها الغاية العليا التي نسعى إلى الاقتراب منها ما أمكن. فعلينا أن نقرر أن هذه الغاية هي دين الله الذي نعمل على تطبيقه، ولو لم نستطع اليوم أن نطبقه بحذافيره. فإن بقاء الغاية واضحة جلية – بقطع النظر عن القدرة الراهنة على تنزيلها في الواقع -، هو ما يوضح الطريق، ويحمي من الانحراف.

سيرة الخلفاء الراشدين في الموضوع

فلننظر إلى بعض المأثور عن الخلفاء الراشدين في هذا الباب.

روى ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن عطاء بن السائب قال: (لما استُخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن).

فالرواية صريحة في أن أبا بكر رضي الله عنه لم يرضَ أن يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا، حتى أذِن له الصحابة بذلك، وأنهم هم الذين فرضوا له ما يكفيه. وفي رواية أخرى أنه احتاج إلى أن يفاوضهم كي يزيدوه من العطاء: "لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، قال: زيدوني فإن لي عيالا، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة".

وهذا صريح غاية الصراحة، في أن الأمة – ممثلة هنا في الصحابة الذين هم أهل الحل والعقد، ومجمع الشورى – هي التي تقرر ما يكون للحاكم من نصيب في بيت المال، وليس له أن يستأثر بشيء من ذلك دون رضاها الواضح.

ولما حضرته الوفاة – رضي الله عنه – أمر برد الزائد عنده من المال إلى بيت مال المسلمين، إيذانا منه بأن المال الذي فرضته الأمة له ليس ملكا له. فقارِن هذا بمن يورّث أموال المسلمين لأبنائه وأحفاده، دون أن تطرف له عين، ولا لمن يسوغون له ذلك!

وقد سار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أيضا على الطريق نفسه، فلم يأخذ من المال إلا ما فرض المسلمون له. فقد أخرج ابن سعد أنه مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعِم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك).

وكان يقول فيما رواه أحمد وأبو داود: (والله ما أحدٌ أحق بهذا المال من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب ..).

وقد سار عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - على الدرب نفسه، فبدأ بعد توليه الخلافة برد أموال أسرته إلى بيت المال، ثم أجبر بني أمية على ردّ الأموال التي أخذوها بغير وجه حق إلى بيت مال المسلمين، وسماها "أموال المظالم".

وقد قيل له وهو على فراش الموت: تركت ولدك ولا مال لهم؟

فقال: (ما كنت أعطيهم شيئا ليس لهم، وما كنت لآخذ منهم حقا لهم ..).

وهكذا سنّ الخلفاء الراشدون للأمة طريق الرقابة المالية على حكامها، فاستنبط الفقهاء من ذلك الأصول والقواعد اللازمة لضبط هذا الباب.

ملخص حكم الشرع في الموضوع

في قوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) تقرير أصل قرآني عظيم في مجال تداول الأموال بين أفراد الأمة، ومنع استئثار الأقوياء وأصحاب السلطة بها. وما ورد في الشرع من الأدلة على تحريم الظلم والاحتكار والغش والربا وأكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على مال اليتيم والنساء وغير ذلك، يصب جميعه في اتجاه حسن قسمة الأموال بين المسلمين، على جهة العدل والمعروف.

وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن المال مال الله، ولا يملك منه – عليه الصلاة والسلام – لنفسه إلا ما شرعه الله له. ففي الصحيح: (ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت).

ومما ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: مرّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأخذ وبرة من ظهر بعير فقال‏:‏ ‏(‏ما أنا بأحق بهذه الوبرة من رجل من المسلمين‏).

فإذا كان الحبيب المعصوم – صلى الله عليه وسلم – لا يملك من أموال المسلمين إلا ما فرض الله له، فكيف يحلّ لمن دونه أن يأخذها غصبا، وتسكت عن ذلك الأمة، بعلمائها وعامتها؟

وقد خطر شيء من هذا ببال معاوية رضي الله عنه، لكنه وجد من المسلمين في ذلك الزمن الفاضل من بين له حرمة ذلك الفعل. فعن ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي ( قبيل ) قال: خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: "إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا"؛ فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد فقال: "كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا، من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: "أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة، فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياهُ الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، و رجوت أن لا يجعلني الله منهم".

فرقابة الأمة على أموال المسلمين، وإنكارها على من يأخذ منها بغير حق، هو المنهج الإسلامي الصحيح لدرء الفساد المالي، والاغتناء غير المشروع، وذلك بقرون عديدة قبل أن تؤصل لذلك الديمقراطيات الحديثة.

وقد أجمع العلماء على أن المال الموجود في بيت مال المسلمين حق للأمة، لا يحلّ للحاكم أن يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ولا يجوز له التصرف فيه إلا وفق ما حكم به الشرع. وتفصيل مصارف بيت المال موجود في كتب الفقه والسياسة الشرعية بما لا مزيد عليه. فلن يجد الظالم في التراث الفقهي مستندا يعتمد عليه لتجويز عبثه بأموال المسلمين، ومصالحهم المادية.

وإلى لقاء مقبل في موضوع آخر من موضوعات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام.
‏٢٦‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٢١ م‏
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)* [لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK] مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (1) نبذة مختصرة عن حياته ولد السيد محمد أمين الحسيني عام 1897م، وتلقى تعليمه الأولي في فلسطين, ثم التحق بالجامع الأزهر الشريف، وكان يحضر في كلية الأداب وفي الحرب العالمية الأولى تخرج ضابطًا في الجيش العثماني والتحق بالفرقة 46, ولما انتهت الحرب عاد إلى فلسطين ليسقبل عهدًا جديدًا من الكفاح لتحرير فلسطين، وعمل بصورة خاصة على مقاومة الانتداب البريطاني (وعد بلفور) ليقود الحركة الوطنية الفلسطينية. نشبت ثورة القدس الأولى عام 1920 التي قادها سماحته, وتشكلت محكمة بريطانية لمحاكمة المشاركين في الثورة، وصدر عليه حكم غيابي بالسجن 10 سنين، لكنه تمكن من الفرار من المستعمرين، وانتقل إلى سوريا في بداية عهدها بالاستقلال. ولما احتل الفرنسيون سورية وقضوا على استقلالها ذهب إلى صحراء سورية، وعاش فيها، وحين تم إلغاء الحكم الصادر بحقه عاد إلى فلسطين، وتولى دار الإفتاء خلفًا لشقيقه عام 1921، وانتخب عام 1922 رئيسًا للمجلس الشرعي والإسلامي الأعلى، فأصلح إداراتها، وحرص على منع أراضي فلسطين من التسرب للصهاينة، وبادر إلى عمارة المسجد الأقصى وتجديده. وفي عام 1930 شارك في الوفد الفلسطيني الذاهب إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية بشأن فلسطين وتحقيق مطالب الشعب. وكان سماحته يعمل جاهدًا لإخراج قضية فلسطين من الحيز المحلي الضيق إلى نطاق العالمين العربي والإسلامي ونجح إلى حد كبير في ذلك. وفي سبيل ذلك دعا سماحته إلى عقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس عام 1931 الذي حضره مندوبون من كافة الأقطار الإسلاميه للنظر فيما يحاك لفلسطين من مطامع اليهود الدينية والسياسية، وهدفهم إلى تحويل فلسطين إلى دولة يهودية. ولما نشبت ثورة فلسطين عام 1929 حاول اليهود رشوته بنصف مليون جنيه؛ ليفرط لهم في حقوق ليست لهم في مكان البراق الشريف، ولما رفض طالب اليهود بمحاكمته، واعتبروه مسئولاً عن الثورات المتعاقبة. وفي عام 1934 حاول سماحته وقف الحرب بين السعودية واليمن، وتكللت جهوده بالنجاح وحقنت الدماء. وفي عام 1936 انتخب سماحته بإجماع أحزاب فلسطين لرئاسة اللجنة العليا التي أدارت دفة الثورة في البلاد، وانتهت بتدخل ملوك العرب وأمرائهم كما هو معروف بنداء وجهوه لوقف الثورة، واعدين إياه بأن تعمل بريطانيا على إنصاف العرب، وقد استمرت الثورة 6 أشهر. ولكن ما حدث هو ما قامت به بريطانيا بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، فتجددت الثورة عام 1937، وحاولت القبض على سماحته لكنه تمكن من النجاة وهرب إلى لبنان.. وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية ضغطت بريطانيا على فرنسا لتسليمها سماحته، ولكنه كان قد غادر لبنان سرًّا وذهب إلى بغداد، ولما أوشك الإنجليز أن يحتلوا العراق اضطر سماحته للخروج إلى إيران، ولما احتلت القوات البريطانية والروسية إيران أعلنت بريطانيا مكافاة عشرون ألف جنيهًا استرليني لمن يرشد عليه. لكن الله سهل لسماحته الهروب إلى أوروبا بعد أن رفضت تركيا قبوله لاجئًا سياسيًّا ممالأة للإنجليز، وتمكن من الحصول من دول المحور على اعتراف باستقلال فلسطين. وبعد انهيار ألمانيا تمكنت السلطات الفرنسية من اعتقاله. وحاولت المنظمات الصهيونية تقديم سماحته إلى محكمة نورمبرغ؛ بتهمة تحريض ألمانيا على إبادة اليهود، ومساعدة مسلمي البوسنة على المقاومة للدفاع عن أنفسهم من العصابات الصربية. ولقد فشلت مساعي الصهيونيين واليوغسلافيين ضد سماحته بسسب استنكار المسلمين والرأي العام الإسلامي... وأخيرًا تمكن سماحته من الخروج من فرنسا سرًّا إلى مصر عام 1946، وكان هبوطه في مصر حدثًا مدويًا في العالم العربي والإسلامي والخارجي. وسارعت السلطات البريطانية تطالب باعتقال سماحته, ولكن السلطات المصرية أكرمت وفادته، وسرعان ما التف حوله رجالات فلسطين. وشرع سماحته في تنظيم الفلسطينيين واستنئاف الجهاد، وقام بتأليف جيش الجهاد المقدس، وانتصر الفلسطينيون في أغلب المعارك التي دارت بينهم وبين اليهود، رغم قلة وسائل الكفاح، مقارنة بما يملكه اليهود. وفي عام 1948 حدثت النكبة وتشرد مليون عربي فلسطيني. واستمر سماحته يعمل جاهدًا لتخفيف آثار هذه الكارثة مدافعًا عن فلسطين. وفي عام 1951 رأس مؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي، وكذلك عام 1952 في كراتشي -أيضًا. وفيما تلا ذلك من أعوام استمر سماحته في نضاله على رأس الهيئة العربية لفلسطين، وموتمر علماء المسلمين. وانتقلت روحه إلى ربه ظهر يوم الخميس عام 1974، وكان لموته الأثر البالغ في نفوس العرب والمسلمين. الفصل الأول الهجره من فلسطين لم تكن الهجرة من فلسطين ضمن خطتي؛ لاعتقادي أن مكافحة الأعداء من الداخل أولى وأجدى، وأنه لا يجوز لمجاهد أن يهجر وطنه إلا مضطرًا أو مرغمًا لأمر هو في صالح القضية التي يجاهد من أجلها. وكنت قد أزمعت السفر إلى أوربا، وأعددت لذلك، فلما ظهرت بوادر الشر المبيتة من اليهود قبيل حادثة البراق، شعرت بخطورة الموقف، وبضرورة بقائي فعدلت عن السفر. وانجلت المعركة عن نصر عظيم للعرب، وقامت لجنة برلمانية من بريطانيا بزيارة فلسطين للوقوف على أسباب الثورة، وحاول محامو اليهود أن يحملوني وز الدماء المهراقة, وأني حاولت الخروج من فلسطين لأخلص من أوزارهم، فكان جوابي أني كنت على وشك السفر، وبقيت، وحتى لو كنت سافرت لسارعت بالعوده إلى البلاد؛ لأواجه عدوانكم، ولأتحمل المسئولية كاملة. وحينما قلت هذا القول لم أكن أظن أني سأضطر لهجرة موطني بعد ثمانية أعوام, أي بعد عام من نشوب ثورة 1936, تلك الثورة التي رافقها الإضراب الفلسطيني العظيم، الذي تم وقفه نتيجة تدخل ملوك العرب، وقيامهم بالوساطة لدى بريطانيا؛ لإقناعها بإنصاف العرب الفلسطينيين. وأوفدت بريطانيا لجنة ملكية برياسة اللورد بيل إلى فلسطين للتحقيق في أسباب هذه الثورة, وتقديم توصياتها بشأن حل دائم للمشكلة, وكانت اللجنة العربية وعرب فلسطين يميلون إلى مقاطعة اللجنة، لكنهم لم يسعهم بعد استشارة الملوك والرؤساء العرب إلا النزول على رأيهم والاتصال بهم. وفي 23 حزيران 1937 قدمت اللجنة الملكية تقريرها إلى ملك بريطانيا، ثم تواترت الشائعات عن استكمال اللجنة لتقريرها ونصيحة الحكومة البريطانية بتقسيم فلسطين. خلال هذه الفترة سافرت إلى المملكة العربية السعودية بصحبة وفد لمقابلة الملك عبد العزيز آل سعود, ولبسط قضية فلسطين وشرح ظلامتها لحجاج بيت الله. بعد ذلك سافر الوفد إلى سوريا وقابلنا رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي, ولم نمكث هناك طويلاً؛ إذ وصلتنا أخبار مقلقة عن فلسطين تشير إلى أن بريطانيا قد ركبت رأسها، وأنها ستشرع في اتخاذ وسائل الشدة والعنف، وستقمع بالقوة كل حركة وطنية، وأنها شارعة في اعتقال المجاهدين الفلسطينيين. بادرنا بالعودة إلى فلسطين لمجابهة هذا العدوان الاستعماري, وقد قام الإنجليز معنا بكل وسائل المساومة لوقف النضال، ولما فشلوا في التأثير علينا بالإغراء والوعد, عمدوا إلى التهديد والوعيد، وأرسلت لي رسالة شفوية تهددني بالقتل. ولما يئسوا من جدوى الوعيد والتهديد عزموا على اتخاذ خطة جديدة من العنف والبطش, ونشرت الجرائد البريطانية واليهودية أن المفتي هو العقبة الكؤود في سبيل كل حل للمشكلة وأي تفاهم مع اليهود, ويجب على الحكومة أن تصفيه وتعزله من رياسة المجلس الإسلامي الأعلى، وأن تبطش به وبالفريق المتصلب العنيد من المتطرفين -على حد قولهم. فاجأتنا السلطة البريطانية باقتحام دار اللجنة العربية العليا في القدس في 17 يوليو 1937، لكن تمكنت من الفرار منهم, وتوجهت نحو ساحة المسجد الأقصى المبارك, ولما كان المسجد يضم في ذلك الوقت عددًا من المجاهدين ومعهم البنادق والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية فقد اضطرت السلطة البريطانية إلى وضع حراسة على أبواب المسجد الأقصى وحول أسوار المدينة القديمة لمنعي من النجاة. دام الحصار لحوالي ثلاثة أشهر، ثم جاءت بريطانيا بقوة عسكرية من مسلمي الهند قاصدة أن تقتحم أبواب المسجد للقبض علي وعلى المجاهدين, حينها قررت المخاطرة ومحاولة اختراق الحصار والخروج إلى أحد الأقطار العربية، حيث تتوفر لي حرية العمل، ومتابعة حركة التحرر والجهاد. وصلت لبنان عن طريق التهريب لكن ألقي القبض عليّ، وتعرف عليّ مساعد مدير الأمن الفرنسي، وحاول المندوب السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل نقلي إلى باريس, لكن قامت مظاهرات عربية في بيروت أدت إلى بقائي في لبنان, وبقيت هناك لمدة عامين تحت إشراف البوليس حتى نشبت الحرب العالمية الثانية. أبلغني الكولونيل الفرنسي بأن المندوب السامي لا يرغمنا على الإقامة هنا، ويسمح لنا بالخروج والإقامة في لبنان تحت إشراف إدارة الأمن العام, لكنهم لم يسمحوا لي بالسفر إلى سوريا، ولا على الإقامة في بيروت أو طرابلس. أقمت في قرية (ذوق مكايل) من منطقة كسروان, واستأجرت هناك دارًا، وشرع الإخوة العاملون معنا يفدون علينا ويستأجرون الدور المجاورة لدارنا بالتدريج حتى أصبحت المنطقة أشبه بحي خاص بنا، مما ساعدنا كثيرًا على تحقيق أغراضنا، والاجتماع سرًّا مع قادة المجاهدين وكبار رجال الحركة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية. استمرت نار الثورة في فلسطين مشتعلة عامين كاملين من أكتوبر عام 1937 إلى أكتوبر 1939, وقد كان هتلر زعيم ألمانيا النازية معجبًا أشد الإعجاب لكفاح عرب فلسطين وبسالتهم التي بهرته. وقد بالغت السلطات البريطانية في اتخاذ وسائل البطش والإرهاب لقمع الثورة، وحشدت في فلسطين على التوالي أربع فرق عسكرية جديدة، أي: ما يعادل 50 ألف جندي, ليبلغ إجمالي الجنود القامعين للثورة حوالي 70 ألفًا. انعقد في مصر المؤتمر البرلماني الذي دعا له محمد علي علوبة باشا، وشهده ممثلون للأقطار العربية والإسلامية، وأبدوا جمعهم تأييدهم لفلسطين ورفض الانتداب, كما أبدت الحكومة المصرية برئاسة محمد محمود باشا مظاهر اهتمام بالغة بقضية فلسطين. حاول اليهود دس الدسائس والمؤمرات وإثارة الفتن بين العرب وإثارة النعرات الطائفية بين المسلمين، وقد أخبرني حينها ضابط فلسطيني يعمل في المخابرات البريطانية أن الإنجليز جندوا عددًا من المجرمين وسلحوهم وأمروهم بالهجوم على القرى المسيحية وقتل أفرداها, وأخبرني الضابط أنه سلّح بعض المجموعات بنفسه. سرعان ما اتخذت قيادة الثورة الوسائل الضرورية لمكافحة هذه العصابات المجرمة وإخماد نار الفتنة, وتم القضاء على المجرمين وتشكيل محكمة عسكرية وطنية لمحاكمتهم. نجحت الثورة في القضاء على مشروع التقسيم، وأدنت العرب من تحقيق آمالهم, وأصدرت الحكومة البريطانية بيانًا أشارت فيه إلى أنها ستدعو إلى عقد مؤتمر في لندن تحضره الحكومات العربية وممثلون عن العرب واليهود للوصول إلى حل ملائم لقضية فلسطين. تألف الوفد وسافر وعقد المؤتمر في أوائل عام 1939 لكنه فشل بسبب تعنت الإنجليز وتدخل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لصالح اليهود, وأصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي اشتمل على تشكيل حكومة فلسطينية مستقلة خلال 10 سنوات بشرط موافقة العرب واليهود على تشكيلها، وأن يسمح لآخر مرة بدخول 75 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين خلال خمس سنوات. رفضت اللجنة العربية بنود الكتاب، وكذلك رفضه اليهود, وظلت الثورة مستمرة بعد صدور الكتاب بضعة أشهر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
سلسلة كتب مختصرة (الكتاب الرابع)*

[لتحميل العدد السادس: https://goo.gl/JGcXjK]

مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (1)

نبذة مختصرة عن حياته

ولد السيد محمد أمين الحسيني عام 1897م، وتلقى تعليمه الأولي في فلسطين, ثم التحق بالجامع الأزهر الشريف، وكان يحضر في كلية الأداب وفي الحرب العالمية الأولى تخرج ضابطًا في الجيش العثماني والتحق بالفرقة 46, ولما انتهت الحرب عاد إلى فلسطين ليسقبل عهدًا جديدًا من الكفاح لتحرير فلسطين، وعمل بصورة خاصة على مقاومة الانتداب البريطاني (وعد بلفور) ليقود الحركة الوطنية الفلسطينية.

نشبت ثورة القدس الأولى عام 1920 التي قادها سماحته, وتشكلت محكمة بريطانية لمحاكمة المشاركين في الثورة، وصدر عليه حكم غيابي بالسجن 10 سنين، لكنه تمكن من الفرار من المستعمرين، وانتقل إلى سوريا في بداية عهدها بالاستقلال.

ولما احتل الفرنسيون سورية وقضوا على استقلالها ذهب إلى صحراء سورية، وعاش فيها، وحين تم إلغاء الحكم الصادر بحقه عاد إلى فلسطين، وتولى دار الإفتاء خلفًا لشقيقه عام 1921، وانتخب عام 1922 رئيسًا للمجلس الشرعي والإسلامي الأعلى، فأصلح إداراتها، وحرص على منع أراضي فلسطين من التسرب للصهاينة، وبادر إلى عمارة المسجد الأقصى وتجديده.

وفي عام 1930 شارك في الوفد الفلسطيني الذاهب إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية بشأن فلسطين وتحقيق مطالب الشعب.

وكان سماحته يعمل جاهدًا لإخراج قضية فلسطين من الحيز المحلي الضيق إلى نطاق العالمين العربي والإسلامي ونجح إلى حد كبير في ذلك.

وفي سبيل ذلك دعا سماحته إلى عقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس عام 1931 الذي حضره مندوبون من كافة الأقطار الإسلاميه للنظر فيما يحاك لفلسطين من مطامع اليهود الدينية والسياسية، وهدفهم إلى تحويل فلسطين إلى دولة يهودية.

ولما نشبت ثورة فلسطين عام 1929 حاول اليهود رشوته بنصف مليون جنيه؛ ليفرط لهم في حقوق ليست لهم في مكان البراق الشريف، ولما رفض طالب اليهود بمحاكمته، واعتبروه مسئولاً عن الثورات المتعاقبة.

وفي عام 1934 حاول سماحته وقف الحرب بين السعودية واليمن، وتكللت جهوده بالنجاح وحقنت الدماء.

وفي عام 1936 انتخب سماحته بإجماع أحزاب فلسطين لرئاسة اللجنة العليا التي أدارت دفة الثورة في البلاد، وانتهت بتدخل ملوك العرب وأمرائهم كما هو معروف بنداء وجهوه لوقف الثورة، واعدين إياه بأن تعمل بريطانيا على إنصاف العرب، وقد استمرت الثورة 6 أشهر.

ولكن ما حدث هو ما قامت به بريطانيا بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، فتجددت الثورة عام 1937، وحاولت القبض على سماحته لكنه تمكن من النجاة وهرب إلى لبنان..

وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية ضغطت بريطانيا على فرنسا لتسليمها سماحته، ولكنه كان قد غادر لبنان سرًّا وذهب إلى بغداد، ولما أوشك الإنجليز أن يحتلوا العراق اضطر سماحته للخروج إلى إيران، ولما احتلت القوات البريطانية والروسية إيران أعلنت بريطانيا مكافاة عشرون ألف جنيهًا استرليني لمن يرشد عليه.

لكن الله سهل لسماحته الهروب إلى أوروبا بعد أن رفضت تركيا قبوله لاجئًا سياسيًّا ممالأة للإنجليز، وتمكن من الحصول من دول المحور على اعتراف باستقلال فلسطين.

وبعد انهيار ألمانيا تمكنت السلطات الفرنسية من اعتقاله.

وحاولت المنظمات الصهيونية تقديم سماحته إلى محكمة نورمبرغ؛ بتهمة تحريض ألمانيا على إبادة اليهود، ومساعدة مسلمي البوسنة على المقاومة للدفاع عن أنفسهم من العصابات الصربية.

ولقد فشلت مساعي الصهيونيين واليوغسلافيين ضد سماحته بسسب استنكار المسلمين والرأي العام الإسلامي...

وأخيرًا تمكن سماحته من الخروج من فرنسا سرًّا إلى مصر عام 1946، وكان هبوطه في مصر حدثًا مدويًا في العالم العربي والإسلامي والخارجي.

وسارعت السلطات البريطانية تطالب باعتقال سماحته, ولكن السلطات المصرية أكرمت وفادته، وسرعان ما التف حوله رجالات فلسطين.

وشرع سماحته في تنظيم الفلسطينيين واستنئاف الجهاد، وقام بتأليف جيش الجهاد المقدس، وانتصر الفلسطينيون في أغلب المعارك التي دارت بينهم وبين اليهود، رغم قلة وسائل الكفاح، مقارنة بما يملكه اليهود.

وفي عام 1948 حدثت النكبة وتشرد مليون عربي فلسطيني.

واستمر سماحته يعمل جاهدًا لتخفيف آثار هذه الكارثة مدافعًا عن فلسطين.

وفي عام 1951 رأس مؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي، وكذلك عام 1952 في كراتشي -أيضًا.

وفيما تلا ذلك من أعوام استمر سماحته في نضاله على رأس الهيئة العربية لفلسطين، وموتمر علماء المسلمين.

وانتقلت روحه إلى ربه ظهر يوم الخميس عام 1974، وكان لموته الأثر البالغ في نفوس العرب والمسلمين.

الفصل الأول
الهجره من فلسطين

لم تكن الهجرة من فلسطين ضمن خطتي؛ لاعتقادي أن مكافحة الأعداء من الداخل أولى وأجدى، وأنه لا يجوز لمجاهد أن يهجر وطنه إلا مضطرًا أو مرغمًا لأمر هو في صالح القضية التي يجاهد من أجلها.

وكنت قد أزمعت السفر إلى أوربا، وأعددت لذلك، فلما ظهرت بوادر الشر المبيتة من اليهود قبيل حادثة البراق، شعرت بخطورة الموقف، وبضرورة بقائي فعدلت عن السفر.

وانجلت المعركة عن نصر عظيم للعرب، وقامت لجنة برلمانية من بريطانيا بزيارة فلسطين للوقوف على أسباب الثورة، وحاول محامو اليهود أن يحملوني وز الدماء المهراقة, وأني حاولت الخروج من فلسطين لأخلص من أوزارهم، فكان جوابي أني كنت على وشك السفر، وبقيت، وحتى لو كنت سافرت لسارعت بالعوده إلى البلاد؛ لأواجه عدوانكم، ولأتحمل المسئولية كاملة.

وحينما قلت هذا القول لم أكن أظن أني سأضطر لهجرة موطني بعد ثمانية أعوام, أي بعد عام من نشوب ثورة 1936, تلك الثورة التي رافقها الإضراب الفلسطيني العظيم، الذي تم وقفه نتيجة تدخل ملوك العرب، وقيامهم بالوساطة لدى بريطانيا؛ لإقناعها بإنصاف العرب الفلسطينيين.

وأوفدت بريطانيا لجنة ملكية برياسة اللورد بيل إلى فلسطين للتحقيق في أسباب هذه الثورة, وتقديم توصياتها بشأن حل دائم للمشكلة, وكانت اللجنة العربية وعرب فلسطين يميلون إلى مقاطعة اللجنة، لكنهم لم يسعهم بعد استشارة الملوك والرؤساء العرب إلا النزول على رأيهم والاتصال بهم.

وفي 23 حزيران 1937 قدمت اللجنة الملكية تقريرها إلى ملك بريطانيا، ثم تواترت الشائعات عن استكمال اللجنة لتقريرها ونصيحة الحكومة البريطانية بتقسيم فلسطين.
خلال هذه الفترة سافرت إلى المملكة العربية السعودية بصحبة وفد لمقابلة الملك عبد العزيز آل سعود, ولبسط قضية فلسطين وشرح ظلامتها لحجاج بيت الله.

بعد ذلك سافر الوفد إلى سوريا وقابلنا رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي, ولم نمكث هناك طويلاً؛ إذ وصلتنا أخبار مقلقة عن فلسطين تشير إلى أن بريطانيا قد ركبت رأسها، وأنها ستشرع في اتخاذ وسائل الشدة والعنف، وستقمع بالقوة كل حركة وطنية، وأنها شارعة في اعتقال المجاهدين الفلسطينيين.

بادرنا بالعودة إلى فلسطين لمجابهة هذا العدوان الاستعماري, وقد قام الإنجليز معنا بكل وسائل المساومة لوقف النضال، ولما فشلوا في التأثير علينا بالإغراء والوعد, عمدوا إلى التهديد والوعيد، وأرسلت لي رسالة شفوية تهددني بالقتل.

ولما يئسوا من جدوى الوعيد والتهديد عزموا على اتخاذ خطة جديدة من العنف والبطش, ونشرت الجرائد البريطانية واليهودية أن المفتي هو العقبة الكؤود في سبيل كل حل للمشكلة وأي تفاهم مع اليهود, ويجب على الحكومة أن تصفيه وتعزله من رياسة المجلس الإسلامي الأعلى، وأن تبطش به وبالفريق المتصلب العنيد من المتطرفين -على حد قولهم.

فاجأتنا السلطة البريطانية باقتحام دار اللجنة العربية العليا في القدس في 17 يوليو 1937، لكن تمكنت من الفرار منهم, وتوجهت نحو ساحة المسجد الأقصى المبارك, ولما كان المسجد يضم في ذلك الوقت عددًا من المجاهدين ومعهم البنادق والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية فقد اضطرت السلطة البريطانية إلى وضع حراسة على أبواب المسجد الأقصى وحول أسوار المدينة القديمة لمنعي من النجاة.

دام الحصار لحوالي ثلاثة أشهر، ثم جاءت بريطانيا بقوة عسكرية من مسلمي الهند قاصدة أن تقتحم أبواب المسجد للقبض علي وعلى المجاهدين, حينها قررت المخاطرة ومحاولة اختراق الحصار والخروج إلى أحد الأقطار العربية، حيث تتوفر لي حرية العمل، ومتابعة حركة التحرر والجهاد.

وصلت لبنان عن طريق التهريب لكن ألقي القبض عليّ، وتعرف عليّ مساعد مدير الأمن الفرنسي، وحاول المندوب السامي الفرنسي الكونت دو مارتيل نقلي إلى باريس, لكن قامت مظاهرات عربية في بيروت أدت إلى بقائي في لبنان, وبقيت هناك لمدة عامين تحت إشراف البوليس حتى نشبت الحرب العالمية الثانية.

أبلغني الكولونيل الفرنسي بأن المندوب السامي لا يرغمنا على الإقامة هنا، ويسمح لنا بالخروج والإقامة في لبنان تحت إشراف إدارة الأمن العام, لكنهم لم يسمحوا لي بالسفر إلى سوريا، ولا على الإقامة في بيروت أو طرابلس.

أقمت في قرية (ذوق مكايل) من منطقة كسروان, واستأجرت هناك دارًا، وشرع الإخوة العاملون معنا يفدون علينا ويستأجرون الدور المجاورة لدارنا بالتدريج حتى أصبحت المنطقة أشبه بحي خاص بنا، مما ساعدنا كثيرًا على تحقيق أغراضنا، والاجتماع سرًّا مع قادة المجاهدين وكبار رجال الحركة الوطنية لفلسطين والأقطار العربية.

استمرت نار الثورة في فلسطين مشتعلة عامين كاملين من أكتوبر عام 1937 إلى أكتوبر 1939, وقد كان هتلر زعيم ألمانيا النازية معجبًا أشد الإعجاب لكفاح عرب فلسطين وبسالتهم التي بهرته.

وقد بالغت السلطات البريطانية في اتخاذ وسائل البطش والإرهاب لقمع الثورة، وحشدت في فلسطين على التوالي أربع فرق عسكرية جديدة، أي: ما يعادل 50 ألف جندي, ليبلغ إجمالي الجنود القامعين للثورة حوالي 70 ألفًا.

انعقد في مصر المؤتمر البرلماني الذي دعا له محمد علي علوبة باشا، وشهده ممثلون للأقطار العربية والإسلامية، وأبدوا جمعهم تأييدهم لفلسطين ورفض الانتداب, كما أبدت الحكومة المصرية برئاسة محمد محمود باشا مظاهر اهتمام بالغة بقضية فلسطين.

حاول اليهود دس الدسائس والمؤمرات وإثارة الفتن بين العرب وإثارة النعرات الطائفية بين المسلمين، وقد أخبرني حينها ضابط فلسطيني يعمل في المخابرات البريطانية أن الإنجليز جندوا عددًا من المجرمين وسلحوهم وأمروهم بالهجوم على القرى المسيحية وقتل أفرداها, وأخبرني الضابط أنه سلّح بعض المجموعات بنفسه.
سرعان ما اتخذت قيادة الثورة الوسائل الضرورية لمكافحة هذه العصابات المجرمة وإخماد نار الفتنة, وتم القضاء على المجرمين وتشكيل محكمة عسكرية وطنية لمحاكمتهم.

نجحت الثورة في القضاء على مشروع التقسيم، وأدنت العرب من تحقيق آمالهم, وأصدرت الحكومة البريطانية بيانًا أشارت فيه إلى أنها ستدعو إلى عقد مؤتمر في لندن تحضره الحكومات العربية وممثلون عن العرب واليهود للوصول إلى حل ملائم لقضية فلسطين.

تألف الوفد وسافر وعقد المؤتمر في أوائل عام 1939 لكنه فشل بسبب تعنت الإنجليز وتدخل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لصالح اليهود, وأصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي اشتمل على تشكيل حكومة فلسطينية مستقلة خلال 10 سنوات بشرط موافقة العرب واليهود على تشكيلها، وأن يسمح لآخر مرة بدخول 75 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين خلال خمس سنوات.

رفضت اللجنة العربية بنود الكتاب، وكذلك رفضه اليهود, وظلت الثورة مستمرة بعد صدور الكتاب بضعة أشهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب الأصلي من إعداد: عبد الكريم العمر، الناشر: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999م، عدد الصفحات: 546
‏٢٤‏/٠١‏/٢٠١٨ ٨:٠٠ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏.
‏٢٢‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
تفكيك أدوات السلطة (1) د. @[618980873:2048:عمرو عادل] الصراع على السلطة على مدى التاريخ كانت المحرك الأكبر للصراع ليس فقط على مستوي النظام الحاكم ولكن في مستويات أدنى من ذلك بكثير، والسلطة في النظام السياسي لها تعريفات متعددة ولكنها تدور حول الحق في احتكار القوة لضبط المسارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع، وأكد الباحثون والمنظرون بل وأحداث التاريخ حتمية وجود سلطة ما؛ ولكن السلطة في النظام الحديث وخاصة الاستبدادي قامت باحتكارات واسعة مما حول الضبط إلى حالة من إعادة هيكلة كل المجتمعات طبقا لما تراه السلطة صحيحا سواء كان ذلك متسقا مع إرادة المجتمع أم لا. ففي مصر على سبيل المثال، يمكن القول إن تنظيم السلطات داخل الدولة متوافق مع النموذج الحداثي، إلا أن طبيعة الانتقال غير الطبيعي من نظام قديم مختلف إلى النظام الحديث؛ ربط هذا النموذج بالاستبداد ربما بشكل حتمي، وهذا الاستبداد مع طول الزمن ورسوخه حَوَّل السلطة السياسية في مصر – ليس فقط إلى الاستبداد-ولكن إلى معاداة الشعب أيضا، وتحولت السلطة إلى عدو مباشر يعلن احتقاره وانفصاله عن الشعب دون خجل. إن الاختباء خلف الأسوار العالية في المنتجعات وعدم الظهور تماما في الشوارع بين الناس والابتعاد عن لغة وثقافة المجتمع السائدة هي واحدة من مظاهر انفصال السلطة، كما أن استخدام كافة أدوات القوة ضد الشعب واستخدام الحوار وأدوات العمل السياسي مع الخارج – كما ذكر جمال حمدان -هي أحد أهم مقدمات العداء مع الشعب. إذا فالسلطة في مصر يمكن توصيفها بشكل مختلف على أنها استخدام كافة أدوات القوة ضد الشعب للسيطرة على مقدراته وتغيير لمساراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا عداء معلن وبالتالي يجب كسر هذا النمط من فكرة السلطة في مصر، وإذا كان الشعب أو جزء منه يريد التحرر من هذا العداء فمن الواجب معرفة الأدوات التي يستخدمها العدو ومحاولة تفكيكها بكل الطرق المناسبة، والجانب الآخر هو التمسك بكل ثوابته الاجتماعية والثقافية ضد محاولات السلطة لتغييرها. ولذلك يمكن حصر أدوات القوة للنظام في النقاط الآتية: 1-السيطرة على الثروة 2-القوة المسلحة 3-السيطرة على تدفق المعلومات 4-حق المراقبة للمجتمع 5-قوة القانون 6-حق العقاب وفي الدول الحديثة المستقرة – حتى لو مرحليا – يوجد هناك قدر من التوازن في هذه الأدوات فلا يتحول النظام إلى نظام معادي لشعبه، أما في حالة مصر؛ وهي نموذج لعداء السلطة السياسية للشعب؛ فتحتكر السلطة كل شيء بل وتعتبر أي محاولة للتواجد داخل تلك المساحات هو إعلان حرب عليها، ولذلك فإن تفكيك تلك الأدوات هي أحد مسارات محاولات التحرر من تلك السلطة. هناك الكثير من العقبات التي تواجه فكرة تفكيك أدوات السلطة في مصر ويمكن إجمالها في محورين رئيسيين: 1-عقبات نتيجة لسيطرة النظام شبه الكاملة على كل الأدوات مما بحول المجتمع إلى سجن كبير. 2-عقبات نتيجة عدم رغبة قطاع واسع من المؤمنين بخطورة استمرار السياسي على المجتمع المصري في تفتيت السلطة، حيث أن إيمانهم بالسلطة حتى لو كانت معادية للشعب أكبر من قدرتهم على فكرة ضرورة تفتيتها أو فكرة العدالة. وغالب هذا القطاع لا زال يطمح في إمكانية إعادة بناء سلطة حديثة من داخل النظام، قد يكون ذلك ممكنا في حالة اقتصار المشكلة على استبداد السلطة فقط، أما إذا وصلت تلك السلطة إلى حالة العداء مع المجتمع؛ فيكون ذلك مستحيلا ومن الضروري بل والواجب التحرك في مسار تفتيت تلك السلطة تماما. وهذا التفكيك يحتاج إلى قوى تؤمن بأن نشر فكرة التمرد على السلطة ورفض كافة إجراءاتها وما تفرضه على المجتمع وتحجيم قدراتها مسار حتمي، ونتناول في الجزء الباقي أحد تلك الأدوات وربما أخطرها على محاولات المقاومة وهي حق مراقبة المجتمع. وتستخدم السلطة حقها – غير المفهوم السبب – لمعرفة كل تفاصيل السكان – وذلك عن طريق المؤسسات والأجهزة الأمنية وشبكات الجواسيس المنتشرة جغرافيا في كل مصر، وكل هذه الأدوات لا تستخدم إلا في سبيل مراقبة العدو الذي تخشاه السلطة وليس للمعرفة مع تحفظنا على صحة ذلك الفرض. ومن الضروري أن نعرف أن تقليل حجم المعلومات التي تصل للنظام مهما كانت بسيطة تقلل من سيطرة النظام وبالتالي تساهم في عملية التفتيت وهي عملية طويلة ومركبة، ولذلك بالنسبة للمعلومات التي يحصل عليها النظام فيجب تقليلها إلى الحد الأدنى وعدم التطوع لمده بمعلومات سواء في أي إحصاءات أو استبيانات أو إمداده بمعلومات يمكن إخفائها، وبالنسبة للمؤسسات الأمنية فهذا يحتاج لمرحلة متقدمة من الصراع ليس هذا مجالها الآن. والملف الأخطر في قدرة النظام على اختراق المجتمع ومعرفة كافة تفاصيله وبالتالي منع أي محاولة بناء منظومة مقاومة أو تحرر هو الجواسيس المنتشرة جغرافيا ويمكن تقسيمها إلى: 1-جاسوس تكنولوجي وهي الأجهزة الذكية التي نحملها معنا؛ وهي أحد أهم الأدوات الحديثة للمتابعة والمراقبة، وهي خطيرة للغاية على كل من يرغب في بناء منظومات المقاومة من حيث استخدامها في التواصل أو بناء شبكات مجتمعية مقاومة وخاصة للمعروفين للأجهزة الأمنية، لذلك يجب تخفيض أو منع استخدامها حيث يمكن عن طريقها تدمير الكثير من المحاولات. 2-الجاسوس البشري وهي شبكة معقدة من الأفراد المنتشرين في كل مكان ويرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بالأجهزة الأمنية. إن هذه الشبكة من الجواسيس البشرية تعتبر عين السلطة المعادية سواء كانت سلطة احتلال أو سلطة استبداد معادي، ويتناسب حجم هذه الشبكة طرديا مع حجم انعزال الطبقة الحاكمة عن الشعب، فكلما زاد انعزالها ثقافيا وماديا عن المجتمع؛ لجأت إلى شبكات أكثر قوة وتعقيدا لمعرفة ماذا يدور في الشارع وماذا يخطط الشارع ضدهم، وعدم وجود هذه الشبكة أو على الأقل إضعافها يضعف قدرة النظام على كشف المجتمع ويصيبها بالعمى والتوتر، لأن وسائل معرفتهم بالمجتمع انعدمت تقريبا مع ابتعادهم عن المجتمع عدا هذه الوسيلة. وتجربة المقاومة الأيرلندية لها سبق عظيم في هذا المجال، حيث استمرت عقود طويلة في مقاومة نمطية جيش نظامي أمام جيش نظامي مع فارق كبير في القوى لم يؤد إلى أي نجاح، حتى ظهر مايكل كولنز وغير من أساليب العمل، ولكن الفعل الأكبر والأكثر تأثيرا هو القضاء الحاسم على شبكات الجواسيس العاملين مع قوات الاحتلال الإنجليزي، ولم تستطع المقاومة تحقيق نجاحات إلا بعد تفتيت تلك الشبكة. إن الجيوش النظامية والنظم الهرمية ثقيلة الحركة بشكل يمنع قدرتها على التحرك المرن أو التغيير السريع في أفكارها وتحركاتها عكس المجموعات الصغيرة غير المترابطة تنظيميا، وغياب شبكة الجواسيس التي تمدهم بالمعلومات مع وجود حركة مقاومة داخل المجتمع في نفس الوقت تجعل من حركة قوى النظام داخل المجتمع أشبه بتحرك فاقد البصر الذي يحمل أثقالا في متاهة مليئة بالمرايا العاكسة والكمائن المتتالية، مما يؤدي في النهاية إلى سحقهم أو انسحابهم تقليلا لخسائرهم، وذلك يؤدي إلى وجود أماكن آمنة للمجتمع وقوى المقاومة. تلك الخطوة التي فعلها مايكل كولنز كانت أحد الخطوات الكبرى في طريق تفتيت سلطة العدو والتحرك بحرية داخل المجتمع وإخراج سلطة العدو منه، وهذا تطور كبير جدا في مسار التمرد على النظام نحتاج للاستفادة منه. الخلاصة، أن حق النظام في مراقبة المجتمع أحد أكبر أدوات القوة التي يمتلكها، بالتالي يصبح منع أو تقليل هذه القدرة من أدوات تفتيت سلطة النظام، وتقليل التعامل مع الأدوات التكنولوجية الحديثة في التواصل وبناء شبكات المقاومة أو التعامل معها بشكل احترافي – هذه تحتاج للكثير من التفاصيل ليس هذا مجالها -أحد تلك الأدوات، كما أن تفتيت شبكات الجواسيس التابعين للنظام أحد أهم تلك المحاور، ولا يمكن بناء عمل مقاوم دون ذلك.
تفكيك أدوات السلطة (1)
د. عمرو عادل

الصراع على السلطة على مدى التاريخ كانت المحرك الأكبر للصراع ليس فقط على مستوي النظام الحاكم ولكن في مستويات أدنى من ذلك بكثير، والسلطة في النظام السياسي لها تعريفات متعددة ولكنها تدور حول الحق في احتكار القوة لضبط المسارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع، وأكد الباحثون والمنظرون بل وأحداث التاريخ حتمية وجود سلطة ما؛ ولكن السلطة في النظام الحديث وخاصة الاستبدادي قامت باحتكارات واسعة مما حول الضبط إلى حالة من إعادة هيكلة كل المجتمعات طبقا لما تراه السلطة صحيحا سواء كان ذلك متسقا مع إرادة المجتمع أم لا.

ففي مصر على سبيل المثال، يمكن القول إن تنظيم السلطات داخل الدولة متوافق مع النموذج الحداثي، إلا أن طبيعة الانتقال غير الطبيعي من نظام قديم مختلف إلى النظام الحديث؛ ربط هذا النموذج بالاستبداد ربما بشكل حتمي، وهذا الاستبداد مع طول الزمن ورسوخه حَوَّل السلطة السياسية في مصر – ليس فقط إلى الاستبداد-ولكن إلى معاداة الشعب أيضا، وتحولت السلطة إلى عدو مباشر يعلن احتقاره وانفصاله عن الشعب دون خجل.

إن الاختباء خلف الأسوار العالية في المنتجعات وعدم الظهور تماما في الشوارع بين الناس والابتعاد عن لغة وثقافة المجتمع السائدة هي واحدة من مظاهر انفصال السلطة، كما أن استخدام كافة أدوات القوة ضد الشعب واستخدام الحوار وأدوات العمل السياسي مع الخارج – كما ذكر جمال حمدان -هي أحد أهم مقدمات العداء مع الشعب.

إذا فالسلطة في مصر يمكن توصيفها بشكل مختلف على أنها استخدام كافة أدوات القوة ضد الشعب للسيطرة على مقدراته وتغيير لمساراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا عداء معلن وبالتالي يجب كسر هذا النمط من فكرة السلطة في مصر، وإذا كان الشعب أو جزء منه يريد التحرر من هذا العداء فمن الواجب معرفة الأدوات التي يستخدمها العدو ومحاولة تفكيكها بكل الطرق المناسبة، والجانب الآخر هو التمسك بكل ثوابته الاجتماعية والثقافية ضد محاولات السلطة لتغييرها.

ولذلك يمكن حصر أدوات القوة للنظام في النقاط الآتية:

1-السيطرة على الثروة
2-القوة المسلحة
3-السيطرة على تدفق المعلومات
4-حق المراقبة للمجتمع
5-قوة القانون
6-حق العقاب

وفي الدول الحديثة المستقرة – حتى لو مرحليا – يوجد هناك قدر من التوازن في هذه الأدوات فلا يتحول النظام إلى نظام معادي لشعبه، أما في حالة مصر؛ وهي نموذج لعداء السلطة السياسية للشعب؛ فتحتكر السلطة كل شيء بل وتعتبر أي محاولة للتواجد داخل تلك المساحات هو إعلان حرب عليها، ولذلك فإن تفكيك تلك الأدوات هي أحد مسارات محاولات التحرر من تلك السلطة.

هناك الكثير من العقبات التي تواجه فكرة تفكيك أدوات السلطة في مصر ويمكن إجمالها في محورين رئيسيين:


1-عقبات نتيجة لسيطرة النظام شبه الكاملة على كل الأدوات مما بحول المجتمع إلى سجن كبير.

2-عقبات نتيجة عدم رغبة قطاع واسع من المؤمنين بخطورة استمرار السياسي على المجتمع المصري في تفتيت السلطة، حيث أن إيمانهم بالسلطة حتى لو كانت معادية للشعب أكبر من قدرتهم على فكرة ضرورة تفتيتها أو فكرة العدالة. وغالب هذا القطاع لا زال يطمح في إمكانية إعادة بناء سلطة حديثة من داخل النظام، قد يكون ذلك ممكنا في حالة اقتصار المشكلة على استبداد السلطة فقط، أما إذا وصلت تلك السلطة إلى حالة العداء مع المجتمع؛ فيكون ذلك مستحيلا ومن الضروري بل والواجب التحرك في مسار تفتيت تلك السلطة تماما.

وهذا التفكيك يحتاج إلى قوى تؤمن بأن نشر فكرة التمرد على السلطة ورفض كافة إجراءاتها وما تفرضه على المجتمع وتحجيم قدراتها مسار حتمي، ونتناول في الجزء الباقي أحد تلك الأدوات وربما أخطرها على محاولات المقاومة وهي حق مراقبة المجتمع.

وتستخدم السلطة حقها – غير المفهوم السبب – لمعرفة كل تفاصيل السكان – وذلك عن طريق المؤسسات والأجهزة الأمنية وشبكات الجواسيس المنتشرة جغرافيا في كل مصر، وكل هذه الأدوات لا تستخدم إلا في سبيل مراقبة العدو الذي تخشاه السلطة وليس للمعرفة مع تحفظنا على صحة ذلك الفرض.

ومن الضروري أن نعرف أن تقليل حجم المعلومات التي تصل للنظام مهما كانت بسيطة تقلل من سيطرة النظام وبالتالي تساهم في عملية التفتيت وهي عملية طويلة ومركبة، ولذلك بالنسبة للمعلومات التي يحصل عليها النظام فيجب تقليلها إلى الحد الأدنى وعدم التطوع لمده بمعلومات سواء في أي إحصاءات أو استبيانات أو إمداده بمعلومات يمكن إخفائها، وبالنسبة للمؤسسات الأمنية فهذا يحتاج لمرحلة متقدمة من الصراع ليس هذا مجالها الآن.

والملف الأخطر في قدرة النظام على اختراق المجتمع ومعرفة كافة تفاصيله وبالتالي منع أي محاولة بناء منظومة مقاومة أو تحرر هو الجواسيس المنتشرة جغرافيا ويمكن تقسيمها إلى:


1-جاسوس تكنولوجي وهي الأجهزة الذكية التي نحملها معنا؛ وهي أحد أهم الأدوات الحديثة للمتابعة والمراقبة، وهي خطيرة للغاية على كل من يرغب في بناء منظومات المقاومة من حيث استخدامها في التواصل أو بناء شبكات مجتمعية مقاومة وخاصة للمعروفين للأجهزة الأمنية، لذلك يجب تخفيض أو منع استخدامها حيث يمكن عن طريقها تدمير الكثير من المحاولات.

2-الجاسوس البشري وهي شبكة معقدة من الأفراد المنتشرين في كل مكان ويرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بالأجهزة الأمنية.

إن هذه الشبكة من الجواسيس البشرية تعتبر عين السلطة المعادية سواء كانت سلطة احتلال أو سلطة استبداد معادي، ويتناسب حجم هذه الشبكة طرديا مع حجم انعزال الطبقة الحاكمة عن الشعب، فكلما زاد انعزالها ثقافيا وماديا عن المجتمع؛ لجأت إلى شبكات أكثر قوة وتعقيدا لمعرفة ماذا يدور في الشارع وماذا يخطط الشارع ضدهم، وعدم وجود هذه الشبكة أو على الأقل إضعافها يضعف قدرة النظام على كشف المجتمع ويصيبها بالعمى والتوتر، لأن وسائل معرفتهم بالمجتمع انعدمت تقريبا مع ابتعادهم عن المجتمع عدا هذه الوسيلة.

وتجربة المقاومة الأيرلندية لها سبق عظيم في هذا المجال، حيث استمرت عقود طويلة في مقاومة نمطية جيش نظامي أمام جيش نظامي مع فارق كبير في القوى لم يؤد إلى أي نجاح، حتى ظهر مايكل كولنز وغير من أساليب العمل، ولكن الفعل الأكبر والأكثر تأثيرا هو القضاء الحاسم على شبكات الجواسيس العاملين مع قوات الاحتلال الإنجليزي، ولم تستطع المقاومة تحقيق نجاحات إلا بعد تفتيت تلك الشبكة.

إن الجيوش النظامية والنظم الهرمية ثقيلة الحركة بشكل يمنع قدرتها على التحرك المرن أو التغيير السريع في أفكارها وتحركاتها عكس المجموعات الصغيرة غير المترابطة تنظيميا، وغياب شبكة الجواسيس التي تمدهم بالمعلومات مع وجود حركة مقاومة داخل المجتمع في نفس الوقت تجعل من حركة قوى النظام داخل المجتمع أشبه بتحرك فاقد البصر الذي يحمل أثقالا في متاهة مليئة بالمرايا العاكسة والكمائن المتتالية، مما يؤدي في النهاية إلى سحقهم أو انسحابهم تقليلا لخسائرهم، وذلك يؤدي إلى وجود أماكن آمنة للمجتمع وقوى المقاومة.

تلك الخطوة التي فعلها مايكل كولنز كانت أحد الخطوات الكبرى في طريق تفتيت سلطة العدو والتحرك بحرية داخل المجتمع وإخراج سلطة العدو منه، وهذا تطور كبير جدا في مسار التمرد على النظام نحتاج للاستفادة منه.

الخلاصة، أن حق النظام في مراقبة المجتمع أحد أكبر أدوات القوة التي يمتلكها، بالتالي يصبح منع أو تقليل هذه القدرة من أدوات تفتيت سلطة النظام، وتقليل التعامل مع الأدوات التكنولوجية الحديثة في التواصل وبناء شبكات المقاومة أو التعامل معها بشكل احترافي – هذه تحتاج للكثير من التفاصيل ليس هذا مجالها -أحد تلك الأدوات، كما أن تفتيت شبكات الجواسيس التابعين للنظام أحد أهم تلك المحاور، ولا يمكن بناء عمل مقاوم دون ذلك.
‏١٩‏/٠١‏/٢٠١٨ ٨:٠٢ م‏
مسألة الشرعية لدى حركة المقاومة @[520036614:2048:محمد إلهامي] في الأدبيات الغربية المهتمة بالحركات الإسلامية تفريق واضح بين "التمرد" و"الإرهاب"، وليس التفريق طبعا بغرض الدقة العلمية أو بغرض الحقوق القانونية، بل بغرض فهم وإنتاج السياسة المناسبة للتعامل مع الخصم بما يفضي في النهاية لهزيمته وكسره. أبرز الفوارق بين "التمرد" و"الإرهاب" أن التمرد مدعوم بتأييد شعبي كبير، فالتمرد يكون ضد حكومة لا تحظى بالشرعية لدى السكان بينما الإرهاب عكس هذا، فهو عمل مجموعة صغيرة ضد حكومة مستقرة الشرعية، ولذلك لا يحظى بتأييد الغالبية من السكان. التمرد يستهدف النظام والسلطة بينما الإرهاب يستهدف المدنيين. التمرد يحاول أن يجتذب إليه قوات الجيش والشرطة بينما الإرهاب في العموم لا يفعل. وبطبيعة الحال فكل "إرهاب" يحاول أن يصل إلى مرحلة "التمرد".. ساعتها يكون قد نجح في نزع شرعية النظام وفي الحصول على دعم جماهيري واسع. ولذلك فتوصيات الدراسات الأمنية الغربية تفرق بين الأمرين لأنها تسعى إلى معالجة الحالة بما يناسبها فلا تزداد تفاقما، ولا تزال أغلب الدراسات الغربية الجادة التي تنشر ما يحدث في مصر تصف الوضع فيها بأنه "تمرد" لا "إرهاب"، بما في ذلك الدراسات التي تتناول الوضع في سيناء. وحين أصدرت "راند" تقريرها في 2008 (كيف تنتهي المجموعات الإرهابية) كانت تعتمد هذا التوصيف. وكان غرضها أن تحاول التعامل مع حالة تنظيم القاعدة بعدما ثبت خطأ السياسة الأمريكية في التعامل معها ضمن "مكافحة الإرهاب". خلص تقرير راند إلى نتائج تفرق بين التعامل مع "التمرد" والتعامل مع "الإرهاب"، فالحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية. ثم ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة بالبيئة الداخلية. ثم ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها، و(7% فقط) بهزيمتها عسكريا. وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري". ولاحظ واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها: 1.أن التنظيمات الدينية هي الأطول عمرا. 2.أن التنظيمات الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى 3.التنظيمات التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة. وتلك النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على الترتيب: 1.أهمية الدين وأنه أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة، ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا. 2.أهيمة الإعداد وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة. 3.القدرة على تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ أي حركة. اللافت للنظر في تقرير راند هذا أن الحركة التي تهدف إلى تحقيق الخلافة الإسلامية لا يمكن التفاهم معها عبر التسوية السياسية (النتيجة الأكثر فعالية في القضاء على الحركات "الإرهابية")، ومن ثم فلا بد من تفعيل وتوسيع وتعظيم النشاط الأمني الاستخباري، ثم النشاط العسكري الذي ينبغي –كما يوصي التقرير- أن يُعهد به للجيوش المحلية لا للجيش الأمريكي. هذه المقدمة الطويلة أحاول أن أدخل منها إلى معنييْن على وجه التحديد، أحدهما يتعلق بكوني واحدا من أبناء الثورة المصرية والحركة الإسلامية المصرية، والثاني يتعلق بكوني باحثا في التاريخ والحضارة الإسلامية. وهذا مع أن الفائدة الكبرى في هذه الأمور إنما تكون للمهتمين والباحثين في الشؤون الأمنية والعسكرية. أولا: موقع الشرعية في السياسة يصر النظام المصري على أنه يواجه "الإرهاب" لا على أنه يواجه "التمرد"، فالتمرد يطعن في شرعية النظام مباشرة، وقد حاول النظام القديم منذ أوائل عهد الرئيس مرسي أن يرفع شعار "سقطت شرعيتك يا مرسي"، وأن يبني لنفسه شرعية بكل الوسائل، ليس فقط بمشهد المظاهرات المصنوعة والمحشودة، بل أيضا بمشهد الانقلاب الذي جمع الرموز المتنوعة بمن فيهم الفئة التي لا يطيقها النظام "السلفيون"، ثم بمشهد الاستفتاء على دستور الانقلاب حيث لا بد أن يصوت عليه أكثر ممن صوتوا على استفتاء دستور الثورة، ثم بمشهد انتخابات الرئاسة الذي يحوز فيه السيسي 97% من الأصوات، وهي محاولة لتسويق وجود "إجماع شعبي" و"شرعية كاملة". وإلى الآن تتناثر في خطابات السيسي وقيادات العسكر التأكيدات على أنه لم يخن ولم يغدر ولم ينقلب وإنما اضطروا للتدخل كي لا تضيع مصر! والواقع أن سائر من يعارضون الانقلاب (الانقلاب نفسه كنظام لا السيسي كشخص) ليس بيدهم ورقة شرعية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية سوى شرعية الرئيس مرسي، وهذا بغض النظر الآن عن مسألة القدرة أو الإرادة في استثمار هذه الورقة وتفعيلها. فالتخلي والتنازل عن هذه الورقة هو نفسه تثبيت لشرعية الانقلاب ولشرعية أي انقلاب. وأخطر ما تتعرض له الثورة المصرية في لحظتها الحالية هو إيجاد قبول عام بالاستسلام للنظام، ولمؤسساته، والقبول بأي عرض يرجع الحال به إلى ما قبل 2011. صحيح ربما نتفهم أن العجز قد بلغ بالبعض أن يقنعوا بهذا (وهنا يجب ألا ننسى أنه عجز صنعوه بأيديهم بل هم كافحوا وحاربوا بكل طاقتهم كل من أرادوا كسر العجز وتفعيل المقاومة)، لكن يجب ألا ينسينا هذا أننا نبيع الثورة ونعترف بفشلها ونسلم بانتصار الانقلاب. وبالمناسبة، فنفس الوضع الذي يتم على المستوى المحلي يتم أيضا على المستوى الدولي، فعندما تضطرب الأمور في بلد ما، ينزل إليها دائما هذا الكائن البغيض المسمى "المبعوث الدولي"، هذا الكائن له مهمة وحيدة، وهي هدم الشرعيات وتصفير الأوضاع، يدعو دائما لحوار بين كل الأطراف بلا شروط مسبقة. وهكذا يمثل الصغير كالكبير وتُمسح مكاسب الشعب السابقة لحساب صناعة اضطراب جديد، ثم لا يصل حواره أبدا إلى حل، بل يظل يكسب الوقت حتى تعمل الآلة الدولية على دعم عميلها بالمال والسلاح ليسيطر على الأرض. عندها يسافر الكائن البغيض مرة أخرى معلنا فشل "الحوار الوطني".. للأسف! لقد كتبنا كثيرا جدا في معنى الشرعية من قبل [راجع هذه المقالات: الشرعية ركيزة الثورة - https://goo.gl/XYdjhV سياسة هدم الشرعيات - https://goo.gl/t1FDxX الشرعية والعصبية - https://goo.gl/1WMQ1p] والجديد هنا أننا نشير لكون معنى الشرعية ليس مجرد معنى سياسي يختص السياسيون به، بل هو داخل في صميم العمل الثوري المقاوم، فلا بد للحركة المقاومة من نشر أفكارها ومفاهيمها التي تؤصل وتبين شرعية عملها وغاياتها، فالعنف الصامت –كما تقول الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة أرندت- عمل حيواني، وإنما يتميز الإنسان بما يضفيه عليها من المعنى الشرعى. وحيث نتحدث في بلادنا عن حركات المقاومة الإسلامية، ففي أمتنا العربية والإسلامية، اختفت وذابت الحركات غير الإسلامية ولم يبق سوى الحركات الإسلامية. أقول: حيث نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة، وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين. فالنظام الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة.. هذه العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها.. وهذه العبارة البسيطة يُستدل لها من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وسيرة العلماء وجهاد المجاهدين بمادة غزيرة لا تنفد.. فإن تاريخ الإسلام كله هو تاريخ إسقاط الأنظمة غير الشرعية لإقامة النظام الشرعي. وهنا تلتقي خلاصة التوصيات الغربية والجهادية معا.. فبقدر ما تنتهي الدراسات الأمنية الغربية إلى توسيع الفجوة بين الحركة الجهادية وبين الأمة، تنتهي التوصيات الجهادية إلى جسر وردم الفجوة بين الحركة الجهادية والأمة[ انظر مثلا: https://goo.gl/Fc4nZS]. ثانيا: شرعية النظام في التاريخ الإسلامي وهنا أدخل إلى المعنى الثاني المتعلق بالتاريخ الإسلامي. وسأوجزه كثيرا.. ما دلت عليه الشريعة وسنة الخلفاء الراشدين أن النظام الشرعي في الإسلام يتوفر بناء على ركنين: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.. وهذا مذكور في أول خطبة لأبي بكر "وليت عليكم ولست بخيركم... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". والخلافة الراشدة هي الخلافة التي تحقق فيها الركنان: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير. فما إن تحولت الخلافة إلى الملك حتى فقدت صفة "الراشدة". السؤال هنا: لماذا قبل المسلمون، انتقال الخلافة إلى الملك في لحظة تولي يزيد؟ ثم لماذا قبل العلماء فيما بعد بولاية المتغلب وجعلوا التغلب من طرق حصول الخلافة؟ الإجابة بإيجاز وتبسيط شديد هو أن ذلك كان في لحظة اضطرار، في لحظة الاضطرار هذه حصل ما نسميه في لفظنا المعاصر "التضحية برأس النظام للحفاظ على النظام نفسه"، نفس المبدأ الذي استعمله الأعداء ضدنا في الثورات المضادة حين تخلوا عن زين العابدين ومبارك والقذافي وصالح ليبقى النظام. وقد سوومت الثورة السورية في بدايتها –كما روى رياض الأسعد- نفس المساومة: أن يرحل بشار مقابل الحفاظ على الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلما رفض رياض الأسعد قيل له: إذن ستطول الحرب. هذا المبدأ كانت نتيجته: القبول بمن لم تختره الأمة اختيارا حرا طالما أنه سيقيم الشريعة ويحفظ الثغور وينشر الأمن ويحمي بيضة الدين. ومع هذا فقد بقيت كتب السياسة الشرعية تؤكد أن هذا اضطرار وأن الأصل هو بقاء ركني الشرعية معا "تطبيق الشريعة والاختيار الحر للأمير"، ومما ترتب على هذا أن الخارج على المتغلب ليس خارجا على إمام شرعي، ولا يأخذ حكم الخوارج الذين خرجوا على علي، وأن هذا المتغلب الجديد إن استقر له الأمر فقد تغلب ولم يُسْعَ في استعادة السابق لأنه لا شرعية له، بخلاف الإمام الشرعي الذي يُقاتل معه ويُسْعي في استنقاذه إن أُسِر وإعادته للإمامة، ومن آثار هذا أيضا أنهم لا يبايعون للمتغلب إلا إن استقر تغلبه وصار في حكم الواقع، وصارت بيعتهم في حكم تحصيل الحاصل. ثم مع هذا كانت حركة العلماء والمصلحين والثوار لإعادة الأمر إلى نصابه ومقاومة ما عليه هؤلاء من الانحرافات. لكن الشاهد الذي يهمنا في مقامنا الآن هو أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم عليه وطريقه وصوله للإمامه.. فهذا القبول الاضطراري بالمتغلب وبالتوريث لم يقابله تهاون في مسألة الشريعة نفسها، بل العلماء يتفقون على أن الحاكم إن كفر فإنه ينعزل عن الإمامة ويُقام عليه، فإن كان ثمة عجز سُعِي في الإعداد للقيام عليه. فالتهاون كان في شأن الشخص لا في شأن الشريعة التي هي النظام.
مسألة الشرعية لدى حركة المقاومة
محمد إلهامي

في الأدبيات الغربية المهتمة بالحركات الإسلامية تفريق واضح بين "التمرد" و"الإرهاب"، وليس التفريق طبعا بغرض الدقة العلمية أو بغرض الحقوق القانونية، بل بغرض فهم وإنتاج السياسة المناسبة للتعامل مع الخصم بما يفضي في النهاية لهزيمته وكسره.

أبرز الفوارق بين "التمرد" و"الإرهاب" أن التمرد مدعوم بتأييد شعبي كبير، فالتمرد يكون ضد حكومة لا تحظى بالشرعية لدى السكان بينما الإرهاب عكس هذا، فهو عمل مجموعة صغيرة ضد حكومة مستقرة الشرعية، ولذلك لا يحظى بتأييد الغالبية من السكان. التمرد يستهدف النظام والسلطة بينما الإرهاب يستهدف المدنيين. التمرد يحاول أن يجتذب إليه قوات الجيش والشرطة بينما الإرهاب في العموم لا يفعل.

وبطبيعة الحال فكل "إرهاب" يحاول أن يصل إلى مرحلة "التمرد".. ساعتها يكون قد نجح في نزع شرعية النظام وفي الحصول على دعم جماهيري واسع.

ولذلك فتوصيات الدراسات الأمنية الغربية تفرق بين الأمرين لأنها تسعى إلى معالجة الحالة بما يناسبها فلا تزداد تفاقما، ولا تزال أغلب الدراسات الغربية الجادة التي تنشر ما يحدث في مصر تصف الوضع فيها بأنه "تمرد" لا "إرهاب"، بما في ذلك الدراسات التي تتناول الوضع في سيناء. وحين أصدرت "راند" تقريرها في 2008 (كيف تنتهي المجموعات الإرهابية) كانت تعتمد هذا التوصيف. وكان غرضها أن تحاول التعامل مع حالة تنظيم القاعدة بعدما ثبت خطأ السياسة الأمريكية في التعامل معها ضمن "مكافحة الإرهاب".

خلص تقرير راند إلى نتائج تفرق بين التعامل مع "التمرد" والتعامل مع "الإرهاب"، فالحركات "الإرهابية" ينتهي أغلبها (43%) بالتسوية السياسية بينها وبين الحكومة حيث يجري احتواؤها ضمن عملية سياسية انتقالية. ثم ينتهي (40%) منها بالاختراق الأمني المخابراتي المعلوماتي الذي يؤدي إلى اكتشاف قياداتها ومفاصلها الرئيسية ومن ثم اغتيالها أو اعتقالها، وهو مجهود لا يصلح للقيام به الأجهزة الأجنبية بل يُلقى على عاتق الأجهزة المحلية الأكثر معرفة بالبيئة الداخلية. ثم ينتهي (10%) منها بتحقق أهدافها، و(7% فقط) بهزيمتها عسكريا. وهذا ما يعطي التوصية بأن المكافحة العسكرية هي أقل الوسائل نجاحا في القضاء على المجموعات "الإرهابية"، فيما يتعاظم العمل حول "الإصلاح السياسي" ثم "العمل الأمني الاستخباري".

ولاحظ واضعو التقرير أيضا نتائج أخرى من أهمها:

1.أن التنظيمات الدينية هي الأطول عمرا.

2.أن التنظيمات الكبيرة أقدر على الصمود والبقاء والانتصار من التنظيمات الصغرى

3.التنظيمات التي اشتركت في "تمرد" لا تنتهي بسهولة.

وتلك النتائج الثلاثة الأخيرة نستخلص منها أمورا في غاية الأهمية والخطورة، وهي على الترتيب:

1.أهمية الدين وأنه أقوى وأرسخ من سائر الأيديولوجيات النضالية، فما من حركة كفاح إلا واعتنقت فكرة، ومع هذا فقد كانت الحركات الدينية أطول نفسا وأقوى صمودا.

2.أهيمة الإعداد وضرورته، فالحركة التي تستطيع أن تكتسب أفرادا أكثر تعبر عن قدرة استيعابية وتشغيلية، ومن ثم ينعكس هذا على نتائج المعركة.

3.القدرة على تثوير الناس والمجتمع والانضمام إلى لحظتهم الثورية يمثل انتقالة فارقة في تاريخ أي حركة.

اللافت للنظر في تقرير راند هذا أن الحركة التي تهدف إلى تحقيق الخلافة الإسلامية لا يمكن التفاهم معها عبر التسوية السياسية (النتيجة الأكثر فعالية في القضاء على الحركات "الإرهابية")، ومن ثم فلا بد من تفعيل وتوسيع وتعظيم النشاط الأمني الاستخباري، ثم النشاط العسكري الذي ينبغي –كما يوصي التقرير- أن يُعهد به للجيوش المحلية لا للجيش الأمريكي.

هذه المقدمة الطويلة أحاول أن أدخل منها إلى معنييْن على وجه التحديد، أحدهما يتعلق بكوني واحدا من أبناء الثورة المصرية والحركة الإسلامية المصرية، والثاني يتعلق بكوني باحثا في التاريخ والحضارة الإسلامية. وهذا مع أن الفائدة الكبرى في هذه الأمور إنما تكون للمهتمين والباحثين في الشؤون الأمنية والعسكرية.

أولا: موقع الشرعية في السياسة
يصر النظام المصري على أنه يواجه "الإرهاب" لا على أنه يواجه "التمرد"، فالتمرد يطعن في شرعية النظام مباشرة، وقد حاول النظام القديم منذ أوائل عهد الرئيس مرسي أن يرفع شعار "سقطت شرعيتك يا مرسي"، وأن يبني لنفسه شرعية بكل الوسائل، ليس فقط بمشهد المظاهرات المصنوعة والمحشودة، بل أيضا بمشهد الانقلاب الذي جمع الرموز المتنوعة بمن فيهم الفئة التي لا يطيقها النظام "السلفيون"، ثم بمشهد الاستفتاء على دستور الانقلاب حيث لا بد أن يصوت عليه أكثر ممن صوتوا على استفتاء دستور الثورة، ثم بمشهد انتخابات الرئاسة الذي يحوز فيه السيسي 97% من الأصوات، وهي محاولة لتسويق وجود "إجماع شعبي" و"شرعية كاملة". وإلى الآن تتناثر في خطابات السيسي وقيادات العسكر التأكيدات على أنه لم يخن ولم يغدر ولم ينقلب وإنما اضطروا للتدخل كي لا تضيع مصر!

والواقع أن سائر من يعارضون الانقلاب (الانقلاب نفسه كنظام لا السيسي كشخص) ليس بيدهم ورقة شرعية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية سوى شرعية الرئيس مرسي، وهذا بغض النظر الآن عن مسألة القدرة أو الإرادة في استثمار هذه الورقة وتفعيلها. فالتخلي والتنازل عن هذه الورقة هو نفسه تثبيت لشرعية الانقلاب ولشرعية أي انقلاب.

وأخطر ما تتعرض له الثورة المصرية في لحظتها الحالية هو إيجاد قبول عام بالاستسلام للنظام، ولمؤسساته، والقبول بأي عرض يرجع الحال به إلى ما قبل 2011. صحيح ربما نتفهم أن العجز قد بلغ بالبعض أن يقنعوا بهذا (وهنا يجب ألا ننسى أنه عجز صنعوه بأيديهم بل هم كافحوا وحاربوا بكل طاقتهم كل من أرادوا كسر العجز وتفعيل المقاومة)، لكن يجب ألا ينسينا هذا أننا نبيع الثورة ونعترف بفشلها ونسلم بانتصار الانقلاب.

وبالمناسبة، فنفس الوضع الذي يتم على المستوى المحلي يتم أيضا على المستوى الدولي، فعندما تضطرب الأمور في بلد ما، ينزل إليها دائما هذا الكائن البغيض المسمى "المبعوث الدولي"، هذا الكائن له مهمة وحيدة، وهي هدم الشرعيات وتصفير الأوضاع، يدعو دائما لحوار بين كل الأطراف بلا شروط مسبقة. وهكذا يمثل الصغير كالكبير وتُمسح مكاسب الشعب السابقة لحساب صناعة اضطراب جديد، ثم لا يصل حواره أبدا إلى حل، بل يظل يكسب الوقت حتى تعمل الآلة الدولية على دعم عميلها بالمال والسلاح ليسيطر على الأرض. عندها يسافر الكائن البغيض مرة أخرى معلنا فشل "الحوار الوطني".. للأسف!

لقد كتبنا كثيرا جدا في معنى الشرعية من قبل [راجع هذه المقالات:
الشرعية ركيزة الثورة - https://goo.gl/XYdjhV
سياسة هدم الشرعيات -
https://goo.gl/t1FDxX
الشرعية والعصبية -
https://goo.gl/1WMQ1p]

والجديد هنا أننا نشير لكون معنى الشرعية ليس مجرد معنى سياسي يختص السياسيون به، بل هو داخل في صميم العمل الثوري المقاوم، فلا بد للحركة المقاومة من نشر أفكارها ومفاهيمها التي تؤصل وتبين شرعية عملها وغاياتها، فالعنف الصامت –كما تقول الفيلسوفة اليهودية الألمانية حنة أرندت- عمل حيواني، وإنما يتميز الإنسان بما يضفيه عليها من المعنى الشرعى.

وحيث نتحدث في بلادنا عن حركات المقاومة الإسلامية، ففي أمتنا العربية والإسلامية، اختفت وذابت الحركات غير الإسلامية ولم يبق سوى الحركات الإسلامية. أقول: حيث نتحدث عن حركات تستمد حركتها من الإسلام فإن الإسلام يوفر أساسا راسخا ومتينا في مسألة الشرعية، وهو أساس ضارب في كتب الفقه ويحتفظ بقداسته من نصوص القرآن والسنة، وهذا ما يجعل نشره بين الناس أسهل كثيرا كما يوفر له من أهل البسالة والتضحية أفواجا وأمواجا وأمدادا في كل حين.
فالنظام الشرعي في الإسلام هو النظام الذي يطبق الشريعة..

هذه العبارة البسيطة لو استطاعت الحركات المقاومة أن تنشرها وتغرسها بين الناس لوفرت على نفسها جدالات هائلة ومجهودات رهيبة في تكوين وبناء شرعيتها.. وهذه العبارة البسيطة يُستدل لها من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وسيرة العلماء وجهاد المجاهدين بمادة غزيرة لا تنفد.. فإن تاريخ الإسلام كله هو تاريخ إسقاط الأنظمة غير الشرعية لإقامة النظام الشرعي.

وهنا تلتقي خلاصة التوصيات الغربية والجهادية معا.. فبقدر ما تنتهي الدراسات الأمنية الغربية إلى توسيع الفجوة بين الحركة الجهادية وبين الأمة، تنتهي التوصيات الجهادية إلى جسر وردم الفجوة بين الحركة الجهادية والأمة[ انظر مثلا:
https://goo.gl/Fc4nZS].

ثانيا: شرعية النظام في التاريخ الإسلامي

وهنا أدخل إلى المعنى الثاني المتعلق بالتاريخ الإسلامي. وسأوجزه كثيرا..

ما دلت عليه الشريعة وسنة الخلفاء الراشدين أن النظام الشرعي في الإسلام يتوفر بناء على ركنين: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير.. وهذا مذكور في أول خطبة لأبي بكر "وليت عليكم ولست بخيركم... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

والخلافة الراشدة هي الخلافة التي تحقق فيها الركنان: تطبيق الشريعة واختيار الأمة للأمير. فما إن تحولت الخلافة إلى الملك حتى فقدت صفة "الراشدة".

السؤال هنا: لماذا قبل المسلمون، انتقال الخلافة إلى الملك في لحظة تولي يزيد؟ ثم لماذا قبل العلماء فيما بعد بولاية المتغلب وجعلوا التغلب من طرق حصول الخلافة؟
الإجابة بإيجاز وتبسيط شديد هو أن ذلك كان في لحظة اضطرار، في لحظة الاضطرار هذه حصل ما نسميه في لفظنا المعاصر "التضحية برأس النظام للحفاظ على النظام نفسه"، نفس المبدأ الذي استعمله الأعداء ضدنا في الثورات المضادة حين تخلوا عن زين العابدين ومبارك والقذافي وصالح ليبقى النظام. وقد سوومت الثورة السورية في بدايتها –كما روى رياض الأسعد- نفس المساومة: أن يرحل بشار مقابل الحفاظ على الأجهزة الأمنية والعسكرية، فلما رفض رياض الأسعد قيل له: إذن ستطول الحرب.

هذا المبدأ كانت نتيجته: القبول بمن لم تختره الأمة اختيارا حرا طالما أنه سيقيم الشريعة ويحفظ الثغور وينشر الأمن ويحمي بيضة الدين. ومع هذا فقد بقيت كتب السياسة الشرعية تؤكد أن هذا اضطرار وأن الأصل هو بقاء ركني الشرعية معا "تطبيق الشريعة والاختيار الحر للأمير"، ومما ترتب على هذا أن الخارج على المتغلب ليس خارجا على إمام شرعي، ولا يأخذ حكم الخوارج الذين خرجوا على علي، وأن هذا المتغلب الجديد إن استقر له الأمر فقد تغلب ولم يُسْعَ في استعادة السابق لأنه لا شرعية له، بخلاف الإمام الشرعي الذي يُقاتل معه ويُسْعي في استنقاذه إن أُسِر وإعادته للإمامة، ومن آثار هذا أيضا أنهم لا يبايعون للمتغلب إلا إن استقر تغلبه وصار في حكم الواقع، وصارت بيعتهم في حكم تحصيل الحاصل. ثم مع هذا كانت حركة العلماء والمصلحين والثوار لإعادة الأمر إلى نصابه ومقاومة ما عليه هؤلاء من الانحرافات.

لكن الشاهد الذي يهمنا في مقامنا الآن هو أن مسألة الشرعية في الإسلام تتعلق أول ما تتعلق بتطبيق الشريعة، فهذا هو جوهر النظام وأصله وأساسه، بغض النظر عن القائم عليه وطريقه وصوله للإمامه.. فهذا القبول الاضطراري بالمتغلب وبالتوريث لم يقابله تهاون في مسألة الشريعة نفسها، بل العلماء يتفقون على أن الحاكم إن كفر فإنه ينعزل عن الإمامة ويُقام عليه، فإن كان ثمة عجز سُعِي في الإعداد للقيام عليه. فالتهاون كان في شأن الشخص لا في شأن الشريعة التي هي النظام.
‏١٦‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٣٣ م‏
يسألونك عن الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ (03) الصغير @[100001613664823:2048:منير] بعد كلّ ما ذكرناه في الجزأين السابقين من هذه السلسلة من الأخطاء والثغرات ومواضع القصور والخلل في خطاب الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأدائها الميداني وقبل ذلك في ظروف وملابسات نشأتها وتأسيسها؛ ألم يكن للجبهة أي إنجاز يستحقّ ان يُسجّل في مآثرها ويذكرها به التاريخ كمحطة فارقة في تاريخ الجزائر المعاصر؟ لقد آثرتُ أن يكون الجزآن السابقان مسردا لكل ما يذكره الأصدقاء والأعداء من أخطاء الجبهة بحيث تندرج كل التفاصيل والجزئيات تحت ما سبق ذكره، وحتى لا يسارع أحد باتّهامي أنني أقوم بعملية تلبيس على القارئ بذكر المحاسن والإنجازات أوّلا لتصبح المساوئ والأخطاء بعد ذلك شيئا هامشيّا لا قيمة له ولا تأثير، ولأخالف العادة الغالبة في تقييم الحركات والأحزاب والجماعات التي يسبق مدحها والثناء عليها وتمجيدها نقدها وذكر أخطائها. والآن ..ماذا قدّمت الجبهة للإسلام في الجزائر وللشعب الجزائري المسلم وللأداء السياسيّ كلّه في الفترة القصيرة جدّا والممتدّة من ربيع 1989 إلى انقلاب جانفي 1992؟ أولا: أعيد التذكير بخصوصيّة الجبهة الإسلاميّة في كونها الحزب الإسلاميّ الأوّل وربما الوحيد الذي لم يتأسس باعتباره ذراعا سياسية لجماعة دعوية أو تيّار حركيّ، وإنما كان مفتوحا على كل التيّارات التي كانت تنشط وتتحرّك في الساحة يومها، على تفاوت في تجاوب أعضاء هذه التيارات مع مبادرة تأسيس حزب إسلاميّ وفي عدد المنخرطين فيه تأسيسا أو انتماء لاحقا. وهذه الخاصّية على ما يبدو من بساطتها لأوّل وهلة ولكنّها كانت وما زالت تشكّل عبئا على كلّ الأحزاب الإسلاميّة وتسلبها استقلالية القرار فيها لصالح الجماعة ومؤسساتها – أيّا كانت هذه الجماعة – وتحرمها من كفاءات ومواهب توجد في غيرها وتُضعِف من التنوّع البشريّ والفكريّ داخلها ومن القدرة على الابتكار والاستجابة للتحدّيّات. كما أنّ هذه الخاصّية تجعلنا دائما نفكّر أنّ الأمر ممكن بعيدا عن الجماعات القديمة المتكلّسة أو الحديثة فاقدة الرؤية والبوصلة وأنّ ارتباط العمل السياسيّ بالجماعات ليس ضرورة سياسيّة ولا سنّة كونيّة ولا قدرا مقدورا. ثانيا: الخطاب الواضح والصريح فيما يتعلّق بتحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، وإن كنت قد أشرتُ في الجزء السابق من هذه السلسلة أنّ الأمر لم يكن بالوضوح نفسه فيما يتعلّق بالأدوات والآليات والإمكانات والموارد البشرية وغيرها ذات العلاقة بهذا الهدف المشروع والنّبيل، ولكن وضوح الخطاب كان من القوّة والصراحة والحضور والتكرار والتأكيد عليه في كلّ أدبيات الجبهة الإسلامية وإصداراتها الإعلامية وخطاباتها السياسيّة في التجمعات أنْ أصبح هذا المطلب لأوّل مرّة حديث العامّ والخاصّ والصغير والكبير وموضع تساؤل أو ترحاب أو استنكار الإعلاميّين والسياسيين، ولم يعد سرّا يُستخفى به أو هدفا يستحي طالبه من الإعلان عنه والجهر به، وكشف هذا الوضوح فيما يتعلّق بمصطلحي (تطبيق الشريعة) و إقامة (الدولة الإسلاميّة) أنّ الشعوب المسلمة تمتلك من الرصيد التاريخي والقبول النفسي والاستعداد الاجتماعيّ والتعاطي مع هذه المصطلحات ولو بقدر من الغموض ما يؤهّلها لأن تتبنّاه وتدافع عنه بشكل من الاشكال وتجعله أولويّة وخيارا عندما تمتلك حرّيتها، وهو أمر اثبتته التجارب اللاحقة في المغرب وتونس ومصر والأردن واليمن وغيرها. وتجدر الإشارة هنا أنّه بعد الانقلاب وحلّ الجبهة الإسلاميّة خفت هذا المطلب وتوارى من على المنابر المسجدية والإعلامية وغاب من أدبيات الأحزاب ذات الخلفية الإسلاميّة وأصبح لا يسمعه أحد في خطاب سياسيّ ولا ديباجة نصّ تأسيسيّ ومارست هذه الأحزاب نوعا من الإرهاب الإعلامي والنفسي حول هذه المصطلحات والتعامل معها ومع من يرفعها وينادي بها بنوع من الاحتقار والاستعلاء والاتّهام بالسذاجة والسطحية وأحيانا كثيرة بالغلوّ والتطرّف بشكل فيه قدر كبير من التعميم الجائر والسعي إلى نفي ما تراه تهمة، و هنا استثني خطاب الشيخ عبد الله جاب الله فهو في هذه النقطة أكثر وضوحا وحسما. ثالثا: الانتشار الواسع جدّا في كل عواصم الولايات والبلديات والقرى والمداشر وحتى البوادي والأرياف، وهو انتشار كنت أشرتُ إلى التحدّيات التي وضع الجبهة الإسلاميّة أمامها وأنّها لم تكن تمتلك موارد وأدوات التحكّم فيه وتأطيره وترشيده بالشكل المناسب للصراع الذي كانت تخوضه يومئذ، وأنّه ما زال يحتاج دراسة وتحليلا ومقاربات أكثر حياديّة وإنصافا بعيدا عن اتّهام الشعب بالجهل والسطحية أو اتّهام خطاب الجبهة بالغوغائية أو اعتبار هذا الانتشار والالتفاف الشعبي الرهيب حول الجبهة مجرّد سلوك عقابيّ ضدّ تصرّفات وظلم مؤسسات الحزب الواحد : جبهة التحرير الوطنيّ. ولقد فاجأ هذا الانتشار حتى مؤسسي الجبهة وقياداتها، ووجدوا صعوبة كبيرة في التعامل معه، ولكن هذه ملحوظات منفكّة عن رصد الظاهرة نفسها ولا تؤثّر في صحّتها ومصداقيتها التي يقرّ بها أشدّ أعداء الجبهة الإسلاميّة ضراوة وحقدا. وهذا الانتشار لم يكن نخبويّا أبدا، بل كان أبعد ما يكون عن ذلك، واحتضن خطاب الجبهة وأطروحاتها السياسيّة طيف واسع من الشباب والطلبة والنّساء وعامّة الشعب والفلّاحين وسكان الرّيف والأساتذة والمثقفين، ولم يكن هؤلاء كلّهم على موجة واحدة من جميع ما يطرحه خطاب الجبهة، فقد كان فيهم المندفع المشتعل حماسة وفيه المتأنّي الملاحظ وفيهم المتحفّظ والرافض لبعض ما يقال ويُفعَل والناقد الجريء وعلى جميع المستويات من أدناها على المستوى البلدي إلى أعلاها على مستوى المكتب الوطني وجلس الشورى. إلّا أنّ الذي كان يجمع هؤلاء جميعا ويصهرهم هو انبعاث الروح الإسلامية والشعور بالعزّة وتلمّس اقتراب عهد التحرّر واسترجاع الكرامة والأمل في نهضة شاملة تكون الجزائر قاطرتها وهو أيضا ذلك الإجماع حول مطلب تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلاميّة الذي كان غامضا كما اشرنا في الجزأين السابقين حتى عند قيادات الجبهة، ولم يكن مطلوبا من الجماهير وهي تعبّر عن تأييدها والتفافها حول مشروع الجبهة أن تدخل في نقاشات فكريّة وفقهية واجتهادات سياسيّة حول شكل الدولة الإسلاميّة أو طرق إنفاذ أحكام الشريعة فإنما يُطلب منها تكثير السواد والنّصرة والتصويت في الانتخابات والدعم المادّي والاجتماعيّ وهو ما قدّمته الجماهير بصدق وعطاء منقطع النّظير. صحيح أنّ الحركة الإسلاميّة بمختلف توجّهاتها كانت قد هيّأت النفوس والعقول لتقبّل خطاب الجبهة أو أيّ خطاب آخر يستمدّ من الإسلام، وصحيح أن هناك أسبابا أخرى لم يكن للجبهة يد في توفيرها لحدوث هذا الانتشار والالتفاف والقبول، ولكن الذي يهمّ هنا هو أنّ الجبهة كانت الأسبق والأقدر على استثمار هذا المُعْطى، وأنّها لم تتردّد في الذهاب به بعيدا والاستفادة منه وأنّ غيرها لم يستطع ذلك، فالجبهة في النّهاية حزب سياسيّ يهدف إلى اكتساح الساحة والفوز والوصول إلى السلطة وكل الوسائل المشروعة سبيل إلى ذلك، وليس من المعقول ولا المقبول أن تترك الجبهة الجماهير بحجّة أن الجماعة الفلانيّة والتيّار العلّاني هو من قام بتوعيتها وتقريبها من المشروع الإسلامي وليست الجبهة هي من فعلت ذلك. رابعا: استطاعت الجبهة بنجاح كبير صناعة رموز سياسيّة ودعويّة، اكتسحت الساحة برغم بساطة وسائل الإعلام آنذاك وأصبح هؤلاء الرموز موضع اهتمام الإعلاميين في الداخل وتتهافت عليهم وسائل الإعلام الأجنبيّة من فضائيات وصحف عالميّة ويقدّمون التصريحات المؤثّرة وتشتغل بتصريحاتهم وحواراتهم الأحزاب ودوائر السلطة . ولم يكن هؤلاء الرموز على المستوى الوطني فحسب، بل كان في كل ولاية رموزها الذين يخطبون ويسوّقون لخطاب الجبهة وتتأثّر بهم الجماهير وتتعلّق بهم . ولم يكن كلّ أولئك من صناعة الجبهة، فبعضهم كان يمتلك حضورا وكاريزما في منطقته قبل تأسيس الجبهة ولكنّ قوة خطاب الجبهة ووضوحه زاد من تألّقه وحضوره وأعطاه دفعة أقوى في التأثير، وبعضهم – خاصّة من أبناء الصحوة الإسلاميّة – كان يمتلك كفاءة الخطابة والأداء السياسيّ والذكاء الاجتماعيّ والقدرة على التأثير على نطاق واسع ولكن محدوديّة العمل الإسلاميّ واقتصاره على الحلقات ودروس الوعظ وانكفاءه على نفسه قبل أحداث أكتوبر 1988 التعدّدية السياسيّة لم يتح لهم الفرصة المناسبة فكان انخراطهم لاحقا في الجبهة اكتشافا لهم وتدريبا وصقلا لمهاراتهم وإضافة لرصيد الجبهة. كانت صناعة الرموز التي تتعلّق بها الجماهير وتتفاعل معها وتثق بها دائما نقطة ضعف عند كثير من الحركات الإسلامية وقلّما نجحت في ذلك لأنّ الذي يبرز الرموز ويسوّقها في الغالب ويظهر أثرها وذكاءها هو الإعلام وقد كان يومئذ كلّه في يد اليساريين وفلول المخابرات العسكرية. وهو ما يسوقنا إلى النقطة التالية. خامسا: لم يكن الجزائريّون يعرفون إعلاما نهاية الثمانينيات إلا الإعلام الرسميّ متمثّلا في التلفزيون والصحف الحكوميّة، وبعض العناوين الجديدة مثل الخبر بالعربيّة El watan وLe matin و Liberte بالفرنسية . ولم تكن الفضائيات العربية يومئذ موجودة ما عدا قناة الأمبيسي التي لم تكن بالصيت والشهرة والتأثير الذي اكتسبته لاحقا، وكان بعض الجزائريّين يلتقطون بصعوبة القنوات الفضائية الفرنسية عن طريق الصحون اللاقطة الجماعيّة. وفي ظلّ ذلك نجحت الجبهة الإسلاميّة في صناعة إعلام موازٍ وقويّ ومؤثّر تمثّل في أشرطة وتسجيلات الفيديو. فقد كانت توثّق لكلّ صغيرة وكبيرة من أنشطتها، ولا يحدث تجمّع أو مسيرة في أيّ مدينة كبرة أو ولاية داخليّة إلا تمّ تصويرها كاملة واستنساخ العشرات بل المئات منها وتوزيعها بيعا أو إهداء عبر كافّة مكاتب وفروع الجبهة عبر الوطن، وكان المواطنون يتجمّعون في مقرّات الجبهة والمصلّيات الحرّة والساحات العامّة والمتاجر التابعة لأعضاء الجبهة وحتى في البيوت حيث تجتمع النساء ليتابعوا في حماسة مشاهد المسيرات وخطابات قيادات الجبهة في التجمّعات. كما كانت سوق الكاسيت رائجة، حيث كانت خطب الجمعة خاصّة وبعض التجمعات الوطنيّة الكبرى تُسَجّل وتنسخ ليتناقلها الأعضاء والمحبّون ويتمّ من خلالها نقل وتسويق خطاب الجبهة وأهدافها. وحين نتحدّث عن الفيديو أو الكاسيت فإنّ أيقونتهما كان الشيخ علي بن حاج، الذي عرف فيه الجزائريّون خطيبا وخطابا من نوع جديد لم يألفوه من قبل في المساجد ولا في الشأن السياسيّ، متمكّنا من أساليب الخطابة والإلقاء، جريئا مستحضرا للآيات والأحاديث، يحسن التعبير بالفصحى والعامّيّة، ويستخدم النّكتة ويزاوج بين خطاب الرحمة واللّين والدعوة والرّفق وخطاب الشدّة والعزّة والحزم والسياسة. لقد كان الشيخ علي بن حاج نموذجا متفرّدا يستحقّ الدراسة والتحليل وما زال، وكان كثير من الخطباء ورموز الجبهة الإسلامية الشباب يحاولون تقليده أو محاكاة أسلوبه فمنهم من ينجح ومنهم من لا يستطيع، ولكنّ الشيخ كان بلا منازع نجم الفيديو والكاسيت وكانت خطاباته تنفخ الروح في مئات الآلاف من انصار الجبهة ومحبّيها كما تخيف وترعب أعداءها وخصومها. لقد استطاعت الجبهة الإسلامية بهذا الإعلام الموازي الذي كانت تسنده بقوّة وفعالية الجرائد الورقيّة مثل المنقذ والبلاغ وغيرهما أن تتجاوز الحصار المفروض عليها من طرف السلطة ومؤسساتها الإعلاميّة ومن طرف الإعلام الخاصّ الذي كان أكثره واقعا تحت هيمنة وتسلّط اليسار وفلول المخابرات، بل إن الجبهة استطاعت أن تكون بمواقفها ومن خلال إعلامها هي من يصنع الحدث ويبادر إلى الفعل ليسارع الآخرون إلى المتابعة وردّات الفعل، حتّى وإن كان الأمر ليس بهذا الإطلاق والتعميم. كما استطاعت الجبهة أن تحصّن أنصارها بشكل كبير من شبهات وتشكيك الإعلام المعادي لها، فمهما كانت قوّة الجريدة والصورة الثابتة فيها فإنّ مقاطع الفيديو الحيّة كانت أقوى وأشدّ منها تأثيرا بكثير، وكان هذا الأمر يغيظ أعداء الجبهة حتّى أنّ واحدا من أهداف المخابرات والعسكر وأجهزة الأمن بعد الانقلاب كان الحصول على هذه التسجيلات وتدميرها وإتلافها كلّية واعتبارها دليل إدانة وتورّط في الإرهاب مما دفع آلافا من أنصار الجبهة وعائلاتهم لإتلافها وبذلك ضاعت ثروة من الأرشيف والأحداث والوقائع لا تُقدّر بثمن، وبعضها ما زال مدفونا ليوم النّاس هذا لا يدري أحد هل تلف أم لا يزال صالحا وبعضه نسي من دفنه أين خبّأه، وإن كان موقع يوتيوب قد حفظ بعض هذه المادّة التي أجزم يقينا ويجزم كلّ من عايش الأحداث أنّها لا تتجاوز 02% من المادّة المسجّلة خلال ثلاث سنوات. سادسا: في مجتمع محافظ مثل المجتمع الجزائريّ لم يكن من السهل على المرأة أن يكون لها حضور بارز ومؤثّر ما عدا في الدوائر الرسميّة والمؤسسات التابعة للسلطة أو الجمعيّات التي يهيمن عليها اليساريّون، وقد كان أهمّ تجمّع نسويّ في الجزائر هو (الاتّحاد العامّ للنساء الجزائريّات) وكان اتّحادا بروتوكوليّا يتمّ إخراجه من الخزنة كلّما احتاجه النظام في مناسبات محدّدة وكانت سمعته سيّئة ولم يكن له أيّ تأثير. في مثل هذه البيئة استطاعت الجبهة الإسلاميّة أن تفسح للنساء الجزائريّات مساحة من العمل والفعاليّة والظهور والحضور أكبر من أيّ حزب إسلاميّ أو غير إسلاميّ يومها. كان في كلّ مكتب بلدي وولائيّ فرع نسائيّ، وكانت هذه الفروع نشطة وفعّالة، ينخرط فيها عشرات أو مئات من النساء بحسب الكثافة السكّانية للحيّ أو المدينة، وكانت النّساء يشاركن في المسيرات ويحضرن التجمّعات يرافقن أزواجهنّ وأولادهنّ وإخوانهنّ في احترام كامل لهنّ. وكانت درّة تاج المشاركة النسويّة هي الدور الذي قامت به الجبهة في التجنيد والحشد للمسيرة النسائيّة التي دعت إليها رابطة الدعوة الإسلاميّة برئاسة الشيخ أحمد سحنون رحمه الله بتاريخ الخميس 23 جمادى الأولي 1410هـ الموافق لـ 21 ديسمبر 1989 ، فقد وقع عبء التجنيد والحشد وضمان حضور نسويّ يكون رسالة قويّة جدّا ومؤثّرة إلى النظام والعلمانيّين المطالبين بتغيير قانون الاسرة والأحوال الشخصية واقعا على الجبهة الإسلاميّة، التي استطاعت عبر مكاتبها في الولايات حشد أكثر من نصف الحاضرات من كلّ الوطن وكنت شاهدا أن قافلة من الحافلات من ولاية تيارت وحدها كان فيها أكثر من 11 حافلة فضلا عن قوافل أخرى من الولاية نفسها وهي البعيدة عن العاصمة ب300 كلم. وكان من أثر انفتاح الجبهة على الحضور النسائي وانتباهها لخطورته أن أعضاءها ومنخرطيها حتى في البلديات النائية والأرياف وهم المتشدّدون في كلّ ما يتعلّق بالمرأة اقتنعوا بإخراج نسائهم وبناتهم وأخواتهم للتصويت في الانتخابات البلدية والولائية والتشريعيّة بقوّة رجّحت كفّة الجبهة وأعطتها أفضليّة، بينما كان هؤلاء يستنكفون حتى من سفر نسائهم إلى المدن والحواضر. وكان السرّ وراء ذلك بسيطا جدّا، فقد اقتنع هؤلاء أنّ في خروج نسائهم للتصويت نصرة للدّين ومراغمة للفاسدين والمجرمين فهان عليهم ما كان مرّا وعسيرا من قبل. وقد لجأت السلطة قبل التشريعيّات في قانون الانتخابات إلى رفض وكالة الرّجل عن أكثر من امرأة حتى تحرم النساء المتعاطفات مع الجبهة من التصويت لظنّها أنّهن لن يخرجن للتصويت في المناطق الداخلية التي كانت تشكّل الوعاء الانتخابيّ الأثقل، ولأنّ المشاركة في الانتخابات كانت تتطلّب استصدار بطاقة الهويّة المرفقة بصورة المرأة التي ظنّ النظام ومخابره يومها أنّ أكثر النساء وأولياءهنّ سيرفضنه سبب حساسيتهنّ من تصوير الرجال للنساء ومن الإجراءات الإداريّة التي تقتضي تدخّل الرجال في الصالح الإداريّة، ولكنّ الجبهة خاصة في التشريعيات استطاعت تجنيد عدد كبير جدّا من النّساء المصوّرات لتصوير النساء في بيوتهن في القرى والمداشر والأرياف وإعداد الملفّات الإداريّة وسرعة استخراجها حتى بدون حضور المرأة المعنيّة ببطاقة الهويّة، وهو أمر لم يكن يتوقّعه أعداء الجبهة وخيّاطو القوانين والتشريعات أبدا. وكان من آثار الانخراط النسويّ الكبير في الجبهة أن انتشرت مظاهر الحجاب والجلباب والاستقامة في الشارع الجزائريّ، حتى أصبح التبرّج منحصرا في بعض الجامعات وأحياء المدن الكبرى المعروفة بميولها التغريبيّة، ولم يكن في الأمر إكراه ولا إلزام ولم تكن الجبهة تمتلك أصلا أدوات الإكراه والإلزام الماديّ، وإنّما كان أمرا هيّأه الله للمسلمات في الجزائر أراد به صلاحهنّ وخيرهنّ. وللحديث بقيّة ..
يسألونك عن الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ (03)
الصغير منير

بعد كلّ ما ذكرناه في الجزأين السابقين من هذه السلسلة من الأخطاء والثغرات ومواضع القصور والخلل في خطاب الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأدائها الميداني وقبل ذلك في ظروف وملابسات نشأتها وتأسيسها؛ ألم يكن للجبهة أي إنجاز يستحقّ ان يُسجّل في مآثرها ويذكرها به التاريخ كمحطة فارقة في تاريخ الجزائر المعاصر؟
لقد آثرتُ أن يكون الجزآن السابقان مسردا لكل ما يذكره الأصدقاء والأعداء من أخطاء الجبهة بحيث تندرج كل التفاصيل والجزئيات تحت ما سبق ذكره، وحتى لا يسارع أحد باتّهامي أنني أقوم بعملية تلبيس على القارئ بذكر المحاسن والإنجازات أوّلا لتصبح المساوئ والأخطاء بعد ذلك شيئا هامشيّا لا قيمة له ولا تأثير، ولأخالف العادة الغالبة في تقييم الحركات والأحزاب والجماعات التي يسبق مدحها والثناء عليها وتمجيدها نقدها وذكر أخطائها.

والآن ..ماذا قدّمت الجبهة للإسلام في الجزائر وللشعب الجزائري المسلم وللأداء السياسيّ كلّه في الفترة القصيرة جدّا والممتدّة من ربيع 1989 إلى انقلاب جانفي 1992؟

أولا: أعيد التذكير بخصوصيّة الجبهة الإسلاميّة في كونها الحزب الإسلاميّ الأوّل وربما الوحيد الذي لم يتأسس باعتباره ذراعا سياسية لجماعة دعوية أو تيّار حركيّ، وإنما كان مفتوحا على كل التيّارات التي كانت تنشط وتتحرّك في الساحة يومها، على تفاوت في تجاوب أعضاء هذه التيارات مع مبادرة تأسيس حزب إسلاميّ وفي عدد المنخرطين فيه تأسيسا أو انتماء لاحقا. وهذه الخاصّية على ما يبدو من بساطتها لأوّل وهلة ولكنّها كانت وما زالت تشكّل عبئا على كلّ الأحزاب الإسلاميّة وتسلبها استقلالية القرار فيها لصالح الجماعة ومؤسساتها – أيّا كانت هذه الجماعة – وتحرمها من كفاءات ومواهب توجد في غيرها وتُضعِف من التنوّع البشريّ والفكريّ داخلها ومن القدرة على الابتكار والاستجابة للتحدّيّات. كما أنّ هذه الخاصّية تجعلنا دائما نفكّر أنّ الأمر ممكن بعيدا عن الجماعات القديمة المتكلّسة أو الحديثة فاقدة الرؤية والبوصلة وأنّ ارتباط العمل السياسيّ بالجماعات ليس ضرورة سياسيّة ولا سنّة كونيّة ولا قدرا مقدورا.

ثانيا: الخطاب الواضح والصريح فيما يتعلّق بتحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، وإن كنت قد أشرتُ في الجزء السابق من هذه السلسلة أنّ الأمر لم يكن بالوضوح نفسه فيما يتعلّق بالأدوات والآليات والإمكانات والموارد البشرية وغيرها ذات العلاقة بهذا الهدف المشروع والنّبيل، ولكن وضوح الخطاب كان من القوّة والصراحة والحضور والتكرار والتأكيد عليه في كلّ أدبيات الجبهة الإسلامية وإصداراتها الإعلامية وخطاباتها السياسيّة في التجمعات أنْ أصبح هذا المطلب لأوّل مرّة حديث العامّ والخاصّ والصغير والكبير وموضع تساؤل أو ترحاب أو استنكار الإعلاميّين والسياسيين، ولم يعد سرّا يُستخفى به أو هدفا يستحي طالبه من الإعلان عنه والجهر به، وكشف هذا الوضوح فيما يتعلّق بمصطلحي (تطبيق الشريعة) و إقامة (الدولة الإسلاميّة) أنّ الشعوب المسلمة تمتلك من الرصيد التاريخي والقبول النفسي والاستعداد الاجتماعيّ والتعاطي مع هذه المصطلحات ولو بقدر من الغموض ما يؤهّلها لأن تتبنّاه وتدافع عنه بشكل من الاشكال وتجعله أولويّة وخيارا عندما تمتلك حرّيتها، وهو أمر اثبتته التجارب اللاحقة في المغرب وتونس ومصر والأردن واليمن وغيرها. وتجدر الإشارة هنا أنّه بعد الانقلاب وحلّ الجبهة الإسلاميّة خفت هذا المطلب وتوارى من على المنابر المسجدية والإعلامية وغاب من أدبيات الأحزاب ذات الخلفية الإسلاميّة وأصبح لا يسمعه أحد في خطاب سياسيّ ولا ديباجة نصّ تأسيسيّ ومارست هذه الأحزاب نوعا من الإرهاب الإعلامي والنفسي حول هذه المصطلحات والتعامل معها ومع من يرفعها وينادي بها بنوع من الاحتقار والاستعلاء والاتّهام بالسذاجة والسطحية وأحيانا كثيرة بالغلوّ والتطرّف بشكل فيه قدر كبير من التعميم الجائر والسعي إلى نفي ما تراه تهمة، و هنا استثني خطاب الشيخ عبد الله جاب الله فهو في هذه النقطة أكثر وضوحا وحسما.

ثالثا: الانتشار الواسع جدّا في كل عواصم الولايات والبلديات والقرى والمداشر وحتى البوادي والأرياف، وهو انتشار كنت أشرتُ إلى التحدّيات التي وضع الجبهة الإسلاميّة أمامها وأنّها لم تكن تمتلك موارد وأدوات التحكّم فيه وتأطيره وترشيده بالشكل المناسب للصراع الذي كانت تخوضه يومئذ، وأنّه ما زال يحتاج دراسة وتحليلا ومقاربات أكثر حياديّة وإنصافا بعيدا عن اتّهام الشعب بالجهل والسطحية أو اتّهام خطاب الجبهة بالغوغائية أو اعتبار هذا الانتشار والالتفاف الشعبي الرهيب حول الجبهة مجرّد سلوك عقابيّ ضدّ تصرّفات وظلم مؤسسات الحزب الواحد : جبهة التحرير الوطنيّ.

ولقد فاجأ هذا الانتشار حتى مؤسسي الجبهة وقياداتها، ووجدوا صعوبة كبيرة في التعامل معه، ولكن هذه ملحوظات منفكّة عن رصد الظاهرة نفسها ولا تؤثّر في صحّتها ومصداقيتها التي يقرّ بها أشدّ أعداء الجبهة الإسلاميّة ضراوة وحقدا.

وهذا الانتشار لم يكن نخبويّا أبدا، بل كان أبعد ما يكون عن ذلك، واحتضن خطاب الجبهة وأطروحاتها السياسيّة طيف واسع من الشباب والطلبة والنّساء وعامّة الشعب والفلّاحين وسكان الرّيف والأساتذة والمثقفين، ولم يكن هؤلاء كلّهم على موجة واحدة من جميع ما يطرحه خطاب الجبهة، فقد كان فيهم المندفع المشتعل حماسة وفيه المتأنّي الملاحظ وفيهم المتحفّظ والرافض لبعض ما يقال ويُفعَل والناقد الجريء وعلى جميع المستويات من أدناها على المستوى البلدي إلى أعلاها على مستوى المكتب الوطني وجلس الشورى.

إلّا أنّ الذي كان يجمع هؤلاء جميعا ويصهرهم هو انبعاث الروح الإسلامية والشعور بالعزّة وتلمّس اقتراب عهد التحرّر واسترجاع الكرامة والأمل في نهضة شاملة تكون الجزائر قاطرتها وهو أيضا ذلك الإجماع حول مطلب تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلاميّة الذي كان غامضا كما اشرنا في الجزأين السابقين حتى عند قيادات الجبهة، ولم يكن مطلوبا من الجماهير وهي تعبّر عن تأييدها والتفافها حول مشروع الجبهة أن تدخل في نقاشات فكريّة وفقهية واجتهادات سياسيّة حول شكل الدولة الإسلاميّة أو طرق إنفاذ أحكام الشريعة فإنما يُطلب منها تكثير السواد والنّصرة والتصويت في الانتخابات والدعم المادّي والاجتماعيّ وهو ما قدّمته الجماهير بصدق وعطاء منقطع النّظير.

صحيح أنّ الحركة الإسلاميّة بمختلف توجّهاتها كانت قد هيّأت النفوس والعقول لتقبّل خطاب الجبهة أو أيّ خطاب آخر يستمدّ من الإسلام، وصحيح أن هناك أسبابا أخرى لم يكن للجبهة يد في توفيرها لحدوث هذا الانتشار والالتفاف والقبول، ولكن الذي يهمّ هنا هو أنّ الجبهة كانت الأسبق والأقدر على استثمار هذا المُعْطى، وأنّها لم تتردّد في الذهاب به بعيدا والاستفادة منه وأنّ غيرها لم يستطع ذلك، فالجبهة في النّهاية حزب سياسيّ يهدف إلى اكتساح الساحة والفوز والوصول إلى السلطة وكل الوسائل المشروعة سبيل إلى ذلك، وليس من المعقول ولا المقبول أن تترك الجبهة الجماهير بحجّة أن الجماعة الفلانيّة والتيّار العلّاني هو من قام بتوعيتها وتقريبها من المشروع الإسلامي وليست الجبهة هي من فعلت ذلك.

رابعا: استطاعت الجبهة بنجاح كبير صناعة رموز سياسيّة ودعويّة، اكتسحت الساحة برغم بساطة وسائل الإعلام آنذاك وأصبح هؤلاء الرموز موضع اهتمام الإعلاميين في الداخل وتتهافت عليهم وسائل الإعلام الأجنبيّة من فضائيات وصحف عالميّة ويقدّمون التصريحات المؤثّرة وتشتغل بتصريحاتهم وحواراتهم الأحزاب ودوائر السلطة .

ولم يكن هؤلاء الرموز على المستوى الوطني فحسب، بل كان في كل ولاية رموزها الذين يخطبون ويسوّقون لخطاب الجبهة وتتأثّر بهم الجماهير وتتعلّق بهم .

ولم يكن كلّ أولئك من صناعة الجبهة، فبعضهم كان يمتلك حضورا وكاريزما في منطقته قبل تأسيس الجبهة ولكنّ قوة خطاب الجبهة ووضوحه زاد من تألّقه وحضوره وأعطاه دفعة أقوى في التأثير، وبعضهم – خاصّة من أبناء الصحوة الإسلاميّة – كان يمتلك كفاءة الخطابة والأداء السياسيّ والذكاء الاجتماعيّ والقدرة على التأثير على نطاق واسع ولكن محدوديّة العمل الإسلاميّ واقتصاره على الحلقات ودروس الوعظ وانكفاءه على نفسه قبل أحداث أكتوبر 1988 التعدّدية السياسيّة لم يتح لهم الفرصة المناسبة فكان انخراطهم لاحقا في الجبهة اكتشافا لهم وتدريبا وصقلا لمهاراتهم وإضافة لرصيد الجبهة.

كانت صناعة الرموز التي تتعلّق بها الجماهير وتتفاعل معها وتثق بها دائما نقطة ضعف عند كثير من الحركات الإسلامية وقلّما نجحت في ذلك لأنّ الذي يبرز الرموز ويسوّقها في الغالب ويظهر أثرها وذكاءها هو الإعلام وقد كان يومئذ كلّه في يد اليساريين وفلول المخابرات العسكرية. وهو ما يسوقنا إلى النقطة التالية.

خامسا: لم يكن الجزائريّون يعرفون إعلاما نهاية الثمانينيات إلا الإعلام الرسميّ متمثّلا في التلفزيون والصحف الحكوميّة، وبعض العناوين الجديدة مثل الخبر بالعربيّة El watan وLe matin و Liberte بالفرنسية . ولم تكن الفضائيات العربية يومئذ موجودة ما عدا قناة الأمبيسي التي لم تكن بالصيت والشهرة والتأثير الذي اكتسبته لاحقا، وكان بعض الجزائريّين يلتقطون بصعوبة القنوات الفضائية الفرنسية عن طريق الصحون اللاقطة الجماعيّة.

وفي ظلّ ذلك نجحت الجبهة الإسلاميّة في صناعة إعلام موازٍ وقويّ ومؤثّر تمثّل في أشرطة وتسجيلات الفيديو. فقد كانت توثّق لكلّ صغيرة وكبيرة من أنشطتها، ولا يحدث تجمّع أو مسيرة في أيّ مدينة كبرة أو ولاية داخليّة إلا تمّ تصويرها كاملة واستنساخ العشرات بل المئات منها وتوزيعها بيعا أو إهداء عبر كافّة مكاتب وفروع الجبهة عبر الوطن، وكان المواطنون يتجمّعون في مقرّات الجبهة والمصلّيات الحرّة والساحات العامّة والمتاجر التابعة لأعضاء الجبهة وحتى في البيوت حيث تجتمع النساء ليتابعوا في حماسة مشاهد المسيرات وخطابات قيادات الجبهة في التجمّعات.
كما كانت سوق الكاسيت رائجة، حيث كانت خطب الجمعة خاصّة وبعض التجمعات الوطنيّة الكبرى تُسَجّل وتنسخ ليتناقلها الأعضاء والمحبّون ويتمّ من خلالها نقل وتسويق خطاب الجبهة وأهدافها.

وحين نتحدّث عن الفيديو أو الكاسيت فإنّ أيقونتهما كان الشيخ علي بن حاج، الذي عرف فيه الجزائريّون خطيبا وخطابا من نوع جديد لم يألفوه من قبل في المساجد ولا في الشأن السياسيّ، متمكّنا من أساليب الخطابة والإلقاء، جريئا مستحضرا للآيات والأحاديث، يحسن التعبير بالفصحى والعامّيّة، ويستخدم النّكتة ويزاوج بين خطاب الرحمة واللّين والدعوة والرّفق وخطاب الشدّة والعزّة والحزم والسياسة. لقد كان الشيخ علي بن حاج نموذجا متفرّدا يستحقّ الدراسة والتحليل وما زال، وكان كثير من الخطباء ورموز الجبهة الإسلامية الشباب يحاولون تقليده أو محاكاة أسلوبه فمنهم من ينجح ومنهم من لا يستطيع، ولكنّ الشيخ كان بلا منازع نجم الفيديو والكاسيت وكانت خطاباته تنفخ الروح في مئات الآلاف من انصار الجبهة ومحبّيها كما تخيف وترعب أعداءها وخصومها.

لقد استطاعت الجبهة الإسلامية بهذا الإعلام الموازي الذي كانت تسنده بقوّة وفعالية الجرائد الورقيّة مثل المنقذ والبلاغ وغيرهما أن تتجاوز الحصار المفروض عليها من طرف السلطة ومؤسساتها الإعلاميّة ومن طرف الإعلام الخاصّ الذي كان أكثره واقعا تحت هيمنة وتسلّط اليسار وفلول المخابرات، بل إن الجبهة استطاعت أن تكون بمواقفها ومن خلال إعلامها هي من يصنع الحدث ويبادر إلى الفعل ليسارع الآخرون إلى المتابعة وردّات الفعل، حتّى وإن كان الأمر ليس بهذا الإطلاق والتعميم. كما استطاعت الجبهة أن تحصّن أنصارها بشكل كبير من شبهات وتشكيك الإعلام المعادي لها، فمهما كانت قوّة الجريدة والصورة الثابتة فيها فإنّ مقاطع الفيديو الحيّة كانت أقوى وأشدّ منها تأثيرا بكثير، وكان هذا الأمر يغيظ أعداء الجبهة حتّى أنّ واحدا من أهداف المخابرات والعسكر وأجهزة الأمن بعد الانقلاب كان الحصول على هذه التسجيلات وتدميرها وإتلافها كلّية واعتبارها دليل إدانة وتورّط في الإرهاب مما دفع آلافا من أنصار الجبهة وعائلاتهم لإتلافها وبذلك ضاعت ثروة من الأرشيف والأحداث والوقائع لا تُقدّر بثمن، وبعضها ما زال مدفونا ليوم النّاس هذا لا يدري أحد هل تلف أم لا يزال صالحا وبعضه نسي من دفنه أين خبّأه، وإن كان موقع يوتيوب قد حفظ بعض هذه المادّة التي أجزم يقينا ويجزم كلّ من عايش الأحداث أنّها لا تتجاوز 02% من المادّة المسجّلة خلال ثلاث سنوات.

سادسا: في مجتمع محافظ مثل المجتمع الجزائريّ لم يكن من السهل على المرأة أن يكون لها حضور بارز ومؤثّر ما عدا في الدوائر الرسميّة والمؤسسات التابعة للسلطة أو الجمعيّات التي يهيمن عليها اليساريّون، وقد كان أهمّ تجمّع نسويّ في الجزائر هو (الاتّحاد العامّ للنساء الجزائريّات) وكان اتّحادا بروتوكوليّا يتمّ إخراجه من الخزنة كلّما احتاجه النظام في مناسبات محدّدة وكانت سمعته سيّئة ولم يكن له أيّ تأثير. في مثل هذه البيئة استطاعت الجبهة الإسلاميّة أن تفسح للنساء الجزائريّات مساحة من العمل والفعاليّة والظهور والحضور أكبر من أيّ حزب إسلاميّ أو غير إسلاميّ يومها.

كان في كلّ مكتب بلدي وولائيّ فرع نسائيّ، وكانت هذه الفروع نشطة وفعّالة، ينخرط فيها عشرات أو مئات من النساء بحسب الكثافة السكّانية للحيّ أو المدينة، وكانت النّساء يشاركن في المسيرات ويحضرن التجمّعات يرافقن أزواجهنّ وأولادهنّ وإخوانهنّ في احترام كامل لهنّ.

وكانت درّة تاج المشاركة النسويّة هي الدور الذي قامت به الجبهة في التجنيد والحشد للمسيرة النسائيّة التي دعت إليها رابطة الدعوة الإسلاميّة برئاسة الشيخ أحمد سحنون رحمه الله بتاريخ الخميس 23 جمادى الأولي 1410هـ الموافق لـ 21 ديسمبر 1989 ، فقد وقع عبء التجنيد والحشد وضمان حضور نسويّ يكون رسالة قويّة جدّا ومؤثّرة إلى النظام والعلمانيّين المطالبين بتغيير قانون الاسرة والأحوال الشخصية واقعا على الجبهة الإسلاميّة، التي استطاعت عبر مكاتبها في الولايات حشد أكثر من نصف الحاضرات من كلّ الوطن وكنت شاهدا أن قافلة من الحافلات من ولاية تيارت وحدها كان فيها أكثر من 11 حافلة فضلا عن قوافل أخرى من الولاية نفسها وهي البعيدة عن العاصمة ب300 كلم.

وكان من أثر انفتاح الجبهة على الحضور النسائي وانتباهها لخطورته أن أعضاءها ومنخرطيها حتى في البلديات النائية والأرياف وهم المتشدّدون في كلّ ما يتعلّق بالمرأة اقتنعوا بإخراج نسائهم وبناتهم وأخواتهم للتصويت في الانتخابات البلدية والولائية والتشريعيّة بقوّة رجّحت كفّة الجبهة وأعطتها أفضليّة، بينما كان هؤلاء يستنكفون حتى من سفر نسائهم إلى المدن والحواضر.

وكان السرّ وراء ذلك بسيطا جدّا، فقد اقتنع هؤلاء أنّ في خروج نسائهم للتصويت نصرة للدّين ومراغمة للفاسدين والمجرمين فهان عليهم ما كان مرّا وعسيرا من قبل.
وقد لجأت السلطة قبل التشريعيّات في قانون الانتخابات إلى رفض وكالة الرّجل عن أكثر من امرأة حتى تحرم النساء المتعاطفات مع الجبهة من التصويت لظنّها أنّهن لن يخرجن للتصويت في المناطق الداخلية التي كانت تشكّل الوعاء الانتخابيّ الأثقل، ولأنّ المشاركة في الانتخابات كانت تتطلّب استصدار بطاقة الهويّة المرفقة بصورة المرأة التي ظنّ النظام ومخابره يومها أنّ أكثر النساء وأولياءهنّ سيرفضنه سبب حساسيتهنّ من تصوير الرجال للنساء ومن الإجراءات الإداريّة التي تقتضي تدخّل الرجال في الصالح الإداريّة، ولكنّ الجبهة خاصة في التشريعيات استطاعت تجنيد عدد كبير جدّا من النّساء المصوّرات لتصوير النساء في بيوتهن في القرى والمداشر والأرياف وإعداد الملفّات الإداريّة وسرعة استخراجها حتى بدون حضور المرأة المعنيّة ببطاقة الهويّة، وهو أمر لم يكن يتوقّعه أعداء الجبهة وخيّاطو القوانين والتشريعات أبدا.

وكان من آثار الانخراط النسويّ الكبير في الجبهة أن انتشرت مظاهر الحجاب والجلباب والاستقامة في الشارع الجزائريّ، حتى أصبح التبرّج منحصرا في بعض الجامعات وأحياء المدن الكبرى المعروفة بميولها التغريبيّة، ولم يكن في الأمر إكراه ولا إلزام ولم تكن الجبهة تمتلك أصلا أدوات الإكراه والإلزام الماديّ، وإنّما كان أمرا هيّأه الله للمسلمات في الجزائر أراد به صلاحهنّ وخيرهنّ.

وللحديث بقيّة ..
‏١٣‏/٠١‏/٢٠١٨ ٦:٠٩ م‏
عقيدة مكافحة التمرد الأمريكية م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] استشاطت أميركا غضبا عقب هجمات سبتمبر التي استهدفت البنتاجون ومركز التجارة العالمي، وقررت الانتقام بتنفيذ غزو بربري لأفغانستان بدأ في أكتوبر 2001 ، ونجحت في تنفيذه بواسطة عدد قليل من أطقم وكالة المخابرات المركزية (110 عنصر) والقوات الخاصة الأمريكية (316 عنصر) وفقا لتقديرات رئيس السي آي إيه "جورج تينت" في مذكراته. اقتصر دور عناصر تلك الأطقم على إدارة وتوجيه قوات تحالف الشمال الأفغانية المناهضة لحركة طالبان، وتنسيق الدعم الجوي لقصف خطوط ومواقع طالبان. تمادت أميركا فغزت العراق في مارس عام 2003، وسقطت بغداد في يدها في أقل من 3 أسابيع على بدء العمليات العسكرية. ومن ثم أعلن الرئيس بوش انتهاء العمليات العسكرية بالعراق في مايو 2003 (سقط خلالها 127 قتيلا أميركيا). وأطلق المسؤولون الأمريكيون تهديدات بأن حملة مكافحة الارهاب المزعوم ستطال 60 دولة ولن تقتصر على العراق وأفغانستان. بمرور الوقت أيقنت أميركا أنها وقعت في فخ، وأن الحرب بالعراق وأفغانستان تحولت إلى حرب عصابات طويلة الأمد لا يجدي نفعا فيها الاكتفاء بإرسال التعزيزات العسكرية بعشرات آلاف الجنود ، مما استدعى صياغة رؤية جديدة لمكافحة التمرد، عبرت عن دوافع صياغتها الحكومة الأمريكية قائلة ( تورطت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بحملات طويلة لمكافحة التمرد في أفغانستان والعراق. ودعمت العديد من الحكومات الصديقة التي تواجه أعمال تخريب داخلي في سائر أنحاء العالم. لذا أعادت الولايات المتحدة تعلم الدروس القديمة لمكافحة التمرد، ووضعت مفاهيم وأساليب جديدة لدعم الحكومات المعتدلة والمؤيدة للحرية). نشرت الحكومة الأمريكية هذه الرؤية وما تتضمنه من استراتيجيات لمكافحة التمرد في يناير 2009 تحت عنوان (دليل الحكومة الامريكية لمكافحة التمرد) قائلة فيه بأن (التمرد سيمثل عنصرا ضخما ومتزايدا ضمن التحديات الأمنية التي تواجهها الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين نظرا للتوترات التي خلقتها العولمة بانهيار هياكل الدول الضعيفة، والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة والمجرمين، وظهور الأيديولوجيات الراديكالية المدمرة، مما يبشر بفترة تكون خلالها الحكومة الحرة المعتدلة في خطر). نظرا لأهمية موضوع هذا الدليل فقد اشتركت في إعداده مجموعة متنوعة من الوزارات والوكالات الحكومية الأمريكية مثل وزارات ( الخارجية، الدفاع، العدل، الخزانة، الأمن الداخلي، الزراعة، النقل) بالإضافة إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والمخابرات الوطنية. وصفت الحكومة الأمريكية هذا الدليل بأنه (الأول من نوعه فيما يقرب من نصف قرن، فهو أفضل عمل عقائدي في موضوعه، يتسم بالعملية بالرغم من صرامته الفكرية، ويستخلص زبدة ما في الفكر المعاصر والمعرفة التاريخية، والممارسة العملية المكتسبة بشق الأنفس). وفي السطور القادمة سأستعرض أبرز ما ورد في الملخص التنفيذي للدليل المذكور بنفس التعبيرات الأمريكية الواردة فيه. أولا التمرد: هو الاستخدام المنظم للتخريب والعنف للاستيلاء على أو تحجيم أو تغيير السيطرة السياسية على منطقة ما. أي أنه في المقام الأول كفاح سياسي يستخدم فيه الطرفان القوة المسلحة لتهيئة مساحة تتيح لهما تفعيل نفوذهما وأنشطتهما السياسية والاقتصادية. ولا يحدث التمرد عادة من قبل مجموعة واحدة ذات هيكل قيادة مركزي على النمط العسكري، ولكنه قد يقع من قبل مجموعات متنوعة تمثل جهات فاعلة ذات أهداف مختلفة ترتبط ارتباطا غير محكم بشبكات ديناميكية (متحركة) غير هرمية. تتطلب عمليات التمرد كي تنجح : قيادة كاريزمية ومؤيدين ومجندين وإمدادات وملاذات آمنة وتمويل، وتحتاج دعما فعالا من جانب عدد قليل من الأفراد المتعاطفين، إذ يوفر الاذعان السلبي لنسبة كبيرة من السكان المتنازع على ولائهم احتمالية أكبر للنجاح. ويتحقق ذلك على أفضل وجه عندما تكون القضية السياسية المحركة للتمرد ذات جاذبية قوية تستثمر المظالم المجتمعية المنتشرة واحتياجات السكان وتلامس الهوية الدينية أو القبلية أو المحلية . يسعى المتمردون باستخدامهم تكتيكات حرب العصابات إلى السيطرة على السكان من خلال مزيج من الإقناع والتخريب والإكراه كي يكافئوا قوة قوات الأمن الحكومية. ويهدفون عادة إلى إطالة الصراع واستنفاد طاقة الحكومة وكسب تأييد شعبي كاف لإجبار خصومهم على الاستسلام أو تسوية النزاع سياسيا. ونتيجة لذلك تتطور حالات التمرد خلال سلسلة من المراحل، مع التأكيد أن تعاقب سير الأمور والمحصلة تختلف حسب كل حالة تقريبا. ثانيا مكافحة التمرد : هى مزيج من الجهود المدنية والعسكرية الشاملة التي تهدف إلى احتواء التمرد ومعالجة أسبابه الجذرية في نفس الوقت. وخلافا للحرب التقليدية، كثيرا ما تكون الوسائل غير العسكرية خلاله هي أكثر العناصر فعالية. إن مكافحة التمرد عملية معقدة للغاية تتطلب من صناع السياسات فهم دقيق لمجال تخصصهم، ويجب أن تكون الاستراتيجيات المتبعة فيها مرنة وقابلة للتكيف، تركز على السكان بدلا من العدو، وتسعى إلى تعزيز شرعية الحكومة المتضررة بالتوازي مع الحد من نفوذ المتمردين. ولا يمكن تحقيق ذلك في كثير من الأحيان إلا بالتزامن مع الإصلاح السياسي لتحسين نوعية الحكم ومعالجة المظالم ذات الأولوية. وبما أن حملات مكافحة التمرد الأمريكية عادة ما تنطوي على المشاركة في دعم حكومة أجنبية (إما بشكل مستقل أو كجزء من تحالف)، فإن النجاح غالبا ما يعتمد على رغبة تلك الحكومة في إجراء التغييرات السياسية اللازمة. ومع ذلك لا يمكن لأي لاعب خارجي مهما كانت درايته الفنية وحماسته أن يعوض بشكل كامل نقص الإرادة أو العجز أو السلوك غير المثمر من جانب الحكومة المدعومة. ثالثا: متى وكيف تتخذ أميركا قرارها بالتدخل لمكافحة التمرد؟ قرار التدخل لا ينبغي أن يتم اتخاذه بشكل طائش ولا مبالاة؛ لأن حملات مكافحة التمرد أثبتت تاريخيا أنها أكثر كلفة وطولا وصعوبة مما كان متوقعا في بدايتها. ويتوقف الكثير على درجة فهم صانعي السياسات لمدى استعداد الحكومة المتضررة لتقبل المساعدة والمشورة والإصلاح؛ فمن الحماقة التدخل ما لم يكن هناك احتمال معقول للتعاون. إذا قررت حكومة الولايات المتحدة أن تشارك في ذلك، يجب على صانعي السياسات أن يسعوا إلى تحقيق توازن دقيق يستخدم أكثر أشكال التدخل ملاءمة بحيث يبدو أكثر هدوئا وأقل فجاجة وتطفلا فضلا عن امتلاكه لاحتمالية كبيرة لتحقيق التأثير المطلوب. ولا بد من الحفاظ على سيادة الحكومة المتضررة، فزيادة التدخل إلى درجة عالية جدا قد تؤدي إلى نتائج عكسية (تاريخيا، كانت بعض التدخلات الأمريكي الأكثر نجاحا هي التدخلات الغير مباشرة والبسيطة). رابعا: مهمات مكافحة التمرد: المهمة السياسية: هى المهمة الرئيسية، وتوفر إطارا للمصالحة السياسية يدور حول إصلاح الحكم، وهو ما تدور حوله جميع أنشطة مكافحة التمرد الأخرى. وبوجه عام فإن استراتيجية " مكافحة التمرد " تكون جيدة فقط عندما توجد في صميمها خطة سياسية . المهمة الاقتصادية: تسعى إلى توفير الخدمات الأساسية وتحفيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، مما يولد الثقة في الحكومة، وفي نفس الوقت تحد من أعداد الشباب والشابات العاطلين عن العمل الذين يمكن للمتمردين أن يستقطبوهم بسهولة. المهمة الأمنية: هي عامل تهيئي للوظائف الأخرى، ولا تنطوي فحسب على تنمية القوة العسكرية للدولة المتضررة، وإنما تشمل تنمية القطاع الأمني بالكامل بما في ذلك الإطار القانوني المرتبط بها، وآليات الرقابة المدنية والنظام القضائي. فإرساء الأمن ليس مقدما على الانشطة الاقتصادية والحكومية، بل يجب أن يتم تطوير النشاط الأمني والاقتصادي والحكومي بشكل متوازي. المهمة المعلوماتية: تشمل (الاستخبارات) المطلوبة للحصول على الفهم و(التأثير) لتعزيز قضية الحكومة المستهدفة. ومن الضروري أن تتماشى حملة التأثير مع الخطاب الاستراتيجي الذي يتردد صداه على مسامع الجماهير المعنية. تسهم هذه المهام الأربع في تحقيق الهدف العام المتمثل في تمكين الحكومة المتضررة من فرض سيطرتها وتعزيزها، ثم نقل المهام من قوات التدخل إلى القوات الوطنية ومن المؤسسات العسكرية إلى المؤسسات المدنية. خامسا: حد النجاح في مكافحة التمرد قد يكون من الصعب تعريف النجاح في إدارة عمليات مكافحة التمرد، ولكن تحسين الحوكمة يؤدي عادة إلى تهميش المتمردين وايصالهم إلى النقطة التي يتم فيها تدميرهم أو تحييدهم أو تقليص خطورتهم حيث تتناقص أعدادهم وتضعف قدراتهم. وفي نهاية المطاف فإن الغاية النهائية المنشودة هي وجود حكومة ينظر إليها على أنها شرعية تسيطر على مؤسسات مجتمعية وسياسية واقتصادية وأمنية تلبي احتياجات السكان، وتملك آليات كافية لمعالجة المظالم التي أججت دعم البعض للتمرد.
عقيدة مكافحة التمرد الأمريكية
م. أحمد مولانا Mawlana

استشاطت أميركا غضبا عقب هجمات سبتمبر التي استهدفت البنتاجون ومركز التجارة العالمي، وقررت الانتقام بتنفيذ غزو بربري لأفغانستان بدأ في أكتوبر 2001 ، ونجحت في تنفيذه بواسطة عدد قليل من أطقم وكالة المخابرات المركزية (110 عنصر) والقوات الخاصة الأمريكية (316 عنصر) وفقا لتقديرات رئيس السي آي إيه "جورج تينت" في مذكراته.

اقتصر دور عناصر تلك الأطقم على إدارة وتوجيه قوات تحالف الشمال الأفغانية المناهضة لحركة طالبان، وتنسيق الدعم الجوي لقصف خطوط ومواقع طالبان.

تمادت أميركا فغزت العراق في مارس عام 2003، وسقطت بغداد في يدها في أقل من 3 أسابيع على بدء العمليات العسكرية. ومن ثم أعلن الرئيس بوش انتهاء العمليات العسكرية بالعراق في مايو 2003 (سقط خلالها 127 قتيلا أميركيا). وأطلق المسؤولون الأمريكيون تهديدات بأن حملة مكافحة الارهاب المزعوم ستطال 60 دولة ولن تقتصر على العراق وأفغانستان.

بمرور الوقت أيقنت أميركا أنها وقعت في فخ، وأن الحرب بالعراق وأفغانستان تحولت إلى حرب عصابات طويلة الأمد لا يجدي نفعا فيها الاكتفاء بإرسال التعزيزات العسكرية بعشرات آلاف الجنود ، مما استدعى صياغة رؤية جديدة لمكافحة التمرد، عبرت عن دوافع صياغتها الحكومة الأمريكية قائلة ( تورطت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بحملات طويلة لمكافحة التمرد في أفغانستان والعراق. ودعمت العديد من الحكومات الصديقة التي تواجه أعمال تخريب داخلي في سائر أنحاء العالم. لذا أعادت الولايات المتحدة تعلم الدروس القديمة لمكافحة التمرد، ووضعت مفاهيم وأساليب جديدة لدعم الحكومات المعتدلة والمؤيدة للحرية).

نشرت الحكومة الأمريكية هذه الرؤية وما تتضمنه من استراتيجيات لمكافحة التمرد في يناير 2009 تحت عنوان (دليل الحكومة الامريكية لمكافحة التمرد) قائلة فيه بأن (التمرد سيمثل عنصرا ضخما ومتزايدا ضمن التحديات الأمنية التي تواجهها الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين نظرا للتوترات التي خلقتها العولمة بانهيار هياكل الدول الضعيفة، والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة والمجرمين، وظهور الأيديولوجيات الراديكالية المدمرة، مما يبشر بفترة تكون خلالها الحكومة الحرة المعتدلة في خطر).

نظرا لأهمية موضوع هذا الدليل فقد اشتركت في إعداده مجموعة متنوعة من الوزارات والوكالات الحكومية الأمريكية مثل وزارات ( الخارجية، الدفاع، العدل، الخزانة، الأمن الداخلي، الزراعة، النقل) بالإضافة إلى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والمخابرات الوطنية.

وصفت الحكومة الأمريكية هذا الدليل بأنه (الأول من نوعه فيما يقرب من نصف قرن، فهو أفضل عمل عقائدي في موضوعه، يتسم بالعملية بالرغم من صرامته الفكرية، ويستخلص زبدة ما في الفكر المعاصر والمعرفة التاريخية، والممارسة العملية المكتسبة بشق الأنفس).

وفي السطور القادمة سأستعرض أبرز ما ورد في الملخص التنفيذي للدليل المذكور بنفس التعبيرات الأمريكية الواردة فيه.

أولا التمرد: هو الاستخدام المنظم للتخريب والعنف للاستيلاء على أو تحجيم أو تغيير السيطرة السياسية على منطقة ما. أي أنه في المقام الأول كفاح سياسي يستخدم فيه الطرفان القوة المسلحة لتهيئة مساحة تتيح لهما تفعيل نفوذهما وأنشطتهما السياسية والاقتصادية.

ولا يحدث التمرد عادة من قبل مجموعة واحدة ذات هيكل قيادة مركزي على النمط العسكري، ولكنه قد يقع من قبل مجموعات متنوعة تمثل جهات فاعلة ذات أهداف مختلفة ترتبط ارتباطا غير محكم بشبكات ديناميكية (متحركة) غير هرمية.

تتطلب عمليات التمرد كي تنجح : قيادة كاريزمية ومؤيدين ومجندين وإمدادات وملاذات آمنة وتمويل، وتحتاج دعما فعالا من جانب عدد قليل من الأفراد المتعاطفين، إذ يوفر الاذعان السلبي لنسبة كبيرة من السكان المتنازع على ولائهم احتمالية أكبر للنجاح. ويتحقق ذلك على أفضل وجه عندما تكون القضية السياسية المحركة للتمرد ذات جاذبية قوية تستثمر المظالم المجتمعية المنتشرة واحتياجات السكان وتلامس الهوية الدينية أو القبلية أو المحلية .

يسعى المتمردون باستخدامهم تكتيكات حرب العصابات إلى السيطرة على السكان من خلال مزيج من الإقناع والتخريب والإكراه كي يكافئوا قوة قوات الأمن الحكومية. ويهدفون عادة إلى إطالة الصراع واستنفاد طاقة الحكومة وكسب تأييد شعبي كاف لإجبار خصومهم على الاستسلام أو تسوية النزاع سياسيا. ونتيجة لذلك تتطور حالات التمرد خلال سلسلة من المراحل، مع التأكيد أن تعاقب سير الأمور والمحصلة تختلف حسب كل حالة تقريبا.

ثانيا مكافحة التمرد : هى مزيج من الجهود المدنية والعسكرية الشاملة التي تهدف إلى احتواء التمرد ومعالجة أسبابه الجذرية في نفس الوقت. وخلافا للحرب التقليدية، كثيرا ما تكون الوسائل غير العسكرية خلاله هي أكثر العناصر فعالية.

إن مكافحة التمرد عملية معقدة للغاية تتطلب من صناع السياسات فهم دقيق لمجال تخصصهم، ويجب أن تكون الاستراتيجيات المتبعة فيها مرنة وقابلة للتكيف، تركز على السكان بدلا من العدو، وتسعى إلى تعزيز شرعية الحكومة المتضررة بالتوازي مع الحد من نفوذ المتمردين. ولا يمكن تحقيق ذلك في كثير من الأحيان إلا بالتزامن مع الإصلاح السياسي لتحسين نوعية الحكم ومعالجة المظالم ذات الأولوية.

وبما أن حملات مكافحة التمرد الأمريكية عادة ما تنطوي على المشاركة في دعم حكومة أجنبية (إما بشكل مستقل أو كجزء من تحالف)، فإن النجاح غالبا ما يعتمد على رغبة تلك الحكومة في إجراء التغييرات السياسية اللازمة. ومع ذلك لا يمكن لأي لاعب خارجي مهما كانت درايته الفنية وحماسته أن يعوض بشكل كامل نقص الإرادة أو العجز أو السلوك غير المثمر من جانب الحكومة المدعومة.

ثالثا: متى وكيف تتخذ أميركا قرارها بالتدخل لمكافحة التمرد؟
قرار التدخل لا ينبغي أن يتم اتخاذه بشكل طائش ولا مبالاة؛ لأن حملات مكافحة التمرد أثبتت تاريخيا أنها أكثر كلفة وطولا وصعوبة مما كان متوقعا في بدايتها. ويتوقف الكثير على درجة فهم صانعي السياسات لمدى استعداد الحكومة المتضررة لتقبل المساعدة والمشورة والإصلاح؛ فمن الحماقة التدخل ما لم يكن هناك احتمال معقول للتعاون.

إذا قررت حكومة الولايات المتحدة أن تشارك في ذلك، يجب على صانعي السياسات أن يسعوا إلى تحقيق توازن دقيق يستخدم أكثر أشكال التدخل ملاءمة بحيث يبدو أكثر هدوئا وأقل فجاجة وتطفلا فضلا عن امتلاكه لاحتمالية كبيرة لتحقيق التأثير المطلوب. ولا بد من الحفاظ على سيادة الحكومة المتضررة، فزيادة التدخل إلى درجة عالية جدا قد تؤدي إلى نتائج عكسية (تاريخيا، كانت بعض التدخلات الأمريكي الأكثر نجاحا هي التدخلات الغير مباشرة والبسيطة).

رابعا: مهمات مكافحة التمرد:
المهمة السياسية: هى المهمة الرئيسية، وتوفر إطارا للمصالحة السياسية يدور حول إصلاح الحكم، وهو ما تدور حوله جميع أنشطة مكافحة التمرد الأخرى. وبوجه عام فإن استراتيجية " مكافحة التمرد " تكون جيدة فقط عندما توجد في صميمها خطة سياسية .

المهمة الاقتصادية: تسعى إلى توفير الخدمات الأساسية وتحفيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، مما يولد الثقة في الحكومة، وفي نفس الوقت تحد من أعداد الشباب والشابات العاطلين عن العمل الذين يمكن للمتمردين أن يستقطبوهم بسهولة.

المهمة الأمنية: هي عامل تهيئي للوظائف الأخرى، ولا تنطوي فحسب على تنمية القوة العسكرية للدولة المتضررة، وإنما تشمل تنمية القطاع الأمني بالكامل بما في ذلك الإطار القانوني المرتبط بها، وآليات الرقابة المدنية والنظام القضائي. فإرساء الأمن ليس مقدما على الانشطة الاقتصادية والحكومية، بل يجب أن يتم تطوير النشاط الأمني والاقتصادي والحكومي بشكل متوازي.

المهمة المعلوماتية: تشمل (الاستخبارات) المطلوبة للحصول على الفهم و(التأثير) لتعزيز قضية الحكومة المستهدفة. ومن الضروري أن تتماشى حملة التأثير مع الخطاب الاستراتيجي الذي يتردد صداه على مسامع الجماهير المعنية.

تسهم هذه المهام الأربع في تحقيق الهدف العام المتمثل في تمكين الحكومة المتضررة من فرض سيطرتها وتعزيزها، ثم نقل المهام من قوات التدخل إلى القوات الوطنية ومن المؤسسات العسكرية إلى المؤسسات المدنية.

خامسا: حد النجاح في مكافحة التمرد
قد يكون من الصعب تعريف النجاح في إدارة عمليات مكافحة التمرد، ولكن تحسين الحوكمة يؤدي عادة إلى تهميش المتمردين وايصالهم إلى النقطة التي يتم فيها تدميرهم أو تحييدهم أو تقليص خطورتهم حيث تتناقص أعدادهم وتضعف قدراتهم. وفي نهاية المطاف فإن الغاية النهائية المنشودة هي وجود حكومة ينظر إليها على أنها شرعية تسيطر على مؤسسات مجتمعية وسياسية واقتصادية وأمنية تلبي احتياجات السكان، وتملك آليات كافية لمعالجة المظالم التي أججت دعم البعض للتمرد.
‏١١‏/٠١‏/٢٠١٨ ٧:٠٣ م‏
تفكيك الثورة الموازية عبد الغني مزوز [لتحميل العدد الجديد كاملا https://goo.gl/JGcXjK ] من المهم جدا أن ندرك أن اعتراض ثورات الشعوب وحرف مسارها لا يتم فقط عبر ثورات مضادة تلجأ إلى أساليب القمع والارهاب أو انقلابات عسكرية تطيح بمن بوأتهم الثورة سدة الحكم والسلطة، هذه الأساليب وإن ظلت سارية إلى عهد قريب ومستخدمة على نطاق واسع في أكثر من زمان ومكان إلا أن هناك نمطا آخر من مواجهة الثورات وتفكيك بناها وإعادة توجيه مساراتها لتنتهي عند النقطة التي بدأت منها؛ نظام مستبد عديم الشرعية ومناعة كافية للصمود في وجه أي ثورات ارتدادية قد تحصل في قادم السنوات، فالثورة إما أن تسقط نظاما مستبدا أو تمد في عمره. هذا النمط من التصدي للثورات والكيد لها تم توظيفه في أكثر من ثورة وانتفاضة شعبية، لكنه أوضح ما يكون في الثورة السورية بسنواتها الست، حيث يمكن رصد ملامحه بارزة لكل متابع وملاحظ، جوهر هذا النمط يتمثل في صناعة مكونات ثورية تشارك في فعاليات الثورة (سياسيا وعسكريا) وترفع شعاراتها وتنادي بما ينادي به غيرها من الكيانات الثورية الأصيلة لكن ولائها وتبعيتها إما للنظام نفسه أو لجهات خارجية تعتبر عصب الثورات المضادة إدارة وتمويلا. فالخطر في هذه الحالة لا يأتي من معسكر النظام بقدر ما هو قابع في عقر دار الثورة. فالنظام الدولي وهو مشغول بإعادة تأهيل النظام الأسدي وترميم ما تداعى من شرعيته؛ مشغول في الوقت نفسه بتأمين معارضة له يصنعها صناعة أو ينتقيها من معسكر الثورة حسب معاييره وشروطه، وهذه من بين الأمور المهمة التي انتبه لها مبكرا الإمام حازم صلاح أبو إسماعيل. [ كلمة حازم صلاح أبو إسماعيل في مؤترموقف علماء الأمة تجاه القضية السورية https://www.youtube.com/watch?v=hS4upjYwaqQ] داخل معسكر الثورة السورية بشقيها العسكري والسياسي تنشط عدة فصائل وكيانات مرتبطة عضويا وولاء إما بالنظام الأسدي أو بدول في الشرق والغرب تسعى لتأبيد النظام الطائفي وترى في سقوطه انتصارا للإرهاب الجهادي. فعلى الصعيد العسكري هناك فصائل مسلحة صنعتها المخابرات الأمريكية والبنتاغون وتمت صياغة برامجها " الثورية" داخل أروقة هاتين المؤسستين، وهذا ليس من الرجم بالغيب بل هذا مما اطلع عليه الجميع واعترفت به هذه الفصائل حتى درج وصفها في الأوساط الثورية بفصائل البنتاغون، وهناك فصائل أخرى يقودها شيوخ من التيار المدخلي وتتلقى دعما سخيا من بعض دول الإقليم، ومعلوم أنه ما من ثورة تقوم إلا ويصطف المداخلة تلقائيا في الجانب المضاد لها إخلاصا منهم لعقيدتهم "السلفية النقية"، وموقفهم من الثورة الليبية والمصرية واليمنية مسجل ولا داعي لاستدعائه، وكتائب " التوحيد" و" السلفية" مازالت تنفذ مجازرها إلى جانب أمير الحرب خليفة حفتر ضد مسلمي ليبيا إلى حد الساعة. كما أن هناك فصائل تتبع لما يسمى بغرف العمليات المشتركة (الموك مثلا) وهي غرف يديرها ضباط مخابرات أجانب وتتحكم في شؤون الفصائل المنضوية تحت مظلتها، وغالبا ما تبقى هذه الفصائل خامدة، تكدس الأسلحة في مخازنها وتصرف المرتبات لعناصرها في انتظار اللحظة المناسبة للتحرك، واللحظة المناسبة بالنسبة لهم هي عندما يسقط النظام ويصيب الإرهاق قوى الثورة فتندفع هي بكامل طاقتها وعنفوانها لتكون حينئد رقما صعبا وصوتا مسموعا. هذا على الصعيد العسكري أما على الصعيد السياسي فثمة طيف واسع من التيارات والأشخاص والمنصات ينسب نفسه للثورة والمعارضة ويسعى لأن يكون ممثلا في هيئات التفاوض ومؤسساته. فهناك ما يسمى بمنصة القاهرة التي صنعت على عين المخابرات المصرية، وأخرى تتخذ من العاصمة الروسية موسكو مقرا لها وتمارس نضالها السياسي من هناك، بل توجد معارضة تسمى " منصة حميميم " لأن رؤوسها كثيرا ما يترددون على قاعدة حميميم العسكرية الروسية، ولك أن تتخيل ما وسعك الخيال معارضة تستوطن قاعدة عسكرية تابعة لحامي النظام الذي تزعم معارضته!! ومكمن الخطورة في كل هذا أن بعض الفصائل العسكرية التي لم يسعفها الوعي والفهم العميق لخطط النظام الدولي في إعادة إنتاج النظام الطائفي انخرطت في مسار سياسي مناقض لمبادئ وأهداف الثورة فوجدت نفسها اليوم مرغمة على الاعتراف بالمنصات المذكورة كمكونات سياسية معارضة وتتقاسم معها القرار السياسي " المعارض" ضمن هيكل تنظيمي واحد، وإلا سحب عنها الدعم ووصمت بالإرهاب[ عربي21، لافروف يعلق على استقالات الهيئة العليا للمفاوضات، http://arabi21.com/story/1050641/%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%88%D9%81-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%87%D8%A7]. إذن فهناك ثورة أصيلة بأفكارها ومبادئها وحركتها ومكوناتها وهناك ثورة موازية صنعت لتواكب الثورة الأصيلة وتسير بحدائها فإن حسم الصراع لصالح الثورة المضادة، فستنال حصتها من السلطة والنفوذ والامتيازات باعتبارها رافدا من روافد الثورة المضادة، وإن انتصرت الثورة كانت جزء منها إلى أن تنقلب عليها فتعيد استدعاء النظام السابق أو تؤسس شبيها له على انقاضه. منصة القاهرة وموسكو وحميميم وفصائل المدخلية والبنتاغون.. كلها مكونات طارئة على الثورة تشكل في مجموعها خطا ثوريا موازيا للخط الثوري الأصيل الذي يسعى لتحرير الأمة من الاستبداد والتبعية ويعيد الاعتبار لهويتها وحضارتها. ثمة عدة وسائل وطرق لفرز المكونات الثورية الأصيلة عن الموازية أو المزيفة لكن يمكن اعتماد أهم معيار للفرز والتصنيف، ونتحدث هنا عن المكونات التي نجحت في تمويه نفسها في بيئة الثورة وليس عن تلك التي تجاهر بولاءاتها وارتباطاتها، هذا المعيار هو مدى حضور مطلب الاستقلال والتحرر في حركتها وبرنامجها الثوري. إن أصل أزمة الأمة ومنبثها يكمن في وقوعها تحت وطأة الوصاية الخارجية وفقدانها لمبدأ السيادة والاستقلال، ومعظم ما يعتري جسد الأمة من علل ونكبات مجرد أعراض وتجليات لهذه الأزمة وبالتالي فإن أي حركة أو كيان يزعم لمشاركة في تصحيح أوضاع الأمة لكنه يصدر في قراراته وأفعاله عن إرادة أجنبية تتبع قوى الجبر والوصاية الدولية هو في حقيقته كيان يبتغي –أدرك ذلك أم لم يدركه- تعميق الأزمة وتأبيدها، وإعطاء الفرصة لهذه القوى من أجل الالتفاف على ثورات الأمة وإعطابها من الداخل. في الثورة السورية –كما غيرها- عدد من الجماعات والفصائل تأسست بموجب برامج التدريب والدعم الأمريكية، بعضها يحمل أسماء تحيل على شخصيات تاريخية إسلامية ويرفع شعارات ثورية وإسلامية، لكنها أبعد ما تكون عن روح الثورة وأهدافها وتطلعاتها، إنها ثورة موازية ومشروع ثورة مضادة لم يحن أوان تحركها بعد. ولذا يجب الوعي بضرورة صيانة الثورة والتعامل مع الكيانات المشبوهة داخلها بحزم وذكاء. يجب رصد مكامن وبؤر الثورة الموازية في النسيج الثوري والعمل على محاصرتها وتفكيكها ومنع استشرائها. وهذه المهمة تستدعي العمل على مستويات عدة؛ الأول: على صعيد نشر الوعي الثوري الصحيح، والتعريف بحقيقة قوى الجبر والوصاية الدولية ودورها في النكبات التي حلت بالأمة، من رعايتها للمستبدين واستنزافها لثروات الأمة ومواردها، واحتلالها بلدانا وأقطارها إسلامية عدة، وأن التعاون معها يعتبر تواطئا مع خصوم الأمة ومساهمة فعالة في العدوان عليها. وينبغي تأصيل ذلك شرعيا وعقديا. ثانيا: محاصرة مكونات الثورة الموازية وتجريدها من الشرعية، وبيان حقيقتها للناس، وإبعادها عن دوائر صناعة القرار الثوري، ومنعها من المشاركة في فعاليات الثورة وغرف عملياتها، ووضعها تحت المراقبة. ثالثا: العمل على تفكيك هذه المكونات في مراحلها الجنينية وعدم تركها تمتد وتتوغل داخل مفاصل الثورة، ويجب على قوى الثورة الأصيلة أن تتحد وتتكاتف فيما بينها لعزل هذه المكونات وإظهارها كنشاز يتحرك خارج الإجماع الثوري. ومن تم التعامل معها بما يحد من فعاليتها أو ينهي وجودها بالمرة. من المهمات التي تضطلع بهذا هذه الكيانات الوظيفية داخل معسكر الثورة هي المشاركة في مقترحات الحل المشبوهة التي يتقدم بها خصوم الثورة ومنحها المصداقية والوجاهة لإظهار القوى الثورية المقاطعة لها كقوى متطرفة لا تريد الحل السياسي للقضية[ قدري جميل رئيس منصة موسكو اعترف بأنه فرض استراتيجيته على 140 عضوا "معارضا" ممن حضروا مؤتمر "الرياض2" انظر: الواقعية السياسية حجة المعارضة للإنخراط في المسار الروسي، ملف القدس العربي الأسبوعي العدد: 9025]. انظر مثلا إلى محطات التفاوض المختلفة التي تخللت مسار الثورة السورية، كل الفصائل والشخصيات المشاركة فيها مرتبطة عضويا وولاء بجهات إقليمية ودولية. وعندما ننظر إلى مشاريع التوحد والاندماج التي طرحتها بعض الفصائل من أجل تصحيح أوضاع الثورة نجد أن الجماعات الرافضة لها هي نفسها المحسوبة على الجهات الدولية والإقليمية. من بين الأخطاء التي ارتكبها الرئيس محمد مرسي أنه لم يتعامل بحزم مع مكونات الثورة الموازية (حزب النور؛ البرادعي؛ فلول القوميين والاشتراكيين..) بل سعى للتقرب منها أكثر من مرة مقابل تهميشه قوى الثورة الأصيلة (حازمون؛ شباب الثورة؛ الإسلاميون الثوريون..) فكانت النتيجة تلك المأساة التي مازال العالم يتابع تفاصيها حتى الآن. إذن، على القوى الثورية أن تتحلى بالوعي واليقظة، وتراقب عن كتب مكونات الثورة الموازية، وتعمل على عزلها وتفكيكها، صيانة للثورة ومكتسباتها وقطعا للطريق أمام مشاريع حفترية يُراد استنساخها في سوريا وغير سوريا، تنتهي بإعادة انتاج الحقب العربية السوداء بتفاصيلها وقصصها المريرة.
تفكيك الثورة الموازية
عبد الغني مزوز

[لتحميل العدد الجديد كاملا https://goo.gl/JGcXjK ]

من المهم جدا أن ندرك أن اعتراض ثورات الشعوب وحرف مسارها لا يتم فقط عبر ثورات مضادة تلجأ إلى أساليب القمع والارهاب أو انقلابات عسكرية تطيح بمن بوأتهم الثورة سدة الحكم والسلطة، هذه الأساليب وإن ظلت سارية إلى عهد قريب ومستخدمة على نطاق واسع في أكثر من زمان ومكان إلا أن هناك نمطا آخر من مواجهة الثورات وتفكيك بناها وإعادة توجيه مساراتها لتنتهي عند النقطة التي بدأت منها؛ نظام مستبد عديم الشرعية ومناعة كافية للصمود في وجه أي ثورات ارتدادية قد تحصل في قادم السنوات، فالثورة إما أن تسقط نظاما مستبدا أو تمد في عمره.

هذا النمط من التصدي للثورات والكيد لها تم توظيفه في أكثر من ثورة وانتفاضة شعبية، لكنه أوضح ما يكون في الثورة السورية بسنواتها الست، حيث يمكن رصد ملامحه بارزة لكل متابع وملاحظ، جوهر هذا النمط يتمثل في صناعة مكونات ثورية تشارك في فعاليات الثورة (سياسيا وعسكريا) وترفع شعاراتها وتنادي بما ينادي به غيرها من الكيانات الثورية الأصيلة لكن ولائها وتبعيتها إما للنظام نفسه أو لجهات خارجية تعتبر عصب الثورات المضادة إدارة وتمويلا. فالخطر في هذه الحالة لا يأتي من معسكر النظام بقدر ما هو قابع في عقر دار الثورة. فالنظام الدولي وهو مشغول بإعادة تأهيل النظام الأسدي وترميم ما تداعى من شرعيته؛ مشغول في الوقت نفسه بتأمين معارضة له يصنعها صناعة أو ينتقيها من معسكر الثورة حسب معاييره وشروطه، وهذه من بين الأمور المهمة التي انتبه لها مبكرا الإمام حازم صلاح أبو إسماعيل. [ كلمة حازم صلاح أبو إسماعيل في مؤترموقف علماء الأمة تجاه القضية السورية
https://www.youtube.com/watch?v=hS4upjYwaqQ]

داخل معسكر الثورة السورية بشقيها العسكري والسياسي تنشط عدة فصائل وكيانات مرتبطة عضويا وولاء إما بالنظام الأسدي أو بدول في الشرق والغرب تسعى لتأبيد النظام الطائفي وترى في سقوطه انتصارا للإرهاب الجهادي. فعلى الصعيد العسكري هناك فصائل مسلحة صنعتها المخابرات الأمريكية والبنتاغون وتمت صياغة برامجها " الثورية" داخل أروقة هاتين المؤسستين، وهذا ليس من الرجم بالغيب بل هذا مما اطلع عليه الجميع واعترفت به هذه الفصائل حتى درج وصفها في الأوساط الثورية بفصائل البنتاغون، وهناك فصائل أخرى يقودها شيوخ من التيار المدخلي وتتلقى دعما سخيا من بعض دول الإقليم، ومعلوم أنه ما من ثورة تقوم إلا ويصطف المداخلة تلقائيا في الجانب المضاد لها إخلاصا منهم لعقيدتهم "السلفية النقية"، وموقفهم من الثورة الليبية والمصرية واليمنية مسجل ولا داعي لاستدعائه، وكتائب " التوحيد" و" السلفية" مازالت تنفذ مجازرها إلى جانب أمير الحرب خليفة حفتر ضد مسلمي ليبيا إلى حد الساعة. كما أن هناك فصائل تتبع لما يسمى بغرف العمليات المشتركة (الموك مثلا) وهي غرف يديرها ضباط مخابرات أجانب وتتحكم في شؤون الفصائل المنضوية تحت مظلتها، وغالبا ما تبقى هذه الفصائل خامدة، تكدس الأسلحة في مخازنها وتصرف المرتبات لعناصرها في انتظار اللحظة المناسبة للتحرك، واللحظة المناسبة بالنسبة لهم هي عندما يسقط النظام ويصيب الإرهاق قوى الثورة فتندفع هي بكامل طاقتها وعنفوانها لتكون حينئد رقما صعبا وصوتا مسموعا.

هذا على الصعيد العسكري أما على الصعيد السياسي فثمة طيف واسع من التيارات والأشخاص والمنصات ينسب نفسه للثورة والمعارضة ويسعى لأن يكون ممثلا في هيئات التفاوض ومؤسساته. فهناك ما يسمى بمنصة القاهرة التي صنعت على عين المخابرات المصرية، وأخرى تتخذ من العاصمة الروسية موسكو مقرا لها وتمارس نضالها السياسي من هناك، بل توجد معارضة تسمى " منصة حميميم " لأن رؤوسها كثيرا ما يترددون على قاعدة حميميم العسكرية الروسية، ولك أن تتخيل ما وسعك الخيال معارضة تستوطن قاعدة عسكرية تابعة لحامي النظام الذي تزعم معارضته!! ومكمن الخطورة في كل هذا أن بعض الفصائل العسكرية التي لم يسعفها الوعي والفهم العميق لخطط النظام الدولي في إعادة إنتاج النظام الطائفي انخرطت في مسار سياسي مناقض لمبادئ وأهداف الثورة فوجدت نفسها اليوم مرغمة على الاعتراف بالمنصات المذكورة كمكونات سياسية معارضة وتتقاسم معها القرار السياسي " المعارض" ضمن هيكل تنظيمي واحد، وإلا سحب عنها الدعم ووصمت بالإرهاب[ عربي21، لافروف يعلق على استقالات الهيئة العليا للمفاوضات،
http://arabi21.com/story/1050641/لافروف-يعلق-على-استقالات-الهيئة-العليا-بماذا-وصفها].

إذن فهناك ثورة أصيلة بأفكارها ومبادئها وحركتها ومكوناتها وهناك ثورة موازية صنعت لتواكب الثورة الأصيلة وتسير بحدائها فإن حسم الصراع لصالح الثورة المضادة، فستنال حصتها من السلطة والنفوذ والامتيازات باعتبارها رافدا من روافد الثورة المضادة، وإن انتصرت الثورة كانت جزء منها إلى أن تنقلب عليها فتعيد استدعاء النظام السابق أو تؤسس شبيها له على انقاضه. منصة القاهرة وموسكو وحميميم وفصائل المدخلية والبنتاغون.. كلها مكونات طارئة على الثورة تشكل في مجموعها خطا ثوريا موازيا للخط الثوري الأصيل الذي يسعى لتحرير الأمة من الاستبداد والتبعية ويعيد الاعتبار لهويتها وحضارتها.

ثمة عدة وسائل وطرق لفرز المكونات الثورية الأصيلة عن الموازية أو المزيفة لكن يمكن اعتماد أهم معيار للفرز والتصنيف، ونتحدث هنا عن المكونات التي نجحت في تمويه نفسها في بيئة الثورة وليس عن تلك التي تجاهر بولاءاتها وارتباطاتها، هذا المعيار هو مدى حضور مطلب الاستقلال والتحرر في حركتها وبرنامجها الثوري. إن أصل أزمة الأمة ومنبثها يكمن في وقوعها تحت وطأة الوصاية الخارجية وفقدانها لمبدأ السيادة والاستقلال، ومعظم ما يعتري جسد الأمة من علل ونكبات مجرد أعراض وتجليات لهذه الأزمة وبالتالي فإن أي حركة أو كيان يزعم لمشاركة في تصحيح أوضاع الأمة لكنه يصدر في قراراته وأفعاله عن إرادة أجنبية تتبع قوى الجبر والوصاية الدولية هو في حقيقته كيان يبتغي –أدرك ذلك أم لم يدركه- تعميق الأزمة وتأبيدها، وإعطاء الفرصة لهذه القوى من أجل الالتفاف على ثورات الأمة وإعطابها من الداخل.

في الثورة السورية –كما غيرها- عدد من الجماعات والفصائل تأسست بموجب برامج التدريب والدعم الأمريكية، بعضها يحمل أسماء تحيل على شخصيات تاريخية إسلامية ويرفع شعارات ثورية وإسلامية، لكنها أبعد ما تكون عن روح الثورة وأهدافها وتطلعاتها، إنها ثورة موازية ومشروع ثورة مضادة لم يحن أوان تحركها بعد. ولذا يجب الوعي بضرورة صيانة الثورة والتعامل مع الكيانات المشبوهة داخلها بحزم وذكاء. يجب رصد مكامن وبؤر الثورة الموازية في النسيج الثوري والعمل على محاصرتها وتفكيكها ومنع استشرائها. وهذه المهمة تستدعي العمل على مستويات عدة؛ الأول: على صعيد نشر الوعي الثوري الصحيح، والتعريف بحقيقة قوى الجبر والوصاية الدولية ودورها في النكبات التي حلت بالأمة، من رعايتها للمستبدين واستنزافها لثروات الأمة ومواردها، واحتلالها بلدانا وأقطارها إسلامية عدة، وأن التعاون معها يعتبر تواطئا مع خصوم الأمة ومساهمة فعالة في العدوان عليها. وينبغي تأصيل ذلك شرعيا وعقديا.

ثانيا: محاصرة مكونات الثورة الموازية وتجريدها من الشرعية، وبيان حقيقتها للناس، وإبعادها عن دوائر صناعة القرار الثوري، ومنعها من المشاركة في فعاليات الثورة وغرف عملياتها، ووضعها تحت المراقبة.

ثالثا: العمل على تفكيك هذه المكونات في مراحلها الجنينية وعدم تركها تمتد وتتوغل داخل مفاصل الثورة، ويجب على قوى الثورة الأصيلة أن تتحد وتتكاتف فيما بينها لعزل هذه المكونات وإظهارها كنشاز يتحرك خارج الإجماع الثوري. ومن تم التعامل معها بما يحد من فعاليتها أو ينهي وجودها بالمرة.

من المهمات التي تضطلع بهذا هذه الكيانات الوظيفية داخل معسكر الثورة هي المشاركة في مقترحات الحل المشبوهة التي يتقدم بها خصوم الثورة ومنحها المصداقية والوجاهة لإظهار القوى الثورية المقاطعة لها كقوى متطرفة لا تريد الحل السياسي للقضية[ قدري جميل رئيس منصة موسكو اعترف بأنه فرض استراتيجيته على 140 عضوا "معارضا" ممن حضروا مؤتمر "الرياض2" انظر: الواقعية السياسية حجة المعارضة للإنخراط في المسار الروسي، ملف القدس العربي الأسبوعي العدد: 9025]. انظر مثلا إلى محطات التفاوض المختلفة التي تخللت مسار الثورة السورية، كل الفصائل والشخصيات المشاركة فيها مرتبطة عضويا وولاء بجهات إقليمية ودولية. وعندما ننظر إلى مشاريع التوحد والاندماج التي طرحتها بعض الفصائل من أجل تصحيح أوضاع الثورة نجد أن الجماعات الرافضة لها هي نفسها المحسوبة على الجهات الدولية والإقليمية.

من بين الأخطاء التي ارتكبها الرئيس محمد مرسي أنه لم يتعامل بحزم مع مكونات الثورة الموازية (حزب النور؛ البرادعي؛ فلول القوميين والاشتراكيين..) بل سعى للتقرب منها أكثر من مرة مقابل تهميشه قوى الثورة الأصيلة (حازمون؛ شباب الثورة؛ الإسلاميون الثوريون..) فكانت النتيجة تلك المأساة التي مازال العالم يتابع تفاصيها حتى الآن.

إذن، على القوى الثورية أن تتحلى بالوعي واليقظة، وتراقب عن كتب مكونات الثورة الموازية، وتعمل على عزلها وتفكيكها، صيانة للثورة ومكتسباتها وقطعا للطريق أمام مشاريع حفترية يُراد استنساخها في سوريا وغير سوريا، تنتهي بإعادة انتاج الحقب العربية السوداء بتفاصيلها وقصصها المريرة.
‏٠٨‏/٠١‏/٢٠١٨ ٦:٥٧ م‏
مائة عام على مولد: يوشع براور ومحمد الغزالي بقلم المشرف العام/ @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/JGcXjK] في عام 1936 وهو عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، أي قبل الإعلان عن دولة إسرائيل باثنتي عشرة سنة، وصل إلى فلسطين شاب يهودي من بولندا في التاسعة عشرة من عمره، واتخذ قرارا بالاستقرار في "إسرائيل"، وهناك عكف على البحث والتنقيب في عصر الحروب الصليبية لكن من زاوية تندر فيها المؤلفات، ولم تمض خمسة أعوام حتى صدرت دراسته الأولى "دور اليهود في تجارة العصور الوسطى" (1941)، وظل يوالي البحث والتأليف لنصف قرن بعد هذه المدة، وقد انتقل للاستقرار في القدس الشرقية بعد الاحتلال الصهيوني لها (1967م)، حتى صدرت آخر مؤلفاته في القدس، وهو "تاريخ بيت المقدس: الحملات الصليبية والحقبة الأيوبية" (1991)، وهو ذات العام الذي توفي فيه. هذا الشاب هو يوشع براور، مؤسس وزعيم مدرسة المؤرخين الإسرائيليين المتخصصة في دراسة الحروب الصليبية، وهو أبرز مؤرخ إسرائيلي في هذه الحقبة، وتلاميذه هم أهم المؤرخين الإسرائيليين في هذه الفترة، مثل: سلفيا سكين وبنيامين كيدار وأرييه جرابوا وغيرهم. وقد صدر له بعد وفاته كتاب تكريمي احتوى على 22 دراسة في التأريخ للحملات الصليبية ومملكة بيت المقدس كتبها أبرز مؤرخي تلك الحقبة في العالم، ومنهم ستيفن رانسيمان ورايلي سميث وكلود كاهن وغيرهم. وضع براور كافة طاقته في خدمة الشروع الصهيوني، ليس فقط من حيث التأليف العلمي الحافل، وإنما بمشاركته منذ أيامه الأولى في القتال والمعارك، فقد انضم مطلع قدومه إلى العصابات الصهيونية، وأصيب في بعض معاركها، وعاصر سائر الحروب التي خاضها الكيان، ومات وهو يشهد الانتفاضة الفلسطينية، فختم حياته بذات المشهد الذي افتتحها به: مشهد المقاومة الفلسطينية المستمرة. وما بين البداية والنهاية عمل مستشارا للحكومة الإسرائيلية في التعليم، وفي مناصب أخرى ساهمت في تشكيل الوعي الصهيوني صغارا وكبارا، بل إنني وجدت ضمن خبر منشور (هاآرتس: 28 نوفمبر 2016) أن مريم زوجة رئيس الوزراء الصهيوني ليفي أشكول عملت كباحث مساعد مع يوشع براور. أجاد براور خمس لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية إضافة إلى العبرية، وكتب مؤلفاته بالعبرية والإنجليزية والفرنسية، مما أكسبه اطلاعا واسعا على مؤلفات الحروب الصليبية المصدرية، وكان حريصا على ترجمة بعض الكتب وإعادة نشرها بعد نفاد طبعاتها القديمة مثل كتاب مؤرخ الكنيسة الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو، ومتابعا للجديد الذي يصدر في هذا المجال. إلا أن الذي تميز به براور عن سائر السابقين له هو تركيزه الكبير على التكوين الداخلي لمملكة بيت المقدس، وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وطبيعة سكانها والعلاقات بينهم، كذلك التوفر على دراسة الينابيع وموارد المياه، ودراسة القلاع التي بناها الصليبيون من حيث كونها مستعمرات للاستفادة بخبرتهم وتجنب ما قد يكونوا أخطأوا فيه، وله دراسات أخرى عن الحدود الجنوبية والشمالية لمملكة بيت المقدس. ومن اللافت للنظر أنه نشر عام 1956 دراسة عن عسقلان، ثم نشر عام 1967 دراسة بعنوان "إعادة الاستقرار اليهودي في بيت المقدس الصليبية"، وهو دليل على أن الرجل لم يكن منظرا أجوف ولا كان عمله مجرد التنظير، بل كان عمله ضمن المشروع الصهيوني الذي يجري تطبيقه على الأرض، ومن ثم رافق بحثه عن عسقلان العدوان الثلاثي على مصر كما رافق بحثه عن تهويد القدس احتلال القدس الشرقية. لا يتسع المقام لأكثر من هذا عن يوشع براور ومدرسته، ويمكن الرجوع إلى المزيد عنه ضمن كتاب "المؤرخون الإسرائيليون والحروب الصليبية" للدكتور محمد مؤنس عوض، وعن هذا الكتاب استفدت ما كتبته هنا، وكذلك إلى مقدمتي ترجمتي كتابيه إلى العربية: "عالم الصليبيين" بقلم: د. قاسم عبده قاسم، و"الاستيطان الصليبي في فلسطين: مملكة بيت المقدس" بقلم: د. عبد الحافظ البنا. والشاهد المقصود من إيراد كل ما سبق لفت النظر إلى الاهتمام الإسرائيلي المبكر جدا للاستفادة من التجربة الصليبية، تجربة بدأت قبل الإعلان عن إسرائيل نفسها، لقد استوعب صانعو المشروع أهمية التأسيس العلمي، كما استوعب العلماء أهمية أن يدرسوا للعمل والتطبيق لا لمجرد المتعة العلمية وإعادة إنتاج وتوليد نفس الأفكار بعبارات أخرى أو بترتيب آخر.. وهو درس لا بد من استيعابه في حركتنا لتحرير بيت المقدس. والواقع أن ما يتسرب من الإنتاج العلمي الإسرائيلي ليشهد بقوة ونضج ومجهود ممتاز، ولا نزال في العالم العربي لا نرى شيئا منه، وأحسب أنها مهمة تقع بالمقام الأول على عاتق من يجيد العبرية سواء من أبناء فلسطين أو ممن يتخصصون في اللغة العبرية.. ونحن على الحقيقة لن نستطيع خوض صراع مع إسرائيل دون معرفة دواخل مجتمعاتهم والاطلاع على دراساتهم. لقد كنت قبل أسبوعين في المؤتمر الدولي السابع عشر لدراسات بيت المقدس، والتقيت فيه أحد إخواننا من عرب الـ 48، وجرى بيننا حوار حول عبء الترجمة عن العبرية الواقع عليه وعلى أمثاله، فقال لي بأن المهمة ضخمة حقا، وأن الدراسات الإسرائيلية عن ينابيع فلسطين وحدها بالعشرات، وعن نباتاتها بالمئات، وعن جغرافيتها بالآلاف، فضلا عن الدراسات المتعلقة بالفرص والمخاطر الحربية والمواقع العسكرية وغيرها. المهمة عظيمة حقا.. ولكن الموارد والإمكانات البحثية في العالم العربي قادرة عليها، وتظل المشكلة الرئيسية الكبرى التي هي أصل وجوهر كل المشكلات: مشكلة الأنظمة العربية التي تعرف أن مهمتها حماية إسرائيل وتدمير مقومات الأمة، ولذلك تتعطل كل المجهودات وتتكسر على تلك الصخرة العتيدة. وهو ما يعيدنا إلى القول المكرر دائما: نجاح الثورات العربية هو الطريق الوحيد لإزالة إسرائيل. *** قبل أيام انتهت في اسطنبول ندوة مئوية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (وُلِد في 1917م)، وكانت ندوة مباركة سعى فيها وبذل لها وتابعها الأستاذ الكريم د. وصفي عاشور أبو زيد، وهو من تلامذة الشيخ الغزالي المهتمين به والمتخصصين فيه، وهو يرفعه فوق كل طبقة عصره وله نحوه عاطفة حارة.. وأحسب أن الله علم صدق نيته فهيأ له الجهود التي تكفلت بإقامة الندوة وطباعة أوراقها العلمية في مجلدين أنيقين، وكان من عجائب ما وقع فيها أن تلاميذ الشيخ انبروا في الكتابة عنه حتى إن الشيخ الأسير د. صلاح سلطان كتب خلف القضبان دراسة في مائة ورقة عن المناهج العلمية والأصولية للشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وكتب د. جمال عبد العزيز بحثا عن "الغزالي لغويا" من ثلاثين صفحة في ليلة واحدة. وقد شهد المجلدان حضورا لأعلام الفكر والدعوة المعاصرين بأوراقهم كالشيخ القرضاوي ود. محمد عمارة والمستشار طارق البشري ود. عماد الدين خليل والشيخ مجد مكي ود. حلمي القاعود ود. خالد فهمي وغيرهم من العلماء والدعاة والباحثين، ومن ثم فقد كانت فرصة ثمينة لأمثالي من شباب وصغار الكتاب والباحثين مجاورة هذه الأسماء. لكن يلفت النظر أن مئوية الغزالي لم يكن ممكنا أن تحتضنها مصر وهي بلده، ولا السعودية التي درس فيها وتوفي فيها مدافعا عن الإسلام وهو مدفون بها، ولا الجزائر التي درس فيها فأثمر وكان ميزانا اعتدلت به الحالة الإسلامية ولم يزل تلاميذه الجزائريون أسرع الناس إلى الاحتفاء به.. ولا دولة أخرى من بلاد العرب! لقد تحولت تلك البلاد إلى عواصم حرب على الإسلام وأهله أو في أحسن الأحوال تتجنب أن يُنسب إليها شيء من نصرة الإسلام وأهله وإحياء ذكرى مشايخه. ومن عجيب الاتفاق أن كلا الرجلين: الشيخ الغزالي ويوشع براور وُلِدا في نفس العام (1917)، لكن شتان ما بين ما فعلت إسرائيل في الحفاوة برجلها ومؤرخها، وبين ما فعلت بلاد العرب بشيخها وداعيتها.
مائة عام على مولد: يوشع براور ومحمد الغزالي
بقلم المشرف العام/ محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد https://goo.gl/JGcXjK]

في عام 1936 وهو عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، أي قبل الإعلان عن دولة إسرائيل باثنتي عشرة سنة، وصل إلى فلسطين شاب يهودي من بولندا في التاسعة عشرة من عمره، واتخذ قرارا بالاستقرار في "إسرائيل"، وهناك عكف على البحث والتنقيب في عصر الحروب الصليبية لكن من زاوية تندر فيها المؤلفات، ولم تمض خمسة أعوام حتى صدرت دراسته الأولى "دور اليهود في تجارة العصور الوسطى" (1941)، وظل يوالي البحث والتأليف لنصف قرن بعد هذه المدة، وقد انتقل للاستقرار في القدس الشرقية بعد الاحتلال الصهيوني لها (1967م)، حتى صدرت آخر مؤلفاته في القدس، وهو "تاريخ بيت المقدس: الحملات الصليبية والحقبة الأيوبية" (1991)، وهو ذات العام الذي توفي فيه.

هذا الشاب هو يوشع براور، مؤسس وزعيم مدرسة المؤرخين الإسرائيليين المتخصصة في دراسة الحروب الصليبية، وهو أبرز مؤرخ إسرائيلي في هذه الحقبة، وتلاميذه هم أهم المؤرخين الإسرائيليين في هذه الفترة، مثل: سلفيا سكين وبنيامين كيدار وأرييه جرابوا وغيرهم. وقد صدر له بعد وفاته كتاب تكريمي احتوى على 22 دراسة في التأريخ للحملات الصليبية ومملكة بيت المقدس كتبها أبرز مؤرخي تلك الحقبة في العالم، ومنهم ستيفن رانسيمان ورايلي سميث وكلود كاهن وغيرهم.

وضع براور كافة طاقته في خدمة الشروع الصهيوني، ليس فقط من حيث التأليف العلمي الحافل، وإنما بمشاركته منذ أيامه الأولى في القتال والمعارك، فقد انضم مطلع قدومه إلى العصابات الصهيونية، وأصيب في بعض معاركها، وعاصر سائر الحروب التي خاضها الكيان، ومات وهو يشهد الانتفاضة الفلسطينية، فختم حياته بذات المشهد الذي افتتحها به: مشهد المقاومة الفلسطينية المستمرة. وما بين البداية والنهاية عمل مستشارا للحكومة الإسرائيلية في التعليم، وفي مناصب أخرى ساهمت في تشكيل الوعي الصهيوني صغارا وكبارا، بل إنني وجدت ضمن خبر منشور (هاآرتس: 28 نوفمبر 2016) أن مريم زوجة رئيس الوزراء الصهيوني ليفي أشكول عملت كباحث مساعد مع يوشع براور.

أجاد براور خمس لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية إضافة إلى العبرية، وكتب مؤلفاته بالعبرية والإنجليزية والفرنسية، مما أكسبه اطلاعا واسعا على مؤلفات الحروب الصليبية المصدرية، وكان حريصا على ترجمة بعض الكتب وإعادة نشرها بعد نفاد طبعاتها القديمة مثل كتاب مؤرخ الكنيسة الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو، ومتابعا للجديد الذي يصدر في هذا المجال. إلا أن الذي تميز به براور عن سائر السابقين له هو تركيزه الكبير على التكوين الداخلي لمملكة بيت المقدس، وأحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وطبيعة سكانها والعلاقات بينهم، كذلك التوفر على دراسة الينابيع وموارد المياه، ودراسة القلاع التي بناها الصليبيون من حيث كونها مستعمرات للاستفادة بخبرتهم وتجنب ما قد يكونوا أخطأوا فيه، وله دراسات أخرى عن الحدود الجنوبية والشمالية لمملكة بيت المقدس.

ومن اللافت للنظر أنه نشر عام 1956 دراسة عن عسقلان، ثم نشر عام 1967 دراسة بعنوان "إعادة الاستقرار اليهودي في بيت المقدس الصليبية"، وهو دليل على أن الرجل لم يكن منظرا أجوف ولا كان عمله مجرد التنظير، بل كان عمله ضمن المشروع الصهيوني الذي يجري تطبيقه على الأرض، ومن ثم رافق بحثه عن عسقلان العدوان الثلاثي على مصر كما رافق بحثه عن تهويد القدس احتلال القدس الشرقية.

لا يتسع المقام لأكثر من هذا عن يوشع براور ومدرسته، ويمكن الرجوع إلى المزيد عنه ضمن كتاب "المؤرخون الإسرائيليون والحروب الصليبية" للدكتور محمد مؤنس عوض، وعن هذا الكتاب استفدت ما كتبته هنا، وكذلك إلى مقدمتي ترجمتي كتابيه إلى العربية: "عالم الصليبيين" بقلم: د. قاسم عبده قاسم، و"الاستيطان الصليبي في فلسطين: مملكة بيت المقدس" بقلم: د. عبد الحافظ البنا.

والشاهد المقصود من إيراد كل ما سبق لفت النظر إلى الاهتمام الإسرائيلي المبكر جدا للاستفادة من التجربة الصليبية، تجربة بدأت قبل الإعلان عن إسرائيل نفسها، لقد استوعب صانعو المشروع أهمية التأسيس العلمي، كما استوعب العلماء أهمية أن يدرسوا للعمل والتطبيق لا لمجرد المتعة العلمية وإعادة إنتاج وتوليد نفس الأفكار بعبارات أخرى أو بترتيب آخر.. وهو درس لا بد من استيعابه في حركتنا لتحرير بيت المقدس.

والواقع أن ما يتسرب من الإنتاج العلمي الإسرائيلي ليشهد بقوة ونضج ومجهود ممتاز، ولا نزال في العالم العربي لا نرى شيئا منه، وأحسب أنها مهمة تقع بالمقام الأول على عاتق من يجيد العبرية سواء من أبناء فلسطين أو ممن يتخصصون في اللغة العبرية.. ونحن على الحقيقة لن نستطيع خوض صراع مع إسرائيل دون معرفة دواخل مجتمعاتهم والاطلاع على دراساتهم.

لقد كنت قبل أسبوعين في المؤتمر الدولي السابع عشر لدراسات بيت المقدس، والتقيت فيه أحد إخواننا من عرب الـ 48، وجرى بيننا حوار حول عبء الترجمة عن العبرية الواقع عليه وعلى أمثاله، فقال لي بأن المهمة ضخمة حقا، وأن الدراسات الإسرائيلية عن ينابيع فلسطين وحدها بالعشرات، وعن نباتاتها بالمئات، وعن جغرافيتها بالآلاف، فضلا عن الدراسات المتعلقة بالفرص والمخاطر الحربية والمواقع العسكرية وغيرها.

المهمة عظيمة حقا.. ولكن الموارد والإمكانات البحثية في العالم العربي قادرة عليها، وتظل المشكلة الرئيسية الكبرى التي هي أصل وجوهر كل المشكلات: مشكلة الأنظمة العربية التي تعرف أن مهمتها حماية إسرائيل وتدمير مقومات الأمة، ولذلك تتعطل كل المجهودات وتتكسر على تلك الصخرة العتيدة.

وهو ما يعيدنا إلى القول المكرر دائما: نجاح الثورات العربية هو الطريق الوحيد لإزالة إسرائيل.
***

قبل أيام انتهت في اسطنبول ندوة مئوية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (وُلِد في 1917م)، وكانت ندوة مباركة سعى فيها وبذل لها وتابعها الأستاذ الكريم د. وصفي عاشور أبو زيد، وهو من تلامذة الشيخ الغزالي المهتمين به والمتخصصين فيه، وهو يرفعه فوق كل طبقة عصره وله نحوه عاطفة حارة.. وأحسب أن الله علم صدق نيته فهيأ له الجهود التي تكفلت بإقامة الندوة وطباعة أوراقها العلمية في مجلدين أنيقين، وكان من عجائب ما وقع فيها أن تلاميذ الشيخ انبروا في الكتابة عنه حتى إن الشيخ الأسير د. صلاح سلطان كتب خلف القضبان دراسة في مائة ورقة عن المناهج العلمية والأصولية للشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وكتب د. جمال عبد العزيز بحثا عن "الغزالي لغويا" من ثلاثين صفحة في ليلة واحدة. وقد شهد المجلدان حضورا لأعلام الفكر والدعوة المعاصرين بأوراقهم كالشيخ القرضاوي ود. محمد عمارة والمستشار طارق البشري ود. عماد الدين خليل والشيخ مجد مكي ود. حلمي القاعود ود. خالد فهمي وغيرهم من العلماء والدعاة والباحثين، ومن ثم فقد كانت فرصة ثمينة لأمثالي من شباب وصغار الكتاب والباحثين مجاورة هذه الأسماء.

لكن يلفت النظر أن مئوية الغزالي لم يكن ممكنا أن تحتضنها مصر وهي بلده، ولا السعودية التي درس فيها وتوفي فيها مدافعا عن الإسلام وهو مدفون بها، ولا الجزائر التي درس فيها فأثمر وكان ميزانا اعتدلت به الحالة الإسلامية ولم يزل تلاميذه الجزائريون أسرع الناس إلى الاحتفاء به.. ولا دولة أخرى من بلاد العرب! لقد تحولت تلك البلاد إلى عواصم حرب على الإسلام وأهله أو في أحسن الأحوال تتجنب أن يُنسب إليها شيء من نصرة الإسلام وأهله وإحياء ذكرى مشايخه.

ومن عجيب الاتفاق أن كلا الرجلين: الشيخ الغزالي ويوشع براور وُلِدا في نفس العام (1917)، لكن شتان ما بين ما فعلت إسرائيل في الحفاوة برجلها ومؤرخها، وبين ما فعلت بلاد العرب بشيخها وداعيتها.
‏٠٦‏/٠١‏/٢٠١٨ ٥:٣٢ م‏
بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد السادس من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر يناير، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/JGcXjK نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq المدونة: klmtuhaq.blog
بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد السادس من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر يناير، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/JGcXjK


نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:
تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
المدونة:
klmtuhaq.blog
‏٠١‏/٠١‏/٢٠١٨ ٥:٢٨ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
يصدر العدد الجديد من مجلة كلمة حق في الساعة السابعة بتوقيت مكة إن شاء الله.

روابط تحميل مباشرة للأعداد السابقة من #مجلة_كلمة_حق:

العدد الأول:
https://goo.gl/ua1sPg
العدد الثاني:
http://bit.ly/2eZy0ed
العدد الثالث:
https://goo.gl/gYc5Jc
العدد الرابع:
https://goo.gl/okhK5f

العدد الخامس:
https://goo.gl/EaaA1F

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
قناتنا على تيليجرام:
t.me/klmtuhaq
حسابنا على تويتر:
twitter.com/klmtuhaq
المدونة الرسمية:
klmtuhaq.blog
‏٠١‏/٠١‏/٢٠١٨ ٩:٠٦ ص‏
وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله؟ د. عبد العزيز الطريفي(1) قال تعالى: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله) [البقرة: 246]، وقال: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة: 246]. فى الآية: ذِكْرٌ لشريعةِ الجهادِ وقِدَمِها فى بني إسرائيلَ، وأنَّ اللهَ كتَبَها على أنبياءَ وأُمَمٍ قبلَ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم)، واللهُ لم يُجِبْ على كلِّ نبيِّ جهادَ الطَّلّبِ، ولكنَّه أَوْجَبَ جهادَ الدَّفْعِ على كلِّ أُمَّةٍ، بل لو لم يَنزِلْ به نقلٌ، لوجَبَ بالعقلِ؛ فلا يُسلمُ الإنسانُ عِرْضَهُ ودَمَهُ ومالَهُ لِمَنْ أرادَهُ؛ وهذا لا يَصِحُّ مِن حيوانٍ بَهِيمْ، فضلًا عن إنسانٍ كريمْ. وقِيلَ: إنَّ النبيَّ المذكورَ فى الآيةِ شمويلُ بنُ بالي بن عَلْقمةَ؛ قاله وَهْبُ بنُ منبَّهٍ. وقيل: شَمْعُونُ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدَّيُّ وغيرُهما. وقال قتادةُ: هو يُشَعُ بنُ نُونٍ. وفي الآيةِ إشارةٌ إلى كثرةِ الأنبياءِ مِن بعدِ موسى وقبلَ عيسى، وكانت الأنبياءُ بينَهما تجدِّدُ ما فى التوراةِ ممَّا أَمَاتَهُ الناسُ ونَسُوهُ وحَرَّفُوهُ، حتى جاءَ عيسى فغَيَّرَ اللهُ له مِن شِرْعةِ موسى أحكامًا؛ كما فى قولِه: (وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50]. حكمُ القتالِ، والحكمةُ منه: وفي الآيةِ: وجوبُ القتالِ فى سبيلِ اللهِ جماعةً، وألَّا يتفرَّقَ الناسُ مع إمكانِهِمْ إلى الجمعِ، وقد طلَبَ الملأُ مِن بني إسرائيلَ مِن نبيِّهم مَلِكًا – أيْ: خليفةً وأميرًا – بأتمِرُونَ بأمرِه، ويَجْتمِعونَ عليه، وكان في زمانِهم جَبَابِرةٌ وعَمَالِقةٌ يتسلَّطونَ عليهم بإخراجِهِمْ مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ وأموالِهِمْ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ والسدِّيُّ وغيرُهما. وفي الآيةِ: رحمةُ النبيَّ بأُمَّتِهِ أنْ كُتِبَ عليهِمُ القتالُ ألَّا يُقاتِلوا فيأثَمُوا، وهم في سَعَةٍ قبلَ فَرْضِهِ عليهِم؛ وذلك لِمَا عَلِمَهُ مِن سابقِ حالِهِمْ مِن تفريطٍ وعدمِ وفاءٍ، وفي هذا ألَّا يقدِّمَ الأميرُ للقتالِ إلا أهلَ العزمِ والشِّدِّةِ والثَّبَابِ؛ حتى لا يُخذَلَ المسلِمونَ، وإنْ أخرَجَهُمْ إلى الجهادِ لِطَلَبِهم أو لأَمْنِ مَكْرِهم؛ ألَّا يَخْلُفُوهُ في بلدِهِ بِسُوءِ، فلا يَجْعَلْهم محلَّ اعتمادِهِ فينفرِدُوا بحمايةِ ثَغْرٍ، فيتسلَّلَ عدوٌّ مِن جِهَتِهِم. وقد كان المنافِقونَ يخرُجُونَ من النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وهو يَعْلَمُهم؛ تأليفًا لهم، أو طمَعًا في مَغْنَمٍ، وأَمْنًا مِن أنْ يَخْلُفُوهُ بشرٍّ، وإذا دخَلَتِ الدُّنيا في قلبِ المجاهِدينَ، وقَعَ التنازُعُ في صورةِ الانتصارِ للحقِّ، ونزَلَ الافتراقُ وتَبِعَهُ الفَشَلُ، وكلَّما كانَ الإنسانُ أقربَ إلى الآخرةِ، فالقليلُ مِن الدُّنيا ثَقيلٌ عليه، فالمقاتِلُ أقرَبُ للموتِ مِن المسالِمِ، فوجَبَ عليه أن يدَعَ الدُّنيا وطَمَعَ النفسِ؛ حتى لا يُفسِدَ عليه ذلك جهادَهُ وجهادَ الأُمَّةِ، وإذا وقَعَ في الأُمَّةِ فشلٌ، فلْيُفتَّشْ عن طمعِ الدُّنيا؛ فإنَّ المجاهِدِينَ يُهْزَمُونَ بسببِ أطماعِ القلوبِ، وخفايا الذنوبِ؛ ففي أُحُدٍ قال ابنُ مسعودٍ: "لَوْ حَلفْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَجَوْتُ أَنْ أَبرَّ: إِنَّهُ ليسَ أَحدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنيا، حتى أَنزَلَ اللهُ (عز وجل): (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران: 152]؛ أخرَجَهُ أحمدُ في "مسندِه"، وابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جريرٍ. وكلَّما كان العبدُ في مكانٍ أعظَمَ، فالمؤاخَذَةُ عليه أكبَرُ؛ فالمجاهِدُ في موضِعٍ عظيمٍ، وأمَلُهُ قصيرٌ يقتضي التجرُّدَ؛ فمِلْءُ الكفِّ مِن الهَوَى يُفسِدُ عليه ما يُفسِدُهُ مثاقيلُ الهَوَى على غيرِ المجاهدِ. الاجتماعُ في القتالِ: وفي الآية: مسألتانِ مُهِمَّتانِ هما المَقْصُودتانِ مِن ذِكْرِ الآيةِ هُنا: أُولَاهما: في قولِهِ تعالى: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقولِهِ تعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) [البقرة: 247]؛ وذلك لوجوبِ التأميرِ في الجهادِ، أميرًا تجتمِعُ عليه الكلمةُ، ويَقْوَى على مقابَلةِ العدوِّ؛ وذلك أن الجِهادَ يحتاجُ إلى تعاضُدٍ بينهم وتآمُرٍ على العدوِّ؛ وهذا لا يكونُ إلا باجتماعٍ؛ وهذا يدلُّ عليه العقلُ والنقلُ، وكان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لا يَبْعَثُ جيشًا ولا سَرِيَّةً إلا أمَّرَ عليهِم أميرًا، وفي الحديثِ: "كان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) إذا بعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بتَقْوَى اللهِ". التأميرُ وأهميَّتُهُ: بل كان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَحُثُّ على التأميرِ في كلِّ سَفَرٍ ولو في أَمْنٍ؛ كما فى حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريَّ؛ قال (صلى الله عليه وسلم): (إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ). وهذا اجتماعٌ قليلٌ أمَرَ بالإمارةِ فيهِ؛ فكيف بما هو أكثَرُ منه؟! وكلَّما كَثُرَ الناسُ وضَعُفَتِ الإمامةُ فيهم، وَهَنوا؛ فالإمامُ يُقِيمُ الحدودَ، وينصُرُ المظلومَ، ويُهِيبُ مَنْ يتربَّصُ الفسادَ، وكثيرًا ما يَظُنُّ العامَّةُ أنَّ أَمْرَهُمْ مستقيمٌ تحتَ إمامٍ صالح، فيَظُنُّونَ أنَّ استقامةَ أمرِهِم لصلاحِهِم، فلا يَرَوْنَ لإمامِهِمْ حاجةً، فإذا زالَ الإمامُ، أفسَدَ بعضُهُمْ بعضًا، وقتَلَ بعضُهُمْ بَعضًا، وظهَرَتِ الأطماعُ ومكامِنُ الأهواءِ التي يَدفِنُها الإمامُ فيهم بِهيْبَتِهِ. والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًأ، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، وتُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والاجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالحٍ كالجَسَدِ بلا رأس صحيحٍ. وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ: ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ. وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ. وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ. وأصول العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلًا لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟! فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوَّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ. وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ فى غيرِ وِلَايتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه. وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحت رايةِ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال: (مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ)، ولمن يطلُب هو مِن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه. شروطُ جهاد الدفعِ: وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلها الدفع عن حِمَاهُم؛ كلُّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالًا أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ. وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفع، كما في قولِه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِن أَرضِهم، فلم يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك. وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمام يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمام عن جهادِ الدفعِ؛ لأن الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّن منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماع على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ. المسألةُ الثانيةُ: سُمِّيَ القتالَ في الآيةِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، مع كونِهِم يقاتِلُونَ بسببِ إخراجِهم من ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ، لا لإعلاءِ كلمةِ اللهِ وإقامةِ حُكْمِه؛ وذلك لأنَّ جِهادَ الدفعِ عنِ النفسِ والعِرْضِ والمالِ لا تُشترَطُ له نِيَّةٌ؛ لما جاءَ فى "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)، وفي "السننِ"؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا" (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ ، أَوْ دُونَ دَمِهِ ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ). ـــــــــــــ (1)مقال منتقى من كتاب (التفسير والبيان لأحكام القرآن)، للدكتور الأسير عبد العزيز الطريفي، فك الله أسره، ص512 وما بعدها.
وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله؟
د. عبد العزيز الطريفي(1)

قال تعالى: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله) [البقرة: 246]، وقال: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة: 246].

فى الآية: ذِكْرٌ لشريعةِ الجهادِ وقِدَمِها فى بني إسرائيلَ، وأنَّ اللهَ كتَبَها على أنبياءَ وأُمَمٍ قبلَ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم)، واللهُ لم يُجِبْ على كلِّ نبيِّ جهادَ الطَّلّبِ، ولكنَّه أَوْجَبَ جهادَ الدَّفْعِ على كلِّ أُمَّةٍ، بل لو لم يَنزِلْ به نقلٌ، لوجَبَ بالعقلِ؛ فلا يُسلمُ الإنسانُ عِرْضَهُ ودَمَهُ ومالَهُ لِمَنْ أرادَهُ؛ وهذا لا يَصِحُّ مِن حيوانٍ بَهِيمْ، فضلًا عن إنسانٍ كريمْ.

وقِيلَ: إنَّ النبيَّ المذكورَ فى الآيةِ شمويلُ بنُ بالي بن عَلْقمةَ؛ قاله وَهْبُ بنُ منبَّهٍ.
وقيل: شَمْعُونُ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدَّيُّ وغيرُهما.
وقال قتادةُ: هو يُشَعُ بنُ نُونٍ.

وفي الآيةِ إشارةٌ إلى كثرةِ الأنبياءِ مِن بعدِ موسى وقبلَ عيسى، وكانت الأنبياءُ بينَهما تجدِّدُ ما فى التوراةِ ممَّا أَمَاتَهُ الناسُ ونَسُوهُ وحَرَّفُوهُ، حتى جاءَ عيسى فغَيَّرَ اللهُ له مِن شِرْعةِ موسى أحكامًا؛ كما فى قولِه: (وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50].

حكمُ القتالِ، والحكمةُ منه:
وفي الآيةِ: وجوبُ القتالِ فى سبيلِ اللهِ جماعةً، وألَّا يتفرَّقَ الناسُ مع إمكانِهِمْ إلى الجمعِ، وقد طلَبَ الملأُ مِن بني إسرائيلَ مِن نبيِّهم مَلِكًا – أيْ: خليفةً وأميرًا – بأتمِرُونَ بأمرِه، ويَجْتمِعونَ عليه، وكان في زمانِهم جَبَابِرةٌ وعَمَالِقةٌ يتسلَّطونَ عليهم بإخراجِهِمْ مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ وأموالِهِمْ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ والسدِّيُّ وغيرُهما.

وفي الآيةِ: رحمةُ النبيَّ بأُمَّتِهِ أنْ كُتِبَ عليهِمُ القتالُ ألَّا يُقاتِلوا فيأثَمُوا، وهم في سَعَةٍ قبلَ فَرْضِهِ عليهِم؛ وذلك لِمَا عَلِمَهُ مِن سابقِ حالِهِمْ مِن تفريطٍ وعدمِ وفاءٍ، وفي هذا ألَّا يقدِّمَ الأميرُ للقتالِ إلا أهلَ العزمِ والشِّدِّةِ والثَّبَابِ؛ حتى لا يُخذَلَ المسلِمونَ، وإنْ أخرَجَهُمْ إلى الجهادِ لِطَلَبِهم أو لأَمْنِ مَكْرِهم؛ ألَّا يَخْلُفُوهُ في بلدِهِ بِسُوءِ، فلا يَجْعَلْهم محلَّ اعتمادِهِ فينفرِدُوا بحمايةِ ثَغْرٍ، فيتسلَّلَ عدوٌّ مِن جِهَتِهِم.

وقد كان المنافِقونَ يخرُجُونَ من النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وهو يَعْلَمُهم؛ تأليفًا لهم، أو طمَعًا في مَغْنَمٍ، وأَمْنًا مِن أنْ يَخْلُفُوهُ بشرٍّ، وإذا دخَلَتِ الدُّنيا في قلبِ المجاهِدينَ، وقَعَ التنازُعُ في صورةِ الانتصارِ للحقِّ، ونزَلَ الافتراقُ وتَبِعَهُ الفَشَلُ، وكلَّما كانَ الإنسانُ أقربَ إلى الآخرةِ، فالقليلُ مِن الدُّنيا ثَقيلٌ عليه، فالمقاتِلُ أقرَبُ للموتِ مِن المسالِمِ، فوجَبَ عليه أن يدَعَ الدُّنيا وطَمَعَ النفسِ؛ حتى لا يُفسِدَ عليه ذلك جهادَهُ وجهادَ الأُمَّةِ، وإذا وقَعَ في الأُمَّةِ فشلٌ، فلْيُفتَّشْ عن طمعِ الدُّنيا؛ فإنَّ المجاهِدِينَ يُهْزَمُونَ بسببِ أطماعِ القلوبِ، وخفايا الذنوبِ؛ ففي أُحُدٍ قال ابنُ مسعودٍ: "لَوْ حَلفْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَجَوْتُ أَنْ أَبرَّ: إِنَّهُ ليسَ أَحدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنيا، حتى أَنزَلَ اللهُ (عز وجل): (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران: 152]؛ أخرَجَهُ أحمدُ في "مسندِه"، وابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جريرٍ.

وكلَّما كان العبدُ في مكانٍ أعظَمَ، فالمؤاخَذَةُ عليه أكبَرُ؛ فالمجاهِدُ في موضِعٍ عظيمٍ، وأمَلُهُ قصيرٌ يقتضي التجرُّدَ؛ فمِلْءُ الكفِّ مِن الهَوَى يُفسِدُ عليه ما يُفسِدُهُ مثاقيلُ الهَوَى على غيرِ المجاهدِ.

الاجتماعُ في القتالِ:
وفي الآية: مسألتانِ مُهِمَّتانِ هما المَقْصُودتانِ مِن ذِكْرِ الآيةِ هُنا:
أُولَاهما: في قولِهِ تعالى: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقولِهِ تعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) [البقرة: 247]؛ وذلك لوجوبِ التأميرِ في الجهادِ، أميرًا تجتمِعُ عليه الكلمةُ، ويَقْوَى على مقابَلةِ العدوِّ؛ وذلك أن الجِهادَ يحتاجُ إلى تعاضُدٍ بينهم وتآمُرٍ على العدوِّ؛ وهذا لا يكونُ إلا باجتماعٍ؛ وهذا يدلُّ عليه العقلُ والنقلُ، وكان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لا يَبْعَثُ جيشًا ولا سَرِيَّةً إلا أمَّرَ عليهِم أميرًا، وفي الحديثِ: "كان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) إذا بعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بتَقْوَى اللهِ".

التأميرُ وأهميَّتُهُ:
بل كان النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَحُثُّ على التأميرِ في كلِّ سَفَرٍ ولو في أَمْنٍ؛ كما فى حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريَّ؛ قال (صلى الله عليه وسلم): (إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ).

وهذا اجتماعٌ قليلٌ أمَرَ بالإمارةِ فيهِ؛ فكيف بما هو أكثَرُ منه؟! وكلَّما كَثُرَ الناسُ وضَعُفَتِ الإمامةُ فيهم، وَهَنوا؛ فالإمامُ يُقِيمُ الحدودَ، وينصُرُ المظلومَ، ويُهِيبُ مَنْ يتربَّصُ الفسادَ، وكثيرًا ما يَظُنُّ العامَّةُ أنَّ أَمْرَهُمْ مستقيمٌ تحتَ إمامٍ صالح، فيَظُنُّونَ أنَّ استقامةَ أمرِهِم لصلاحِهِم، فلا يَرَوْنَ لإمامِهِمْ حاجةً، فإذا زالَ الإمامُ، أفسَدَ بعضُهُمْ بعضًا، وقتَلَ بعضُهُمْ بَعضًا، وظهَرَتِ الأطماعُ ومكامِنُ الأهواءِ التي يَدفِنُها الإمامُ فيهم بِهيْبَتِهِ.

والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًأ، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، وتُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والاجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالحٍ كالجَسَدِ بلا رأس صحيحٍ.

وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ:

ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ.

وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ.
وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ.

وأصول العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلًا لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟!

فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوَّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.

وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ فى غيرِ وِلَايتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.

وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحت رايةِ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال: (مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ)، ولمن يطلُب هو مِن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.

شروطُ جهاد الدفعِ:
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلها الدفع عن حِمَاهُم؛ كلُّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالًا أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.

وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفع، كما في قولِه: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِن أَرضِهم، فلم يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك.

وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمام يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمام عن جهادِ الدفعِ؛ لأن الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّن منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماع على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ.

المسألةُ الثانيةُ: سُمِّيَ القتالَ في الآيةِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، مع كونِهِم يقاتِلُونَ بسببِ إخراجِهم من ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ، لا لإعلاءِ كلمةِ اللهِ وإقامةِ حُكْمِه؛ وذلك لأنَّ جِهادَ الدفعِ عنِ النفسِ والعِرْضِ والمالِ لا تُشترَطُ له نِيَّةٌ؛ لما جاءَ فى "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)، وفي "السننِ"؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا" (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ ، أَوْ دُونَ دَمِهِ ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).
ـــــــــــــ
(1)مقال منتقى من كتاب (التفسير والبيان لأحكام القرآن)، للدكتور الأسير عبد العزيز الطريفي، فك الله أسره، ص512 وما بعدها.
‏٣٠‏/١٢‏/٢٠١٧ ٥:٥٣ م‏
آليات التغيير والرؤى التائهة د. @[100002583464860:2048:عطية عدلان] الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لست أعني بالتغيير مطلق التغيير، وإنما أعني به ذلك المعنى الخاص الذي لا يفتأ يداعب أخيلة الأحرار بالليل والنهار، ويعدُّ الخطوة الأولى على طريق التغيير الكبير المنشود؛ ما هي آليات هذا التغيير ؟ وما هو القول الفصل في هذ المسألة التي غدت إحدى المعضلات الكبرى في هذه المرحلة من حياة الأمَّة. ومفتاح التفكير الصحيح في هذه المسألة هو تكييفها بما يضعها في موضعها الصحيح دون تقديم ولا تأخير ولا رفع ولا خفض، فالحديث هنا عن (الآليات) والأدوات، لا عن المبادئ والأسس والأحكام، عن الوسائل والوسائط لا عن الغايات والمقاصد، عن أمور هي في أصلها اجتهادية ولا تدخل عليها الأحكام الثابتة والقوانين الصارمة إلا للتأطير والتنظيم بما يُعَظِّم الاستفادة منها ويُغَلِّب منفعتها على مضرتها، ولا تنقلب في يوم من الأيام إلى أحكام إلا وهي منوطة بمرحلة معينة يخضع تحديدها - بعد انقطاع الوحي بوفاة صاحب الشرع - للاجتهاد والتقدير والمشورة والتدبير. لذلك لم يكن وجيها أن يُنَصَّ على آلية بعينها في مواثيق تطرح على أنَّها جملة من المبادئ التي يجب على الجميع أن يلتزموا بها دون تغيير ولا تحوير، فالمبادئ سمتها الثبات ومنبعها الأصول العقدية الثابتة، بينما الآليات طابعها التغير ومنبعها الاجتهاد البشريّ المتغير، وليس بإمكان أحد أن يخلط بينهما وهو في مأمن من الاتهام بالتخليط. فالسلمية - مثلاً - كأداة للتغيير وآلية من آليات الثورة على الاستبداد والظلم ليست من قبيل المبادئ والأسس حتى تتوسط الوثائق والمواثيق ويُنَصَّ عليها كشرط لاجتماع الناس و(اصطفافهم!)، وما يقال عن السلمية يقال عن العسكرة، ويقال كذلك عن كل ما بين السلمية التامَّة والعسكرة العامَّة من مستويات تختلف في أسلوبها وتتباين في قدر ما تتمتع به من ليونة أو خشونة، واعتبار وسيلة من هذه الوسائل مبدأً يلتف الناس حوله طوعا وكرها تصرف من الكبار غاية في التخلف والبلادة؛ لأنَّه يفضي إلى نتائج غاية في التدمير والتحطيم. أول هذه النتائج قتل الابتكار والتجديد الذي يقتضيه تغير الأحوال وتطور الأحداث؛ لأنَّ الوسائل والآليات هي حقل الابتكار ومحضن التوليد والتجديد، ومن ثمَّ يصاب الجيل بأحد دائين لا مناص من الابتلاء بأحدهما على الاتفاق أو الافتراق: التبعية المطلقة أو الانفلات المطلق، ثاني هذه النتائج مصادرة حق القائمين على التغيير في استبدال الوسائل المتبعة بوسائل جديدة تناسب المستجدات، وتستجيب للمتغيرات، ثالث هذه النتائج هو تعثر الوحدة وتعسرها؛ لأنَّ جمع الناس على أمر اجتهاديّ - إذا لم يكونوا غنماً تساق - ضرب من المحال. فإذا أردنا أن نسترشد - في هذا الصدد - بالشريعة الربانية فسنجد أنفسنا أمام ناموس ثابت وقانون مُطَّرِد، ولنضرب لذلك أمثلة - وبالمثال يتضح المقال - من هذه الأمثلة: دفع الصائل، فدفع الصيَّال الذي يصول على النفس أو العرض أو المال حق وواجب، وهذا حكم ثابت لا يتغير، أمَّا الوسيلة التي يندفع بها فهي موكولة لاجتهاد الدافع، ودخول الأحكام الاجتهادية هنا إنَّما يكون لتنظيم الوسيلة وترتيبها على نحو يحقق المنفعة بأقل قدر ممكن من المضرة، ويضمن انضباط الوسيلة على السنن العام، فإن أمكن دفعه بالزجر لم يجز الضرب، وإن أمكن بالضرب لم يجز القتل، وإن لم يمكن إلا بالقتل وكان ممكناً مستطاعاً تعيَّن. وحق الشَّفَة - وأدناه حق الإنسان في شربة الماء التي يحفظ بها حياته - ثابت بحكم الشرع؛ لحديث: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنَّار" وللأصول الشرعية العامَّة التي تقرر حق الإنسان في الحياة، وتؤكد على مقصد حفظ النفس، أمّا وسيلة تحصيل ذلك الحق ممن منعه فهي موكولة لاجتهاد صاحب الحق بحسب الحال، وتأتي الأحكام الاجتهادية لتنظم الوسيلة بما يحقق المقصود بأقل قدر ممكن من المفاسد، وتفرق بين الأحوال المختلفة لمن يحوز الماء ويبسط يمينه عليه ويمنعه. وحق الإمام في تحصيل الزكاة عنوة ممن منعها ثابت بأحكام لا تتغير، بينما الوسيلة مردَّها لاجتهاده بحسب الحال، وتأتي الأحكام الاجتهادية لتنظم هذا الحق بما يحقق المصلحة بأقل قدر ممكن من المفسدة، فإن كان المانعون غير متترسين بشوكة أخذها منهم عنوة وعزرهم بما يراه رادعا زاجرا، وإن كانوا ممتنعين ذوي شوكة قاتلهم، وهكذا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وواجب الجهاد في سبيل الله. فالجهاد في سبيل الله أوسع بكثير من القتال في سبيل الله، وما القتال إلا وسيلة من وسائل الجهاد وآلية من آلياته، بدليل قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في مكَّة في آية مكية من سورة مكية باتفاق: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً) أي جاهدهم بالحق والقرآن، جاهدهم بالدعوة والبلاغ والبيان، فالجهاد أحد أركان هذا الدين وأحد دعائمه وأسسه، وغايته دفع الفتنة وتحقيق سيادة الشريعة - وهذه أعلى مراتب التغيير - ووسائله تتدرج من الدعوة والبلاغ وتنتهي بالقتال والمواجهة المسلحة، وبرغم أنَّ القتال قد تقرر وجوبه بنصوص القرآن القطعية إلا أنَّ مجموع النصوص يقرر المرحلية المتدرجة من الكفّ عن المواجهة المسلحة مع الاستمرار في الجهاد بالبيان إلى قتال الناس كافة حتى يكون الدين كله لله، وهذا يعني أنَّ الاجتهاد يتدخل في تحديد المرحلة التي يتنزل عليها الحكم الشرعيّ المناسب لها، وهو أمر تتباين في الاجتهادات. فما لم يكن للأمة نظام واحد يوحد وجهتها بإمام مطاع أو أهل حل وعقد مجتمعين فليس لأحد أن يلزم الناس باجتهاده، وليس لأحد أن يتكلف جمعهم على آلية واحدة يجعلها ثابتاً من الثوابت أو أصلا من الأصول، ثم يرتب على ذلك الأوصاف والألقاب: فهذا منبطح أو عميل وهذا إرهابي أو دخيل، وليس لأحد أن يحرم على الناس ما لم يحرمه الله تعالى. والذي يحتمه النظر أنَّه - ما لم يكن للأمة نظام واحد يوحد وجهتها بإمام مطاع أو أهل حل وعقد مجتمعين - يجب أن يُوكل النّاس لاجتهادهم؛ فلا يُثَرَّب على أحد فيما يجتهد فيه من الوسائل لدفع الباطل، وأن يكون الاجتماع على الثوابت والمبادئ وحسب، ثم يتدخل فقه الخلاف وإدارة الاختلاف لتنسيق الجهود وتقريب المسافات بين الاجتهادات المتباينة. وإنَّ مما ينبغي أن نتذكره ونذكر به أنَّ أنموذج 25 يناير فيه ملحوظتان يغفل عنهما كثير من الناس، الأولى: أنَّ ظروف يناير وملابساته ليست مستمرة ولا دائمة حتى نقضي باستمرار شعارات السلمية المحضة التي كانت ترفع في الميدان، الثانية أن انهيار رأس النظام لم يحدث بالسلمية المحضة، وإنما حدث بانفلات الزمام يوم 28 يناير، ولولا حرق الأقسام واقتحام المؤسسات ما كان هناك تغيير ولا تحويل. وأخيرا أقول إنَّ الوسائل والآليات ذات طبيعة مرنة مطاطة تستجيب لاختلاف الأزمان والأماكن والأحوال، فمن رام تحويلها إلى أسس فهو مبتغ تغيير الطبيعة ومعاندة الفطرة، وهذا لا يسوغ لأنَّه لن يكون.
آليات التغيير والرؤى التائهة
د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لست أعني بالتغيير مطلق التغيير، وإنما أعني به ذلك المعنى الخاص الذي لا يفتأ يداعب أخيلة الأحرار بالليل والنهار، ويعدُّ الخطوة الأولى على طريق التغيير الكبير المنشود؛ ما هي آليات هذا التغيير ؟ وما هو القول الفصل في هذ المسألة التي غدت إحدى المعضلات الكبرى في هذه المرحلة من حياة الأمَّة.

ومفتاح التفكير الصحيح في هذه المسألة هو تكييفها بما يضعها في موضعها الصحيح دون تقديم ولا تأخير ولا رفع ولا خفض، فالحديث هنا عن (الآليات) والأدوات، لا عن المبادئ والأسس والأحكام، عن الوسائل والوسائط لا عن الغايات والمقاصد، عن أمور هي في أصلها اجتهادية ولا تدخل عليها الأحكام الثابتة والقوانين الصارمة إلا للتأطير والتنظيم بما يُعَظِّم الاستفادة منها ويُغَلِّب منفعتها على مضرتها، ولا تنقلب في يوم من الأيام إلى أحكام إلا وهي منوطة بمرحلة معينة يخضع تحديدها - بعد انقطاع الوحي بوفاة صاحب الشرع - للاجتهاد والتقدير والمشورة والتدبير.

لذلك لم يكن وجيها أن يُنَصَّ على آلية بعينها في مواثيق تطرح على أنَّها جملة من المبادئ التي يجب على الجميع أن يلتزموا بها دون تغيير ولا تحوير، فالمبادئ سمتها الثبات ومنبعها الأصول العقدية الثابتة، بينما الآليات طابعها التغير ومنبعها الاجتهاد البشريّ المتغير، وليس بإمكان أحد أن يخلط بينهما وهو في مأمن من الاتهام بالتخليط.

فالسلمية - مثلاً - كأداة للتغيير وآلية من آليات الثورة على الاستبداد والظلم ليست من قبيل المبادئ والأسس حتى تتوسط الوثائق والمواثيق ويُنَصَّ عليها كشرط لاجتماع الناس و(اصطفافهم!)، وما يقال عن السلمية يقال عن العسكرة، ويقال كذلك عن كل ما بين السلمية التامَّة والعسكرة العامَّة من مستويات تختلف في أسلوبها وتتباين في قدر ما تتمتع به من ليونة أو خشونة، واعتبار وسيلة من هذه الوسائل مبدأً يلتف الناس حوله طوعا وكرها تصرف من الكبار غاية في التخلف والبلادة؛ لأنَّه يفضي إلى نتائج غاية في التدمير والتحطيم.

أول هذه النتائج قتل الابتكار والتجديد الذي يقتضيه تغير الأحوال وتطور الأحداث؛ لأنَّ الوسائل والآليات هي حقل الابتكار ومحضن التوليد والتجديد، ومن ثمَّ يصاب الجيل بأحد دائين لا مناص من الابتلاء بأحدهما على الاتفاق أو الافتراق: التبعية المطلقة أو الانفلات المطلق، ثاني هذه النتائج مصادرة حق القائمين على التغيير في استبدال الوسائل المتبعة بوسائل جديدة تناسب المستجدات، وتستجيب للمتغيرات، ثالث هذه النتائج هو تعثر الوحدة وتعسرها؛ لأنَّ جمع الناس على أمر اجتهاديّ - إذا لم يكونوا غنماً تساق - ضرب من المحال.

فإذا أردنا أن نسترشد - في هذا الصدد - بالشريعة الربانية فسنجد أنفسنا أمام ناموس ثابت وقانون مُطَّرِد، ولنضرب لذلك أمثلة - وبالمثال يتضح المقال - من هذه الأمثلة: دفع الصائل، فدفع الصيَّال الذي يصول على النفس أو العرض أو المال حق وواجب، وهذا حكم ثابت لا يتغير، أمَّا الوسيلة التي يندفع بها فهي موكولة لاجتهاد الدافع، ودخول الأحكام الاجتهادية هنا إنَّما يكون لتنظيم الوسيلة وترتيبها على نحو يحقق المنفعة بأقل قدر ممكن من المضرة، ويضمن انضباط الوسيلة على السنن العام، فإن أمكن دفعه بالزجر لم يجز الضرب، وإن أمكن بالضرب لم يجز القتل، وإن لم يمكن إلا بالقتل وكان ممكناً مستطاعاً تعيَّن.

وحق الشَّفَة - وأدناه حق الإنسان في شربة الماء التي يحفظ بها حياته - ثابت بحكم الشرع؛ لحديث: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنَّار" وللأصول الشرعية العامَّة التي تقرر حق الإنسان في الحياة، وتؤكد على مقصد حفظ النفس، أمّا وسيلة تحصيل ذلك الحق ممن منعه فهي موكولة لاجتهاد صاحب الحق بحسب الحال، وتأتي الأحكام الاجتهادية لتنظم الوسيلة بما يحقق المقصود بأقل قدر ممكن من المفاسد، وتفرق بين الأحوال المختلفة لمن يحوز الماء ويبسط يمينه عليه ويمنعه.

وحق الإمام في تحصيل الزكاة عنوة ممن منعها ثابت بأحكام لا تتغير، بينما الوسيلة مردَّها لاجتهاده بحسب الحال، وتأتي الأحكام الاجتهادية لتنظم هذا الحق بما يحقق المصلحة بأقل قدر ممكن من المفسدة، فإن كان المانعون غير متترسين بشوكة أخذها منهم عنوة وعزرهم بما يراه رادعا زاجرا، وإن كانوا ممتنعين ذوي شوكة قاتلهم، وهكذا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وواجب الجهاد في سبيل الله.

فالجهاد في سبيل الله أوسع بكثير من القتال في سبيل الله، وما القتال إلا وسيلة من وسائل الجهاد وآلية من آلياته، بدليل قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في مكَّة في آية مكية من سورة مكية باتفاق: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً) أي جاهدهم بالحق والقرآن، جاهدهم بالدعوة والبلاغ والبيان، فالجهاد أحد أركان هذا الدين وأحد دعائمه وأسسه، وغايته دفع الفتنة وتحقيق سيادة الشريعة - وهذه أعلى مراتب التغيير - ووسائله تتدرج من الدعوة والبلاغ وتنتهي بالقتال والمواجهة المسلحة، وبرغم أنَّ القتال قد تقرر وجوبه بنصوص القرآن القطعية إلا أنَّ مجموع النصوص يقرر المرحلية المتدرجة من الكفّ عن المواجهة المسلحة مع الاستمرار في الجهاد بالبيان إلى قتال الناس كافة حتى يكون الدين كله لله، وهذا يعني أنَّ الاجتهاد يتدخل في تحديد المرحلة التي يتنزل عليها الحكم الشرعيّ المناسب لها، وهو أمر تتباين في الاجتهادات.

فما لم يكن للأمة نظام واحد يوحد وجهتها بإمام مطاع أو أهل حل وعقد مجتمعين فليس لأحد أن يلزم الناس باجتهاده، وليس لأحد أن يتكلف جمعهم على آلية واحدة يجعلها ثابتاً من الثوابت أو أصلا من الأصول، ثم يرتب على ذلك الأوصاف والألقاب: فهذا منبطح أو عميل وهذا إرهابي أو دخيل، وليس لأحد أن يحرم على الناس ما لم يحرمه الله تعالى.

والذي يحتمه النظر أنَّه - ما لم يكن للأمة نظام واحد يوحد وجهتها بإمام مطاع أو أهل حل وعقد مجتمعين - يجب أن يُوكل النّاس لاجتهادهم؛ فلا يُثَرَّب على أحد فيما يجتهد فيه من الوسائل لدفع الباطل، وأن يكون الاجتماع على الثوابت والمبادئ وحسب، ثم يتدخل فقه الخلاف وإدارة الاختلاف لتنسيق الجهود وتقريب المسافات بين الاجتهادات المتباينة.

وإنَّ مما ينبغي أن نتذكره ونذكر به أنَّ أنموذج 25 يناير فيه ملحوظتان يغفل عنهما كثير من الناس، الأولى: أنَّ ظروف يناير وملابساته ليست مستمرة ولا دائمة حتى نقضي باستمرار شعارات السلمية المحضة التي كانت ترفع في الميدان، الثانية أن انهيار رأس النظام لم يحدث بالسلمية المحضة، وإنما حدث بانفلات الزمام يوم 28 يناير، ولولا حرق الأقسام واقتحام المؤسسات ما كان هناك تغيير ولا تحويل.

وأخيرا أقول إنَّ الوسائل والآليات ذات طبيعة مرنة مطاطة تستجيب لاختلاف الأزمان والأماكن والأحوال، فمن رام تحويلها إلى أسس فهو مبتغ تغيير الطبيعة ومعاندة الفطرة، وهذا لا يسوغ لأنَّه لن يكون.
‏٢٦‏/١٢‏/٢٠١٧ ٨:١٩ م‏
بين مقاصد الشريعة وأحكام الشريعة.. تعارض أم تكامل؟ د. @[710607845:2048:وصفي أبو زيد] حينما نذكر هذا المصطلح المكوَّن من مركب إضافي (مقاصد الشريعة) فإنه لا يعني إلا شيئًا واحدًا حصرًا، هو أن لفظ المقاصد مضاف للشريعة، ولفظ الشريعة مضاف للمقاصد، فالمقاصد مستقاة من الشريعة ومأخوذة منها عبر مسالكها المعتبرة عند أهلها، والشريعة لا تُفهم إلا في ضوء هذه المقاصد؛ فمن جاءنا بمقصد نقول له: (من أين لك هذا، ومن أي النصوص أتيت به؟)، ومن فهم الشريعة بغير مقاصدها نقول له: (لقد عطلتَ الشريعة عن مسايرة الواقع واستيعاب مستجداته، وحَسَرْتَ سلطانها عن أن يُبسَطَ على الواقع بنوزاله والحياةِ بتغيراتها). الخوف من النصوص هناك من يظن أن النصوص الشرعية مُقيِّدة لحركة الإنسان، ولابد من الانطلاق من أرضية المصالح والمقاصد – في نظرهم طبعًا – لا من النصوص؛ كي نحقق مصالح الإنسان، ونعزز عمارة الحياة، ونقوم بحاجات الواقع، ونَفِي بمتطلبات العصر! والواقع أن هؤلاء لم يفهموا الشريعة ولم يعرفوا مقاصدها حق المعرفة، ولم يدرسوها أو يشموا رائحتها؛ فالشريعة نزلت أصلا لمصالح الناس في المعاش والمعاد جميعا، كما أطبق على ذلك علماء الأمة على مر العصور، وما جاءت النصوص إلا لذلك، ولذلك فحسب، ومن طالع كتاب (القواعد الكبرى) للعز بن عبد السلام، وغيره، يقف على هذا بكل وضوح؛ حيث أقام الشريعة كلها على مبدأٍ وحيد، هو: (جلب المصالح ودفع المفاسد) .. ومن تأمل التشريعات والأحكام والنصوص جميعا لم يجد نصًّا واحدًا نزل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة. كما أن المقاصد ليست شيئًا خارجًا عن ماهية الشريعة، أو مستوردًا من خارج نصوصها؛ وبناء على ذلك فإن المقاصد التي ستحررهم من النصوص – كما يرون – هي مقاصد وهمية لم تستثمر من مسالكها المعتبرة، وإنما جاءت من رغبتهم الجامحة في اتباع الهوى، والانسلاخ من التكليفات الشرعية، والمروق من النصوص كما يمرق السهم من الرمية. الخوف من المقاصد وهناك فريق آخر يرى أن فكرة المقاصد نفسها باب واسع للعلمانية، وما هي إلا شعار للإطاحة بنصوص الشريعة، ولافتة براقة للنفوذ منها إلى تفريغ الدين من مضمونه، والشريعة من محتواها، ولا تبقى هنالك إلا عناوين بلا مضامين، وأشكال بلا موضوعات، ومن ثم لا داعي لهذا العلم، ولا ضرورة لوجوده، فالأمة – في نظرهم - فهمت شريعتها وعملت بها قبل أن يوجد ما يسمى بـ (علم المقاصد)! وهؤلاء – في الواقع – لا يفهمون الشريعة كذلك ولا يفهمون مقاصدها، فهم لا يدركون أن الشريعة نفسها نصَّتْ على مقاصدها العليا والعامة والخاصة والجزئية، ولا يليق بالله تعالى الذي سمى نفسه (الحكيم) أن يخلق الخلق عبثا، ولا أن يشرع الشرع بلا غاية، وإنما خلق الخلق وأنزل الشرع لحكم وغايات ابتنى عليها الخلق والأمر: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). كما فات هؤلاء أن المقاصد بنت النصوص، ولا يمكن أن يكون هناك مقصد من خارج النصوص، ومن ثم لا تعارض بين نص ومقصد، ولا بين مقصد ونص؛ لأن كليهما من مصدر واحد ومن مشكاة واحدة .. إنه الله تبارك وتعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). طريق الأمن والوسطية ولكي يطمئن الفريقان فلابد من أن يدرس كلاهما الشريعة الإسلامية ومقاصدها دراسة معمقة توقف كلا منهما على حقيقة الشريعة وحقيقة مقاصدها، وليس ما يسمعوه حولهم أو من بعض من لا فقه له بالشريعة؛ فضلا عن مقاصدها. والذي يقفنا على الأمن المناقض للخوف سواء أكان منبعه النص أم المقصد، هو: أولا: معرفة - بل العلم والإيمان - أن الشريعة الإسلامية إنما نزلت لمصالح الناس، ولا يوجد نص أبدا لا صحيح ولا صريح ولا غير صريح إلا وهو يتغيا مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهذا القول لم يجادل فيها الظاهرية ولا بعض المعتزلة الذين أنكروا التعليل والتقصيد والقياس، لكنهم أثبتوا مصلحية الشريعة الإسلامية، وأنها نزلت لتحقيق مصالح الناس. قال الإمام الآمدي: "فالإجماع إذن منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحِكَم، وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر"([()الإحكام في أصول الأحكام: 2/210. علي بن محمد الآمدي أبو الحسن. تحقيق: د. سيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى. 1404هـ.]). وقال: "حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خليًّا عن الحكمة؛ إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد، وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام"([()الإحكام: 3/286.]). وتحت عنوان: "في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم"، قال: "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد"([()الإحكام: 3/296.]). وقال العز بن عبد السلام: "والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح؛ فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرًّا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر"([() قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/9. تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي. دار المعارف. بيروت. لبنان.]). وقال: "ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دقِّه وجِلِّه، وزجر عن كل شر دقِّه وجِلِّه؛ فإن الخير يُعبَّر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح"([()قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 160.]). وفي كلام هذين العالمين الأصوليين الكبيرين كفاية، وإلا لو تتبعنا أقوال العلماء لما كفانا ألف موضع، وكلام العلماء كافة في هذا المعنى الأكبر لا يختلف عن ذلك كثيرا. ثانيا: العلم بأن المقاصد بنت النصوص ومستقاة ومستقراة منها من خلال مسالكَ قرَّرها الأصوليون أغلبها - أو كلها – نصوصي أو يدور حول النصوص، و(يعتبر الكشف عن مقصد الشارع خطوة مهمة ومحورية يتوقف عليها تسديد الاجتهاد والتنزيل؛ فإذا كان التسديد فيهما يتوقف ـ في كثير من جوانبه ـ على معرفة مقاصد الأحكام، فإن معرفة مسالك الكشف عنها أمر سابق على ممارسة الاجتهاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ([() المقاصد الجزئية: 285. د. وصفي عاشور أبو زيد. دار المقاصد القاهرة. 2015م.]). فمن المسالك أو طرق الكشف عن المقصد: الاستقراء، وهو استقراء للنصوص، ومنه: مجرد الأمر والنهي، وهو في النصوص، ومنه: العلل المذكورة في الأوامر والنواهي، وهي منصوصة كذلك، ومنه: التأمل في اختلاف الفقهاء، وهم يختلفون في فهمهم للنصوص، ومنه: الاستنباط، وهو قائم على النصوص والنظر فيها، ومنه: مفهوم النص ومنطوقه ومعقوله، ومنه: سياق النص والقرائن المحتفة به ... إلخ .. فأين الخوف من المقاصد وأهلها؟ وهل هي بذلك تؤدي إلى هدم النصوص أو تكون بوابة للعلمانية وهي مأخوذة أساسًا من النصوص ومستقاة منها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! ثالثا: العلم بأن هناك ضوابط لاعتبار المقاصد، فليس كل مقصد نسمع به أو نقرؤه يعد معتبرا بمجرد أن فلانا قال به، فلابد من تمريره – كما يفعل الأصوليون وعلماء المقاصد - على ما يعرف في هذا العلم بـ (ضوابط اعتبار المقصد)، فإن تحقق بهذه الضوابط فبها ونعمت، وإلا فلا يُلزمنا أحد بما لم يُلزمنا به الشرع الشريف. والواقع أن (الحديث عن المقاصد يظل بلا أثر في الاستدلال الفقهي.. حتى توضع له ضوابط تضبطه وتضبط عمله، وتبين متى يكون معتبرًا ومتى لا يكون كذلك. ومن ناحية أخرى فإن ضبط المقاصد.. يُمكِّنُ من تقييم الأحكام والاجتهادات على اليقين أو الظن القريب لليقين، فإن الشريعة الإسلامية لا تراعي الأوهام أو التخيلات، بل توجب تركها والبعد عنها؛ ولذلك فلا يصلح المقصد الموهوم لضبط الاجتهاد، وهو ما يوفره عدم تحققه بضوابطه. ومن ناحية ثالثة فإن الحديث عن ضبط المقصد بضوابطه المعتبرة يؤهل المقصد لأن يقوم بوظائفه الأصولية والفقهية وغيرها ([() المقاصد الجزئية: 389.]). ومن هذه الضوابط: أن يستقى المقصد من مسالكه المقررة، وأن يكون المقصد ظاهرا، ومنضبطا، ومضطردًا، وألا يتعارض مع مقصد أعلى منه، وألا يعود على غيره بالإبطال ...إلخ. والحق أنه عند تدقيق النظر لا يوجد تعارض بين مقصد ونص أو بين مقصد ومقصد إلا في رأس الفقيه أو في عدم صحة النص، فالمنطق الصحيح والفهم الصحيح والفقه الراسخ يحول بين هذا التعارض كله إن ظهر، ومع هذا الفهم والفقه والرسوخ والاستيعاب والإدراك سيتبدد أي تعارض ظاهر، ونصل لمنهج سديد في التعامل مع التزاحم، ويتم تشغيل المقاصد بكل مراتبها وتفعيلها، ولن يضرب بعضها بعضًا، أو يلغي جزئيُّها كليَّها، أو يعودَ بعضُها على بعض بالإبطال. *** وبناء على ذلك فلا خوف من النصوص،كما أنه لا خوف من المقاصد؛ لأن كليهما من مصدر واحد، ولأن النصوص لا تُفهم إلا في ضوء مقاصدها، والمقاصد لا تُستقى إلا من النصوص، ولا يكون المقاصديُّ إلا نصوصيًّا، ولا النصوصيُّ إلا مقاصديًّا.. ومن ثم حين نقول مقاصد الشريعة فليس هذا بمعزل عن أحكام الشريعة، ولا أن المقاصد كلمة لا تتضمن أحكامها، وإنما المقاصد تعبر عن النصوص والأحكام، والنصوص تُثمر المقاصد، وكلاهما يُصدّق بعضُه بعضًا، ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يتكاملان ولا يتناقضان، ويتعاضدان ولا يتعارضان.
بين مقاصد الشريعة وأحكام الشريعة.. تعارض أم تكامل؟
د. وصفي أبو زيد

حينما نذكر هذا المصطلح المكوَّن من مركب إضافي (مقاصد الشريعة) فإنه لا يعني إلا شيئًا واحدًا حصرًا، هو أن لفظ المقاصد مضاف للشريعة، ولفظ الشريعة مضاف للمقاصد، فالمقاصد مستقاة من الشريعة ومأخوذة منها عبر مسالكها المعتبرة عند أهلها، والشريعة لا تُفهم إلا في ضوء هذه المقاصد؛ فمن جاءنا بمقصد نقول له: (من أين لك هذا، ومن أي النصوص أتيت به؟)، ومن فهم الشريعة بغير مقاصدها نقول له: (لقد عطلتَ الشريعة عن مسايرة الواقع واستيعاب مستجداته، وحَسَرْتَ سلطانها عن أن يُبسَطَ على الواقع بنوزاله والحياةِ بتغيراتها).

الخوف من النصوص

هناك من يظن أن النصوص الشرعية مُقيِّدة لحركة الإنسان، ولابد من الانطلاق من أرضية المصالح والمقاصد – في نظرهم طبعًا – لا من النصوص؛ كي نحقق مصالح الإنسان، ونعزز عمارة الحياة، ونقوم بحاجات الواقع، ونَفِي بمتطلبات العصر!

والواقع أن هؤلاء لم يفهموا الشريعة ولم يعرفوا مقاصدها حق المعرفة، ولم يدرسوها أو يشموا رائحتها؛ فالشريعة نزلت أصلا لمصالح الناس في المعاش والمعاد جميعا، كما أطبق على ذلك علماء الأمة على مر العصور، وما جاءت النصوص إلا لذلك، ولذلك فحسب، ومن طالع كتاب (القواعد الكبرى) للعز بن عبد السلام، وغيره، يقف على هذا بكل وضوح؛ حيث أقام الشريعة كلها على مبدأٍ وحيد، هو: (جلب المصالح ودفع المفاسد) .. ومن تأمل التشريعات والأحكام والنصوص جميعا لم يجد نصًّا واحدًا نزل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة.

كما أن المقاصد ليست شيئًا خارجًا عن ماهية الشريعة، أو مستوردًا من خارج نصوصها؛ وبناء على ذلك فإن المقاصد التي ستحررهم من النصوص – كما يرون – هي مقاصد وهمية لم تستثمر من مسالكها المعتبرة، وإنما جاءت من رغبتهم الجامحة في اتباع الهوى، والانسلاخ من التكليفات الشرعية، والمروق من النصوص كما يمرق السهم من الرمية.

الخوف من المقاصد

وهناك فريق آخر يرى أن فكرة المقاصد نفسها باب واسع للعلمانية، وما هي إلا شعار للإطاحة بنصوص الشريعة، ولافتة براقة للنفوذ منها إلى تفريغ الدين من مضمونه، والشريعة من محتواها، ولا تبقى هنالك إلا عناوين بلا مضامين، وأشكال بلا موضوعات، ومن ثم لا داعي لهذا العلم، ولا ضرورة لوجوده، فالأمة – في نظرهم - فهمت شريعتها وعملت بها قبل أن يوجد ما يسمى بـ (علم المقاصد)!

وهؤلاء – في الواقع – لا يفهمون الشريعة كذلك ولا يفهمون مقاصدها، فهم لا يدركون أن الشريعة نفسها نصَّتْ على مقاصدها العليا والعامة والخاصة والجزئية، ولا يليق بالله تعالى الذي سمى نفسه (الحكيم) أن يخلق الخلق عبثا، ولا أن يشرع الشرع بلا غاية، وإنما خلق الخلق وأنزل الشرع لحكم وغايات ابتنى عليها الخلق والأمر: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).

كما فات هؤلاء أن المقاصد بنت النصوص، ولا يمكن أن يكون هناك مقصد من خارج النصوص، ومن ثم لا تعارض بين نص ومقصد، ولا بين مقصد ونص؛ لأن كليهما من مصدر واحد ومن مشكاة واحدة .. إنه الله تبارك وتعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

طريق الأمن والوسطية

ولكي يطمئن الفريقان فلابد من أن يدرس كلاهما الشريعة الإسلامية ومقاصدها دراسة معمقة توقف كلا منهما على حقيقة الشريعة وحقيقة مقاصدها، وليس ما يسمعوه حولهم أو من بعض من لا فقه له بالشريعة؛ فضلا عن مقاصدها.

والذي يقفنا على الأمن المناقض للخوف سواء أكان منبعه النص أم المقصد، هو:
أولا: معرفة - بل العلم والإيمان - أن الشريعة الإسلامية إنما نزلت لمصالح الناس، ولا يوجد نص أبدا لا صحيح ولا صريح ولا غير صريح إلا وهو يتغيا مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهذا القول لم يجادل فيها الظاهرية ولا بعض المعتزلة الذين أنكروا التعليل والتقصيد والقياس، لكنهم أثبتوا مصلحية الشريعة الإسلامية، وأنها نزلت لتحقيق مصالح الناس.

قال الإمام الآمدي: "فالإجماع إذن منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحِكَم، وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر"([()الإحكام في أصول الأحكام: 2/210. علي بن محمد الآمدي أبو الحسن. تحقيق: د. سيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى. 1404هـ.]). وقال: "حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خليًّا عن الحكمة؛ إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد، وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام"([()الإحكام: 3/286.]).

وتحت عنوان: "في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم"، قال: "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد"([()الإحكام: 3/296.]).

وقال العز بن عبد السلام: "والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح؛ فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرًّا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر"([() قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/9. تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي. دار المعارف. بيروت. لبنان.]).

وقال: "ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دقِّه وجِلِّه، وزجر عن كل شر دقِّه وجِلِّه؛ فإن الخير يُعبَّر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح"([()قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 160.]).

وفي كلام هذين العالمين الأصوليين الكبيرين كفاية، وإلا لو تتبعنا أقوال العلماء لما كفانا ألف موضع، وكلام العلماء كافة في هذا المعنى الأكبر لا يختلف عن ذلك كثيرا.
ثانيا: العلم بأن المقاصد بنت النصوص ومستقاة ومستقراة منها من خلال مسالكَ قرَّرها الأصوليون أغلبها - أو كلها – نصوصي أو يدور حول النصوص، و(يعتبر الكشف عن مقصد الشارع خطوة مهمة ومحورية يتوقف عليها تسديد الاجتهاد والتنزيل؛ فإذا كان التسديد فيهما يتوقف ـ في كثير من جوانبه ـ على معرفة مقاصد الأحكام، فإن معرفة مسالك الكشف عنها أمر سابق على ممارسة الاجتهاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ([() المقاصد الجزئية: 285. د. وصفي عاشور أبو زيد. دار المقاصد القاهرة. 2015م.]).

فمن المسالك أو طرق الكشف عن المقصد: الاستقراء، وهو استقراء للنصوص، ومنه: مجرد الأمر والنهي، وهو في النصوص، ومنه: العلل المذكورة في الأوامر والنواهي، وهي منصوصة كذلك، ومنه: التأمل في اختلاف الفقهاء، وهم يختلفون في فهمهم للنصوص، ومنه: الاستنباط، وهو قائم على النصوص والنظر فيها، ومنه: مفهوم النص ومنطوقه ومعقوله، ومنه: سياق النص والقرائن المحتفة به ... إلخ .. فأين الخوف من المقاصد وأهلها؟ وهل هي بذلك تؤدي إلى هدم النصوص أو تكون بوابة للعلمانية وهي مأخوذة أساسًا من النصوص ومستقاة منها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
ثالثا: العلم بأن هناك ضوابط لاعتبار المقاصد، فليس كل مقصد نسمع به أو نقرؤه يعد معتبرا بمجرد أن فلانا قال به، فلابد من تمريره – كما يفعل الأصوليون وعلماء المقاصد - على ما يعرف في هذا العلم بـ (ضوابط اعتبار المقصد)، فإن تحقق بهذه الضوابط فبها ونعمت، وإلا فلا يُلزمنا أحد بما لم يُلزمنا به الشرع الشريف.

والواقع أن (الحديث عن المقاصد يظل بلا أثر في الاستدلال الفقهي.. حتى توضع له ضوابط تضبطه وتضبط عمله، وتبين متى يكون معتبرًا ومتى لا يكون كذلك.
ومن ناحية أخرى فإن ضبط المقاصد.. يُمكِّنُ من تقييم الأحكام والاجتهادات على اليقين أو الظن القريب لليقين، فإن الشريعة الإسلامية لا تراعي الأوهام أو التخيلات، بل توجب تركها والبعد عنها؛ ولذلك فلا يصلح المقصد الموهوم لضبط الاجتهاد، وهو ما يوفره عدم تحققه بضوابطه.

ومن ناحية ثالثة فإن الحديث عن ضبط المقصد بضوابطه المعتبرة يؤهل المقصد لأن يقوم بوظائفه الأصولية والفقهية وغيرها ([() المقاصد الجزئية: 389.]).

ومن هذه الضوابط: أن يستقى المقصد من مسالكه المقررة، وأن يكون المقصد ظاهرا، ومنضبطا، ومضطردًا، وألا يتعارض مع مقصد أعلى منه، وألا يعود على غيره بالإبطال ...إلخ.

والحق أنه عند تدقيق النظر لا يوجد تعارض بين مقصد ونص أو بين مقصد ومقصد إلا في رأس الفقيه أو في عدم صحة النص، فالمنطق الصحيح والفهم الصحيح والفقه الراسخ يحول بين هذا التعارض كله إن ظهر، ومع هذا الفهم والفقه والرسوخ والاستيعاب والإدراك سيتبدد أي تعارض ظاهر، ونصل لمنهج سديد في التعامل مع التزاحم، ويتم تشغيل المقاصد بكل مراتبها وتفعيلها، ولن يضرب بعضها بعضًا، أو يلغي جزئيُّها كليَّها، أو يعودَ بعضُها على بعض بالإبطال.

***

وبناء على ذلك فلا خوف من النصوص،كما أنه لا خوف من المقاصد؛ لأن كليهما من مصدر واحد، ولأن النصوص لا تُفهم إلا في ضوء مقاصدها، والمقاصد لا تُستقى إلا من النصوص، ولا يكون المقاصديُّ إلا نصوصيًّا، ولا النصوصيُّ إلا مقاصديًّا.. ومن ثم حين نقول مقاصد الشريعة فليس هذا بمعزل عن أحكام الشريعة، ولا أن المقاصد كلمة لا تتضمن أحكامها، وإنما المقاصد تعبر عن النصوص والأحكام، والنصوص تُثمر المقاصد، وكلاهما يُصدّق بعضُه بعضًا، ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يتكاملان ولا يتناقضان، ويتعاضدان ولا يتعارضان.
‏٢٢‏/١٢‏/٢٠١٧ ٥:٥٢ م‏
العلاقة بين الحاكم والمحكوم (2) مشروعية المعارضة السياسية د. @[1252740136:2048:البشير عصام المراكشي] الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. من الغريب حقا أن نحتاج في زمن الثورات والمظاهرات والمدافعات السياسية، السلمية حينا والعنيفة أحيانا أخرى، إلى بحث حكم المعارضة السياسية في الشريعة المطهرة! ولكن مشروعية هذا البحث تُستمدّ من أمرين اثنين: أولهما: أن الواجب على المسلم أن يسعى إلى معرفة حكم الله تعالى في كل شيء، وطريقُ ذلك الرجوع إلى الوحي بوسائل الاستنباط المقررة؛ ولا ينبغي الاغترار بكثرة من يتبنى رأيا من الآراء، فقد يكون الحق في خلافه. والثاني: أننا ابتلينا في هذا العصر بطائفة من كهنة السلاطين المغالين في معنى طاعة ولي الأمر، يكثرون الدندنة حول المنع من معارضة الحاكم مطلقا، ويجعلون كل نقد - مهما قلّ – ضربا من البدعة، ونوعا من الخروج على الإجماع، ومخالفة جادة العلماء والسلف الأولين! وكل ذلك ضرب من الهذيان، تولّى كبرَه أقوامٌ بقلوب أهل الأهواء، في أجساد العلماء! * في معنى المعارضة السياسية المقصود في هذا المقال بالمعارضة السياسية: المعارضة "السلمية"، فلا كلام لنا هنا عن المعارضة المسلحة أو الثورة العنيفة أو الانقلاب العسكري (وهي الأمور التي يجمعها المصطلح الفقهي التراثي: "الخروج على الحاكم")، بل لذلك حديث آخير قد يأتي في مقالات لاحقة إن شاء الله. وكل من يحمل الآثار السلفية والأقوال الفقهية الواردة في خصوص "الخروج" على "المعارضة السلمية" فهو أحد اثنين دون مراء: واهم في فهمه، أو مغرض في قصده. على أن بعض الناس قد يدّعي أن المعارضة السلمية بَريد الخروج المسلح، ومفضية إليه؛ فهو لا يحمل عليها حكم الخروج، إلا من جهة إعمال أصل سد الذريعة. وهذا – وإن كان محتملا من جهة الصناعة الفقهية الخالصة – فهو مشكل جدا من جهة اختزالِه مفهوم المعارضة السياسية السلمية في تجارب مخصوصة، تكتنفها ظروف شديدة التعقيد والتركيب، ثم تعميمِ تلك التجارب على المفهوم كله، توصلا إلى تحقيق كونه ذريعة تستدعي السدّ مطلقا. ولست أقصد بلفظ "السياسية" العملَ الحزبي البرلماني الديمقراطي، وإن كان ذلك داخلا في معنى "المعارضة السياسية" عند من يجيزه بضوابطه الشرعية، التي ليس هذا مقام بحثها ومناقشتها. لكن ما أقصده هو أعم من ذلك بكثير، فيشمل كل قول أو فعل، ذي حمولة سياسية، يراد به معارضة النظام الحاكم، بدءا بالكلمة العابرة في مجلس محصور، وانتهاء بالموقف السياسي المؤثر أو المظاهرة السلمية الحاشدة. فالمعارضة السياسية إذن هي كل نشاط سياسي يُقصد به انتقادُ سياسات الحاكم والرقابة عليه؛ سواء بالسعي للحلول محله في إطار تداول سلمي على السلطة، أو كان انتقادا محضا بغرض التصحيح والإصلاح. فليس السعيُ لتحقيق التداول جزءا من ماهية المعارضة السياسية. ولذلك فإن كثيرا من الأحزاب المعارِضة في الديمقراطيات العتيدة، تعلم يقينا أنها لا يمكن أن تصل للحكم أبدا، وهي مع ذلك تمارس دورها الرقابي النقدي دون هوادة. ولنا أن نسأل: لِم المعارضةُ أصلا؟ وما وجه الحاجة إليها؟ والجواب ظاهر لا يحتاج إلى كبير عناء في استخراجه. فالحاكمُ – سواء أكان الحكم فرديا استبداديا أو كان جماعيا في إطارٍ مؤسَّسيٍّ واضح – بشر من البشر، لا يمكن أن يسلم من الأخطاء، المتعمدة أو غير المتعمدة؛ وقلَّ مِن الناس من يتنبّه لأخطائه بنفسه، بل الغالب أن يحتاج إلى أن يكون معه مَن يُنبهه ويوقظه، ويكون له كالمرآة التي يرى فيها عيوبه. فالمعارضة تحقق التوازن السياسي، وتمنع من الاستبداد الفردي، ومن الجَور في الحكم، ومن القرارات غير المناسبة، وتعين على ضمان الحقوق المكفولة لعموم الناس في الشريعة المطهرة. *المعارضة والطاعة ومن الشبهات المشتهرة التي يصرِف بها بعضُ المنتكسين من أهل الأهواء، الناسَ عن المعارضة السياسية، ادّعاؤهم أنها تنافي معنى الطاعة الواجبة لولي الأمر. وهذا غلط في التصور، فإن معارضة الحاكم المسلم – والكلامُ هنا فيه لا في غيره – لا تنافي طاعته، بالمعنى الشرعي الصحيح للطاعة، كما قرّرتُه في المقال السابق. ويكفي أن نستحضر أن تقييد الطاعة بالمعروف، دليل على مشروعية المعارضة في غير المعروف. إن نصب المناقضة بين الأمرين، ناشئ عن غلو في فهم معنى الطاعة الشرعية، يؤدي إلى ادعاء عصمة الحاكم – بلسان الحال -، بل إلى استصنامه وتأليهه. وهذا الفهم الأعوج مخالف لفعل الصدر الأول من أهل الإسلام كما سيأتي بيانه إن شاء الله. *مشروعية المعارضة السياسية وإذا عُلم هذا، فلا يوجد دليل على تحريم المعارضة السياسية السلمية، بل نحن في هذا الباب مستصحبون لأصل الإباحة. ويتقوى هذا الأصل بحجج كثيرة، نذكر منها: أولا: مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو أصل أصيل دلت عليه نصوص متكاثرة من الوحيين. والمعارضة بالنقد وبيان الأخطاء جزء من إنكار المنكر. وقد جاء في صحيح مسلم أن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: "الصلاة قبل الخطبة". فقال: "قد ترك ما هنالك". فقال أبو سعيد: "أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ». قال النووي في شرحه: "قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين؛ فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاةَ بالمعروف، وينهونَهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية". فتأمل هذا مليا، وقارنه بأقوال بعض المعاصرين! ثانيا: مشروعية النصيحة لأئمة المسلمين، كما دلت على ذلك السنة. ومن النصيحة لهم: إعانتهم على الحق بتنبيههم وإرشادهم وتذكيرهم بحقوق المسلمين إن ضيعوها، وإخبارهم بما قصّروا فيه وانتقادهم في ذلك. وليس من النصح لهم: السكوت عن مخالفاتهم، فضلا عن الثناء عليهم فيها بالثناء الكاذب – كما يفعل من لا خلاق له من المداهنين المتملقين! ثالثا: مشروعية الدعوة إلى الله وتبليغ الحق. ولا يمكن أن يأمر الشرع بهذا في نصوص كثيرة، ثم يقف بها عند المحكوم، ولا يبلغ بها الحاكم! ومن الدعوة والبيان: إرشاد الحاكم إلى ما قصّر فيه وخالف الشرع وأساء إلى الأمة. رابعا: مشروعية مقاومة الظلم مطلقا، كما في حديث: "من قُتل دون ماله فهو شهيد". وتقييد ذلك بظلمِ مَن دون الحاكم يحتاج إلى دليل، بل في فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع أمير مكة والطائف عنبسة بن أبي سفيان حين أجرى ماءً ليسقي أرضه، فاعترض عليه ابن عمر بسلاحه ومواليه، مستشهدا بهذا الحديث، ما يدل على أن مقاومة الظلم تشمل مقاومة ظلم الحاكم أيضا. خامسا: بعض الأدلة من السنة، منها الحديث المعروف في الصحيح: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم". ونحن نترك التعليق على الجزء الأول من الحديث، فإنه متعلق بأحكام الخروج على ولاة الأمور، ولذلك وقفةٌ في مقال لاحق إن شاء الله. ولكن ننظر إلى الجزء الأخير من الحديث، فإنه يدل على فكرة قول الحق والتعبير عنه مطلقا. وهذا – في مجال العلاقة مع ولي الأمر، وهو سياق الحديث - هو صريح المعارضة السياسية السلمية. وفي الصحيح أيضا: "ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف (وفي مسند أحمد بإسناد قوي: ثم يأتي من بعد ذلك خوالف أمراء) يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". فتدبر هذه المراتب جيدا، واعلم أن الجهاد باليد لا يستلزم الخروج، بل يكون بإزالة المظالم وتغيير المنكرات كما قرره ابن رجب وغيره؛ وأن الجهاد باللسان هو ما نحن بصدده من المسمى "معارضة سياسية سلمية". وجماع ذلك في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق - مع التمكن". سادسا: فعل الصحابة في إنكارهم على الولاة، وهم أعلم الأمة بمعاني الوحي. وقد تابعهم عبر تاريخ الأمة جمع من الأئمة، لكن تتبع ذلك يطول جدا، ولا يتحمله هذا المقال. وأكثر مَن ابتلي من الأئمة بأذى السلاطين، إنما هو بسبب ممارسته لنوع من أنواع المعارضة السياسية السلمية. *الإنكار العلني على الحاكم وقد تكاثرت النقول عن السلف الصالح في الإنكار العلني على الحكام، سواء بمحضرهم أو في غيابهم. وأحيل هنا على كتاب "الحريات السياسية المعاصرة في ضوء فقه الصحابة" للدكتور فهد العجلان، فقد جمع من تلك الآثار طرفا صالحا استغرق ما بين ص475 وص 486. وبعد النظر في هذه الآثار، فإننا نجزم أن مَن ينسب إلى مذهب السلف حرمة الإنكار العلني أو بدعيته، فهو مخطئ خطأ ظاهرا! نعم، قد اختار بعض السلف في مواقف معينة أن يكون الإنكار في السر. لكن لا يعني ذلك – مع استفاضة الآثار عنهم في الإنكار في العلن – أن الإنكار العلني بدعة، وأن مذهب السلف المستقر هو الإنكار السري فقط. بل الصحيح جواز الأمرين، والتفضيل يكون بحسب المصلحة والمفسدة. وفي عصرنا هذا، وبعد استقرار وسائل المعارضة في الدولة الحديثة، وتقرر أهميتها، فقد صار من المتجاوَز الحديثُ عن إنكار سري فقط. ويتأكد هذا المعنى، حين يكون الحكام لا يفتحون الباب للإنكار السري، وليس لهم لقاءات خاصة مع العلماء والدعاة المخالفين لتوجهاتهم، بل غالب لقاءاتهم مع سدنتهم والمتملقين لهم. ففي هذه الحالة، تكون حقيقة القول بحصر الإنكار في السري منه، أنه لا إنكار أصلا! وهذا هو الواقع اليوم عند من يتبنون هذا القول في كثير من بلاد المسلمين. ولنا وقفات أخرى مع موضوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في مقالات لاحقة بإذن الله تعالى. والله الموفق.
العلاقة بين الحاكم والمحكوم (2)
مشروعية المعارضة السياسية

د. البشير عصام المراكشي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

من الغريب حقا أن نحتاج في زمن الثورات والمظاهرات والمدافعات السياسية، السلمية حينا والعنيفة أحيانا أخرى، إلى بحث حكم المعارضة السياسية في الشريعة المطهرة!

ولكن مشروعية هذا البحث تُستمدّ من أمرين اثنين:

أولهما: أن الواجب على المسلم أن يسعى إلى معرفة حكم الله تعالى في كل شيء، وطريقُ ذلك الرجوع إلى الوحي بوسائل الاستنباط المقررة؛ ولا ينبغي الاغترار بكثرة من يتبنى رأيا من الآراء، فقد يكون الحق في خلافه.

والثاني: أننا ابتلينا في هذا العصر بطائفة من كهنة السلاطين المغالين في معنى طاعة ولي الأمر، يكثرون الدندنة حول المنع من معارضة الحاكم مطلقا، ويجعلون كل نقد - مهما قلّ – ضربا من البدعة، ونوعا من الخروج على الإجماع، ومخالفة جادة العلماء والسلف الأولين! وكل ذلك ضرب من الهذيان، تولّى كبرَه أقوامٌ بقلوب أهل الأهواء، في أجساد العلماء!

* في معنى المعارضة السياسية

المقصود في هذا المقال بالمعارضة السياسية: المعارضة "السلمية"، فلا كلام لنا هنا عن المعارضة المسلحة أو الثورة العنيفة أو الانقلاب العسكري (وهي الأمور التي يجمعها المصطلح الفقهي التراثي: "الخروج على الحاكم")، بل لذلك حديث آخير قد يأتي في مقالات لاحقة إن شاء الله. وكل من يحمل الآثار السلفية والأقوال الفقهية الواردة في خصوص "الخروج" على "المعارضة السلمية" فهو أحد اثنين دون مراء: واهم في فهمه، أو مغرض في قصده.

على أن بعض الناس قد يدّعي أن المعارضة السلمية بَريد الخروج المسلح، ومفضية إليه؛ فهو لا يحمل عليها حكم الخروج، إلا من جهة إعمال أصل سد الذريعة. وهذا – وإن كان محتملا من جهة الصناعة الفقهية الخالصة – فهو مشكل جدا من جهة اختزالِه مفهوم المعارضة السياسية السلمية في تجارب مخصوصة، تكتنفها ظروف شديدة التعقيد والتركيب، ثم تعميمِ تلك التجارب على المفهوم كله، توصلا إلى تحقيق كونه ذريعة تستدعي السدّ مطلقا.

ولست أقصد بلفظ "السياسية" العملَ الحزبي البرلماني الديمقراطي، وإن كان ذلك داخلا في معنى "المعارضة السياسية" عند من يجيزه بضوابطه الشرعية، التي ليس هذا مقام بحثها ومناقشتها. لكن ما أقصده هو أعم من ذلك بكثير، فيشمل كل قول أو فعل، ذي حمولة سياسية، يراد به معارضة النظام الحاكم، بدءا بالكلمة العابرة في مجلس محصور، وانتهاء بالموقف السياسي المؤثر أو المظاهرة السلمية الحاشدة.

فالمعارضة السياسية إذن هي كل نشاط سياسي يُقصد به انتقادُ سياسات الحاكم والرقابة عليه؛ سواء بالسعي للحلول محله في إطار تداول سلمي على السلطة، أو كان انتقادا محضا بغرض التصحيح والإصلاح. فليس السعيُ لتحقيق التداول جزءا من ماهية المعارضة السياسية. ولذلك فإن كثيرا من الأحزاب المعارِضة في الديمقراطيات العتيدة، تعلم يقينا أنها لا يمكن أن تصل للحكم أبدا، وهي مع ذلك تمارس دورها الرقابي النقدي دون هوادة.

ولنا أن نسأل: لِم المعارضةُ أصلا؟ وما وجه الحاجة إليها؟

والجواب ظاهر لا يحتاج إلى كبير عناء في استخراجه. فالحاكمُ – سواء أكان الحكم فرديا استبداديا أو كان جماعيا في إطارٍ مؤسَّسيٍّ واضح – بشر من البشر، لا يمكن أن يسلم من الأخطاء، المتعمدة أو غير المتعمدة؛ وقلَّ مِن الناس من يتنبّه لأخطائه بنفسه، بل الغالب أن يحتاج إلى أن يكون معه مَن يُنبهه ويوقظه، ويكون له كالمرآة التي يرى فيها عيوبه.

فالمعارضة تحقق التوازن السياسي، وتمنع من الاستبداد الفردي، ومن الجَور في الحكم، ومن القرارات غير المناسبة، وتعين على ضمان الحقوق المكفولة لعموم الناس في الشريعة المطهرة.

*المعارضة والطاعة

ومن الشبهات المشتهرة التي يصرِف بها بعضُ المنتكسين من أهل الأهواء، الناسَ عن المعارضة السياسية، ادّعاؤهم أنها تنافي معنى الطاعة الواجبة لولي الأمر. وهذا غلط في التصور، فإن معارضة الحاكم المسلم – والكلامُ هنا فيه لا في غيره – لا تنافي طاعته، بالمعنى الشرعي الصحيح للطاعة، كما قرّرتُه في المقال السابق. ويكفي أن نستحضر أن تقييد الطاعة بالمعروف، دليل على مشروعية المعارضة في غير المعروف.

إن نصب المناقضة بين الأمرين، ناشئ عن غلو في فهم معنى الطاعة الشرعية، يؤدي إلى ادعاء عصمة الحاكم – بلسان الحال -، بل إلى استصنامه وتأليهه. وهذا الفهم الأعوج مخالف لفعل الصدر الأول من أهل الإسلام كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

*مشروعية المعارضة السياسية

وإذا عُلم هذا، فلا يوجد دليل على تحريم المعارضة السياسية السلمية، بل نحن في هذا الباب مستصحبون لأصل الإباحة.

ويتقوى هذا الأصل بحجج كثيرة، نذكر منها:

أولا: مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو أصل أصيل دلت عليه نصوص متكاثرة من الوحيين. والمعارضة بالنقد وبيان الأخطاء جزء من إنكار المنكر.

وقد جاء في صحيح مسلم أن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: "الصلاة قبل الخطبة". فقال: "قد ترك ما هنالك". فقال أبو سعيد: "أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ».

قال النووي في شرحه: "قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين؛ فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاةَ بالمعروف، وينهونَهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية".

فتأمل هذا مليا، وقارنه بأقوال بعض المعاصرين!

ثانيا: مشروعية النصيحة لأئمة المسلمين، كما دلت على ذلك السنة. ومن النصيحة لهم: إعانتهم على الحق بتنبيههم وإرشادهم وتذكيرهم بحقوق المسلمين إن ضيعوها، وإخبارهم بما قصّروا فيه وانتقادهم في ذلك. وليس من النصح لهم: السكوت عن مخالفاتهم، فضلا عن الثناء عليهم فيها بالثناء الكاذب – كما يفعل من لا خلاق له من المداهنين المتملقين!

ثالثا: مشروعية الدعوة إلى الله وتبليغ الحق. ولا يمكن أن يأمر الشرع بهذا في نصوص كثيرة، ثم يقف بها عند المحكوم، ولا يبلغ بها الحاكم! ومن الدعوة والبيان: إرشاد الحاكم إلى ما قصّر فيه وخالف الشرع وأساء إلى الأمة.

رابعا: مشروعية مقاومة الظلم مطلقا، كما في حديث: "من قُتل دون ماله فهو شهيد". وتقييد ذلك بظلمِ مَن دون الحاكم يحتاج إلى دليل، بل في فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع أمير مكة والطائف عنبسة بن أبي سفيان حين أجرى ماءً ليسقي أرضه، فاعترض عليه ابن عمر بسلاحه ومواليه، مستشهدا بهذا الحديث، ما يدل على أن مقاومة الظلم تشمل مقاومة ظلم الحاكم أيضا.

خامسا: بعض الأدلة من السنة، منها الحديث المعروف في الصحيح: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم".

ونحن نترك التعليق على الجزء الأول من الحديث، فإنه متعلق بأحكام الخروج على ولاة الأمور، ولذلك وقفةٌ في مقال لاحق إن شاء الله. ولكن ننظر إلى الجزء الأخير من الحديث، فإنه يدل على فكرة قول الحق والتعبير عنه مطلقا. وهذا – في مجال العلاقة مع ولي الأمر، وهو سياق الحديث - هو صريح المعارضة السياسية السلمية.

وفي الصحيح أيضا: "ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف (وفي مسند أحمد بإسناد قوي: ثم يأتي من بعد ذلك خوالف أمراء) يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

فتدبر هذه المراتب جيدا، واعلم أن الجهاد باليد لا يستلزم الخروج، بل يكون بإزالة المظالم وتغيير المنكرات كما قرره ابن رجب وغيره؛ وأن الجهاد باللسان هو ما نحن بصدده من المسمى "معارضة سياسية سلمية".

وجماع ذلك في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق - مع التمكن".

سادسا: فعل الصحابة في إنكارهم على الولاة، وهم أعلم الأمة بمعاني الوحي. وقد تابعهم عبر تاريخ الأمة جمع من الأئمة، لكن تتبع ذلك يطول جدا، ولا يتحمله هذا المقال. وأكثر مَن ابتلي من الأئمة بأذى السلاطين، إنما هو بسبب ممارسته لنوع من أنواع المعارضة السياسية السلمية.

*الإنكار العلني على الحاكم

وقد تكاثرت النقول عن السلف الصالح في الإنكار العلني على الحكام، سواء بمحضرهم أو في غيابهم. وأحيل هنا على كتاب "الحريات السياسية المعاصرة في ضوء فقه الصحابة" للدكتور فهد العجلان، فقد جمع من تلك الآثار طرفا صالحا استغرق ما بين ص475 وص 486.

وبعد النظر في هذه الآثار، فإننا نجزم أن مَن ينسب إلى مذهب السلف حرمة الإنكار العلني أو بدعيته، فهو مخطئ خطأ ظاهرا!

نعم، قد اختار بعض السلف في مواقف معينة أن يكون الإنكار في السر. لكن لا يعني ذلك – مع استفاضة الآثار عنهم في الإنكار في العلن – أن الإنكار العلني بدعة، وأن مذهب السلف المستقر هو الإنكار السري فقط. بل الصحيح جواز الأمرين، والتفضيل يكون بحسب المصلحة والمفسدة.

وفي عصرنا هذا، وبعد استقرار وسائل المعارضة في الدولة الحديثة، وتقرر أهميتها، فقد صار من المتجاوَز الحديثُ عن إنكار سري فقط. ويتأكد هذا المعنى، حين يكون الحكام لا يفتحون الباب للإنكار السري، وليس لهم لقاءات خاصة مع العلماء والدعاة المخالفين لتوجهاتهم، بل غالب لقاءاتهم مع سدنتهم والمتملقين لهم. ففي هذه الحالة، تكون حقيقة القول بحصر الإنكار في السري منه، أنه لا إنكار أصلا! وهذا هو الواقع اليوم عند من يتبنون هذا القول في كثير من بلاد المسلمين.

ولنا وقفات أخرى مع موضوع العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في مقالات لاحقة بإذن الله تعالى.

والله الموفق.
‏١٨‏/١٢‏/٢٠١٧ ٧:١٢ م‏
أنا كومانشيه بقلم: يسرا جلال أُدعى (لوثر).. ولا أعرف كيف تمكنت من النجاة طوال السنوات السابقة.. كثير من الأطفال الذين رافقتهم هنا قضوا نحبهم.. بعضهم لم أره سوى مرتين: يوم أن جزّوا شعورنا، ويوم أن أمرونا بدفنهم في المقبرة الملحقة بالمدرسة. عفوًا.. سأخفض صوتي لئلا ينتبه أحدهم.. اسمي ليس (لوثر).. اسمي (كومانشيه).. عشت مع أمي سنواتي الأولى حين كان اسمي (كومانشيه)، لم تكن حياتنا سهلة، لكنني كنت رفقة أمي على أية حال.. اضطررنا لترك أراضينا مع جميع أبناء قبيلتنا بعد أن قدم البِيض.. قالت أمي إن البيض كانوا ضيوفنا قبل أن يطلبوا من الزعيم تأجير مساحة من أرضنا قالوا إنهم يحتاجونها لإقامة مساكن مؤقتة، غير أن الزعيم لم يشعر بالصدق في كلامهم، وطلب منهم إعادة الأرض وتركها فورًا، خاصة أنهم اقتلعوا الأشجار والغابات التي يرعى فيها الجاموس الوحشي، لم تحاول قبيلتنا استئناس الجاموس الوحشي، ولكن الرجل الإنجليزي الأبيض كان ينجح في ذلك. كان أبي يصطاد الجاموس مع رجال القبيلة وكانت أمي تصنع من جلوده ملابسنا وخيمتنا وتصنع من قرونه أواني الطعام. لم يوافق البيض على ترك الأرض فنشبت الحرب بيننا وبينهم ولم يعودوا ضيوفنا بعدها.. أغاروا علينا ليلًا.. وأي عار في القتال ليلًا! وأي عار في قتال النساء والأطفال! يعلمون أننا لا نقاتل عدونا ليلًا ولا نقتل النساء والأطفال.. خونة.. أغاروا علينا بسهامهم التي تطلق النار وتصدر صوتًا مفزعًا وتحيل الليل إلى نهار، احترقت الخيام واقتيد الجميع في الأغلال.. الجميع.. الرجال، والنساء، والشيوخ، والأطفال.. تخيلوا إلى أين ذهبوا بنا؟ إلى أرضنا التي اغتصبوها واصطَفَوا الرجال الأشداء وأمروهم بمساعدتهم في اقتلاع أشجارنا! لم يشعر الرجال بالإهانة كذلك اليوم.. وعندما رفضوا الاستجابة لأوامرهم ضربوهم بسهامهم التي تطلق النار وتصدر صوتًا مفزعًا.. أبي؟! لم أره بعدها.. عرفت من أمي أنه لم يتحمل الإهانة فأنهى حياته بتناول سم الماينوق الزعاف كما فعل كثير من رجال شعبنا.. وفي ليلة حالكة السواد شديدة البرد اقتحم البيض خيمتنا وانتزعوني من بين ذراعي أمي، حملوني على أحد خيولهم بينما حاولت أمي استعادتي من بين أيديهم فضربها أحدهم وأسقطها أرضًا وانطلق مسرعًا، واختلط صوت صراخي بنشيج أمي الذي أخذ يبتعد.. حتى جاءوا بي إلى هنا.. كانت هذه الليلة آخر مرة أرى فيها وجه أمي.. كما كانت آخر مرة يُسمح لي فيها أن أجيب من يسألني عن اسمي بــ(كومانشيه).. بعد أن فكوا وثاقي أبلغونا أننا الآن في (مدرسة) قالوا إنهم سيدرسون لنا (الحضارة)، وإنهم سيقدمون لنا الآن أول دروس (المدنية) و(الحضارة).. اقتادونا إلى (غرفة خاصة يساق إليها الأطفال واحدًا بعد الآخر، وأسدلت كل ستائرها كي لا يعلم من في باحة المدرسة ما يجري، لكن.. ما أن أُجلس أول طفل على كرسي الجز حتى هبت ريح قوية أزاحت الستارة وكشفت للأطفال في الباحة عن مقص الحضارة وهو يجز جدائل الهمجية(1)، هنا علت صيحة أكثر من طفل: "بابين كاكسا – بابين كاكسا" (إنهم يقصون الشعر، إنهم يقصون الشعر) رددها بعد ذلك كل الأطفال، كانت صيحة إنذار مدوية)(2). لم أستطع النوم تلك الليلة.. كنت أشعر بالإهانة الشديدة.. فاضت عيوني بالدموع، كنت أسمع همهمات الأطفال وبكاءهم.. ألم يكن من الممكن أن نتعلم حضارة البيض دون أن يجزوا جدائلنا؟ في صباح اليوم التالي اجتمعنا في (فصل) تغطي أحد جدرانه لوحة سوداء.. وكان هناك رجل أبيض فارع الطول يجيد لغتنا.. أشار الرجل إلى اللوح الأسود الذي رسمت عليه خطوط بيضاء وأخبرنا أن كل مجموعة من تلك الخطوط هي اسم لرجل أبيض، وأن على كل واحد منا اختيار مجموعة لتصبح اسمه، وقال إنه ليس بيننا وبين أن نكون مثل هؤلاء العظماء البيض سوى أن نتسمى بأسمائهم، (وعندما جاء دوري، لمست واحدًا من هذه الأسماء وكأنني ألمس عدوًا لي)(3)، فكتبه الرجل الأبيض على ورقة بيضاء وألصقها على ظهري. وفي الصف لم يكن أحدنا يجرؤ على النظر لصاحبه بعد أن فقد جديلته.. كنا جميعًا نصوب أعيننا نحو الأرض، حاولت رفع رأسي ولكن عيني وقعت على اللاصقة البيضاء حاولت أن أتذكر اسمي الجديد لكنني فشلت. ليتني كنت أحمل سهمًا أضرب به الاسم بدلًا عن الإشارة إليه باصبعي على اللوح.. بدأت دروس الحضارة، كانت معلمة صفنا إنجليزية بيضاء حاولت أن أجلس في نهاية الصف حتى لا يصيبني شيئًا من رذاذ فمها.. كانت تدرس لنا المواطنة واللغة والدين، كانت تقص علينا أشياء عجيبة.. كانت تحكي عن ملك اسمه (داود) وابنه الملك (سليمان)، وعن رجل اسمه (موسى) كان زعيم العبرانيين وأن (الله) فلق لهم البحر.. بعد الدروس كانوا يقدمون لنا وجبة غذاء من الخبز والبطاطا المسلوقة. في أول أيام الدراسة التقيت بــ(مينيك).. كان (مينيك) صبيًا يكبرني بعدة أعوام، وكان يعرف أشياء كثيرة لا أعرفها.. أنقذني (مينيك) حين أخبرني أن قرع الجرس أول مرة يعني أن نذهب للأكل، وأن قرع الجرس لثاني مرة يعني أن علينا الاصطفاف للذهاب للعشاء، وأخبرني أن أقلد الآخرين، (كنت أحرك يدي كالمعتاد، لكن أحدهم صرخ في وجهي بغضب، وقال كلامًا إنكليزيًا لم أفهمه، لاحظت أن الآخرين واقفون وأيديهم مسبلة على جنوبهم ففعلت مثلهم)(4)، ثم مشيت مع الباقين في صفوف حتى وصلنا لطاولات طويلة.. نبهني (مينيك) ألا أجلس حتى يقرع الجرس، (وكانت هناك سيدة تحمل بيدها جرسًا صغيرًا وما إن قرعته حتى قعد كل الأطفال.. لكن أحدًا لم يمد يده إلى الطعام.. ثم قرع جرس آخر فأناخ كل الأطفال رؤوسهم وبدأوا بالأكل، إلا اثنتين لم تتمتما بكلام الرجل الأبيض، فإنهما حرمتا من الأكل وعوقبتا بالجلد)(5). الحق أني لم أشعر يومًا بالشبع، بعد الغداء كنا نساق إلى أعمال السخرة.. كان عملي في المزرعة الملحقة بالمدرسة.. وكان وجودي في المزرعة يتيح لي سرقة التفاح وجذور البطاطا، لم أكن أحبها مسلوقة.. كما كان يتيح لي اللقاء مع (مينيك)، كان (مينيك) يعرف أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، كنت أحب سماع صوته الواثق المفعم بالألم.. حكى لي أن المسئول عن هذه المدارس ضابط إنجليزي كان في السابق مدير سجن عسكري وأنه لم يعمل مدرسًا قبل ذلك، ولكنه (أسس نظامًا يعرف بصناعة السجون، سخر فيه السجناء بالعمل لكي يسدوا نفقات سجنهم)(6). ولذا كانوا يجبروننا على العمل في المزرعة والمنجرة وإصلاحات مبنى المدرسة، أما البنات فكن يجبرن على تعلم الغسيل والتنظيف ليكنّ خادمات مطيعات وطباخات ماهرات في بيوت البيض ومقاصفهم. أخبرني (مينيك) أنه سمع أحد المشرفين يخاطب زميله قائلًا: (لابد للطفل الهندي من أن يتعلم كلمة (أنا) بدلًا من (نحن)، وهذا (لي) بدلًا من (لنا).. ليتنازل طوعًا عما يملك)(7). وعقب (مينيك) على ذلك بأنهم لهذا السبب وزعوا أطفال كل شعب على مدارس مختلفة، وسلبونا أغلى ما نملك.. جدائلنا، وملابسنا، وأسمائنا التي سماها بها أهلونا. نسيت أن أخبركم.. إذا قابلتم (مينيك) لا تنادوه باسمه أمام البيض، اسمه في المدرسة (يوليوس قيصر). أخبرونا في درس المواطنة أن (يوليوس قيصر) إمبراطور روما، لا أعرف أين هي روما، ولكنه رجل مهم عند البيض على أية حال. كانت المزرعة التي نعمل فيها كبيرة جدًا، تصل مساحتها إلى ثلاثمائة فدان.. وكان معي ثلاثون تلميذًا نحرث الأرض ونزرعها بكل أنواع المحاصيل التي يحتاجها الرجل الأبيض، ولكننا كنا لا نأكل من هذه المحاصيل، أذكر أن تجرأتْ إحدى الفتيات في يوم وأكلت تفاحة فــ(صفتنا المشرفة في المهجع، وأمرتنا بتعرية نصفنا الأعلى والاستلقاء على بطوننا، ثم جلدتنا جميعًا حتى سال الدم من ظهورنا)(8). انتقل (مينيك) للعمل في أقنان الدجاج، حزنت لذلك كثيرًا؛ افتقدت وجوده معي في المزرعة، ولكننا كنا نلتقي ليلًا. حكى لي عن المشرف الذي يعاقبهم إن كسرت بيضة، فيقنع رأس التلميذ ويعري جسده ويطلق الكلاب عليه. خفت على (مينيك) كثيرًا، ولكن الرعب تملكنا كلينا حين اقتحم علينا أحد المشرفين المهجع وأخذ يصرخ فينا "ما هذا؟ كيف تتحدثان بلغة الجرذان هذه؟"، جرنا الرجل إلى الباحة وأوسعنا ضربًا وركلًا ثم غرس إبرة خياطة طويلة في ألسنتنا لمدة نهار كامل. بعد هذه الليلة تغير (مينيك) كثيرًا، لم يعد صوته واثقًا مفعم بالألم، لم يعد يتكلم لأسمعه، كنا نسهر طول الليل نحدق في سقف الغرفة، ولا يقوى أحدنا على النظر في عين صاحبه، وكلما هممت بالكلام انعقد لساني. وفي غمرة الصمت ناداني (مينيك) وأسر لي برغبته في الفرار.. إلى أين؟ القرية تبعد عشرات الأميال؟ هل سنهيم في البراري؟ قال (مينيك) إن وحوش الغابة أرأف قلوبًا من البيض، كل يوم هنا في فردوس التمدين والحضارة نفقد زملاء لنا وندفنهم بأيدينا. إدارة المدرسة تعلم أن الفرار رغبة طبيعية عند كل التلاميذ فزادوا في ارتفاع الأسوار، بل وزودوها بأبراج مراقبة وأحكموا إغلاق النوافذ ولكن هذا لن يمنعنا من الفرار. أمضينا أيامًا نجهز الحبال ونقيس أطوالها، جهزنا حبلًا طويلًا وخبأناه في أقنان الدجاج.. وفي ليلة الفرار اختبأنا في المنجرة.. لم يشعر بنا أحد من البيض، كانت ليلة الميلاد وأحضروا هذا الرجل السمين الذي يربط كرشه الكروي بحزام عريض، ويحمل هدايا، أردنا الفرار قبل أن يأتي، يطلقون عليه اسم (سانتا كلوز) لم نكن نرغب أن نراه، كانوا يرشوننا بهداياه ليضغطوا علينا ونوافق على الذهاب للكنيسة.. لم أحبه فقد كان يشبه (كويكته)(9). وبينما كان الجميع منشغلا بتلاوة ترانيم الميلاد استخدمنا الحبل وتسلقنا السور، كان (مينيك) أبرع مني، وكان هو من بدأ في التسلق.. قفز (مينيك) عبر السور بينما تملكني الذعر ولم تقوَ ساقاي على حملي. تحاملت على نفسي وقفزت، سرَت في جسدي رعشة جراء اصطدام قدمي بالثلج، قاومتها.. وركضت.. أخذنا في الركض مبتعدين عن مبنى المدرسة، كانت أقدامنا تغوص في الثلج، وكانت أصوات أنفاسنا متلاحقة، كان الصقيع مميتًا، ولكننا الآن فقط ننعم بالحرية. رفع (مينيك) ذراعيه العاريتين -نسيت أن أخبركم أننا كنا نرتدي ملابس صيفية- ولوّح لي مبتعدًا وهو يركض.. كانت أول مرة أرى فيها عينيه تلمعان. اختلطت أصوات ضحكاتنا بأصوات أنفاسنا المتلاحقة أخذ يناديني "لووثر.. لوووثر".. لم ينادني بهذا الاسم من قبل.. ويبدو أننا لم نتمكن من سماع صوت القطار الذي ظهر فجأة وأطاح بجسد (مينيك) بعيدًا.. لم أسمع (مينيك) يصرخ.. أنا من صرخ صرخة عالية بعد أن اصطبغ الثلج بأشلاء (مينيك).. يا للهول.. لم تركتني يا (مينيك)؟ أخذت في الصراخ والبكاء.. يبدو أنني فارقت الوعي.. ولا أدرى كم بقيت فاقدًا الوعي ولكني فتحت عيناي لأجد نفسي ممددًا على طاولة في المدرسة، وأحد المشرفين البيض إلى جواري يصرخ فيّ: "أين ذهب (مينيك) يا ( كومانشيه)! أجب". لا أعرف أين ذهب (مينيك) ولكن إذا نجحت كلماتي تلك في الوصول إليكم، أرجو أن تبحثوا عني، لا أعرف أين أنا، أنا في المدرسة نفسها أنتظر (مينيك) ولكنني في صندوق مظلم يصل إلى الضوء عبر شقوق في جانبه فأعرف الليل والنهار، ابحثوا في المدرسة عن الصندوق. وأرجوكم لا تخبروا والدتي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الجدائل جمع جديلة وهي ضفيرة الشعر. (2) ص113، أمريكا والإبادات الثقافية، منير العكش، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت. (3) ص 114، أمريكا والإبادات الثقافية. (4) ص117، المصدر السابق. (5) ص118، السابق. (6) ص94، نفس المصدر. (7) ص 95، السابق. (8) ص117. (9) "أرواح شريرة".
أنا كومانشيه

بقلم: يسرا جلال


أُدعى (لوثر).. ولا أعرف كيف تمكنت من النجاة طوال السنوات السابقة.. كثير من الأطفال الذين رافقتهم هنا قضوا نحبهم.. بعضهم لم أره سوى مرتين: يوم أن جزّوا شعورنا، ويوم أن أمرونا بدفنهم في المقبرة الملحقة بالمدرسة.

عفوًا.. سأخفض صوتي لئلا ينتبه أحدهم..
اسمي ليس (لوثر).. اسمي (كومانشيه).. عشت مع أمي سنواتي الأولى حين كان اسمي (كومانشيه)، لم تكن حياتنا سهلة، لكنني كنت رفقة أمي على أية حال..

اضطررنا لترك أراضينا مع جميع أبناء قبيلتنا بعد أن قدم البِيض.. قالت أمي إن البيض كانوا ضيوفنا قبل أن يطلبوا من الزعيم تأجير مساحة من أرضنا قالوا إنهم يحتاجونها لإقامة مساكن مؤقتة، غير أن الزعيم لم يشعر بالصدق في كلامهم، وطلب منهم إعادة الأرض وتركها فورًا، خاصة أنهم اقتلعوا الأشجار والغابات التي يرعى فيها الجاموس الوحشي، لم تحاول قبيلتنا استئناس الجاموس الوحشي، ولكن الرجل الإنجليزي الأبيض كان ينجح في ذلك. كان أبي يصطاد الجاموس مع رجال القبيلة وكانت أمي تصنع من جلوده ملابسنا وخيمتنا وتصنع من قرونه أواني الطعام.

لم يوافق البيض على ترك الأرض فنشبت الحرب بيننا وبينهم ولم يعودوا ضيوفنا بعدها.. أغاروا علينا ليلًا.. وأي عار في القتال ليلًا! وأي عار في قتال النساء والأطفال! يعلمون أننا لا نقاتل عدونا ليلًا ولا نقتل النساء والأطفال.. خونة..

أغاروا علينا بسهامهم التي تطلق النار وتصدر صوتًا مفزعًا وتحيل الليل إلى نهار، احترقت الخيام واقتيد الجميع في الأغلال.. الجميع.. الرجال، والنساء، والشيوخ، والأطفال.. تخيلوا إلى أين ذهبوا بنا؟ إلى أرضنا التي اغتصبوها واصطَفَوا الرجال الأشداء وأمروهم بمساعدتهم في اقتلاع أشجارنا!

لم يشعر الرجال بالإهانة كذلك اليوم.. وعندما رفضوا الاستجابة لأوامرهم ضربوهم بسهامهم التي تطلق النار وتصدر صوتًا مفزعًا..

أبي؟! لم أره بعدها.. عرفت من أمي أنه لم يتحمل الإهانة فأنهى حياته بتناول سم الماينوق الزعاف كما فعل كثير من رجال شعبنا..

وفي ليلة حالكة السواد شديدة البرد اقتحم البيض خيمتنا وانتزعوني من بين ذراعي أمي، حملوني على أحد خيولهم بينما حاولت أمي استعادتي من بين أيديهم فضربها أحدهم وأسقطها أرضًا وانطلق مسرعًا، واختلط صوت صراخي بنشيج أمي الذي أخذ يبتعد.. حتى جاءوا بي إلى هنا..

كانت هذه الليلة آخر مرة أرى فيها وجه أمي.. كما كانت آخر مرة يُسمح لي فيها أن أجيب من يسألني عن اسمي بــ(كومانشيه)..

بعد أن فكوا وثاقي أبلغونا أننا الآن في (مدرسة) قالوا إنهم سيدرسون لنا (الحضارة)، وإنهم سيقدمون لنا الآن أول دروس (المدنية) و(الحضارة)..

اقتادونا إلى (غرفة خاصة يساق إليها الأطفال واحدًا بعد الآخر، وأسدلت كل ستائرها كي لا يعلم من في باحة المدرسة ما يجري، لكن.. ما أن أُجلس أول طفل على كرسي الجز حتى هبت ريح قوية أزاحت الستارة وكشفت للأطفال في الباحة عن مقص الحضارة وهو يجز جدائل الهمجية(1)، هنا علت صيحة أكثر من طفل: "بابين كاكسا – بابين كاكسا" (إنهم يقصون الشعر، إنهم يقصون الشعر) رددها بعد ذلك كل الأطفال، كانت صيحة إنذار مدوية)(2).

لم أستطع النوم تلك الليلة.. كنت أشعر بالإهانة الشديدة.. فاضت عيوني بالدموع، كنت أسمع همهمات الأطفال وبكاءهم.. ألم يكن من الممكن أن نتعلم حضارة البيض دون أن يجزوا جدائلنا؟

في صباح اليوم التالي اجتمعنا في (فصل) تغطي أحد جدرانه لوحة سوداء.. وكان هناك رجل أبيض فارع الطول يجيد لغتنا.. أشار الرجل إلى اللوح الأسود الذي رسمت عليه خطوط بيضاء وأخبرنا أن كل مجموعة من تلك الخطوط هي اسم لرجل أبيض، وأن على كل واحد منا اختيار مجموعة لتصبح اسمه، وقال إنه ليس بيننا وبين أن نكون مثل هؤلاء العظماء البيض سوى أن نتسمى بأسمائهم، (وعندما جاء دوري، لمست واحدًا من هذه الأسماء وكأنني ألمس عدوًا لي)(3)، فكتبه الرجل الأبيض على ورقة بيضاء وألصقها على ظهري.

وفي الصف لم يكن أحدنا يجرؤ على النظر لصاحبه بعد أن فقد جديلته.. كنا جميعًا نصوب أعيننا نحو الأرض، حاولت رفع رأسي ولكن عيني وقعت على اللاصقة البيضاء حاولت أن أتذكر اسمي الجديد لكنني فشلت. ليتني كنت أحمل سهمًا أضرب به الاسم بدلًا عن الإشارة إليه باصبعي على اللوح..

بدأت دروس الحضارة، كانت معلمة صفنا إنجليزية بيضاء حاولت أن أجلس في نهاية الصف حتى لا يصيبني شيئًا من رذاذ فمها.. كانت تدرس لنا المواطنة واللغة والدين، كانت تقص علينا أشياء عجيبة.. كانت تحكي عن ملك اسمه (داود) وابنه الملك (سليمان)، وعن رجل اسمه (موسى) كان زعيم العبرانيين وأن (الله) فلق لهم البحر..
بعد الدروس كانوا يقدمون لنا وجبة غذاء من الخبز والبطاطا المسلوقة.

في أول أيام الدراسة التقيت بــ(مينيك).. كان (مينيك) صبيًا يكبرني بعدة أعوام، وكان يعرف أشياء كثيرة لا أعرفها.. أنقذني (مينيك) حين أخبرني أن قرع الجرس أول مرة يعني أن نذهب للأكل، وأن قرع الجرس لثاني مرة يعني أن علينا الاصطفاف للذهاب للعشاء، وأخبرني أن أقلد الآخرين، (كنت أحرك يدي كالمعتاد، لكن أحدهم صرخ في وجهي بغضب، وقال كلامًا إنكليزيًا لم أفهمه، لاحظت أن الآخرين واقفون وأيديهم مسبلة على جنوبهم ففعلت مثلهم)(4)، ثم مشيت مع الباقين في صفوف حتى وصلنا لطاولات طويلة.. نبهني (مينيك) ألا أجلس حتى يقرع الجرس، (وكانت هناك سيدة تحمل بيدها جرسًا صغيرًا وما إن قرعته حتى قعد كل الأطفال.. لكن أحدًا لم يمد يده إلى الطعام.. ثم قرع جرس آخر فأناخ كل الأطفال رؤوسهم وبدأوا بالأكل، إلا اثنتين لم تتمتما بكلام الرجل الأبيض، فإنهما حرمتا من الأكل وعوقبتا بالجلد)(5).

الحق أني لم أشعر يومًا بالشبع، بعد الغداء كنا نساق إلى أعمال السخرة.. كان عملي في المزرعة الملحقة بالمدرسة.. وكان وجودي في المزرعة يتيح لي سرقة التفاح وجذور البطاطا، لم أكن أحبها مسلوقة.. كما كان يتيح لي اللقاء مع (مينيك)، كان (مينيك) يعرف أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، كنت أحب سماع صوته الواثق المفعم بالألم.. حكى لي أن المسئول عن هذه المدارس ضابط إنجليزي كان في السابق مدير سجن عسكري وأنه لم يعمل مدرسًا قبل ذلك، ولكنه (أسس نظامًا يعرف بصناعة السجون، سخر فيه السجناء بالعمل لكي يسدوا نفقات سجنهم)(6). ولذا كانوا يجبروننا على العمل في المزرعة والمنجرة وإصلاحات مبنى المدرسة، أما البنات فكن يجبرن على تعلم الغسيل والتنظيف ليكنّ خادمات مطيعات وطباخات ماهرات في بيوت البيض ومقاصفهم.

أخبرني (مينيك) أنه سمع أحد المشرفين يخاطب زميله قائلًا: (لابد للطفل الهندي من أن يتعلم كلمة (أنا) بدلًا من (نحن)، وهذا (لي) بدلًا من (لنا).. ليتنازل طوعًا عما يملك)(7). وعقب (مينيك) على ذلك بأنهم لهذا السبب وزعوا أطفال كل شعب على مدارس مختلفة، وسلبونا أغلى ما نملك.. جدائلنا، وملابسنا، وأسمائنا التي سماها بها أهلونا.

نسيت أن أخبركم.. إذا قابلتم (مينيك) لا تنادوه باسمه أمام البيض، اسمه في المدرسة (يوليوس قيصر). أخبرونا في درس المواطنة أن (يوليوس قيصر) إمبراطور روما، لا أعرف أين هي روما، ولكنه رجل مهم عند البيض على أية حال.

كانت المزرعة التي نعمل فيها كبيرة جدًا، تصل مساحتها إلى ثلاثمائة فدان.. وكان معي ثلاثون تلميذًا نحرث الأرض ونزرعها بكل أنواع المحاصيل التي يحتاجها الرجل الأبيض، ولكننا كنا لا نأكل من هذه المحاصيل، أذكر أن تجرأتْ إحدى الفتيات في يوم وأكلت تفاحة فــ(صفتنا المشرفة في المهجع، وأمرتنا بتعرية نصفنا الأعلى والاستلقاء على بطوننا، ثم جلدتنا جميعًا حتى سال الدم من ظهورنا)(8).

انتقل (مينيك) للعمل في أقنان الدجاج، حزنت لذلك كثيرًا؛ افتقدت وجوده معي في المزرعة، ولكننا كنا نلتقي ليلًا. حكى لي عن المشرف الذي يعاقبهم إن كسرت بيضة، فيقنع رأس التلميذ ويعري جسده ويطلق الكلاب عليه. خفت على (مينيك) كثيرًا، ولكن الرعب تملكنا كلينا حين اقتحم علينا أحد المشرفين المهجع وأخذ يصرخ فينا "ما هذا؟ كيف تتحدثان بلغة الجرذان هذه؟"، جرنا الرجل إلى الباحة وأوسعنا ضربًا وركلًا ثم غرس إبرة خياطة طويلة في ألسنتنا لمدة نهار كامل.

بعد هذه الليلة تغير (مينيك) كثيرًا، لم يعد صوته واثقًا مفعم بالألم، لم يعد يتكلم لأسمعه، كنا نسهر طول الليل نحدق في سقف الغرفة، ولا يقوى أحدنا على النظر في عين صاحبه، وكلما هممت بالكلام انعقد لساني. وفي غمرة الصمت ناداني (مينيك) وأسر لي برغبته في الفرار.. إلى أين؟ القرية تبعد عشرات الأميال؟ هل سنهيم في البراري؟ قال (مينيك) إن وحوش الغابة أرأف قلوبًا من البيض، كل يوم هنا في فردوس التمدين والحضارة نفقد زملاء لنا وندفنهم بأيدينا. إدارة المدرسة تعلم أن الفرار رغبة طبيعية عند كل التلاميذ فزادوا في ارتفاع الأسوار، بل وزودوها بأبراج مراقبة وأحكموا إغلاق النوافذ ولكن هذا لن يمنعنا من الفرار.

أمضينا أيامًا نجهز الحبال ونقيس أطوالها، جهزنا حبلًا طويلًا وخبأناه في أقنان الدجاج.. وفي ليلة الفرار اختبأنا في المنجرة.. لم يشعر بنا أحد من البيض، كانت ليلة الميلاد وأحضروا هذا الرجل السمين الذي يربط كرشه الكروي بحزام عريض، ويحمل هدايا، أردنا الفرار قبل أن يأتي، يطلقون عليه اسم (سانتا كلوز) لم نكن نرغب أن نراه، كانوا يرشوننا بهداياه ليضغطوا علينا ونوافق على الذهاب للكنيسة.. لم أحبه فقد كان يشبه (كويكته)(9).

وبينما كان الجميع منشغلا بتلاوة ترانيم الميلاد استخدمنا الحبل وتسلقنا السور، كان (مينيك) أبرع مني، وكان هو من بدأ في التسلق.. قفز (مينيك) عبر السور بينما تملكني الذعر ولم تقوَ ساقاي على حملي. تحاملت على نفسي وقفزت، سرَت في جسدي رعشة جراء اصطدام قدمي بالثلج، قاومتها.. وركضت..

أخذنا في الركض مبتعدين عن مبنى المدرسة، كانت أقدامنا تغوص في الثلج، وكانت أصوات أنفاسنا متلاحقة، كان الصقيع مميتًا، ولكننا الآن فقط ننعم بالحرية.

رفع (مينيك) ذراعيه العاريتين -نسيت أن أخبركم أننا كنا نرتدي ملابس صيفية- ولوّح لي مبتعدًا وهو يركض.. كانت أول مرة أرى فيها عينيه تلمعان. اختلطت أصوات ضحكاتنا بأصوات أنفاسنا المتلاحقة أخذ يناديني "لووثر.. لوووثر".. لم ينادني بهذا الاسم من قبل.. ويبدو أننا لم نتمكن من سماع صوت القطار الذي ظهر فجأة وأطاح بجسد (مينيك) بعيدًا.. لم أسمع (مينيك) يصرخ.. أنا من صرخ صرخة عالية بعد أن اصطبغ الثلج بأشلاء (مينيك).. يا للهول.. لم تركتني يا (مينيك)؟ أخذت في الصراخ والبكاء.. يبدو أنني فارقت الوعي.. ولا أدرى كم بقيت فاقدًا الوعي ولكني فتحت عيناي لأجد نفسي ممددًا على طاولة في المدرسة، وأحد المشرفين البيض إلى جواري يصرخ فيّ: "أين ذهب (مينيك) يا ( كومانشيه)! أجب".

لا أعرف أين ذهب (مينيك) ولكن إذا نجحت كلماتي تلك في الوصول إليكم، أرجو أن تبحثوا عني، لا أعرف أين أنا، أنا في المدرسة نفسها أنتظر (مينيك) ولكنني في صندوق مظلم يصل إلى الضوء عبر شقوق في جانبه فأعرف الليل والنهار، ابحثوا في المدرسة عن الصندوق. وأرجوكم لا تخبروا والدتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجدائل جمع جديلة وهي ضفيرة الشعر.
(2) ص113، أمريكا والإبادات الثقافية، منير العكش، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت.
(3) ص 114، أمريكا والإبادات الثقافية.
(4) ص117، المصدر السابق.
(5) ص118، السابق.
(6) ص94، نفس المصدر.
(7) ص 95، السابق.
(8) ص117.
(9) "أرواح شريرة".
‏١٦‏/١٢‏/٢٠١٧ ٨:١٣ م‏
هكذا اخترق النظام السوري فصائل الثورة عبد الغني مزوز تُصنف أجهزة المخابرات السورية كإحدى أكثر الأجهزة الاستخباراتية رعبا ونفوذا، وأقدرها على اختراق الكيانات المعارضة ومراقبة أنشطتها، وتنقسم المنظومة الاستخباراتية السورية إلى أربعة أقسام أو شعب وهي: - جهاز المخابرات العسكرية أو الأمن العسكري، ويتبع لها عدد من الأفرع، أهمها فرع فلسطين سيء الصيت - وجهاز المخابرات العامة (أمن الدولة) بأفرعه المتعددة؛ لعل من أشهرها الفرع الخارجي (279) وفرع المعلومات المتخصص في مراقبة الكتاب والصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة. - وجهاز الأمن السياسي ثم جهاز المخابرات الجوية. هذه الترسانة المعقدة والموسعة الصلاحيات من المؤسسات والأجهزة، عملت على مدار سنوات حكم آل الأسد على إبقاء النظام الطائفي بمنأى عن أي تهديد قد يمس النظام ورموزه، سواء كان هذا التهديد حراكا شعبيا أو معارضة سياسية أو عسكرية، ولذلك كان دوما لهذه الأجهزة دور كبير في إخماد الحركات المعارضة وكشف المحاولات الانقلابية، فشعبة المخابرات الجوية مثلا كان لها دور في إنهاء ثورة 1982. مع انطلاق الثورة السورية في 2011 راهن النظام السوري على منظومته الاستخباراتية المتمرسة على أساليب التجسس والاختراق وجمع المعلومات خلال الحروب والنزاعات التي كانت سوريا طرفا فيها؛ راهن عليها في متابعة تفاصيل الحراك الثوري واختراق دوائره الضيقة وتصفية قادته، والكشف عن شبكة علاقاته، وقد أحرز في هذا السياق نجاحات كثيرة، بدءا من اختطاف المقدم حسين هرموش أول الضباط المنشقين ومؤسس لواء الضباط الأحرار إلى الآن؛ حيت أظهرت معركة حلب قبل عام تقريبا أن النشاط الاستخباراتي لنظام الأسد مازال فعالا ويضطلع بأدوار حيوية في الحرب ضد قوى الثورة والمعارضة. لقد استطاعت المخابرات السورية اختراق الثورة وفصائلها وشخصياتها القيادية عبر عدة أساليب وطرق، تتراوح بين البدائية والمتطورة جدا، وسنعرض في هذا المقال بعضا منها. الاختراق التقني رغم أن النظام السوري لا يمتلك تكنولوجيا متقدمة في مجال التجسس والمراقبة الرقمية، إلا أنه تمكن من توظيف الخبرة التقنية لدى وحداته المتخصصة في هذا النوع من العمل الاستخباري، ومع وجود شركات تكنولوجية رائدة في مجال برمجيات التجسس وتقدم خدماتها لمن يدفع بغض النظر عن هدفه من امتلاكها كما أظهرت وثائق شركة hacking team المسربة، حيت قدمت الشركة لعدد من الدول العربية برمجيات متطورة سهلة الاستخدام تتيح التجسس ومراقبة الأشخاص والكيانات بحرفية عالية، وإن كان زبون هذه الشركات مشمولا بعقوبات أممية فإنها تحتال على القيود وتوصل منتجاتها إليه بسهولة وأمان كما كشف عن ذلك الوثائقي الذي عرضته الجزيرة عن هذا النوع من التجارة الرائجة[ قناة الجزيرة، تحقيق استقصائي: تجار التجسس، https://www.youtube.com/watch?v=GQfURuWjgPk] وفي نهاية عام 2016 داهمت الشرطة الإيطالية مقر شركة AREA وصادرت 8 ملايين يورو حصلت عليها الشركة من المخابرات السوري بعد ما باعت لها نظاما متطورا لرصد واعتراض المكالمات في البلاد كلها[ نفس المصدر]. كشفت الوثائق التي هربها المنشقون عن الأفرع الاستخباراتية المختلفة للنظام السوري، أن هذا الأخير قد نجح فعلا في اختراق الأجهزة الشخصية للثوار وتابع من خلالها محادثاتهم ورسائلهم، فالنظام مثلا كان على علم بكل الرسائل النصية التي بعثها المقدم حسين هرموش وتلك التي وردت إليه، وهويات الأشخاص الذين كانوا على تواصل معه، كما أوصلت المخابرات السورية إلى هرموش عبر العميل الذي كان يرافقه كمبيوتر محمول زرعت به شرائح تنصت[ قناة العربية، برنامج التقرير الأمني https://www.youtube.com/watch?v=e0Ql8OZ2aJ4]، الكم الهائل من المعلومات التي اتاحتها المراقبة اللصيقة للمقدم هرموس هي التي أدت في النهاية اختطافه وإرجاعه إلى دمشق في أول انكشاف أمني صارخ للثورة السورية. منظومة الاتصال التابعة للثوار وفصائلهم كلها تعتمد على الأدوات التقنية الحديثة؛ من أجهزة كمبيوتر وهواتف ذكية وتطبيقاتها المتنوعة التي تُعد بالآلاف ما يعني أن هناك الآلاف من إمكانيات اختراق هذه الأجهزة، ومن ثم النفاذ إلى عمق البنية التنظيمية للفصائل ونسفها من الداخل، وهذا ما حصل في الشهور الأخيرة عندما نشرت جهات مجهولة تسجيلات صوتية منتقاة لمكالمات جرت بين قادة الصف الأول في هيئة تحرير الشام، وتحدث بعض المطلعون أن أجهزة الاتصال اللاسلكية التي تستخدمها الهيئة في التواصل كانت مخترقة. يحب بعض الثوار توثيق حشودهم العسكرية ولحظات المعارك بهواتفهم المحمولة، وعند ظهور أي من قادتهم لإلقاء كلمة وسط تجمعاتهم تظهر عشرات الهواتف الذكية وهي تحاول التقاط الصور وتوثيق اللحظة، وهي عادة غريبة في مكان يُفترض فيه الحيطة والحذر حيت يسعى خصوم الثورة على مدار الساعة إلى التقاط أدنى معلومة قد توصل إلى مقرات الثوار وقادتهم. والطريف أن ألمانيا قد حظرت على نوابها ومسؤوليها استخدام بعض أنواع الهواتف الذكية لإمكانية اختراقها، بعد أن كشف سنودن أن هاتف انجيلا مركل كان مخترقا هي و34 من قادة وزعماء دول العالم، بل إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما صرح بأنه "لا يستخدم التكنولوجيا الذكية لأسباب أمنية"، بينما الثوار ومسؤولوهم ما زالوا يعتمدون على هذه الهواتف وتطبيقاتها في التواصل وإدارة شؤون فصائلهم. الإعلاميون والناشطون كان للناشطين دور كبير في إيصال صوت الثورة السورية إلى العالم، ونقل صورة ما يرتكبه النظام السوري من جرائم وحشية ضد الأبرياء العزل، ولا زال عشرات منهم يقومون بهذا الدور بكل شجاعة وحرفية، ولما يحظى به الناشطون أو المواطنون الصحفيون من احترام بين الفصائل الثورية وعامة الناس فإن النظام السوري عمل على تجنيد ناشطين وزراعتهم في الوسط الثوري ليضعوه في صورة ما يجري هناك، ويرسلوا إليه إحداثيات المواقع العسكرية وتحركات الثوار. الناشط هو ذلك الشخص الذي يحمل أحدث أجهزة الاتصال من هواتف ذكية وكمبيوترات وكاميرات من مختلف الأحجام والأنواع، وبإمكانه أن يصور متى وأين شاء، ويدخل المقرات ويلتقي بالثوار ويجري محادثات مع زعمائهم ويلتقط الصور لهم، وينغمس وسط حشودهم بمعداته دون أن يثير أية شكوك. وفي غياب أي قانون أو ميثاق شرف يؤطر عمل الناشطين فإنه من الصعوبة بمكان مسائلتهم والتحقيق معهم دون أن يستتبع ذلك بعض الاستنكار والفزعة من زملائهم في "المهنة". كشف احتلال حلب من قبل قوات النظام والميلشيات المساندة لها حجم اعتماد النظام على خدمات "الناشطين المزيفين" في تأمين المعلومات، ووضع قوات النظام في صورة ما يجري في الجانب الذي تسيطر عليه الفصائل المسلحة، ومع تقدم ميلشيات النظام في أحياء حلب واقتراب الحسم لصالحها، عرفت حلب هجرة شبه جماعية لمن يسمون بالناشطين اتجاه الجانب الذي تسيطر عليه النظام إيذانا بانتهاء مهمتهم في حلب. عدد من الناشطين غادروا المناطق المحررة باتجاه المناطق التي يسيطر عليها النظام، مثل الناشطين نعيم خواجكي وبشار نحال وكانا يعملان كمصورَين لدى ”لواء أحرار سوريا” الذي كان مقاتلوه ينتشرون بشكل رئيسي في أحياء حلب القديمة ومحيط القلعة وفي حي باب الحديد، وغادر الناشط والإعلامي في قناة "حلب اليوم" أحمد مصطفى باتجاه قوات النظام وكان هذا الأخير دائم التردد على مقرات الثوار في حلب وأجرى كثيرا من اللقاءات مع قادتهم. والتحق أيضا بمناطق النظام الناشط عامر أبو شان وكان يرافق أطقم الدفاع المدني ويصور المواقع التي تتعرض للقصف. هذه عينات فقط وإلا فهناك الكثير من الناشطين الذين التحقوا بالنظام وآخرون ما زالوا على رأس عملهم. مكمن الخطورة أن هؤلاء الناشطين يتحركون بحرية في المناطق المحررة، ويلتقطون الصور، ويدخلون المقرات والمواقع الحساسة، ويرافقون حشود الثوار ويوثقون حركتهم بمقاطع الفيديو، ويستعملون الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة القادرة على إرسال الإحداثيات وتحديد المواقع بدقة. من هنا تشتد الحاجة إلى إحداث هيئات متخصصة في تنظيم وتأطير النشاط الإعلامي للأفراد ومراقبة أدائهم داخل المناطق المحررة، وإقرار آليات للتحقيق والمحاسبة، والحد من استعمال التكنولوجيا الذكية قرب المقرات والمواقع ذات الطابع العسكري، فكل دول العالم تحظر تصوير مواقعها الحيوية دون إذن من الجهات المختصة . الانشقاقات المرتبة لا يكاد يعلن ضابط أو إعلامي أو سياسي أو حتى إداري انشقاقه من نظام بشار الأسد حتى يجد الطريق معبدا إلى أعلى المناصب في مؤسسات الثورة وفصائلها، ظاهرة غريبة جدا والأغرب منها أن من خرجوا من سجون النظام بعد سنوات من معارضتهم له وسعيهم لإسقاطه حتى قبل أن يحل الربيع العربي على سوريا اتهموا بالعمالة للنظام وأن هذا الأخير أطلق سراحهم من سجونه حتى يكونوا سندا له في إجهاض الثورة وإفشالها. ولذلك فرياض حجاب وفراس طلاس وجهاد مقدسي المنشقون حديثا عن النظام تبوؤوا مناصب مؤثرة في هيكلية المعارضة السياسية، وأصبحوا في عرف البعض ثوارا أقحاح لا يُشك في نزاهتهم وإخلاصهم، بينما الإسلاميون الذين ثاروا على النظام منذ عقود وزج بهم في سجونه وتعرضوا هناك لأفظع أنواع التعذيب ثم خرجوا بعد الثورة يشار إليهم في أكثر من مناسبة بأنهم عملاء للنظام استخدمهم لإعطاء الثورة صبغة جهادية! الاحتفاء بالمنشق إلى الدرجة التي توضع فيها مقاليد العمل الثوري في يده؛ هو كل ما يحتاج إليه نظام بشار الأسد حتى يرتب انشقاقات وهمية تتيح له زرع جواسيسه في عمق الثورة. وبإمكان هؤلاء المنشقين أو "المندوبين" ممارسة مهامهم بكل أريحية، كإرسال تقارير مفصلة عن وضع الثوار وتسليحهم وانتشارهم وعلاقاتهم وإثارة مكامن الخلاف فيما بينهم وغيرها من المهام. وهناك حالات استطاع فيها هؤلاء تشكيل أجسام سياسية وعسكرية محسوبة على الثورة والمعارضة لكن ولائها للنظام الطائفي لم ينقطع يوما، ألا تصنف مثلا منصة موسكو والقاهرة على المعارضة السياسية وشاركت في صناعة قراراتها، بل إن منصة قاعدة حميميم العسكرية الروسية تُحشر ضمن أطياف المعارضة السياسية. هناك العشرات من الحالات التي عاد فيها المنشقون إلى وظائفهم الأصلية سواء في السلك العسكري أو المجال الإعلامي أو السياسي بعد انتهاء مهماتهم داخل معسكر الثورة، فمثلا عاد الإعلامي الكردي دلبرين موسى والتحق بوظيفته كمعد للبرامج في التلفزيون السوري الرسمي، بعدما عمل لفترة في إعلام الثورة واحتك بقادتها وشارك في كثير من الفعاليات والنشاطات الثورية. كما عاد نزار السعدي الإعلامي السابق في قناة الدنيا التابعة للنظام إلى دمشق، واشتغل السعدي خلال فترة انشقاقه في عدد من المؤسسات الإعلامية المؤيدة للثورة ولم ينس وهو يعود إلى معسكر بشار الأسد أن يصحب معه وحدات تخزين وأقراص صلبة سرقها من المؤسسات التي عمل بها. طبعا ليس كل منشق هو عميل مفترض، لأن المنشقين كانوا ولا زالوا من أعمدة الثورة، وأبلوا فيها بلاء حسنا كما أبلى غيرهم، لكن أن تُشرع أمامهم أبواب المناصب المؤثرة مع أولى خطواتهم في معسكر الثورة فهذا مناقض لأبجديات العمل الثوري والحس الأمني على حد سواء. عانت الثورة السورية من فداحة الانكشاف الأمني منذ انطلاقتها في مارس 2011، ودفعت جراء ذلك ثمنا باهظا، تمثل في استهداف قادة كبار من وزن عبد القادر صالح وأبو عمر سراقب وزهران علوش وأبو يحيى الحموي وأبو الفرج المصري والعشرات غيرهم، كما خسرت الثورة جبهات ومعاقل مهمة كمدينة حلب التي يتواجد بها لحظة استسلامها حوالي 40 ألف مقاتل نصفهم عاد إلى مناطق النظام، ومخزون من المؤن والعتاد يكفي للصمود لثلاث سنوات من الحصار حسب عبد الرحمن الأسيف القيادي السابق في لواء التوحيد، وكان لاختراق صفوف الثوار وغرف عملياتهم دور كبير في معظم النجاحات التي أحرزتها قوات النظام إضافة إلى العوامل الأخرى المعروفة كالدعم الروسي والايراني. وبالتالي من الضروري إعادة تقييم الوضع الأمني للثورة وتحصين بنياتها ومؤسساتها من الاختراق عبر استحداث جهاز استعلامات قوي قادر على جمع المعلومات وملاحقة الجواسيس، وأيضا الحد من الاستخدام المفرط للتكنولوجية الذكية في المهمات الحساسة وابتكار منظومة بديلة للتواصل حتى وإن كانت بدائية ما دامت ستحرم العدو من أهم المناهل التي يتزود منها بالمعلومات والمعطيات.
هكذا اخترق النظام السوري فصائل الثورة
عبد الغني مزوز

تُصنف أجهزة المخابرات السورية كإحدى أكثر الأجهزة الاستخباراتية رعبا ونفوذا، وأقدرها على اختراق الكيانات المعارضة ومراقبة أنشطتها، وتنقسم المنظومة الاستخباراتية السورية إلى أربعة أقسام أو شعب وهي:

- جهاز المخابرات العسكرية أو الأمن العسكري، ويتبع لها عدد من الأفرع، أهمها فرع فلسطين سيء الصيت
- وجهاز المخابرات العامة (أمن الدولة) بأفرعه المتعددة؛ لعل من أشهرها الفرع الخارجي (279) وفرع المعلومات المتخصص في مراقبة الكتاب والصحفيين ووسائل الإعلام المختلفة.
- وجهاز الأمن السياسي ثم جهاز المخابرات الجوية.

هذه الترسانة المعقدة والموسعة الصلاحيات من المؤسسات والأجهزة، عملت على مدار سنوات حكم آل الأسد على إبقاء النظام الطائفي بمنأى عن أي تهديد قد يمس النظام ورموزه، سواء كان هذا التهديد حراكا شعبيا أو معارضة سياسية أو عسكرية، ولذلك كان دوما لهذه الأجهزة دور كبير في إخماد الحركات المعارضة وكشف المحاولات الانقلابية، فشعبة المخابرات الجوية مثلا كان لها دور في إنهاء ثورة 1982.

مع انطلاق الثورة السورية في 2011 راهن النظام السوري على منظومته الاستخباراتية المتمرسة على أساليب التجسس والاختراق وجمع المعلومات خلال الحروب والنزاعات التي كانت سوريا طرفا فيها؛ راهن عليها في متابعة تفاصيل الحراك الثوري واختراق دوائره الضيقة وتصفية قادته، والكشف عن شبكة علاقاته، وقد أحرز في هذا السياق نجاحات كثيرة، بدءا من اختطاف المقدم حسين هرموش أول الضباط المنشقين ومؤسس لواء الضباط الأحرار إلى الآن؛ حيت أظهرت معركة حلب قبل عام تقريبا أن النشاط الاستخباراتي لنظام الأسد مازال فعالا ويضطلع بأدوار حيوية في الحرب ضد قوى الثورة والمعارضة.

لقد استطاعت المخابرات السورية اختراق الثورة وفصائلها وشخصياتها القيادية عبر عدة أساليب وطرق، تتراوح بين البدائية والمتطورة جدا، وسنعرض في هذا المقال بعضا منها.

الاختراق التقني

رغم أن النظام السوري لا يمتلك تكنولوجيا متقدمة في مجال التجسس والمراقبة الرقمية، إلا أنه تمكن من توظيف الخبرة التقنية لدى وحداته المتخصصة في هذا النوع من العمل الاستخباري، ومع وجود شركات تكنولوجية رائدة في مجال برمجيات التجسس وتقدم خدماتها لمن يدفع بغض النظر عن هدفه من امتلاكها كما أظهرت وثائق شركة hacking team المسربة، حيت قدمت الشركة لعدد من الدول العربية برمجيات متطورة سهلة الاستخدام تتيح التجسس ومراقبة الأشخاص والكيانات بحرفية عالية، وإن كان زبون هذه الشركات مشمولا بعقوبات أممية فإنها تحتال على القيود وتوصل منتجاتها إليه بسهولة وأمان كما كشف عن ذلك الوثائقي الذي عرضته الجزيرة عن هذا النوع من التجارة الرائجة[ قناة الجزيرة، تحقيق استقصائي: تجار التجسس، https://www.youtube.com/watch?v=GQfURuWjgPk]

وفي نهاية عام 2016 داهمت الشرطة الإيطالية مقر شركة AREA وصادرت 8 ملايين يورو حصلت عليها الشركة من المخابرات السوري بعد ما باعت لها نظاما متطورا لرصد واعتراض المكالمات في البلاد كلها[ نفس المصدر].

كشفت الوثائق التي هربها المنشقون عن الأفرع الاستخباراتية المختلفة للنظام السوري، أن هذا الأخير قد نجح فعلا في اختراق الأجهزة الشخصية للثوار وتابع من خلالها محادثاتهم ورسائلهم، فالنظام مثلا كان على علم بكل الرسائل النصية التي بعثها المقدم حسين هرموش وتلك التي وردت إليه، وهويات الأشخاص الذين كانوا على تواصل معه، كما أوصلت المخابرات السورية إلى هرموش عبر العميل الذي كان يرافقه كمبيوتر محمول زرعت به شرائح تنصت[ قناة العربية، برنامج التقرير الأمني
https://www.youtube.com/watch?v=e0Ql8OZ2aJ4]، الكم الهائل من المعلومات التي اتاحتها المراقبة اللصيقة للمقدم هرموس هي التي أدت في النهاية اختطافه وإرجاعه إلى دمشق في أول انكشاف أمني صارخ للثورة السورية.

منظومة الاتصال التابعة للثوار وفصائلهم كلها تعتمد على الأدوات التقنية الحديثة؛ من أجهزة كمبيوتر وهواتف ذكية وتطبيقاتها المتنوعة التي تُعد بالآلاف ما يعني أن هناك الآلاف من إمكانيات اختراق هذه الأجهزة، ومن ثم النفاذ إلى عمق البنية التنظيمية للفصائل ونسفها من الداخل، وهذا ما حصل في الشهور الأخيرة عندما نشرت جهات مجهولة تسجيلات صوتية منتقاة لمكالمات جرت بين قادة الصف الأول في هيئة تحرير الشام، وتحدث بعض المطلعون أن أجهزة الاتصال اللاسلكية التي تستخدمها الهيئة في التواصل كانت مخترقة.

يحب بعض الثوار توثيق حشودهم العسكرية ولحظات المعارك بهواتفهم المحمولة، وعند ظهور أي من قادتهم لإلقاء كلمة وسط تجمعاتهم تظهر عشرات الهواتف الذكية وهي تحاول التقاط الصور وتوثيق اللحظة، وهي عادة غريبة في مكان يُفترض فيه الحيطة والحذر حيت يسعى خصوم الثورة على مدار الساعة إلى التقاط أدنى معلومة قد توصل إلى مقرات الثوار وقادتهم. والطريف أن ألمانيا قد حظرت على نوابها ومسؤوليها استخدام بعض أنواع الهواتف الذكية لإمكانية اختراقها، بعد أن كشف سنودن أن هاتف انجيلا مركل كان مخترقا هي و34 من قادة وزعماء دول العالم، بل إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما صرح بأنه "لا يستخدم التكنولوجيا الذكية لأسباب أمنية"، بينما الثوار ومسؤولوهم ما زالوا يعتمدون على هذه الهواتف وتطبيقاتها في التواصل وإدارة شؤون فصائلهم.

الإعلاميون والناشطون

كان للناشطين دور كبير في إيصال صوت الثورة السورية إلى العالم، ونقل صورة ما يرتكبه النظام السوري من جرائم وحشية ضد الأبرياء العزل، ولا زال عشرات منهم يقومون بهذا الدور بكل شجاعة وحرفية، ولما يحظى به الناشطون أو المواطنون الصحفيون من احترام بين الفصائل الثورية وعامة الناس فإن النظام السوري عمل على تجنيد ناشطين وزراعتهم في الوسط الثوري ليضعوه في صورة ما يجري هناك، ويرسلوا إليه إحداثيات المواقع العسكرية وتحركات الثوار.

الناشط هو ذلك الشخص الذي يحمل أحدث أجهزة الاتصال من هواتف ذكية وكمبيوترات وكاميرات من مختلف الأحجام والأنواع، وبإمكانه أن يصور متى وأين شاء، ويدخل المقرات ويلتقي بالثوار ويجري محادثات مع زعمائهم ويلتقط الصور لهم، وينغمس وسط حشودهم بمعداته دون أن يثير أية شكوك. وفي غياب أي قانون أو ميثاق شرف يؤطر عمل الناشطين فإنه من الصعوبة بمكان مسائلتهم والتحقيق معهم دون أن يستتبع ذلك بعض الاستنكار والفزعة من زملائهم في "المهنة".

كشف احتلال حلب من قبل قوات النظام والميلشيات المساندة لها حجم اعتماد النظام على خدمات "الناشطين المزيفين" في تأمين المعلومات، ووضع قوات النظام في صورة ما يجري في الجانب الذي تسيطر عليه الفصائل المسلحة، ومع تقدم ميلشيات النظام في أحياء حلب واقتراب الحسم لصالحها، عرفت حلب هجرة شبه جماعية لمن يسمون بالناشطين اتجاه الجانب الذي تسيطر عليه النظام إيذانا بانتهاء مهمتهم في حلب.

عدد من الناشطين غادروا المناطق المحررة باتجاه المناطق التي يسيطر عليها النظام، مثل الناشطين نعيم خواجكي وبشار نحال وكانا يعملان كمصورَين لدى ”لواء أحرار سوريا” الذي كان مقاتلوه ينتشرون بشكل رئيسي في أحياء حلب القديمة ومحيط القلعة وفي حي باب الحديد، وغادر الناشط والإعلامي في قناة "حلب اليوم" أحمد مصطفى باتجاه قوات النظام وكان هذا الأخير دائم التردد على مقرات الثوار في حلب وأجرى كثيرا من اللقاءات مع قادتهم. والتحق أيضا بمناطق النظام الناشط عامر أبو شان وكان يرافق أطقم الدفاع المدني ويصور المواقع التي تتعرض للقصف. هذه عينات فقط وإلا فهناك الكثير من الناشطين الذين التحقوا بالنظام وآخرون ما زالوا على رأس عملهم.

مكمن الخطورة أن هؤلاء الناشطين يتحركون بحرية في المناطق المحررة، ويلتقطون الصور، ويدخلون المقرات والمواقع الحساسة، ويرافقون حشود الثوار ويوثقون حركتهم بمقاطع الفيديو، ويستعملون الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة القادرة على إرسال الإحداثيات وتحديد المواقع بدقة. من هنا تشتد الحاجة إلى إحداث هيئات متخصصة في تنظيم وتأطير النشاط الإعلامي للأفراد ومراقبة أدائهم داخل المناطق المحررة، وإقرار آليات للتحقيق والمحاسبة، والحد من استعمال التكنولوجيا الذكية قرب المقرات والمواقع ذات الطابع العسكري، فكل دول العالم تحظر تصوير مواقعها الحيوية دون إذن من الجهات المختصة .

الانشقاقات المرتبة

لا يكاد يعلن ضابط أو إعلامي أو سياسي أو حتى إداري انشقاقه من نظام بشار الأسد حتى يجد الطريق معبدا إلى أعلى المناصب في مؤسسات الثورة وفصائلها، ظاهرة غريبة جدا والأغرب منها أن من خرجوا من سجون النظام بعد سنوات من معارضتهم له وسعيهم لإسقاطه حتى قبل أن يحل الربيع العربي على سوريا اتهموا بالعمالة للنظام وأن هذا الأخير أطلق سراحهم من سجونه حتى يكونوا سندا له في إجهاض الثورة وإفشالها. ولذلك فرياض حجاب وفراس طلاس وجهاد مقدسي المنشقون حديثا عن النظام تبوؤوا مناصب مؤثرة في هيكلية المعارضة السياسية، وأصبحوا في عرف البعض ثوارا أقحاح لا يُشك في نزاهتهم وإخلاصهم، بينما الإسلاميون الذين ثاروا على النظام منذ عقود وزج بهم في سجونه وتعرضوا هناك لأفظع أنواع التعذيب ثم خرجوا بعد الثورة يشار إليهم في أكثر من مناسبة بأنهم عملاء للنظام استخدمهم لإعطاء الثورة صبغة جهادية!

الاحتفاء بالمنشق إلى الدرجة التي توضع فيها مقاليد العمل الثوري في يده؛ هو كل ما يحتاج إليه نظام بشار الأسد حتى يرتب انشقاقات وهمية تتيح له زرع جواسيسه في عمق الثورة. وبإمكان هؤلاء المنشقين أو "المندوبين" ممارسة مهامهم بكل أريحية، كإرسال تقارير مفصلة عن وضع الثوار وتسليحهم وانتشارهم وعلاقاتهم وإثارة مكامن الخلاف فيما بينهم وغيرها من المهام. وهناك حالات استطاع فيها هؤلاء تشكيل أجسام سياسية وعسكرية محسوبة على الثورة والمعارضة لكن ولائها للنظام الطائفي لم ينقطع يوما، ألا تصنف مثلا منصة موسكو والقاهرة على المعارضة السياسية وشاركت في صناعة قراراتها، بل إن منصة قاعدة حميميم العسكرية الروسية تُحشر ضمن أطياف المعارضة السياسية.

هناك العشرات من الحالات التي عاد فيها المنشقون إلى وظائفهم الأصلية سواء في السلك العسكري أو المجال الإعلامي أو السياسي بعد انتهاء مهماتهم داخل معسكر الثورة، فمثلا عاد الإعلامي الكردي دلبرين موسى والتحق بوظيفته كمعد للبرامج في التلفزيون السوري الرسمي، بعدما عمل لفترة في إعلام الثورة واحتك بقادتها وشارك في كثير من الفعاليات والنشاطات الثورية. كما عاد نزار السعدي الإعلامي السابق في قناة الدنيا التابعة للنظام إلى دمشق، واشتغل السعدي خلال فترة انشقاقه في عدد من المؤسسات الإعلامية المؤيدة للثورة ولم ينس وهو يعود إلى معسكر بشار الأسد أن يصحب معه وحدات تخزين وأقراص صلبة سرقها من المؤسسات التي عمل بها.
طبعا ليس كل منشق هو عميل مفترض، لأن المنشقين كانوا ولا زالوا من أعمدة الثورة، وأبلوا فيها بلاء حسنا كما أبلى غيرهم، لكن أن تُشرع أمامهم أبواب المناصب المؤثرة مع أولى خطواتهم في معسكر الثورة فهذا مناقض لأبجديات العمل الثوري والحس الأمني على حد سواء.

عانت الثورة السورية من فداحة الانكشاف الأمني منذ انطلاقتها في مارس 2011، ودفعت جراء ذلك ثمنا باهظا، تمثل في استهداف قادة كبار من وزن عبد القادر صالح وأبو عمر سراقب وزهران علوش وأبو يحيى الحموي وأبو الفرج المصري والعشرات غيرهم، كما خسرت الثورة جبهات ومعاقل مهمة كمدينة حلب التي يتواجد بها لحظة استسلامها حوالي 40 ألف مقاتل نصفهم عاد إلى مناطق النظام، ومخزون من المؤن والعتاد يكفي للصمود لثلاث سنوات من الحصار حسب عبد الرحمن الأسيف القيادي السابق في لواء التوحيد، وكان لاختراق صفوف الثوار وغرف عملياتهم دور كبير في معظم النجاحات التي أحرزتها قوات النظام إضافة إلى العوامل الأخرى المعروفة كالدعم الروسي والايراني.

وبالتالي من الضروري إعادة تقييم الوضع الأمني للثورة وتحصين بنياتها ومؤسساتها من الاختراق عبر استحداث جهاز استعلامات قوي قادر على جمع المعلومات وملاحقة الجواسيس، وأيضا الحد من الاستخدام المفرط للتكنولوجية الذكية في المهمات الحساسة وابتكار منظومة بديلة للتواصل حتى وإن كانت بدائية ما دامت ستحرم العدو من أهم المناهل التي يتزود منها بالمعلومات والمعطيات.
‏١٣‏/١٢‏/٢٠١٧ ٧:٥٥ م‏
تنظيم الدولة الإسلامية بأعين استخباراتية م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] [لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/EaaA1F] بعيدا عن تناول المشاكل الشرعية والفكرية والمنهجية والسياسية لدى تنظيم الدولة الإسلامية، فإن من المهم تقديم قراءة موضوعية لتجربة التنظيم وما مثله من خطورة على الغرب خلال مرحلة بزوغ نجمه إثر سيطرته على الموصل عام 2014. وما تلا ذلك من إعلانه تأسيس“ خلافة” بايعته عليها عدة تنظيمات ومجموعات جهادية. لن أقدم في هذا المقال قراءتي الخاصة لتجربة التنظيم، إنما سأقدم قراءة أحد أبرز قيادات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايكل موريل" في كتابه ( الحرب العظمى في زماننا- حرب السي آي إيه ضد الإرهاب من القاعدة إلى تنظيم الدولة). خدم "مايكل موريل" ضمن صفوف السي آي إيه 33 عاما، وارتقى في المناصب حتى وصل إلى منصب (نائب مدير الوكالة) لمدة 3 سنوات في الفترة من مايو 2010 إلى أغسطس 2013، نشر موريل النسخة الأولى من كتابه عام 2015. ثم نشر الطبعة الثانية عام 2016 مضيفا إليها مقدمة عرض خلالها تقييما موضوعيا للتنظيم، ونظرا لأن الكتاب لم يترجم للعربية بعد، فمن المفيد إتاحة ذلك التقييم مختصرا للقراء بالعربية مع الإبقاء على التوصيفات والمصطلحات التي استخدمها "موريل" في كتابه. في مطلع المقدمة تناول "موريل" أبرز الحوادث التي نفذها التنظيم ضد أهداف أجنبية وهى: 1- إعلان فرع التنظيم بسيناء في أكتوبر 2015 مسؤوليته عن تفجير قنبلة على ظهر طائرة رحلات روسية أقلعت من مطار شرم الشيخ، مما أسفر عن مقتل 224 شخصا، وهى الخسارة الأكبر عدديا في حادث سقوط طائرة بانفجار قنبلة منذ سقوط طائرة بان أميركان عام 1988 فوق لوكيربي بإسكتلندا . 2- تخطيط قيادة التنظيم في سوريا وإشرافها على تنفيذ هجمات باريس في نوفمبر 2015 مما أسفر عن مقتل 130 شخص، وهو الهجوم الأكبر في غرب أوربا منذ تفجيرات مدريد عام 2004، والهجوم الأول الذي ينفذه التنظيم بغرب القارة الأوربية. 3- عقب شهر من هجمات باريس نفذ شخصان متأثران بتنظيم الدولة هجوما في سان بيرناندينو بكالفورنيا أسفر عن مقتل 14 شخصا ، وهو الهجوم الأكبر من جهة عدد الضحايا في أميركا منذ هجمات سبتمبر. 4- الهجوم على مطار بروكسل ومحطة مترو أنفاق ببلجيكا في مارس 2016 مما أسفر عن مقتل 32 شخصا . تلك الحوادث الأربعة وقعت خلال 6 شهور فقط، وهو معدل سريع جدا لتنفيذ العمليات لم يصل له تنظيم القاعدة في أوج نشاطه. عقب استعراض الحوادث السابقة أكد "موريل" أن طبيعة وأهمية تهديد تنظيم الدولة تأتي من أنه خصم لم تسبق مواجهة شبيه له من قبل، فالتنظيم يعد بمثابة (مجموعة إرهابية، ودولة، وحركة ثورية سياسية) . مجموعة إرهابية: تمثل تهديدا للأمن الأميركي، سواء بشكل غير مباشر من خلال إلهام التنظيم للعديد من الشبان والشابات الأميركان ليكونوا ذئابا منفردة، فهناك الآلاف من الأمريكيين المتعاطفين مع التنظيم، حتى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي فتح قرابة 1000 تحقيق بخصوص نشاطات لإرهابيين محتملين على الأراضي الأميركية. وأيضا يمثل التنظيم تهديدا مباشرا لأميركا من خلال قدرته على تجنيد عناصر أوربية عبر ملاذاته الآمنة في العراق والشام، ودفعهم للسفر إلى أميركا لتنفيذ عمليات مثلما فعل في هجمات باريس. فما الفرق بين التهديد المباشر والتهديد غير المباشر الذي يمثله التنظيم على أميركا؟ يمثل تكتيك الذئاب المنفردة خطرا كبيرا إلا أنه يسفر غالبا عن عدد قليل من الضحايا، مثلما حدث في تفجير ماراثون بوسطن عام 2013 والذي أسفر عن 3 قتلى، أو في إطلاق النار بقاعدة (فورت هود) عام 2009 والذي أسفر عن سقوط 13 قتيلا، بينما الهجمات المعقدة والمتزامنة التي تشرف على تنفيذها التنظيمات المتطرفة تسفر عن عدد كبير من القتلى كما حدث في هجمات باريس (130 قتيلا) أو هجمات لندن عام 2005 (56 قتيلا) أو هجمات سبتمبر نفسها التي أسفرت عن قرابة 3 آلاف قتيل. شبه دولة: فهو يمثل دولة بكل ما في الكلمة من معاني، ولكن ينقصه أمر واحد، أنه لا يحوز اعترافا خارجيا، ولا يقيم علاقات مع الدول الأخرى. ولكنه يمتلك هيئة تنفيذية، فلديه جيش، وقوى أمنية، ومنظومة قضائية، ويقدم خدمات مجتمعية، ويعتني بالفقراء ، ويجبي الضرائب ويوزع عائداتها. فما المشكلة التي يمثلها التنظيم بكونه شبه دولة؟ تتمثل المشكلة في أمرين: أنه يستخدم كافة الموارد المتاحة تحت يده بمناطق سيطرته في مواجهة خصومه، فيمكنه على سبيل المثال استخدام المعامل الكيميائية لجامعة الموصل في تصنيع المفرقعات والأسلحة الكيميائية. استقلالية التنظيم وترسيخ أقدامه في مناطق سيطرته تجعل استئصاله أكثر صعوبة. وكدولة يمثل التنظيم خطرا إضافيا على استقرار المنطقة، إذ يساهم في اشعال صراع طائفي محتدم في منطقة تمد العالم بثلث احتياجاته من النفط، كما يمثل خطرا على أقرب أصدقاء أميركا ألا وهى إسرائيل، فضلا عن خطورته على دول الخليج التي تمثل حاجزا أمام نزعات الهيمنة الإيرانية. حركة ثورية سياسية: فالتنظيم نال عدة بيعات من مجموعات متطرفة عبر العالم، مما يجعل تلك المجموعات تتبنى أهداف التنظيم وتنتقل من الاهتمام بمشاكلها المحلية إلى مشاركة التنظيم طموحه بتأسيس خلافة إسلامية توسعية تحكم أتباعها بتعاليم دينية، فضلا عن توجيه تلك المجموعات للمشاركة في الأحداث العالمية. وهو ما يتضح في حادثة إسقاط “ولاية سيناء” لطائرة روسية. ويؤكد "موريل" أن التنظيم اكتسب ولاءات بصورة أسرع من تنظيم القاعدة سابقا، ففي خلال سنتين فقط نال التنظيم بيعات من مجموعات مسلحة في 25 بلدا ، وتسعى تلك المجموعات لقتل الأمريكيين وانتزاع السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، حتى أن ليبيا التي تبعد نسبيا عن معاقل التنظيم في العراق يتواجد بها ما بين 4 إلى 6 آلاف من عناصر التنظيم يتدربون في معسكرات ويخططون لشن هجمات في شمال أفريقيا وأوروبا. (وذلك بالطبع قبل أن يتعرض التنظيم لضربات قاصمة بليبيا). ويضيف "موريل" أنه لإضعاف التنظيم وهزيمته لابد من القضاء على قادته في ساحة المعركة، فضلا عن تقليص ملاذاته الآمنة، وهو ما يحتاج استخبارات جيدة وعمليات عسكرية تعتمد على المعلومات الاستخبارية. فضلا عن أهمية إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، ومعالجة الإقصاء والتهميش الذي يتعرض له السنة في العراق. هذا الموجز التقييمي الذي قدمه "مايكل موريل" لخطورة التنظيم في أوج بزوغ نجمه، يمثل نموذجا توضيحيا لكيفية حرص عناصر الاستخبارات على تكوين تصور دقيق للخصوم بناء على المعلومات ورصد الأحداث ، مما يساعدهم على وضع تصورات دقيقة وخطط فعالة لكيفية التعامل مع التحدي الذي يمثله هؤلاء الخصوم، لا كما نرى في بعض قطاعات الحركة الإسلامية من الاعتماد في قراءة المشهد على تصديق الشائعات والأكاذيب، مما يسفر عن بناء تصورات مغلوطة عن الواقع، يستتبعها بشكل تلقائي إخفاق في التعامل مع التحديات التي تفرضها الأحداث.
تنظيم الدولة الإسلامية بأعين استخباراتية
م. أحمد مولانا Mawlana

[لتحميل العدد الأخير من #مجلة_كلمة_حق https://goo.gl/EaaA1F]

بعيدا عن تناول المشاكل الشرعية والفكرية والمنهجية والسياسية لدى تنظيم الدولة الإسلامية، فإن من المهم تقديم قراءة موضوعية لتجربة التنظيم وما مثله من خطورة على الغرب خلال مرحلة بزوغ نجمه إثر سيطرته على الموصل عام 2014. وما تلا ذلك من إعلانه تأسيس“ خلافة” بايعته عليها عدة تنظيمات ومجموعات جهادية.

لن أقدم في هذا المقال قراءتي الخاصة لتجربة التنظيم، إنما سأقدم قراءة أحد أبرز قيادات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايكل موريل" في كتابه ( الحرب العظمى في زماننا- حرب السي آي إيه ضد الإرهاب من القاعدة إلى تنظيم الدولة). خدم "مايكل موريل" ضمن صفوف السي آي إيه 33 عاما، وارتقى في المناصب حتى وصل إلى منصب (نائب مدير الوكالة) لمدة 3 سنوات في الفترة من مايو 2010 إلى أغسطس 2013، نشر موريل النسخة الأولى من كتابه عام 2015. ثم نشر الطبعة الثانية عام 2016 مضيفا إليها مقدمة عرض خلالها تقييما موضوعيا للتنظيم، ونظرا لأن الكتاب لم يترجم للعربية بعد، فمن المفيد إتاحة ذلك التقييم مختصرا للقراء بالعربية مع الإبقاء على التوصيفات والمصطلحات التي استخدمها "موريل" في كتابه.

في مطلع المقدمة تناول "موريل" أبرز الحوادث التي نفذها التنظيم ضد أهداف أجنبية وهى:

1- إعلان فرع التنظيم بسيناء في أكتوبر 2015 مسؤوليته عن تفجير قنبلة على ظهر طائرة رحلات روسية أقلعت من مطار شرم الشيخ، مما أسفر عن مقتل 224 شخصا، وهى الخسارة الأكبر عدديا في حادث سقوط طائرة بانفجار قنبلة منذ سقوط طائرة بان أميركان عام 1988 فوق لوكيربي بإسكتلندا .

2- تخطيط قيادة التنظيم في سوريا وإشرافها على تنفيذ هجمات باريس في نوفمبر 2015 مما أسفر عن مقتل 130 شخص، وهو الهجوم الأكبر في غرب أوربا منذ تفجيرات مدريد عام 2004، والهجوم الأول الذي ينفذه التنظيم بغرب القارة الأوربية.

3- عقب شهر من هجمات باريس نفذ شخصان متأثران بتنظيم الدولة هجوما في سان بيرناندينو بكالفورنيا أسفر عن مقتل 14 شخصا ، وهو الهجوم الأكبر من جهة عدد الضحايا في أميركا منذ هجمات سبتمبر.

4- الهجوم على مطار بروكسل ومحطة مترو أنفاق ببلجيكا في مارس 2016 مما أسفر عن مقتل 32 شخصا .

تلك الحوادث الأربعة وقعت خلال 6 شهور فقط، وهو معدل سريع جدا لتنفيذ العمليات لم يصل له تنظيم القاعدة في أوج نشاطه.

عقب استعراض الحوادث السابقة أكد "موريل" أن طبيعة وأهمية تهديد تنظيم الدولة تأتي من أنه خصم لم تسبق مواجهة شبيه له من قبل، فالتنظيم يعد بمثابة (مجموعة إرهابية، ودولة، وحركة ثورية سياسية) .

مجموعة إرهابية: تمثل تهديدا للأمن الأميركي، سواء بشكل غير مباشر من خلال إلهام التنظيم للعديد من الشبان والشابات الأميركان ليكونوا ذئابا منفردة، فهناك الآلاف من الأمريكيين المتعاطفين مع التنظيم، حتى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي فتح قرابة 1000 تحقيق بخصوص نشاطات لإرهابيين محتملين على الأراضي الأميركية.

وأيضا يمثل التنظيم تهديدا مباشرا لأميركا من خلال قدرته على تجنيد عناصر أوربية عبر ملاذاته الآمنة في العراق والشام، ودفعهم للسفر إلى أميركا لتنفيذ عمليات مثلما فعل في هجمات باريس.

فما الفرق بين التهديد المباشر والتهديد غير المباشر الذي يمثله التنظيم على أميركا؟
يمثل تكتيك الذئاب المنفردة خطرا كبيرا إلا أنه يسفر غالبا عن عدد قليل من الضحايا، مثلما حدث في تفجير ماراثون بوسطن عام 2013 والذي أسفر عن 3 قتلى، أو في إطلاق النار بقاعدة (فورت هود) عام 2009 والذي أسفر عن سقوط 13 قتيلا، بينما الهجمات المعقدة والمتزامنة التي تشرف على تنفيذها التنظيمات المتطرفة تسفر عن عدد كبير من القتلى كما حدث في هجمات باريس (130 قتيلا) أو هجمات لندن عام 2005 (56 قتيلا) أو هجمات سبتمبر نفسها التي أسفرت عن قرابة 3 آلاف قتيل.

شبه دولة: فهو يمثل دولة بكل ما في الكلمة من معاني، ولكن ينقصه أمر واحد، أنه لا يحوز اعترافا خارجيا، ولا يقيم علاقات مع الدول الأخرى. ولكنه يمتلك هيئة تنفيذية، فلديه جيش، وقوى أمنية، ومنظومة قضائية، ويقدم خدمات مجتمعية، ويعتني بالفقراء ، ويجبي الضرائب ويوزع عائداتها.

فما المشكلة التي يمثلها التنظيم بكونه شبه دولة؟

تتمثل المشكلة في أمرين:

أنه يستخدم كافة الموارد المتاحة تحت يده بمناطق سيطرته في مواجهة خصومه، فيمكنه على سبيل المثال استخدام المعامل الكيميائية لجامعة الموصل في تصنيع المفرقعات والأسلحة الكيميائية.

استقلالية التنظيم وترسيخ أقدامه في مناطق سيطرته تجعل استئصاله أكثر صعوبة.
وكدولة يمثل التنظيم خطرا إضافيا على استقرار المنطقة، إذ يساهم في اشعال صراع طائفي محتدم في منطقة تمد العالم بثلث احتياجاته من النفط، كما يمثل خطرا على أقرب أصدقاء أميركا ألا وهى إسرائيل، فضلا عن خطورته على دول الخليج التي تمثل حاجزا أمام نزعات الهيمنة الإيرانية.

حركة ثورية سياسية: فالتنظيم نال عدة بيعات من مجموعات متطرفة عبر العالم، مما يجعل تلك المجموعات تتبنى أهداف التنظيم وتنتقل من الاهتمام بمشاكلها المحلية إلى مشاركة التنظيم طموحه بتأسيس خلافة إسلامية توسعية تحكم أتباعها بتعاليم دينية، فضلا عن توجيه تلك المجموعات للمشاركة في الأحداث العالمية. وهو ما يتضح في حادثة إسقاط “ولاية سيناء” لطائرة روسية.

ويؤكد "موريل" أن التنظيم اكتسب ولاءات بصورة أسرع من تنظيم القاعدة سابقا، ففي خلال سنتين فقط نال التنظيم بيعات من مجموعات مسلحة في 25 بلدا ، وتسعى تلك المجموعات لقتل الأمريكيين وانتزاع السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، حتى أن ليبيا التي تبعد نسبيا عن معاقل التنظيم في العراق يتواجد بها ما بين 4 إلى 6 آلاف من عناصر التنظيم يتدربون في معسكرات ويخططون لشن هجمات في شمال أفريقيا وأوروبا. (وذلك بالطبع قبل أن يتعرض التنظيم لضربات قاصمة بليبيا).

ويضيف "موريل" أنه لإضعاف التنظيم وهزيمته لابد من القضاء على قادته في ساحة المعركة، فضلا عن تقليص ملاذاته الآمنة، وهو ما يحتاج استخبارات جيدة وعمليات عسكرية تعتمد على المعلومات الاستخبارية. فضلا عن أهمية إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، ومعالجة الإقصاء والتهميش الذي يتعرض له السنة في العراق.

هذا الموجز التقييمي الذي قدمه "مايكل موريل" لخطورة التنظيم في أوج بزوغ نجمه، يمثل نموذجا توضيحيا لكيفية حرص عناصر الاستخبارات على تكوين تصور دقيق للخصوم بناء على المعلومات ورصد الأحداث ، مما يساعدهم على وضع تصورات دقيقة وخطط فعالة لكيفية التعامل مع التحدي الذي يمثله هؤلاء الخصوم، لا كما نرى في بعض قطاعات الحركة الإسلامية من الاعتماد في قراءة المشهد على تصديق الشائعات والأكاذيب، مما يسفر عن بناء تصورات مغلوطة عن الواقع، يستتبعها بشكل تلقائي إخفاق في التعامل مع التحديات التي تفرضها الأحداث.
‏١١‏/١٢‏/٢٠١٧ ٦:٠٢ م‏
يسألونك عن الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ (2) الصغير @[100001613664823:2048:منير] لقد كان انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ (ج إ إ) في انتخابات المجالس البلدية والولائية كاسحا، وقد فاجأ هذا الفوز الساحق الجبهة كما فاجأ أعداءها، وكما فاجأها ذلك الالتفاف والاحتشاد الشعبي غير المسبوق في الحراك السياسي الجزائري منذ الاستقلال. البلديات الإسلاميّة : لم يكن تسيير البلديات سهلا على الإطلاق، فقد كانت تعيش حالة مزرية من الإفلاس والتسيّب والفوضى والفساد وعدم الفعالية، وكان النظام يدرك ذلك جيّدا فهو من صنع هذا الفساد الذي كان يسيّره ويشرف عليه جهازه الإداريّ المرتبط بجهاز الأمن العسكري يومئذ ارتباطا عضويا. ثم تقدّم النظام خطوة فقام قبل الانتخابات البلدية التي كان يتوقّع فيها انتصارا محدودا للجبهة بسحب كل الصلاحيات المهمة من رؤساء البلديات، ولم يبقِ لهم إلا وظائف بسيطة جدّا تجعل رؤساء البلديات في موقع العاجز عن تقديم أي خدمة للشعب أو تحسين لظروفه المعيشية. سوف أتحدث لاحقا عن الطريقة التي تعامل بها منتخبو الجبهة مع هذا الوضع الجديد، ولكنني أركّز في بداية هذا الجزء على قضية تصلح مثالا لضعف التخطيط والتحكّم في أداء المنتخبين فضلا عن غيرهم، وكانت في فترة من فترات الصراع بين الجبهة والنظام سببا لاستقطاب سياسي وإعلاميّ كبير استغلّه النظام عبر إعلامه في التحريض على الجبهة واتهامها بالتطرف ومخالفة القوانين ومحاولة فرض الأمر الواقع، وهو قيام المجالس البلدية التابعة للجبهة بنزع لافتات : (من الشعب وإلى الشعب) ووضع لافتات كُتب عليها : (البلدية الإسلامية). لم يكن الأمر في الحقيقة يستدعي ذلك، ولم يكن لهذا الشعار أي معنى، فالبلدية كانت تقوم بمهام تنفيذيّة بحتة ذات علاقة بالتسيير الإداريّ ولم تكن في موقع الحكم بالشريعة أو تحكيم الإسلام لترفع هذه اللافتات، ولم تكن هذه اللافتات لتشفع لرئيس بلدية فاشل في تسيير بلديته وغير قادر على فعل أي شيء يخدم به من انتخبوا عليه. مع ما يوحيه هذا الشعار أن البلديات التي لم تنتخب على الجبهة ليست إسلامية. وهذا بالضبط ما اعتبره إعلام السلطة تكفيرا لمن لم ينتخب على الجبهة، وكانت محاولة نزع هذه اللافتات بعد الإضراب السياسي سببا في أحداث ومصادمات بين أجهزة الأمن والعسكر وأنصار الجبهة، وتسببت في توتّر كبير لم تكن تهدئته بالأمر السهل، واستنزف جهدا كبيرا من قيادة الجبهة على جميع المستويات كان الأجدر أن يُبذل في قضايا أهمّ وأخطر وأكبر أثرا في الصراع يومئذ، رغم أنّ قرار تعليق هذه اللافتات لم يتمّ اتّخاذه على مستوى مجلس الشورى وإنما كان بحسب الشيخ كمال قمازي (رئيس المجلس الشعبي لمدينة العاصمة الكبرى) اجتهادا من بعض المجالس البلدية ولكنه انتشر وعمّ(1). وإن كانت بعض البلديات لم تعلّق هذه اللافتات، وهذا الاجتهاد نفسه يدلّ على عفوية وارتجال ما كان لهما أن يكونا في أمر بمثل هذه الأهميّة. إنّ الشعور بالقوة ووهم الغلبة الذي تبعثه في النّفس كثرة الأنصار والحشود بمئات الآلاف، في التجمعات والمسيرات دون رؤية ولا خطّة ولا قدرة حقيقيّة على التأطير والترشيد السياسيين والتحكّم في ردود أفعال وانفعالات.. هذه الحشود من البشر كان أحد مقاتل الجبهة. الخصوم من داخل البيت الإسلاميّ: كانت خطابات قيادات الجبهة على المستوى الوطني والمحلّي تحفل بقدر لا تخطئه عين المتابع يومها من الاستصغار واللامبالاة بشأن بقيّة الأطياف والشخصيّات الإسلاميّة، فقد رفضت الجبهة التحالف الذي اقترحه جاب اللّه ولم تبرّر رفضها بأسباب سياسيّة بقدر ما كانت المبرّرات فقهية بحتة في مقالات نشرها الشيخ علي بن حاج(2)، بينما استخدم الشيخ عباسي مدني تعبير الفيل ويقصد به الجبهة ووصف النملة ويقصد به بقية الأحزاب الإسلامية ( النهضة وحماس ). كما كان الاتّهام بالخيانة أو التواطؤ مع النّظام أو الضعف السياسيّ أو الخذلان شائعا ومنتشرا في كثير من خطابات الجبهة على المستوى الشعبي القاعدي تصريحا وفي إعلام الجبهة وخطابها الرسميّ إشارة وتلميحا. بلا شكّ لم يكن موقف الأحزاب والهيئات الإسلامية سليما ولا خاليا من التحيّز والحسد للجبهة على شعبيتها وإنجازاتها السياسيّة؛ بل كان فيه قدر واضح من الخذلان وسوء التقدير للموقف السياسيّ برمّته؛ فقد كان الإخوان العالميّون برئاسة نحناح والمحلّيون برئاسة جاب الله يرفضون تأسيس أحزاب سياسية إسلامية بحجج ومبرّرات كثيرة، ولكنهم مباشرة بعد فوز الجبهة الساحق سارعوا إلى تأسيس أحزاب بحجج ومبرّرات كثيرة أيضا. مما شكّل تشويشا والتباسا لدى الجماهير المؤيدة والمتعاطفة مع التيّار الإسلامي، ولكن الجبهة كانت في وضع تكالبت فيه عليها كل القوى السياسيّة العلمانيّة واليسارية والوطنيّة تآمرا وكيدا وتشويها وتحريضا ودعوة إلى إسقاطها، وهو الوضع الذي كان يحتاج من الجبهة تفهّما وأناة وسعيا لاحتواء بقيّة الإسلاميين وعدم استعدائهم وإبقاء أواصر المودّة ممتدّة ومتينة وتوسيع شبكة العلاقات داخل الطيف الإسلاميّ واستثمارها إلى أقصى حدّ ممكن مثلما فعل التيار العلمانيّ واليساريّ بكفاءة ونجاح. لقد كان الموقف متشنّجا بين الجبهة وخصومها داخل التيّار الإسلامي، وكان سوء الظن وتغليب الاتهام والأحكام المسبقة هو السائد، بينما كانت الساحة تسعهم جميعا ولكنّه غياب الرؤية السياسيّة وفقدان بوصلة الصراع في خريطة معقّدة ملغّمة ترسم خطوطها المخابرات وتشرف على ضبط إحداثياتها مخابر الصراع الفكريّ وخبراؤه، وكانت الضحيّة هو المشروع الإسلامي كلّه بين مشرّد وقتيل وسجين ومهزوم ومنسحب من أرض المعركة ومنقلب على عقبيه ومنبطح أمام جبروت العدوّ وقسوته وإجرامه. الخطاب والأداء الميداني.. الغموض الالتباس : ولقد كانت خطب الشيخ علي بن حاج بقدر ما تحمل من الحماسة والتحفيز على البذل والعطاء وإحياء معانٍ غائبة كتحكيم الشريعة والولاء والبراء وتبنّي قضايا الأمة في فلسطين والعراق وغيرها؛ بقدر ما كان يكتنفها غموض مقلِق حين يتحدّث الشيخ عن الجهاد والديموقراطيّة وشؤون الدولة والحكم؛ فلا يفهم المتلقّي هل يتحدّث الشيخ علي بن حاج عن مآلات مشروع الجبهة وأبعاده الاستراتيجية أم يتحدّث عمّا تعتزم الجبهة تطبيقه عند فوزها وتسلّمها الحكم؟ وهل الجبهة قد هيّأت فعلا أدوات وآليات وتصورات ومشاريع جاهزة لما تتحدّث عنه قياداتها من مستقبل مشرق للجزائر وشعبها؟ وكان الإعلام دائما يستثمر وبخبث واحترافيّة هذا الغموض والضبابيّة لمزيد من التشكيك في الجبهة ومشروعها كلّه، وكانت الجبهة في غمرة النّصر والالتفاف الشعبي حولها لا تكلّف نفسها عناء الردّ ولا التوضيح إلا قليلا، ولا ترى نفسها ملزمة بالردّ على من تصفهم بالأعداء وأكثرهم حقّا أعداء، ولكن عددا من الأسئلة وقدرا من الحيرة والغبش كان يشكو منه أنصارها أنفسهم والمتعاطفون معها والقريبون من طرحها. وقد كان حديث الشيخ عباسي عن إقامة الدولة الإسلامية في شتاء 1991 حلما جميلا يداعب خيالات الحالمين، ولكن الأسئلة حول مضمونه والخطّة التي وُضِعت لذلك والتحدّيات في طريق هذه الدولة وتحالفاتها وبرامجها وشكل الدولة كلّه ومصير ملايين المعارضين للجبهة وبرنامجها وأهدافها وعلى رأسها الدولة الإسلامية.. كانت أسئلة ثقيلة وضاغطة، وجدت جوابها الواقعي في أَسْر الشيخين عباسي وعلي بن حاج قبل شتاء 1991 ثمّ في الانقلاب الذي دمّر حتى مؤسّسات الدولة العلمانيّة القائمة - أو كاد - فضلا عن السماح بقيام دولة إسلاميّة. أمّا حديث خطباء الجبهة رسميا وشعبيا عن الديموقراطيّة والجهاد فقد كان أشدّ غموضا والتباسا وارتباكا وخلطا بين ما هو شرعيّ وما هو سياسيّ، وبين ما هو واجب اللحظة وما هو من المآلات ويأخذ حكم النهايات، وهل هو تهديد وابتزاز أو أنّ الديموقراطيّة كانت سوف تُلغى حقّا بكل مقتضياتها ومخرجاتها السياسية والاجتماعيّة ويُعلن الجهاد ضدّ من يقف في طريق الجبهة؟ حرب الخليج الأولى: الاستعراض والاستفزاز وهذا الخطاب ترتّب عنه سلوك سياسيّ ومواقف؛ لعلّ أبرزها كان المسيرة الشعبيّة المندّدة بضرب العراق من طرف أمريكا وحلفائها يومئذ، والمطالبة بفتح الأبواب للجزائريّين من أجل الجهاد نصرة للشعب العراقيّ، وكان يقود المسيرة يومئذ قادة الجبهة وعلى رأسهم الشيخان عباسي وعلي بن حاج الذي كان يلبس زيّا عسكريا. المسيرة استقبلها قائد الجيش يومها الجنيرال خالد نزّار في مقرّ وزارة الدفاع، وكان الامتعاض والرفض لسلوك الشيخ علي بن حاج بلبسه لزيّ عسكري رمزيّ تحكمه قواعد وقوانين باديا في التصريحات الرسميّة وتعليقات الصحافة، التي اعتبرته استفزازا وتحدّيا وشكلا من أشكال التمرّد على السلطة وامتهانا للعسكر وهيبتهم. ثمّ تلا هذه المسيرة فتح التسجيل في قوائم الراغبين في الجهاد بالعراق ثم الشروع في فتح معسكرات لتدريب هؤلاء في الملاعب والقاعات الكبرى، ولم يكن الأمر في حقيقته يتعلّق بتدريب محترف عسكري وأمني، وإنما كان شكلا من أشكال استعراض القوّة وتخويف الخصوم واكتساب أنصار جدد، فلم يكن الأمر يزيد على تدريبات أوليّة وبسيطة على بعض الفنون القتالية الرياضيّة. وقد كان استغلال الجبهة للملاعب والقاعات البلدية تحدّيا صارخا للسلطة والإدارة المركزيّة، كما كان سفر الشيخين عباسي وبن حاج إلى الأردنّ والسعوديّة والعراق في رحلات تتعلّق بالوساطة في حرب الخليج، ولقاؤهما لعدد من الرؤساء والوزراء تجاوزا لا يمكن أن يقبل به النظام الجزائريّ، الذي أسرّها في نفسه وأضافها لقائمة غير قصيرة من الأحداث والمواقف التي برر بها الانقلاب لاحقا، وتسويق فكرة أن الجبهة حزب انقلابيّ لم يكن يراعي القوانين والأعراف السياسيّة ولا يعترف بالتعدّدية والتداول على السلطة وأنّه يتبنّى العنف في فرض قناعاته. االشيخ علي بن حاج مرتديا لباسا عسكريا مع قيادات الجبهة في مسيرة نصرة العراق. وهنا أيضا كان الاغترار بالكثرة والحشود البشريّة والالتفاف الشعبيّ حول الجبهة، وغياب الرؤية والاستراتيجيّة، سببا لكلّ هذه الأحداث التي دفعت خصومها وأعداءها في الداخل والخارج للوقوف صفّا واحدا في وجه وصولها إلى السلطة بأي ثمن، ولو كان الانقلاب والكفر بالديموقراطيّة نفسها وقتل مئات الآلاف من الجزائريّين. لقد كان غريبا حقّا ألّا يتفطّن قادة الجبهة أن سلوكاتهم ومواقفهم السياسية وطريقة إدارتهم للصراع - بصرف النّظر عن فعاليته من عدمها- كانت ستدفع السلطة والأحزاب العلمانيّة واليساريّة والنقابات والعسكر ومليشيا الإعلام وطابور فرنسا الخامس - الذي كان في أوج هيجانه وتنسيقه مع الإدارة الفرنسية في تلك الفترة - إلى الذهاب بعيدا في ردّة فعلهم، وكان غريبا ألّا يكون لدى الجبهة أيّ خطط وبدائل جاهزة لمثل ذلك، بل كانت كلّ الدلائل والقرائن تشير إلى طمأنينة الجبهة وقياداتها وإيمانها بتحقيق النّصر قريبا جدّا وأنّ الطريق إلى البرلمان والحكومة ثمّ إلى الرئاسة كان سالكا لا يتهدّده شيء. استعداء واستفزاز العسكر: كانت خطابات الجبهة تتهجّم بشكل سافر على الجيش وتتّهم ضبّاطه بالفساد والعمالة والخيانة، وتتوعّدهم بالعقاب والمحاسبة مباشرة بعد وصولها إلى السلطة. وقد كان الضبّاط المسمَّوْن ضبّاط فرنسا(3) ومن يدور في فلكهم ووقع في أحابيلهم حقّا فاسدين وعملاء وخونة، وقد بيّنت الأحداث ذلك بما لا يدع مجالا للشكّ. ولكن هل كانت الجبهة تملك فعلا أن تحاسب هؤلاء وتعاقبهم؟ هل كان الضبّاط المتعاطفون مع الجبهة أو المتصالحون مع المرجعية المتمثلة في الإسلام والعربيّة والانتماء الحضاري للأمّة قادرين أن يكونوا بديلا لهؤلاء الفاسدين والعملاء؟ هل كان عددهم كافيا؟ هل كانوا قريبين من مراكز القرار ومواقع التأثير المفصليّة في الجيش؟ هل كانوا ينسّقون مع بعضهم ويعدّون البدائل والخطط؟ بل هل كانوا يعرفون بعضهم أصلا؟ ثمّ قبل ذلك هل كان لدى الجبهة خطّة واقعيّة للتعامل مع العسكر وتعقيدات وتشابك العلاقات والمصالح والولاءات داخله؟ لقد اتّضح بعد الانقلاب أنّ الأمر كان خطابا مجرّدا من كلّ أسباب القوّة، وأنّ هؤلاء الضبّاط أنفسهم الذين تهجمت عليهم وهددتهم الجبهة كانوا هم سبب استئصالها، وكانوا أكثر من قيادتها دهاء وتخطيطا وأخذا للصراع بجدّية وتمكّنا من أسباب النصر والغلبة، ولو اعتمد ذلك على دعم أجنبيّ ومكر وخبث استخباراتيّ. لقد كانت الجبهة تتعامل مع العسكر بسذاجة وسطحيّة للأسف الشديد. كانت تدفعهم بضراوة واستفزاز لحرب معها، لم تعدّ لها قطعة سلاح ولا طلقة رصاص ولا تمرّدا شعبيا ولا عصيانا مدنيّا ولا تحالفات قويّة ولا دعما أجنبيّا ولا خطّة أمنيّة. كأنّ التهديد والوعيد وحدهما كانا كافيين لردع القتلة والمجرمين أو هروبهم من المواجهة أو انسحابهم من المشهد! لم يكن العسكر ليسمحوا للجبهة بالمرور حتى لو كان خطابها أكثر عقلانيّة وهدوءا وانضباطا بالأعراف السياسية؛ ولكن المشكلة تكمن أن الجبهة كانت تستفزّ أعداءها وتقرع طبول الحرب في وقت لا تفكّر فيه بالحرب ولا تعدّ لها عدّتها، فكان الأقرب للمنطق أن يكون خطاب الجبهة وشعاراتها مناسبا لإمكانياتها ومواردها وألّا تنجرّ لمساحات من الصراع العنيف جدّا، بينما هي غافلة تماما عن تبعات الحرب التي أوقدتْ الخطابات والشعارات من طرفي الصراع نارها(4) . لقد كان سلوك العسكر متوقّعا ومفهوما جدّا وربّما مبرّرا بشكل أو بآخر من وجهة نظر كثيرين، لكن الغريب والغامض وغير المفهوم ولا المتوقّع هو ردّ فعل الجبهة؛ أوّلا عند اعتقال قياداتها وفضّ اعتصامات الإضراب السياسيّ، وثانيا عند حدوث الانقلاب، رغم أنّ الأوّل كان منذرا بالثاني ومؤشّرا قويّا على إمكانيّة حدوثه. الدولة العميقة : كانت تجربة رؤساء بلديات الجبهة ثريّة وصعبة، وكان من أشكال ثرائها أنّها هيّأت للجبهة كحزب سياسيّ يعتمد سياسة المغالبة والمطالبة فرصة للتعرّف على شبكة العلاقات والمصالح والولاءات داخل الإدارة الجزائريّة في مفصلين من أهمّ مفاصلهما: البلدية والولاية، مع ما تتيحه رئاسة المجلسين البلدي والولائيّ من تعامل مع الأمن والولاة ورؤساء الدوائر والمصالح الحيوية في المؤسّسات الكبرى كسونلغاز، ومخالطة الأعيان والأثرياء ومسؤولي الأحزاب السياسية وشيوخ الزوايا الصوفية والنقابات والمنظمات الشعبية؛ كالشبيبة والنساء والمجاهدين وغيرهم، وحتى الإعلاميين في المدن الكبرى كالعاصمة ووهران وقسنطينة، وكانت هذه الأطراف هي التي تشكّل الدولة العميقة في الجزائر منذ الاستقلال تقريبا على تفاوت في أهمّيتها وقوّة تأثير كلّ واحدة منها. لقد كان مفهوم الدولة العميقة غير مطروق بنفس الوضوح والقوّة التي نتحدّث بها اليوم عنه، ولكن شبكة العلاقات والمصالح والولاءات كان الحديث عنها شائعا، وكانت الجبهة تعاني من آثارها بشدّة، وكان أعضاء المجالس البلدية والولائية التابعين للجبهة يعانون من تواطؤها ومكرها وتعطيلها للمشاريع وترويجها للشائعات وتسريبها للمعلومات أشدّ العناء، غير أنّ ذلك كلّه لم يجعل الجبهة تنتبه لخطورة (الدولة العميقة)، وتستثمر في تناقضاتها أو تحاول اختراقها أو تضع خطّة لفهم تركيبتها وتفكيك بنيتها نظريا على الأقلّ من أجل تحييدها أو إضعافها أو التحسّب لما يمكن أن تفعله في ظروف استثنائية مثل التي حدثت بعد الانقلاب. كانت مكونات الدولة العميقة المذكورة آنفا لا تعني في الغالب للجبهة إلا جزرا منعزلة عن بعضها، ولم تكن الجبهة تدرك خطورة شبكة العلاقات والمصالح والولاءات، ولا تضع خططها أصلا وفق هذا المنظور، مع أنّها كانت تتعامل بحذر وأحيانا بذكاء مع كلّ مكوّن على حدة ولكنها كانت تفتقد (التفكير المنظوميّ) الذي يجعلها تتعامل مع (المُفرَد) باعتباره جزءا من (منظومة) وهو ما يعطي للتعامل معه قوّة وتأثيرا ويجعل الجبهة في موقع قوة وتقدّم مقارنة مع خصومها وأعدائها. إنّني إذ أتحدّث عن هذه الثغرات والأخطاء والمقاتل في أداء الجبهة أؤكّد بكلّ وضوح أنني أتحدّث عن الخطاب والأداء الرسميين وعن المواقف المفصليّة وعن دوائر صناعة القرار والتأثير في مؤسسات الجبهة، وليس عن الأفراد من أعضائها وهم كثير جدّا الذين كان فيهم من الأذكياء والدهاة وذوي النباهة والفراسة السياسيّة والقدرة على الاستشراف والكفاءة العلميّة ما يؤهلهم لأداء أدوار خطيرة، كانت ستقفز بأداء الجبهة خطوات عملاقة إلى الأمام لو أتيحت لهم الفرصة، وقد كان الفريق الذي تولّى القيادة بعد مؤتمر الوفاء بباتنة مثالا واضحا على ذلك، وكان على المستوى الولائي والبلديّ رجال وشباب بالمستوى نفسه، ولكن الأمور كانت تسير بسرعة كبيرة لا تسمح بالتوقّف وسط ذلك الجوّ المشحون والمتوتّر لإعادة القراءة والتقييم وضبط البوصلة ومراجعة الخطاب وتصحيح الأداء وإعادة النظر في قائمة الأصدقاء والحلفاء والخصوم والأعداء، وهو ملمح سأشير إليه في المقالات اللاحقة بإذن الله. كما أنّني أذكّر بأنّ مسيرة الجبهة لم تكن كلها أخطاء وهزائم ونكسات وسوء تقدير ولكنّني تعمّدت تقديم النقد على قسوته وشدّته، وتأخير الكتابة عن الإنجازات والنجاح والمساحات التي حقّقت فيها الجبهة تقدّما لم تحرزه الحركات السياسيّة الإسلاميّة قبلها. وللحديث بقيّة. ــــــــــــــــــــــــــــ (1) ذكر ذلك الشيخ كمال قمازي في حواره مع محمد يعقوبي صحفيّ الشروق،عدد 29 جانفي 2013 . (2) رسالة فصل التخالف في قضية التحالف- الشيخ أبو عبد الفتاح علي بن حاج -جريدة المنقذ لسان حال الجبهة في عدد رقم 27 بتاريخ 15 ربيع الأول 1411 هـ . (3)هم العسكريّون الذين فرّوا! من الجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة الجزائريّة في السنوات الأخيرة منها، وعددهم بحسب العقيد الطاهر الزبيري في مذكراته يقارب 200 بين ضابط وضابط صفّ. (4) حاول عبد القادر حشاني ومجلس الشورى المنبثق عن مؤتمر الوفاء بباتنة استدراك الوضع، ولكن العسكر والمخابرات كانوا قد اتّخذوا قرار تعفين الوضع والذهاب نحو الصدام واستئصال الجبهة من المشهد السياسي والاجتماعيّ، وقد تحدّث العقيد محمد سمرواي عن ذلك بإسهاب في كتابه: الإسلاميّون والعسكر.
يسألونك عن الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ (2)
الصغير منير

لقد كان انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ (ج إ إ) في انتخابات المجالس البلدية والولائية كاسحا، وقد فاجأ هذا الفوز الساحق الجبهة كما فاجأ أعداءها، وكما فاجأها ذلك الالتفاف والاحتشاد الشعبي غير المسبوق في الحراك السياسي الجزائري منذ الاستقلال.

البلديات الإسلاميّة :
لم يكن تسيير البلديات سهلا على الإطلاق، فقد كانت تعيش حالة مزرية من الإفلاس والتسيّب والفوضى والفساد وعدم الفعالية، وكان النظام يدرك ذلك جيّدا فهو من صنع هذا الفساد الذي كان يسيّره ويشرف عليه جهازه الإداريّ المرتبط بجهاز الأمن العسكري يومئذ ارتباطا عضويا.

ثم تقدّم النظام خطوة فقام قبل الانتخابات البلدية التي كان يتوقّع فيها انتصارا محدودا للجبهة بسحب كل الصلاحيات المهمة من رؤساء البلديات، ولم يبقِ لهم إلا وظائف بسيطة جدّا تجعل رؤساء البلديات في موقع العاجز عن تقديم أي خدمة للشعب أو تحسين لظروفه المعيشية.

سوف أتحدث لاحقا عن الطريقة التي تعامل بها منتخبو الجبهة مع هذا الوضع الجديد، ولكنني أركّز في بداية هذا الجزء على قضية تصلح مثالا لضعف التخطيط والتحكّم في أداء المنتخبين فضلا عن غيرهم، وكانت في فترة من فترات الصراع بين الجبهة والنظام سببا لاستقطاب سياسي وإعلاميّ كبير استغلّه النظام عبر إعلامه في التحريض على الجبهة واتهامها بالتطرف ومخالفة القوانين ومحاولة فرض الأمر الواقع، وهو قيام المجالس البلدية التابعة للجبهة بنزع لافتات : (من الشعب وإلى الشعب) ووضع لافتات كُتب عليها : (البلدية الإسلامية).

لم يكن الأمر في الحقيقة يستدعي ذلك، ولم يكن لهذا الشعار أي معنى، فالبلدية كانت تقوم بمهام تنفيذيّة بحتة ذات علاقة بالتسيير الإداريّ ولم تكن في موقع الحكم بالشريعة أو تحكيم الإسلام لترفع هذه اللافتات، ولم تكن هذه اللافتات لتشفع لرئيس بلدية فاشل في تسيير بلديته وغير قادر على فعل أي شيء يخدم به من انتخبوا عليه. مع ما يوحيه هذا الشعار أن البلديات التي لم تنتخب على الجبهة ليست إسلامية.

وهذا بالضبط ما اعتبره إعلام السلطة تكفيرا لمن لم ينتخب على الجبهة، وكانت محاولة نزع هذه اللافتات بعد الإضراب السياسي سببا في أحداث ومصادمات بين أجهزة الأمن والعسكر وأنصار الجبهة، وتسببت في توتّر كبير لم تكن تهدئته بالأمر السهل، واستنزف جهدا كبيرا من قيادة الجبهة على جميع المستويات كان الأجدر أن يُبذل في قضايا أهمّ وأخطر وأكبر أثرا في الصراع يومئذ، رغم أنّ قرار تعليق هذه اللافتات لم يتمّ اتّخاذه على مستوى مجلس الشورى وإنما كان بحسب الشيخ كمال قمازي (رئيس المجلس الشعبي لمدينة العاصمة الكبرى) اجتهادا من بعض المجالس البلدية ولكنه انتشر وعمّ(1).

وإن كانت بعض البلديات لم تعلّق هذه اللافتات، وهذا الاجتهاد نفسه يدلّ على عفوية وارتجال ما كان لهما أن يكونا في أمر بمثل هذه الأهميّة.

إنّ الشعور بالقوة ووهم الغلبة الذي تبعثه في النّفس كثرة الأنصار والحشود بمئات الآلاف، في التجمعات والمسيرات دون رؤية ولا خطّة ولا قدرة حقيقيّة على التأطير والترشيد السياسيين والتحكّم في ردود أفعال وانفعالات.. هذه الحشود من البشر كان أحد مقاتل الجبهة.

الخصوم من داخل البيت الإسلاميّ:
كانت خطابات قيادات الجبهة على المستوى الوطني والمحلّي تحفل بقدر لا تخطئه عين المتابع يومها من الاستصغار واللامبالاة بشأن بقيّة الأطياف والشخصيّات الإسلاميّة، فقد رفضت الجبهة التحالف الذي اقترحه جاب اللّه ولم تبرّر رفضها بأسباب سياسيّة بقدر ما كانت المبرّرات فقهية بحتة في مقالات نشرها الشيخ علي بن حاج(2)، بينما استخدم الشيخ عباسي مدني تعبير الفيل ويقصد به الجبهة ووصف النملة ويقصد به بقية الأحزاب الإسلامية ( النهضة وحماس ). كما كان الاتّهام بالخيانة أو التواطؤ مع النّظام أو الضعف السياسيّ أو الخذلان شائعا ومنتشرا في كثير من خطابات الجبهة على المستوى الشعبي القاعدي تصريحا وفي إعلام الجبهة وخطابها الرسميّ إشارة وتلميحا.

بلا شكّ لم يكن موقف الأحزاب والهيئات الإسلامية سليما ولا خاليا من التحيّز والحسد للجبهة على شعبيتها وإنجازاتها السياسيّة؛ بل كان فيه قدر واضح من الخذلان وسوء التقدير للموقف السياسيّ برمّته؛ فقد كان الإخوان العالميّون برئاسة نحناح والمحلّيون برئاسة جاب الله يرفضون تأسيس أحزاب سياسية إسلامية بحجج ومبرّرات كثيرة، ولكنهم مباشرة بعد فوز الجبهة الساحق سارعوا إلى تأسيس أحزاب بحجج ومبرّرات كثيرة أيضا.

مما شكّل تشويشا والتباسا لدى الجماهير المؤيدة والمتعاطفة مع التيّار الإسلامي، ولكن الجبهة كانت في وضع تكالبت فيه عليها كل القوى السياسيّة العلمانيّة واليسارية والوطنيّة تآمرا وكيدا وتشويها وتحريضا ودعوة إلى إسقاطها، وهو الوضع الذي كان يحتاج من الجبهة تفهّما وأناة وسعيا لاحتواء بقيّة الإسلاميين وعدم استعدائهم وإبقاء أواصر المودّة ممتدّة ومتينة وتوسيع شبكة العلاقات داخل الطيف الإسلاميّ واستثمارها إلى أقصى حدّ ممكن مثلما فعل التيار العلمانيّ واليساريّ بكفاءة ونجاح.

لقد كان الموقف متشنّجا بين الجبهة وخصومها داخل التيّار الإسلامي، وكان سوء الظن وتغليب الاتهام والأحكام المسبقة هو السائد، بينما كانت الساحة تسعهم جميعا ولكنّه غياب الرؤية السياسيّة وفقدان بوصلة الصراع في خريطة معقّدة ملغّمة ترسم خطوطها المخابرات وتشرف على ضبط إحداثياتها مخابر الصراع الفكريّ وخبراؤه، وكانت الضحيّة هو المشروع الإسلامي كلّه بين مشرّد وقتيل وسجين ومهزوم ومنسحب من أرض المعركة ومنقلب على عقبيه ومنبطح أمام جبروت العدوّ وقسوته وإجرامه.

الخطاب والأداء الميداني.. الغموض الالتباس :
ولقد كانت خطب الشيخ علي بن حاج بقدر ما تحمل من الحماسة والتحفيز على البذل والعطاء وإحياء معانٍ غائبة كتحكيم الشريعة والولاء والبراء وتبنّي قضايا الأمة في فلسطين والعراق وغيرها؛ بقدر ما كان يكتنفها غموض مقلِق حين يتحدّث الشيخ عن الجهاد والديموقراطيّة وشؤون الدولة والحكم؛ فلا يفهم المتلقّي هل يتحدّث الشيخ علي بن حاج عن مآلات مشروع الجبهة وأبعاده الاستراتيجية أم يتحدّث عمّا تعتزم الجبهة تطبيقه عند فوزها وتسلّمها الحكم؟ وهل الجبهة قد هيّأت فعلا أدوات وآليات وتصورات ومشاريع جاهزة لما تتحدّث عنه قياداتها من مستقبل مشرق للجزائر وشعبها؟ وكان الإعلام دائما يستثمر وبخبث واحترافيّة هذا الغموض والضبابيّة لمزيد من التشكيك في الجبهة ومشروعها كلّه، وكانت الجبهة في غمرة النّصر والالتفاف الشعبي حولها لا تكلّف نفسها عناء الردّ ولا التوضيح إلا قليلا، ولا ترى نفسها ملزمة بالردّ على من تصفهم بالأعداء وأكثرهم حقّا أعداء، ولكن عددا من الأسئلة وقدرا من الحيرة والغبش كان يشكو منه أنصارها أنفسهم والمتعاطفون معها والقريبون من طرحها.

وقد كان حديث الشيخ عباسي عن إقامة الدولة الإسلامية في شتاء 1991 حلما جميلا يداعب خيالات الحالمين، ولكن الأسئلة حول مضمونه والخطّة التي وُضِعت لذلك والتحدّيات في طريق هذه الدولة وتحالفاتها وبرامجها وشكل الدولة كلّه ومصير ملايين المعارضين للجبهة وبرنامجها وأهدافها وعلى رأسها الدولة الإسلامية.. كانت أسئلة ثقيلة وضاغطة، وجدت جوابها الواقعي في أَسْر الشيخين عباسي وعلي بن حاج قبل شتاء 1991 ثمّ في الانقلاب الذي دمّر حتى مؤسّسات الدولة العلمانيّة القائمة - أو كاد - فضلا عن السماح بقيام دولة إسلاميّة.

أمّا حديث خطباء الجبهة رسميا وشعبيا عن الديموقراطيّة والجهاد فقد كان أشدّ غموضا والتباسا وارتباكا وخلطا بين ما هو شرعيّ وما هو سياسيّ، وبين ما هو واجب اللحظة وما هو من المآلات ويأخذ حكم النهايات، وهل هو تهديد وابتزاز أو أنّ الديموقراطيّة كانت سوف تُلغى حقّا بكل مقتضياتها ومخرجاتها السياسية والاجتماعيّة ويُعلن الجهاد ضدّ من يقف في طريق الجبهة؟

حرب الخليج الأولى: الاستعراض والاستفزاز
وهذا الخطاب ترتّب عنه سلوك سياسيّ ومواقف؛ لعلّ أبرزها كان المسيرة الشعبيّة المندّدة بضرب العراق من طرف أمريكا وحلفائها يومئذ، والمطالبة بفتح الأبواب للجزائريّين من أجل الجهاد نصرة للشعب العراقيّ، وكان يقود المسيرة يومئذ قادة الجبهة وعلى رأسهم الشيخان عباسي وعلي بن حاج الذي كان يلبس زيّا عسكريا.

المسيرة استقبلها قائد الجيش يومها الجنيرال خالد نزّار في مقرّ وزارة الدفاع، وكان الامتعاض والرفض لسلوك الشيخ علي بن حاج بلبسه لزيّ عسكري رمزيّ تحكمه قواعد وقوانين باديا في التصريحات الرسميّة وتعليقات الصحافة، التي اعتبرته استفزازا وتحدّيا وشكلا من أشكال التمرّد على السلطة وامتهانا للعسكر وهيبتهم.

ثمّ تلا هذه المسيرة فتح التسجيل في قوائم الراغبين في الجهاد بالعراق ثم الشروع في فتح معسكرات لتدريب هؤلاء في الملاعب والقاعات الكبرى، ولم يكن الأمر في حقيقته يتعلّق بتدريب محترف عسكري وأمني، وإنما كان شكلا من أشكال استعراض القوّة وتخويف الخصوم واكتساب أنصار جدد، فلم يكن الأمر يزيد على تدريبات أوليّة وبسيطة على بعض الفنون القتالية الرياضيّة. وقد كان استغلال الجبهة للملاعب والقاعات البلدية تحدّيا صارخا للسلطة والإدارة المركزيّة، كما كان سفر الشيخين عباسي وبن حاج إلى الأردنّ والسعوديّة والعراق في رحلات تتعلّق بالوساطة في حرب الخليج، ولقاؤهما لعدد من الرؤساء والوزراء تجاوزا لا يمكن أن يقبل به النظام الجزائريّ، الذي أسرّها في نفسه وأضافها لقائمة غير قصيرة من الأحداث والمواقف التي برر بها الانقلاب لاحقا، وتسويق فكرة أن الجبهة حزب انقلابيّ لم يكن يراعي القوانين والأعراف السياسيّة ولا يعترف بالتعدّدية والتداول على السلطة وأنّه يتبنّى العنف في فرض قناعاته. االشيخ علي بن حاج مرتديا لباسا عسكريا مع قيادات الجبهة في مسيرة نصرة العراق.

وهنا أيضا كان الاغترار بالكثرة والحشود البشريّة والالتفاف الشعبيّ حول الجبهة، وغياب الرؤية والاستراتيجيّة، سببا لكلّ هذه الأحداث التي دفعت خصومها وأعداءها في الداخل والخارج للوقوف صفّا واحدا في وجه وصولها إلى السلطة بأي ثمن، ولو كان الانقلاب والكفر بالديموقراطيّة نفسها وقتل مئات الآلاف من الجزائريّين.

لقد كان غريبا حقّا ألّا يتفطّن قادة الجبهة أن سلوكاتهم ومواقفهم السياسية وطريقة إدارتهم للصراع - بصرف النّظر عن فعاليته من عدمها- كانت ستدفع السلطة والأحزاب العلمانيّة واليساريّة والنقابات والعسكر ومليشيا الإعلام وطابور فرنسا الخامس - الذي كان في أوج هيجانه وتنسيقه مع الإدارة الفرنسية في تلك الفترة - إلى الذهاب بعيدا في ردّة فعلهم، وكان غريبا ألّا يكون لدى الجبهة أيّ خطط وبدائل جاهزة لمثل ذلك، بل كانت كلّ الدلائل والقرائن تشير إلى طمأنينة الجبهة وقياداتها وإيمانها بتحقيق النّصر قريبا جدّا وأنّ الطريق إلى البرلمان والحكومة ثمّ إلى الرئاسة كان سالكا لا يتهدّده شيء.

استعداء واستفزاز العسكر:
كانت خطابات الجبهة تتهجّم بشكل سافر على الجيش وتتّهم ضبّاطه بالفساد والعمالة والخيانة، وتتوعّدهم بالعقاب والمحاسبة مباشرة بعد وصولها إلى السلطة. وقد كان الضبّاط المسمَّوْن ضبّاط فرنسا(3) ومن يدور في فلكهم ووقع في أحابيلهم حقّا فاسدين وعملاء وخونة، وقد بيّنت الأحداث ذلك بما لا يدع مجالا للشكّ. ولكن هل كانت الجبهة تملك فعلا أن تحاسب هؤلاء وتعاقبهم؟ هل كان الضبّاط المتعاطفون مع الجبهة أو المتصالحون مع المرجعية المتمثلة في الإسلام والعربيّة والانتماء الحضاري للأمّة قادرين أن يكونوا بديلا لهؤلاء الفاسدين والعملاء؟ هل كان عددهم كافيا؟ هل كانوا قريبين من مراكز القرار ومواقع التأثير المفصليّة في الجيش؟ هل كانوا ينسّقون مع بعضهم ويعدّون البدائل والخطط؟ بل هل كانوا يعرفون بعضهم أصلا؟ ثمّ قبل ذلك هل كان لدى الجبهة خطّة واقعيّة للتعامل مع العسكر وتعقيدات وتشابك العلاقات والمصالح والولاءات داخله؟

لقد اتّضح بعد الانقلاب أنّ الأمر كان خطابا مجرّدا من كلّ أسباب القوّة، وأنّ هؤلاء الضبّاط أنفسهم الذين تهجمت عليهم وهددتهم الجبهة كانوا هم سبب استئصالها، وكانوا أكثر من قيادتها دهاء وتخطيطا وأخذا للصراع بجدّية وتمكّنا من أسباب النصر والغلبة، ولو اعتمد ذلك على دعم أجنبيّ ومكر وخبث استخباراتيّ.

لقد كانت الجبهة تتعامل مع العسكر بسذاجة وسطحيّة للأسف الشديد. كانت تدفعهم بضراوة واستفزاز لحرب معها، لم تعدّ لها قطعة سلاح ولا طلقة رصاص ولا تمرّدا شعبيا ولا عصيانا مدنيّا ولا تحالفات قويّة ولا دعما أجنبيّا ولا خطّة أمنيّة. كأنّ التهديد والوعيد وحدهما كانا كافيين لردع القتلة والمجرمين أو هروبهم من المواجهة أو انسحابهم من المشهد!

لم يكن العسكر ليسمحوا للجبهة بالمرور حتى لو كان خطابها أكثر عقلانيّة وهدوءا وانضباطا بالأعراف السياسية؛ ولكن المشكلة تكمن أن الجبهة كانت تستفزّ أعداءها وتقرع طبول الحرب في وقت لا تفكّر فيه بالحرب ولا تعدّ لها عدّتها، فكان الأقرب للمنطق أن يكون خطاب الجبهة وشعاراتها مناسبا لإمكانياتها ومواردها وألّا تنجرّ لمساحات من الصراع العنيف جدّا، بينما هي غافلة تماما عن تبعات الحرب التي أوقدتْ الخطابات والشعارات من طرفي الصراع نارها(4) .

لقد كان سلوك العسكر متوقّعا ومفهوما جدّا وربّما مبرّرا بشكل أو بآخر من وجهة نظر كثيرين، لكن الغريب والغامض وغير المفهوم ولا المتوقّع هو ردّ فعل الجبهة؛ أوّلا عند اعتقال قياداتها وفضّ اعتصامات الإضراب السياسيّ، وثانيا عند حدوث الانقلاب، رغم أنّ الأوّل كان منذرا بالثاني ومؤشّرا قويّا على إمكانيّة حدوثه.

الدولة العميقة :
كانت تجربة رؤساء بلديات الجبهة ثريّة وصعبة، وكان من أشكال ثرائها أنّها هيّأت للجبهة كحزب سياسيّ يعتمد سياسة المغالبة والمطالبة فرصة للتعرّف على شبكة العلاقات والمصالح والولاءات داخل الإدارة الجزائريّة في مفصلين من أهمّ مفاصلهما: البلدية والولاية، مع ما تتيحه رئاسة المجلسين البلدي والولائيّ من تعامل مع الأمن والولاة ورؤساء الدوائر والمصالح الحيوية في المؤسّسات الكبرى كسونلغاز، ومخالطة الأعيان والأثرياء ومسؤولي الأحزاب السياسية وشيوخ الزوايا الصوفية والنقابات والمنظمات الشعبية؛ كالشبيبة والنساء والمجاهدين وغيرهم، وحتى الإعلاميين في المدن الكبرى كالعاصمة ووهران وقسنطينة، وكانت هذه الأطراف هي التي تشكّل الدولة العميقة في الجزائر منذ الاستقلال تقريبا على تفاوت في أهمّيتها وقوّة تأثير كلّ واحدة منها.

لقد كان مفهوم الدولة العميقة غير مطروق بنفس الوضوح والقوّة التي نتحدّث بها اليوم عنه، ولكن شبكة العلاقات والمصالح والولاءات كان الحديث عنها شائعا، وكانت الجبهة تعاني من آثارها بشدّة، وكان أعضاء المجالس البلدية والولائية التابعين للجبهة يعانون من تواطؤها ومكرها وتعطيلها للمشاريع وترويجها للشائعات وتسريبها للمعلومات أشدّ العناء، غير أنّ ذلك كلّه لم يجعل الجبهة تنتبه لخطورة (الدولة العميقة)، وتستثمر في تناقضاتها أو تحاول اختراقها أو تضع خطّة لفهم تركيبتها وتفكيك بنيتها نظريا على الأقلّ من أجل تحييدها أو إضعافها أو التحسّب لما يمكن أن تفعله في ظروف استثنائية مثل التي حدثت بعد الانقلاب.

كانت مكونات الدولة العميقة المذكورة آنفا لا تعني في الغالب للجبهة إلا جزرا منعزلة عن بعضها، ولم تكن الجبهة تدرك خطورة شبكة العلاقات والمصالح والولاءات، ولا تضع خططها أصلا وفق هذا المنظور، مع أنّها كانت تتعامل بحذر وأحيانا بذكاء مع كلّ مكوّن على حدة ولكنها كانت تفتقد (التفكير المنظوميّ) الذي يجعلها تتعامل مع (المُفرَد) باعتباره جزءا من (منظومة) وهو ما يعطي للتعامل معه قوّة وتأثيرا ويجعل الجبهة في موقع قوة وتقدّم مقارنة مع خصومها وأعدائها.

إنّني إذ أتحدّث عن هذه الثغرات والأخطاء والمقاتل في أداء الجبهة أؤكّد بكلّ وضوح أنني أتحدّث عن الخطاب والأداء الرسميين وعن المواقف المفصليّة وعن دوائر صناعة القرار والتأثير في مؤسسات الجبهة، وليس عن الأفراد من أعضائها وهم كثير جدّا الذين كان فيهم من الأذكياء والدهاة وذوي النباهة والفراسة السياسيّة والقدرة على الاستشراف والكفاءة العلميّة ما يؤهلهم لأداء أدوار خطيرة، كانت ستقفز بأداء الجبهة خطوات عملاقة إلى الأمام لو أتيحت لهم الفرصة، وقد كان الفريق الذي تولّى القيادة بعد مؤتمر الوفاء بباتنة مثالا واضحا على ذلك، وكان على المستوى الولائي والبلديّ رجال وشباب بالمستوى نفسه، ولكن الأمور كانت تسير بسرعة كبيرة لا تسمح بالتوقّف وسط ذلك الجوّ المشحون والمتوتّر لإعادة القراءة والتقييم وضبط البوصلة ومراجعة الخطاب وتصحيح الأداء وإعادة النظر في قائمة الأصدقاء والحلفاء والخصوم والأعداء، وهو ملمح سأشير إليه في المقالات اللاحقة بإذن الله.

كما أنّني أذكّر بأنّ مسيرة الجبهة لم تكن كلها أخطاء وهزائم ونكسات وسوء تقدير ولكنّني تعمّدت تقديم النقد على قسوته وشدّته، وتأخير الكتابة عن الإنجازات والنجاح والمساحات التي حقّقت فيها الجبهة تقدّما لم تحرزه الحركات السياسيّة الإسلاميّة قبلها.
وللحديث بقيّة.

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر ذلك الشيخ كمال قمازي في حواره مع محمد يعقوبي صحفيّ الشروق،عدد 29 جانفي 2013 .
(2) رسالة فصل التخالف في قضية التحالف- الشيخ أبو عبد الفتاح علي بن حاج -جريدة المنقذ لسان حال الجبهة في عدد رقم 27 بتاريخ 15 ربيع الأول 1411 هـ .
(3)هم العسكريّون الذين فرّوا! من الجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة الجزائريّة في السنوات الأخيرة منها، وعددهم بحسب العقيد الطاهر الزبيري في مذكراته يقارب 200 بين ضابط وضابط صفّ.
(4) حاول عبد القادر حشاني ومجلس الشورى المنبثق عن مؤتمر الوفاء بباتنة استدراك الوضع، ولكن العسكر والمخابرات كانوا قد اتّخذوا قرار تعفين الوضع والذهاب نحو الصدام واستئصال الجبهة من المشهد السياسي والاجتماعيّ، وقد تحدّث العقيد محمد سمرواي عن ذلك بإسهاب في كتابه: الإسلاميّون والعسكر.
‏٠٩‏/١٢‏/٢٠١٧ ٥:١٧ م‏
وقودها أهل السنة @[520036614:2048:محمد إلهامي] في واحدة من غرائبه ونوادره غير المتوقعة تحدث السيسي عن أن موضوع مياه نهر النيل لا علاقة له به، وأن المسألة ليست موجهة ضده بل موجهة ضد الشعب، وعلى الشعب أن يتصرف.. وألقى بالمسؤولية على الحكومة ورئيس البرلمان ليتصرفوا في الموضوع! كأن السيسي ليس رئيسا لهذه الدولة! منطق غير معروف ولا معهود بل ولا مسبوق في التنصل من المسؤولية.. وهو كافٍ لبيان مدى ما يمكن أن يفعله هذا الشيطان بالبلاد والعباد. مما يجعل كل محاولة للتخلص منه ومن نظامه ضرورة بقاء إضافة إلى كونه واجبا شرعيا ووطنيا. *** تتعثر المصالحة الفلسطينية، ويزداد الخطر المرتقب المتوقع منها، لم تحصل حماس حتى اللحظة على أية مكاسب على الرغم مما قدمته من التنازلات، وقد كشف الفيديو الشهير لصلاح البردويل أن الأمر يزداد تعثرا بلا أفق، ويزداد زعماء السلطة في التصريحات التي تطلب من حماس مزيدا من الركوع والخضوع والاستسلام. وقد غرق الداعمون (الأتراك والقطريون) في مشكلاتهم بما يجعلهم عمليا خارج المراهنة الفلسطينية، ولم يبق إلا باب إيران.. إيران صاحبة المشروع الصفوي التشيعي، وصاحبة المذابح الهائلة لأهل السنة في العراق وسوريا فضلا عن لبنان واليمن. كذا خيارات الاستضعاف، أحلاها مر.. وحماس بطبيعة الحال أضعف من أن تغير مسار العالم وحدها، العالم الذي يبدو أنه يعود إلى لحظة ما قبل الثورات حيث تصطف دول "الاعتدال" ضد دول "الممانعة"، على رأس الاعتدال: إسرائيل، وعلى رأس الممانعة: إيران.. وهما يصطرعان على زعامة المنطقة! إلا أن تغيرا جديدا طرأ على الساحة؟؟ فبقدر ما خسرت إيران بما فعلته في زمن الثورات بالعراق وسوريا ولبنان واليمن، بقدر ما كسبت إسرائيل بالهرولة التي بلغت معدلات غير مسبوقة تجاهها من قبل السعودية والإمارات ومصر.. وفي الطريق إليها دول أخرى كالسودان والبحرين وتونس وموريتانيا! ملحمة هائلة لا يدفع ثمنها ولا يصطلي بنارها أحد بقدر أهل السنة.. *** إلى لحظة كتابة هذه السطور لم يُعلن بعد عمن ارتكب حادثة مسجد الروضة في سيناء والتي ذهب ضحيتها –حتى لحظة كتابة هذه السطور- أكثر من ثلاثمائة قتيل، ما يجعلها أكبر حادثة من نوعها في مصر منذ سلسلة المذابح التي ارتكبها العسكر في فض اعتصام رابعة وما بعدها. ويحتاج تناول الحادثة إلى بيان بعض النقاط باختصار شديد: 1.الجميع أدان الحادثة، بداية من ترامب وحتى جماعة جند الإسلام التابع لتنظيم القاعدة في سيناء، مرورا بالرؤساء والدول والحكومات والكيانات الحكومية والمعارضة المصرية بسائر أطيافها.. إلا أن أقل القليل منها ما كان صادقا، ذلك أن أهل سيناء يُقتلون يوميا بسائر أنواع القتل على يد العسكر المصري دون أن يحرك هذا شعرة لدى أكثرهم، بل كثير منهم هو عضو في آلة التحريض على المزيد من القتل والتهجير لأهل سيناء. 2.السرعة التي اجتمعت بها اللجنة الأمنية المصغرة، والتي صدرت بها تغريدة ترامب، واللهجة التي تحدث بها السيسي، ثم ارتفاع مبلغ التعويضات لأسر الضحايا.. كلها أمور غير معهودة، وهي تثير الشكوك في أن تكون تلك الحادثة ضمن سلسلة الحوادث التي تقع بيد الأجهزة الأمنية أو برعاية وتوجيه واختراق تلك الأجهزة الأمنية للحركات الجهادية، وملف الاختراق ملف متخم متضخم منذ تجربة الجزائر والعراق وسوريا! إلا أنه في سيناء يُلقي بالنظر بعيدا نحو صفقة القرن التي تريد إنهاء الملف الفلسطيني بتهجير الغزاويين إلى سيناء وضرب كل إمكانية وأداة للمقاومة في قطاع غزة.. ولا نحسب أن ترامب يمكن أن يخدش "إنسانيته" حادث لو لم يكن واقعا في هذا السياق! 3.يعاني تنظيم الدولة (ولاية سيناء) من تراجع في القدرات العسكرية لمواجهة الجيش والشرطة، ومن تآكل في الحاضنة الشعبية السيناوية، ومن ثم فقد بدأت تظهر منه استهدافات لقطاعات مدنية مثل السائقين الذين ينقلون مواد لمصانع الجيش، أو حوادث إلزام النساء بالتنقل مع محرم أو إلزامهن بالزي الشرعي ونحوه.. ذلك السياق، حين يتم في أرض لا يتحقق عليها التمكين، هو نفسه السياق الذي تتحول فيه الحركة الجهادية لضرب نفسها وحاضنتها الشعبية واختلال في أولوياتها وأهدافها، وهو نذير انهيارها وهزيمتها في نهاية المطاف. 4.أخطر ما في الغلو أنه يستطيع أن يوحد بين الأضداد، قد اجتمع على إدانة الحادث من بأقطارها منذ ترامب حتى تنظيم القاعدة، كما اجتمع على الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر كل من فيها وما حولها، كما اجتمع على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق كل من فيها وما حولها.. الغلو يجبر أطياف الأمة –بما فيها أطياف المقاومة- على أن تصطف ضده، ثم يرث العدو نتيجة المعركة في النهاية بعد أن يختلط الحابل والنابل، ويختلط الخائن بمن يدفع الصائل، ويختلط المخلص بالمجرم.. ولهذا سعت وتسعى الأنظمة الحاكمة إلى تصنيع الغلو وإنتاجه عند الفشل في كبح تمدد المقاومة، هنا يبدأ الغلو في أكل المقاومة ثم في أكل الحاضنة الشعبية ثم في أكل نفسه بنفسه.. وفي تلك الأثناء يتحقق للعدو بيد الغلو ما لا يحسن العدو أن يحققه بنفسه!
وقودها أهل السنة

محمد إلهامي

في واحدة من غرائبه ونوادره غير المتوقعة تحدث السيسي عن أن موضوع مياه نهر النيل لا علاقة له به، وأن المسألة ليست موجهة ضده بل موجهة ضد الشعب، وعلى الشعب أن يتصرف.. وألقى بالمسؤولية على الحكومة ورئيس البرلمان ليتصرفوا في الموضوع! كأن السيسي ليس رئيسا لهذه الدولة!
منطق غير معروف ولا معهود بل ولا مسبوق في التنصل من المسؤولية.. وهو كافٍ لبيان مدى ما يمكن أن يفعله هذا الشيطان بالبلاد والعباد. مما يجعل كل محاولة للتخلص منه ومن نظامه ضرورة بقاء إضافة إلى كونه واجبا شرعيا ووطنيا.
***

تتعثر المصالحة الفلسطينية، ويزداد الخطر المرتقب المتوقع منها، لم تحصل حماس حتى اللحظة على أية مكاسب على الرغم مما قدمته من التنازلات، وقد كشف الفيديو الشهير لصلاح البردويل أن الأمر يزداد تعثرا بلا أفق، ويزداد زعماء السلطة في التصريحات التي تطلب من حماس مزيدا من الركوع والخضوع والاستسلام.
وقد غرق الداعمون (الأتراك والقطريون) في مشكلاتهم بما يجعلهم عمليا خارج المراهنة الفلسطينية، ولم يبق إلا باب إيران.. إيران صاحبة المشروع الصفوي التشيعي، وصاحبة المذابح الهائلة لأهل السنة في العراق وسوريا فضلا عن لبنان واليمن.

كذا خيارات الاستضعاف، أحلاها مر.. وحماس بطبيعة الحال أضعف من أن تغير مسار العالم وحدها، العالم الذي يبدو أنه يعود إلى لحظة ما قبل الثورات حيث تصطف دول "الاعتدال" ضد دول "الممانعة"، على رأس الاعتدال: إسرائيل، وعلى رأس الممانعة: إيران.. وهما يصطرعان على زعامة المنطقة!

إلا أن تغيرا جديدا طرأ على الساحة؟؟ فبقدر ما خسرت إيران بما فعلته في زمن الثورات بالعراق وسوريا ولبنان واليمن، بقدر ما كسبت إسرائيل بالهرولة التي بلغت معدلات غير مسبوقة تجاهها من قبل السعودية والإمارات ومصر.. وفي الطريق إليها دول أخرى كالسودان والبحرين وتونس وموريتانيا!

ملحمة هائلة لا يدفع ثمنها ولا يصطلي بنارها أحد بقدر أهل السنة..
***

إلى لحظة كتابة هذه السطور لم يُعلن بعد عمن ارتكب حادثة مسجد الروضة في سيناء والتي ذهب ضحيتها –حتى لحظة كتابة هذه السطور- أكثر من ثلاثمائة قتيل، ما يجعلها أكبر حادثة من نوعها في مصر منذ سلسلة المذابح التي ارتكبها العسكر في فض اعتصام رابعة وما بعدها.

ويحتاج تناول الحادثة إلى بيان بعض النقاط باختصار شديد:

1.الجميع أدان الحادثة، بداية من ترامب وحتى جماعة جند الإسلام التابع لتنظيم القاعدة في سيناء، مرورا بالرؤساء والدول والحكومات والكيانات الحكومية والمعارضة المصرية بسائر أطيافها.. إلا أن أقل القليل منها ما كان صادقا، ذلك أن أهل سيناء يُقتلون يوميا بسائر أنواع القتل على يد العسكر المصري دون أن يحرك هذا شعرة لدى أكثرهم، بل كثير منهم هو عضو في آلة التحريض على المزيد من القتل والتهجير لأهل سيناء.

2.السرعة التي اجتمعت بها اللجنة الأمنية المصغرة، والتي صدرت بها تغريدة ترامب، واللهجة التي تحدث بها السيسي، ثم ارتفاع مبلغ التعويضات لأسر الضحايا.. كلها أمور غير معهودة، وهي تثير الشكوك في أن تكون تلك الحادثة ضمن سلسلة الحوادث التي تقع بيد الأجهزة الأمنية أو برعاية وتوجيه واختراق تلك الأجهزة الأمنية للحركات الجهادية، وملف الاختراق ملف متخم متضخم منذ تجربة الجزائر والعراق وسوريا! إلا أنه في سيناء يُلقي بالنظر بعيدا نحو صفقة القرن التي تريد إنهاء الملف الفلسطيني بتهجير الغزاويين إلى سيناء وضرب كل إمكانية وأداة للمقاومة في قطاع غزة.. ولا نحسب أن ترامب يمكن أن يخدش "إنسانيته" حادث لو لم يكن واقعا في هذا السياق!

3.يعاني تنظيم الدولة (ولاية سيناء) من تراجع في القدرات العسكرية لمواجهة الجيش والشرطة، ومن تآكل في الحاضنة الشعبية السيناوية، ومن ثم فقد بدأت تظهر منه استهدافات لقطاعات مدنية مثل السائقين الذين ينقلون مواد لمصانع الجيش، أو حوادث إلزام النساء بالتنقل مع محرم أو إلزامهن بالزي الشرعي ونحوه.. ذلك السياق، حين يتم في أرض لا يتحقق عليها التمكين، هو نفسه السياق الذي تتحول فيه الحركة الجهادية لضرب نفسها وحاضنتها الشعبية واختلال في أولوياتها وأهدافها، وهو نذير انهيارها وهزيمتها في نهاية المطاف.

4.أخطر ما في الغلو أنه يستطيع أن يوحد بين الأضداد، قد اجتمع على إدانة الحادث من بأقطارها منذ ترامب حتى تنظيم القاعدة، كما اجتمع على الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر كل من فيها وما حولها، كما اجتمع على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق كل من فيها وما حولها.. الغلو يجبر أطياف الأمة –بما فيها أطياف المقاومة- على أن تصطف ضده، ثم يرث العدو نتيجة المعركة في النهاية بعد أن يختلط الحابل والنابل، ويختلط الخائن بمن يدفع الصائل، ويختلط المخلص بالمجرم.. ولهذا سعت وتسعى الأنظمة الحاكمة إلى تصنيع الغلو وإنتاجه عند الفشل في كبح تمدد المقاومة، هنا يبدأ الغلو في أكل المقاومة ثم في أكل الحاضنة الشعبية ثم في أكل نفسه بنفسه.. وفي تلك الأثناء يتحقق للعدو بيد الغلو ما لا يحسن العدو أن يحققه بنفسه!
‏٠٥‏/١٢‏/٢٠١٧ ٦:٤٨ م‏
(( العدد الجديد )) بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الخامس من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر ديسمبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/EaaA1F نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq لتحميل الأعداد السابقة تفضل بزيارة مدونتنا: https://klmtuhaq.blog
(( العدد الجديد ))

بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الخامس من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر ديسمبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/EaaA1F

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:

تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq

لتحميل الأعداد السابقة تفضل بزيارة مدونتنا:
https://klmtuhaq.blog/
‏٠١‏/١٢‏/٢٠١٧ ٦:٣١ م‏
حاجة الثوار إلى التدوين عبد الغني مزوز شرعت قبل فترة في كتابة مقال عن حصار مدينة حلب، والملاحم التي خاضها الثوار من أجل كسره وإنهائه، واستغربت عن شح المواد التي كتبها الثوار في هذا الصدد، بل حتى عندما قمت بالبحث بواسطة جوجل عن تفاصيل المعارك التي أطلقتها الفصائل المقاتلة واختارت لها أسماء مميزة لم أجد ما يكفي من المواد التي يمكن لأي باحث أو كاتب أو مؤرخ الاطمئنان إليها وهو يتناول أهم وأخطر المراحل في تاريخ الأمة الحديث. فعندما تبحث مثلا عن " غزوة أبو عمر سراقب " أو " غزوة إبراهيم اليوسف" فإن النتائج الأولى للبحث ستأخذك إلى موقع قناة العالم وقناة المنار وقناة الميادين الإيرانية وغيرها من المواقع المنصات الإلكترونية المؤيدة لنظام الأسد. من الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها الثوار والناشطون والكتاب المؤيدون للثورة السورية وغيرها من الثورات -ولا زالوا يرتكبونها- هي اعتمادهم على مواقع التواصل الاجتماعي في الكتابة وتوثيق الأحداث وتسجيل المواقف، مع حرص تلك المواقع على حذف معظم موادهم وإيقاف حساباتهم دون وجود أية إمكانية لاستعادتها من جديد ما يعني الضياع النهائي لكل ما نشر عليها من مواد قد يكون بعضها في غاية الأهمية، إذ يحدث كثيرا أن تمر على مقالة أو شهادة لأحد الثوار أو الناشطين يسرد فيها معلومات ومعطيات مهمة وعند عودتك إليها لاعتمادها كمصدر لموضوع تشتغل عليه تتفاجأ باختفاء الحساب المعني بما انطوى عليه من معلومات قيمة. لا شك أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) سينعكس سلبا على مهمة توثيق فصول الثورة وتأريخ أحداثها، فبقدر ما ساهمت هذه المواقع في الامتداد الأفقي والانتشار اللحظي لقضايا الثورة؛ بقدر ما ستكون سببا في انحسارها من صفحات التاريخ وذاكرة الشعوب. إن الوتيرة التي يتم بها حذف حسابات الثوار مع مزيد من التوجه نحو تشديد الرقابة وشروط استخدامها والنشر عليها ستجعل الثورة السورية -وغيرها- في غضون عدة سنوات ثورة محدودة التوثيق وقد لا تعثر على رواية مكتوبة لأصحابها ومن عايش أحداثها إلا بشق الأنفس، بينما خصومها ومن يكيد لها يوثقون روايتهم لما يجري في آلاف الكتب والمجلات والدوريات المتخصصة. في هذه المقالة سنحاول تقديم مقترحات عملية لحفظ التراث الفكري والتوثيقي للثورات وصون أرشيفها من الضياع والاندثار. العودة إلى المدونات انتعشت ثقافة المدونات الإلكترونية في أواسط العقد الماضي، ولم تكد تظهر مواقع التواصل الاجتماعي حتى تم هجرها وإهمالها لحساب الوافد الإلكتروني الجديد؛ لما تتيحه هذه المنصات من سهولة في الاستخدام وسرعة في الانتشار ولطبيعتها التواصلية التي توظف أكثر وسائط الصوت والصورة والفيديو، لكن تبقى للمدونات الإلكترونية ميزاتها الفريدة، وهذه الميزات هي ما يحتاج إليه الثوار وكتابهم ومثقفوهم، فهي خدمات مجانية تقدمها عدة مواقع أفضلها blogger.com وتمكن من إنشاء مواقع شخصية، مع التحكم التام في محتواها وواجهتها وتصميمها، مع مساحة نشر غير محدودة وسهولة في إدارة لوحة تحكمها، كما أنها نادرا ما تتعرض للحذف والإغلاق. الكتابة والنشر في المدونات يعني أن تبقى موادك محفوظة ومتاحة للباحثين والمهتمين دائما مع إمكانية طبعها أو تخزينها بصيغ متعددة مثل pdf و html وغيرها، وهناك خصائص أخرى تمتاز بها المدونات كإضافة القائمة البريدية التي تمكن متابعيك من التوصل على إيميلاتهم بكل جديدك فور قيامك بنشره. وبالتالي ينبغي على كل كتاب الثورة ومن يهتمون بتوثيق أحداثها ومساراتها-والثوار أنفسهم- أن ينشئوا مدونات إلكترونية، ولا بأس بعد ذلك في فتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر روابطها والإحالة إلى مواضيعها لكن يجب أن تبقى المدونة في صدارة العناية والاهتمام. عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الحسابات التي أنشئت وتم حذفها على مواقع التواصل الاجتماعي، لو أنشئ مقابلها ألف مدونة إلكترونية نشيطة فقط لشكل ذلك ثروة فكرية وتوثيقية لا يُستهان بها، وخدمة عظيمة للباحثين والمراقبين وأجيال الأمة القادمة. جاءت مواقع التواصل الاجتماعي فحملت معها ثقافة الإيجاز وبلاغة الصورة والاقتصاد اللغوي، فيما توارت المدونات والمنتديات وتوارت معها ثقافة التدوين المسترسل والكتابة المطولة، ما انعكس سلبا على المحتوى المعرفي العربي على الشبكة، وأثر أيضا على عادات القراء الذين باتوا يستثقلون النصوص الطويلة ويفضلون عليها التغريدات والمنشورات القصيرة. وإذا كانت هذه المواقع قد نجحت في حشد الناس ضد الحكام المستبدين، وأتاحت للجماهير تداول الأخبار والمعلومات وتحدي رقابة السلطة المحلية وتجاوز الروايات الرسمية المتهافتة، فإن ذلك لا يعني جدارتها بالتأريخ والتوثيق وائتمانها على إرث الثوار وذاكرة الثورة. وبالتالي لا بد من البحث عن بدائل لها تُمكن الباحثين من اعتمادها كمصادر لأبحاثهم ومواضيعهم، وتحفظ أرشيف الثورة وتصونه من الضياع، إذ لا يُعقل أن يصل إلينا ما كتبه هوميروس عن معارك اليونانيين والطرواديين في القرن التاسع قبل الميلاد ولا نجد مادة جديرة بالقراءة كتبها الثوار عن معارك حلب قبل سنة أو أقل ! المجلات والدوريات كانت المجلات والنشرات سائدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي وبفضلها وصل إلينا جزء من تراث الحركة الإسلامية، وعلى صفحاتها حُفظت تجاربها وأفكارها ومواقفها. مجلة الفجر والنداء والرسالة ونشرة الأنصار.. مازال بعضها إلى الآن في متناول الباحثين والمهتمين بقضايا الحركات الإسلامية، حيث بوسعهم نقد تجاربها ورصد مكامن الخلل والقصور في أدائها. لقد تطورت اليوم برامج التصميم والجرافيك بما يسمح بإخراج مجلات ونشرات احترافية بموارد وإمكانيات أقل، وميزة هذه المجلات أنها سهلة الطبع والحفظ والنشر والتداول، كما أن تعطيل روابطها لا يعني ضياعها حيت يمكن إعادة رفعها في بضع دقائق، أو جمع كل أعدادها في رابط واحد، وبضغطة زر تكون قد حصلت على مادة غنية لأبحاثك ودراساتك. ومع الأسف لم يسع أي فصيل في الثورة السورية –وغيرها- لإصدار مجلات ونشرات دورية خاصة، باستثناء تنظيم الدولة الذي تألق في هذا الجانب. وينبغي الإشارة في هذا السياق إلى التجربة المدهشة لتنظيم القاعدة في مجال النشرات والدوريات والإصدارات المكتوبة بصفة عامة؛ تجربة نوه بها كبار الباحثين في شؤون الجماعات الإسلامية مثل الباحث النرويجي توماس هيغهامر الذي قال :" وقد نشر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كما مدهشا من الوثائق عن نفسه بين عامي 2003 و 2004 ما يجعله أكثر جماعة عنفية وثقت أنشطتها على مر التاريخ"(1) فخلال عقد ونصف أصدر تنظيم القاعدة آلافا من الكتب والمجلات والدوريات(2) واستطاع حفظها وأرشفتها عبر تقنيات مبتكرة فشلت معها كل أساليب الحذف والرقابة، كالموسوعات والأسطوانات التجميعية والحقائب الإلكترونية، ففي ملف واحد مضغوط جمع التنظيم معظم إنتاجه الفكري وأرشيفه الجهادي والتوثيقي ورفعه على شبكة الانترنت بحيث يتسنى لأي باحث تنزيله بنقرة زر واحدة. المثير أكثر في تجربة تنظيم القاعدة أنه ما من كلمة ينطق بها أي من قادته إلا وتقوم مؤسساته الإعلامية الرسمية والرديفة بتفريغها على شكل نص مكتوب ومتاح للتحميل بصيغ متنوعة وأحجام متعددة، بل حتى بعض أفلامه المهمة يتم تفريغها كنصوص مكتوبة معززة بصور ومشاهد من الفيلم. كما أن كتابه البارزين مازالت مقالاتهم محفوظة إلى اليوم في كتب إلكترونية بصيغة pdf أو exe مع أن بعضهم توقف عن الكتابة قبل 10 سنوات كلويس عطية ويمان مخضب وعبد الرحمن الفقير واليافعي وأبو دجانة الخرساني وغيرهم. فلو أن لكل فصيل ثوري مجلة شهرية ونشرة أسبوعية لكان ذلك أدعى لحفظ فكره تراثه ومواقفه السياسية والشرعية، فبعض فصائل المقاومة العراقية مثلا اختفت من المشهد العراقي قبل سنوات لكن مجلاتها ونشراتها باقية تشهد على وجودها وتضحياتها ومواقفها من الاحتلال وأدواته . وما يقال عن هذه الفصائل يقال أيضا على كل الجماعات الإسلامية التي اختفت ولم يعد لها وجود على مسرح الأحداث لكن تراثها يأبى أن يطويه جناح النسيان. وأنا أتساءل بعد 15 سنة كيف يمكن لأي باحث أن يدرس الثورة السورية وفصائلها ويقيم تجربتها عندما يكتشف أن كل حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي قد تم إغلاقها وحذفت معها كل منشوراتها وبياناتها وتغريداتها. المذكرات والسير الذاتية درج السياسيون والقادة في الغرب على إصدار مذكراتهم وسيرهم الذاتية في مراحل معينة من أعمارهم؛ يسجلون فيها انطباعاتهم ومواقفهم حيال مختلف الأحداث التي مروا بها في حياتهم وأثناء أدائهم للمسؤوليات التي أنيطت بهم، وغالبا ما تكون اليوميات التي يدونونها المادة الأساسية لهذه المذكرات. ورغم ما يعتري هذه المذكرات من مبالغة في تمجيد الذات وجنوح أصحابها عن الحياد والموضوعية والحضور الطاغي لخلفياتهم الأيديولوجية، إلا أنها تتسم بالأهمية والوجاهة لمن أراد أن يحيط بالأحداث والوقائع على نحو أعمق. ثقافة كتابة المذكرات وتدوين اليوميات لم تنتشر كما ينبغي بين قادة وشباب العمل الإسلامي والثوري مع أنهم كانوا شهودا على مراحل خطيرة ومفصلية جديرة بتدوين وتخليد تفاصيلها، فبعضهم عايش ويلات اللجوء والمنافي والحصار وبعضهم شهد حروبا ومعارك وبعضهم مر بأهوال السجن والاعتقال، ولو سجل كل واحد ما شهده من أحداث ومواقف لتم إغناء المكتبة الثورية والأدبية، إضافة لكون هذه السير والمذكرات صكوك إدانة لجلاديهم وأعدائهم. فهل يمكن مثلا دراسة الثورة الكوبية دون الإطلاع على اليوميات التي كان تشي غيفارا يدونها. تسجيل اليوميات والمذكرات لم يكن تقليدا خاصا بقادة الغرب وزعمائه، بل سبق إليه قادة المسلمين وفرسانهم، فقصة الفارس أسامة بن منقذ مع الكتابة والتدوين تثير الإعجاب والتقدير، هذا الفارس المثقف الذي كانت له بصمة مشرفة إبان الحروب الصليبية، ورغم كل ما قيل عن شخصيته المثيرة للجدل إلا عددا من المؤرخين أثنوا عليه وأشادوا به منهم الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء". خلف أسامة بعد وفاته أكثر من ثلاثين كتابا بعضها يقع في عدة مجلدات، ومن بينها كتابه الشهير " الاعتبار" وهو عبارة عن مذكرات شخصية تحدث فيها بن منقذ كشاهد على حقبة الحروب الصليبية، " ويبدو الكتاب وثيقة حية من وثائق حروب الإفرنج.. لا نعرف لها شبيها"(3) و" أغلب الظن أنه جمعه مما كان يدونه من الحوادث والأخبار في جزازات ودفاتر"(4)، كان أسامة بن منقذ فارسا نبيلا محبا للمغامرة ومولعا بالقراءة والكتابة، وقد أورد في كتابه " الاعتبار" قصة عجيبة عن اعتراض الصليبيين لمركب أهله وهم سائرون من مصر إلى الشام فنهبوا ما فيه من مال وحلي وجواهر، ولم يفجع بذلك كفجعه بسرقتهم لكتبه التي تربو على أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة وقال بأن: " ذهابها حزازة في قلبه ما عاش (5) وقد استفاد وليم الصوري وهو مؤرخ صليبي يتقن اللغة العربية من كتب أسامة بن منقذ المنهوبة ونسبها إليه في كتاباته (6). إن أسامة بن منقذ نموذج للفارس المسلم المحب للتدوين والكتابة والمخلص للكتب والقراءة، وقد ساهمت شخصيته المتفردة في كتابة أفضل بيان عن الحروب الصليبية في العصور الوسطى.(7) الثورات والحروب ليست زخما من الأحداث والوقائع فقط بل أيضا تجارب نفسية وانطباعات شخصية وانفعالات وجدانية وهي من الأبعاد العميقة والمحددة لمعظم تلك الأحداث، ولا يمكن رصدها إلا من خلال المذكرات الشخصية والسير الذاتية التي تتضمن بوحا نزيها واعترافات صادقة من مبدعيها وكتابها. وجدير برجال وقادة العمل الإسلامي أن يدونوا يومياتهم وسيرهم الذاتية حتى لا يطوي النسيان تضحياتهم وحتى يساهم كل من جانبه في كتابة تاريخ هذه الأمة. ــــــــــــــــــــــــــــــ 1)- توماس هيغهامر، الجهاد في السعودية قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ص25 2)- أحصيت أكثر من 20 مجلة رسمية وشبه رسمية أصدرها تنظيم القادة خلال الـ15 سنة الماضية. 3)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص20 4)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص9 5)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص96 6)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص16 7)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص16
حاجة الثوار إلى التدوين
عبد الغني مزوز

شرعت قبل فترة في كتابة مقال عن حصار مدينة حلب، والملاحم التي خاضها الثوار من أجل كسره وإنهائه، واستغربت عن شح المواد التي كتبها الثوار في هذا الصدد، بل حتى عندما قمت بالبحث بواسطة جوجل عن تفاصيل المعارك التي أطلقتها الفصائل المقاتلة واختارت لها أسماء مميزة لم أجد ما يكفي من المواد التي يمكن لأي باحث أو كاتب أو مؤرخ الاطمئنان إليها وهو يتناول أهم وأخطر المراحل في تاريخ الأمة الحديث.

فعندما تبحث مثلا عن " غزوة أبو عمر سراقب " أو " غزوة إبراهيم اليوسف" فإن النتائج الأولى للبحث ستأخذك إلى موقع قناة العالم وقناة المنار وقناة الميادين الإيرانية وغيرها من المواقع المنصات الإلكترونية المؤيدة لنظام الأسد.

من الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها الثوار والناشطون والكتاب المؤيدون للثورة السورية وغيرها من الثورات -ولا زالوا يرتكبونها- هي اعتمادهم على مواقع التواصل الاجتماعي في الكتابة وتوثيق الأحداث وتسجيل المواقف، مع حرص تلك المواقع على حذف معظم موادهم وإيقاف حساباتهم دون وجود أية إمكانية لاستعادتها من جديد ما يعني الضياع النهائي لكل ما نشر عليها من مواد قد يكون بعضها في غاية الأهمية، إذ يحدث كثيرا أن تمر على مقالة أو شهادة لأحد الثوار أو الناشطين يسرد فيها معلومات ومعطيات مهمة وعند عودتك إليها لاعتمادها كمصدر لموضوع تشتغل عليه تتفاجأ باختفاء الحساب المعني بما انطوى عليه من معلومات قيمة.

لا شك أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب) سينعكس سلبا على مهمة توثيق فصول الثورة وتأريخ أحداثها، فبقدر ما ساهمت هذه المواقع في الامتداد الأفقي والانتشار اللحظي لقضايا الثورة؛ بقدر ما ستكون سببا في انحسارها من صفحات التاريخ وذاكرة الشعوب. إن الوتيرة التي يتم بها حذف حسابات الثوار مع مزيد من التوجه نحو تشديد الرقابة وشروط استخدامها والنشر عليها ستجعل الثورة السورية -وغيرها- في غضون عدة سنوات ثورة محدودة التوثيق وقد لا تعثر على رواية مكتوبة لأصحابها ومن عايش أحداثها إلا بشق الأنفس، بينما خصومها ومن يكيد لها يوثقون روايتهم لما يجري في آلاف الكتب والمجلات والدوريات المتخصصة. في هذه المقالة سنحاول تقديم مقترحات عملية لحفظ التراث الفكري والتوثيقي للثورات وصون أرشيفها من الضياع والاندثار.

العودة إلى المدونات
انتعشت ثقافة المدونات الإلكترونية في أواسط العقد الماضي، ولم تكد تظهر مواقع التواصل الاجتماعي حتى تم هجرها وإهمالها لحساب الوافد الإلكتروني الجديد؛ لما تتيحه هذه المنصات من سهولة في الاستخدام وسرعة في الانتشار ولطبيعتها التواصلية التي توظف أكثر وسائط الصوت والصورة والفيديو، لكن تبقى للمدونات الإلكترونية ميزاتها الفريدة، وهذه الميزات هي ما يحتاج إليه الثوار وكتابهم ومثقفوهم، فهي خدمات مجانية تقدمها عدة مواقع أفضلها blogger.com وتمكن من إنشاء مواقع شخصية، مع التحكم التام في محتواها وواجهتها وتصميمها، مع مساحة نشر غير محدودة وسهولة في إدارة لوحة تحكمها، كما أنها نادرا ما تتعرض للحذف والإغلاق.

الكتابة والنشر في المدونات يعني أن تبقى موادك محفوظة ومتاحة للباحثين والمهتمين دائما مع إمكانية طبعها أو تخزينها بصيغ متعددة مثل pdf و html وغيرها، وهناك خصائص أخرى تمتاز بها المدونات كإضافة القائمة البريدية التي تمكن متابعيك من التوصل على إيميلاتهم بكل جديدك فور قيامك بنشره. وبالتالي ينبغي على كل كتاب الثورة ومن يهتمون بتوثيق أحداثها ومساراتها-والثوار أنفسهم- أن ينشئوا مدونات إلكترونية، ولا بأس بعد ذلك في فتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لنشر روابطها والإحالة إلى مواضيعها لكن يجب أن تبقى المدونة في صدارة العناية والاهتمام.

عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الحسابات التي أنشئت وتم حذفها على مواقع التواصل الاجتماعي، لو أنشئ مقابلها ألف مدونة إلكترونية نشيطة فقط لشكل ذلك ثروة فكرية وتوثيقية لا يُستهان بها، وخدمة عظيمة للباحثين والمراقبين وأجيال الأمة القادمة.

جاءت مواقع التواصل الاجتماعي فحملت معها ثقافة الإيجاز وبلاغة الصورة والاقتصاد اللغوي، فيما توارت المدونات والمنتديات وتوارت معها ثقافة التدوين المسترسل والكتابة المطولة، ما انعكس سلبا على المحتوى المعرفي العربي على الشبكة، وأثر أيضا على عادات القراء الذين باتوا يستثقلون النصوص الطويلة ويفضلون عليها التغريدات والمنشورات القصيرة. وإذا كانت هذه المواقع قد نجحت في حشد الناس ضد الحكام المستبدين، وأتاحت للجماهير تداول الأخبار والمعلومات وتحدي رقابة السلطة المحلية وتجاوز الروايات الرسمية المتهافتة، فإن ذلك لا يعني جدارتها بالتأريخ والتوثيق وائتمانها على إرث الثوار وذاكرة الثورة. وبالتالي لا بد من البحث عن بدائل لها تُمكن الباحثين من اعتمادها كمصادر لأبحاثهم ومواضيعهم، وتحفظ أرشيف الثورة وتصونه من الضياع، إذ لا يُعقل أن يصل إلينا ما كتبه هوميروس عن معارك اليونانيين والطرواديين في القرن التاسع قبل الميلاد ولا نجد مادة جديرة بالقراءة كتبها الثوار عن معارك حلب قبل سنة أو أقل !

المجلات والدوريات
كانت المجلات والنشرات سائدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي وبفضلها وصل إلينا جزء من تراث الحركة الإسلامية، وعلى صفحاتها حُفظت تجاربها وأفكارها ومواقفها. مجلة الفجر والنداء والرسالة ونشرة الأنصار.. مازال بعضها إلى الآن في متناول الباحثين والمهتمين بقضايا الحركات الإسلامية، حيث بوسعهم نقد تجاربها ورصد مكامن الخلل والقصور في أدائها.

لقد تطورت اليوم برامج التصميم والجرافيك بما يسمح بإخراج مجلات ونشرات احترافية بموارد وإمكانيات أقل، وميزة هذه المجلات أنها سهلة الطبع والحفظ والنشر والتداول، كما أن تعطيل روابطها لا يعني ضياعها حيت يمكن إعادة رفعها في بضع دقائق، أو جمع كل أعدادها في رابط واحد، وبضغطة زر تكون قد حصلت على مادة غنية لأبحاثك ودراساتك. ومع الأسف لم يسع أي فصيل في الثورة السورية –وغيرها- لإصدار مجلات ونشرات دورية خاصة، باستثناء تنظيم الدولة الذي تألق في هذا الجانب.

وينبغي الإشارة في هذا السياق إلى التجربة المدهشة لتنظيم القاعدة في مجال النشرات والدوريات والإصدارات المكتوبة بصفة عامة؛ تجربة نوه بها كبار الباحثين في شؤون الجماعات الإسلامية مثل الباحث النرويجي توماس هيغهامر الذي قال :" وقد نشر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كما مدهشا من الوثائق عن نفسه بين عامي 2003 و 2004 ما يجعله أكثر جماعة عنفية وثقت أنشطتها على مر التاريخ"(1) فخلال عقد ونصف أصدر تنظيم القاعدة آلافا من الكتب والمجلات والدوريات(2) واستطاع حفظها وأرشفتها عبر تقنيات مبتكرة فشلت معها كل أساليب الحذف والرقابة، كالموسوعات والأسطوانات التجميعية والحقائب الإلكترونية، ففي ملف واحد مضغوط جمع التنظيم معظم إنتاجه الفكري وأرشيفه الجهادي والتوثيقي ورفعه على شبكة الانترنت بحيث يتسنى لأي باحث تنزيله بنقرة زر واحدة.

المثير أكثر في تجربة تنظيم القاعدة أنه ما من كلمة ينطق بها أي من قادته إلا وتقوم مؤسساته الإعلامية الرسمية والرديفة بتفريغها على شكل نص مكتوب ومتاح للتحميل بصيغ متنوعة وأحجام متعددة، بل حتى بعض أفلامه المهمة يتم تفريغها كنصوص مكتوبة معززة بصور ومشاهد من الفيلم. كما أن كتابه البارزين مازالت مقالاتهم محفوظة إلى اليوم في كتب إلكترونية بصيغة pdf أو exe مع أن بعضهم توقف عن الكتابة قبل 10 سنوات كلويس عطية ويمان مخضب وعبد الرحمن الفقير واليافعي وأبو دجانة الخرساني وغيرهم.

فلو أن لكل فصيل ثوري مجلة شهرية ونشرة أسبوعية لكان ذلك أدعى لحفظ فكره تراثه ومواقفه السياسية والشرعية، فبعض فصائل المقاومة العراقية مثلا اختفت من المشهد العراقي قبل سنوات لكن مجلاتها ونشراتها باقية تشهد على وجودها وتضحياتها ومواقفها من الاحتلال وأدواته . وما يقال عن هذه الفصائل يقال أيضا على كل الجماعات الإسلامية التي اختفت ولم يعد لها وجود على مسرح الأحداث لكن تراثها يأبى أن يطويه جناح النسيان.

وأنا أتساءل بعد 15 سنة كيف يمكن لأي باحث أن يدرس الثورة السورية وفصائلها ويقيم تجربتها عندما يكتشف أن كل حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي قد تم إغلاقها وحذفت معها كل منشوراتها وبياناتها وتغريداتها.

المذكرات والسير الذاتية
درج السياسيون والقادة في الغرب على إصدار مذكراتهم وسيرهم الذاتية في مراحل معينة من أعمارهم؛ يسجلون فيها انطباعاتهم ومواقفهم حيال مختلف الأحداث التي مروا بها في حياتهم وأثناء أدائهم للمسؤوليات التي أنيطت بهم، وغالبا ما تكون اليوميات التي يدونونها المادة الأساسية لهذه المذكرات.

ورغم ما يعتري هذه المذكرات من مبالغة في تمجيد الذات وجنوح أصحابها عن الحياد والموضوعية والحضور الطاغي لخلفياتهم الأيديولوجية، إلا أنها تتسم بالأهمية والوجاهة لمن أراد أن يحيط بالأحداث والوقائع على نحو أعمق.

ثقافة كتابة المذكرات وتدوين اليوميات لم تنتشر كما ينبغي بين قادة وشباب العمل الإسلامي والثوري مع أنهم كانوا شهودا على مراحل خطيرة ومفصلية جديرة بتدوين وتخليد تفاصيلها، فبعضهم عايش ويلات اللجوء والمنافي والحصار وبعضهم شهد حروبا ومعارك وبعضهم مر بأهوال السجن والاعتقال، ولو سجل كل واحد ما شهده من أحداث ومواقف لتم إغناء المكتبة الثورية والأدبية، إضافة لكون هذه السير والمذكرات صكوك إدانة لجلاديهم وأعدائهم. فهل يمكن مثلا دراسة الثورة الكوبية دون الإطلاع على اليوميات التي كان تشي غيفارا يدونها.

تسجيل اليوميات والمذكرات لم يكن تقليدا خاصا بقادة الغرب وزعمائه، بل سبق إليه قادة المسلمين وفرسانهم، فقصة الفارس أسامة بن منقذ مع الكتابة والتدوين تثير الإعجاب والتقدير، هذا الفارس المثقف الذي كانت له بصمة مشرفة إبان الحروب الصليبية، ورغم كل ما قيل عن شخصيته المثيرة للجدل إلا عددا من المؤرخين أثنوا عليه وأشادوا به منهم الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء". خلف أسامة بعد وفاته أكثر من ثلاثين كتابا بعضها يقع في عدة مجلدات، ومن بينها كتابه الشهير " الاعتبار" وهو عبارة عن مذكرات شخصية تحدث فيها بن منقذ كشاهد على حقبة الحروب الصليبية، " ويبدو الكتاب وثيقة حية من وثائق حروب الإفرنج.. لا نعرف لها شبيها"(3) و" أغلب الظن أنه جمعه مما كان يدونه من الحوادث والأخبار في جزازات ودفاتر"(4)، كان أسامة بن منقذ فارسا نبيلا محبا للمغامرة ومولعا بالقراءة والكتابة، وقد أورد في كتابه " الاعتبار" قصة عجيبة عن اعتراض الصليبيين لمركب أهله وهم سائرون من مصر إلى الشام فنهبوا ما فيه من مال وحلي وجواهر، ولم يفجع بذلك كفجعه بسرقتهم لكتبه التي تربو على أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة وقال بأن: " ذهابها حزازة في قلبه ما عاش (5) وقد استفاد وليم الصوري وهو مؤرخ صليبي يتقن اللغة العربية من كتب أسامة بن منقذ المنهوبة ونسبها إليه في كتاباته (6). إن أسامة بن منقذ نموذج للفارس المسلم المحب للتدوين والكتابة والمخلص للكتب والقراءة، وقد ساهمت شخصيته المتفردة في كتابة أفضل بيان عن الحروب الصليبية في العصور الوسطى.(7)

الثورات والحروب ليست زخما من الأحداث والوقائع فقط بل أيضا تجارب نفسية وانطباعات شخصية وانفعالات وجدانية وهي من الأبعاد العميقة والمحددة لمعظم تلك الأحداث، ولا يمكن رصدها إلا من خلال المذكرات الشخصية والسير الذاتية التي تتضمن بوحا نزيها واعترافات صادقة من مبدعيها وكتابها. وجدير برجال وقادة العمل الإسلامي أن يدونوا يومياتهم وسيرهم الذاتية حتى لا يطوي النسيان تضحياتهم وحتى يساهم كل من جانبه في كتابة تاريخ هذه الأمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- توماس هيغهامر، الجهاد في السعودية قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ص25
2)- أحصيت أكثر من 20 مجلة رسمية وشبه رسمية أصدرها تنظيم القادة خلال الـ15 سنة الماضية.
3)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص20
4)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص9
5)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص96
6)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص16
7)- أسامة بن منقذ، الاعتبار، تحقيق عبد الكريم الأشتر، ص16
‏٢٨‏/١١‏/٢٠١٧ ٧:٣٨ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
روابط تحميل مباشرة للأعداد السابقة من #مجلة_كلمة_حق:

العدد الأول:
https://goo.gl/ua1sPg
العدد الثاني:
http://bit.ly/2eZy0ed
العدد الثالث:
https://goo.gl/gYc5Jc

العدد الرابع:
https://goo.gl/okhK5f

وانتظرونا والعدد الخامس الذي يصدر يوم ١ ديسمبر إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

قناتنا على تيليجرام:
t.me/klmtuhaq
حسابنا على تويتر:
twitter.com/klmtuhaq
المدونة الرسمية:
klmtuhaq.blog
‏٢٨‏/١١‏/٢٠١٧ ١٠:٢٦ ص‏
علم التمرد م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed] حدثت ثورة في تعريب العلوم العسكرية أثناء حقبة الحروب مع إسرائيل، وبالأخص عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧، إذ انبرى عدد من العسكريين والخبراء لترجمة أبرز الكتب العسكرية آنذاك لإفادة الجيوش العربية في مرحلة إعادة البناء، وبرز من هؤلاء المقدم "هيثم الأيوبي" و"أكرم الديري"، اللذان ترجما العديد من الكتب المميزة، مثل (عن الحرب) لكلاوزفيتز عام ١٩٦٩، و(الحرب الميكانيكية) للجنرال فولر عام 1967، و(الاستراتيجية وتاريخها في العالم) لليدل هارت عام 1967، وقد كنت أحتفظ سابقاً بنسخة من كتاب (الذكاء والقيم المعنوية في الحرب ) للجنرال الفرنسي "جون بيريه" مهداة عام ١٩٦٨ من المترجمين "الديري والأيوبي" لرئيس أركان الجيش المصري الفريق عبدالمنعم رياض. ثم عقب حرب أكتوبر وبدء مسيرة كامب ديفيد والتطبيع مع دولة اليهود، ضعفت ثم تلاشت جهود الترجمة والتأليف في العلوم العسكرية، بيننا انتشرت ترجمة الروايات وما شابه من معارف غير مرتبطة باحتياجات الأمة في صراعاتها العنيفة والمستمرة مع خصومها. بينما على الضفة الأخرى من العالم، نجد اهتماماً كبيراً ومتزايداً في الغرب بالكتابة والتدوين في المجالات العسكرية المتنوعة، وبالأخص المرتبط منها بمستجدات الواقع؛ ففي حقبة الحرب الباردة والصراع مع السوفييت والتي اتسمت بانتشار الحروب بالوكالة وحروب الأغوار، تزايدت الكتابات الغربية في مجال مكافحة حروب العصابات، ثم مع انهيار الاتحاد السوفيتي تراجعت وتيرة الاهتمام بالكتابة في هذا الباب. ولكن بعد أحداث سبتمبر والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وغرق أمريكا في مستنقعات المواجهة مع الجماعات الجهادية والتنظيمات المقاومة، انفجر سيل هائل من الكتابة في مجال مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد، سواء من خلال المؤسسات العسكرية الأمريكية أو من خلال المختصين في الشؤون العسكرية . فنشر الجيش الأميركي (دليل الميدان للجيش الأميركي وقوات المارينز لمكافحة التمرد) للجنرال بترايوس عام 2007، لتعميمه على قطاعاته المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي، بل وأتاحه للنشر العام لإفادة حلفائه والمتعاونين معه، ثم نشرت الحكومة الأميركية عام ٢٠٠٩ ( دليل مكافحة التمرد)، وفي العام 2014 نشر الجيش الأميركي دليلاً جديداً بعنوان (التمرد ومكافحة التمرد- FM 3-24). وسبق ذلك إصدار مركز الأسلحة الموحد بالجيش الأميركي نسخة عربية لأول مرة عام ٢٠٠٥ من مجلة العرض العسكري (Military Review)، والتي تصدر بالإنجليزية منذ عام ١٩٢٢، قائلاً إنه أصدرها بهدف تعزيز التعاون والتواصل مع القادة العسكريين العرب، واستمرت المجلة الفصلية في الصدور بالعربية بشكل دوري حتى عام ٢٠١١؛ إذ توقفت النسخة العربية عقب ثورات الربيع العربي بذريعة ارتفاع تكاليف الترجمة والطباعة والشحن! وقدمت المجلة في أعدادها المتنوعة معالجات مختلفة شملت مفاهيم العقيدة العسكرية ومبادئ القتال، والمناورات الحربية، والقيادة والسيطرة، والاستخبارات وسلاح الإشارة، والاتصالات والإعلام، وعمليات النقل والتموين، كما قدمت معالجات مهمة لعمليات مكافحة التمرد في العراق وأفغانستان كتبها ضباط ميدانيون برتب الرائد والمقدم، ولم تقتصر المجلة على عرض استراتيجيات مكافحة التمرد بل تناولت مكافحة التمرد على مستوى (السرية) والقتال في القرية، وتناولت الدروس التكتيكية المستفادة من القتال في أفغانستان، وقدمت دراسات ميدانية لمكافحة التمرد في الحزام الباشتوني وفي قاطع شرق رشيد بالعراق، وطرحت استراتيجيات لمكافحة العبوات الناسفة المصنعة محلياً، واهتمت بأدق التفاصيل؛ كما في الدراسة المنشورة عن تداعيات اعتقال (عادل المشهداني) أحد قادة المقاومة العراقية في منطقة الفضل شرق بغداد عام ٢٠٠٩، وردود أفعال سكان المنطقة على اعتقاله. ولم يقتصر الاهتمام بالكتابة في هذا الباب على المؤسسة العسكرية الأمريكية فقط، بل أصدرت مراكز الأبحاث مثل مركز "راند" دراسات تفصيلية عن تجارب مكافحة التمرد وكيفية النجاح فيها، كما قدمت توصيات استراتيجية وميدانية تختص بالحرب في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال ومواجهة تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية. وفي ظل تلك الثورة المعرفية في الشؤون العسكرية ومجال مكافحة التمرد في الغرب، احتكرت المؤسسات العسكرية العربية المعرفة في تلك المجالات كي تسحق مواطنيها دون رحمة، وقد كشف سقوط بعض الأكاديميات العسكرية السورية في يد الثوار، عن وجود أعداد ضخمة من الكتب العسكرية غير المنشورة والمترجمة عن الروسية وغيرها من اللغات، تتناول العديد من المجالات العسكرية من الحرب الدفاعية إلى الحرب الهجومية، ومن (حرب المدن) إلى (تكتيكات القتال في مناطق الإرهاب المسلح)، مروراً بالحرب الإلكترونية وكيفية اختراق المناطق المحصنة، وقد أجاد مركز نورس للدراسات بنشره مجموعة من تلك الكتب التي غنمها الثوار من مليشيات الأسد. ونحن اليوم في ظل موجة الثورات المضادة التي تتعرض خلالها شعوبنا المسلمة للحرب بالوكالة على يد ما يفترض بها أنها جيوش وطنية، سواء في الشام أو العراق أو اليمن أو مصر أو ليبيا أو أفغانستان أو ليبيا وغيرها من ديار الإسلام، أصبح من المهم العناية بتلك المجالات، وإدخالها في دائرة اهتمام الحركات الإسلامية وتحويلها إلى ثقافة شعبية ومجتمعية، ونحن في هذا المجال نحتاج لأن نخطو خطواتنا الأولى، إذ لم يدون شيء يذكر باللغة العربية، ولم تترجم أي من الكتب الرئيسية الحديثة بما فيها دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد رغم صغر حجمه (٦٤ صفحة). مما يستدعي توجيه الاهتمام لترجمة هذه الكتب وإقامة المراكز البحثية المتخصصة التي تتابع الجديد في هذا المجال وتوفره لحركات المقاومة في ربوع العالمين العربي والإسلامي، فضلاً عن العناية بتدوين تجارب فصائل وتنظيمات المقاومة ونشرها كي لا تضيع خبرات الحروب والصراعات بغياب من خاضوها.
علم التمرد

م. أحمد مولانا Ahmed

حدثت ثورة في تعريب العلوم العسكرية أثناء حقبة الحروب مع إسرائيل، وبالأخص عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧، إذ انبرى عدد من العسكريين والخبراء لترجمة أبرز الكتب العسكرية آنذاك لإفادة الجيوش العربية في مرحلة إعادة البناء، وبرز من هؤلاء المقدم "هيثم الأيوبي" و"أكرم الديري"، اللذان ترجما العديد من الكتب المميزة، مثل (عن الحرب) لكلاوزفيتز عام ١٩٦٩، و(الحرب الميكانيكية) للجنرال فولر عام 1967، و(الاستراتيجية وتاريخها في العالم) لليدل هارت عام 1967، وقد كنت أحتفظ سابقاً بنسخة من كتاب (الذكاء والقيم المعنوية في الحرب ) للجنرال الفرنسي "جون بيريه" مهداة عام ١٩٦٨ من المترجمين "الديري والأيوبي" لرئيس أركان الجيش المصري الفريق عبدالمنعم رياض.
ثم عقب حرب أكتوبر وبدء مسيرة كامب ديفيد والتطبيع مع دولة اليهود، ضعفت ثم تلاشت جهود الترجمة والتأليف في العلوم العسكرية، بيننا انتشرت ترجمة الروايات وما شابه من معارف غير مرتبطة باحتياجات الأمة في صراعاتها العنيفة والمستمرة مع خصومها.
بينما على الضفة الأخرى من العالم، نجد اهتماماً كبيراً ومتزايداً في الغرب بالكتابة والتدوين في المجالات العسكرية المتنوعة، وبالأخص المرتبط منها بمستجدات الواقع؛ ففي حقبة الحرب الباردة والصراع مع السوفييت والتي اتسمت بانتشار الحروب بالوكالة وحروب الأغوار، تزايدت الكتابات الغربية في مجال مكافحة حروب العصابات، ثم مع انهيار الاتحاد السوفيتي تراجعت وتيرة الاهتمام بالكتابة في هذا الباب. ولكن بعد أحداث سبتمبر والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وغرق أمريكا في مستنقعات المواجهة مع الجماعات الجهادية والتنظيمات المقاومة، انفجر سيل هائل من الكتابة في مجال مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد، سواء من خلال المؤسسات العسكرية الأمريكية أو من خلال المختصين في الشؤون العسكرية .
فنشر الجيش الأميركي (دليل الميدان للجيش الأميركي وقوات المارينز لمكافحة التمرد) للجنرال بترايوس عام 2007، لتعميمه على قطاعاته المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي، بل وأتاحه للنشر العام لإفادة حلفائه والمتعاونين معه، ثم نشرت الحكومة الأميركية عام ٢٠٠٩ ( دليل مكافحة التمرد)، وفي العام 2014 نشر الجيش الأميركي دليلاً جديداً بعنوان (التمرد ومكافحة التمرد- FM 3-24).
وسبق ذلك إصدار مركز الأسلحة الموحد بالجيش الأميركي نسخة عربية لأول مرة عام ٢٠٠٥ من مجلة العرض العسكري (Military Review)، والتي تصدر بالإنجليزية منذ عام ١٩٢٢، قائلاً إنه أصدرها بهدف تعزيز التعاون والتواصل مع القادة العسكريين العرب، واستمرت المجلة الفصلية في الصدور بالعربية بشكل دوري حتى عام ٢٠١١؛ إذ توقفت النسخة العربية عقب ثورات الربيع العربي بذريعة ارتفاع تكاليف الترجمة والطباعة والشحن!
وقدمت المجلة في أعدادها المتنوعة معالجات مختلفة شملت مفاهيم العقيدة العسكرية ومبادئ القتال، والمناورات الحربية، والقيادة والسيطرة، والاستخبارات وسلاح الإشارة، والاتصالات والإعلام، وعمليات النقل والتموين، كما قدمت معالجات مهمة لعمليات مكافحة التمرد في العراق وأفغانستان كتبها ضباط ميدانيون برتب الرائد والمقدم، ولم تقتصر المجلة على عرض استراتيجيات مكافحة التمرد بل تناولت مكافحة التمرد على مستوى (السرية) والقتال في القرية، وتناولت الدروس التكتيكية المستفادة من القتال في أفغانستان، وقدمت دراسات ميدانية لمكافحة التمرد في الحزام الباشتوني وفي قاطع شرق رشيد بالعراق، وطرحت استراتيجيات لمكافحة العبوات الناسفة المصنعة محلياً، واهتمت بأدق التفاصيل؛ كما في الدراسة المنشورة عن تداعيات اعتقال (عادل المشهداني) أحد قادة المقاومة العراقية في منطقة الفضل شرق بغداد عام ٢٠٠٩، وردود أفعال سكان المنطقة على اعتقاله.
ولم يقتصر الاهتمام بالكتابة في هذا الباب على المؤسسة العسكرية الأمريكية فقط، بل أصدرت مراكز الأبحاث مثل مركز "راند" دراسات تفصيلية عن تجارب مكافحة التمرد وكيفية النجاح فيها، كما قدمت توصيات استراتيجية وميدانية تختص بالحرب في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال ومواجهة تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية.
وفي ظل تلك الثورة المعرفية في الشؤون العسكرية ومجال مكافحة التمرد في الغرب، احتكرت المؤسسات العسكرية العربية المعرفة في تلك المجالات كي تسحق مواطنيها دون رحمة، وقد كشف سقوط بعض الأكاديميات العسكرية السورية في يد الثوار، عن وجود أعداد ضخمة من الكتب العسكرية غير المنشورة والمترجمة عن الروسية وغيرها من اللغات، تتناول العديد من المجالات العسكرية من الحرب الدفاعية إلى الحرب الهجومية، ومن (حرب المدن) إلى (تكتيكات القتال في مناطق الإرهاب المسلح)، مروراً بالحرب الإلكترونية وكيفية اختراق المناطق المحصنة، وقد أجاد مركز نورس للدراسات بنشره مجموعة من تلك الكتب التي غنمها الثوار من مليشيات الأسد.
ونحن اليوم في ظل موجة الثورات المضادة التي تتعرض خلالها شعوبنا المسلمة للحرب بالوكالة على يد ما يفترض بها أنها جيوش وطنية، سواء في الشام أو العراق أو اليمن أو مصر أو ليبيا أو أفغانستان أو ليبيا وغيرها من ديار الإسلام، أصبح من المهم العناية بتلك المجالات، وإدخالها في دائرة اهتمام الحركات الإسلامية وتحويلها إلى ثقافة شعبية ومجتمعية، ونحن في هذا المجال نحتاج لأن نخطو خطواتنا الأولى، إذ لم يدون شيء يذكر باللغة العربية، ولم تترجم أي من الكتب الرئيسية الحديثة بما فيها دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد رغم صغر حجمه (٦٤ صفحة). مما يستدعي توجيه الاهتمام لترجمة هذه الكتب وإقامة المراكز البحثية المتخصصة التي تتابع الجديد في هذا المجال وتوفره لحركات المقاومة في ربوع العالمين العربي والإسلامي، فضلاً عن العناية بتدوين تجارب فصائل وتنظيمات المقاومة ونشرها كي لا تضيع خبرات الحروب والصراعات بغياب من خاضوها.
‏٢٧‏/١١‏/٢٠١٧ ٤:٤٥ م‏
بائع الملوك (2) يسرا جلال اجتاحت المظاهرات العارمة أزقة الفسطاط تمامًا كما عم الغضب أرجاء العالم الإسلامي كافة.. بين جموع الجماهير الكثيفة حول قلعة الجبل بدا محمد حانقًا.. رفع صوته عاليًا ليتمكن صاحبه عبدالرحيم من سماعه: "يا لجرأة هذه المرأة! من تظن نفسها لتجلس على كرسي السلطنة في مصر"؟! اقترب عبدالرحيم منه ليطمئن أن صاحبه تمكن من سماعه في هذا الزحام: "يبدو أن نجاحها في إدارة البلاد عند نزول الفرنج إلى دمياط شجعها على ذلك"! - "حسنًا! لم تكن هي من وضع خطة التصدي للويس، بل كان الملك الصالح هو من وضع الخطة مع قادة جيشه أقطاي وبيبرس" - "ولكن يا محمد لا تنكر أنها امرأة قوية؛ نجحت في كتم خبر وفاة زوجها رحمه الله، وكلفت كبير وزرائه بإدارة أمور البلاد، وبذلك نجحت في منع حدوث اضطراب متوقع عقب وفاة السلطان.. خاصة أن وفاة الملك كانت أثناء معركة المنصورة و..." قاطعه محمد قائلًا: "كل هذا ليس مبررًا كافيًا لتجلس امرأة على سدة الحكم.. لم يحدث أن رأيت الشيخ العز غاضبًا كاليوم.. ولا أظنها ستصمد أمام غضبة العلماء والناس، ليس أمامها سوى التنازل عن الحكم وكبح جماح طموحها". - "ومن يحكم مصر إذن؟ - "يحكمها أحد قادة نجم الدين أيوب". اتسعت عينا عبدالرحيم: "مملوكي يحكم"! وحدث ما تعجب له عبدالرحيم، حكم المملوكي، وتزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك أحد تلاميذ زوجها لتتنازل له عن الحكم، وليدوم حكمها لثمانين يومًا فقط. أما عز الدين أيبك فقد حكم مصر لسنوات سبع كاملة، قبل أن تقتله شجرة الدر وتُقتل به قصاصًا. *** - "تأخرت اليوم يا صاحبي"! - "عذرًا يا عبدالرحيم، كان علينا الانتهاء من إعداد الٓمهٓمات والأسلحة التي طلبها المظفر قطز". - "وهل تظن أننا سنحارب التتار بالفعل"؟ - "وهل هناك خيار آخر؟ لم يوقف الزحف التتري تحالفهم مع أمير الموصل وأمير حلب ودمشق وسلطان السلاجقة. كان هولاكو يعقد معهم العهود ويضمن صمتهم وتحييد عسكرهم في الوقت الذي يقيم فيه الجسور على الأنهار ويصلح الطرق إلى بغداد ويعد عدة الحرب". - "ولكن يا محمد لا طائل لنا بحربهم.. فنساؤهم يقاتلن كرجالهم.. وخيولهم تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تحتاج إلى شعير.. غير أنهم يأكلون الـ..." قاطعه محمد قائلًا: "دعك من هذا الكلام الساذج"! طأطأ عبدالرحيم رأسه: "أعلم أنه ساذج.. لكن أتدري؟ إنه قاتلنا… إنها النهاية... استباح بغداد أربعين يومًا واستحر القتل في المسلمين حتى سالت الدماء من الميازيب.. ألف ألف مسلم قتلوا في بغداد وحدها... لسنا بمنأى عن هذا المصير! أمي تجلس في مصلاها تبكي وتدعو الله بخروج المهدي.. كيف هي الدنيا بدون خلافة.. تقول أمي إن سقوط الخلافة من علامات الساعة وإن علينا انتظار المهدي..". ربت محمد على كتف صاحبه: "وإلى أن يأذن الله بخروج المهدي وجب علينا الجهاد.. لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. التتار يتحركون الآن شرقًا نحو مصر.. بعد بغداد سقطت حلب في أيديهم ثم دمشق، ولذا جمع السلطان قطز أمراءه وقال لهم دون مواربة: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، والله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين"(1). والعسكر في صفوف المسلمين مستبشرون بوجود الشيخ العز بين صفوفهم.. روحه قوية وثابة تحمل جسدًا ناهز الثمانين..". مسح محمد وجهه بكلتا يديه ثم عاد واستأنف حديثه: "ليست هذه المرة الأولى التي يشارك فيها الشيخ في جهاد السيف.. أتذكر عندما نزل الفرنج المنصورة، (كان الشيخ مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرًا بيده إلى الريح، يا ريح خذيهم، عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح وغرق أكثر الفرنج)(2)، فالحمدلله الذي أرانا في أمة محمد رجلًا سخر له الريح. يقولون في سوق السلاح إن المظفر قطز حين عزم على جهاد التتار احتاج لفرض ضرائب جديدة على الشعب، ينفق منها في تجهيز الجيش وإعداد المؤن وإصلاح القلاع والحصون وتخزين مؤن تكفي الشعب حال حدوث حصار، خاصة أن بيت المال خال من الأموال.. وهنا نصحه الشيخ بألا يفعل وقال له: "إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية وغير ذلك، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا"(3). قاطعه عبدالرحيم مستفهمًا: "جاز لهم أن يأخذوا من الرعية"؟ - "نعم، ولكن اشترط الشيخ شرطين؛ الشرط الأول ألا يبقى في بيت المال شيء، والشرط الثاني أن يبيع الأمراء ما يملكون ويتساووا والعامة. ساعتها بدأ قطز بنفسه وباع كل ما يملك وتبعه الأمراء والوزراء، ثم جمعت الأموال وضربت سكاً ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش. طالما أبهرني سلطان العلماء بجرأته في الحق. أما قطز فأسأل الله أن يكتب لعسكر المسلمين النصر على يديه.. أتدري؟ إني مستبشر بالنصر ليس فقط لوجود الشيخ مع العسكر، ولكني أثق في تأييد الله ونصره، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك". *** انطلق الشيخ العز ومن معه من العلماء يحثون الناس على الجهاد، يرغبونهم في جنة عرضها السماء والأرض، ويذكرونهم بنصر الله لعسكر المسلمين على الفرنج في المنصورة. وبعد مشاورة قادة جيشه قرر قطز التحرك نحو الشرق لا انتظار التتار في مصر، تحرك عسكر مصر نحو فلسطين وباغتوا التتار في غزة، وأكملوا مسيرهم نحو يافا حتى كانت المعركة الفاصلة في عين جالوت. كان يومًا من أيام الله لم يشك كتبغا قائد التتر في النصر للحظة {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب}، وسقطت جحافلهم تحت سنابك خيل عسكر المسلمين وُقضي بفضل الله على أسطورة التتار في موقعة عين جالوت عام ٦٥٨ هجرية. كسرت شوكة التتار وخذلهم الله وتنفس المسلمون الصعداء. *** كعادتهما التقى محمد وعبد الرحيم على شاطئ النيل، وجلس محمد تحت ظل شجرة وسأل صاحبه المنشغل بتأمل صفحة النهر: "هل سمعت ما قاله الشيخ العز لركن الدين بيبرس"؟ هز عبدالرحيم رأسه نافيًا: "كلا، ولكني علمت أن بيبرس استدعى الأمراء والعلماء لمبايعته على حكم مصر. وعلمت أنهم بايعوه بالفعل". رفع محمد صوته مزهوًا بأخباره الطازجة: "رفض الشيخ العز مبايعة بيبرس لكونه مملوكاً.. وقال له يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار". فأحضر بيبرس ما يثبت أن البندقدار وهبه للصالح أيوب الذي أعتقه بدوره وساعتئذ بايعه الشيخ العز". ابتسم عبدالرحيم قائلًا: "الحمد لله الذي رزقنا علماء يسعون لإعلاء كلمة الحق والدين". ** وبعد عامين من عين جالوت توفي سلطان العلماء وبائع الأمراء الشيخ العز بن عبدالسلام عن عمر ناهز الثالثة والثمانين، وكان ذلك في ولاية الظاهر ركن الدين بيبرس الذي حزن لوفاة الشيخ وقال: "لا إله إلا الله، ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي"(4). وكانت وفاته مصداقًا لرؤية فسرها عندما جاءه أحدهم فقال له رأيتك في النوم تنشد: وكنتُ كذي رِجْلين رِجْل صحيحة * ورِجْل رمى فيها الزّمان فشُلَّتِ فسكت ساعةً ثم قال: «أعيش من العمر ثلاثاً وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكُثَيّر عَزّة، ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سُنّي وهو شيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو بشاعر، وأنا سُلَميّ وليس هو بسُلَمي، لكنه عاش هذا القدر"(5). وحمل بيبرس نعشه وصلى عليه، وكان يوم دفنه في القرافة بسفح المقطم مشهودًا، شارك فيه خلائق لا تحصى، كما صلى عليه المسلمون صلاة الغائب في جميع الحواضر الإسلامية. ــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، ص٢٧٥، راغب السرجاني، مؤسسة اقرأ. (2) سلطان العلماء وبائع الملوك، ص١٢٤، الزحيلي، دار القلم. (3) المصدر السابق، ص١١٨. (4) المصدر السابق، ص١٩٢. (5) المصدر السابق، ص١٩٠.
بائع الملوك (2)
يسرا جلال

اجتاحت المظاهرات العارمة أزقة الفسطاط تمامًا كما عم الغضب أرجاء العالم الإسلامي كافة.. بين جموع الجماهير الكثيفة حول قلعة الجبل بدا محمد حانقًا.. رفع صوته عاليًا ليتمكن صاحبه عبدالرحيم من سماعه: "يا لجرأة هذه المرأة! من تظن نفسها لتجلس على كرسي السلطنة في مصر"؟!
اقترب عبدالرحيم منه ليطمئن أن صاحبه تمكن من سماعه في هذا الزحام: "يبدو أن نجاحها في إدارة البلاد عند نزول الفرنج إلى دمياط شجعها على ذلك"!
- "حسنًا! لم تكن هي من وضع خطة التصدي للويس، بل كان الملك الصالح هو من وضع الخطة مع قادة جيشه أقطاي وبيبرس"
- "ولكن يا محمد لا تنكر أنها امرأة قوية؛ نجحت في كتم خبر وفاة زوجها رحمه الله، وكلفت كبير وزرائه بإدارة أمور البلاد، وبذلك نجحت في منع حدوث اضطراب متوقع عقب وفاة السلطان.. خاصة أن وفاة الملك كانت أثناء معركة المنصورة و..." قاطعه محمد قائلًا: "كل هذا ليس مبررًا كافيًا لتجلس امرأة على سدة الحكم.. لم يحدث أن رأيت الشيخ العز غاضبًا كاليوم.. ولا أظنها ستصمد أمام غضبة العلماء والناس، ليس أمامها سوى التنازل عن الحكم وكبح جماح طموحها".
- "ومن يحكم مصر إذن؟
- "يحكمها أحد قادة نجم الدين أيوب". اتسعت عينا عبدالرحيم: "مملوكي يحكم"!
وحدث ما تعجب له عبدالرحيم، حكم المملوكي، وتزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك أحد تلاميذ زوجها لتتنازل له عن الحكم، وليدوم حكمها لثمانين يومًا فقط.
أما عز الدين أيبك فقد حكم مصر لسنوات سبع كاملة، قبل أن تقتله شجرة الدر وتُقتل به قصاصًا.
***
- "تأخرت اليوم يا صاحبي"!
- "عذرًا يا عبدالرحيم، كان علينا الانتهاء من إعداد الٓمهٓمات والأسلحة التي طلبها المظفر قطز".
- "وهل تظن أننا سنحارب التتار بالفعل"؟
- "وهل هناك خيار آخر؟ لم يوقف الزحف التتري تحالفهم مع أمير الموصل وأمير حلب ودمشق وسلطان السلاجقة. كان هولاكو يعقد معهم العهود ويضمن صمتهم وتحييد عسكرهم في الوقت الذي يقيم فيه الجسور على الأنهار ويصلح الطرق إلى بغداد ويعد عدة الحرب".
- "ولكن يا محمد لا طائل لنا بحربهم.. فنساؤهم يقاتلن كرجالهم.. وخيولهم تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تحتاج إلى شعير.. غير أنهم يأكلون الـ..." قاطعه محمد قائلًا: "دعك من هذا الكلام الساذج"! طأطأ عبدالرحيم رأسه: "أعلم أنه ساذج.. لكن أتدري؟ إنه قاتلنا… إنها النهاية... استباح بغداد أربعين يومًا واستحر القتل في المسلمين حتى سالت الدماء من الميازيب.. ألف ألف مسلم قتلوا في بغداد وحدها... لسنا بمنأى عن هذا المصير! أمي تجلس في مصلاها تبكي وتدعو الله بخروج المهدي.. كيف هي الدنيا بدون خلافة.. تقول أمي إن سقوط الخلافة من علامات الساعة وإن علينا انتظار المهدي..".
ربت محمد على كتف صاحبه: "وإلى أن يأذن الله بخروج المهدي وجب علينا الجهاد.. لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها.
التتار يتحركون الآن شرقًا نحو مصر.. بعد بغداد سقطت حلب في أيديهم ثم دمشق، ولذا جمع السلطان قطز أمراءه وقال لهم دون مواربة: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، والله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين"(1).
والعسكر في صفوف المسلمين مستبشرون بوجود الشيخ العز بين صفوفهم.. روحه قوية وثابة تحمل جسدًا ناهز الثمانين..".
مسح محمد وجهه بكلتا يديه ثم عاد واستأنف حديثه: "ليست هذه المرة الأولى التي يشارك فيها الشيخ في جهاد السيف.. أتذكر عندما نزل الفرنج المنصورة، (كان الشيخ مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرًا بيده إلى الريح، يا ريح خذيهم، عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح وغرق أكثر الفرنج)(2)، فالحمدلله الذي أرانا في أمة محمد رجلًا سخر له الريح.
يقولون في سوق السلاح إن المظفر قطز حين عزم على جهاد التتار احتاج لفرض ضرائب جديدة على الشعب، ينفق منها في تجهيز الجيش وإعداد المؤن وإصلاح القلاع والحصون وتخزين مؤن تكفي الشعب حال حدوث حصار، خاصة أن بيت المال خال من الأموال.. وهنا نصحه الشيخ بألا يفعل وقال له: "إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية وغير ذلك، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا"(3).
قاطعه عبدالرحيم مستفهمًا: "جاز لهم أن يأخذوا من الرعية"؟
- "نعم، ولكن اشترط الشيخ شرطين؛ الشرط الأول ألا يبقى في بيت المال شيء، والشرط الثاني أن يبيع الأمراء ما يملكون ويتساووا والعامة. ساعتها بدأ قطز بنفسه وباع كل ما يملك وتبعه الأمراء والوزراء، ثم جمعت الأموال وضربت سكاً ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش. طالما أبهرني سلطان العلماء بجرأته في الحق. أما قطز فأسأل الله أن يكتب لعسكر المسلمين النصر على يديه.. أتدري؟ إني مستبشر بالنصر ليس فقط لوجود الشيخ مع العسكر، ولكني أثق في تأييد الله ونصره، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك".
***
انطلق الشيخ العز ومن معه من العلماء يحثون الناس على الجهاد، يرغبونهم في جنة عرضها السماء والأرض، ويذكرونهم بنصر الله لعسكر المسلمين على الفرنج في المنصورة.
وبعد مشاورة قادة جيشه قرر قطز التحرك نحو الشرق لا انتظار التتار في مصر، تحرك عسكر مصر نحو فلسطين وباغتوا التتار في غزة، وأكملوا مسيرهم نحو يافا حتى كانت المعركة الفاصلة في عين جالوت. كان يومًا من أيام الله لم يشك كتبغا قائد التتر في النصر للحظة {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب}، وسقطت جحافلهم تحت سنابك خيل عسكر المسلمين وُقضي بفضل الله على أسطورة التتار في موقعة عين جالوت عام ٦٥٨ هجرية. كسرت شوكة التتار وخذلهم الله وتنفس المسلمون الصعداء.
***
كعادتهما التقى محمد وعبد الرحيم على شاطئ النيل، وجلس محمد تحت ظل شجرة وسأل صاحبه المنشغل بتأمل صفحة النهر: "هل سمعت ما قاله الشيخ العز لركن الدين بيبرس"؟
هز عبدالرحيم رأسه نافيًا: "كلا، ولكني علمت أن بيبرس استدعى الأمراء والعلماء لمبايعته على حكم مصر. وعلمت أنهم بايعوه بالفعل".
رفع محمد صوته مزهوًا بأخباره الطازجة: "رفض الشيخ العز مبايعة بيبرس لكونه مملوكاً.. وقال له يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار". فأحضر بيبرس ما يثبت أن البندقدار وهبه للصالح أيوب الذي أعتقه بدوره وساعتئذ بايعه الشيخ العز".
ابتسم عبدالرحيم قائلًا: "الحمد لله الذي رزقنا علماء يسعون لإعلاء كلمة الحق والدين".
**
وبعد عامين من عين جالوت توفي سلطان العلماء وبائع الأمراء الشيخ العز بن عبدالسلام عن عمر ناهز الثالثة والثمانين، وكان ذلك في ولاية الظاهر ركن الدين بيبرس الذي حزن لوفاة الشيخ وقال: "لا إله إلا الله، ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي"(4). وكانت وفاته مصداقًا لرؤية فسرها عندما جاءه أحدهم فقال له رأيتك في النوم تنشد: وكنتُ كذي رِجْلين رِجْل صحيحة * ورِجْل رمى فيها الزّمان فشُلَّتِ
فسكت ساعةً ثم قال: «أعيش من العمر ثلاثاً وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكُثَيّر عَزّة، ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سُنّي وهو شيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو بشاعر، وأنا سُلَميّ وليس هو بسُلَمي، لكنه عاش هذا القدر"(5).

وحمل بيبرس نعشه وصلى عليه، وكان يوم دفنه في القرافة بسفح المقطم مشهودًا، شارك فيه خلائق لا تحصى، كما صلى عليه المسلمون صلاة الغائب في جميع الحواضر الإسلامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، ص٢٧٥، راغب السرجاني، مؤسسة اقرأ.
(2) سلطان العلماء وبائع الملوك، ص١٢٤، الزحيلي، دار القلم.
(3) المصدر السابق، ص١١٨.
(4) المصدر السابق، ص١٩٢.
(5) المصدر السابق، ص١٩٠.
‏٢٦‏/١١‏/٢٠١٧ ١:٥١ م‏
العلاقة بين الحاكم والمحكوم - 1 د. @[1252740136:2048:البشير عصام المراكشي] الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. اختلطت المفاهيم الشرعية في هذا العصر، والتبس الحق بالباطل في أذهان الناس، مع كثرة الاتجاهات الفكرية، وتنوع مشاربها، وسهولة إيصالها أفكارها للناس – مهما تكن درجة سطحيتها أو تفاهتها – بسبب فورة مواقع التواصل، التي هي إعلام من لا إعلام له! ويتعزز انتشار هذه الأفكار الهدامة، إذا كان من ورائها عملٌ منظم، أو تحميها سلطة غاشمة، أو توافق هوى مستحكما في النفوس. تذكرت هذا حين رأيت تعليقات بعض الأراذل على ما شهدته بعض البلدان من حملات اعتقالات بالجملة ضد العلماء والدعاة والمفكرين والصالحين، بمحض الظن والتوجس دون دليل ولا اتهام صريح ولا محاكمة – عادلة كانت أو ظالمة! -. نعم .. اعتقال أناس "يُظن" أنهم يشكلون خطرا فكريا على الدولة، مع أنهم ليسوا من المعارضين أصلا لسياسة الدولة ولا لتوجهاتها واختياراتها! وإلى هنا فلا إشكال، إذ الظلم موجود في الناس دائما، ولا يعسر علينا أن نفسره – وإن كنا لا نعذر الظالم - بالمصالح الشخصية، أو بشهوة السلطة، أو بهوى النفس أو نحو ذلك. ولكن الكارثة حين نجد من يفرح بذلك الظلم ويسوغه بمسوغات شرعية، ويستدل له بقواعد المصلحة والمفسدة - مع أنه من أكثر الناس ظاهرية، وجمودا على النصوص الأثرية وأقوال السلف! وهذا التلبيس الفكري، المتدثر برداء العلم الشرعي، يحتاج إلى وقفات كثيرة، لأنه نخر البناء العلمي لدى كثير من متشرعة العصر، كما تنخر الآكلةُ العضو المريض، ولن يكفي ردّ واحد في مقال يتيم. ولذلك سأتحدث في سلسلة من المقالات عن بعض ما يحتاج إلى البيان في التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. مقدمة في التأصيل الفقهي: من اللازم أن نقرر أولا أن جميع ما سيأتي متعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم داخل الدولة المسلمة المحكّمة للشريعة إجمالا، وأما أحكام التعامل مع الحاكم غير المسلم، أو الذي لا يحكم بشرع الله فغير مقصودة في هذه المقالات. ومن اللازم أيضا أن نذكّر بأن مباحث السياسة الشرعية عرفت عبر تاريخ أمة الإسلام كثيرا من التبديل بل التحريف، بسبب ضغط الواقع الاستبدادي في كثير من الدول الحاكمة. ولذلك لا بد من الحذر من بعض التأصيلات المنحرفة لبعض المتأخرين الذين تبنوا نظرية تعظيم ولي الأمر مطلقا، جلبا لمصلحة الأمن والاستقرار السياسي، ودرءا لمفسدة الفتنة والصراع على السلطة. ثم تطور الأمر – عند الكثيرين - من تأصيل منضبط بقاعدة المصلحة، إلى تسويغ للظلم والجور السياسي، فصار السلطان فوق النقد، يُدعى له بالنصر والتأييد، ويمدح بالحق والباطل .. ولأجل ذلك كله، لا بد من الرجوع عند بحث مسائل السياسة الشرعية إلى الأمر الأول، الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة، واستقر عليه عمل الصحابة المكرّمين، بعيدا عن التأصيلات الظرفية، التي ارتبطت بواقع معين، ولم تعد بالضرورة ملائمة للواقع العصري المعقد. ونحن إن لم نُصلح فقهَنا السياسي بتأصيلات سلفنا الصالح، اضطررنا إلى إصلاحه بتشريعات عدوّنا الحاقد – أعني: الغرب بثقافته العلمانية المهيمنة! إضاءة إن النصوص القرآنية والحديثية تدل على أن الحاكم المسلم رجل من المسلمين كلفته الأمة بتحمل أمانة الحكم، وما يقتضيه من مسؤوليات. فالحاكم لا يحكم بحق إلهي - كما استقر عليه الأمر في الحكم الملكي الزمَني في أوروبا خلال القرون الوسطى - تختلط فيه طاعة الحاكم مع طاعة الله تعالى، وتتجسد فيه إرادة الله من خلال إرادة الحاكم، وتكون فيه معارضة الحاكم معارضة لله أو للدين. كل ذلك غير معروف في الإسلام من خلال نصوص الوحي، ولا من خلال التطبيق العملي للخلافة الراشدة. والذي يدل على هذا المعنى هو المبدأ المشهور في بعض الأدبيات بمبدأ "الحاكمية". فالكتاب والسنة هما مصدرا التشريع، والحاكم والمحكوم معا مطالبان بالخضوع لهما، وليس للحاكم أن يشرع من القوانين إلا ما لا يخالفهما. فالله وحده هو الذي له حق الطاعة المطلقة، والتشريع المطلق كما قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه)، فلا يقوم توحيد الله في الطاعة والعبادة إلا على أساس اعتقاد وحدانية الله في الحاكمية. وقوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) دليل واضح على أن الحكم والتشريع والأمر لله تعالى وحده، كما أن له الخلق سبحانه دون من سواه. ومهمة الرسل البلاغ، وطاعة الرسول تابعة لطاعة الله تعالى ومتفرعة عنها. وعلى هذا فلا يجوز صرف نوع من أنواع العبادة للحاكم، كما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله). كما لا يجوز أن يكون الحاكم عالة على أمته، لا يقوم بشيء من الوظائف التي تناط به، وأعظمها نصرة الدين وإقامة الشرع، كما قال تاج الدين السبكي في "معيد النعم": "فمن وظائف السلطان تجنيد الجنود، وإقامة فَرْض الجهاد لإِعلاء كلمة اللَّه تعالى؛ فإن اللَّه تعالى لم يولِّه على المسلمين ليكون رئيسًا آكلًا شاربًا مستريحًا. بل لينصر الدين ويُعلِيَ الكلمة". وفي الوقت الذي صار فيه بعض المعاصرين لا يتحدثون إلا عن واجبات الرعية تجاه حاكمها، نجد كتب السياسة الشرعية تتتابع على تفصيل وظائف الحاكم المسلم وواجباته وبيان المسؤولية الملقاة على عاتقه. طاعة ولي الأمر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) إشارتان مهمتان: الأولى: أن لفظ "أولي الأمر" يشمل العلماء والأمراء، لا الأمراء وحدهم. وتجب طاعتهم إذا اتفقوا على ما لم يخالف صريح الكتاب والسنة، وإلا وجب الرد إلى الكتاب والسنة. الثانية: أن النزاع وارد بين أولي الأمر فيما بينهم، أو بينهم وبين الأمة، فالواجب حينئذ الرجوع إلى الكتاب والسنة. والطاعة المذكورة في هذه الآية وغيرها من النصوص مقيدة لا مطلقة. ومما يقيدها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة بالمعروف) صحيح البخاري، فليس للحاكم أن يأمر بمعصية الله، وإذا فعل فلا يجوز أن يطاع في ذلك. وهذه البدهية الشرعية، هي التي كان عليها عمل الخلفاء الراشدين، فقد أُثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد البيعة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم). فأين هذا من الطاعة المطلقة التي يقررها بعض المعاصرين، حتى يؤول بهم الأمر إلى تأويل النصوص لتوافق هوى الحاكم، وتسوّغ اختياراته؟! وقد وردت نصوص السنة النبوية بتقييد طاعة الحاكم بأمور، منها: إقامة الصلاة التي هي عمود الدين، لحديث: (شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يارسول الله، أفلا ننابذهم السيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) صحيح مسلم. ومعنى إقامة الصلاة: الدعوة إليها وأمر الناس بها وسن القوانين المساعدة على ذلك، ومعاقبة تاركها. وليس المطلوب – كما يظنه بعض الناس – إعطاء الناس حرية فعلها وعدم التضييق عليهم في ذلك، حتى يقول قائلهم: "هذه المساجد مفتوحة لمن أراد أن يصلي، فأين الإشكال؟". إقامة كتاب الله لحديث: (اسمعوا وأطيعوا ولو عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله) صحيح مسلم. وإقامة كتاب الله، إقامةٌ للشرع الكامل، في التوحيد والعبادات والمعاملات والسياسة الشرعية وغير ذلك. عدم ظهور كفر بواح من الحاكم، لحديث: (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) صحيح البخاري ومسلم، أي: فالمنازعة مأمور بها حينئذ، مع مراعاة ما ينبغي مراعاته من المصالح والمفاسد الشرعية. فهذه القيود تدل على أن طاعة الحاكم ليست مطلقة في نصوص الشريعة، وأن الواجب على السلطة الشرعية أن تقوم بأعباء إقامة شعائر الإسلام وأركانه الظاهرة القطعية، وأن تحكم بالكتاب وتفيء إلى السنة البيضاء في علاقتها بالمحكوم وبالدول الأخرى، وألا تأمر بمعصية ولا تجور في الحكم ولا تظلم المحكومين؛ فإذا هي قصرت في هذه الأمانة، كان من المشروع لدى هؤلاء المحكومين مقاومة هذا الظلم والتعدي والمخالفة للشرع، بما يوافق مقصود الله تعالى في باب السياسة الشرعية. وهذه المقاومة تدخل في ما يسمى "المعارضة السياسية"، والكلام على مشروعيتها هو موضوع مقالنا المقبل بإذن الله تعالى.
العلاقة بين الحاكم والمحكوم - 1
د. البشير عصام المراكشي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
اختلطت المفاهيم الشرعية في هذا العصر، والتبس الحق بالباطل في أذهان الناس، مع كثرة الاتجاهات الفكرية، وتنوع مشاربها، وسهولة إيصالها أفكارها للناس – مهما تكن درجة سطحيتها أو تفاهتها – بسبب فورة مواقع التواصل، التي هي إعلام من لا إعلام له!
ويتعزز انتشار هذه الأفكار الهدامة، إذا كان من ورائها عملٌ منظم، أو تحميها سلطة غاشمة، أو توافق هوى مستحكما في النفوس.
تذكرت هذا حين رأيت تعليقات بعض الأراذل على ما شهدته بعض البلدان من حملات اعتقالات بالجملة ضد العلماء والدعاة والمفكرين والصالحين، بمحض الظن والتوجس دون دليل ولا اتهام صريح ولا محاكمة – عادلة كانت أو ظالمة! -.
نعم .. اعتقال أناس "يُظن" أنهم يشكلون خطرا فكريا على الدولة، مع أنهم ليسوا من المعارضين أصلا لسياسة الدولة ولا لتوجهاتها واختياراتها!
وإلى هنا فلا إشكال، إذ الظلم موجود في الناس دائما، ولا يعسر علينا أن نفسره – وإن كنا لا نعذر الظالم - بالمصالح الشخصية، أو بشهوة السلطة، أو بهوى النفس أو نحو ذلك. ولكن الكارثة حين نجد من يفرح بذلك الظلم ويسوغه بمسوغات شرعية، ويستدل له بقواعد المصلحة والمفسدة - مع أنه من أكثر الناس ظاهرية، وجمودا على النصوص الأثرية وأقوال السلف!
وهذا التلبيس الفكري، المتدثر برداء العلم الشرعي، يحتاج إلى وقفات كثيرة، لأنه نخر البناء العلمي لدى كثير من متشرعة العصر، كما تنخر الآكلةُ العضو المريض، ولن يكفي ردّ واحد في مقال يتيم. ولذلك سأتحدث في سلسلة من المقالات عن بعض ما يحتاج إلى البيان في التصور الإسلامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

مقدمة في التأصيل الفقهي:
من اللازم أن نقرر أولا أن جميع ما سيأتي متعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم داخل الدولة المسلمة المحكّمة للشريعة إجمالا، وأما أحكام التعامل مع الحاكم غير المسلم، أو الذي لا يحكم بشرع الله فغير مقصودة في هذه المقالات.
ومن اللازم أيضا أن نذكّر بأن مباحث السياسة الشرعية عرفت عبر تاريخ أمة الإسلام كثيرا من التبديل بل التحريف، بسبب ضغط الواقع الاستبدادي في كثير من الدول الحاكمة. ولذلك لا بد من الحذر من بعض التأصيلات المنحرفة لبعض المتأخرين الذين تبنوا نظرية تعظيم ولي الأمر مطلقا، جلبا لمصلحة الأمن والاستقرار السياسي، ودرءا لمفسدة الفتنة والصراع على السلطة. ثم تطور الأمر – عند الكثيرين - من تأصيل منضبط بقاعدة المصلحة، إلى تسويغ للظلم والجور السياسي، فصار السلطان فوق النقد، يُدعى له بالنصر والتأييد، ويمدح بالحق والباطل ..
ولأجل ذلك كله، لا بد من الرجوع عند بحث مسائل السياسة الشرعية إلى الأمر الأول، الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة، واستقر عليه عمل الصحابة المكرّمين، بعيدا عن التأصيلات الظرفية، التي ارتبطت بواقع معين، ولم تعد بالضرورة ملائمة للواقع العصري المعقد.
ونحن إن لم نُصلح فقهَنا السياسي بتأصيلات سلفنا الصالح، اضطررنا إلى إصلاحه بتشريعات عدوّنا الحاقد – أعني: الغرب بثقافته العلمانية المهيمنة!
إضاءة
إن النصوص القرآنية والحديثية تدل على أن الحاكم المسلم رجل من المسلمين كلفته الأمة بتحمل أمانة الحكم، وما يقتضيه من مسؤوليات.
فالحاكم لا يحكم بحق إلهي - كما استقر عليه الأمر في الحكم الملكي الزمَني في أوروبا خلال القرون الوسطى - تختلط فيه طاعة الحاكم مع طاعة الله تعالى، وتتجسد فيه إرادة الله من خلال إرادة الحاكم، وتكون فيه معارضة الحاكم معارضة لله أو للدين. كل ذلك غير معروف في الإسلام من خلال نصوص الوحي، ولا من خلال التطبيق العملي للخلافة الراشدة.
والذي يدل على هذا المعنى هو المبدأ المشهور في بعض الأدبيات بمبدأ "الحاكمية". فالكتاب والسنة هما مصدرا التشريع، والحاكم والمحكوم معا مطالبان بالخضوع لهما، وليس للحاكم أن يشرع من القوانين إلا ما لا يخالفهما.
فالله وحده هو الذي له حق الطاعة المطلقة، والتشريع المطلق كما قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه)، فلا يقوم توحيد الله في الطاعة والعبادة إلا على أساس اعتقاد وحدانية الله في الحاكمية. وقوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) دليل واضح على أن الحكم والتشريع والأمر لله تعالى وحده، كما أن له الخلق سبحانه دون من سواه. ومهمة الرسل البلاغ، وطاعة الرسول تابعة لطاعة الله تعالى ومتفرعة عنها.
وعلى هذا فلا يجوز صرف نوع من أنواع العبادة للحاكم، كما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله). كما لا يجوز أن يكون الحاكم عالة على أمته، لا يقوم بشيء من الوظائف التي تناط به، وأعظمها نصرة الدين وإقامة الشرع، كما قال تاج الدين السبكي في "معيد النعم": "فمن وظائف السلطان تجنيد الجنود، وإقامة فَرْض الجهاد لإِعلاء كلمة اللَّه تعالى؛ فإن اللَّه تعالى لم يولِّه على المسلمين ليكون رئيسًا آكلًا شاربًا مستريحًا. بل لينصر الدين ويُعلِيَ الكلمة".
وفي الوقت الذي صار فيه بعض المعاصرين لا يتحدثون إلا عن واجبات الرعية تجاه حاكمها، نجد كتب السياسة الشرعية تتتابع على تفصيل وظائف الحاكم المسلم وواجباته وبيان المسؤولية الملقاة على عاتقه.

طاعة ولي الأمر
في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) إشارتان مهمتان:
الأولى: أن لفظ "أولي الأمر" يشمل العلماء والأمراء، لا الأمراء وحدهم. وتجب طاعتهم إذا اتفقوا على ما لم يخالف صريح الكتاب والسنة، وإلا وجب الرد إلى الكتاب والسنة.
الثانية: أن النزاع وارد بين أولي الأمر فيما بينهم، أو بينهم وبين الأمة، فالواجب حينئذ الرجوع إلى الكتاب والسنة.
والطاعة المذكورة في هذه الآية وغيرها من النصوص مقيدة لا مطلقة. ومما يقيدها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة بالمعروف) صحيح البخاري، فليس للحاكم أن يأمر بمعصية الله، وإذا فعل فلا يجوز أن يطاع في ذلك.
وهذه البدهية الشرعية، هي التي كان عليها عمل الخلفاء الراشدين، فقد أُثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد البيعة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم). فأين هذا من الطاعة المطلقة التي يقررها بعض المعاصرين، حتى يؤول بهم الأمر إلى تأويل النصوص لتوافق هوى الحاكم، وتسوّغ اختياراته؟!
وقد وردت نصوص السنة النبوية بتقييد طاعة الحاكم بأمور، منها:
إقامة الصلاة التي هي عمود الدين، لحديث: (شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يارسول الله، أفلا ننابذهم السيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) صحيح مسلم. ومعنى إقامة الصلاة: الدعوة إليها وأمر الناس بها وسن القوانين المساعدة على ذلك، ومعاقبة تاركها. وليس المطلوب – كما يظنه بعض الناس – إعطاء الناس حرية فعلها وعدم التضييق عليهم في ذلك، حتى يقول قائلهم: "هذه المساجد مفتوحة لمن أراد أن يصلي، فأين الإشكال؟".
إقامة كتاب الله لحديث: (اسمعوا وأطيعوا ولو عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله) صحيح مسلم. وإقامة كتاب الله، إقامةٌ للشرع الكامل، في التوحيد والعبادات والمعاملات والسياسة الشرعية وغير ذلك.
عدم ظهور كفر بواح من الحاكم، لحديث: (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) صحيح البخاري ومسلم، أي: فالمنازعة مأمور بها حينئذ، مع مراعاة ما ينبغي مراعاته من المصالح والمفاسد الشرعية.
فهذه القيود تدل على أن طاعة الحاكم ليست مطلقة في نصوص الشريعة، وأن الواجب على السلطة الشرعية أن تقوم بأعباء إقامة شعائر الإسلام وأركانه الظاهرة القطعية، وأن تحكم بالكتاب وتفيء إلى السنة البيضاء في علاقتها بالمحكوم وبالدول الأخرى، وألا تأمر بمعصية ولا تجور في الحكم ولا تظلم المحكومين؛ فإذا هي قصرت في هذه الأمانة، كان من المشروع لدى هؤلاء المحكومين مقاومة هذا الظلم والتعدي والمخالفة للشرع، بما يوافق مقصود الله تعالى في باب السياسة الشرعية.
وهذه المقاومة تدخل في ما يسمى "المعارضة السياسية"، والكلام على مشروعيتها هو موضوع مقالنا المقبل بإذن الله تعالى.
‏٢٥‏/١١‏/٢٠١٧ ٦:١٤ م‏
طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة @[520036614:2048:محمد إلهامي] ثمة أمور يجب على عقل المقاومة أن تستوعبه وتهضمه جيدا، من أهمها ما سنتناوله هنا، وسنحاول الحديث عنه هنا بتبسيط شديد: 1. الناس عبر التاريخ يثورون ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد الداخلي. وكان التسامح مع المستبد أوسع وأكبر بكثير من التسامح مع المحتل، ولهذا تطول عصور الاستبداد أكثر بكثير مما تطول عصور الاحتلال. 2. قد ينقلب المستبدون بعضهم على بعض، وقد تشتعل ثورة فتسقط المستبد وتقتله بأشد الطرق وحشية، إلا أن الأهداف العامة للأمة لا تتغير، فالمستبد يعبر عن الأمة ويتحرك في سبيل أهدافها ولتقويتها، والذين ثاروا عليه إن انتصروا فهم يتحركون في نفس الأهداف وبنفس الدوافع.. لأن المستبد لم يكن ضد أمته ومناقضا لها بل كان ظالما مستبدا يستحوذ على مواردها، فإن كان قويا كان عصره رغم استبداده من عصور ازدهار أمته، وإن كان سفيها أو تافها أنفق موارد أمته على نفسه وحاشيته وبلاطه. 3. عامة ما جرى في التاريخ من تقلبات سياسية، ثورات وانقلابات، كان تعبيرا عن صراع القوى الداخلية لا عن نفوذ القوى الخارجية الأجنبية.. فالحاكم يتغير بثورة أو بانقلاب يعبر عن اتجاه آخر وقوة أخرى هي ضمن قوة الأمة نفسها وليست صنيعة لأعداء الخارج. نعم! وُجِد من يستعين على ثورته وتمرده بدعم ومدد من الخارج الأجنبي لكن هذه الحالة قليلة بالمقارنة بما حدث من تقلبات سياسية، ثم إنها أكثر ما تكون في مناطق الاحتكاك الحضاري بين أمتين كبيرتين، يعني في الممالك على الحدود والأطراف وليس في قلب الأمم الكبرى. 4. كانت السلطة دائما أقوى سلاحا وأكثر عددا ورجالا من الثائرين عليها، لكن الفارق بين ما تملكه الشعوب وما تملكه السلطة لم يكن عظيما، في النهاية يتقاتلون بالسيوف والرماح والسهام ويستعملون الخيل.. نعم، تملك السلطة مجانيق وقلاع محصنة مع نوع من الشرعية والقدرة المالية وهو ما يجعلها الأعلى يدا، إلا أن الفارق في النهاية لم يكن عظيما، فبالإمكان مع نوع تدبير وتخطيط ومفاجأة واستعانة بعصبيات وقوى أخرى أن تدور معركة متكافئة مع السلطة. 5. من سوء حظ أمتنا أن لحظة ضعفها وانهيارها الداخلي كان مواكبا للحظة نهضة أوروبية قوية، تلك النهضة مع ضعفنا كانت لها آثار شنيعة لا زلنا حتى الآن نعاني منها، فكيف تم هذا؟ أولا: رغم أن المسلمين اكتشفوا وجود الأمريكتين واكتشفوا إمكانية الانتقال من الغرب إلى الشرق بالدوران حول إفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح)، إلا أن من استفادوا بهذا هم الغربيون، لأن من حكموا العالم الإسلامي وقتها لم يستفيدوا من تلك الاكتشافات العلمية، بينما استطاعت أوروبا أن تسيطر على جبال الذهب والفضة والموارد الضخمة في الأمريكتين كما استطاعت أن تسيطر على موارد السواحل الإفريقية والآسيوية. نعم، كان هذا بالعنف والقهر والوحشية لكن هذا حديث آخر. ثانيا: لم تكن استفادة الغربيين من تقدم العلوم مقتصرة على الجغرافيا، بل أخذ تقدم العلوم يلقي بتأثيره على كل المجالات، ويهمنا في سياقنا الآن أن السلطة استفادت من العلم في توسيع فارق القوة بينها وبين عموم الناس، تطورت الأسلحة التي تملكها السلطة، واتسع الفارق بينهم وبين الناس، ومن هنا استطاع الغزاة الأوروبيين رغم قلة عددهم اكتساح أمم أعظم منهم بكثير.. فالذي يحمل المسدس يستطيع مواجهة عشرات ممن يحملون السيوف. كما أن تقدم العلوم أتاح صناعة السفن التي تعبر المحيطات وتحمل أعدادا أكبر من البشر وأثقالا أعظم من الأسلحة والمعدات.. ومن هنا استطاع الغربيون السيطرة على أجزاء كثيرة من العالم في إفريقيا وآسيا مع الأمريكتين لأنهم أول من استفادوا من تقدم العلوم. ثالثا: تواكب هذا الصعود العلمي مع طفرة اقتصادية، بدأت قبله، ومع تطور فكر سياسي ضد الكنيسة وضد الملكية.. أصحاب الأموال صاروا قوة مؤثرة، تمكنت مع الزمن من إزاحة الإقطاعيين والنبلاء ومن منافسة الكنيسة والملكية، وصار رجال المال من أهم قوى المجتمع الغربي ومن أهم أعمدة السلطة فيه، وربما كانوا أحيانا أهم أعمدة السلطة. 6. كانت نتيجة مجمل هذه التطورات أن الغرب وجد أمامه مساحات واسعة من الأراضي والشعوب والموارد الاقتصادية التي لا تحميها سلطات قوية، فبدأ عصر الاستعمار. ومن الطريف هنا أن كلمة "عصر الكشوف الجغرافية" تساوي كلمة "عصر الاستعمار"، رغم أن الأولى تبدو لأول وهلة شيئا جميلا وتقدما علميا والثانية تبدو شيئا شنيعا.. لكن الحقيقة أن تقدم العلم كان هو نفسه تقدم الاحتلال وسحق الشعوب والأمم الضعيفة. 7. بعد انتصار الاحتلال الأجنبي الناهض على أمتنا أراد أن يجعل بلادنا تابعة ورهينة له، عسكريا واقتصاديا وأيضا فكريا وثقافيا.. واقتضى هذا مجهودا طويلا وخرافيا في فهم أمتنا (وهو ما قامت به حركة الاستشراق) وفي تركيعها (وهو ما قامت به جيوش الاحتلال) وفي إعادة تركيبها وصياغتها فكريا وثقافيا وهو ما قامت به النظم السياسية.. لهذا كان تاريخنا الحديث هو تاريخ "تحديثنا" لنكون مثل الغرب. 8. هنا وقعت بأمتنا الكارثة.. لقد استطاع الاحتلال غرس نظامه فيها، بالعنف والقهر والظلم، استطاع دس حكام تابعين له في أرضنا، والسيطرة عليهم، وإنشاء طبقات حاكمة حوله، وإنشاء نخبة اقتصادية وثقافية مرتبطة به، ليتم له ربط بلادنا به لتكون تابعة له.. تلك هي قصة الشعوب الإسلامية العامة مع الاختلاف في التفاصيل. 9. كل تقدم علمي كان يُستعمل ضد أمتنا ولتثبيت النظام الأجنبي فيها وتوسيع الفارق بينها وبين الشعوب، فاتسعت الفجوة بين عدد وقوة ونوعية السلاح الذي تملكه السلطة وبين ما يملكه الشعب، وامتلكت السلطة جهاز الإعلام (المطبعة، الراديو، التليفزيون) فصارت الشعوب في وضع التلميذ الذي يسمع ويُلقن الأفكار بعدما كانت الأمة هي من تنتج أفكارها، وتطور نظام الدولة الحديثة ليجعل الدولة متحكمة في حياة الإنسان من وقت مولده إلى وفاته، فالدولة تربيه وتصنعه في المدرسة والجامعة والوظيفة، وقد كان من قبل يولد فيربيه أهله وبيئته ثم يتعلم في الكتاب والمدرسة الأهلية التي لم تنشئها الدولة ولا تسيطر على مناهجها، ثم يعمل في نشاط اقتصادي طبقا لموهبته أو لوراثته من أهله دون تدخل من الدولة في طبيعة ما يفعل.. وهكذا! 10. منذ تلك اللحظة صارت أمتنا مهزومة، وصار انهيار السلطة يساوي انهيار وضعها كله لأن السلطة تتحكم في كل شيء، وربما سلمت السلطة بنفسها الأمة للمحتل بغير مقاومة. أي أن السلطة صارت هي أول وأعظم هزائمنا ونكبتنا.. فهي سلطة تبدو كمستبد وطني بينما هي على الحقيقة القناع الذي يرتديه المحتل للسيطرة على الشعوب لئلا يستفزها منظر المحتل الأجنبي. ومن الطرائف أن السلطة في بلادنا تستعمل كل قوتها وكل عنفها إن اشتعلت في وجهها ثورة شعبية فتخرج الدبابات والطائرات والأسلحة الكيمائية وفرق مكافحة "الشعب"! ثم يأتي الأجنبي فيدعمها بنفسه وجيشه ليمنع سقوطها. بينما إن جاء الاحتلال رأيت الانسحابات واختفت الجيوش وسكتت الطائرات والدبابات وتسلم الأجنبي البلاد والعباد بغير مقاومة. 11. لو تدبرنا لرأينا أن كل انتصار في تاريخنا صنعته الشعوب وحركات المقاومة، بينما كل هزيمة وقعت بنا إنما تسببت فيها السلطة.. والسلطة في بلادنا بتحكمها في كل أنشطة الإنسان يجعل اختراق الأعداء لنا ومعرفتهم بنا اختراقا شاملا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والتربية... إلخ! فكيف نقاوم هذا الاحتلال الشامل المطبق؟! باختصار شديد: كل خروج للمجتمع من تحت يد السلطة هو قوة للمجتمع وخصم من السلطة. 1. انتشار الكتاتيب وتعليم القرآن وانتشار حفظته هو انتشار لمراكز تعليم ولمناهج لا تهيمن عليه السلطة. القرآن هو كتاب الأمة، ومن يتربى على القرآن ويتلقى عنه هو شخصية مضادة لكل فكر وتوجه سياسي وأخلاقي واقتصادي تريده السلطة العلمانية التابعة للمنظومة الغربية. وبقدر ما انتشر القرآن بقدر ما انتشرت مقاومة العلمنة ومقاومة الطغيان.. القرآن والطغيان لا يجتمعان! 2. انتشار التكتلات والتجمعات والمجموعات هو تقوية للمجتمع وخصم من السلطة، السلطة تريد الناس مواطنين فرادى تتعامل معهم كأفراد لا ككتل اجتماعية.. فكل تكتل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصدر بإنشائه تصريح من السلطة ولا يعقد اجتماعاته تحت عين السلطة ولا يجري في نشاطاته ملتزما بقوانين السلطة، ولا يحل أفراده الخلافات بينهم عن طريق السلطة.. كل اجتماع كهذا هو بذرة مقاومة، وهو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. 3. السلطة جردت شعوبنا من السلاح لتستبد بهم، فكل انتشار للسلاح بيد الناس هو قوة للمجتمع وتهديد للسلطة، وكل وقوف في وجه سلاح السلطة لدفع ظلم من السلطة أو حماية مظلوم من السلطة هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولو أن مهندسي الأمة وعلمائها وصُناعها يحرصون على ابتكار الأسلحة الخفيفة سهلة الانتشار التي يستفيد منها عموم الناس لا السلطة لكان هذا من أهم وأعظم ما يعيد التوازن بين سلاح السلطة وسلاح المجتمع. 4. انتشار المجالس العرفية والمحاكم العرفية التي تفصل في خلافات الناس دون الرجوع للسلطة، والتي يحترمها الناس وينصاعون لها وينفذون ما تقضي به هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. 5. انتشار التعليم المنزلي، وانتشار مجموعات التعليم المنزلي، وإنقاذ فطرة الأطفال والفتيان من تحكم الدولة ومناهجها وهيمنتها الفكرية هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة، وهذا الانتشار هو نفسه ما سيخلق مجموعات مستقلة وأنشطة مستقلة بل ومجالات عمل واقتصاد مستقل فيما بعد. 6. كل نشاط اقتصادي يقوم بعيدا عن عين السلطة ورقابتها ولا يدفع لها ضرائب ولا يلتزم بسياستها هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولا سيما الأنشطة الاقتصادية الداعمة لسائر ما هو مخالف للسلطة، فلو أن تلك الأنشطة الاقتصادية يذهب ربحها لدعم الكتاتيب والمجموعات الأهلية والمحاكم العرفية والتعليم المنزلي لكانت تلك هي الخدمة العظمى لمقاومة الأمة واستقلاليتها. بل لو استطاعت الأنشطة الاقتصادية التعامل بغير عملة الدولة أو ابتكار عملة لها تحوز القبول العام لكان هذا فتحا هائلا في العلاقة بين المجتمع والسلطة. وهكذا نرى مجال المقاومة مجال واسع ممتد يستطيع الكثيرون المشاركة فيه، بل لا مجال لإنقاذ الأمة وتغير حالها من أن يشارك مجموعها فيه، كل بسهمه وبما يستطيع.. ومن هنا تظل المسؤولية الكبرى على القادة والعلماء.. القادة هم من يصنعون المنظومات العملية ويوجهون ويديرون، فتتحول الطاقات السائلة المبعثرة إلى تيار موجه ومنظومات متكاملة متعاونة. والعلماء هم من ينتجون الأفكار ويدعمونها ويُوَجِّهون إليها ويُحَرِّضون عليها ويظللون كل عمل بالمظلة الأخلاقية التي تمنع سائر تلك الأعمال من الانحراف عن وجهتها في خدمة الأمة إلى المصالح والأغراض الشخصية أو إلى خدمة الأعداء. وسيجد العلماء في الإسلام مادة غزيرة لتعظيم الكتلة المجتمعية بقيم صلات الرحم وحسن الجوار، ومادة غزيرة لمقاومة الظلم والوقوف أمام الظالمين، ومادة غزيرة لتثوير الطاقات وتوجيهها. قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]
طبقات الاستبداد ومقاومة الأمة

محمد إلهامي

ثمة أمور يجب على عقل المقاومة أن تستوعبه وتهضمه جيدا، من أهمها ما سنتناوله هنا، وسنحاول الحديث عنه هنا بتبسيط شديد:
1. الناس عبر التاريخ يثورون ضد الاحتلال الأجنبي أو ضد الاستبداد الداخلي. وكان التسامح مع المستبد أوسع وأكبر بكثير من التسامح مع المحتل، ولهذا تطول عصور الاستبداد أكثر بكثير مما تطول عصور الاحتلال.
2. قد ينقلب المستبدون بعضهم على بعض، وقد تشتعل ثورة فتسقط المستبد وتقتله بأشد الطرق وحشية، إلا أن الأهداف العامة للأمة لا تتغير، فالمستبد يعبر عن الأمة ويتحرك في سبيل أهدافها ولتقويتها، والذين ثاروا عليه إن انتصروا فهم يتحركون في نفس الأهداف وبنفس الدوافع.. لأن المستبد لم يكن ضد أمته ومناقضا لها بل كان ظالما مستبدا يستحوذ على مواردها، فإن كان قويا كان عصره رغم استبداده من عصور ازدهار أمته، وإن كان سفيها أو تافها أنفق موارد أمته على نفسه وحاشيته وبلاطه.
3. عامة ما جرى في التاريخ من تقلبات سياسية، ثورات وانقلابات، كان تعبيرا عن صراع القوى الداخلية لا عن نفوذ القوى الخارجية الأجنبية.. فالحاكم يتغير بثورة أو بانقلاب يعبر عن اتجاه آخر وقوة أخرى هي ضمن قوة الأمة نفسها وليست صنيعة لأعداء الخارج. نعم! وُجِد من يستعين على ثورته وتمرده بدعم ومدد من الخارج الأجنبي لكن هذه الحالة قليلة بالمقارنة بما حدث من تقلبات سياسية، ثم إنها أكثر ما تكون في مناطق الاحتكاك الحضاري بين أمتين كبيرتين، يعني في الممالك على الحدود والأطراف وليس في قلب الأمم الكبرى.
4. كانت السلطة دائما أقوى سلاحا وأكثر عددا ورجالا من الثائرين عليها، لكن الفارق بين ما تملكه الشعوب وما تملكه السلطة لم يكن عظيما، في النهاية يتقاتلون بالسيوف والرماح والسهام ويستعملون الخيل.. نعم، تملك السلطة مجانيق وقلاع محصنة مع نوع من الشرعية والقدرة المالية وهو ما يجعلها الأعلى يدا، إلا أن الفارق في النهاية لم يكن عظيما، فبالإمكان مع نوع تدبير وتخطيط ومفاجأة واستعانة بعصبيات وقوى أخرى أن تدور معركة متكافئة مع السلطة.
5. من سوء حظ أمتنا أن لحظة ضعفها وانهيارها الداخلي كان مواكبا للحظة نهضة أوروبية قوية، تلك النهضة مع ضعفنا كانت لها آثار شنيعة لا زلنا حتى الآن نعاني منها، فكيف تم هذا؟
أولا: رغم أن المسلمين اكتشفوا وجود الأمريكتين واكتشفوا إمكانية الانتقال من الغرب إلى الشرق بالدوران حول إفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح)، إلا أن من استفادوا بهذا هم الغربيون، لأن من حكموا العالم الإسلامي وقتها لم يستفيدوا من تلك الاكتشافات العلمية، بينما استطاعت أوروبا أن تسيطر على جبال الذهب والفضة والموارد الضخمة في الأمريكتين كما استطاعت أن تسيطر على موارد السواحل الإفريقية والآسيوية. نعم، كان هذا بالعنف والقهر والوحشية لكن هذا حديث آخر.
ثانيا: لم تكن استفادة الغربيين من تقدم العلوم مقتصرة على الجغرافيا، بل أخذ تقدم العلوم يلقي بتأثيره على كل المجالات، ويهمنا في سياقنا الآن أن السلطة استفادت من العلم في توسيع فارق القوة بينها وبين عموم الناس، تطورت الأسلحة التي تملكها السلطة، واتسع الفارق بينهم وبين الناس، ومن هنا استطاع الغزاة الأوروبيين رغم قلة عددهم اكتساح أمم أعظم منهم بكثير.. فالذي يحمل المسدس يستطيع مواجهة عشرات ممن يحملون السيوف. كما أن تقدم العلوم أتاح صناعة السفن التي تعبر المحيطات وتحمل أعدادا أكبر من البشر وأثقالا أعظم من الأسلحة والمعدات.. ومن هنا استطاع الغربيون السيطرة على أجزاء كثيرة من العالم في إفريقيا وآسيا مع الأمريكتين لأنهم أول من استفادوا من تقدم العلوم.
ثالثا: تواكب هذا الصعود العلمي مع طفرة اقتصادية، بدأت قبله، ومع تطور فكر سياسي ضد الكنيسة وضد الملكية.. أصحاب الأموال صاروا قوة مؤثرة، تمكنت مع الزمن من إزاحة الإقطاعيين والنبلاء ومن منافسة الكنيسة والملكية، وصار رجال المال من أهم قوى المجتمع الغربي ومن أهم أعمدة السلطة فيه، وربما كانوا أحيانا أهم أعمدة السلطة.
6. كانت نتيجة مجمل هذه التطورات أن الغرب وجد أمامه مساحات واسعة من الأراضي والشعوب والموارد الاقتصادية التي لا تحميها سلطات قوية، فبدأ عصر الاستعمار. ومن الطريف هنا أن كلمة "عصر الكشوف الجغرافية" تساوي كلمة "عصر الاستعمار"، رغم أن الأولى تبدو لأول وهلة شيئا جميلا وتقدما علميا والثانية تبدو شيئا شنيعا.. لكن الحقيقة أن تقدم العلم كان هو نفسه تقدم الاحتلال وسحق الشعوب والأمم الضعيفة.
7. بعد انتصار الاحتلال الأجنبي الناهض على أمتنا أراد أن يجعل بلادنا تابعة ورهينة له، عسكريا واقتصاديا وأيضا فكريا وثقافيا.. واقتضى هذا مجهودا طويلا وخرافيا في فهم أمتنا (وهو ما قامت به حركة الاستشراق) وفي تركيعها (وهو ما قامت به جيوش الاحتلال) وفي إعادة تركيبها وصياغتها فكريا وثقافيا وهو ما قامت به النظم السياسية.. لهذا كان تاريخنا الحديث هو تاريخ "تحديثنا" لنكون مثل الغرب.
8. هنا وقعت بأمتنا الكارثة.. لقد استطاع الاحتلال غرس نظامه فيها، بالعنف والقهر والظلم، استطاع دس حكام تابعين له في أرضنا، والسيطرة عليهم، وإنشاء طبقات حاكمة حوله، وإنشاء نخبة اقتصادية وثقافية مرتبطة به، ليتم له ربط بلادنا به لتكون تابعة له.. تلك هي قصة الشعوب الإسلامية العامة مع الاختلاف في التفاصيل.
9. كل تقدم علمي كان يُستعمل ضد أمتنا ولتثبيت النظام الأجنبي فيها وتوسيع الفارق بينها وبين الشعوب، فاتسعت الفجوة بين عدد وقوة ونوعية السلاح الذي تملكه السلطة وبين ما يملكه الشعب، وامتلكت السلطة جهاز الإعلام (المطبعة، الراديو، التليفزيون) فصارت الشعوب في وضع التلميذ الذي يسمع ويُلقن الأفكار بعدما كانت الأمة هي من تنتج أفكارها، وتطور نظام الدولة الحديثة ليجعل الدولة متحكمة في حياة الإنسان من وقت مولده إلى وفاته، فالدولة تربيه وتصنعه في المدرسة والجامعة والوظيفة، وقد كان من قبل يولد فيربيه أهله وبيئته ثم يتعلم في الكتاب والمدرسة الأهلية التي لم تنشئها الدولة ولا تسيطر على مناهجها، ثم يعمل في نشاط اقتصادي طبقا لموهبته أو لوراثته من أهله دون تدخل من الدولة في طبيعة ما يفعل.. وهكذا!
10. منذ تلك اللحظة صارت أمتنا مهزومة، وصار انهيار السلطة يساوي انهيار وضعها كله لأن السلطة تتحكم في كل شيء، وربما سلمت السلطة بنفسها الأمة للمحتل بغير مقاومة. أي أن السلطة صارت هي أول وأعظم هزائمنا ونكبتنا.. فهي سلطة تبدو كمستبد وطني بينما هي على الحقيقة القناع الذي يرتديه المحتل للسيطرة على الشعوب لئلا يستفزها منظر المحتل الأجنبي. ومن الطرائف أن السلطة في بلادنا تستعمل كل قوتها وكل عنفها إن اشتعلت في وجهها ثورة شعبية فتخرج الدبابات والطائرات والأسلحة الكيمائية وفرق مكافحة "الشعب"! ثم يأتي الأجنبي فيدعمها بنفسه وجيشه ليمنع سقوطها. بينما إن جاء الاحتلال رأيت الانسحابات واختفت الجيوش وسكتت الطائرات والدبابات وتسلم الأجنبي البلاد والعباد بغير مقاومة.
11. لو تدبرنا لرأينا أن كل انتصار في تاريخنا صنعته الشعوب وحركات المقاومة، بينما كل هزيمة وقعت بنا إنما تسببت فيها السلطة.. والسلطة في بلادنا بتحكمها في كل أنشطة الإنسان يجعل اختراق الأعداء لنا ومعرفتهم بنا اختراقا شاملا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والتربية... إلخ!
فكيف نقاوم هذا الاحتلال الشامل المطبق؟!
باختصار شديد: كل خروج للمجتمع من تحت يد السلطة هو قوة للمجتمع وخصم من السلطة.
1. انتشار الكتاتيب وتعليم القرآن وانتشار حفظته هو انتشار لمراكز تعليم ولمناهج لا تهيمن عليه السلطة. القرآن هو كتاب الأمة، ومن يتربى على القرآن ويتلقى عنه هو شخصية مضادة لكل فكر وتوجه سياسي وأخلاقي واقتصادي تريده السلطة العلمانية التابعة للمنظومة الغربية. وبقدر ما انتشر القرآن بقدر ما انتشرت مقاومة العلمنة ومقاومة الطغيان.. القرآن والطغيان لا يجتمعان!
2. انتشار التكتلات والتجمعات والمجموعات هو تقوية للمجتمع وخصم من السلطة، السلطة تريد الناس مواطنين فرادى تتعامل معهم كأفراد لا ككتل اجتماعية.. فكل تكتل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصدر بإنشائه تصريح من السلطة ولا يعقد اجتماعاته تحت عين السلطة ولا يجري في نشاطاته ملتزما بقوانين السلطة، ولا يحل أفراده الخلافات بينهم عن طريق السلطة.. كل اجتماع كهذا هو بذرة مقاومة، وهو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
3. السلطة جردت شعوبنا من السلاح لتستبد بهم، فكل انتشار للسلاح بيد الناس هو قوة للمجتمع وتهديد للسلطة، وكل وقوف في وجه سلاح السلطة لدفع ظلم من السلطة أو حماية مظلوم من السلطة هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولو أن مهندسي الأمة وعلمائها وصُناعها يحرصون على ابتكار الأسلحة الخفيفة سهلة الانتشار التي يستفيد منها عموم الناس لا السلطة لكان هذا من أهم وأعظم ما يعيد التوازن بين سلاح السلطة وسلاح المجتمع.
4. انتشار المجالس العرفية والمحاكم العرفية التي تفصل في خلافات الناس دون الرجوع للسلطة، والتي يحترمها الناس وينصاعون لها وينفذون ما تقضي به هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة.
5. انتشار التعليم المنزلي، وانتشار مجموعات التعليم المنزلي، وإنقاذ فطرة الأطفال والفتيان من تحكم الدولة ومناهجها وهيمنتها الفكرية هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة، وهذا الانتشار هو نفسه ما سيخلق مجموعات مستقلة وأنشطة مستقلة بل ومجالات عمل واقتصاد مستقل فيما بعد.
6. كل نشاط اقتصادي يقوم بعيدا عن عين السلطة ورقابتها ولا يدفع لها ضرائب ولا يلتزم بسياستها هو إضافة للمجتمع وخصم من السلطة. ولا سيما الأنشطة الاقتصادية الداعمة لسائر ما هو مخالف للسلطة، فلو أن تلك الأنشطة الاقتصادية يذهب ربحها لدعم الكتاتيب والمجموعات الأهلية والمحاكم العرفية والتعليم المنزلي لكانت تلك هي الخدمة العظمى لمقاومة الأمة واستقلاليتها. بل لو استطاعت الأنشطة الاقتصادية التعامل بغير عملة الدولة أو ابتكار عملة لها تحوز القبول العام لكان هذا فتحا هائلا في العلاقة بين المجتمع والسلطة.
وهكذا نرى مجال المقاومة مجال واسع ممتد يستطيع الكثيرون المشاركة فيه، بل لا مجال لإنقاذ الأمة وتغير حالها من أن يشارك مجموعها فيه، كل بسهمه وبما يستطيع.. ومن هنا تظل المسؤولية الكبرى على القادة والعلماء.. القادة هم من يصنعون المنظومات العملية ويوجهون ويديرون، فتتحول الطاقات السائلة المبعثرة إلى تيار موجه ومنظومات متكاملة متعاونة. والعلماء هم من ينتجون الأفكار ويدعمونها ويُوَجِّهون إليها ويُحَرِّضون عليها ويظللون كل عمل بالمظلة الأخلاقية التي تمنع سائر تلك الأعمال من الانحراف عن وجهتها في خدمة الأمة إلى المصالح والأغراض الشخصية أو إلى خدمة الأعداء.
وسيجد العلماء في الإسلام مادة غزيرة لتعظيم الكتلة المجتمعية بقيم صلات الرحم وحسن الجوار، ومادة غزيرة لمقاومة الظلم والوقوف أمام الظالمين، ومادة غزيرة لتثوير الطاقات وتوجيهها.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]
‏٢٣‏/١١‏/٢٠١٧ ٧:٣٧ م‏
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (1) بقلم الصغير @[100001613664823:2048:منير] هل كانت تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ(1) ناجحة أم فاشلة؟ سؤال يطرح كثيرا، ويختلف الجزائريون في جوابه بشدة كلّ من منطلقاته والزاوية التي ينظر منها إلى ما حدث خلال قرابة ثلاث سنوات من عمر الجبهة، بل إن عددا من أنصار الجبهة وقياداتها لا يجدون حرجا في انتقاد مسارها بأشد مما يكتبه ويصرح به ألد أعدائها. لقد كان تأسيس الجبهة حدثا مفاجئا(2) لم تعدّ له الحركة الإسلامية في الجزائر بكل أطيافها ولم تخطّط له ولم تتوقعه بتلك السرعة والحدّة والشدة التي رافقته ولا الانتشار والتأثير الذي تلاه. إن مسار الجبهة كان حافلا بالعطاء والبذل والتحدّيات والإنجازات، وبالإخفاقات والنكسات والأخطاء والتسرّع وسوء التخطيط. ولقد كانت حدّة الصراع وشدته وتتابع الأحداث ومكر السلطة وكيد المخابرات(3) وسرعة التأسيس وقصر المدة بينه وبين الانقلاب وحلّ الحزب(4) وعوامل أخرى مؤثرة بلا شك في عدم تمكن الجبهة من تنظيم صفوفها وضبط استراتيجيتها وتدارك أخطائها وترتيب علاقاتها واستثمار نجاحاتها وتصفية وتطهير مؤسساتها من الانتهازيين والباحثين عن المناصب والمكاسب وعملاء المخابرات، وأنا هنا أحاول تفسير ما حدث لا تبريره. ومما يجدر أن يعلمه القارئ أن فترة رئاسة عبد القادر حشاني رحمه الله للجبهة بعد اعتقال شيوخ الجبهة إثر الإضراب السياسي الشهير(5) وبعد انعقاد مؤتمر الوفاء بباتنة(6) كانت مختلفة عما قبلها بشكل واضح جدّا، وظهرت أمارات حسن التنظيم والمأسسة وبدأ استدراك الأخطاء وتغيير نبرة ومحتوى الخطاب، ولكن الأحداث كانت تتسارع وتتلاحق بشكل جعل من الصعب على الجبهة برغم هذا الوعي والأسلوب الجديدين أن ترابط على كل الثغور وتسدّ كل الثغرات التي كانت مفتوحة أمامها. إن هذا المقال ليس سردا تاريخيا يراعي تسلسل الأحداث؛ وإنما هو إضاءات على مسار حزب كبير تركت تفاعلاتُه مع أصدقائه وخصومه وأعدائه ومواقفُه وخياراتُه أثرها العميق جدا والخطير على تاريخ الجزائر المعاصر بعد 1988 إلى يوم الناس هذا ولقد آثرت أن أبدأ المقال بما أراه – ويراه كثير من الدارسين والمتابعين الذين عايشوا الأحداث وتتبعوا تسلسلها – أخطاء وثغرات أدّت باجتماعها واستغلال الأعداء لها وغفلة الجبهة عن سدّها وتداركها في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب إلى إصابتها في مقتل. ثمّ سوف أثنّي بما أراه نجاحا وإنجازات للجبهة، لأنهي المقال بخلاصات تفيد العاملين للإسلام وتوسّع مداركهم وتفتح لهم آفاق التبصّر والاعتبار؛ حتى لا نلدغ من الجحر نفسه مرتين بل مرّات ولا نكرّر الأخطاء بسذاجة أو استدراج أو غباء. ولست أزعم أن قراء هذه المجلة – من الجزائريين خاصّة – سيوافقونني في كل ما سطرته في المقال، لأن أحداثاً ومواقف كثيرة حدثت في تلك السنوات الثلاث ما زالت في منطقة ظلّ بل ظلام دامس، وشهادات المشاركين في صناعة الأحداث يومئذ ما تزال شحيحة، وأرشيف الجبهة والإعلام والأمن والجيش ما يزال غير متاح بشكل عمليّ وعلميّ للباحثين والمؤرخين، وجراحات ما حدث في العشرية الحمراء(7) لم تندمل بعدُ، وهناك تبعات قضائية وأمنية وسياسية واجتماعية لكثير من الحقائق لو تمّ كشفها، والذين لهم علاقة بها ما زالوا أحياء يتربصون أو مكلومين يبحثون عن الحقيقة. وإنني إذ أذكر الأخطاء والثغرات ومواضع الخلل فإنني أؤكّد أن بعضها لم يكن خطأ أو انحرافا في حدّ ذاته، وإنما كان الخطأ في عدم تأطيره وترشيده والتحكم فيه، وبعضها الآخر كانت أخطاء صغيرة في بداياتها ولكن الغفلة عن معالجتها والاستهانة بآثارها هي ما جعلها تكبر لتصبح من مَقاتل الجبهة. ولقد كانت أجهزة الاستخبارات جاهزة منذ البداية لإسقاط الجبهة واختراق قياداتها وقواعدها والتحكم في مسارها، فجاءت هذه الأخطاء مبرّرا وأداة استخدمتها هذه الأجهزة وضخّمتها وتسرّبت من خلالها. فالجبهة إذن لم تكن حزبا سياسيا إسلاميا أُسِّس ليكون ذراعا لجماعة دعوية، ولعله من أجل ذلك تحفّظت وتوجّست منه كل الجماعات والتيارات الإسلامية يومها ولم تعلن عن تأييدها ودعمها الرسمي للجبهة. كانت الجبهة على مستوى قيادتها الوطنية ومكاتبها الولائية وحتى البلدية خليطا من كل الجماعات والتيارات والأطياف، فقد كان فيهم الإخوان المسلمون بشقيهم المحلي(8) والعالمي(9) وكان فيهم السلفيون الذين كان أكثرهم في العاصمة الجزائرية وضواحيها، والقطبيون(10)، ومن جماعة الدعوة والتبليغ على قلتهم، وكان فيهم عدد معتبر ممن ليس له انتماء تنظيمي بل كانوا متدينين وكثير منهم كانوا أعضاء في حزب جبهة التحرير الوطني قبل أحداث أكتوبر 88، وآخرون فرادى لا يعرف لهم انتماء. ولعل الجماعة الوحيدة التي لم يشارك أحد منها في تأسيس الجبهة على مستوى القيادة هي جماعة البناء الحضاري(11) وإن كان الشيخ محمد السعيد حضر لقاء مسجد السنة الشهير الذي كان بمثابة إعلان غير رسمي عن تأسيس الجبهة ولكن حضوره كان من أجل تأخير الإعلان والتريث في التأسيس ورغبة في توسيع المشورة وإشراك رابطة الدعوة الإسلامية في الأمر(12) لقد كانت (السرعة) في تأسيس الجبهة - والتي يعتبرها كثير من رموز ودارسي الحركة الإسلامية عجلة وتسرّعا كانت له نتائج وخيمة لاحقا – و(عدم التجانس) بين المؤسسين للجبهة على المستويين الوطني والولائي – بسبب اختلاف محاضنهم التربوية ومشاربهم الفكرية وانتماءاتهم التنظيمية السابقة للجبهة – هما أهمّ وأخطر سببين أدّيا بعدُ إلى سلسلة من المواقف والخيارات تركت أثرها العميق والخطير على الجبهة وعلى الجزائر كلها. إن الجبهة تأسست في ظروف وبيئة لم تعرف أي تجربة سياسية منظمة للحركة الإسلامية منذ الاستقلال، وكل ما كان قبل تأسيسها إنما هو مبادرات وعمل دعوي تربوي تمثّل في أرقى مظاهره في ندوات فكرية ومخيمات تربوية وتنظيمات دعوية كان أكثرها تنظيما فيما أعلم حركة الإخوان المسلمين تليها جماعة الشرق والبناء الحضاري. وبهذا فقد نسجت الجبهة على غير نموذج ولا تجربة سابقة، وهو أمر بقدر ما كان ذا أثر سلبي باعتباره يحرم الحزب الجديد من رصيد وتراكم التجارب والخبرات فإنه كان ذا أثر إيجابي؛ إذ حرّر قيادته ومناضليه من أسر التقليد واستنساخ التجارب ومكّنها من اقتحام مساحات جديدة بلا تهيّب ولا وجَل ولا توقّع خسارة ونكسات تكون قد تعرضت لمثلها تجارب سابقة. لقد كان الانتشار السريع والتوسع الكاسح والاحتشاد الشعبي مع الجبهة انخراطا في صفوفها وتأييدا لها وحضورا في تجمعاتها ومسيراتها أمرا فاجأ حتى قيادة الجبهة، التي لم تكن تمتلك من الكوادر ولا الخطط ولا الموارد ما يمكّنها من تأطير كل هذه الحشود وترشيد حركتها ورفع وعيها والتحكم في ردود أفعالها، وقد فسّر ذلك عدد من كتبوا وتحدثوا عن هذا الأمر بخلوّ الساحة من أي مشروع سياسي إسلامي منافس(13)، وفسره آخرون بأنه كان نوعا من الرفض والغضب والعقاب والسخط على السلطة القائمة ومؤسسات الدولة المرتبطة بها، بينما فسره آخرون بأنه كان نتيجة خطاب الجبهة العاطفي الذي يستخدم مصطلحات الإيمان والكفر والإسلام والشريعة والجنة والنار مما ولّد تماهيا بين الإسلام والجبهة في عقول ومشاعر الجزائريين الذين احتشدوا خلف الجبهة بحيث أصبحت مناصرتها مرادفة لنصرة الدين نفسه، وآخرون أرجعوا سبب ذلك إلى الوعود التي كان يقدمها قادة الجبهة وخطباؤها بالرفاه والكرامة والحرية ومحاسبة الفاسدين ومعاقبة المجرمين وتحقيق العدل بعد إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة، وهما المصطلحان اللذان طرقا سمع الجزائريين لأول مرة بقوة وتركيز وكثافة، وبعضهم جعل السبب كاريزما الشيخين عباسي وعلي بن حاج وعددا من قيادات الجبهة في ولايات الوطن الأخرى. قد تكون هذه العوامل مجتمعة هي السبب في هذا الانتشار والتوسع والاحتشاد الذي بلغ كل قرية نائية في الأرياف ودَشْرة(14) معزولة بين الجبال، وقد تكون هناك أسباب أخرى غيرها، وربما يكون من المجازفة تقديم أحدها على الآخر، وما يزال مجال البحث مفتوحا غير مطروق بطريقة علمية منهجية يقوم بها علماء السياسة والنفس والاجتماع بناء على الأرقام والإحصائيات والتقارير الموثوقة. ويحسن في هذا السياق أن نذكر أن من مظاهر هذا الانتشار هو الحضور الكبير للعنصر النسوي والشباب -الطلابي خاصة- والنقابي في قواعد الجبهة الشعبية ممثلا في الرابطة الإسلامية للطلبة(15) التي اكتسحت الجامعات والنقابة الإسلامية للعمل(16)، وفي دور الجبهة في الحشد النسوي للمسيرة المليونية النسائية في العاصمة(17) التي دعت إليها رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الشيخ أحمد سحنون رحمه الله احتجاجا على محاولات تغيير قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية. كانت مسيرات وتجمعات الجبهة أسبوعية في جميع شوارع وملاعب المدن الكبرى وعواصم الولايات وحتى البلديات أحيانا، وكانت الشعارات والهتافات التي ترفع مزعجة ومخيفة بل مرعبة لكثير من الأطراف والعصب في السلطة ومؤسسات الدولة وبعض الأحزاب ذات التوجّه اليساري خاصة. ولم تكن هذه الشعارات في الغالب الأعم مخططا لها ولا مدروسة الآثار النفسية والإعلامية والمآلات السياسية، بل كانت وليدة اللحظة ونتيجة الانفعالات والحماسة والإعجاب بالكثرة، وكان يكفي أن يرفع أحد الشباب عقيرته بشعار أو هتاف فإذا الجماهير تردده بحماسة واندفاع(18) ولأن قيادة الجبهة وجهازها الإعلامي كانا منشغلين ومستغرقين بالكلية في تجمعات ومسيرات لا تتوقف؛ فقد كان من شبه المستحيل أن يتمّ التفكير في هذا الأمر ومحاولة ضبطه وترشيده، وهو ما لم يحدث حتى وقع الانقلاب. ولأن أطرافا كثيرة في السلطة ومؤسسات الدولة وعلى رأسها قيادة الجيش وأجهزة الأمن كانت ترى نفسها معنية مباشرة بهذه الشعارات فقد زاد ذلك من خوفها وعدائها الموجود أصلا للجبهة ومشروعها والعزم على توقيفه وإفشاله بأي طريقة، ووجدت فيه أحد المبررات لسلوكها القمعي لاحقا. ولم يكن الأمر مقتصرا على شعارات وهتافات الأنصار والجماهير، فحتى خطابات وكلمات القادة والخطباء في تجمعات ومسيرات الجبهة كانت تفتقد في كثير من الأحيان التحضير الجيد والتنسيق والهدوء والتحفظ الذي يقتضيه الحديث باسم حزب كبير مؤهل لأن يحكم بلدا مهما مترامي الأطراف مثل الجزائر يقع على مرمى حجر من أوروبا. وكان المتحدثون والخطباء كثيرا ما ينفعلون ويستجيبون لضغط الجماهير وهتافاتها وكانت هذه الصيحات المرتجلة والعفوية في التجمعات والمسيرات كثيرا ما تكون مادة دسمة في وسائل الإعلام للتحريض على الجبهة وتشويهها واتهامها بالعنف والتطرف والغلو وتأليب قطاعات واسعة من الشعب، حتى تنفضّ أو تخاف وتتوجّس من الجبهة، ولم يكن الأمر مقتصرا على الأعداء والخصوم بل كان عدد من القيادات والدعاة على المستوى الوطني والولائي غير راضين عن مثل هذه الخطابات وينتقدونها ويطالبون بالتخفيف من حدّتها والتحفظ في إطلاقها خاصّة وأن عددا منها كان يتناول تلميحا وتصريحا جماعات وجهات وشخصيات إسلامية أو وطنية كان يمكن جدّا تجنّب مهاجمتها وتحييدها عوضا عن دفعها إلى ردود أفعال ومواقف دفاعية، خاصة وعداؤها أو خصومتها للجبهة لم تكن مبدئية عقدية حتى وإن شابها نزق وتصريحات وتموقع كانت الجبهة تراه طعنة في ظهرها و استفزازا واصطفافا مع السلطة ومؤسساتها. أحداث وقناعات ومواقف كثيرة كانت تتشكل أيضا في الأحياء الشعبية والولايات الداخلية والمناطق البعيدة عن المركز، ولم تكن قيادة الجبهة تجد من الوقت والموارد والوسائل أو تمتلك من التخطيط ما يمكّنها من متابعته ومراقبته وترشيده والتحكم فيه، بل حتى السماع به والانتباه إليه أحيانا، فقد كانت جماعات صغيرة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص أو أكثر تتجمّع بشكل عفوي مرتجل وبقناعات أحيانا أو دفع وتحريض جهات ما لتقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضييق على المتبرجات والسكارى وغيرها من المنكرات، ولم يكن هذا الأمر ظاهرة عامة منتشرة ولم تكن بتوجيه من الجبهة ولكنه كان يصدر عن منتسبين إلى الجبهة وتحسب تصرفاتهم عليها وكان الإعلام يطير بها كل مطار، ويصور للقراء أنها تحدث في كل مدينة وحيّ، ويرفقها بالإشاعات وصور الكاريكاتير ويرسّخ في الأذهان أن أعضاء الجبهة أعداء للحريات الشخصية ومتسلطون وعدوانيون. ومن مظاهر التفلّت وعدم قدرة الجبهة على تأطير الجماهير والشباب منهم خاصة انتشار أزياء ومظاهر لم يألفها الشعب الجزائري وليست من أعرافه ولا تقاليده الاجتماعية، فقد انتشر الزيّ الأفغاني (البنجاب) والطاقية الأفغانية وإطالة الشعر واكتحال العيون والعمامة والعصابة السوداء والسترات التي كان يلبسها المجاهدون الأفغان. وكان الشباب الذين يلبسون هذا الزيّ يؤطّرون التجمعات والمسيرات في كثير من الأحيان وتلتقط صورهم كاميرات الإعلاميين الجزائريين والأجانب وتظهرها بشكل فاقع صادم، وبرغم أن هذا الأمر يبدو جزئيا وغير مهمّ؛ ولكن الذين عاشوا تلك الفترة بكل أحداثها وزخمها يدركون ويتذكرون جيدا أن تأثيرها في لا وعي الجماهير لم يكن هيّنا على الإطلاق، خاصة أن الزي الأفغاني كان مرتبطا بشكل وثيق بفكرة الجهاد والعمل المسلّح والتمرّد على النظام. ظاهرة الزي الأفغاني تقودنا إلى موضوع آخر خطير، وهو أن نشاط الجبهة وفوزها الساحق في انتخابات المجالس البلدية والولائية وقوة حضورها الشعبي في الشارع من خلال المسيرات والتجمعات والإضراب السياسي الشهير، ترافقت مع بداية عودة (الأفغان الجزائريين) إلى الجزائر فرادى وجماعات. وهؤلاء لم يكونوا حين رجعوا على رأي وموقف واحد، وإنما كان منهم من انخرط في الجبهة تنظيميا، ومنهم من تعاطف معها وكان يحضر فعالياتها السياسية، ومنهم من كان متعاطفا بتحفظ وحذر، وآخرون كانوا يرفضون خيار المشاركة السياسية ويعتبرونه انحرافا ومزلقا عقديا، ويعلنون ذلك بصراحة ووضوح، وكان شريط أبي مصعب السوري بعنوان: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) الذي يتحدث فيه عن تجربة الجبهة بانتقاد وتهجّم رائجا يومئذ، ولكن أولئك مع ذلك كانوا يتوقعون – في يقين – صداما وشيكا بين السلطة والجبهة ويعدّون أنفسهم ويخططون لانتهاز فرصته وإعلان الجهاد، ولقد كانت هذه النيّات معلنة ولكن الجبهة على مستوى القيادة تعاملت مع الأمر بكثير من اللامبالاة والغموض، فلم ترفضها وتتبرّأ منها، ولم تتبنّها وتحتوِ أصحابها، وكانت الخطابات والخطب تتحدث عن الجهاد بشكل غامض يؤوّله كل طرف بما يناسبه، بينما لم يرافق هذه الخطابات تخطيط ولا استشراف ولا إعداد، وقد نجح الأفغان الجزائريون في إقناع عدد معتبر من الشباب المنتسب للجبهة بأطروحات الجهاد وترويج قناعاتهم وأدبيات الجهاد في جوّ من الحماسة والاستقطاب الشديد وفي ظروف كان الجهاد الأفغاني قد حقق فيها انتصارات كبيرة توّجت بانسحاب الاتحاد السوفييتي مهزوما مدحورا، وبعد الأثر النفسي العاطفي والشحنة الإيمانية التي خلّفها مقتل الشيخ عبد الله عزام رحمه الله. هذا مع الانتباه إلى أن المخابرات كانت قد اخترقت عددا من أنوية الجهاديين الأفغان في وقت مبكّر حتى قبل الانقلاب. وهنا أيضا كان الإعلام حاضرا بقوة لنقل وتضخيم الخطابات والمواقف الصغيرة والمنعزلة المتفرّقة واستغلالها بشكل مدروس وممنهج ومُغرِض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سيتم اختصارا استخدام كلمة الجبهة. (2) أُعلِن عن تأسيس الجبهة بتاريخ 18/02/1989 واعتُمدت قانونيا بتاريخ 06/09/1989. (3) حول ما يتعلّق باختراق المخابرات للجبهة ثم لأنوية العمل الجهادي بعد ذلك يرجى مراجعة : محمد سمراوي، (الإسلاميون والعسكر، سنوات الدم في الجزائر)، ترجمة: عومرية سلطاني، دار تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى 2015. مع ملاحظة أن الكتاب فيه قدر من التضخيم لدور المخابرات ومبالغات ولكنه يبقى من أهمّ المراجع حول أساليب المخابرات في الاختراق والتوظيف والتحكّم في الحركات السياسية والجهادية. (4) حُلّت الجبهة بقرار قضائي يوم: 04/03/1992 فكانت مدّة وجودها كلها عامين ونصفا. (5) بدأ يوم 25/05/1991 وانتهى يوم 07/06/1991 وكان سببه الرئيس المطالبة بتغيير قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية الذي كانت الجبهة تعتبره مفصلا ليضمن فوز الحزب الحاكم. (6) هو مؤتمر انعقد بتاريخ: 25 و26 يوليو1991 بولاية باتنة، من أجل إعادة هيكلة وتنظيم الحزب وترميم ما أصابه بعد الإضراب السياسي واعتقال الشيخين كان من نتائجه تجميد عضوية المشكوك فيهم في المكتب الوطني ومجلس الشورى وانتخاب المهندس عبد القادر حشاني رئيسا للجبهة. (7) العشرية الحمراء: مصطلح يطلقه الجزائريون على الفترة الممتدة من نهايات عام 1991 إلى بدايات عام 2000 بسبب ما حدث فيه من قتل ومجازر وتنكيل واختطاف. (8) ممثّلا في ما يسمّى في الجزائر بجماعة الشرق أو الإخوان المحلّيون، التي يرأسها الشيخ عبد الله جاب الله وهي حركة إسلامية تأسست أواسط عقد السبعينيات وتركّز نشاطها الأكبر في منطقة الشرق الجزائريّ. (9) ممثّلا في جماعة الإخوان المسلمين التي كان يرأسها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله. (10) تيّار دعوي تربوي كان حضوره طاغيا في جامعات الغرب الجزائري بوهران وتيهرت خاصّة ولم يتّخذ شكلا تنظيميا هرميا مثل بقية الجماعات برغم وجود أسماء ورموز وقيادات تؤطره وتتولّى إدارته بأسلوب مرن لا يتقيّد بالهياكل التنظيمية الصلبة. (11) أو جماعة مسجد الجامعة المركزية، والذين كانوا قريبين من فكر وأطروحات الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ومتأثرين بها وبأدبيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي أقدم الجماعة الإسلامية وجودا إذ تأسست في نهاية الستينيات وعلى الأرجح عام 1969، وترأسها بعد ذلك محمد بوجلخة ثم الشيخ محمد السعيد رحمه الله. (12) رابطة الدعوة الإسلامية : تأسست بعد أحداث أكتوبر 1988، وترأسها الشيخ أحمد سحنون أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت تهدف إلى جمع شمل الدعاة والحركات الإسلامية تحت مظلّة واحدة وبعث الدعوة الإسلامية وتنظيمها والتنسيق بين مكوناتها وحماية مكتسباتها. (13) لم يكن يومئذ قد تأسس أي حزب إسلامي، إذا كانت حركة الإخوان المسلمين بشقيها المحلي والعالمي ترفضان تأسيس أحزاب إسلامية ولم تبادرا إلى ذلك إلا بعد الفوز الكاسح الذي حقّقته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات المجالس البلدية والولائية. (14) وتُجمع على مداشر، كلمة جزائرية تعني القرية الصغيرة أو تجمع عدد من السكان ممن تربطهم في الغالب علاقة نسب وانتماء إلى نفس القبيلة. (15) تمّ تأسيسها في ربيع 1990، في أحد مساجد العاصمة، وكنتُ أحد المشاركين في لقاء التأسيس بإشراف الأستاذ غ-سيد أحمد. (16) تأسست في صيف 1990 وفرضت نفسها بقوة في ظرف سنة واحدة حتى وإن كان قصر المدة لم يسمح لها بالانتشار في المؤسسات الاقتصادية الحساسة مثل سوناطراك وسونلغاز وقطاع المناجم. (17) الخميس 23 جمادى الأولي 1410هـ الموافق لـ 21 ديسمبر 1989. (18) مثل: الجهاد.. الجهاد / لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول / دولة إسلامية بلا انتخاب / خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سيعود / لا نقاش لا كلام.. حتى يسقط النظام / ستموت ستموت.. يا طاغوت يا طاغوت.
يسألونك عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (1)
بقلم الصغير منير

هل كانت تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ(1) ناجحة أم فاشلة؟

سؤال يطرح كثيرا، ويختلف الجزائريون في جوابه بشدة كلّ من منطلقاته والزاوية التي ينظر منها إلى ما حدث خلال قرابة ثلاث سنوات من عمر الجبهة، بل إن عددا من أنصار الجبهة وقياداتها لا يجدون حرجا في انتقاد مسارها بأشد مما يكتبه ويصرح به ألد أعدائها.

لقد كان تأسيس الجبهة حدثا مفاجئا(2) لم تعدّ له الحركة الإسلامية في الجزائر بكل أطيافها ولم تخطّط له ولم تتوقعه بتلك السرعة والحدّة والشدة التي رافقته ولا الانتشار والتأثير الذي تلاه.

إن مسار الجبهة كان حافلا بالعطاء والبذل والتحدّيات والإنجازات، وبالإخفاقات والنكسات والأخطاء والتسرّع وسوء التخطيط. ولقد كانت حدّة الصراع وشدته وتتابع الأحداث ومكر السلطة وكيد المخابرات(3) وسرعة التأسيس وقصر المدة بينه وبين الانقلاب وحلّ الحزب(4) وعوامل أخرى مؤثرة بلا شك في عدم تمكن الجبهة من تنظيم صفوفها وضبط استراتيجيتها وتدارك أخطائها وترتيب علاقاتها واستثمار نجاحاتها وتصفية وتطهير مؤسساتها من الانتهازيين والباحثين عن المناصب والمكاسب وعملاء المخابرات، وأنا هنا أحاول تفسير ما حدث لا تبريره.

ومما يجدر أن يعلمه القارئ أن فترة رئاسة عبد القادر حشاني رحمه الله للجبهة بعد اعتقال شيوخ الجبهة إثر الإضراب السياسي الشهير(5) وبعد انعقاد مؤتمر الوفاء بباتنة(6) كانت مختلفة عما قبلها بشكل واضح جدّا، وظهرت أمارات حسن التنظيم والمأسسة وبدأ استدراك الأخطاء وتغيير نبرة ومحتوى الخطاب، ولكن الأحداث كانت تتسارع وتتلاحق بشكل جعل من الصعب على الجبهة برغم هذا الوعي والأسلوب الجديدين أن ترابط على كل الثغور وتسدّ كل الثغرات التي كانت مفتوحة أمامها.

إن هذا المقال ليس سردا تاريخيا يراعي تسلسل الأحداث؛ وإنما هو إضاءات على مسار حزب كبير تركت تفاعلاتُه مع أصدقائه وخصومه وأعدائه ومواقفُه وخياراتُه أثرها العميق جدا والخطير على تاريخ الجزائر المعاصر بعد 1988 إلى يوم الناس هذا

ولقد آثرت أن أبدأ المقال بما أراه – ويراه كثير من الدارسين والمتابعين الذين عايشوا الأحداث وتتبعوا تسلسلها – أخطاء وثغرات أدّت باجتماعها واستغلال الأعداء لها وغفلة الجبهة عن سدّها وتداركها في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب إلى إصابتها في مقتل.

ثمّ سوف أثنّي بما أراه نجاحا وإنجازات للجبهة، لأنهي المقال بخلاصات تفيد العاملين للإسلام وتوسّع مداركهم وتفتح لهم آفاق التبصّر والاعتبار؛ حتى لا نلدغ من الجحر نفسه مرتين بل مرّات ولا نكرّر الأخطاء بسذاجة أو استدراج أو غباء.
ولست أزعم أن قراء هذه المجلة – من الجزائريين خاصّة – سيوافقونني في كل ما سطرته في المقال، لأن أحداثاً ومواقف كثيرة حدثت في تلك السنوات الثلاث ما زالت في منطقة ظلّ بل ظلام دامس، وشهادات المشاركين في صناعة الأحداث يومئذ ما تزال شحيحة، وأرشيف الجبهة والإعلام والأمن والجيش ما يزال غير متاح بشكل عمليّ وعلميّ للباحثين والمؤرخين، وجراحات ما حدث في العشرية الحمراء(7) لم تندمل بعدُ، وهناك تبعات قضائية وأمنية وسياسية واجتماعية لكثير من الحقائق لو تمّ كشفها، والذين لهم علاقة بها ما زالوا أحياء يتربصون أو مكلومين يبحثون عن الحقيقة.

وإنني إذ أذكر الأخطاء والثغرات ومواضع الخلل فإنني أؤكّد أن بعضها لم يكن خطأ أو انحرافا في حدّ ذاته، وإنما كان الخطأ في عدم تأطيره وترشيده والتحكم فيه، وبعضها الآخر كانت أخطاء صغيرة في بداياتها ولكن الغفلة عن معالجتها والاستهانة بآثارها هي ما جعلها تكبر لتصبح من مَقاتل الجبهة.

ولقد كانت أجهزة الاستخبارات جاهزة منذ البداية لإسقاط الجبهة واختراق قياداتها وقواعدها والتحكم في مسارها، فجاءت هذه الأخطاء مبرّرا وأداة استخدمتها هذه الأجهزة وضخّمتها وتسرّبت من خلالها.

فالجبهة إذن لم تكن حزبا سياسيا إسلاميا أُسِّس ليكون ذراعا لجماعة دعوية، ولعله من أجل ذلك تحفّظت وتوجّست منه كل الجماعات والتيارات الإسلامية يومها ولم تعلن عن تأييدها ودعمها الرسمي للجبهة.

كانت الجبهة على مستوى قيادتها الوطنية ومكاتبها الولائية وحتى البلدية خليطا من كل الجماعات والتيارات والأطياف، فقد كان فيهم الإخوان المسلمون بشقيهم المحلي(8) والعالمي(9) وكان فيهم السلفيون الذين كان أكثرهم في العاصمة الجزائرية وضواحيها، والقطبيون(10)، ومن جماعة الدعوة والتبليغ على قلتهم، وكان فيهم عدد معتبر ممن ليس له انتماء تنظيمي بل كانوا متدينين وكثير منهم كانوا أعضاء في حزب جبهة التحرير الوطني قبل أحداث أكتوبر 88، وآخرون فرادى لا يعرف لهم انتماء.

ولعل الجماعة الوحيدة التي لم يشارك أحد منها في تأسيس الجبهة على مستوى القيادة هي جماعة البناء الحضاري(11) وإن كان الشيخ محمد السعيد حضر لقاء مسجد السنة الشهير الذي كان بمثابة إعلان غير رسمي عن تأسيس الجبهة ولكن حضوره كان من أجل تأخير الإعلان والتريث في التأسيس ورغبة في توسيع المشورة وإشراك رابطة الدعوة الإسلامية في الأمر(12) لقد كانت (السرعة) في تأسيس الجبهة - والتي يعتبرها كثير من رموز ودارسي الحركة الإسلامية عجلة وتسرّعا كانت له نتائج وخيمة لاحقا – و(عدم التجانس) بين المؤسسين للجبهة على المستويين الوطني والولائي – بسبب اختلاف محاضنهم التربوية ومشاربهم الفكرية وانتماءاتهم التنظيمية السابقة للجبهة – هما أهمّ وأخطر سببين أدّيا بعدُ إلى سلسلة من المواقف والخيارات تركت أثرها العميق والخطير على الجبهة وعلى الجزائر كلها.

إن الجبهة تأسست في ظروف وبيئة لم تعرف أي تجربة سياسية منظمة للحركة الإسلامية منذ الاستقلال، وكل ما كان قبل تأسيسها إنما هو مبادرات وعمل دعوي تربوي تمثّل في أرقى مظاهره في ندوات فكرية ومخيمات تربوية وتنظيمات دعوية كان أكثرها تنظيما فيما أعلم حركة الإخوان المسلمين تليها جماعة الشرق والبناء الحضاري. وبهذا فقد نسجت الجبهة على غير نموذج ولا تجربة سابقة، وهو أمر بقدر ما كان ذا أثر سلبي باعتباره يحرم الحزب الجديد من رصيد وتراكم التجارب والخبرات فإنه كان ذا أثر إيجابي؛ إذ حرّر قيادته ومناضليه من أسر التقليد واستنساخ التجارب ومكّنها من اقتحام مساحات جديدة بلا تهيّب ولا وجَل ولا توقّع خسارة ونكسات تكون قد تعرضت لمثلها تجارب سابقة.

لقد كان الانتشار السريع والتوسع الكاسح والاحتشاد الشعبي مع الجبهة انخراطا في صفوفها وتأييدا لها وحضورا في تجمعاتها ومسيراتها أمرا فاجأ حتى قيادة الجبهة، التي لم تكن تمتلك من الكوادر ولا الخطط ولا الموارد ما يمكّنها من تأطير كل هذه الحشود وترشيد حركتها ورفع وعيها والتحكم في ردود أفعالها، وقد فسّر ذلك عدد من كتبوا وتحدثوا عن هذا الأمر بخلوّ الساحة من أي مشروع سياسي إسلامي منافس(13)، وفسره آخرون بأنه كان نوعا من الرفض والغضب والعقاب والسخط على السلطة القائمة ومؤسسات الدولة المرتبطة بها، بينما فسره آخرون بأنه كان نتيجة خطاب الجبهة العاطفي الذي يستخدم مصطلحات الإيمان والكفر والإسلام والشريعة والجنة والنار مما ولّد تماهيا بين الإسلام والجبهة في عقول ومشاعر الجزائريين الذين احتشدوا خلف الجبهة بحيث أصبحت مناصرتها مرادفة لنصرة الدين نفسه، وآخرون أرجعوا سبب ذلك إلى الوعود التي كان يقدمها قادة الجبهة وخطباؤها بالرفاه والكرامة والحرية ومحاسبة الفاسدين ومعاقبة المجرمين وتحقيق العدل بعد إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة، وهما المصطلحان اللذان طرقا سمع الجزائريين لأول مرة بقوة وتركيز وكثافة، وبعضهم جعل السبب كاريزما الشيخين عباسي وعلي بن حاج وعددا من قيادات الجبهة في ولايات الوطن الأخرى.

قد تكون هذه العوامل مجتمعة هي السبب في هذا الانتشار والتوسع والاحتشاد الذي بلغ كل قرية نائية في الأرياف ودَشْرة(14) معزولة بين الجبال، وقد تكون هناك أسباب أخرى غيرها، وربما يكون من المجازفة تقديم أحدها على الآخر، وما يزال مجال البحث مفتوحا غير مطروق بطريقة علمية منهجية يقوم بها علماء السياسة والنفس والاجتماع بناء على الأرقام والإحصائيات والتقارير الموثوقة.

ويحسن في هذا السياق أن نذكر أن من مظاهر هذا الانتشار هو الحضور الكبير للعنصر النسوي والشباب -الطلابي خاصة- والنقابي في قواعد الجبهة الشعبية ممثلا في الرابطة الإسلامية للطلبة(15) التي اكتسحت الجامعات والنقابة الإسلامية للعمل(16)، وفي دور الجبهة في الحشد النسوي للمسيرة المليونية النسائية في العاصمة(17) التي دعت إليها رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الشيخ أحمد سحنون رحمه الله احتجاجا على محاولات تغيير قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية.

كانت مسيرات وتجمعات الجبهة أسبوعية في جميع شوارع وملاعب المدن الكبرى وعواصم الولايات وحتى البلديات أحيانا، وكانت الشعارات والهتافات التي ترفع مزعجة ومخيفة بل مرعبة لكثير من الأطراف والعصب في السلطة ومؤسسات الدولة وبعض الأحزاب ذات التوجّه اليساري خاصة. ولم تكن هذه الشعارات في الغالب الأعم مخططا لها ولا مدروسة الآثار النفسية والإعلامية والمآلات السياسية، بل كانت وليدة اللحظة ونتيجة الانفعالات والحماسة والإعجاب بالكثرة، وكان يكفي أن يرفع أحد الشباب عقيرته بشعار أو هتاف فإذا الجماهير تردده بحماسة واندفاع(18) ولأن قيادة الجبهة وجهازها الإعلامي كانا منشغلين ومستغرقين بالكلية في تجمعات ومسيرات لا تتوقف؛ فقد كان من شبه المستحيل أن يتمّ التفكير في هذا الأمر ومحاولة ضبطه وترشيده، وهو ما لم يحدث حتى وقع الانقلاب. ولأن أطرافا كثيرة في السلطة ومؤسسات الدولة وعلى رأسها قيادة الجيش وأجهزة الأمن كانت ترى نفسها معنية مباشرة بهذه الشعارات فقد زاد ذلك من خوفها وعدائها الموجود أصلا للجبهة ومشروعها والعزم على توقيفه وإفشاله بأي طريقة، ووجدت فيه أحد المبررات لسلوكها القمعي لاحقا.

ولم يكن الأمر مقتصرا على شعارات وهتافات الأنصار والجماهير، فحتى خطابات وكلمات القادة والخطباء في تجمعات ومسيرات الجبهة كانت تفتقد في كثير من الأحيان التحضير الجيد والتنسيق والهدوء والتحفظ الذي يقتضيه الحديث باسم حزب كبير مؤهل لأن يحكم بلدا مهما مترامي الأطراف مثل الجزائر يقع على مرمى حجر من أوروبا. وكان المتحدثون والخطباء كثيرا ما ينفعلون ويستجيبون لضغط الجماهير وهتافاتها وكانت هذه الصيحات المرتجلة والعفوية في التجمعات والمسيرات كثيرا ما تكون مادة دسمة في وسائل الإعلام للتحريض على الجبهة وتشويهها واتهامها بالعنف والتطرف والغلو وتأليب قطاعات واسعة من الشعب، حتى تنفضّ أو تخاف وتتوجّس من الجبهة، ولم يكن الأمر مقتصرا على الأعداء والخصوم بل كان عدد من القيادات والدعاة على المستوى الوطني والولائي غير راضين عن مثل هذه الخطابات وينتقدونها ويطالبون بالتخفيف من حدّتها والتحفظ في إطلاقها خاصّة وأن عددا منها كان يتناول تلميحا وتصريحا جماعات وجهات وشخصيات إسلامية أو وطنية كان يمكن جدّا تجنّب مهاجمتها وتحييدها عوضا عن دفعها إلى ردود أفعال ومواقف دفاعية، خاصة وعداؤها أو خصومتها للجبهة لم تكن مبدئية عقدية حتى وإن شابها نزق وتصريحات وتموقع كانت الجبهة تراه طعنة في ظهرها و استفزازا واصطفافا مع السلطة ومؤسساتها.

أحداث وقناعات ومواقف كثيرة كانت تتشكل أيضا في الأحياء الشعبية والولايات الداخلية والمناطق البعيدة عن المركز، ولم تكن قيادة الجبهة تجد من الوقت والموارد والوسائل أو تمتلك من التخطيط ما يمكّنها من متابعته ومراقبته وترشيده والتحكم فيه، بل حتى السماع به والانتباه إليه أحيانا، فقد كانت جماعات صغيرة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص أو أكثر تتجمّع بشكل عفوي مرتجل وبقناعات أحيانا أو دفع وتحريض جهات ما لتقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضييق على المتبرجات والسكارى وغيرها من المنكرات، ولم يكن هذا الأمر ظاهرة عامة منتشرة ولم تكن بتوجيه من الجبهة ولكنه كان يصدر عن منتسبين إلى الجبهة وتحسب تصرفاتهم عليها وكان الإعلام يطير بها كل مطار، ويصور للقراء أنها تحدث في كل مدينة وحيّ، ويرفقها بالإشاعات وصور الكاريكاتير ويرسّخ في الأذهان أن أعضاء الجبهة أعداء للحريات الشخصية ومتسلطون وعدوانيون.

ومن مظاهر التفلّت وعدم قدرة الجبهة على تأطير الجماهير والشباب منهم خاصة انتشار أزياء ومظاهر لم يألفها الشعب الجزائري وليست من أعرافه ولا تقاليده الاجتماعية، فقد انتشر الزيّ الأفغاني (البنجاب) والطاقية الأفغانية وإطالة الشعر واكتحال العيون والعمامة والعصابة السوداء والسترات التي كان يلبسها المجاهدون الأفغان. وكان الشباب الذين يلبسون هذا الزيّ يؤطّرون التجمعات والمسيرات في كثير من الأحيان وتلتقط صورهم كاميرات الإعلاميين الجزائريين والأجانب وتظهرها بشكل فاقع صادم، وبرغم أن هذا الأمر يبدو جزئيا وغير مهمّ؛ ولكن الذين عاشوا تلك الفترة بكل أحداثها وزخمها يدركون ويتذكرون جيدا أن تأثيرها في لا وعي الجماهير لم يكن هيّنا على الإطلاق، خاصة أن الزي الأفغاني كان مرتبطا بشكل وثيق بفكرة الجهاد والعمل المسلّح والتمرّد على النظام.

ظاهرة الزي الأفغاني تقودنا إلى موضوع آخر خطير، وهو أن نشاط الجبهة وفوزها الساحق في انتخابات المجالس البلدية والولائية وقوة حضورها الشعبي في الشارع من خلال المسيرات والتجمعات والإضراب السياسي الشهير، ترافقت مع بداية عودة (الأفغان الجزائريين) إلى الجزائر فرادى وجماعات. وهؤلاء لم يكونوا حين رجعوا على رأي وموقف واحد، وإنما كان منهم من انخرط في الجبهة تنظيميا، ومنهم من تعاطف معها وكان يحضر فعالياتها السياسية، ومنهم من كان متعاطفا بتحفظ وحذر، وآخرون كانوا يرفضون خيار المشاركة السياسية ويعتبرونه انحرافا ومزلقا عقديا، ويعلنون ذلك بصراحة ووضوح، وكان شريط أبي مصعب السوري بعنوان: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) الذي يتحدث فيه عن تجربة الجبهة بانتقاد وتهجّم رائجا يومئذ، ولكن أولئك مع ذلك كانوا يتوقعون – في يقين – صداما وشيكا بين السلطة والجبهة ويعدّون أنفسهم ويخططون لانتهاز فرصته وإعلان الجهاد، ولقد كانت هذه النيّات معلنة ولكن الجبهة على مستوى القيادة تعاملت مع الأمر بكثير من اللامبالاة والغموض، فلم ترفضها وتتبرّأ منها، ولم تتبنّها وتحتوِ أصحابها، وكانت الخطابات والخطب تتحدث عن الجهاد بشكل غامض يؤوّله كل طرف بما يناسبه، بينما لم يرافق هذه الخطابات تخطيط ولا استشراف ولا إعداد، وقد نجح الأفغان الجزائريون في إقناع عدد معتبر من الشباب المنتسب للجبهة بأطروحات الجهاد وترويج قناعاتهم وأدبيات الجهاد في جوّ من الحماسة والاستقطاب الشديد وفي ظروف كان الجهاد الأفغاني قد حقق فيها انتصارات كبيرة توّجت بانسحاب الاتحاد السوفييتي مهزوما مدحورا، وبعد الأثر النفسي العاطفي والشحنة الإيمانية التي خلّفها مقتل الشيخ عبد الله عزام رحمه الله. هذا مع الانتباه إلى أن المخابرات كانت قد اخترقت عددا من أنوية الجهاديين الأفغان في وقت مبكّر حتى قبل الانقلاب. وهنا أيضا كان الإعلام حاضرا بقوة لنقل وتضخيم الخطابات والمواقف الصغيرة والمنعزلة المتفرّقة واستغلالها بشكل مدروس وممنهج ومُغرِض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيتم اختصارا استخدام كلمة الجبهة.
(2) أُعلِن عن تأسيس الجبهة بتاريخ 18/02/1989 واعتُمدت قانونيا بتاريخ 06/09/1989.
(3) حول ما يتعلّق باختراق المخابرات للجبهة ثم لأنوية العمل الجهادي بعد ذلك يرجى مراجعة : محمد سمراوي، (الإسلاميون والعسكر، سنوات الدم في الجزائر)، ترجمة: عومرية سلطاني، دار تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى 2015. مع ملاحظة أن الكتاب فيه قدر من التضخيم لدور المخابرات ومبالغات ولكنه يبقى من أهمّ المراجع حول أساليب المخابرات في الاختراق والتوظيف والتحكّم في الحركات السياسية والجهادية.
(4) حُلّت الجبهة بقرار قضائي يوم: 04/03/1992 فكانت مدّة وجودها كلها عامين ونصفا.
(5) بدأ يوم 25/05/1991 وانتهى يوم 07/06/1991 وكان سببه الرئيس المطالبة بتغيير قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر الانتخابية الذي كانت الجبهة تعتبره مفصلا ليضمن فوز الحزب الحاكم.
(6) هو مؤتمر انعقد بتاريخ: 25 و26 يوليو1991 بولاية باتنة، من أجل إعادة هيكلة وتنظيم الحزب وترميم ما أصابه بعد الإضراب السياسي واعتقال الشيخين كان من نتائجه تجميد عضوية المشكوك فيهم في المكتب الوطني ومجلس الشورى وانتخاب المهندس عبد القادر حشاني رئيسا للجبهة.
(7) العشرية الحمراء: مصطلح يطلقه الجزائريون على الفترة الممتدة من نهايات عام 1991 إلى بدايات عام 2000 بسبب ما حدث فيه من قتل ومجازر وتنكيل واختطاف.
(8) ممثّلا في ما يسمّى في الجزائر بجماعة الشرق أو الإخوان المحلّيون، التي يرأسها الشيخ عبد الله جاب الله وهي حركة إسلامية تأسست أواسط عقد السبعينيات وتركّز نشاطها الأكبر في منطقة الشرق الجزائريّ.
(9) ممثّلا في جماعة الإخوان المسلمين التي كان يرأسها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.
(10) تيّار دعوي تربوي كان حضوره طاغيا في جامعات الغرب الجزائري بوهران وتيهرت خاصّة ولم يتّخذ شكلا تنظيميا هرميا مثل بقية الجماعات برغم وجود أسماء ورموز وقيادات تؤطره وتتولّى إدارته بأسلوب مرن لا يتقيّد بالهياكل التنظيمية الصلبة.
(11) أو جماعة مسجد الجامعة المركزية، والذين كانوا قريبين من فكر وأطروحات الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ومتأثرين بها وبأدبيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي أقدم الجماعة الإسلامية وجودا إذ تأسست في نهاية الستينيات وعلى الأرجح عام 1969، وترأسها بعد ذلك محمد بوجلخة ثم الشيخ محمد السعيد رحمه الله.
(12) رابطة الدعوة الإسلامية : تأسست بعد أحداث أكتوبر 1988، وترأسها الشيخ أحمد سحنون أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت تهدف إلى جمع شمل الدعاة والحركات الإسلامية تحت مظلّة واحدة وبعث الدعوة الإسلامية وتنظيمها والتنسيق بين مكوناتها وحماية مكتسباتها.
(13) لم يكن يومئذ قد تأسس أي حزب إسلامي، إذا كانت حركة الإخوان المسلمين بشقيها المحلي والعالمي ترفضان تأسيس أحزاب إسلامية ولم تبادرا إلى ذلك إلا بعد الفوز الكاسح الذي حقّقته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات المجالس البلدية والولائية.
(14) وتُجمع على مداشر، كلمة جزائرية تعني القرية الصغيرة أو تجمع عدد من السكان ممن تربطهم في الغالب علاقة نسب وانتماء إلى نفس القبيلة.
(15) تمّ تأسيسها في ربيع 1990، في أحد مساجد العاصمة، وكنتُ أحد المشاركين في لقاء التأسيس بإشراف الأستاذ غ-سيد أحمد.
(16) تأسست في صيف 1990 وفرضت نفسها بقوة في ظرف سنة واحدة حتى وإن كان قصر المدة لم يسمح لها بالانتشار في المؤسسات الاقتصادية الحساسة مثل سوناطراك وسونلغاز وقطاع المناجم.
(17) الخميس 23 جمادى الأولي 1410هـ الموافق لـ 21 ديسمبر 1989.
(18) مثل: الجهاد.. الجهاد / لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول / دولة إسلامية بلا انتخاب / خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سيعود / لا نقاش لا كلام.. حتى يسقط النظام / ستموت ستموت.. يا طاغوت يا طاغوت.
‏١٤‏/١١‏/٢٠١٧ ٦:٠٦ م‏
مالكولم إكس.. ضريبة الثورة @[100001229772628:2048:عبد الرحمن ضاحي] تعد فترة الخمسينيات والستينيات في الولايات المتحدة من الفترات التي شهدت نضال ومقاومة أشكال الاستبداد والعنصرية تجاه الأمريكان السود، وكان أبرز رموز تلك الحقبة الحاج مالك شباز الشهير بمالكولم إكس، ومارتن لوثر كينج، وكان الرمزان متقاربين في كثير من الخصائص، في اللون والكاريزما والعمر وحب الجماهير السود، حتى تشابها في نهاية حياة كل منهما، حيث اغتيل مالكولم إكس عام 1965 ، واغتيل كينج عام 1968. لكن على الرغم من تقاربهما الشديد في كل شيء إلا أنهم لم يتفقا في الوسائل، وطيلة حياتهما لم يلتقيا إلا مرة واحدة كانت لبضع دقائق، التقطا فيها الصورة الشهيرة التي تجمع بينهما، وكانت بعد تحول مالكولم للإسلام السني، فكان لكينج فلسفة في المقاومة تبتعد كثيراً عن فلسفة مالكولم، حيث كانت فلسفة كينج متأثرة بغاندي الهندي في مقاومة الاحتلال البريطاني، وكانت فكرة مقاومته المركزية مستندة على عدم العنف والسلمية؛ فكان يحرص في جميع خطبه على أربعة أمور: عدم العنف، التغيير الاجتماعي، المسؤولية الفردية والجماعية، وثمن الحرية، وكان يعتمد أحيانا على العصيان المدني. أما فلسفة مالكولم فكانت أكثر ثورية وحرارة، وكان في أول دعوته قبل انفصاله عن جماعة "أمة الإسلام" يدعو لاستقلال السود عن أمريكا، جراء العنصرية التي عانى منها الأمريكي الأسود على مر ثلاثة قرون، وكان يرى التغيير بالقوة وسيلة لا بد منها، ويرى أن (السلمية) ضرباً من ضروب الحمق، عدل تلك الفلسفة بعد تركه لجماعة أمة الإسلام واعتناقه الإسلام السني، فصار يدعو إلى التغيير السلمي ولكن إن وُجد أي عائق فيجب مقاومته والاشتباك معه ومنعه. مالكولم إكس: ولد عام 1925 لأب قس أمريكي من أصل أفريقي، وكان عضواً في جماعة قومية تدعو إلى عودة الأفارقة إلى أفريقيا، وتم قتله عن طريق دهسه تحت عجلات القطار من قبل جماعة (كوكلوكس كلان) [منظمة عنصرية، تأسست عام (1866م)، وتؤمن بتفوق العرق الأبيض ومعاداة الأمريكان الأفارقة] الإرهابية. ترك مالكولم المدرسة في سن الخامسة عشر، ليصبح ذا علاقة عميقة بعالَم الجريمة، حتى دخل دوائر المخدرات وغيرها، وألقي القبض عليه زعيماً لعصابة، ظل في السجن مدة قاربت سبع سنوات، وانضم لجماعة أمة الإسلام في السجن بعد مراسلاته مع إخوانه ودعوتهم إياه لاتباع إلايجا محمد زعيم جماعة أمة الإسلام، وفي السجن كون مالكولم إكس ثقافته؛ حيث خرج من السجن بعد انقضاء مدته وبدأ في الدعوة لجماعة أمة الإسلام، وبناء على أوامر من قبل إلايجا محمد قام ببناء فروع للجماعة في كافة أنحاء أمريكا، مما جعله شخصية عامة مهمة. ظل في جماعة أمة الإسلام ما يقارب اثني عشر عامًا، حتى نشب خلاف بينه وبين محمد إلايجا نتج عنه خروجه من جماعة أمة الإسلام وأسس منظمته الخاصة، وتحول بعد ذلك للإسلام السني بعد رحلة حجه إلى مكة وعدة بلدان عربية وأفريقية، إلى أن جاء يوم 12 فبراير 1965، واغتيل على مسرح في نيويورك وهو يخطب بين الجماهير، وأشارت أصابع الإتهام إلى إلايجا محمد وجماعته. تعد رحلة الحج التي قام بها مالكولم إكس بعد طرده من جماعة (أمة الإسلام) سبباً رئيساً في تحوله إلى الإسلام السني، وتغيير الأفكار العنصرية بأفضلية الرجل الأسود على الأبيض، التي كان ينشرها وفقاً لما تعلمه من إلايجا محمد، واعتدلت وجهة نضاله بترك العنصرية وفقاً لما لاقاه من أخوة وكرم الرجل الأبيض العربي في الحج فقال: "ذلك الصباح بدأت أعيد النظر في تقويمي لـ(الرجل الأبيض)، وأدرك أننا نستعمل عبارة (الرجل الأبيض) لا نقصد اللون وإنما نقصد المواقف والمعاملة.. عندما نقول (رجل أبيض) في أمريكا نعني مواقف خاصة ومعاملة خاصة للإنسان الأسود ولكل من ليس بأبيض، ولكنني في العالم الإسلامي وجدت رجالاً بيضاً أكثر تلقائية في إخائهم من أي شخص آخر)[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص328، للمؤلف (أيلكس هايلي)، ترجمة الدكتورة (ليلى أبو زيد)، دار بيسان للنشر، الطبعة الثالثة]. مارتن لوثر كينج: ولد مارتن لوثر كينج عام 1929 لأب قس أمريكي، عاش لوثر في عائلة من الطبقة الوسطى، استطاعت أن تؤمّن له حياة كريمة بالرغم من العنصرية السائدة وقتها، أكمل تعليمه الجامعي من كلية مورهاوس بولاية جورجيا حيث مكان نشأته، كان مهتماً بفن الخطابة، وتبوأ المراتب الأولى في مسابقات البلاغة السياسية، فاستكمل دراسته اللاهوتية وحصل على بكالوريوس في علم اللاهوت، وفي عام 1955 ناقش رسالته في الفلسفة بجامعة بوسطن ونال درجة الدكتوراه. حصل عام 1964 على جائزة نوبل للسلام لنضاله السلمي! فكان بذلك أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة، وفي 14 فبراير عام 1968، اغتيل مارتن لوثر على يد أحد المتعصبين البيض بينما كان يستعد لقيادة إحدى المسيرات. بعد قراءة لتاريخ نضال الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية ضد العنصرية ومقاومتها، تجد انتقاصاً متعمداً من وسائل الإعلام الأمريكية لمالكولم إكس لحساب مارتن لوثر كينج، وتصدير كينج كأنه كان يناضل بمفرده للحصول على حقوق السود داخل الولايات المتحدة، حتى أن كينج له إجازة في الولايات المتحدة باسمه خصيصاً! في حين أن شعبية مالكولم إكس هي الأكثر داخل أوساط الأمريكيين السود، وقد نشرت صحيفة (سان فرانسيسكو إكزامينر) في ملحق خاص عن مالكولم إكس بمناسبة ذكرى اغتياله، أن "مالكولم إكس حالياً يعد أكثر شعبية عند الجيل الجديد من الأفريقيين الأمريكيين من مارتن لوثر كينغ جونيور.. بكل تأكيد لا توجد قبعات تحمل اسم مارتن للبيع.. مالكولم إكس لا يزال يشكل أهمية كبيرة للأفريقيين الأمريكيين الفقراء القابعين أسفل المجتمع الأمريكي، لأن مالكولم إكس عاش الظروف نفسها وعبر عن المرارة والإحباط اللذين يعانون منهما حتى الآن، بينما عاش مارتن حياة مرفهة ولم يعان الفقر"[ترجمة حمد العيسى ، جريدة المساء المغربية ، بعنوان (الحكومة الأمريكية تسعى لتهميش مالكولم إكس وتسليط الضوء على مارتن لوثر كينج)]. حتى سيرة مالكولم إكس الذاتية التي كتبها الروائي الأسود الشهير إيليكس هيلي نقلا عن مالكوم إكس نفسه لم تتوقف طباعتها حتى اليوم منذ أول طبعة لها عام 1964والتي ترجمتها الدكتورة ليلى أبو زيد للعربية. فلماذا تعمد تهميش مالكولم إكس على حساب مارتن لوثر كينج بهذا الشكل؟ يلخص مالكولم إكس ذلك الأمر في آخر حياته بعد تحوله للإسلام السني، عندما كان يحضر مؤتمر الزعامة المسيحية الجنوبية في ألاباما، وكان بجواره عقيلة مارتن لوثر كينج، فمال إليها وهمس لها أنه يحاول أن يساعد، وأنه يريد أن يتقدم ببديل قد يسهل على البيض قبول عروض مارتن! [ مالكوم إكس – سيرة ذاتية) ص428] كان مالكولم إكس كبش الفداء لحركة مارتن لوثر التي تصدرت مشهد النضال لحقوق السود داخل الولايات المتحدة، حيث كان يشكل مالكولم إكس بأفكاره ووسائله البديل السيئ للحكومة الأمريكية، فلا تجد بُداً إلا الرضوخ لفلسفة كينج السلمية! فلسفة مالكولم إكس في المقاومة كانت تختلف عن فلسفة مارتن لوثر في عنصرين رئيسيين (الأفكار، الوسائل)، أفكار لوثر كانت تطالب باندماج البيض والسود في مجتمع واحد يسوده الحب والسلام، وكان يعتمد على المظاهرات والعصيان المدني والنضال السلمي، وتعتبر خطبته المسماة "لدي حلم" من أشهر الخطب التي ألقاها من حيث المحتوى والحضور الجماهيري؛ فهذه الخطبة الشهيرة ألقاها في 1963 وحضرها حشد جماهيري من المواطنين البيض والسود المناهضين للتمييز العنصري، والتي استمدها من وثيقة الاستقلال التي صاغها توماس غرافسن عام 1776، ومضمونها المساواة بين البشر (All men are created equal)، ومن أشهر ما قاله في تلك الخطبة والتي تعكس أفكاره: "لدي حلم جذوره في الحلم الأميركي، فالحقيقة ظاهرة للعيان بأن جميع الناس خلقوا سواسية"، "إن أبناء العبيد وأبناء مالكي العبيد في سهول جورجيا سيحلون جمعياً على طاولة الأخوة، لدي حلم بأن أبنائي الأربعة سيعيشون مستقبلاً في وطن لا يؤسس نظرته لهم على أساس من لون بشرتهم بل على شخوصهم. لدي حلم بأنه في ألاباما حيث العنصرية البغيضة ستتشابك أيدي البنات والأولاد السود مع أيدي البنات والأولاد البيض كأخوة وأخوات". فكانت كل أقوال وأفعال مارتن لوثر تستند إلى السلمية في مواجهة الفصل العنصري وتحقيق الإصلاح الاجتماعي، وكان من أقواله: "السلام الحقيقي ليس مجرد غياب التوتر، إنه إحقاق العدالة"، "إن ثمرة اللاعنف هي المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب"، "لا حاجة لأي فرد أو جماعة للخضوع للإساءة، ولا حاجة لأي فرد للجوء إلى العنف من أجل رفع الحيف"، "الكراهية تولد الكراهية، علينا مقابلة الكراهية بالمحبة"، "غايتنا ليست هزيمة الرجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهمه لحقوقنا". أما مالكولم إكس، فكان رافضاً لتلك الأفكار وكان دائماً ما يتهكم على أفكار مارتن لوثر؛ ففي مرة من المرات دعا مارتن الطلاب الأمريكان السود -صغار السن- لمسيرة ضد العنصرية والمطالبة بحقهم، مما نتج عنها اعتقالات وردّ وحشي من قبل الشرطة الأمريكية، علق على هذه الحادثة مالكولم اكس معترضاً على خروج تلك الفئة بقوله: "لا يجوز وضع الأطفال والنساء على طريق الأذى. كينج ليس بطلا، إنه رجل أحمق"!، وكان يرى أن طلب الاندماج هو تسول للحرية ونسيان لماضي الرجل الأبيض في سلب حرية أجيال متعاقبة من الأفارقة، وكان دائم التهكم على السود طالبي الاندماج، ويسميهم بزنوج البيت؛ حيث إنهم يضمنون بقاء مصالحهم ببقاء مصالح سيدهم. كان مالكولم يحلم بما هو أوسع مما يحلم به لوثر؛ حيث كان يطمح في تكوين دولة خاصة بالسود داخل الولايات المتحدة متأثراً بأفكار محمد إلايجا، ومن أقوال إلايجا التي كانت تعكس أفكار مالكولم في تلك الفترة: "إن الرجل الأبيض يوشك أن يقضي على كل سواد فينا، إلى حد أنه أصبح يشعر بالذنب ويحتقر نفسه من خلال احتقاره لنا.. لننفصل عنه إذاً بمقتضى حجته نفسها، حتى لا نفقد بالاندماج ما تبقى لنا من سواد. إنه يتشدق بطيبته وكرمه ويمول حتى أعداءه؛ فلماذا لا يعيننا على إقامة دولة منفصلة نحن الذين أسلفنا له عبودية وخدمة مقرونتين بالوفاء؟ لماذا لا يعطينا أرضاً تخرجنا من أحيائه الموبوءة وتغنينا عن برامجه الخيرية سيما وهو يشتكي من تكاليفها؟"[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص248]. ويكمل توضيح الفكرة مالكوم إكس نفسه فيقول : "كنت كلما تلفظت بكلمة انفصال وجدت أحدهم ينقض علي ليقول إننا نسير على نهج العنصريين والديماغوجيين البيض، فكنت أقول: إننا لا نسير على نهج أحد.. إننا نرفض الفصل ونناضل ضده ربما أكثر منك وأن ما نريده هو الانفصال لا الفصل، وإن هناك فرقاً بين اللفظتين، إن الفصل كما يقول السيد محمد إلايجا مفروض على محكوم من حاكم يتصرف في حياته وحريته وينظمها وإن الانفصال على العكس، اختيار إرادي يتم بالاتفاق بين طرفين متساويين لما فيه مصلحتهما"[المصدر السابق، ص293]. وبعد طرد مالكولم إكس من جماعة أمة الإسلام عدل عن التفكير في الانفصال بدولة للسود إلى الاقتناع بحل الاندماج؛ لكن بوسائل أخرى غير التي انتهجها مارتن لوثر، مع التفكير في تدويل القضية من خلال تدشين منظمة (الوحدة الأفروأمريكية /O.A.A.U) التي تنادي بإعادة البعث الإفريقي، بعد جولة إفريقية قابل فيها العديد من قياداتها، وقد عاد (مالكولم) بأفكار عن عالمية الصراع في سبيل الحرية ضد الإمبريالية الأمريكية، وقال (مالكولم) حينها: "إننا نعيش في حقبة ثورية، وانتفاضة الأمريكان الزنوج هي جزء من الثورة ضد الطغيان والاستعمارية التي تميّز هذه الحقبة، ومن الخطأ أن نصنّف انتفاضتنا على أنها صراع طائفي يخوضه السود ضد البيض، أو مشكلة أمريكية بالكلية؛ إننا نرى اليوم ثورة عالمية يقوم بها المظلومون ضد الظلمة، والمستغَلون ضد المستغِل". استخدم مارتن لوثر وسائل بخلاف مالكولم إكس، كانت تعمد على العصيان المدني والمظاهرات والتأكيد على السلمية وعدم الاشتباك مع عناصر الأمن أو البيض، بينما مالكولم إكس كان يرى غير ذلك، بأن الأمر إذا استدعى الاشتباك والمقاومة فيجب حينها الاشتباك حتى يدفع الضرر، ومن أشهر أقواله: "إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فاقطع له يده حتى لا يضرب بها غيرك"، وفي لقاء تلفزيوني سأل المذيع مالكولم إكس قائلاً: كانت هناك دعوات للسود لامتلاك بنادق وتشكيل نوادي لها منذ فترة، هل ما زلت تؤيد ذلك؟"، فجاوب مالكولم: "أعتقد إذا وجد البيض أنفسهم ضحية لتلك الوحشية التي يواجهها السود في هذه البلد، ورأوا أن الحكومة إما غير راغبة أو غير قادرة على حمايتهم أعتقد أن عقول البيض ستقودهم إلى الحصول على بعض البنادق لحماية أنفسهم، والسود الآن يعملون على تطوير ذلك النوع من النضج الفكري"، وللعلم أن مالكولم إكس وأتباعه لم يطلقوا رصاصة واحدة طوال طريق نضالهم ولكن الأمر مجرد تلميح بالقابلية للعنف. أصبحت الحكومة الأمريكية بين إقامة دولة منفصلة للسود وإنشاء رابطة للأفارقة على مستوى العالم، وبين طلب الاندماج والحصول على حقوق كالانتخاب وعدم الفصل في المرافق العامة! بلا شك ستختار البديل السهل لإنهاء القضية وعدم تفاقمها. شكلت المرجعية الفكرية الإسلامية لمالكولم إكس شكلاً جديداً للصراع، فبدلاً من أن يكون الصراع مجرد صراع عرقي بين البيض والسود، ستتوسع دائرة الصراع ليكون صراعاً (دينياً - عرقياً) بين رجل أسود مسلم ورجل أبيض مسيحي، وهذا ما سيدخل الصراع في شكل جديد أعقد بمراحل وأكبر من الصراع القديم، لا سيما وأن الإسلام انتشر بين السود على يد مالكولم إكس بصورة كبيرة. تقلبات مالكولم إكس الفكرية ساعدت مارتن لوثر كينج على ازدياد شعبيته بين الأمريكان السود، حيث كانت التحولات التي تعرض لها مالكولم إكس في حياته قبل وبعد انضمامه إلى تنظيم أمة الإسلام عنصراً سلبياً في التأثير على شعبيته، بينما مارتن لوثر لم يتغير كثيراً في أفكاره ووسائله. يقول إليكس هايلي الروائي الذي كتب السيرة الذاتية لمالكولم إكس: "إن في آخر حياة مالكولم وخاصة مع تقلباته الفكرية كان يقال من رجل الشارع الأسود: إنه لم يعد يعرف ما يؤمن به فهو لا يكاد يقول شيئاً حتى ينتقل إلى غيره"[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص420]. إن فضل مالكولم إكس على قضية الأمريكان السود لا يقل عن فضل مارتن لوثر، بل إن مارتن لوثر كينج ما كان لينال نوبل أو يحظى بتلك المكانة إلا بوجود مثل مالكولم إكس في المسار الموازي له، وأختم بجزء صغير من مقالة في نيويورك تايمز نقلها أليكس هايلي في كتاب السيرة الذاتية لمالكولم إكس تقول: "إن الدكتور لوثر كينج يضمن ولاء الطبقة الزنجية المتوسطة، وإن ولاء الطبقة الزنجية الدنيا لا يضمنه إلا مالكولم إكس، وإن الزنوج يحترمون هذين الرجلين لأنهم يثقون في نزاهتهما ويعرفون أنهما لن يخوناهم أبداً".[السابق، ص418]
مالكولم إكس.. ضريبة الثورة

عبد الرحمن ضاحي

تعد فترة الخمسينيات والستينيات في الولايات المتحدة من الفترات التي شهدت نضال ومقاومة أشكال الاستبداد والعنصرية تجاه الأمريكان السود، وكان أبرز رموز تلك الحقبة الحاج مالك شباز الشهير بمالكولم إكس، ومارتن لوثر كينج، وكان الرمزان متقاربين في كثير من الخصائص، في اللون والكاريزما والعمر وحب الجماهير السود، حتى تشابها في نهاية حياة كل منهما، حيث اغتيل مالكولم إكس عام 1965 ، واغتيل كينج عام 1968.

لكن على الرغم من تقاربهما الشديد في كل شيء إلا أنهم لم يتفقا في الوسائل، وطيلة حياتهما لم يلتقيا إلا مرة واحدة كانت لبضع دقائق، التقطا فيها الصورة الشهيرة التي تجمع بينهما، وكانت بعد تحول مالكولم للإسلام السني، فكان لكينج فلسفة في المقاومة تبتعد كثيراً عن فلسفة مالكولم، حيث كانت فلسفة كينج متأثرة بغاندي الهندي في مقاومة الاحتلال البريطاني، وكانت فكرة مقاومته المركزية مستندة على عدم العنف والسلمية؛ فكان يحرص في جميع خطبه على أربعة أمور: عدم العنف، التغيير الاجتماعي، المسؤولية الفردية والجماعية، وثمن الحرية، وكان يعتمد أحيانا على العصيان المدني.

أما فلسفة مالكولم فكانت أكثر ثورية وحرارة، وكان في أول دعوته قبل انفصاله عن جماعة "أمة الإسلام" يدعو لاستقلال السود عن أمريكا، جراء العنصرية التي عانى منها الأمريكي الأسود على مر ثلاثة قرون، وكان يرى التغيير بالقوة وسيلة لا بد منها، ويرى أن (السلمية) ضرباً من ضروب الحمق، عدل تلك الفلسفة بعد تركه لجماعة أمة الإسلام واعتناقه الإسلام السني، فصار يدعو إلى التغيير السلمي ولكن إن وُجد أي عائق فيجب مقاومته والاشتباك معه ومنعه.

مالكولم إكس:
ولد عام 1925 لأب قس أمريكي من أصل أفريقي، وكان عضواً في جماعة قومية تدعو إلى عودة الأفارقة إلى أفريقيا، وتم قتله عن طريق دهسه تحت عجلات القطار من قبل جماعة (كوكلوكس كلان) [منظمة عنصرية، تأسست عام (1866م)، وتؤمن بتفوق العرق الأبيض ومعاداة الأمريكان الأفارقة] الإرهابية.

ترك مالكولم المدرسة في سن الخامسة عشر، ليصبح ذا علاقة عميقة بعالَم الجريمة، حتى دخل دوائر المخدرات وغيرها، وألقي القبض عليه زعيماً لعصابة، ظل في السجن مدة قاربت سبع سنوات، وانضم لجماعة أمة الإسلام في السجن بعد مراسلاته مع إخوانه ودعوتهم إياه لاتباع إلايجا محمد زعيم جماعة أمة الإسلام، وفي السجن كون مالكولم إكس ثقافته؛ حيث خرج من السجن بعد انقضاء مدته وبدأ في الدعوة لجماعة أمة الإسلام، وبناء على أوامر من قبل إلايجا محمد قام ببناء فروع للجماعة في كافة أنحاء أمريكا، مما جعله شخصية عامة مهمة.

ظل في جماعة أمة الإسلام ما يقارب اثني عشر عامًا، حتى نشب خلاف بينه وبين محمد إلايجا نتج عنه خروجه من جماعة أمة الإسلام وأسس منظمته الخاصة، وتحول بعد ذلك للإسلام السني بعد رحلة حجه إلى مكة وعدة بلدان عربية وأفريقية، إلى أن جاء يوم 12 فبراير 1965، واغتيل على مسرح في نيويورك وهو يخطب بين الجماهير، وأشارت أصابع الإتهام إلى إلايجا محمد وجماعته.
تعد رحلة الحج التي قام بها مالكولم إكس بعد طرده من جماعة (أمة الإسلام) سبباً رئيساً في تحوله إلى الإسلام السني، وتغيير الأفكار العنصرية بأفضلية الرجل الأسود على الأبيض، التي كان ينشرها وفقاً لما تعلمه من إلايجا محمد، واعتدلت وجهة نضاله بترك العنصرية وفقاً لما لاقاه من أخوة وكرم الرجل الأبيض العربي في الحج فقال: "ذلك الصباح بدأت أعيد النظر في تقويمي لـ(الرجل الأبيض)، وأدرك أننا نستعمل عبارة (الرجل الأبيض) لا نقصد اللون وإنما نقصد المواقف والمعاملة.. عندما نقول (رجل أبيض) في أمريكا نعني مواقف خاصة ومعاملة خاصة للإنسان الأسود ولكل من ليس بأبيض، ولكنني في العالم الإسلامي وجدت رجالاً بيضاً أكثر تلقائية في إخائهم من أي شخص آخر)[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص328، للمؤلف (أيلكس هايلي)، ترجمة الدكتورة (ليلى أبو زيد)، دار بيسان للنشر، الطبعة الثالثة].

مارتن لوثر كينج:
ولد مارتن لوثر كينج عام 1929 لأب قس أمريكي، عاش لوثر في عائلة من الطبقة الوسطى، استطاعت أن تؤمّن له حياة كريمة بالرغم من العنصرية السائدة وقتها، أكمل تعليمه الجامعي من كلية مورهاوس بولاية جورجيا حيث مكان نشأته، كان مهتماً بفن الخطابة، وتبوأ المراتب الأولى في مسابقات البلاغة السياسية، فاستكمل دراسته اللاهوتية وحصل على بكالوريوس في علم اللاهوت، وفي عام 1955 ناقش رسالته في الفلسفة بجامعة بوسطن ونال درجة الدكتوراه.

حصل عام 1964 على جائزة نوبل للسلام لنضاله السلمي! فكان بذلك أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة، وفي 14 فبراير عام 1968، اغتيل مارتن لوثر على يد أحد المتعصبين البيض بينما كان يستعد لقيادة إحدى المسيرات.

بعد قراءة لتاريخ نضال الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية ضد العنصرية ومقاومتها، تجد انتقاصاً متعمداً من وسائل الإعلام الأمريكية لمالكولم إكس لحساب مارتن لوثر كينج، وتصدير كينج كأنه كان يناضل بمفرده للحصول على حقوق السود داخل الولايات المتحدة، حتى أن كينج له إجازة في الولايات المتحدة باسمه خصيصاً! في حين أن شعبية مالكولم إكس هي الأكثر داخل أوساط الأمريكيين السود، وقد نشرت صحيفة (سان فرانسيسكو إكزامينر) في ملحق خاص عن مالكولم إكس بمناسبة ذكرى اغتياله، أن "مالكولم إكس حالياً يعد أكثر شعبية عند الجيل الجديد من الأفريقيين الأمريكيين من مارتن لوثر كينغ جونيور.. بكل تأكيد لا توجد قبعات تحمل اسم مارتن للبيع.. مالكولم إكس لا يزال يشكل أهمية كبيرة للأفريقيين الأمريكيين الفقراء القابعين أسفل المجتمع الأمريكي، لأن مالكولم إكس عاش الظروف نفسها وعبر عن المرارة والإحباط اللذين يعانون منهما حتى الآن، بينما عاش مارتن حياة مرفهة ولم يعان الفقر"[ترجمة حمد العيسى ، جريدة المساء المغربية ، بعنوان (الحكومة الأمريكية تسعى لتهميش مالكولم إكس وتسليط الضوء على مارتن لوثر كينج)].

حتى سيرة مالكولم إكس الذاتية التي كتبها الروائي الأسود الشهير إيليكس هيلي نقلا عن مالكوم إكس نفسه لم تتوقف طباعتها حتى اليوم منذ أول طبعة لها عام 1964والتي ترجمتها الدكتورة ليلى أبو زيد للعربية.

فلماذا تعمد تهميش مالكولم إكس على حساب مارتن لوثر كينج بهذا الشكل؟
يلخص مالكولم إكس ذلك الأمر في آخر حياته بعد تحوله للإسلام السني، عندما كان يحضر مؤتمر الزعامة المسيحية الجنوبية في ألاباما، وكان بجواره عقيلة مارتن لوثر كينج، فمال إليها وهمس لها أنه يحاول أن يساعد، وأنه يريد أن يتقدم ببديل قد يسهل على البيض قبول عروض مارتن! [ مالكوم إكس – سيرة ذاتية) ص428]

كان مالكولم إكس كبش الفداء لحركة مارتن لوثر التي تصدرت مشهد النضال لحقوق السود داخل الولايات المتحدة، حيث كان يشكل مالكولم إكس بأفكاره ووسائله البديل السيئ للحكومة الأمريكية، فلا تجد بُداً إلا الرضوخ لفلسفة كينج السلمية!

فلسفة مالكولم إكس في المقاومة كانت تختلف عن فلسفة مارتن لوثر في عنصرين رئيسيين (الأفكار، الوسائل)، أفكار لوثر كانت تطالب باندماج البيض والسود في مجتمع واحد يسوده الحب والسلام، وكان يعتمد على المظاهرات والعصيان المدني والنضال السلمي، وتعتبر خطبته المسماة "لدي حلم" من أشهر الخطب التي ألقاها من حيث المحتوى والحضور الجماهيري؛ فهذه الخطبة الشهيرة ألقاها في 1963 وحضرها حشد جماهيري من المواطنين البيض والسود المناهضين للتمييز العنصري، والتي استمدها من وثيقة الاستقلال التي صاغها توماس غرافسن عام 1776، ومضمونها المساواة بين البشر (All men are created equal)، ومن أشهر ما قاله في تلك الخطبة والتي تعكس أفكاره: "لدي حلم جذوره في الحلم الأميركي، فالحقيقة ظاهرة للعيان بأن جميع الناس خلقوا سواسية"، "إن أبناء العبيد وأبناء مالكي العبيد في سهول جورجيا سيحلون جمعياً على طاولة الأخوة، لدي حلم بأن أبنائي الأربعة سيعيشون مستقبلاً في وطن لا يؤسس نظرته لهم على أساس من لون بشرتهم بل على شخوصهم. لدي حلم بأنه في ألاباما حيث العنصرية البغيضة ستتشابك أيدي البنات والأولاد السود مع أيدي البنات والأولاد البيض كأخوة وأخوات".

فكانت كل أقوال وأفعال مارتن لوثر تستند إلى السلمية في مواجهة الفصل العنصري وتحقيق الإصلاح الاجتماعي، وكان من أقواله: "السلام الحقيقي ليس مجرد غياب التوتر، إنه إحقاق العدالة"، "إن ثمرة اللاعنف هي المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب"، "لا حاجة لأي فرد أو جماعة للخضوع للإساءة، ولا حاجة لأي فرد للجوء إلى العنف من أجل رفع الحيف"، "الكراهية تولد الكراهية، علينا مقابلة الكراهية بالمحبة"، "غايتنا ليست هزيمة الرجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهمه لحقوقنا".

أما مالكولم إكس، فكان رافضاً لتلك الأفكار وكان دائماً ما يتهكم على أفكار مارتن لوثر؛ ففي مرة من المرات دعا مارتن الطلاب الأمريكان السود -صغار السن- لمسيرة ضد العنصرية والمطالبة بحقهم، مما نتج عنها اعتقالات وردّ وحشي من قبل الشرطة الأمريكية، علق على هذه الحادثة مالكولم اكس معترضاً على خروج تلك الفئة بقوله: "لا يجوز وضع الأطفال والنساء على طريق الأذى. كينج ليس بطلا، إنه رجل أحمق"!، وكان يرى أن طلب الاندماج هو تسول للحرية ونسيان لماضي الرجل الأبيض في سلب حرية أجيال متعاقبة من الأفارقة، وكان دائم التهكم على السود طالبي الاندماج، ويسميهم بزنوج البيت؛ حيث إنهم يضمنون بقاء مصالحهم ببقاء مصالح سيدهم.

كان مالكولم يحلم بما هو أوسع مما يحلم به لوثر؛ حيث كان يطمح في تكوين دولة خاصة بالسود داخل الولايات المتحدة متأثراً بأفكار محمد إلايجا، ومن أقوال إلايجا التي كانت تعكس أفكار مالكولم في تلك الفترة: "إن الرجل الأبيض يوشك أن يقضي على كل سواد فينا، إلى حد أنه أصبح يشعر بالذنب ويحتقر نفسه من خلال احتقاره لنا.. لننفصل عنه إذاً بمقتضى حجته نفسها، حتى لا نفقد بالاندماج ما تبقى لنا من سواد. إنه يتشدق بطيبته وكرمه ويمول حتى أعداءه؛ فلماذا لا يعيننا على إقامة دولة منفصلة نحن الذين أسلفنا له عبودية وخدمة مقرونتين بالوفاء؟ لماذا لا يعطينا أرضاً تخرجنا من أحيائه الموبوءة وتغنينا عن برامجه الخيرية سيما وهو يشتكي من تكاليفها؟"[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص248].

ويكمل توضيح الفكرة مالكوم إكس نفسه فيقول : "كنت كلما تلفظت بكلمة انفصال وجدت أحدهم ينقض علي ليقول إننا نسير على نهج العنصريين والديماغوجيين البيض، فكنت أقول: إننا لا نسير على نهج أحد.. إننا نرفض الفصل ونناضل ضده ربما أكثر منك وأن ما نريده هو الانفصال لا الفصل، وإن هناك فرقاً بين اللفظتين، إن الفصل كما يقول السيد محمد إلايجا مفروض على محكوم من حاكم يتصرف في حياته وحريته وينظمها وإن الانفصال على العكس، اختيار إرادي يتم بالاتفاق بين طرفين متساويين لما فيه مصلحتهما"[المصدر السابق، ص293].

وبعد طرد مالكولم إكس من جماعة أمة الإسلام عدل عن التفكير في الانفصال بدولة للسود إلى الاقتناع بحل الاندماج؛ لكن بوسائل أخرى غير التي انتهجها مارتن لوثر، مع التفكير في تدويل القضية من خلال تدشين منظمة (الوحدة الأفروأمريكية /O.A.A.U) التي تنادي بإعادة البعث الإفريقي، بعد جولة إفريقية قابل فيها العديد من قياداتها، وقد عاد (مالكولم) بأفكار عن عالمية الصراع في سبيل الحرية ضد الإمبريالية الأمريكية، وقال (مالكولم) حينها: "إننا نعيش في حقبة ثورية، وانتفاضة الأمريكان الزنوج هي جزء من الثورة ضد الطغيان والاستعمارية التي تميّز هذه الحقبة، ومن الخطأ أن نصنّف انتفاضتنا على أنها صراع طائفي يخوضه السود ضد البيض، أو مشكلة أمريكية بالكلية؛ إننا نرى اليوم ثورة عالمية يقوم بها المظلومون ضد الظلمة، والمستغَلون ضد المستغِل".

استخدم مارتن لوثر وسائل بخلاف مالكولم إكس، كانت تعمد على العصيان المدني والمظاهرات والتأكيد على السلمية وعدم الاشتباك مع عناصر الأمن أو البيض، بينما مالكولم إكس كان يرى غير ذلك، بأن الأمر إذا استدعى الاشتباك والمقاومة فيجب حينها الاشتباك حتى يدفع الضرر، ومن أشهر أقواله: "إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فاقطع له يده حتى لا يضرب بها غيرك"، وفي لقاء تلفزيوني سأل المذيع مالكولم إكس قائلاً: كانت هناك دعوات للسود لامتلاك بنادق وتشكيل نوادي لها منذ فترة، هل ما زلت تؤيد ذلك؟"، فجاوب مالكولم: "أعتقد إذا وجد البيض أنفسهم ضحية لتلك الوحشية التي يواجهها السود في هذه البلد، ورأوا أن الحكومة إما غير راغبة أو غير قادرة على حمايتهم أعتقد أن عقول البيض ستقودهم إلى الحصول على بعض البنادق لحماية أنفسهم، والسود الآن يعملون على تطوير ذلك النوع من النضج الفكري"، وللعلم أن مالكولم إكس وأتباعه لم يطلقوا رصاصة واحدة طوال طريق نضالهم ولكن الأمر مجرد تلميح بالقابلية للعنف.

أصبحت الحكومة الأمريكية بين إقامة دولة منفصلة للسود وإنشاء رابطة للأفارقة على مستوى العالم، وبين طلب الاندماج والحصول على حقوق كالانتخاب وعدم الفصل في المرافق العامة! بلا شك ستختار البديل السهل لإنهاء القضية وعدم تفاقمها.

شكلت المرجعية الفكرية الإسلامية لمالكولم إكس شكلاً جديداً للصراع، فبدلاً من أن يكون الصراع مجرد صراع عرقي بين البيض والسود، ستتوسع دائرة الصراع ليكون صراعاً (دينياً - عرقياً) بين رجل أسود مسلم ورجل أبيض مسيحي، وهذا ما سيدخل الصراع في شكل جديد أعقد بمراحل وأكبر من الصراع القديم، لا سيما وأن الإسلام انتشر بين السود على يد مالكولم إكس بصورة كبيرة.

تقلبات مالكولم إكس الفكرية ساعدت مارتن لوثر كينج على ازدياد شعبيته بين الأمريكان السود، حيث كانت التحولات التي تعرض لها مالكولم إكس في حياته قبل وبعد انضمامه إلى تنظيم أمة الإسلام عنصراً سلبياً في التأثير على شعبيته، بينما مارتن لوثر لم يتغير كثيراً في أفكاره ووسائله. يقول إليكس هايلي الروائي الذي كتب السيرة الذاتية لمالكولم إكس: "إن في آخر حياة مالكولم وخاصة مع تقلباته الفكرية كان يقال من رجل الشارع الأسود: إنه لم يعد يعرف ما يؤمن به فهو لا يكاد يقول شيئاً حتى ينتقل إلى غيره"[ مالكوم إكس – سيرة ذاتية، ص420].

إن فضل مالكولم إكس على قضية الأمريكان السود لا يقل عن فضل مارتن لوثر، بل إن مارتن لوثر كينج ما كان لينال نوبل أو يحظى بتلك المكانة إلا بوجود مثل مالكولم إكس في المسار الموازي له، وأختم بجزء صغير من مقالة في نيويورك تايمز نقلها أليكس هايلي في كتاب السيرة الذاتية لمالكولم إكس تقول: "إن الدكتور لوثر كينج يضمن ولاء الطبقة الزنجية المتوسطة، وإن ولاء الطبقة الزنجية الدنيا لا يضمنه إلا مالكولم إكس، وإن الزنوج يحترمون هذين الرجلين لأنهم يثقون في نزاهتهما ويعرفون أنهما لن يخوناهم أبداً".[السابق، ص418]
‏٠٩‏/١١‏/٢٠١٧ ٥:٤٢ م‏
المغامرة الخطيرة محمد إلهامي كنت قبل أيام في مؤتمر منعقد باسطنبول، وقابلت طالب علم من إخواننا في تركستان الشرقية، سألته عن الطلبة التركستان الذين قبضت عليهم السلطات المصرية ورحلتهم إلى الصين، فأخبرني أن جميع أولئك قد حُكِم عليهم بالسجن عشرين سنة، وأن واحدًا منهم قُتِل تحت التعذيب، وسُلِّمت جثته لأهله. ثم شرع في الحديث عن أحوال المسلمين في التركستان، وهي مريرة مؤسفة، ويكفي أن يُعلم منها أن الصين ترى مجرد التعلم باللغة العربية دليلا على الإرهاب، وتهدم المساجد في القرى وتطارد سائر مظاهر الإسلام. هذا الحادث دليل واحد، وهامشي، وبعيد من أدلة أن الانقلاب العسكري في مصر هو انقلاب على الإسلام، ففي أي تصور آخر –حتى بالمنظور الوطني العلماني- يعد تسليم طلبة الأزهر ضربا في مكانة مصر ونفوذها وقوتها الناعمة العريقة (الأزهر)، وهو ما لا تفسير له إلا أن تلك السلطة هي سلطة ضد الدين وضد البلد، هي على الحقيقة سلطة عميلة تخدم المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة. *** يضع كل محب لفلسطين وللمقاومة ولحماس يده على قلبه خوفا إزاء موضوع المصالحة الأخير، ذلك أنها مغامرة سياسية في غاية الخطورة، ونحن أمة حافلة بالتجارب التي تُثْبِت بسالتنا وبأسنا وشدتنا لكنها كثيرا ما تضيع في ساحة السياسة. يعلم الجميع أن الفارق بين حماس وسلطة فتح هو نفسه الفارق بين الجهاد والعمالة، فمتى تصالح الجهاد مع الخيانة؟! ويمكن سوق الكثير من الأسباب التي نتفهم بها ما تفعله حماس، التي حملت عبئا مضاعفا في إدارة قطاع غزة لأحد عشر سنوات تحت حصار شيطاني، وفي ظل أربعة حروب إعجازية مع ميزان القوى المنهار بينها وبين إسرائيل المدعومة بالأنظمة العربية المجرمة والعميلة. مما جعل غزة تصنع بنية تحتية متينة للمقاومة الباسلة. ويعرف الجميع بمن فيهم حماس أن الهدف هو سلاحها وكوادرها، بل والكوادر أهم من السلاح.. وقد عانت إسرائيل في ظل تلك السنوات من سد منافذ العمالة التي مكنتها من إيقاع ضربات مؤلمة للمقاومة، وفاجأتها المقاومة بما لم تكن تحتسب.. فالآن لا هدف لها –ولعملائها في سلطة فتح، والنظام العسكري المصري- إلا الحصول من جديد على المعلومات وتجديد شبكة العملاء. لنكن صرحاء.. إنه مهما بلغ نظام حماس الأمني فلا نظام بلا ثغرات، ولا يعرف التاريخ حركة لم يحدث فيها اختراق، وفتح غزة أمام سلطة فتح سيمثل عبئا ضخما إضافيا على نظام حماس الأمني لحماية نفسه، وهو عبء لا يمكن ضمان نجاعته في نهاية المطاف، لأن إسرائيل وفتح ومصر ستدفع إلى غزة بنخبتها الأمنية لتحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن. وقبل دقائق من بداية كتابة هذه السطور جاء الخبر بمحاولة فاشلة لاغتيال توفيق أبو حصين مدير الأمن الداخلي في قطاع غزة بتفخيخ سيارته. وقبلها بيوم واحد نشرت كتائب القسام خبرا عن وفاة القائد القسامي محمد أبو جزر في حادث سير! ولم تُنْشَر أي تفاصيل مما يجعله مفتوحا على كل التفسيرات. أي أن "ثمرات" المصالحة ظهرت قبل وقوع المصالحة نفسها. كما أن تصريحات يحيى السنوار منذ بدأ ملف المصالحة تزيد في المخاوف، ليس أولها تهديده بكسر من يعترض على المصالحة من أبناء حماس ولن يكون آخرها تصريحه المحتمل للتأويلات حول سلاح حماس ووضعه تحت إشراف مظلة جامعة، ومن جهة أخرى فازدياد تسرب أخبار عن تحول بعض العناصر القسامية إلى تنظيم ولاية سيناء (داعش) يؤشر على أزمة مكتومة تجري في الدهاليز بين عناصر حماس العسكرية وبين القرار السياسي. على الجانب الآخر فتصريحات عباس صريحة في استهداف سلاح المقاومة، وهي التصريحات التي انزعج لها مدير المخابرات المصرية وطلب التوقف عنها مؤقتا، فأجيب إلى طلبه، ثم السكوت الإسرائيلي عن عرقلة المصالحة حتى وُقِّع إعلانها في القاهرة، ثم التصريح الفج للمجلس الوزاري المصغر. والأهم من هذا كله أن المشهد على الأرض لم يشهد تغيرا بل صدق عباس لما قال أنه لن يرفع إجراءاته العقابية عن حماس إلا حين يتمكن منها فعليا. هي إذن مغامرة كبيرة وتحتاج يقظة وانتباها وذكاءا بالغا في إدارتها، نسأل الله أن يوفقهم فيها ويعينهم عليها. ثم يبقى السؤال الكبير قائما: إن المصالحة إما ستفشل على الأرض، أو أنها ستصل إلى النقطة الحرجة: نقطة سلاح المقاومة. وقبل ذلك ستكون بعض الأحداث قد أسفرت عن مدى النجاح في الانكشاف الأمني لكوادر القسام. وفي كل الأحوال ما الذي تملكه حماس في حال فشل المصالحة وبقاء الوضع في غزة على ما هو عليه؟! لا يكاد يُرى في الأفق إلا ثلاثة مسارات كبيرة: 1.الاستسلام والتخلي عن مشروع المقاومة، تحت إكراه الواقع العصيب، ثم التحول إلى نسخة جديدة من فتح 2.الانفجار بوجه إسرائيل، وهي الحرب التي قد تكون انتحارية في حال وقعت بعدما حصل قدر من الانكشاف الأمني لقطاع غزة عبر زمن محاولة إنجاح المصالحة. 3.الانفجار بوجه مصر، لمحاولة تصدير أزمة غزة إلى الجوار، لإجبار الأطراف المعنية لإعادة إحياء المصالحة وإيصال رسالة أن أزمة غزة لن تدفع غزة وحدها ثمنها. نعم.. ربما جاء الوقت بأحداث تغير من المشهد، فتكون فائدة المصالحة أنها كسبت الوقت وأجلت الأزمة، إلا أنه لا ينبغي في أي حال الاعتماد على ما قد يأتي به الزمن. *** لا يزال ابن سلمان ماضيا في جر السعودية إلى العلمانية والتطبيع مع اليهود.. كان نظام السعودية يمارس العلمانية والتطبيع بعيدا عن الشعب، فالنظام علماني، مشارك في كل ما يقتل المسلمين ويخمد ثوراتهم ويعيد تركيعهم للمستبدين.. وتلك سياسة السعودية على الأقل من بعد وفاة الملك فيصل، وإن كان كثير من الباحثين يمتد بها إلى سياسة الدولة السعودية الثالثة كلها. الجديد هنا أن النظام السعودي خلع البرقع، ومضت وسائل إعلامه في هدم الدين وتسويق التطبيع مع إسرائيل صراحة.. وهو الثمن الذي يدفعه بن سلمان للأمريكان والإسرائيليين لتمكينه من عرش المملكة، أي أن الزلزال الذي تتعرض له السعودية له يشمل الأسرة المالكة كما يشمل عموم الجماهير، وهو ما يجعل البلاد على صفيح ساخن لا يُدْرَي من سينفجر أولا: الأسرة الحاكمة أم المجتمع، ولا من سيتلوه في الانفجار وكيف تتفاعل الأمور ويسند بعضها بعضا. الواقع أنه ليس أصعب على المسلمين من تهدد بلاد الحرمين لمكانتهما في النفوس، والواقع أيضا أنه ربما لم يُجرم نظام في القرن الأخير بحق المسلمين كما أجرم نظام آل سعود، وبقدر ما يضع المرء كل مخاوفه على أمن الحرمين وأهل الحرمين، بقدر ما يبدو أن أي اختلال يصيب نظام آل سعود سيكون تنفيسا عن المسلمين في أماكن كثيرة. قضى الله أن يهلك المجرمين بكيد من عند أنفسهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) ــــــــــــــــــــــ لتحميل العدد الرابع من مجلة كلمة حق كاملا: https://goo.gl/okhK5f
المغامرة الخطيرة
محمد إلهامي

كنت قبل أيام في مؤتمر منعقد باسطنبول، وقابلت طالب علم من إخواننا في تركستان الشرقية، سألته عن الطلبة التركستان الذين قبضت عليهم السلطات المصرية ورحلتهم إلى الصين، فأخبرني أن جميع أولئك قد حُكِم عليهم بالسجن عشرين سنة، وأن واحدًا منهم قُتِل تحت التعذيب، وسُلِّمت جثته لأهله. ثم شرع في الحديث عن أحوال المسلمين في التركستان، وهي مريرة مؤسفة، ويكفي أن يُعلم منها أن الصين ترى مجرد التعلم باللغة العربية دليلا على الإرهاب، وتهدم المساجد في القرى وتطارد سائر مظاهر الإسلام.

هذا الحادث دليل واحد، وهامشي، وبعيد من أدلة أن الانقلاب العسكري في مصر هو انقلاب على الإسلام، ففي أي تصور آخر –حتى بالمنظور الوطني العلماني- يعد تسليم طلبة الأزهر ضربا في مكانة مصر ونفوذها وقوتها الناعمة العريقة (الأزهر)، وهو ما لا تفسير له إلا أن تلك السلطة هي سلطة ضد الدين وضد البلد، هي على الحقيقة سلطة عميلة تخدم المصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.

***
يضع كل محب لفلسطين وللمقاومة ولحماس يده على قلبه خوفا إزاء موضوع المصالحة الأخير، ذلك أنها مغامرة سياسية في غاية الخطورة، ونحن أمة حافلة بالتجارب التي تُثْبِت بسالتنا وبأسنا وشدتنا لكنها كثيرا ما تضيع في ساحة السياسة.
يعلم الجميع أن الفارق بين حماس وسلطة فتح هو نفسه الفارق بين الجهاد والعمالة، فمتى تصالح الجهاد مع الخيانة؟!

ويمكن سوق الكثير من الأسباب التي نتفهم بها ما تفعله حماس، التي حملت عبئا مضاعفا في إدارة قطاع غزة لأحد عشر سنوات تحت حصار شيطاني، وفي ظل أربعة حروب إعجازية مع ميزان القوى المنهار بينها وبين إسرائيل المدعومة بالأنظمة العربية المجرمة والعميلة. مما جعل غزة تصنع بنية تحتية متينة للمقاومة الباسلة. ويعرف الجميع بمن فيهم حماس أن الهدف هو سلاحها وكوادرها، بل والكوادر أهم من السلاح.. وقد عانت إسرائيل في ظل تلك السنوات من سد منافذ العمالة التي مكنتها من إيقاع ضربات مؤلمة للمقاومة، وفاجأتها المقاومة بما لم تكن تحتسب.. فالآن لا هدف لها –ولعملائها في سلطة فتح، والنظام العسكري المصري- إلا الحصول من جديد على المعلومات وتجديد شبكة العملاء.

لنكن صرحاء.. إنه مهما بلغ نظام حماس الأمني فلا نظام بلا ثغرات، ولا يعرف التاريخ حركة لم يحدث فيها اختراق، وفتح غزة أمام سلطة فتح سيمثل عبئا ضخما إضافيا على نظام حماس الأمني لحماية نفسه، وهو عبء لا يمكن ضمان نجاعته في نهاية المطاف، لأن إسرائيل وفتح ومصر ستدفع إلى غزة بنخبتها الأمنية لتحقيق أهدافها بأسرع ما يمكن.

وقبل دقائق من بداية كتابة هذه السطور جاء الخبر بمحاولة فاشلة لاغتيال توفيق أبو حصين مدير الأمن الداخلي في قطاع غزة بتفخيخ سيارته. وقبلها بيوم واحد نشرت كتائب القسام خبرا عن وفاة القائد القسامي محمد أبو جزر في حادث سير! ولم تُنْشَر أي تفاصيل مما يجعله مفتوحا على كل التفسيرات. أي أن "ثمرات" المصالحة ظهرت قبل وقوع المصالحة نفسها. كما أن تصريحات يحيى السنوار منذ بدأ ملف المصالحة تزيد في المخاوف، ليس أولها تهديده بكسر من يعترض على المصالحة من أبناء حماس ولن يكون آخرها تصريحه المحتمل للتأويلات حول سلاح حماس ووضعه تحت إشراف مظلة جامعة، ومن جهة أخرى فازدياد تسرب أخبار عن تحول بعض العناصر القسامية إلى تنظيم ولاية سيناء (داعش) يؤشر على أزمة مكتومة تجري في الدهاليز بين عناصر حماس العسكرية وبين القرار السياسي.

على الجانب الآخر فتصريحات عباس صريحة في استهداف سلاح المقاومة، وهي التصريحات التي انزعج لها مدير المخابرات المصرية وطلب التوقف عنها مؤقتا، فأجيب إلى طلبه، ثم السكوت الإسرائيلي عن عرقلة المصالحة حتى وُقِّع إعلانها في القاهرة، ثم التصريح الفج للمجلس الوزاري المصغر. والأهم من هذا كله أن المشهد على الأرض لم يشهد تغيرا بل صدق عباس لما قال أنه لن يرفع إجراءاته العقابية عن حماس إلا حين يتمكن منها فعليا.

هي إذن مغامرة كبيرة وتحتاج يقظة وانتباها وذكاءا بالغا في إدارتها، نسأل الله أن يوفقهم فيها ويعينهم عليها.

ثم يبقى السؤال الكبير قائما: إن المصالحة إما ستفشل على الأرض، أو أنها ستصل إلى النقطة الحرجة: نقطة سلاح المقاومة. وقبل ذلك ستكون بعض الأحداث قد أسفرت عن مدى النجاح في الانكشاف الأمني لكوادر القسام. وفي كل الأحوال ما الذي تملكه حماس في حال فشل المصالحة وبقاء الوضع في غزة على ما هو عليه؟!

لا يكاد يُرى في الأفق إلا ثلاثة مسارات كبيرة:

1.الاستسلام والتخلي عن مشروع المقاومة، تحت إكراه الواقع العصيب، ثم التحول إلى نسخة جديدة من فتح

2.الانفجار بوجه إسرائيل، وهي الحرب التي قد تكون انتحارية في حال وقعت بعدما حصل قدر من الانكشاف الأمني لقطاع غزة عبر زمن محاولة إنجاح المصالحة.

3.الانفجار بوجه مصر، لمحاولة تصدير أزمة غزة إلى الجوار، لإجبار الأطراف المعنية لإعادة إحياء المصالحة وإيصال رسالة أن أزمة غزة لن تدفع غزة وحدها ثمنها.

نعم.. ربما جاء الوقت بأحداث تغير من المشهد، فتكون فائدة المصالحة أنها كسبت الوقت وأجلت الأزمة، إلا أنه لا ينبغي في أي حال الاعتماد على ما قد يأتي به الزمن.
***

لا يزال ابن سلمان ماضيا في جر السعودية إلى العلمانية والتطبيع مع اليهود.. كان نظام السعودية يمارس العلمانية والتطبيع بعيدا عن الشعب، فالنظام علماني، مشارك في كل ما يقتل المسلمين ويخمد ثوراتهم ويعيد تركيعهم للمستبدين.. وتلك سياسة السعودية على الأقل من بعد وفاة الملك فيصل، وإن كان كثير من الباحثين يمتد بها إلى سياسة الدولة السعودية الثالثة كلها.

الجديد هنا أن النظام السعودي خلع البرقع، ومضت وسائل إعلامه في هدم الدين وتسويق التطبيع مع إسرائيل صراحة.. وهو الثمن الذي يدفعه بن سلمان للأمريكان والإسرائيليين لتمكينه من عرش المملكة، أي أن الزلزال الذي تتعرض له السعودية له يشمل الأسرة المالكة كما يشمل عموم الجماهير، وهو ما يجعل البلاد على صفيح ساخن لا يُدْرَي من سينفجر أولا: الأسرة الحاكمة أم المجتمع، ولا من سيتلوه في الانفجار وكيف تتفاعل الأمور ويسند بعضها بعضا.

الواقع أنه ليس أصعب على المسلمين من تهدد بلاد الحرمين لمكانتهما في النفوس، والواقع أيضا أنه ربما لم يُجرم نظام في القرن الأخير بحق المسلمين كما أجرم نظام آل سعود، وبقدر ما يضع المرء كل مخاوفه على أمن الحرمين وأهل الحرمين، بقدر ما يبدو أن أي اختلال يصيب نظام آل سعود سيكون تنفيسا عن المسلمين في أماكن كثيرة.

قضى الله أن يهلك المجرمين بكيد من عند أنفسهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)

ــــــــــــــــــــــ
لتحميل العدد الرابع من مجلة كلمة حق كاملا:
https://goo.gl/okhK5f
‏٠٧‏/١١‏/٢٠١٧ ٥:٥١ م‏
((( العدد الجديد ))) (العدد الرابع، عدد شهر نوفمبر) بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الرابع من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر نوفمبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/okhK5f نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog
((( العدد الجديد )))

(العدد الرابع، عدد شهر نوفمبر)

بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الرابع من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر نوفمبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/okhK5f

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:
تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq

المدونة:
https://klmtuhaq.blog/
‏٠٥‏/١١‏/٢٠١٧ ٦:٥٠ م‏
محاولة لفهم العقل التفاوضي @[534759622:2048:شعبان صوان] ●تساؤلات الشارع العربي والإسلامي ينتشر العجب بين قطاع واسع من الشعوب العربية والمسلمة من استمرار نهج المفاوضات لمدة عشرات السنين دون نتيجة عملية حتى الآن، ويستنكر المتعجبون هذا الاستمرار في ظل تعنت وتوحش الجانب الصهيوني ومسايرة الراعي الأمريكي له بل مناصرته إياه دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي نصيب من المسايرة والمناصرة إلا على صعيد الكلام أحياناً، ويعجز المواطن العادي المعني بقضية فلسطين عن تفسير هذه الظاهرة التي يرى فيها جرياً لا ينقطع خلف سراب وأوهام. ●شروط الحل الأمريكي ولفهم ذلك علينا في البداية أن نتذكر أن المفاوض يسمع في الغرف المغلقة ما لا يقال علناً، وفي نهاية سنة 1973 اجتمع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مع وزير الخارجية البريطاني لبحث مؤتمر جنيف وكشف عن موقف الولايات المتحدة الذي سيحكم مسيرة "عملية السلام" إلى اليوم، وكان ذلك بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في الجزائر عقب حرب رمضان/ أكتوبر والذي طالب فيه المجتمعون بانسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة واستعادة حقوق شعب فلسطين. قال كيسنجر إن الولايات المتحدة مستعدة لممارسة أقصى الضغط على إسرائيل للانسحاب، ولكن يجب عليها (أي على أمريكا) إعداد الرأي العام الأمريكي، وإعطاء الوضع السياسي في إسرائيل الوقت لينضج[1] . ●"الخلاف" الأمريكي-الإسرائيلي لا يقتضي براءة المصالح الأمريكية هذا الحديث عندما يقال في الغرف المغلقة، ويُدعم بالوعود العلنية المتكررة والمتعلقة بحل سلمي ما مثل قرارات الأمم المتحدة أو حل الدولتين، وبشكوى السياسي الأمريكي أحياناً من التعنت الصهيوني، وهي شكوى عبر عنها كيسنجر نفسه أكثر من مرة سنة 1975 لوزير الخارجية البريطاني جيمس كالاهان[2]، بالإضافة إلى شكواه من فرط الدلال الصهيوني الذي يغضب المتطرفين من ميول التسوية الأمريكية التي عَرضت على الزعماء العرب منذ السبعينيات نفس البرنامج الحالي الذي كان يتطلب التمهيد آنذاك وهو: اعتراف العرب بالكيان الصهيوني لكي يصبح دولة ودودة صغيرة ليس لها حقوق الطلب بلا حدود، مقابل الاعتراف بالهوية الفلسطينية في دولة يُخيَّر الفلسطينيون بين البقاء حيث هم في الشتات أو العودة إليها، وهو عرض أثار غضب الصهاينة منذ ذلك الوقت لأنه يجعلهم يتراجعون، كما أنهم يريدون أن يكونوا الأصدقاء الوحيدين لواشنطن في المشرق، وأمريكا تريد "أصدقاء" آخرين، والوصول إلى هذا الوضع المتخيل سيتطلب وقتاً لتحقيق الشرطين السابقين (أي إعداد الرأي العام الأمريكي ونضوج الوضع السياسي الصهيوني)، وسيحاول الصهاينة عرقلة ذلك بإثارة الفوضى وعداوة العرب والتخلص من الساسة الذين لا يوافقونهم بمن فيهم كيسنجر نفسه [3]، إن هذا ما قاله الساسة الأمريكيون منذ البداية لمفاوضيهم العرب، وقد تم توثيق أحد الاجتماعات المبكرة التي يجدر الاطلاع على مضمونها والتي قُدمت فيها هذه العروض بالتفصيل من كيسنجر إلى القيادة العراقية (1975) وإلى قيادات عربية أخرى، ولكن العراقيين لم يتجاوبوا مع تلك العروض كتجاوب غيرهم على ما أثبته التاريخ فيما بعد، ومما قد يثير العجب والاستغراب شكوى الأمريكيين من هوة "الخلاف الأمريكي-الإسرائيلي"، والغضب الصهيوني من شخص مثل كيسنجر كانت تحليلاتنا السياسية القاصرة تختزله في خلفيته اليهودية وتصوره مجرد تابع "لإسرائيل" ومنفذ لرغباتها، وكأننا نفترض براءة المصالح الأمريكية المستقلة عن مصالح ربيبتها التي تسبب "الأضرار" لها كما حاول كيسنجر إيهام الزعامات العربية[4] (فهل تقدم الولايات المتحدة الدعم المالي والعسكري (115 مليار دولار حتى سنة 2012) والسياسي أيضاً[5]، غير المحدود وغير المسبوق والذي لا مثيل له في سياستها ولا سياسة غيرها، لمجرد تعذيب نفسها "بالأضرار" التي يسببها الصهاينة لها؟)[6]. ●"واقعية" المفاوض العربي و"صداقاته" وانتظاره تحقق الشرطين الأمريكيين هي سر استسلامه المطلق ويشعر المفاوض العربي بقبول الأمريكيين له وذلك نتيجة ذلك "الانقسام" بين الصهاينة والأمريكيين، لاسيما عندما تؤيد الولايات المتحدة قراراً في الأمم المتحدة ضد الصهاينة، وهو ما سأوضحه فيما يأتي، ذلك أن مفاوضنا العربي رضي منذ البداية من باب "الواقعية" و"العقلانية" و"السلمية" بالتنازل عن حقوقه الطبيعية والاحتكام فيها إلى متطلبات المصالح الأمريكية التي وجدها "منقذاً" من العدو الصهيوني، وذلك تحت اسم المجتمع الدولي الذي يسيطر الأعداء في الحقيقة على قراراته، ورضي كذلك بالمكان الأدنى في المعادلة المطروحة والتي جعلت حقوقه المتبقية مرهونة برأي عام في الولايات المتحدة والكيان الصهيوني دون أي وزن للرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهو مفاوض تؤثر فيه العلاقات الشخصية أكثر من غيره، (أدت "صداقة" الرئيس أنور السادات بالرئيس الأمريكي جيمي كارتر دوراً حاسماً في التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد 1978 [7] ومعاهدة السلام 1979 رغم الإجحاف بموقف مصر الأصلي الذي كان يطالب بالانسحاب الكامل وليس الجزئي، وضمن حل شامل وليس منفرداً، هذا حسبما صرح الرئيس السادات في خطابه بالكنيست[8])، المهم أن هذه العلاقات الشخصية التي تتجاوز قوانين الدبلوماسية والحقوق السياسية تجعل المفاوض العربي يشعر "بصدق" الراعي الأمريكي في محاولته "اجتياز هذه العقبات" ويشعر أن السياسي الأمريكي "إلى جانبه"، أما المفاوض الصهيوني فهو يقبل أيضاً هذه المعادلة لأنها منحته الجانب الموضوعي أكثر من الذاتي الذي تُرك للعرب وهو أمر لا يكلفه عناء مواجهة الرأي العام في دولته ويراهن، وفقاً لموقفه الشخصي، على تغير هذا الرأي العام نحو اليسار إن كان هو يسارياً أو باتجاهه نحو اليمين إن كان هو يمينياً ، في ظل إجماع صهيوني لا يتخطى الخطوط الحمر[9] ومن ثم فلا خطر منه مهما تأرجح بين اليمين واليسار ، المهم هو أن المعادلة تمنح السياسي الصهيوني استقرار الواقع وعدم لزوم المواجهة ضد شعبه الذي على الطرف العربي انتظار رضاه وترقب ميوله، وفي النهاية يكون العبء على المفاوض العربي الذي لا قيمة لرأيه العام في المعادلة الأمريكية وذلك تبعاً للضعف والفرقة والشرذمة والتبعية في البلاد العربية. ●"الوسيط" الأمريكي تمكن من الحصول على رضا الطرفين المفاوضين ويظهر الراعي الأمريكي أمام الطرفين بشكل مقبول، فهو "صديق" أمام العربي، صاحب الاهتمامات "الذاتية" أي المتعلقة بالعلاقات الخاصة بينه وبين الأمريكيين، فالأمريكي يريد الخير ولكنه "عاجز" عن تحقيقه، وهو أمام الصهيوني، المهتم بالواقع العام أكثر من العلاقات الشخصية، قابل بالواقع الصهيوني يميناً كان أم يساراً ولا يحمله أي تبعة لتغيير هذا الواقع إلا برضا مجموع الصهاينة في أمريكا قبل الكيان الصهيوني نفسه، وهو ما يسبغ الألفة الأعمق بين الطرفين نتيجة للمشتركات الجامعة بين المجتمعين وإن كانت ألفة في غير اتجاه رغبات السياسيين أحياناً. ●العدوانية الصهيونية بين "صبر" المفاوض وثورة الشعب ولكن هذه المعادلة إن أرضت المفاوض العربي الذي ينتظر بصبر وأناة فريدين تَحقُق الشرطين اللذين ذكرهما كيسنجر، فإنها لا ترضي القاعدة الشعبية العربية الإسلامية التي تراقب هذا الضعف الذي لا يكف أثناء انتظاره عن القبول بكل ما يثيره الصهيوني من اعتداءات بسبب حسابات برامجه السياسية أو الداخلية التي لا تقيم السياسة الأمريكية أهمية لنظائرها عند الجانب العربي، كذلك لا يكف المفاوض العربي، حتى في مواجهة هذه الاعتداءات والحروب، عن محاولة تجميل صورته في عيون العالم بتقديم التنازلات المجانية لنيل الرضا الغربي[10] وللتعجيل بحصول الرضا الشعبي الأمريكي والصهيوني[11]، كما حدث في سنة 1988 عندما لبت القيادة الفلسطينية شروط الحوار الأمريكي وأرسلت لشعب الكيان الصهيوني التهاني في الأعياد اليهودية وانتظرت المقابل من الانتخابات الصهيونية، ولكن الطرف الصهيوني الأقوى لا يرد على تلك المبادرات والتنازلات بأفضل منها أو بمثلها على الأقل، بل يتجه يميناً كلما شعر بالأمان[12] ولا يمنح أكثر من صدقات[13]، ويزيد في عنجهيته وعدوانه كعادة النفس البشرية العدوانية أمام أي ضعف أو فراغ (شن حرب لبنان 1982 بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر 1979 وتسارع الاستيطان بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993)[14]، مما يفجر الأوضاع في المنطقة أحياناً وهو أمر لا يتأخر الراعي الأمريكي عن استغلاله ومحاولة تسخيره والتجارة بدمائه لتحقيق حله المنشود الذي يسود فيه استقرار مصالحه ورؤيته دون "تعكير"، ومع أن الحروب والمقاومة تؤلم الصهاينة بخسائر جمة، فإن هيمنة القوة الأمريكية وتبعية العمالة العربية وقلة إمكانات المقاومين كفيلة بعدم تحقيق الحد الأقصى من أهداف العرب والمسلمين، ولكن بموازين جهاز التحكم الذي تمسك أمريكا بأدواته السابقة (قوتها وتبعية عملائها وقلة إمكانات أعدائها) ربما "تؤدب" المقاومة طفل أمريكا الصهيوني المشاكس وتجعل ساسته ورأيه العام يهرول موافقاً على الحل السياسي الأمريكي. ●الخلاف عائلي بين الولايات المتحدة والصهاينة، وأمريكا لا تقبل إلا بحله ودياً ولا يظن أحد أن ساسة الولايات المتحدة يرغبون في تهذيب صهاينة الكيان كما ادعى كيسنجر، بل إنهم يريدون رسم مستقبل أكثر ازدهاراً لهم يمكّن الكيان، بالسلام وحده، من الهيمنة الاقتصادية على المنطقة كلها[15]، وهذا ما لا يدركه منظور الساسة الصهاينة الذين يطمعون في كل شيء: الاحتلال العسكري والاستيطان البشري والهيمنة الاقتصادية، وعندما يعمل الأمريكي على لجمهم فإن ذلك في منظوره الأوسع، لصالحهم، ولكنه في العلن لا يجرؤ على قول ذلك أو على انتقاد دلال الصهاينة بل يحتفظ بهذه الرؤية في غرفه المغلقة (كما حدث مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تسجيله الذي انتشر عن نقده الحاد خلف الكواليس لأداء الجيش الصهيوني في العدوان على غزة سنة 2014)[16] مع استمرار الدعم والتأييد العلني ، فالأمريكي يكتفي بإصدار بعض القرارات "الدولية" (صوتت الولايات المتحدة إلى جانب عشرات القرارات التي عبر فيها مجلس الأمن عن "الإدانة" و "الاستنكار" و "الشجب" و"الأسف" و"القلق"، "بشدة" أحياناً، بسبب عدوان صهيوني لاسيما على الدول المجاورة غير فلسطين، بالإضافة إلى "التوصية" و "الحث" و "الطلب" من الكيان الانسحاب من دولة مجاورة أو وقف عدوان عليها أو وقف الاستيطان)[17] تاركاً للصهاينة تنفيذها دون ضغط مباشر منه أي كلما شعروا هم "بكامل إرادتهم" بضرورة ذلك تحت وطأة ضغوط الواقع المحيط (الانسحاب من سيناء بعد حرب رمضان 1973 واتفاقيات كامب ديفيد 1978 ومعاهدة السلام مع مصر 1979 ثم الانسحاب من جنوب لبنان 2000 "بعد 22 سنة من صدور القرار 425" ثم الانسحاب من غزة 2005 "بعد 38 سنة من صدور القرار 242" دون التوقف عن الاعتداء عليها)، هذا مع استخدام أكبر لحق النقض الجائر ضد 43 قراراً يدين الكيان الصهيوني وإعاقة صدور 57 قراراً (حتى نهاية 2013) لصالح الحقوق الفلسطينية[18]، المتروكة للمفاوضات و"نضج الأوضاع" سيء الذكر، فالمعادلة الأمريكية منذ البداية هي مسايرة الرأي العام الأمريكي الذي يحتوي تطرفاً إنجيلياً يمينياً أكبر وأكثر من الرأي العام الصهيوني بل واليهودي الأمريكي، فهناك عشرات الملايين ممن لا يصغون حتى إلى الإسرائيليين أنفسهم ويزايدون على تطرف المجتمع الصهيوني بدعوى أنه لا يهمهم ما يقوله الإسرائيلي بل ما يقوله الرب في الكتاب المقدس وهو ضد أية عملية تسوية بين اليهود وأعدائهم حتى لو رضي اليهود بها فأرض فلسطين لليهود وحدهم وعلى غيرهم الرحيل عنها تمهيداً لعودة المسيح والعصر الألفي السعيد الذي سيقضي على اليهود بالموت والتنصر ، أما الحروب التي تسبق ذلك وتزعج ذوي المشاعر الإنسانية فهي عند الإنجيليين جزء طبيعي وإن كان مؤسفاً من عملية الخلاص، ويصرح هؤلاء بأنهم صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم [19]. ●المقاومة بين عظمة أهدافها التي تعجز عن تحقيقها، وقلة إمكاناتها التي تدعم الالتفاف على إنجازاتها وتحاول السياسة الأمريكية دائماً الالتفاف على أي إنجاز يقوم به الجندي أو المقاوم العربي أو المسلم، ليصب في صالحها وذلك بعدما يقوم أي انتصار لنا بتعديل موازين القوى لغير صالح العنجهية الصهيونية، والهدف من هذا الالتفاف هو التأثير على السياسة الصهيونية التي تعتمد على رأي صهيوني عام لا تغيره سوى القوة التي لا يفهم غيرها ولا تكسر أنفه إلا الهزيمة الماحقة، بالإضافة إلى التأثير على رأي غربي عام موزع بين أفكار صراع البقاء، والإنسانية، وهذا بدلاً من أن تصب المقاومة في صالح أبناء المنطقة العرب والمسلمين بتحرير بلادهم واستعادة حقوقهم وهو ما يقف المجتمع "الدولي" بأكمله ضده مدعوماً بالسياسة العربية الرسمية بأكملها. ●الخلاصة وخلاصة الأمر أن معادلة الحل الأمريكي تنحاز إلى المفاوض الصهيوني موضوعياً، وتمنح المفاوض العربي جانباً ذاتياً، تقر للجانب الصهيوني بالواقع الموضوعي الذي يفصّله الصهيوني على مقاسه بدعم من الرأي العام المتصهين في أمريكا، ومن ثم يطمئن استقراره، وهو أمر لا يحمل الصهاينة أية أعباء في ظل المزايدة الأمريكية العامة على المواقف الصهيونية، وتطلب هذه المعادلة من الجانب العربي انتظار الفرج بدعم نفسي يطمئنه "لصداقة" المفاوض الأمريكي و"إخلاصه" بالرغم من "عجزه"، وهذا هو السر في "طمأنينة" المفاوض العربي وثقته بالنهاية السعيدة، وصبره الشديد على شح النتائج العملية لأنه رضي منذ البداية أن يكون واقع العدو هو الحكم وتأسس وجود سلطته السياسي وبرنامجه الاقتصادي وموارده المالية على هذا الافتراض المطاط جداً، ولم يحدث أي خرق لأن الوعد مؤجل ومرتهن من البداية ولهذا تتكرر في المفاوضات عبارة "ليس هناك مواعيد مقدسة"، وهو أمر "يتفهمه" المفاوض جيداً ويجعل من الانتظار أمله الوحيد وليس له من ورقة ضغط تساعده أثناء هذا الانتظار سوى وسيلة المفاوضات التي بلا دعامة من القوة تسندها كما كان مفاوضو حركات التحرر يجلسون على الطاولة والمقاتلون يكافحون في الميدان في نفس الوقت، أما عندنا فليس لدينا سوى المفاوضات ثم المفاوضات ثم المفاوضات. ●تناقض الشخصية التفاوضية الرئيس محمود عباس شاكياً إلى الدورة غير العادية للمجلس الوزاري في الجامعة العربية (28/5/2016): إسرائيل تعتدي وتقتل وتستبيح وتشرد وتستوطن وتقتلع وتزيل وتصادر وتهدم وتعتقل ....إلخ ، ونحن ملتزمون ولكنها ترفض الالتزام، ألم يسأله أحد من مندوبي التجزئة: إذا كنت تشتكي من اعتداءاتها فعلام تنسق معها وتقف إلى جانبها ضد من يقاوم هذه المظالم من شعبك الذي تريد توحيد صفه بلا سلاح مقاومة يدرأ عنه ما تشتكي أنت منه ؟ وهل ستتحقق أحلام الدولة والقدس والعودة والمياه واللاجئين بالرضا بتحكيم أمريكا وجعل فلسطين مزرعة لحلف الأطلسي يحتلها بدلاً من الاحتلال الإسرائيلي؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] - الدكتور علي محافظة، بريطانيا والوحدة العربية 1945-2005، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 276. [2] -نفس المرجع، ص 278. [3] -الدكتور خير الدين حسيب، العراق من الاحتلال إلى التحرير، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ص 456-461 (وثيقة رقم (1) صحيفة الشرق الأوسط تنشر وثائق عن أول لقاء بين كيسنجر وسعدون حمادي في 1975 –عدد 2 يناير 2004). [4] -نفس المرجع، ص 457. [5] -عن الدعم المالي والعسكري: -جيريمي م. شارب، المساعدات الخارجية الأميركية لإسرائيل 12 آذار/ مارس 2012، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2012، ترجمة: نسرين ناضر. -بول فندلي، الخداع: جديد العلاقات الأميركية الإسرائيلية بعد كتاب "من يجرؤ على الكلام"، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، بيروت، 1993، أشرف على الترجمة: الدكتور محمد يوسف زايد، ص 131-136 و 278-279. وعن الدعم السياسي الأمريكي للكيان الصهيوني بالفيتو في مجلس الأمن: -بول فندلي، ص 225-229. [6] -عن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في السياسة الأمريكية يمكن مراجعة: عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، دار الشروق، القاهرة، سبتمبر 2002، ص 503-519. الدكتور نظام بركات، مراكز القوى ونموذج صنع القرار السياسي في إسرائيل 1963-1983، دار الجليل للنشر، عمّان، ص 149-151. [7] - محمد إبراهيم كامل (وزير خارجية مصر الأسبق)، السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد، الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، ص 448 و 560 و 579-584. -د. جيرمي سولت، تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي، دار النفائس، دمشق، 2011، ترجمة: د. نبيل صبحي الطويل، ص 308. [8] -هنري حاماتي، دولة السادات الفلسطينية (ملف القبس-1)، دار القبس، الكويت، 19 نوفمبر 1979 (الذكرى الثانية لزيارة الرئيس المصري للقدس المحتلة)، ص 54-59. -محمد إبراهيم كامل، ص 591. [9] -عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 1999، ج 7 ص 19-20. [10] -محمد إبراهيم كامل، ص 579. [11] -د. عبد الوهاب المسيري، الإدراك الصهيوني للعرب والحوار المسلح، دار الحمراء، بيروت، 2004، ص 89. [12] -المرجع السابق، ص 133-134. -الدكتور عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، دار الفكر، دمشق، 2002، ص 25. [13] -د. عبد الوهاب المسيري، 2004، ص 88-89. [14] -نعوم تشومسكي، قوى وآفاق: تأملات في الطبيعة الإنسانية والنظام والاجتماعي، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ترجمة: ياسين الحاج صالح، ص 36-38. [15] -جورجي كنعان، مملكة الصعاليك، دار الطليعة، بيروت، 2000، ص 23. [16] - http://www.alwakeelnews.com/print.php?id=104860 - https://www.youtube.com/watch?v=dbLPYl6YWfA [17] -بول فندلي، ص 218-225. [18] -موقع روسيا اليوم: أخبار العالم العربي: الفيتو الأمريكي في صراع العرب مع إسرائيل (26/9/2013) [19] -الدكتور يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 101 و 130 و 167 و 170. -جورجي كنعان، الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي (الجزء الأول: الدعوة والدعاة)، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1995، ص 69-166.
محاولة لفهم العقل التفاوضي
شعبان صوان

●تساؤلات الشارع العربي والإسلامي
ينتشر العجب بين قطاع واسع من الشعوب العربية والمسلمة من استمرار نهج المفاوضات لمدة عشرات السنين دون نتيجة عملية حتى الآن، ويستنكر المتعجبون هذا الاستمرار في ظل تعنت وتوحش الجانب الصهيوني ومسايرة الراعي الأمريكي له بل مناصرته إياه دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي نصيب من المسايرة والمناصرة إلا على صعيد الكلام أحياناً، ويعجز المواطن العادي المعني بقضية فلسطين عن تفسير هذه الظاهرة التي يرى فيها جرياً لا ينقطع خلف سراب وأوهام.

●شروط الحل الأمريكي
ولفهم ذلك علينا في البداية أن نتذكر أن المفاوض يسمع في الغرف المغلقة ما لا يقال علناً، وفي نهاية سنة 1973 اجتمع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مع وزير الخارجية البريطاني لبحث مؤتمر جنيف وكشف عن موقف الولايات المتحدة الذي سيحكم مسيرة "عملية السلام" إلى اليوم، وكان ذلك بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في الجزائر عقب حرب رمضان/ أكتوبر والذي طالب فيه المجتمعون بانسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة واستعادة حقوق شعب فلسطين.

قال كيسنجر إن الولايات المتحدة مستعدة لممارسة أقصى الضغط على إسرائيل للانسحاب، ولكن يجب عليها (أي على أمريكا) إعداد الرأي العام الأمريكي، وإعطاء الوضع السياسي في إسرائيل الوقت لينضج[1] .

●"الخلاف" الأمريكي-الإسرائيلي لا يقتضي براءة المصالح الأمريكية
هذا الحديث عندما يقال في الغرف المغلقة، ويُدعم بالوعود العلنية المتكررة والمتعلقة بحل سلمي ما مثل قرارات الأمم المتحدة أو حل الدولتين، وبشكوى السياسي الأمريكي أحياناً من التعنت الصهيوني، وهي شكوى عبر عنها كيسنجر نفسه أكثر من مرة سنة 1975 لوزير الخارجية البريطاني جيمس كالاهان[2]، بالإضافة إلى شكواه من فرط الدلال الصهيوني الذي يغضب المتطرفين من ميول التسوية الأمريكية التي عَرضت على الزعماء العرب منذ السبعينيات نفس البرنامج الحالي الذي كان يتطلب التمهيد آنذاك وهو: اعتراف العرب بالكيان الصهيوني لكي يصبح دولة ودودة صغيرة ليس لها حقوق الطلب بلا حدود، مقابل الاعتراف بالهوية الفلسطينية في دولة يُخيَّر الفلسطينيون بين البقاء حيث هم في الشتات أو العودة إليها، وهو عرض أثار غضب الصهاينة منذ ذلك الوقت لأنه يجعلهم يتراجعون، كما أنهم يريدون أن يكونوا الأصدقاء الوحيدين لواشنطن في المشرق، وأمريكا تريد "أصدقاء" آخرين، والوصول إلى هذا الوضع المتخيل سيتطلب وقتاً لتحقيق الشرطين السابقين (أي إعداد الرأي العام الأمريكي ونضوج الوضع السياسي الصهيوني)، وسيحاول الصهاينة عرقلة ذلك بإثارة الفوضى وعداوة العرب والتخلص من الساسة الذين لا يوافقونهم بمن فيهم كيسنجر نفسه [3]، إن هذا ما قاله الساسة الأمريكيون منذ البداية لمفاوضيهم العرب، وقد تم توثيق أحد الاجتماعات المبكرة التي يجدر الاطلاع على مضمونها والتي قُدمت فيها هذه العروض بالتفصيل من كيسنجر إلى القيادة العراقية (1975) وإلى قيادات عربية أخرى، ولكن العراقيين لم يتجاوبوا مع تلك العروض كتجاوب غيرهم على ما أثبته التاريخ فيما بعد، ومما قد يثير العجب والاستغراب شكوى الأمريكيين من هوة "الخلاف الأمريكي-الإسرائيلي"، والغضب الصهيوني من شخص مثل كيسنجر كانت تحليلاتنا السياسية القاصرة تختزله في خلفيته اليهودية وتصوره مجرد تابع "لإسرائيل" ومنفذ لرغباتها، وكأننا نفترض براءة المصالح الأمريكية المستقلة عن مصالح ربيبتها التي تسبب "الأضرار" لها كما حاول كيسنجر إيهام الزعامات العربية[4] (فهل تقدم الولايات المتحدة الدعم المالي والعسكري (115 مليار دولار حتى سنة 2012) والسياسي أيضاً[5]، غير المحدود وغير المسبوق والذي لا مثيل له في سياستها ولا سياسة غيرها، لمجرد تعذيب نفسها "بالأضرار" التي يسببها الصهاينة لها؟)[6].

●"واقعية" المفاوض العربي و"صداقاته" وانتظاره تحقق الشرطين الأمريكيين هي سر استسلامه المطلق

ويشعر المفاوض العربي بقبول الأمريكيين له وذلك نتيجة ذلك "الانقسام" بين الصهاينة والأمريكيين، لاسيما عندما تؤيد الولايات المتحدة قراراً في الأمم المتحدة ضد الصهاينة، وهو ما سأوضحه فيما يأتي، ذلك أن مفاوضنا العربي رضي منذ البداية من باب "الواقعية" و"العقلانية" و"السلمية" بالتنازل عن حقوقه الطبيعية والاحتكام فيها إلى متطلبات المصالح الأمريكية التي وجدها "منقذاً" من العدو الصهيوني، وذلك تحت اسم المجتمع الدولي الذي يسيطر الأعداء في الحقيقة على قراراته، ورضي كذلك بالمكان الأدنى في المعادلة المطروحة والتي جعلت حقوقه المتبقية مرهونة برأي عام في الولايات المتحدة والكيان الصهيوني دون أي وزن للرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهو مفاوض تؤثر فيه العلاقات الشخصية أكثر من غيره، (أدت "صداقة" الرئيس أنور السادات بالرئيس الأمريكي جيمي كارتر دوراً حاسماً في التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد 1978 [7] ومعاهدة السلام 1979 رغم الإجحاف بموقف مصر الأصلي الذي كان يطالب بالانسحاب الكامل وليس الجزئي، وضمن حل شامل وليس منفرداً، هذا حسبما صرح الرئيس السادات في خطابه بالكنيست[8])، المهم أن هذه العلاقات الشخصية التي تتجاوز قوانين الدبلوماسية والحقوق السياسية تجعل المفاوض العربي يشعر "بصدق" الراعي الأمريكي في محاولته "اجتياز هذه العقبات" ويشعر أن السياسي الأمريكي "إلى جانبه"، أما المفاوض الصهيوني فهو يقبل أيضاً هذه المعادلة لأنها منحته الجانب الموضوعي أكثر من الذاتي الذي تُرك للعرب وهو أمر لا يكلفه عناء مواجهة الرأي العام في دولته ويراهن، وفقاً لموقفه الشخصي، على تغير هذا الرأي العام نحو اليسار إن كان هو يسارياً أو باتجاهه نحو اليمين إن كان هو يمينياً ، في ظل إجماع صهيوني لا يتخطى الخطوط الحمر[9] ومن ثم فلا خطر منه مهما تأرجح بين اليمين واليسار ، المهم هو أن المعادلة تمنح السياسي الصهيوني استقرار الواقع وعدم لزوم المواجهة ضد شعبه الذي على الطرف العربي انتظار رضاه وترقب ميوله، وفي النهاية يكون العبء على المفاوض العربي الذي لا قيمة لرأيه العام في المعادلة الأمريكية وذلك تبعاً للضعف والفرقة والشرذمة والتبعية في البلاد العربية.

●"الوسيط" الأمريكي تمكن من الحصول على رضا الطرفين المفاوضين
ويظهر الراعي الأمريكي أمام الطرفين بشكل مقبول، فهو "صديق" أمام العربي، صاحب الاهتمامات "الذاتية" أي المتعلقة بالعلاقات الخاصة بينه وبين الأمريكيين، فالأمريكي يريد الخير ولكنه "عاجز" عن تحقيقه، وهو أمام الصهيوني، المهتم بالواقع العام أكثر من العلاقات الشخصية، قابل بالواقع الصهيوني يميناً كان أم يساراً ولا يحمله أي تبعة لتغيير هذا الواقع إلا برضا مجموع الصهاينة في أمريكا قبل الكيان الصهيوني نفسه، وهو ما يسبغ الألفة الأعمق بين الطرفين نتيجة للمشتركات الجامعة بين المجتمعين وإن كانت ألفة في غير اتجاه رغبات السياسيين أحياناً.

●العدوانية الصهيونية بين "صبر" المفاوض وثورة الشعب
ولكن هذه المعادلة إن أرضت المفاوض العربي الذي ينتظر بصبر وأناة فريدين تَحقُق الشرطين اللذين ذكرهما كيسنجر، فإنها لا ترضي القاعدة الشعبية العربية الإسلامية التي تراقب هذا الضعف الذي لا يكف أثناء انتظاره عن القبول بكل ما يثيره الصهيوني من اعتداءات بسبب حسابات برامجه السياسية أو الداخلية التي لا تقيم السياسة الأمريكية أهمية لنظائرها عند الجانب العربي، كذلك لا يكف المفاوض العربي، حتى في مواجهة هذه الاعتداءات والحروب، عن محاولة تجميل صورته في عيون العالم بتقديم التنازلات المجانية لنيل الرضا الغربي[10] وللتعجيل بحصول الرضا الشعبي الأمريكي والصهيوني[11]، كما حدث في سنة 1988 عندما لبت القيادة الفلسطينية شروط الحوار الأمريكي وأرسلت لشعب الكيان الصهيوني التهاني في الأعياد اليهودية وانتظرت المقابل من الانتخابات الصهيونية، ولكن الطرف الصهيوني الأقوى لا يرد على تلك المبادرات والتنازلات بأفضل منها أو بمثلها على الأقل، بل يتجه يميناً كلما شعر بالأمان[12] ولا يمنح أكثر من صدقات[13]، ويزيد في عنجهيته وعدوانه كعادة النفس البشرية العدوانية أمام أي ضعف أو فراغ (شن حرب لبنان 1982 بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر 1979 وتسارع الاستيطان بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993)[14]، مما يفجر الأوضاع في المنطقة أحياناً وهو أمر لا يتأخر الراعي الأمريكي عن استغلاله ومحاولة تسخيره والتجارة بدمائه لتحقيق حله المنشود الذي يسود فيه استقرار مصالحه ورؤيته دون "تعكير"، ومع أن الحروب والمقاومة تؤلم الصهاينة بخسائر جمة، فإن هيمنة القوة الأمريكية وتبعية العمالة العربية وقلة إمكانات المقاومين كفيلة بعدم تحقيق الحد الأقصى من أهداف العرب والمسلمين، ولكن بموازين جهاز التحكم الذي تمسك أمريكا بأدواته السابقة (قوتها وتبعية عملائها وقلة إمكانات أعدائها) ربما "تؤدب" المقاومة طفل أمريكا الصهيوني المشاكس وتجعل ساسته ورأيه العام يهرول موافقاً على الحل السياسي الأمريكي.

●الخلاف عائلي بين الولايات المتحدة والصهاينة، وأمريكا لا تقبل إلا بحله ودياً
ولا يظن أحد أن ساسة الولايات المتحدة يرغبون في تهذيب صهاينة الكيان كما ادعى كيسنجر، بل إنهم يريدون رسم مستقبل أكثر ازدهاراً لهم يمكّن الكيان، بالسلام وحده، من الهيمنة الاقتصادية على المنطقة كلها[15]، وهذا ما لا يدركه منظور الساسة الصهاينة الذين يطمعون في كل شيء: الاحتلال العسكري والاستيطان البشري والهيمنة الاقتصادية، وعندما يعمل الأمريكي على لجمهم فإن ذلك في منظوره الأوسع، لصالحهم، ولكنه في العلن لا يجرؤ على قول ذلك أو على انتقاد دلال الصهاينة بل يحتفظ بهذه الرؤية في غرفه المغلقة (كما حدث مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في تسجيله الذي انتشر عن نقده الحاد خلف الكواليس لأداء الجيش الصهيوني في العدوان على غزة سنة 2014)[16] مع استمرار الدعم والتأييد العلني ، فالأمريكي يكتفي بإصدار بعض القرارات "الدولية" (صوتت الولايات المتحدة إلى جانب عشرات القرارات التي عبر فيها مجلس الأمن عن "الإدانة" و "الاستنكار" و "الشجب" و"الأسف" و"القلق"، "بشدة" أحياناً، بسبب عدوان صهيوني لاسيما على الدول المجاورة غير فلسطين، بالإضافة إلى "التوصية" و "الحث" و "الطلب" من الكيان الانسحاب من دولة مجاورة أو وقف عدوان عليها أو وقف الاستيطان)[17] تاركاً للصهاينة تنفيذها دون ضغط مباشر منه أي كلما شعروا هم "بكامل إرادتهم" بضرورة ذلك تحت وطأة ضغوط الواقع المحيط (الانسحاب من سيناء بعد حرب رمضان 1973 واتفاقيات كامب ديفيد 1978 ومعاهدة السلام مع مصر 1979 ثم الانسحاب من جنوب لبنان 2000 "بعد 22 سنة من صدور القرار 425" ثم الانسحاب من غزة 2005 "بعد 38 سنة من صدور القرار 242" دون التوقف عن الاعتداء عليها)، هذا مع استخدام أكبر لحق النقض الجائر ضد 43 قراراً يدين الكيان الصهيوني وإعاقة صدور 57 قراراً (حتى نهاية 2013) لصالح الحقوق الفلسطينية[18]، المتروكة للمفاوضات و"نضج الأوضاع" سيء الذكر، فالمعادلة الأمريكية منذ البداية هي مسايرة الرأي العام الأمريكي الذي يحتوي تطرفاً إنجيلياً يمينياً أكبر وأكثر من الرأي العام الصهيوني بل واليهودي الأمريكي، فهناك عشرات الملايين ممن لا يصغون حتى إلى الإسرائيليين أنفسهم ويزايدون على تطرف المجتمع الصهيوني بدعوى أنه لا يهمهم ما يقوله الإسرائيلي بل ما يقوله الرب في الكتاب المقدس وهو ضد أية عملية تسوية بين اليهود وأعدائهم حتى لو رضي اليهود بها فأرض فلسطين لليهود وحدهم وعلى غيرهم الرحيل عنها تمهيداً لعودة المسيح والعصر الألفي السعيد الذي سيقضي على اليهود بالموت والتنصر ، أما الحروب التي تسبق ذلك وتزعج ذوي المشاعر الإنسانية فهي عند الإنجيليين جزء طبيعي وإن كان مؤسفاً من عملية الخلاص، ويصرح هؤلاء بأنهم صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم [19].

●المقاومة بين عظمة أهدافها التي تعجز عن تحقيقها، وقلة إمكاناتها التي تدعم الالتفاف على إنجازاتها

وتحاول السياسة الأمريكية دائماً الالتفاف على أي إنجاز يقوم به الجندي أو المقاوم العربي أو المسلم، ليصب في صالحها وذلك بعدما يقوم أي انتصار لنا بتعديل موازين القوى لغير صالح العنجهية الصهيونية، والهدف من هذا الالتفاف هو التأثير على السياسة الصهيونية التي تعتمد على رأي صهيوني عام لا تغيره سوى القوة التي لا يفهم غيرها ولا تكسر أنفه إلا الهزيمة الماحقة، بالإضافة إلى التأثير على رأي غربي عام موزع بين أفكار صراع البقاء، والإنسانية، وهذا بدلاً من أن تصب المقاومة في صالح أبناء المنطقة العرب والمسلمين بتحرير بلادهم واستعادة حقوقهم وهو ما يقف المجتمع "الدولي" بأكمله ضده مدعوماً بالسياسة العربية الرسمية بأكملها.

●الخلاصة
وخلاصة الأمر أن معادلة الحل الأمريكي تنحاز إلى المفاوض الصهيوني موضوعياً، وتمنح المفاوض العربي جانباً ذاتياً، تقر للجانب الصهيوني بالواقع الموضوعي الذي يفصّله الصهيوني على مقاسه بدعم من الرأي العام المتصهين في أمريكا، ومن ثم يطمئن استقراره، وهو أمر لا يحمل الصهاينة أية أعباء في ظل المزايدة الأمريكية العامة على المواقف الصهيونية، وتطلب هذه المعادلة من الجانب العربي انتظار الفرج بدعم نفسي يطمئنه "لصداقة" المفاوض الأمريكي و"إخلاصه" بالرغم من "عجزه"، وهذا هو السر في "طمأنينة" المفاوض العربي وثقته بالنهاية السعيدة، وصبره الشديد على شح النتائج العملية لأنه رضي منذ البداية أن يكون واقع العدو هو الحكم وتأسس وجود سلطته السياسي وبرنامجه الاقتصادي وموارده المالية على هذا الافتراض المطاط جداً، ولم يحدث أي خرق لأن الوعد مؤجل ومرتهن من البداية ولهذا تتكرر في المفاوضات عبارة "ليس هناك مواعيد مقدسة"، وهو أمر "يتفهمه" المفاوض جيداً ويجعل من الانتظار أمله الوحيد وليس له من ورقة ضغط تساعده أثناء هذا الانتظار سوى وسيلة المفاوضات التي بلا دعامة من القوة تسندها كما كان مفاوضو حركات التحرر يجلسون على الطاولة والمقاتلون يكافحون في الميدان في نفس الوقت، أما عندنا فليس لدينا سوى المفاوضات ثم المفاوضات ثم المفاوضات.

●تناقض الشخصية التفاوضية
الرئيس محمود عباس شاكياً إلى الدورة غير العادية للمجلس الوزاري في الجامعة العربية (28/5/2016): إسرائيل تعتدي وتقتل وتستبيح وتشرد وتستوطن وتقتلع وتزيل وتصادر وتهدم وتعتقل ....إلخ ،
ونحن ملتزمون ولكنها ترفض الالتزام،
ألم يسأله أحد من مندوبي التجزئة: إذا كنت تشتكي من اعتداءاتها فعلام تنسق معها وتقف إلى جانبها ضد من يقاوم هذه المظالم من شعبك الذي تريد توحيد صفه بلا سلاح مقاومة يدرأ عنه ما تشتكي أنت منه ؟ وهل ستتحقق أحلام الدولة والقدس والعودة والمياه واللاجئين بالرضا بتحكيم أمريكا وجعل فلسطين مزرعة لحلف الأطلسي يحتلها بدلاً من الاحتلال الإسرائيلي؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - الدكتور علي محافظة، بريطانيا والوحدة العربية 1945-2005، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 276.
[2] -نفس المرجع، ص 278.
[3] -الدكتور خير الدين حسيب، العراق من الاحتلال إلى التحرير، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ص 456-461 (وثيقة رقم (1) صحيفة الشرق الأوسط تنشر وثائق عن أول لقاء بين كيسنجر وسعدون حمادي في 1975 –عدد 2 يناير 2004).
[4] -نفس المرجع، ص 457.
[5] -عن الدعم المالي والعسكري:
-جيريمي م. شارب، المساعدات الخارجية الأميركية لإسرائيل 12 آذار/ مارس 2012، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2012، ترجمة: نسرين ناضر.
-بول فندلي، الخداع: جديد العلاقات الأميركية الإسرائيلية بعد كتاب "من يجرؤ على الكلام"، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، بيروت، 1993، أشرف على الترجمة: الدكتور محمد يوسف زايد، ص 131-136 و 278-279.
وعن الدعم السياسي الأمريكي للكيان الصهيوني بالفيتو في مجلس الأمن:
-بول فندلي، ص 225-229.
[6] -عن الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في السياسة الأمريكية يمكن مراجعة:
عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، دار الشروق، القاهرة، سبتمبر 2002، ص 503-519.
الدكتور نظام بركات، مراكز القوى ونموذج صنع القرار السياسي في إسرائيل 1963-1983، دار الجليل للنشر، عمّان، ص 149-151.
[7] - محمد إبراهيم كامل (وزير خارجية مصر الأسبق)، السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد، الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، ص 448 و 560 و 579-584.
-د. جيرمي سولت، تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي، دار النفائس، دمشق، 2011، ترجمة: د. نبيل صبحي الطويل، ص 308.
[8] -هنري حاماتي، دولة السادات الفلسطينية (ملف القبس-1)، دار القبس، الكويت، 19 نوفمبر 1979 (الذكرى الثانية لزيارة الرئيس المصري للقدس المحتلة)، ص 54-59.
-محمد إبراهيم كامل، ص 591.
[9] -عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 1999، ج 7 ص 19-20.
[10] -محمد إبراهيم كامل، ص 579.
[11] -د. عبد الوهاب المسيري، الإدراك الصهيوني للعرب والحوار المسلح، دار الحمراء، بيروت، 2004، ص 89.
[12] -المرجع السابق، ص 133-134.
-الدكتور عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، دار الفكر، دمشق، 2002، ص 25.
[13] -د. عبد الوهاب المسيري، 2004، ص 88-89.
[14] -نعوم تشومسكي، قوى وآفاق: تأملات في الطبيعة الإنسانية والنظام والاجتماعي، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ترجمة: ياسين الحاج صالح، ص 36-38.
[15] -جورجي كنعان، مملكة الصعاليك، دار الطليعة، بيروت، 2000، ص 23.
[16] - http://www.alwakeelnews.com/print.php?id=104860
-
https://www.youtube.com/watch?v=dbLPYl6YWfA
[17] -بول فندلي، ص 218-225.
[18] -موقع روسيا اليوم: أخبار العالم العربي: الفيتو الأمريكي في صراع العرب مع إسرائيل (26/9/2013)
[19] -الدكتور يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 101 و 130 و 167 و 170.
-جورجي كنعان، الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي (الجزء الأول: الدعوة والدعاة)، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1995، ص 69-166.
‏٢٦‏/١٠‏/٢٠١٧ ٨:٣٤ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
بروتوكولات حكماء صهيون وثيقة حقيقية أم مزورة؟
د. عمرو كامل

اشتد في هذه المسألة النزاع، وتضاربت فيها الأقوال، وما زال الخلاف دائرًا...
فيقول سرجي نيلوس (1862 - 1929) -أشهر من نشر البروتوكولات باللغة الروسية- في مقدمة كتابه: «لقد تسلمت من صديق شخصي -وهو الآن ميت- مخطوطًا يصف بدقة ووضوح عجيبين خطة وتطور مؤامرة عالمية مشئومة، موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى التفكك والانحلال المحتوم. هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات (1901)، وهي بالتأكيد القطعي صورة حقة في النقل من وثائق أصلية سرقتها سيدة فرنسية من أحد الأكابر ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء الماسونية الحرة، وقد تمت السرقة في نهاية اجتماع سري بهذا الرئيس في فرنسا حيث وكر المؤتمر الماسوني اليهودي هناك».

وعلى النقيض يقول البروفيسور الروسي اليهودي ياكوف رابكن: «بروتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة مزيفة أخرجت منذ قرن على أمر من شرطة قيصر روسيا السرية» [1].

كان من أوائل من طرحوا رؤية مغايرة لما عهدناه -على الأقل في عالمنا العربي- هو الصحافي الإنجليزي فيليب جرافز (1876 - 1953)؛ فعلى مدار ثلاثة أيام، في الفترة من 16 إلى 18 أغسطس عام 1921، نشر جرافز ثلاث مقالات في صحيفة (التايمز) اللندنية تحت عنوان (المؤامرة اليهودية العالمية) Jewish world plot، ينقب فيها عن حقيقة هذه البروتوكولات. وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 - 1964) إلى هذه المقالات في تقديمه لترجمة التونسي العربية للبروتوكولات، والمقالات يسهل الوصول إليها على الإنترنت.

يقول جرافز في مقالته الأولى (الثلاثاء 16 أغسطس 1921):

"هذه البروتوكولات لم تحظَ باهتمام كبير حتى قيام الثورة الروسية في عام 1917 وظهور البلاشفة، والذين ضموا في صفوفهم الكثير من اليهود أظهروا معتقدات سياسية تلتقي في بعض النقاط مع تلك المذكورة في البروتوكولات، مما أدى بالكثير إلى الاقتناع بأن اكتشاف نيلوس المزعوم كان حقيقة. انتشرت البروتوكولات على نطاق واسع وترجمت إلى عدة لغات أوروبية. ولكن العديد من المناقشات عقدت كذلك من أجل محاولة إثبات زيفها».

ثم ينتقل جرافز لاستعراض أدلته؛ فيذكر أنه حينما كان يعمل مراسلًا لصحيفته في القسطنطينية (أو إسطنبول كما صار اسمها بعد عام 1930)، دفع إليه أحد المراسلين رفض ذكر اسمه -غالبًا لأسباب متعلقة بزمانه، وكناه بمستر إكس، وذكر أنه أرثوذكسي روسي مؤيد للنظام الملكي ومهتم بالمسألة اليهودية الروسية- دفع إليه نسخة من كتاب للأديب والمحامي الفرنسي موريس جولي (1829 - 1878) اسمه (حوار في الجحيم بين مكيافيللي ومنوتيسكيو، أو سياسة مكيافيللي في القرن التاسع عشر، بواسطة معاصر) Dialogue aux enfers entre Machiavel et Montesquieu, ou la politique de Machiavel au XIXe siècle, par un contemporain، طبع لأول مرة في جنيف عام 1864، ثم ظهرت منه طبعات أخرى في بروكسل، وفيه ينتقد جولي نظام نابليون الثالث الفاسد (1808 - 1873). ولقد صاغه بأسلوبه الساخر في صورة خمسة وعشرين حوارًا دار بين روح كل من نيكولو مكيافيللي وشارلز مونتيسكيو (1689 - 1755) مقسمة إلى أربعة أقسام. وفيه يمثل مونتيسكيو التيار الليبرالي في حين يمثل مكيافيللي الطغيان والاستبداد، ويقرن جولي بأسلوبه بين الاتجاهين ويصف الطرق السرية التي من خلالها تتمخض الليبرالية عن طاغية مثل نابليون الثالث.
وترتب على تأليف جولي للكتاب أنه تم اعتقاله من قبل شرطة نابليون الثالث وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر شهرًا، وبغرامة مالية قدرها مائتي فرانك (حسب ما ذكرت مقدمة طبعة بروكسل لعام 1868)، وصادرت الشرطة ما توصلت إليه من نسخ، وحظرت طباعة أو نشر الكتاب، وذلك حتى عام 1933.

يعرض فيليب جرافز في مقالته الثانية (الأربعاء 17 أغسطس 1921) عدة مقارنات بين نصوص الكتاب الفرنسي والبروتوكولات، أذكر هنا مثالًا واحدًا فقط اختصارًا، وذلك بعد أن طابقته بنسخة بروكسل لعام 1868 من كتاب موريس جولي المذكور.

جاء في البروتوكول الثاني عشر: «ستكون لنا جرائد شتى تؤيد الطوائف المختلفة: من أرستقراطية وجمهورية، وثورية، بل فوضوية أيضًا... وستكون هذه الجرائد مثل الإله الهندي فشنو، لها مئات الأيدي، وكل يد ستجس نبض الرأي العام المتقلب».

وجاء في الحوار الثاني عشر على لسان مكيافيللي (مترجم): «مثل الإله فشنو، سيكون لصحافتي مائة ذراع، وسوف تمد هذه الأذرع يد العون لكل الآراء المختلفة الموجودة على الساحة في البلاد مهما كانت».

وهذا نص ما جاء في الحوار الثاني عشر في كتاب جولي:
«Comme le dieu Wishnou, ma presse aura cent bras, et ces bras donneront la main à toutes les nuances d'opinion quelconque sur la surface entière du pays».

أما عن فقرات البروتوكولات التي لم تقتبس من كتاب موريس جولي، فيُرَجِّح جرافز في مقالته الثالثة (الخميس 18 أغسطس 1921) أنها «صيغت من قبل البوليس السياسي الروسي بالاستعانة بعملاء يهود مجندين للتجسس على إخوانهم في الدين Coreligionists».

كيف تحول (حوار) جولي إلى (بروتوكولات) حكماء صهيون التي نشرها نيلوس؟

تشير بعض الأبحاث إلى أن (حوار) موريس جولي منتحل من رواية (ألغاز الشعب) Les Mystères du Peuple الشهيرة للروائي الفرنسي أوجين سُو (1804 - 1857)، والتي صدرت قبل كتاب جولي بسبع سنوات، وفيها نسج (سُو) من وحي خياله شخصيات عرَّفها بأنها مجموعة متآمرة من (اليسوعيين الشيطانيين).

ثم نسج على منوال موريس جولي كاتب آخر، وهو الألماني هيرمان جويدشي (1815 - 1878)، وكان عميلًا للبوليس السري البروسي ومعروفًا بمعاداته للسامية. فكتب في روايته Biarritz الصادرة عام 1868 فصلًا بعنوان (عند المقبرة اليهودية في براج)، يصور فيه انعقاد مجلس لجمعية سرية من الحاخامات الممثلين لقبائل إسرائيل الاثنتي عشرة، حيث يجتمعون مرة كل عام في منتصف الليل عند مقابر اليهود، وذلك كي يناقشوا ما تم إنجازه في مؤامرتهم الطويلة الأمد للسيطرة على العالم. وفي نهاية المجلس يعرب رئيسهم عن رغبته في أن يصبح اليهود ملوك العالم خلال المئة عام المقبلة. ولقد اقتبس جويدشي هذا الفصل من روايتي جولي وسُو؛ حيث استبدل جماعة الحاخامات السرية بالمتآمرين اليسوعيين في رواية سُو، وجعل (حوار) جولي هو نتاج هذا الاجتماع السري.
ولقد اجتُزئ هذا الفصل من كتابه وترجم إلى الروسية وطبع مفردًا في سان بطرسبرج ولاقى رواجًا كبيرًا، ولعل هذا ما أشار إليه فيليب جرافز في مقالته الثالثة السابق ذكرها بصورة مقتضبة حينما قال: «وقبل الثورة الروسية الأولى بعدة سنوات كانت هناك إشاعة رائجة عن وجود مجلس سري للأحبار اليهود يخطط بصورة متواصلة ضد الأرثوذكس».

ناقشت عدة دراسات حقيقة البروتوكولات، منها كتاب المؤرخ البريطاني نورمان كون (1915 - 2007) (مذكرة عن جرائم الإبادة الجماعية) Warrant for Genocide الصادر عام 1996،وكتاب المؤرخ الفرنسي بيير أندريه تاجياف وهو بعنوان (التزوير واستخداماته)Faux et Usages d'un Faux الصادر عام 1992، والذي وصفه إريك كونان الصحافي بمجلة (الإكسبريس) الفرنسية بأن تاجياف قدم فيه «التحليل الأقرب إلى الكمال» [2].

وكان من أهم الأبحاث في هذا الشأن هو بحث مؤرخ الأدب الروسي ميخائيل ليبيخين؛ وليبيخين هو باحث محقق في تواريخ المطبوعات الصادرة عن مكتبة أكاديمية العلوم في سان بطرسبرج، متخصص في المطبوعات الروسية الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكان أمينًا لأرشيف المعهد الأدبي في روسيا، ومشرفًا على معجم الأعلام الروسي الضخم المكون من 33 مجلدًا والذي يضم عددًا هائلًا من رجال الطباعة والنشر الروس خاصة في نهاية العهد القيصري. ولقد نشر الصحافي الفرنسي إريك كونان نتائج بحثه في مقالته المذكورة آنفًا.

أضف إلى ذلك بحث القاضية الإسرائيلية هداسا بن-إيتو وهو بعنوان (الأكذوبة التي لا تموت، بروتوكولات حكماء صهيون) The Lie that Wouldn’t Die, The Protocols of The Elders of Zion، والذي صدر بالعبرية عام 1998، ثم صدرت منه نسخة إنجليزية عام 2005.

ولقد تبين من خلال نبش الباحثين للأرشيفات الروسية والفرنسية والسويسرية وغيرها، ومن خلال محاضر محاكمة برن الشهيرة، كذلك من خلال المقابلات التي أجريت مع عشرات الشهود على الأحداث، أن صانع البروتوكولات هو عميل محترف يدعى ماثيو جولوفينسكي (1865-1920)، كانت مهمته تتلخص في توجيه الصحف الداعمة للنظام القيصري المحافظ.
نفذ جولوفينسكي هذه المهمة بإيعاز من بيوتر راتشكوفسكي (1853 - 1910) رئيس مكتب البوليس السياسي الروسي (أوخرانا) في باريس، وكان الأخير من الزمرة الأرثوذكسية المتعصبة، وأحد مؤسسي منظمة الأخوة المقدسة المؤمنة بوجود مؤامرة يهودية-ماسونية تتستر وراء التيار الليبرالي والإصلاحي في روسيا، وكان منشغلًا بكيفية إقناع نيكولا الثاني إمبراطور روسيا (1868 - 1918) بصحة معتقده وبضرورة إصدار القرارات الوقائية لمواجهة ذلك الخطر الداهم.

تلقفت البروتوكولات عدة أيدي، منها يد المتصوف سرجي نيلوس المعروف بعداوته الشديدة لليهود، فأردفها بكتابه المعنون بـ (الضئيل يحتوي العظيم، والمسيح الدجال، كحادث سياسي وشيك، مذكرات رجل أرثوذكسي)، والذي يصف فيه الثورة الفرنسية (1789 - 1799) بأنها نذير شؤم بخروج المسيح الدجال. فجعل الوثيقة فصلًا في الكتاب، ودفع بنسخة إلى نيكولا الثاني ليطلع عليها.

حينما راجت البروتوكولات وأثارت القلاقل في داخل روسيا، أمر رئيس مجلس الوزراء الروسي بيوتر ستوليبن (1862 - 1911) بإجراء بعض التحريات السرية حولها، والتي كشفت خيوط (المؤامرة الباريسية). حينها أخبر ستوليبن نيكولا الثاني بالأمر، والذي رغم ولعه الشديد بها، أصدر قراره بمصادرة نسخ البروتوكولات ومنع نشرها في روسيا، وقال: «إن الدوافع الطيبة لا ينبغي أن تدعم بمثل هذه المسالك الحقيرة» [3]. ولكن رغم ذلك، وبسبب تلك الدوافع الطيبة! استمرت البروتوكولات في الانتشار.

وبعد اندلاع الثورة الروسية في عام 1917 التي عرفت بأنها ثورة يهودية من الدرجة الأولى، راجت البروتوكولات في أوروبا، وترجمت إلى عدة لغات، ثم انتقلت إلى أمريكا وقد تبنى نشرها هنري فورد (1863 - 1947) رائد صناعة السيارات الأمريكية. وظهرت أول نسخة عربية عام 1926 في دورية الرومان الكاثوليك في القدس المعروفة باسم (رقيب صهيون)، وتوالت بعدها الترجمات العربية التي من أشهرها ترجمة محمد خليفة التونسي الصادرة في عام 1951.

للبعض أن يقول: إذا كانت اليد اليهودية الصهيونية متوغلة ومتحكمة بهذا الشكل المشاهد للعيان، فما الداعي لهذا الجدل البيزنطي العقيم؟

وجوابًا أقول: إن هذا الجدل البيزنطي له مغزى، وهو الإشارة إلى خطورة الاعتقاد في وجود مؤامرة يهودية عالمية منظمة تضرب بجذورها في عمق التاريخ البشري، بدءًا بمحاولة قتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- ومرورًا بميلاد الدولة الصهيونية اللقيطة في الرابع عشر من مايو عام 1948، كما يذكر محمد خليفة التونسي على سبيل المثال في مقدمة البروتوكولات: «لليهود منذ قرون خطة سرية غايتها الاستيلاء على العالم أجمع، لمصلحة اليهود وحدهم، وكان ينقحها حكماؤهم طورًا فطورًا حسب الأحوال، مع وحدة الغاية».
فكأن اليهود صاروا بذلك (آلة قدرية) تهيء الأجواء وفقًا لمعتقداتهم، وكأن البشر صاروا بين أيديهم أحجارًا على رقعة الشطرنج، كما يصف وليم جاي كار (1895 - 1959) في كتابه المعروف.

لا نستطيع إنكار وجود مؤامرة أكيدة واضحة المعالم، كذلك صحيح هو قول القائل: «إذا كان عدوك نملة فلا تَنَمْ له»، ولكن ما نرفضه هو اختزال هذه المؤامرة وحصرها في هذه الزاوية الضيقة، والتي بالتالي تنسب إلى اليهود قوة عجائبية خارقة يرتد إليها كل الشرور والكوارث العالمية، وهذا بالتالي يزيد من هيبة العدو ويؤدي بنا إلى الفشل في تقدير قوته الحقيقية، التي هي في حقيقة الأمر هشة وتتأثر بأبسط أعمال المقاومة كانتفاضة السكاكين والرباط في المسجد الأقصى بعد أن منعت الصلاة فيه وأقيمت بوابات التفتيش الإلكترونية على مداخله، فمثل هذه التحركات الشعبية العفوية لا تزال تؤرق مضاجعهم وتقذف في قلوبهم الرعب وتبشرهم بالزوال، لولا الوجود الفعلي لأعداء أُخَر من غير يهود يمثلون في كثير من الأحوال دعمًا وخطرًا أشد من اليهود أنفسهم.

حقيقة أعجبني قول الباحثة الدكتورة ريجينا الشريف: «معظم المؤرخين والمحللين السياسيين يعزون نجاح الصهيونية -الذي بلغ أَوْجَهُ في قيام دولة يهودية في إسرائيل- إلى المواهب السياسية والديبلوماسية لليهود الصهيونيين من أمثال حاييم وايزمان (1874 - 1952)، أو لويس برانديس (1856 - 1941)، أو ناحوم سوكولوف (1859 - 1936)، الذين عملوا بلا كلل على التأثير في الشخصيات غير اليهودية. ويعزى معظم الفضل في صدور وعد بلفور، عادة، إلى وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه... ويندر أن تعزى قصة نجاح الصهيونية لغير اليهود. غير أن مثل هذه التفسيرات لقوة الصهيونية ساذجة جدًا، إذ إن مواهب وايزمان في الديبلوماسية الدولية والإقناع، مهما بلغت من القوة، ما كانت لتؤتي ثمارها لو لم يكن أشخاص من غير اليهود قد بذروا بذور الصهيونية ورعَوْها قبل ظهور كتاب (الدولة اليهودية) لهرتزل عام 1896» [4].

ولذلك، فالمرفوض هو ربط كل الحوادث والثورات والانقلابات العالمية (كالثورة الفرنسية والبلشفية) واختزالها بكل بساطة في المؤامرة اليهودية الكونية بغض النظر عن مركب الظروف والدوافع المحيطة، لأن هذا من الكسل الفكري، وعقلنا البشري -كا يذكر المسيري رحمه الله- «إن لم يجد نموذجًا تفسيريًا ملائمًا لواقعة ما، فإنه يميل إلى اختزالها وردها إلى أياد خفية تُنسَب إليها كافة التغييرات والأحداث» [5]، وهذه اليد هي اليد اليهودية عادة!

وعلى كلٍّ، فقد يقال في حق اليهود، إن جاز لنا القول: «رب ضارة نافعة»!؛ فإن الترويج لهذه البروتوكولات خدم كثيرًا -وما زال- المصالح الصهيونية من الناحية العملية، والتي صار واضح للعيان طغيانها وهيمنتها على مقدرات الكثير من البلاد، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل المعلِّق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس يقول: «إن البروتوكولات [بسبب أثرها الذي يولِّد الرهبة في النفوس ويدفع الناس لمغازلة إسرائيل واليهود] تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصًا معاديًا لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد النظر!» [6].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ياكوف رابكن: المناهضة اليهودية للصهيونية، مقدمته للطبعة العربية، ص8، مركز دراسات الوحدة العربية، ط. الأولى، 2006
[2] Eric Conan: Les secrets d'une manipulation antisémite, L'Express, Novembre 18, 1999
[3] Burtsev, Vladimir: The Protocols of the Elders of Zion: A Proved Forgery (in Russian), Paris: Jewniverse, p. 106
[4] ريجينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ص(10)، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، باختصار وتصرف يسير.
[5] عبدالوهاب المسيري: اليد الخفية، ص11
[6] السابق ص8-9، نقلًا عن مقالة يوئيل ماركوس في جريدة (هآرتس)، بتاريخ 31 ديسمبر 1993
‏٢٣‏/١٠‏/٢٠١٧ ١٠:٠٢ م‏
لهذا هُزم تنظيم الدولة الإسلامية عبدالغني مزوز لا تكمن أهمية معركة الموصل في كونها تجري في عقر دار "الخلافة" التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية؛ بل أيضًا في كونها ميدان اختبار لعدد من التكتيكات الحربية والأساليب القتالية، وامتحانًا لجدوى الإستراتيجية التي تبناها تنظيم الدولة منذ عودته من الصحراء أثناء فعاليات الربيع العراقي في 2011، واستهلها بالسيطرة على عدد من المدن في العراق ثم السورية، وتوجها بإحكام قبضته على مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، إستراتيجية شكل التمدد المكاني ومسك الأرض جوهرها الأساسي معلنًا بذلك انتهاء مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك"، وبداية مرحلة التأسيس الفعلي للدولة كما عرفتها قواميس السياسية والاجتماع. يرى العديد من الخبراء والمراقبين أن تنظيم الدولة خاض معركة الموصل ببسالة، وبروح قتالية عالية، ما جعل من معركة الموصل أطول معارك المدن في التاريخ الحديث (معركة فردان في الحرب العالمية الأولى استمرت 9 أشهر، معركة ستالينجراد استمرت 5 أشهر، معركة برلين في الحرب العالمية الثانية استمرت 14 يوما)، لكن ورغم استماتة التنظيم في الدفاع عن المدينة إلا أن سقوطها كان مسألة وقت قياسًا إلى التفاوت الهائل في حجم القوات والإمكانيات العسكرية واللوجستية بين القوات المهاجمة والعناصر المتحصنة بالمدينة، وأيضًا لاعتماد التنظيم إستراتيجية حربية عديمة الجدوى وتكيتكات قتالية أكدت تجارب سابقة عدم فعاليتها وأنها في أحسن أحوالها تؤخر الهزيمة ولا تمنع وقوعها. أعلن حيدر العبادي عن انطلاق معركة الموصل في 17/10/2016 بعد تعبئة كل الإمكانيات الممكنة وحشد قوات ضخمة، وصل مجموعها إلى أكثر من 100 ألف مقاتل، بين جيش وشرطة وقوات كردية (البيشمركة) وحشد عشائري سني، ويمثل الحشد الشعبي كمقاتلين عقديين عصبها الأساسي، وتحظى هذه الجحافل بإسناد جوي ولوجستي من 68 دولة، هم مجموع الدول المشكلة للتحالف الدولي لمحاربة التنظيم، يضاف إليهم حوالي 5000 جندي أمريكي يعملون في الخطوط الخلفية للقوات المهاجمة كمستشارين وخبراء عسكريين، بينما تُقدر أعداد عناصر التنظيم داخل المدينة ب 10 آلاف مقاتل وربما أكثر.روبعد 9 أشهر من المعارك الطاحنة أعلن حيدر العبادي عن انتهاء المعركة والسيطرة على كل أحياء المدينة، كما نشرت وكالة أعماق مقطعا مرئيًّا يظهر ما تبقى من عناصره وهم يقاتلون "حتى الرمق الأخير"، في آخر أحياء الجانب الغربي من الموصل. سنحاول في هذه المقالة رصد الثغرات التي اكتنفت تكتيكات تنظيم الدولة وهو يحاول تأخير موعد سقوط عاصمته، وأخطاءه الإستراتيجية التي عصفت بوجوده وأعادته كما كان؛ تنظيمًا صغيرًا يلوذ بصحراء الأنبار، بل أسوأ مما كان بعدما بدد رصيده من الشرعية كمدافع عن سنة العراق، وكمكون من مكونات المقاومة العراقية، بسبب ما ارتكبه بحق المسلمين السنة -قبل غيرهم- في كل من العراق وسوريا وغيرها من البلدان التي امتد إليها سلطانه. ويمكن فرز هذه الأخطاء والثغرات إلى أخطاء على الصعيد العسكري والسياسي والإعلامي والاجتماعي. 1) على الصعيد العسكري: أعطى التنظيم أهمية كبرى لمعركة الموصل وخصص لها القسط الأكبر من موارده المالية والبشرية، وألقى بكل ثقله العسكري فيها، واعتبرها معركة مصيرية لا ينبغي له أن ينهزم فيها، ولذلك عندما خسر التنظيم الموصل تداعت معاقله الأخرى بسهولة، مثل تلعفر في العراق، ودير الزور والرقة في سوريا. كان واضحًا منذ اليوم الأول من المعركة أن تنظيم الدولة رصد معظم إمكانياته ومقدراته للمعركة، تجلى ذلك في قوافل السيارات المفخخة التي هاجم بها تجمعات الجيش العراقي، حيت وصل عددها مع دخول المعركة شهرها التاسع حوالي 482 مفخخة(1)، كما سحب التنظيم سلاحه الثقيل إلى داخل المدينة واستقدم إليها النخبة المدربة من قواته، وعندما استنزفت هذه القوات، دفع التنظيم بكوادره إلى ساحة المعركة حيت ظهر أطباء ومهندسون وإعلاميون وهم يقودون عرباتهم المفخخة(2). يُجمع الخبراء العسكريون أن إستراتيجية المواجهة المباشرة ومسك الأرض والجبهات الثابتة في ظل التفوق التقني والعسكري واللوجستي للخصم هو محض انتحار، وعندما أصر تنظيم الدولة على الاحتفاظ بمدينة كوباني (عين العرب) مع كثافة القصف الجوي بمختلف أنواع القنابل والصواريخ عُد ذلك انتحارًا جماعيًّا ومحرقة لعناصر التنظيم(3). وتكرر نفس السيناريو في مدينة الموصل، لقد خالف التنظيم أهم مبادئ الحرب وتعليمات كبار المنظرين العسكريين ومن هذه المبادئ: مبدأ الاقتصاد بالجهد: ويستهدف الحصول على أفضل النتائج بأقل جهد من القوات، وتظهر قيمة مبدأ الاقتصاد بالقوات، حين يكون اتساع الجبهة كبيرًا جدًّا بالمقارنة مع حجم القوات، أو عندما يكون العدو متفوقًا استراتيجيًّا(4). مبدأ المبادرة: ويعني عدم الجمود في تكتيكات أثبتت التجربة عدم جدواها، ولذلك فإن الانسحاب أمام ظروف غير مواتية هو عملية مبادرة بالرغم من أنه يبدو في الظاهر تراجعًا اضطراريًّا. وقد يفهم من المبادرة أنها عملية البدء أولًا لكن هذا شكل من أشكالها، فهي بمعناها الواسع تعني حسن التصرف ضمن الحالة المعطاة(5). مبدأ تركيز القوات: وهو مبدأ مكمل للمبدأ الأول وليس مناقضًا له(6)، ويعني عدم بعثرة الجهود في معارك متفرقة وجبهات ممتدة كان بالإمكان تحييدها أو تأجيلها، عكس ما فعله تنظيم الدولة، الذي قاتل العشائر السنية والفصائل السورية والأكراد والأيزيديين وقوات النظام والقوات التركية في وقت واحد فقط في سوريا والعراق، ناهيك عن الأقطار الأخرى. 2) على الصعيد السياسي: رغم مظلومية سنة العراق وعدالة قضيتهم، وهم يواجهون القتل والتهميش والتهجير الممنهج، إلا أن تنظيم الدولة لم يستفد من هذه المظلومية إلا بالقدر الذي يسمح له بحشد المزيد من سنة العراق خلف مشاريعه ومخططاته، بينما استغل خصومه قضية الأيزيديين وما ارتكبه التنظيم بحقهم ليجعلوا من معركتهم ضده قضية إنسانية عادلة، لقد عارض التنظيم أي خطاب سياسي مطمئن لمحيطه الإقليمي ولبعض دول الجوار، واعتبر ذلك "مداهنة" و"إقرارا بحكم الطواغيت"، ولم يحسن بالمرة اللعب على تناقضات المشهد السياسي العالمي، بل تفنن عبر أساليب ذبح وقتل الأجانب في استعداء دول العالم كافة، لقد كان دومًا كسب الرأي العام العالمي هدفًا أساسيًّا من أهداف حروب العصابات وحروب التحرير الشعبية. 3) على الصعيد الإعلامي: كانت التغطية الإعلامية التي خصصها التنظيم لمعركة الموصل كثيفة ومتقنة عبر عشرات الإصدارات والمقاطع المرئية التي تظهر استماتته عناصره في القتال، وقوافل سياراته المفخخة وهي تستهدف تجمعات القوات المهاجمة، إعلام وإن غذى الروح المعنوية عند عناصره إلا أنه لم يوصل رسالتهم إلى العالم، إن الدور الذي يقوم به الإعلام العالمي لا يمكن أن يقوم به إعلام التنظيم وإن كان في غاية الاحترافية ويتحدث بكل اللغات. شهدت معركة الموصل مقتلة هائلة في صفوف المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ لكن وبما أن التنظيم يرفض دخول الصحفيين الأجانب إلى مناطقه ويقطع رؤوسهم في أفلامه المرئية، فإن أولئك المدنيين لم يجدوا من ينقل معاناتهم إلى العالم. كان يمكن لمشاهد القتل والدمار وعمليات الإعدام التي ينفذها الحشد الشعبي ومشاهد الأطفال المقطعة أوصالهم أن تكون مادة لكسب الرأي العام العالي وتعاطف أحرار العالم، ولعنة تلاحق مجرمي الحرب الذين ارتكبوها، وربما تكون أدلة في محاكمات دولية لاحقة. إن كسب الإعلام العالمي الحر وتوفير الإمكانيات والضمانات اللازمة لممارسة دوره يعني فتح آفاق أرحب لقضيتك وترسيخًا لعدالتها أو على الأقل هو حرمان لخصمك من أحد أسلحته. 4) على الصعيد الاجتماعي: يعتبر العمق الاجتماعي والامتداد الشعبي روح الحركات الثورية، إذ لا يمكن أن تستنبت فكرة ثورية في بيئة اجتماعية معادية لمبادئ الثورة وشعاراتها، هل يمكن مثلًا أن تذهب إلى الجنوب العراقي لتنادي هناك بمظلومية السنة! وهل يمكن أن تذهب إلى مناطق العلويين في سوريا لتنادي بالثورة ضد بشار! كان تنظيم الدولة يحظى بدعم شعبي خصوصًا من سنة العراق؛ لكن إذلاله وتهميشه لعشائر العراق ووجهائه قوض ذلك الدعم وتلك الحاضنة الشعبية التي كانت ترفده بالرجال والموارد، وفي سوريا نفذ التنظيم جرائمه ضد كل شرائح المجتمع وطبقاته، وذبح كل رجال عشيرة الشعيطات في دير الزور إلا من استطاع الفرار منهم، ولذا فقد انهارت قواته في دير الزور لأنها معزولة اجتماعيًّا ومكشوفة شعبيًّا، ولأن عناصره يخافون من انتقام أهالي الضحايا الذين قتلهم؛ فالحاضنة الشعبية بالنسبة للحركات الثورية كالماء بالنسبة للسمكة. ــــــــــــــــــــ (1) صحيفة النبأ الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية العدد 89 (2) وثق التنظيم ذلك في إصداره المرئي " فرسان الدواوين" و"موكب النور" وغيرهما. (3) اعترف بعض قادة التنظيم بذلك في شهاداتهم التي نُشرت مؤخرا، مثل : زفرات الدولة الموءودة، أبو عبد الملك الشامي: https://justpaste.it/1aovf (4) الإستراتيجية والتكتيك في علم فن الحرب، منير شفيق، ص: 114 (5) الإستراتيجية والتكتيك في علم فن الحرب، منير شفيق، ص: 137
لهذا هُزم تنظيم الدولة الإسلامية
عبدالغني مزوز

لا تكمن أهمية معركة الموصل في كونها تجري في عقر دار "الخلافة" التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية؛ بل أيضًا في كونها ميدان اختبار لعدد من التكتيكات الحربية والأساليب القتالية، وامتحانًا لجدوى الإستراتيجية التي تبناها تنظيم الدولة منذ عودته من الصحراء أثناء فعاليات الربيع العراقي في 2011، واستهلها بالسيطرة على عدد من المدن في العراق ثم السورية، وتوجها بإحكام قبضته على مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، إستراتيجية شكل التمدد المكاني ومسك الأرض جوهرها الأساسي معلنًا بذلك انتهاء مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك"، وبداية مرحلة التأسيس الفعلي للدولة كما عرفتها قواميس السياسية والاجتماع.

يرى العديد من الخبراء والمراقبين أن تنظيم الدولة خاض معركة الموصل ببسالة، وبروح قتالية عالية، ما جعل من معركة الموصل أطول معارك المدن في التاريخ الحديث (معركة فردان في الحرب العالمية الأولى استمرت 9 أشهر، معركة ستالينجراد استمرت 5 أشهر، معركة برلين في الحرب العالمية الثانية استمرت 14 يوما)، لكن ورغم استماتة التنظيم في الدفاع عن المدينة إلا أن سقوطها كان مسألة وقت قياسًا إلى التفاوت الهائل في حجم القوات والإمكانيات العسكرية واللوجستية بين القوات المهاجمة والعناصر المتحصنة بالمدينة، وأيضًا لاعتماد التنظيم إستراتيجية حربية عديمة الجدوى وتكيتكات قتالية أكدت تجارب سابقة عدم فعاليتها وأنها في أحسن أحوالها تؤخر الهزيمة ولا تمنع وقوعها.

أعلن حيدر العبادي عن انطلاق معركة الموصل في 17/10/2016 بعد تعبئة كل الإمكانيات الممكنة وحشد قوات ضخمة، وصل مجموعها إلى أكثر من 100 ألف مقاتل، بين جيش وشرطة وقوات كردية (البيشمركة) وحشد عشائري سني، ويمثل الحشد الشعبي كمقاتلين عقديين عصبها الأساسي، وتحظى هذه الجحافل بإسناد جوي ولوجستي من 68 دولة، هم مجموع الدول المشكلة للتحالف الدولي لمحاربة التنظيم، يضاف إليهم حوالي 5000 جندي أمريكي يعملون في الخطوط الخلفية للقوات المهاجمة كمستشارين وخبراء عسكريين، بينما تُقدر أعداد عناصر التنظيم داخل المدينة ب 10 آلاف مقاتل وربما أكثر.روبعد 9 أشهر من المعارك الطاحنة أعلن حيدر العبادي عن انتهاء المعركة والسيطرة على كل أحياء المدينة، كما نشرت وكالة أعماق مقطعا مرئيًّا يظهر ما تبقى من عناصره وهم يقاتلون "حتى الرمق الأخير"، في آخر أحياء الجانب الغربي من الموصل.

سنحاول في هذه المقالة رصد الثغرات التي اكتنفت تكتيكات تنظيم الدولة وهو يحاول تأخير موعد سقوط عاصمته، وأخطاءه الإستراتيجية التي عصفت بوجوده وأعادته كما كان؛ تنظيمًا صغيرًا يلوذ بصحراء الأنبار، بل أسوأ مما كان بعدما بدد رصيده من الشرعية كمدافع عن سنة العراق، وكمكون من مكونات المقاومة العراقية، بسبب ما ارتكبه بحق المسلمين السنة -قبل غيرهم- في كل من العراق وسوريا وغيرها من البلدان التي امتد إليها سلطانه. ويمكن فرز هذه الأخطاء والثغرات إلى أخطاء على الصعيد العسكري والسياسي والإعلامي والاجتماعي.

1) على الصعيد العسكري:
أعطى التنظيم أهمية كبرى لمعركة الموصل وخصص لها القسط الأكبر من موارده المالية والبشرية، وألقى بكل ثقله العسكري فيها، واعتبرها معركة مصيرية لا ينبغي له أن ينهزم فيها، ولذلك عندما خسر التنظيم الموصل تداعت معاقله الأخرى بسهولة، مثل تلعفر في العراق، ودير الزور والرقة في سوريا. كان واضحًا منذ اليوم الأول من المعركة أن تنظيم الدولة رصد معظم إمكانياته ومقدراته للمعركة، تجلى ذلك في قوافل السيارات المفخخة التي هاجم بها تجمعات الجيش العراقي، حيت وصل عددها مع دخول المعركة شهرها التاسع حوالي 482 مفخخة(1)، كما سحب التنظيم سلاحه الثقيل إلى داخل المدينة واستقدم إليها النخبة المدربة من قواته، وعندما استنزفت هذه القوات، دفع التنظيم بكوادره إلى ساحة المعركة حيت ظهر أطباء ومهندسون وإعلاميون وهم يقودون عرباتهم المفخخة(2).

يُجمع الخبراء العسكريون أن إستراتيجية المواجهة المباشرة ومسك الأرض والجبهات الثابتة في ظل التفوق التقني والعسكري واللوجستي للخصم هو محض انتحار، وعندما أصر تنظيم الدولة على الاحتفاظ بمدينة كوباني (عين العرب) مع كثافة القصف الجوي بمختلف أنواع القنابل والصواريخ عُد ذلك انتحارًا جماعيًّا ومحرقة لعناصر التنظيم(3). وتكرر نفس السيناريو في مدينة الموصل، لقد خالف التنظيم أهم مبادئ الحرب وتعليمات كبار المنظرين العسكريين ومن هذه المبادئ:
مبدأ الاقتصاد بالجهد: ويستهدف الحصول على أفضل النتائج بأقل جهد من القوات، وتظهر قيمة مبدأ الاقتصاد بالقوات، حين يكون اتساع الجبهة كبيرًا جدًّا بالمقارنة مع حجم القوات، أو عندما يكون العدو متفوقًا استراتيجيًّا(4).

مبدأ المبادرة: ويعني عدم الجمود في تكتيكات أثبتت التجربة عدم جدواها، ولذلك فإن الانسحاب أمام ظروف غير مواتية هو عملية مبادرة بالرغم من أنه يبدو في الظاهر تراجعًا اضطراريًّا. وقد يفهم من المبادرة أنها عملية البدء أولًا لكن هذا شكل من أشكالها، فهي بمعناها الواسع تعني حسن التصرف ضمن الحالة المعطاة(5).

مبدأ تركيز القوات: وهو مبدأ مكمل للمبدأ الأول وليس مناقضًا له(6)، ويعني عدم بعثرة الجهود في معارك متفرقة وجبهات ممتدة كان بالإمكان تحييدها أو تأجيلها، عكس ما فعله تنظيم الدولة، الذي قاتل العشائر السنية والفصائل السورية والأكراد والأيزيديين وقوات النظام والقوات التركية في وقت واحد فقط في سوريا والعراق، ناهيك عن الأقطار الأخرى.

2) على الصعيد السياسي:
رغم مظلومية سنة العراق وعدالة قضيتهم، وهم يواجهون القتل والتهميش والتهجير الممنهج، إلا أن تنظيم الدولة لم يستفد من هذه المظلومية إلا بالقدر الذي يسمح له بحشد المزيد من سنة العراق خلف مشاريعه ومخططاته، بينما استغل خصومه قضية الأيزيديين وما ارتكبه التنظيم بحقهم ليجعلوا من معركتهم ضده قضية إنسانية عادلة، لقد عارض التنظيم أي خطاب سياسي مطمئن لمحيطه الإقليمي ولبعض دول الجوار، واعتبر ذلك "مداهنة" و"إقرارا بحكم الطواغيت"، ولم يحسن بالمرة اللعب على تناقضات المشهد السياسي العالمي، بل تفنن عبر أساليب ذبح وقتل الأجانب في استعداء دول العالم كافة، لقد كان دومًا كسب الرأي العام العالمي هدفًا أساسيًّا من أهداف حروب العصابات وحروب التحرير الشعبية.

3) على الصعيد الإعلامي:
كانت التغطية الإعلامية التي خصصها التنظيم لمعركة الموصل كثيفة ومتقنة عبر عشرات الإصدارات والمقاطع المرئية التي تظهر استماتته عناصره في القتال، وقوافل سياراته المفخخة وهي تستهدف تجمعات القوات المهاجمة، إعلام وإن غذى الروح المعنوية عند عناصره إلا أنه لم يوصل رسالتهم إلى العالم، إن الدور الذي يقوم به الإعلام العالمي لا يمكن أن يقوم به إعلام التنظيم وإن كان في غاية الاحترافية ويتحدث بكل اللغات. شهدت معركة الموصل مقتلة هائلة في صفوف المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ لكن وبما أن التنظيم يرفض دخول الصحفيين الأجانب إلى مناطقه ويقطع رؤوسهم في أفلامه المرئية، فإن أولئك المدنيين لم يجدوا من ينقل معاناتهم إلى العالم. كان يمكن لمشاهد القتل والدمار وعمليات الإعدام التي ينفذها الحشد الشعبي ومشاهد الأطفال المقطعة أوصالهم أن تكون مادة لكسب الرأي العام العالي وتعاطف أحرار العالم، ولعنة تلاحق مجرمي الحرب الذين ارتكبوها، وربما تكون أدلة في محاكمات دولية لاحقة. إن كسب الإعلام العالمي الحر وتوفير الإمكانيات والضمانات اللازمة لممارسة دوره يعني فتح آفاق أرحب لقضيتك وترسيخًا لعدالتها أو على الأقل هو حرمان لخصمك من أحد أسلحته.

4) على الصعيد الاجتماعي:
يعتبر العمق الاجتماعي والامتداد الشعبي روح الحركات الثورية، إذ لا يمكن أن تستنبت فكرة ثورية في بيئة اجتماعية معادية لمبادئ الثورة وشعاراتها، هل يمكن مثلًا أن تذهب إلى الجنوب العراقي لتنادي هناك بمظلومية السنة! وهل يمكن أن تذهب إلى مناطق العلويين في سوريا لتنادي بالثورة ضد بشار! كان تنظيم الدولة يحظى بدعم شعبي خصوصًا من سنة العراق؛ لكن إذلاله وتهميشه لعشائر العراق ووجهائه قوض ذلك الدعم وتلك الحاضنة الشعبية التي كانت ترفده بالرجال والموارد، وفي سوريا نفذ التنظيم جرائمه ضد كل شرائح المجتمع وطبقاته، وذبح كل رجال عشيرة الشعيطات في دير الزور إلا من استطاع الفرار منهم، ولذا فقد انهارت قواته في دير الزور لأنها معزولة اجتماعيًّا ومكشوفة شعبيًّا، ولأن عناصره يخافون من انتقام أهالي الضحايا الذين قتلهم؛ فالحاضنة الشعبية بالنسبة للحركات الثورية كالماء بالنسبة للسمكة.

ــــــــــــــــــــ
(1) صحيفة النبأ الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية العدد 89
(2) وثق التنظيم ذلك في إصداره المرئي " فرسان الدواوين" و"موكب النور" وغيرهما.
(3) اعترف بعض قادة التنظيم بذلك في شهاداتهم التي نُشرت مؤخرا، مثل : زفرات الدولة الموءودة، أبو عبد الملك الشامي: https://justpaste.it/1aovf
(4) الإستراتيجية والتكتيك في علم فن الحرب، منير شفيق، ص: 114
(5) الإستراتيجية والتكتيك في علم فن الحرب، منير شفيق، ص: 137
‏١٩‏/١٠‏/٢٠١٧ ٦:٥٩ م‏
هل تكفي الأساليب العسكرية للنصر؟ م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] يخطف بريق الأساليب العسكرية المتطورة والانتصارات التكتيكية الجريئة للدول والجماعات والتنظيمات عقول المتابعين، وكثيرًا ما يذهلهم عن رؤية الحقائق الاستراتيجية المعاكسة التي تظهر بمضي الوقت، والتي تكشف عن فشل مدوي في استثمار النجاحات الميدانية لتحقيق الأهداف السياسية المرجوة. وبالمثال يتضح المقال: فأميركا بأساليبها العسكرية المتطورة نجحت في غزو أفغانستان والعراق مطلع الألفية الحالية(1)، وأزاحت حركة طالبان ونظام صدام البعثي عن سدة الحكم بأقل قدر من الخسائر في صفوف جنودها، ولكنها سرعان ما (وجدت نفسها أبعد ما تكون عن توجيه ضربة ساحقة لتنظيم القاعدة، بل وجدت نفسها تنزلق إلى مستنقع كارثي)(2) في البلدين، تكبدت خلاله خسائر فادحة بشريا واقتصاديا، وفشلت في الخروج من الحربين بنتائج ذات قيمة سياسية. إثر ذلك اهتم الباحثون الغربيون بدراسة أسباب فشل الاستراتيجية الأميركية في البلدين للخروج بدروس مستفادة تساعد على النجاح فيما يسمى (الحرب ضد الإرهاب). ومن بين تلك الدراسات كتاب: (الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) الذي دونه البريطاني (جون ستون)(3) معتمدا في جوهره على أطروحات المنظر البروسي كلاوزفيت(4). في هذا المقال نسعى لتحديد تعريفات (كلاوزفيتز وجون ستون) للحرب والاستراتيجية والأسلوب العسكري، ثم نتتبع معهما أسباب فشل مشروع نابليون الإمبراطوري، ونواصل مع (ستون) عرضه لأسباب انهيار المشروع التوسعي الألماني نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعلاقة ذلك بتعثر المشاريع التوسعية الأمريكية المعاصرة، ثم نذكر خلاصة توصيات (ستون) بخصوص كيفية الانتصار في الحرب على الإرهاب. *تعريفات مهمة الحرب: عبارة عن (عمل من أعمال القوة لإجبار العدو على تنفيذ مشيئتنا)(5)، وهى في جوهرها (سياسة تدار بخوض المعارك لا بإرسال المذكرات الدبلوماسية)(6)، ومن ثم يؤكد كلاوزفيتز على أن ( السياسة هى التي تنشئ الحرب، فهى العقل الموجه، بينما الحرب مجرد آلة ، لذلك لابد من إخضاع وجهة النظر العسكرية للسياسية)(7). الاستراتيجية العسكرية : (هى العملية التي تُترجم من خلالها القوة المسلحة إلى نتائج سياسية مستهدفة)(8). ومن ثم فإنها عمل سياسي يستلزم النجاح فيه ممارسة حسن تقدير الأمور لمعرفة أي القرارات أكثر أهمية. ويحتاج الاستراتيجي في صوغ نظريته إلى أن يدرك دوافع عدوه لخوض الحرب ومدى قوة تلك الدوافع. فأشد القوى فتكا وتفوقا في الوسائل الفنية يمكن أن تكون دون قيمة بل وضارة بالأهداف السياسية إذا لم يفهم أصحابها أعداءهم بصورة دقيقة. الأسلوب العسكري(9): هو الحقائق الفنية والممارسات والمفاهيم المتعلقة بالاستخدام الكفء للقوة، ويشمل الأسلحة والمعدات والمسؤولين عن تشغيلها والنظريات التكتيكية لعملها . ودوره يتمثل في الاستخدام الكفء للقوات لتجاوز العقبات التي تحد من فعالية العمل العسكري كالمصادفات -من قبيل تعطل بعض المعدات المهمة والظروف الجوية المعاكسة -وكالإخفاقات المعنوية مثل إحساس الجنود بالخوف أو التعب . يهدف أسلوب الحرب لتدمير وسائل مقاومة العدو بأسرع ما يمكن ، مع مراعاة ألا تزيد كفة تكاليف الحرب على كفة فوائد النصر، وإلا تصبح الحرب غير مجدية. ولكن عمليا فأن السعي لتجنب تكاليف باهظة للنصر يقزم الأهداف الاستراتيجية للحرب ويجعلها أكثر تواضعا، فتكتفي بتدمير جزء من وسائل مقاومة العدو مع الابقاء على التهديد بتدمير الباقي عند اللزوم وذلك للنيل من إرادة الخصم، وإقناعه بأنه لن ينال من مواصلة القتال سوى مزيد من الخسائر دون طائل. عقب تلك التعريفات التأسيسية سنتناول المشروعين التوسعيين لفرنسا وألمانيا في القرنين الأخيرين: (الثورة الفرنسية ونابليون)(10): اعتمدت الحروب في أوربا قبل الثورة الفرنسية على المناورات بالجيوش لوضع الخصم في وضع ميداني صعب لا يسعه فيه إلا الانسحاب أو قبول التفاوض وإنهاء الصراع دون اشتباك دموي قدر الإمكان ، فيقول ((المارشال (دي ساكس - ت 1750) : أنا مقتنع تماما بقدرة القائد الجيد على خوض الحرب طول عمره دون الاضطرار لخوض معركة واحدة)) . أما بعد الثورة أصبحت نهاية الحروب تفرض من خلال التدمير العسكري الكلي أو الجزئي لقوات الخصم بدلا من المناورات الميدانية، كما حدث توسع في تجنيد المواطنين، وتضخمت أعداد الجيوش فصار تعداد (جيش نابليون يترواح بين 100 ألف إلى 200 ألف رجل)(11)، بينما كان تعداد الجيوش الأوربية قبل الثورة ما بين (30-40) ألف رجل. بل وشن نابليون حملته على روسيا عام 1812 بجيش يبلغ تعداده 600 ألف رجل. هذا التطور في الأساليب العسكرية حدث كأحد تداعيات التطورات السياسية التي حصلت آنذاك ، فقد قضت الثورة على الإجماع السياسي الأوربي المتفق على مشروعية النظام الملكي، ولم تعد المعارك مجرد صراعات محدودة على مقاعد الحكم بين العائلات الملكية الأوربية بل صارت أقرب لمعارك الوجود المستندة إلى خلافات أيدلوجية. ورغم تميز الأسلوب العسكري لنابليون وقدرته على حشد قواته في أفضل الظروف المتاحة إلا أنه كان شخص ضعيف استراتيجيا يفتقر إلى حسن التقدير اللازم لمعرفة الحدود السياسية التي يعجز أسلوبه العسكري عند تجاوزها عن تأمين بقائه في السلطة، فطموحه السياسي لفرض الهيمنة على أوربا أدى إلى تحشيد القوى المعارضة له في جبهة مضادة باعتبار أن تكاليف التعايش معه أفدح من تكاليف التصدي لمشاريعه التوسعية، مما أدى إلى هزيمته في النهاية. الاستراتيجية في بروسيا وألمانيا في القرن التاسع عشر(12) تمكن (بسمارك) من تنفيذ استراتيجيته(13) لتوحيد ألمانيا(14) إثر تمكنه من إخضاع قرارات الجيش البروسي للإعتبارات السياسية الأوسع مما منع (تحول مشروع تحويل بروسيا إلى امبراطورية ألمانية) إلى حرب ذات مردود عكسي تستنفر الدول الأخرى للقضاء عليه. ثم أدى عزل بسمارك عام 1890 وتبني القيصر (فيلهلم الثاني)(15) لاستراتيجية تستند على تطوير الكفاءة الفنية العسكرية للجيش الألماني وتتجاهل حساب الاعتبارات السياسية الأوسع إلى تشكيل تحالف فرنسي روسي ضد ألمانيا، ولم ينجح رهان القيصر على قدرة جيشه على شن هجوم خاطف يحسم الصراع ضد خصومه في الحرب العالمية الأولى ، إذ فشل هجومه إثر المقاومة القوية التي أبداها الجيشان البلجيكي والفرنسي ، فسقطت ألمانيا ضحية تحالف أكبر منها ساهمت في تكوينه ضدها باستهانتها بالبعد السياسي للاستراتيجية. الحرب العالمية على الإرهاب رجح التورط الأميركي المتدرج(16) بفيتنام الرأي القائل بعدم صواب التصعيد المتدرج للقوة ، والداعي بدلا من ذلك لتجريد العدو من أسلحته بأسرع ما يمكن ، وهو الرأي الذي نظر له كلاوزفيتز باستفاضة في عدة مواضع من كتابه (عن الحرب) ، ثم دعمت حرب العراق عام 1991 هذا الرأي مما جعل الاستراتيجية الأمريكية تركز على الاهتمام بالجانب الفني والاستخدام الأمثل للقوة، ولكنها تغاضت عن جوهر نظرية كلاوزفيتز التي ركزت على أهمية البعد السياسي للحرب. ومن ثم فشل الإعتماد الأميركي على الأسلوب العسكري المتطور وحده في هزيمة التنظيمات الجهادية عقب أحداث سبتمبر ، إذ أدى استخدام القوة بصورة مفرطة إلى إحداث مشكلات أكثر مما تسبب في تقديم الحلول ، مما دفع إلى الاهتمام باستراتيجيات مكافحة التمرد التي تعتمد على كسب قلوب وعقول السكان والحد من الخسائر في صفوفهم كي يوفروا معلومات ضرورية عن هوية الخصوم بدلا من مساعدتهم لهم. خلاصات وتوصيات (جون ستون) ذكر (ستون) أن استراتيجية بوش (من ليس معنا فهو ضدنا) لم تجد نفعا في بيئة معقدة مثل الشرق الأوسط وأثبتت فشلها في الإعتماد على القوة العسكرية وحدها لحل المشاكل السياسية مهما بلغت درجة تعقيداتها . ومن ثم فلابد من الموازنة بين مخاطر اتخاذ تدابير غير كافية لصد التهديدات الناشئة ومخاطر اتخاذ تدابير مبالغ فيها تؤدي إلى خلق مشكلات أكثر مما تحل ، وأكد على أهمية فهم الحدود التي يؤدي استخدام القوة بعدها إلى نتائج سياسية عكسية. وذكر أن النجاح في ذلك يعتمد على حسن التقدير المبني على فهم دقيق للخصوم. ومن ثم يمكننا القول بأن إدارة أوباما تعلمت من دروس فشل إدارة بوش في العراق وأفغانستان، فاعتمدت على الحروب بالوكالة وإثارة النزاعات الطائفية والعرقية ، ومن ثم تركت مساحة للتمدد الرافضي في المنطقة بل ودعمته باعتباره الأقدر على تحقيق الاستراتيجية الأمريكية في حصار المسلمين السنة وتقليم أظافرهم دون التورط في حروب مباشرة معهم تدمي الطرفين، كما استغلت أميركا المظلومية الكردية ، ودعمت الأحزاب العلمانية الكردية دعما غير مسبوق لتكون بمثابة حائط صد أولا ضد هجمات تنظيم الدولة في العراق والشام ثم طورت ذلك إلى الهجوم على مناطق تواجد التنظيم، أي أنها أخضعت الاستراتيجيات العسكرية الفنية للإعتبارات السياسية كي تحقق أهدافها المرجوة. وهو ما يؤكد أن الأساليب العسكرية المتطورة لا تكفي وحدها لجلب الانتصارات. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش انتهاء العمليات الحربية في العراق في مايو 2003، وبلغ عدد القتلى من الجيش الأميركي آنذاك 127 قتيل، ثم سرعان ما بدأت الحرب الحقيقية على يد الجماعات الجهادية وحركات المقاومة فبلغ عدد القتلى الأمريكيين 4 آلاف قتيل. (2) جون ستون (الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) – ص11- ط . مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية – عام 2014. (3) محاضر أول في قسم دراسات الحرب في جامعة (king's college) في لندن. (4) كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831) جنرال بروسي ألف عددا من الكتب من أبرزها كتاب (عن الحرب) الذي يعد من أشمل كتب الاستراتيجيات العسكرية ويتكون من 8 كتب تناول فيها (طبيعة الحرب ، ونظريتها والاستراتيجية، والاشتباك، والقوات العسكرية، والدفاع، والهجوم، وخطط الحرب). (5) كلاوزفيتز – عن الحرب – ص103- ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عام 1997. (6) المصدر السابق ص 834. (7) المصدر السابق ص 838. (8) جون ستون – ( الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) – ص14. (9) المصدر السابق – ص(19-21). (10) للمزيد انظر فصل (الثورة الفرنسية ونابليون) من كتاب (الاستراتيجية العسكرية ) لجون ستون ، والكتاب الثامن بعنوان ( خطط الحرب ) في كتاب كلاوزفيتز (عن الحرب). (11) كلاوزفيتز – عن الحرب – ص428. (12) للمزيد انظر فصل (الاستراتيجية في بروسيا وألمانيا في القرن التاسع عشر) من كتاب (الاستراتيجية العسكرية ) لجون ستون. (13) أتو بسمارك ( 1815- 1898) تولى منصب رئيس وزراء بروسيا، وتمكن من توحيد الولايات الألمانية ليصير أول مستشار لألمانيا الاتحادية إلى أن عزله فيلهلهم الثاني عام 1890. (14) نشأت الإمبراطورية الألمانية عام 1871 إثر تمكن مملكة (بروسيا) من توحيد المدن والدول الألمانية المتناثرة. (15) فيلهلم الثاني ( 1859- 1941) قيصر ألمانيا منذ عام 1888 ، عزل من الحكم عام 1918 عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. (16) بدأت المساهمة الأمريكية في حرب فيتنام بعدد محدود من المستشارين العسكريين والمدربين ، ثم تزايدت تدريجيا حتى بلغت نصف مليون جندي.
هل تكفي الأساليب العسكرية للنصر؟

م. أحمد مولانا Mawlana

يخطف بريق الأساليب العسكرية المتطورة والانتصارات التكتيكية الجريئة للدول والجماعات والتنظيمات عقول المتابعين، وكثيرًا ما يذهلهم عن رؤية الحقائق الاستراتيجية المعاكسة التي تظهر بمضي الوقت، والتي تكشف عن فشل مدوي في استثمار النجاحات الميدانية لتحقيق الأهداف السياسية المرجوة.

وبالمثال يتضح المقال: فأميركا بأساليبها العسكرية المتطورة نجحت في غزو أفغانستان والعراق مطلع الألفية الحالية(1)، وأزاحت حركة طالبان ونظام صدام البعثي عن سدة الحكم بأقل قدر من الخسائر في صفوف جنودها، ولكنها سرعان ما (وجدت نفسها أبعد ما تكون عن توجيه ضربة ساحقة لتنظيم القاعدة، بل وجدت نفسها تنزلق إلى مستنقع كارثي)(2) في البلدين، تكبدت خلاله خسائر فادحة بشريا واقتصاديا، وفشلت في الخروج من الحربين بنتائج ذات قيمة سياسية.

إثر ذلك اهتم الباحثون الغربيون بدراسة أسباب فشل الاستراتيجية الأميركية في البلدين للخروج بدروس مستفادة تساعد على النجاح فيما يسمى (الحرب ضد الإرهاب). ومن بين تلك الدراسات كتاب: (الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) الذي دونه البريطاني (جون ستون)(3) معتمدا في جوهره على أطروحات المنظر البروسي كلاوزفيت(4).

في هذا المقال نسعى لتحديد تعريفات (كلاوزفيتز وجون ستون) للحرب والاستراتيجية والأسلوب العسكري، ثم نتتبع معهما أسباب فشل مشروع نابليون الإمبراطوري، ونواصل مع (ستون) عرضه لأسباب انهيار المشروع التوسعي الألماني نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعلاقة ذلك بتعثر المشاريع التوسعية الأمريكية المعاصرة، ثم نذكر خلاصة توصيات (ستون) بخصوص كيفية الانتصار في الحرب على الإرهاب.

*تعريفات مهمة

الحرب: عبارة عن (عمل من أعمال القوة لإجبار العدو على تنفيذ مشيئتنا)(5)، وهى في جوهرها (سياسة تدار بخوض المعارك لا بإرسال المذكرات الدبلوماسية)(6)، ومن ثم يؤكد كلاوزفيتز على أن ( السياسة هى التي تنشئ الحرب، فهى العقل الموجه، بينما الحرب مجرد آلة ، لذلك لابد من إخضاع وجهة النظر العسكرية للسياسية)(7).

الاستراتيجية العسكرية : (هى العملية التي تُترجم من خلالها القوة المسلحة إلى نتائج سياسية مستهدفة)(8). ومن ثم فإنها عمل سياسي يستلزم النجاح فيه ممارسة حسن تقدير الأمور لمعرفة أي القرارات أكثر أهمية. ويحتاج الاستراتيجي في صوغ نظريته إلى أن يدرك دوافع عدوه لخوض الحرب ومدى قوة تلك الدوافع. فأشد القوى فتكا وتفوقا في الوسائل الفنية يمكن أن تكون دون قيمة بل وضارة بالأهداف السياسية إذا لم يفهم أصحابها أعداءهم بصورة دقيقة.

الأسلوب العسكري(9): هو الحقائق الفنية والممارسات والمفاهيم المتعلقة بالاستخدام الكفء للقوة، ويشمل الأسلحة والمعدات والمسؤولين عن تشغيلها والنظريات التكتيكية لعملها . ودوره يتمثل في الاستخدام الكفء للقوات لتجاوز العقبات التي تحد من فعالية العمل العسكري كالمصادفات -من قبيل تعطل بعض المعدات المهمة والظروف الجوية المعاكسة -وكالإخفاقات المعنوية مثل إحساس الجنود بالخوف أو التعب .

يهدف أسلوب الحرب لتدمير وسائل مقاومة العدو بأسرع ما يمكن ، مع مراعاة ألا تزيد كفة تكاليف الحرب على كفة فوائد النصر، وإلا تصبح الحرب غير مجدية. ولكن عمليا فأن السعي لتجنب تكاليف باهظة للنصر يقزم الأهداف الاستراتيجية للحرب ويجعلها أكثر تواضعا، فتكتفي بتدمير جزء من وسائل مقاومة العدو مع الابقاء على التهديد بتدمير الباقي عند اللزوم وذلك للنيل من إرادة الخصم، وإقناعه بأنه لن ينال من مواصلة القتال سوى مزيد من الخسائر دون طائل.

عقب تلك التعريفات التأسيسية سنتناول المشروعين التوسعيين لفرنسا وألمانيا في
القرنين الأخيرين:

(الثورة الفرنسية ونابليون)(10):
اعتمدت الحروب في أوربا قبل الثورة الفرنسية على المناورات بالجيوش لوضع الخصم في وضع ميداني صعب لا يسعه فيه إلا الانسحاب أو قبول التفاوض وإنهاء الصراع دون اشتباك دموي قدر الإمكان ، فيقول ((المارشال (دي ساكس - ت 1750) : أنا مقتنع تماما بقدرة القائد الجيد على خوض الحرب طول عمره دون الاضطرار لخوض معركة واحدة)) . أما بعد الثورة أصبحت نهاية الحروب تفرض من خلال التدمير العسكري الكلي أو الجزئي لقوات الخصم بدلا من المناورات الميدانية، كما حدث توسع في تجنيد المواطنين، وتضخمت أعداد الجيوش فصار تعداد (جيش نابليون يترواح بين 100 ألف إلى 200 ألف رجل)(11)، بينما كان تعداد الجيوش الأوربية قبل الثورة ما بين (30-40) ألف رجل. بل وشن نابليون حملته على روسيا عام 1812 بجيش يبلغ تعداده 600 ألف رجل.

هذا التطور في الأساليب العسكرية حدث كأحد تداعيات التطورات السياسية التي حصلت آنذاك ، فقد قضت الثورة على الإجماع السياسي الأوربي المتفق على مشروعية النظام الملكي، ولم تعد المعارك مجرد صراعات محدودة على مقاعد الحكم بين العائلات الملكية الأوربية بل صارت أقرب لمعارك الوجود المستندة إلى خلافات أيدلوجية.

ورغم تميز الأسلوب العسكري لنابليون وقدرته على حشد قواته في أفضل الظروف المتاحة إلا أنه كان شخص ضعيف استراتيجيا يفتقر إلى حسن التقدير اللازم لمعرفة الحدود السياسية التي يعجز أسلوبه العسكري عند تجاوزها عن تأمين بقائه في السلطة، فطموحه السياسي لفرض الهيمنة على أوربا أدى إلى تحشيد القوى المعارضة له في جبهة مضادة باعتبار أن تكاليف التعايش معه أفدح من تكاليف التصدي لمشاريعه التوسعية، مما أدى إلى هزيمته في النهاية.

الاستراتيجية في بروسيا وألمانيا في القرن التاسع عشر(12)
تمكن (بسمارك) من تنفيذ استراتيجيته(13) لتوحيد ألمانيا(14) إثر تمكنه من إخضاع قرارات الجيش البروسي للإعتبارات السياسية الأوسع مما منع (تحول مشروع تحويل بروسيا إلى امبراطورية ألمانية) إلى حرب ذات مردود عكسي تستنفر الدول الأخرى للقضاء عليه.

ثم أدى عزل بسمارك عام 1890 وتبني القيصر (فيلهلم الثاني)(15) لاستراتيجية تستند على تطوير الكفاءة الفنية العسكرية للجيش الألماني وتتجاهل حساب الاعتبارات السياسية الأوسع إلى تشكيل تحالف فرنسي روسي ضد ألمانيا، ولم ينجح رهان القيصر على قدرة جيشه على شن هجوم خاطف يحسم الصراع ضد خصومه في الحرب العالمية الأولى ، إذ فشل هجومه إثر المقاومة القوية التي أبداها الجيشان البلجيكي والفرنسي ، فسقطت ألمانيا ضحية تحالف أكبر منها ساهمت في تكوينه ضدها باستهانتها بالبعد السياسي للاستراتيجية.

الحرب العالمية على الإرهاب
رجح التورط الأميركي المتدرج(16) بفيتنام الرأي القائل بعدم صواب التصعيد المتدرج للقوة ، والداعي بدلا من ذلك لتجريد العدو من أسلحته بأسرع ما يمكن ، وهو الرأي الذي نظر له كلاوزفيتز باستفاضة في عدة مواضع من كتابه (عن الحرب) ، ثم دعمت حرب العراق عام 1991 هذا الرأي مما جعل الاستراتيجية الأمريكية تركز على الاهتمام بالجانب الفني والاستخدام الأمثل للقوة، ولكنها تغاضت عن جوهر نظرية كلاوزفيتز التي ركزت على أهمية البعد السياسي للحرب.

ومن ثم فشل الإعتماد الأميركي على الأسلوب العسكري المتطور وحده في هزيمة التنظيمات الجهادية عقب أحداث سبتمبر ، إذ أدى استخدام القوة بصورة مفرطة إلى إحداث مشكلات أكثر مما تسبب في تقديم الحلول ، مما دفع إلى الاهتمام باستراتيجيات مكافحة التمرد التي تعتمد على كسب قلوب وعقول السكان والحد من الخسائر في صفوفهم كي يوفروا معلومات ضرورية عن هوية الخصوم بدلا من مساعدتهم لهم.

خلاصات وتوصيات (جون ستون)
ذكر (ستون) أن استراتيجية بوش (من ليس معنا فهو ضدنا) لم تجد نفعا في بيئة معقدة مثل الشرق الأوسط وأثبتت فشلها في الإعتماد على القوة العسكرية وحدها لحل المشاكل السياسية مهما بلغت درجة تعقيداتها . ومن ثم فلابد من الموازنة بين مخاطر اتخاذ تدابير غير كافية لصد التهديدات الناشئة ومخاطر اتخاذ تدابير مبالغ فيها تؤدي إلى خلق مشكلات أكثر مما تحل ، وأكد على أهمية فهم الحدود التي يؤدي استخدام القوة بعدها إلى نتائج سياسية عكسية. وذكر أن النجاح في ذلك يعتمد على حسن التقدير المبني على فهم دقيق للخصوم.

ومن ثم يمكننا القول بأن إدارة أوباما تعلمت من دروس فشل إدارة بوش في العراق وأفغانستان، فاعتمدت على الحروب بالوكالة وإثارة النزاعات الطائفية والعرقية ، ومن ثم تركت مساحة للتمدد الرافضي في المنطقة بل ودعمته باعتباره الأقدر على تحقيق الاستراتيجية الأمريكية في حصار المسلمين السنة وتقليم أظافرهم دون التورط في حروب مباشرة معهم تدمي الطرفين، كما استغلت أميركا المظلومية الكردية ، ودعمت الأحزاب العلمانية الكردية دعما غير مسبوق لتكون بمثابة حائط صد أولا ضد هجمات تنظيم الدولة في العراق والشام ثم طورت ذلك إلى الهجوم على مناطق تواجد التنظيم، أي أنها أخضعت الاستراتيجيات العسكرية الفنية للإعتبارات السياسية كي تحقق أهدافها المرجوة. وهو ما يؤكد أن الأساليب العسكرية المتطورة لا تكفي وحدها لجلب الانتصارات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش انتهاء العمليات الحربية في العراق في مايو 2003، وبلغ عدد القتلى من الجيش الأميركي آنذاك 127 قتيل، ثم سرعان ما بدأت الحرب الحقيقية على يد الجماعات الجهادية وحركات المقاومة فبلغ عدد القتلى الأمريكيين 4 آلاف قتيل.
(2) جون ستون (الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) – ص11- ط . مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية – عام 2014.
(3) محاضر أول في قسم دراسات الحرب في جامعة (king's college) في لندن.
(4) كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831) جنرال بروسي ألف عددا من الكتب من أبرزها كتاب (عن الحرب) الذي يعد من أشمل كتب الاستراتيجيات العسكرية ويتكون من 8 كتب تناول فيها (طبيعة الحرب ، ونظريتها والاستراتيجية، والاشتباك، والقوات العسكرية، والدفاع، والهجوم، وخطط الحرب).
(5) كلاوزفيتز – عن الحرب – ص103- ط. المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عام 1997.
(6) المصدر السابق ص 834.
(7) المصدر السابق ص 838.
(8) جون ستون – ( الاستراتيجية العسكرية – سياسة وأسلوب الحرب) – ص14.
(9) المصدر السابق – ص(19-21).
(10) للمزيد انظر فصل (الثورة الفرنسية ونابليون) من كتاب (الاستراتيجية العسكرية ) لجون ستون ، والكتاب الثامن بعنوان ( خطط الحرب ) في كتاب كلاوزفيتز (عن الحرب).
(11) كلاوزفيتز – عن الحرب – ص428.
(12) للمزيد انظر فصل (الاستراتيجية في بروسيا وألمانيا في القرن التاسع عشر) من كتاب (الاستراتيجية العسكرية ) لجون ستون.
(13) أتو بسمارك ( 1815- 1898) تولى منصب رئيس وزراء بروسيا، وتمكن من توحيد الولايات الألمانية ليصير أول مستشار لألمانيا الاتحادية إلى أن عزله فيلهلهم الثاني عام 1890.
(14) نشأت الإمبراطورية الألمانية عام 1871 إثر تمكن مملكة (بروسيا) من توحيد المدن والدول الألمانية المتناثرة.
(15) فيلهلم الثاني ( 1859- 1941) قيصر ألمانيا منذ عام 1888 ، عزل من الحكم عام 1918 عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
(16) بدأت المساهمة الأمريكية في حرب فيتنام بعدد محدود من المستشارين العسكريين والمدربين ، ثم تزايدت تدريجيا حتى بلغت نصف مليون جندي.
‏١٧‏/١٠‏/٢٠١٧ ٧:٣٤ م‏
أخطاء أمنية قاتلة! @[520036614:2048:محمد إلهامي] لعل أكثر الأسئلة التي خطرت ببال أي مسلم هو: لماذا لم ننجح؟! وهو السؤال الذي يبحث عنه كل صاحب تخصص في تخصصه، ومن يطالع قصة وتجارب الحركات الإسلامية سيجد أن واحدا من أهم تلك الإجابات المتكررة في قصة هو: الأخطاء الأمنية! (1) بعد نهاية الجهاد الأفغاني وسقوط الاتحاد السوفيتي أعلن الأمريكان أن سياستهم الجديدة هي ملاحقة الإرهاب، تحول الشباب المجاهد في أفغانستان إلى إرهابيين ملاحقين في سائر دول العالم، وأعلنت سياسة إنهاء "الملاذات الآمنة" التي استهدفت تفعيل سائر أجهزة الأمن المحلية للقيام بدورها في تعقب الزعامات الجهادية عبر العالم. وعند إعلان أسامة بن لادن قيام تنظيم "قاعدة الجهاد" تحالفت معه جماعات أخرى كتنظيم الجهاد المصري والجماعة الإسلامية المصرية، فشمل المجهود الأمني العالمي تعقب سائر قيادات هؤلاء بلا هوادة، وألقي القبض على قياداتهم حول العالم من إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية والغربية معا. استقر بعض قادة الجماعة الإسلامية المصرية في إيران، حيث وفرت لهم الدولة إقامة محترمة وحراسة شخصية ومعاملة لائقة وكان لهم خط مفتوح مع صناع القرار، ومن بين هؤلاء الشيخ رفاعي طه رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وآخر من بقي حرا من الصف الأول للقيادات. وعلى الرغم من إعلان الجماعة الإسلامية بمصر وقف القتال من جانب واحد وبدء مسار المراجعات والمبادرات، إلا أن هذا لم يُفَعَّل لبقاء رفاعي طه حرا وهو ممن يرفض المراجعات. تحرك رفاعي طه من إيران إلى السودان في مهمة تنظيمية، بجواز سفر لا يحمل اسمه بطبيعة الحال، وصل من إيران إلى سوريا، أعفى حارسه الشخصي الإيراني من مهمة حراسته (فهو حارس، وفي الوقت نفسه رقيب)، واستعمل جوازا آخر سافر به إلى السودان، ثم عاد به من السودان إلى سوريا، ونزل في مبنى للسكن المفروش المؤقت. كانت لديه مشكلة بسيطة: زمن تأشيرته على الجواز الذي يستعمله في الخروج والدخول إلى إيران انتهى ويحتاج تجديده، فاتصل بأسرته في طهران وأخبرهم بأن يتواصلوا مع الأخ (فلان) ليُنجز المطلوب، فإن أنجزه فليتصل به على رقم الغرفة في المبنى الذي ينزل به. ما إن وضع سماعة الهاتف حتى انزعج وعاتب نفسه: لا بد أن هاتف بيته في طهران مراقب، وهو هكذا كشف عن مكان إقامته في سوريا بالتحديد. نزل به همٌّ شديد ولم يدر ماذا يفعل؟ فقرر ألا يبيت في مكانه، فذهب إلى صديق له بمخيم فلسطيني ليقضي عنده تلك الليلة ويستشيره فيما يفعل. عرض عليه صديقه أن يبيت عنده ولا يعود إلى السكن وهو سيرسل من عنده شابا يحزم الأمتعة ويعيدها إليه دون أن يتعرض هو للمخاطر. وبعد ليلة جيدة ذهب عنه الروع فيها، عنَّ للشيخ رفاعي أن يذهب بنفسه إلى السكن ليحزم بنفسه أمتعته، فمنها ما لا يحب أن يحزمها غيره، أصر عليه صديقه ليبقى تجنبا للخطر، وأصر هو على الذهاب بعدما زال الخوف عنه. بعد دخوله الغرفة بدقائق فوجئ بطرقات على الباب، رجلان يقولان أنهما من الشرطة السورية وأن هذا البيت صدر قرار بعدم تأجيره لمخالفات قانونية ارتكبها صاحبه، وحيث أن الضحية ضيف على البلد فإنهما سيصححان غلط المواطن السوري وسيصطحبان الضيف الزائر إلى مكان بديل. لم يقع شك في نفسه أنه قد وقع في المحظور وأنه في حكم المعتقل. ألح من جهته أن الأمر لا يستحق، وألحا من جهتهما أنه لا بد من تصحيحهما الخطأ، تركوه لدقائق يحزم أمتعته ثم ساقوه إلى سيارة أنزلته في جهاز الأمن بالعاصمة دمشق. عند بداية دخوله على المحقق وجد أن هويته قد انكشفت، خاطبه مباشرة باسمه: رفاعي أحمد طه، وبصفته: رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وحيث كان قرار القبض أمريكيا فلم تُجْدِ شيئا العلاقة الطيبة بينه وبين إيران. ومن جهاز الأمن إلى رحلة تحقيق وتعذيب لم تستمر طويلا، ثم خمسة عشر يوما في الحبس مع وعد بالإفراج القريب. بعد مناورات أمنية هدفت إلى إقناعه بأنهم سيُفرجون عنه، خرج من السجن معصوب العينين إلى سفينة مصرية عليها ضباط المخابرات المصرية، موهمين إياه أنه على سفينة أجنبية ستقله إلى دولة أوروبية، وأنه حين يخرج من المياه الإقليمية سيرفعون العصابة عن عينه والقيد عن يديه، ثم جرت تمثيلية أمنية هدف إلى إيهامه أن مجموعة مصرية اعترضت السفينة في البحر واختطفته منها، وأعيد إلى مصر (إبريل 2001م)، وقضى في السجن أحد عشر عاما، حتى خرج في (سبتمبر 2012م) في عهد الرئيس مرسي[ سمعت الحكاية من الشيخ رفاعي طه بنفسه، وقد التقيته في اسطنبول، 2015م.]. خطأ أمني كلف أحد عشر عاما من السجن! فضلا عن الآثار غير المحصورة لوقوع شخصية قيادية في الأسر وغيابها عن الواقع! (2) لعل أشهر وأخطر خطأ أمني في تاريخ الحركات الإسلامية هو ما عُرف بقضية السيارة الجيب، وبها سقط النظام الخاص للإخوان المسلمين، وهو الجهاز الذي استطاع الحفاظ على سريته وكفاءته مدة طويلة في ظروف عمل حرجة للغاية. تلك الضربة الكبيرة التي أسقطت أقوى حركة إسلامية في وقتها كانت نتيجة عدد من الأخطاء الصغيرة التي لا يُنتبه لها.. والقصة بدأت من أن طالبا في كلية الطب قد خصص غرفة من منزلة لتجميع أوراق ووثائق النظام الخاص (أسماء وتدريبات وتقارير ورصد أهداف... إلخ)، ثم اضطرته ظروف الدراسة إلى الانتقال من القاهرة إلى الإسكندرية فأفضى إلى مسؤوله بضرورة أخذ "العهدة": 1. كان الخطأ الأول هو التسويف في نقل العهدة، فقد ظل طالب الطب يُلح على أخذها وينبه لاقتراب الوقت، والمسؤول يسوف ويؤجل حتى لم يعد على سفره إلا يوم واحد. فأصدر المسؤول أمرا لأحمد عادل كمال أن ينقل تلك المحتويات اليوم بأي وسيلة من مكانها إلى مكان آخر آمن. 2. وجد أحمد عادل نفسه فجأة مسؤولا عن عمل خطير بلا أي أدوات، ولا تعليمات واضحة.. وبينما هو في حيرته "صادف" أحد إخوان النظام الخاص وقد اشترى سيارة جيب من مخلفات الجيش الإنجليزي، فعرض عليه نقل المحتويات بها فوافق.. إلا أن موتور السيارة كان ضعيفا ويتوقف أحيانا، كما أن الحمولة المراد نقلها كانت فوق طاقتها.. لكن لم يكن ثمة بديل. 3. لتضارب الترتيبات وفجائيتها تضاربت مواعيد اللقاء بين أحمد عادل كمال مسؤول عملية النقل وبين إبراهيم محمود صاحب المنزل الذي ستُنقل إليه الأوراق والوثائق، كانت المفاجأة التي لم يعرفها مسؤول عملية النقل أن إبراهيم يسكن في شقة مستأجرة بمنزل رجل يريد أن يُخرجه منها ليزوج ابنته فيها.. الزوج المنتظر هو مخبر في البوليس السياسي! فبينما هم يفرعون الحمولة في شقة إبراهيم رآهم المخبر وارتاب في محتويات الحمولة المنقولة، وهرع من فوره للإبلاغ عنها. 4. انتبه الناقلون إلى اختفائه المفاجئ، ومع العداوة القائمة بينه وبين صاحب الشقة كان سهلا أن يتوقعوا منه الشر، فأعادوا بسرعة نقل الأوراق والوثائق إلى السيارة الجيب من جديد ليبتعدوا بها.. إلا أن السيارة ذات الموتور الضعيف والتي كانت الحمولة فوق طاقتها لم تستجب للتشغيل ولم تَدُرْ وظلت راقدة في مكانها وهي تحمل أخطر وثائق لأخطر حركة في مصر كلها! 5. حضر المخبر فاكتشف أنهم يحاولون العودة، فصرخ عليهم وصرخ في الناس، فلم يجد أولئك بديلا إلا الهرب في الموقف الحرج.. فتركوا ما في السيارة وانطلقوا هاربين، إلا أن الناس أمسكت بهم، وأمسك المخبر بالسيارة الجيب ذات الكنز الهائل من الوثائق. ووقع في يد السلطة الملكية المصرية أسرار خطيرة ما كان لها أن تحصل عليها في يوم واحد! وهكذا انكشف النظام الخاص للإخوان المسلمين، والذي هو أنضج تجربة أمنية عسكرية لحركة إسلامية في مصر حتى وقتنا الحالي فيما نعلم. هاتان واقعتان فحسب يرصدهما من يقلب كتب التاريخ، لا في كتب الأمنيين ووثائقهم، ففي تلك الكتب مادة غزيرة لا شك، وتلك المواد لا بد لكل كيان ثوري وحركة تغييرية أن تدرسها بعمق وأن توظف خبرتها في تجربتها الخاصة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ((لتحميل العدد الجديد كاملًا: https://goo.gl/gYc5Jc))
أخطاء أمنية قاتلة!
محمد إلهامي

لعل أكثر الأسئلة التي خطرت ببال أي مسلم هو: لماذا لم ننجح؟! وهو السؤال الذي يبحث عنه كل صاحب تخصص في تخصصه، ومن يطالع قصة وتجارب الحركات الإسلامية سيجد أن واحدا من أهم تلك الإجابات المتكررة في قصة هو: الأخطاء الأمنية!

(1)
بعد نهاية الجهاد الأفغاني وسقوط الاتحاد السوفيتي أعلن الأمريكان أن سياستهم الجديدة هي ملاحقة الإرهاب، تحول الشباب المجاهد في أفغانستان إلى إرهابيين ملاحقين في سائر دول العالم، وأعلنت سياسة إنهاء "الملاذات الآمنة" التي استهدفت تفعيل سائر أجهزة الأمن المحلية للقيام بدورها في تعقب الزعامات الجهادية عبر العالم. وعند إعلان أسامة بن لادن قيام تنظيم "قاعدة الجهاد" تحالفت معه جماعات أخرى كتنظيم الجهاد المصري والجماعة الإسلامية المصرية، فشمل المجهود الأمني العالمي تعقب سائر قيادات هؤلاء بلا هوادة، وألقي القبض على قياداتهم حول العالم من إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية والغربية معا.

استقر بعض قادة الجماعة الإسلامية المصرية في إيران، حيث وفرت لهم الدولة إقامة محترمة وحراسة شخصية ومعاملة لائقة وكان لهم خط مفتوح مع صناع القرار، ومن بين هؤلاء الشيخ رفاعي طه رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وآخر من بقي حرا من الصف الأول للقيادات. وعلى الرغم من إعلان الجماعة الإسلامية بمصر وقف القتال من جانب واحد وبدء مسار المراجعات والمبادرات، إلا أن هذا لم يُفَعَّل لبقاء رفاعي طه حرا وهو ممن يرفض المراجعات.

تحرك رفاعي طه من إيران إلى السودان في مهمة تنظيمية، بجواز سفر لا يحمل اسمه بطبيعة الحال، وصل من إيران إلى سوريا، أعفى حارسه الشخصي الإيراني من مهمة حراسته (فهو حارس، وفي الوقت نفسه رقيب)، واستعمل جوازا آخر سافر به إلى السودان، ثم عاد به من السودان إلى سوريا، ونزل في مبنى للسكن المفروش المؤقت. كانت لديه مشكلة بسيطة: زمن تأشيرته على الجواز الذي يستعمله في الخروج والدخول إلى إيران انتهى ويحتاج تجديده، فاتصل بأسرته في طهران وأخبرهم بأن يتواصلوا مع الأخ (فلان) ليُنجز المطلوب، فإن أنجزه فليتصل به على رقم الغرفة في المبنى الذي ينزل به.

ما إن وضع سماعة الهاتف حتى انزعج وعاتب نفسه: لا بد أن هاتف بيته في طهران مراقب، وهو هكذا كشف عن مكان إقامته في سوريا بالتحديد. نزل به همٌّ شديد ولم يدر ماذا يفعل؟ فقرر ألا يبيت في مكانه، فذهب إلى صديق له بمخيم فلسطيني ليقضي عنده تلك الليلة ويستشيره فيما يفعل. عرض عليه صديقه أن يبيت عنده ولا يعود إلى السكن وهو سيرسل من عنده شابا يحزم الأمتعة ويعيدها إليه دون أن يتعرض هو للمخاطر. وبعد ليلة جيدة ذهب عنه الروع فيها، عنَّ للشيخ رفاعي أن يذهب بنفسه إلى السكن ليحزم بنفسه أمتعته، فمنها ما لا يحب أن يحزمها غيره، أصر عليه صديقه ليبقى تجنبا للخطر، وأصر هو على الذهاب بعدما زال الخوف عنه.

بعد دخوله الغرفة بدقائق فوجئ بطرقات على الباب، رجلان يقولان أنهما من الشرطة السورية وأن هذا البيت صدر قرار بعدم تأجيره لمخالفات قانونية ارتكبها صاحبه، وحيث أن الضحية ضيف على البلد فإنهما سيصححان غلط المواطن السوري وسيصطحبان الضيف الزائر إلى مكان بديل. لم يقع شك في نفسه أنه قد وقع في المحظور وأنه في حكم المعتقل. ألح من جهته أن الأمر لا يستحق، وألحا من جهتهما أنه لا بد من تصحيحهما الخطأ، تركوه لدقائق يحزم أمتعته ثم ساقوه إلى سيارة أنزلته في جهاز الأمن بالعاصمة دمشق.

عند بداية دخوله على المحقق وجد أن هويته قد انكشفت، خاطبه مباشرة باسمه: رفاعي أحمد طه، وبصفته: رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وحيث كان قرار القبض أمريكيا فلم تُجْدِ شيئا العلاقة الطيبة بينه وبين إيران. ومن جهاز الأمن إلى رحلة تحقيق وتعذيب لم تستمر طويلا، ثم خمسة عشر يوما في الحبس مع وعد بالإفراج القريب.
بعد مناورات أمنية هدفت إلى إقناعه بأنهم سيُفرجون عنه، خرج من السجن معصوب العينين إلى سفينة مصرية عليها ضباط المخابرات المصرية، موهمين إياه أنه على سفينة أجنبية ستقله إلى دولة أوروبية، وأنه حين يخرج من المياه الإقليمية سيرفعون العصابة عن عينه والقيد عن يديه، ثم جرت تمثيلية أمنية هدف إلى إيهامه أن مجموعة مصرية اعترضت السفينة في البحر واختطفته منها، وأعيد إلى مصر (إبريل 2001م)، وقضى في السجن أحد عشر عاما، حتى خرج في (سبتمبر 2012م) في عهد الرئيس مرسي[ سمعت الحكاية من الشيخ رفاعي طه بنفسه، وقد التقيته في اسطنبول، 2015م.].

خطأ أمني كلف أحد عشر عاما من السجن! فضلا عن الآثار غير المحصورة لوقوع شخصية قيادية في الأسر وغيابها عن الواقع!

(2)
لعل أشهر وأخطر خطأ أمني في تاريخ الحركات الإسلامية هو ما عُرف بقضية السيارة الجيب، وبها سقط النظام الخاص للإخوان المسلمين، وهو الجهاز الذي استطاع الحفاظ على سريته وكفاءته مدة طويلة في ظروف عمل حرجة للغاية.

تلك الضربة الكبيرة التي أسقطت أقوى حركة إسلامية في وقتها كانت نتيجة عدد من الأخطاء الصغيرة التي لا يُنتبه لها.. والقصة بدأت من أن طالبا في كلية الطب قد خصص غرفة من منزلة لتجميع أوراق ووثائق النظام الخاص (أسماء وتدريبات وتقارير ورصد أهداف... إلخ)، ثم اضطرته ظروف الدراسة إلى الانتقال من القاهرة إلى الإسكندرية فأفضى إلى مسؤوله بضرورة أخذ "العهدة":

1. كان الخطأ الأول هو التسويف في نقل العهدة، فقد ظل طالب الطب يُلح على أخذها وينبه لاقتراب الوقت، والمسؤول يسوف ويؤجل حتى لم يعد على سفره إلا يوم واحد. فأصدر المسؤول أمرا لأحمد عادل كمال أن ينقل تلك المحتويات اليوم بأي وسيلة من مكانها إلى مكان آخر آمن.

2. وجد أحمد عادل نفسه فجأة مسؤولا عن عمل خطير بلا أي أدوات، ولا تعليمات واضحة.. وبينما هو في حيرته "صادف" أحد إخوان النظام الخاص وقد اشترى سيارة جيب من مخلفات الجيش الإنجليزي، فعرض عليه نقل المحتويات بها فوافق.. إلا أن موتور السيارة كان ضعيفا ويتوقف أحيانا، كما أن الحمولة المراد نقلها كانت فوق طاقتها.. لكن لم يكن ثمة بديل.

3. لتضارب الترتيبات وفجائيتها تضاربت مواعيد اللقاء بين أحمد عادل كمال مسؤول عملية النقل وبين إبراهيم محمود صاحب المنزل الذي ستُنقل إليه الأوراق والوثائق، كانت المفاجأة التي لم يعرفها مسؤول عملية النقل أن إبراهيم يسكن في شقة مستأجرة بمنزل رجل يريد أن يُخرجه منها ليزوج ابنته فيها.. الزوج المنتظر هو مخبر في البوليس السياسي! فبينما هم يفرعون الحمولة في شقة إبراهيم رآهم المخبر وارتاب في محتويات الحمولة المنقولة، وهرع من فوره للإبلاغ عنها.

4. انتبه الناقلون إلى اختفائه المفاجئ، ومع العداوة القائمة بينه وبين صاحب الشقة كان سهلا أن يتوقعوا منه الشر، فأعادوا بسرعة نقل الأوراق والوثائق إلى السيارة الجيب من جديد ليبتعدوا بها.. إلا أن السيارة ذات الموتور الضعيف والتي كانت الحمولة فوق طاقتها لم تستجب للتشغيل ولم تَدُرْ وظلت راقدة في مكانها وهي تحمل أخطر وثائق لأخطر حركة في مصر كلها!

5. حضر المخبر فاكتشف أنهم يحاولون العودة، فصرخ عليهم وصرخ في الناس، فلم يجد أولئك بديلا إلا الهرب في الموقف الحرج.. فتركوا ما في السيارة وانطلقوا هاربين، إلا أن الناس أمسكت بهم، وأمسك المخبر بالسيارة الجيب ذات الكنز الهائل من الوثائق. ووقع في يد السلطة الملكية المصرية أسرار خطيرة ما كان لها أن تحصل عليها في يوم واحد!

وهكذا انكشف النظام الخاص للإخوان المسلمين، والذي هو أنضج تجربة أمنية عسكرية لحركة إسلامية في مصر حتى وقتنا الحالي فيما نعلم.

هاتان واقعتان فحسب يرصدهما من يقلب كتب التاريخ، لا في كتب الأمنيين ووثائقهم، ففي تلك الكتب مادة غزيرة لا شك، وتلك المواد لا بد لكل كيان ثوري وحركة تغييرية أن تدرسها بعمق وأن توظف خبرتها في تجربتها الخاصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

((لتحميل العدد الجديد كاملًا: https://goo.gl/gYc5Jc))
‏١٤‏/١٠‏/٢٠١٧ ٧:٠١ م‏
الحركات الإحيائية .. نموذج عبد الله بن ياسين مع قبائل البربر بقلم @[100001347771646:2048:محمد وفيق زين العابدين] الحركات الإحيائية أو التنشيطية هي إحدى صور التغير الثقافي والاجتماعي الجذري، ويُراد بها مجموعة الأنشطة المُتصلة المقصودة لإحداث أثر مُعين يقوم بها أعضاء جماعة ما بهدف بناء ثقافة تضمن لهم إشباع أفضل لرغباتهم وقيمهم، ويتحقق ذلك من خلال قبول نمط من التجديدات المُتعددة المُمكنة، يقوم بصياغتها فرد أو أكثر كوسيلة للتغيير الاجتماعي عبر وَصلهم الماضي بالحاضر وإعطاء رؤية للمُستقبل. وتختلف عن صور التغير الثقافي الكلاسيكية، كالتربية، والتطور، والتغير التاريخي، وغير ذلك، في أنها قصدية مُتعمدة للتغيير من قِبل أعضاء الجماعة الإنسانية، لذلك تحدث في فترة قصيرة نسبيًا، في حين أن صور التغيير الكلاسيكية عملية بطيئة، متواصلة ذاتيًا، حتمية يتعذر تجنبها(1). وبعض الأساتذة أضاف في تعريفها وخصائصها صفة "التنظيم"(2)، وهي محل نظر، لأن بعض العمليات الإحيائية تتم بنوع من العشوائية أو الفوضوية، كما أن مراحلها في كثير من الأحيان مُتداخلة مُتشابكة لا يُمكن تمييزها بصورة مستقلة، وهي دينية في طبعها في الغالب، ونسبية تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر متوقفة في ذلك على قوة عناصرها الجوهرية. ويُعد الأنثروبولوجي الوظيفي Anthony Wallace أول من أشار إلى هذه العملية باعتبارها إحدى إفرازات تأثير الشخصية في الثقافة، عبر كتابه Religion An (3) Anthropological View، من خلال مراقبته وتتبعه لبعض المراحل التاريخية للحركات الدينية المنظمة التي بذلت جهدًا واعيًا متعمدًا لبناء ثقافة أكثر إرضاءً من تلك المُستبدلة المُفككة التي لا تُلبي احتياجاتهم الأساسية، وهي ليست ظواهر غير عادية، بل هي ظواهر متكررة في تاريخ البشرية. وتستند الحركات الإحيائية إلى مفهومين أساسيين: الأول هو الضغط Stress، والآخر هو طريق المتاهة Maze Way. فالتغيير الاجتماعي الجذري ينطلق في الأساس من ضغط وتأثير بعض المواقف العصيبة المُؤلمة، ووفور الخلل في جميع جهات المجتمع، ابتداءً من حالات المحو الثقافي التي تحدث نتيجة الاستعمار والهزائم العسكرية أو الحروب الأهلية أو الإبادة الجماعية أو الأمراض الوبائية أو التغيرات المناخية والبيئية الشديدة كالبراكين والزلازل، ومرورًا بالتشوه الثقافي الذي يحدث من الاضطراب الثقافي والتفكك الاجتماعي نتيجة استيراد القيم والعادات الغربية أو شدة التهميش الاجتماعي والاقتصادي أو طول مدة الاستبداد السياسي وعنفه. فالمجتمع أشبه ما يكون بالكائن الحي، إذ يعتمد في بقاءه على آلية التوازن، وهي الآلية التي يحاول النظام الاجتماعي الحفاظ بها على حد أدنى من التماسك قِبل أي تغير يُصيب جزء منه أو يُهدد بذلك، حيث تعمل على اتخاذ تدابير الطوارئ اللازمة في ظل ظروف التغيير لضمان ثبات المصفوفة الاجتماعية(4)، لأن الإنسان الذي هو الحد الأدنى من مفردات هذا المجتمع غير معتاد على التغيرات الحياتية الجذرية. لكن المجتمع في بعض الأحيان يواجه من الضغوط ما يُربك توازنه تمامًا، ولا تستطيع تدابير آلية التوازن العادية الحد من آثار هذا الضغط العنيف ومقاومة الظروف الضاغطة التي تهدد النظام الاجتماعي وتحول دون استعادة توازن المجتمع. ويكون لعوامل الضغط الشديدة تأثيراتها على المستوى الشخصي والمجتمعي، التي تتسع لتشمل: تمزُّق العلاقات الإنسانية، الأزمات العاطفية، التفكك الأسري، الارتباك الوظيفي، فقدان الشعور بالقيمة الذاتية، الانهيار النفسي، اللامبالاة الأخلاقية، وفور الفساد في جهات الدولة، انتشار المُغيبات العقلية والثقافية، إلى غير ذلك من التأثيرات. أما مفهوم طريق المتاهة Maze Way فينطلق من احتياج كل فرد في المجتمع وكجزء عضوي منه إلى وجود صورة ذهنية للمجتمع وثقافته، هذه الصورة الذهنية تساعده بشكل تلقائي في التغلب على التوترات على جميع المستويات، والحد من آثارها، كأشبه ما تكون بالطريق المحفوظة للخروج من المتاهة(5)، والحفاظ على النظام الذي يوجد في نهاية هذا الطريق والذي ينزع له كل الأفراد بغض النظر عن اختلافهم حول صورة هذا النظام ومكوناته ومستوياته. لكن مع الضغط المتواصل، لا تستطيع أن تفي الصورة الذهنية للفرد لإخراجه من هذه المتاهة، وبعبارة أخرى لا تكفي ثقافته للتقليل من مستوى الإجهاد، فيُصبح مُخيرًا بين خيارين كلاهما صعب، إما الحفاظ على الطريق المُعتاد للخروج من المتاهة مع تحمل الإجهاد المُتكرر والمُستمر، أو البحث عن طريق بديل للخروج منها، وهو جوهر العملية الإحيائية أو حركة التنشيط الاجتماعي. فالشعور بعدم الرضا عن الثقافة السائدة وحده لا يكفي للخروج من المتاهة، والنية المتعمدة للتغيير وحدها لا تكفي للخروج من المتاهة. ومعظم الحركات الإحيائية تتبع - في الغالب - برنامج تدريجي قريب الشبه بشكل ملحوظ، هذا البرنامج يشمل مجموعة من الأدوار، والمسئوليات، والأدوات، وآليات التحكم الضرورية لتوفير إشباع كافي للحاجات الأساسية والقيم المشتركة. ويُمكن القول أنها تتشكل من أربع مراحل أساسية: أولًا: استقرار نسبي: وفي هذه المرحلة يواجه المجتمع بعض أشكال الضغط لكنها تتفاعل مع المجتمع ضمن حدود مقبولة لا تتغير معها حالة الاستقرار النسبي، حيث يتبع الأفراد تقنيات وأنماط ثقافية محددة لتلبية مُتطلباتهم وحاجاتهم بشكل مُرضي. ولا تخلو هذه الفترة من تغيرات ثقافية، لكنها بطيئة غير مُؤثرة ولا يُقاسي منها الأفراد في الغالب الأعم، وعلى الرغم من بعض الحوادث التي يُخفقون معها في تحقيق توقعاتهم وآمالهم، لكن ذلك لا يستدعي تغييرهم طريقة معالجة الأمور والتغلب على الضغوط المجتمعية، إذ يستطيعون تحمل التنازل عن بعض الحاجات أو إهمال بعض المُتطلبات للمحافظة على استمرار النظام القائم. فغالبية الناس يُفضلون التسامح في حقوقهم وحرياتهم حتى مع المستويات العالية من القلق والتوتر الاجتماعي بدلًا من إجراء تغييرات تكيفية حقيقية في النظام السائد والثقافة السائدة، والأشخاص الأكثر مرونة يُفضلون إجراء تغييرات مختلفة في حياتهم الشخصية، لتقليل الإجهاد المجتمعي عن طريق إضافة أو استبدال عناصر أخرى في حياتهم. ثانيًا: ضغط فردي مُتزايد: وهي المرحلة التي تزداد فيها أسباب الضغط، وتختلف تأثيراتها الاجتماعية بحسب اختلاف الأسباب، فتبدأ بظروف اجتماعية عامة، مثل: الحروب، الكوارث الطبيعية، الاستطالة في الاستبداد، الإبادة الجماعية، ثم تتحول إلى صعوبات شخصية مثل: فقدان النفوس، ضياع الأموال والممتلكات، انتشار الأمراض، الانهيار النفسي، إلى غير ذلك. في هذه المرحلة يتعرض أفراد المجتمع لحالة من الضغط غير المُحتمل بسبب عدم قُدرة الأنماط الثقافية السائدة في إشباع حاجاتهم والحفاظ على قيمهم، حيث لا تُجدي الحلول المُعتادة في التخفيف من حدة التوتر والقلق الشخصي ومقاومة الضغوط المجتمعية. ثالثًا: تشوه ثقافي: وتبدأ مع فشل الأنماط الثقافية السائدة في استعادة التوازن الاجتماعي تمامًا، واستمرار ارتفاع حدة التوتر والقلق والانهيار والتفكك المجتمعي، التي يتفاعل معها المجتمع بشكل سلبي فيما يُعرف بالاستجابة الرجعية Regressive Response بأشكال مُختلفة مثل: انتشار العُنف، إدمان المخدرات والكحول، البطالة، التفكك الأُسري، الفساد الوظيفي، ضعف الدين، التحرر من النظم الاجتماعية، زيادة معدلات الجريمة، اللامبالاة الأخلاقية، تفشي الاكتئاب والاضطرابات النفسية والعصبية، وغيرها من الأنماط الثقافية الانحدارية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتصادم معظم عناصر المجتمع في هذه المرحلة، وترتبط ببعضها بشكل نفعي مُتعارض في كثير من الأحيان، متجاهلةً صلات القرابة والصداقة والمسئوليات الاجتماعية، ولا تُفلح الأعراف التقليدية في حل الأزمات الفردية والمجتمعية، بل يصبح الصراع هو الوسيلة الأمثل لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، مما يُؤدي إلى وفور الخلل في جميع الجهات وتسريع انهيار المجتمع. وفي الغالب ما تأخذ السلوكيات المنحرفة والشاذة صورة جماعية منظمة، بحيث يتصور البعض أن أنماط الثقافة الأصلية قد انهارت تمامًا وحلت محلها تلك الانحرافات، وهذا هو جوهر التشوه الثقافي، حيث يصعُب أو يستحيل استعادة حالة التوازن دون حركة تنشيطية جادة أو عملية إحيائية جذرية، وإلا استمر المجتمع في التفكك والانهيار حتى يَتفَتَت كليةً أو يندمج في آخر أكثر استقرارًا وقوةً وتأثيرًا، وهذه هي النهاية التي انتهت بها وعندها أكثر الأُمم التي تلاشت أو الجماعات التي اندثرت. ولا يوجد حد مُعين للتشوه الثقافي المشار إليه، بل هو نسبي يختلف من مجتمع لآخر ومن جماعة لأخرى، وبرغم صعوبة هذه المرحلة وخطورتها التي قد تنذر في بعض الأحيان بزوال كيان الجماعة من الوجود تمامًا، إلا أنها ضرورية وأساسية في عمليات الإحياء المجتمعية، بل هي أهم مراحلها في الواقع، لأن من خلالها تتحدد النقطة المحددة التي يجب أن يبدأ عندها التحول والتغيير. ويُقدم لنا التاريخ الإسلامي أكثر من حالة لبعض المجتمعات التي تعرضت للتشوه الثقافي لأسباب مختلفة بعد مرورها بفترات طويلة من الاستقرار، لعل من أبرزها ما شهدته قبائل (البربر) التي كانت قِوام دولة المرابطين فيما بعد في أواسط القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، ففي الصحراء الكبرى المُمتدة من (غدامس) شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن جبال (درن) شمالًا إلى وسط الصحراء الكبرى جنوبًا، كانت تعيش قبائل البربر وكانت مكونة من أكثر من سبعين قبيلة، من أهمها: لمتونة وجدالة ومسوفة ولمطة ومسراته ومداسه. وعلى الرغم من دخول الإسلام لقبائل (البربر) قبل قيام دولة المرابطين، إلا أن غياب العقيدة الإسلامية وتعاليم الدين الصحيحة كان هو السمة العامة لشكل التدين فيها، فلم يُغن الدين عن أن يَعم فيهم الجهل، وتنتشر بينهم الجرائم كالسرقة والنهب وشرب الخمر واستحلال الزنا حتى أن الزنا بالزوجات كان يتم بعلم أزواجهم، فضلًا عن العادات الاجتماعية الغريبة كالزواج بأكثر من أربعة نساء وغير ذلك. ويُمكن تلخيص أهم الأسباب التي أدت إلى وصول هذه القبائل إلى هذه الحالة من التشوه: أولًا: انقطاعهم في الصحراء وشدة تأثرهم بالعادات والأعراف القبلية القديمة، وعدم اختلاطهم بأهل العلم والديانة، لبُعدهم عن طرق الحج والمراكز العلمية المعروفة في شمال أفريقيا وقتها، فكان لا يصل لهم إلا من كان يقصدهم من التجار الذين كان سمتهم - في الغالب - الجهل، كما أشار أمير قبيلة (جدالة) يحيى بن إبراهيم في كلامه مع شيخ المالكية أبي عمران الفارسي في القيروان أثناء عودته من رحلة الحج. ثانيًا: الاستبداد والفساد السياسي الذي كان كانت تُعاني منه هذه القبائل، وما استتبعه من تحالف الطبقة الحاكمة مع أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا يحتكرون كل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك، ثم تطور الأمر للمغالاة الشديدة في فرض الضرائب والمكوس على الأفراد، فانقسم المجتمع إلى قسمين رئيسيين: أسياد: وهم الأمراء والأعيان والأثرياء الذين كانوا يحتكرون النشاط التجاري وكل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك. وعبيد: وهم الفقراء وعامة الناس الذين كانوا يعملون في المناجم والزراعة ورعي الماشية، الذين ليس لهم أية حقوق اجتماعية، حيث كانوا يعيشون في قحط شديد بسبب ضعف موارهم المالية وما يفرضه عليهم الأمراء والأعيان من الضرائب، حتى أن منازلهم كانت تُبنى من أغصان الأشجار وتُغطى بالجلود. رابعًا: إحياء الجماعة: حيث يأخذ بعض أعضاء الجماعة زمام إحداث واستخدام مجموعة من التجديدات الثقافية بهدف القضاء على حالة الانهيار المجتمعي، وهذه التجديدات في الغالب ما ترتبط بتعديلات في النظام الاقتصادي وتحولات في النظام السياسي. وتتوقف سرعة التحول للثقافة الجديدة على ثلاثة عناصر أساسية: (1) طريق المتاهة البديل : أو ما نستطيع أن نعبر عنه بالرؤية، وهي الصورة الذهنية الجديدة التي تتم إعادة صياغتها لثقافة الفرد وشكل المجتمع بطريقة تختلف عن الصورة السائدة، ولا يهم أن تكون مبتكرة أو مجددة، المهم أنها تكون مفاجئة ومثيرة بحيث تلاقي قبولًا عند عدد من الناس. (2) المُلْهِم: وهو الفرد المُبتَكر الذي يظهر بين مجموعة من المُهتمين بإيجاد طريق بديل للخروج من المتاهة الاجتماعية من خلال تجديدات ثقافية جذرية، وتعتمد العملية الإحيائية على نجاحه في نشر أفكاره ومد المُهتمين بالثقة وبإمكانية التخلص من حالة الانهيار الثقافي وتحقيق الحالة المثالية، لذلك يتمتع المُلْهِم بخصائص وسمات خاصة ومهارات فذة، تُساعده بشكل كبير في نشر أفكاره وجذب التابعين وإقناعهم بوجهات نظره وطاعة توجيهاته. (3) المُهتمون: وهم مجموعة من الأفراد، يزيدون أو يقلون، يكونون أكثر اجتماعًا وأقرب أُلفةً وأقل تنافرًا، يتبعون أفكار المُلْهِم، ويُشكلون فيما بينهم تنظيم اجتماعي يحاول الاتصال بالآخرين والترويج لتجديدات المُلْهِم وإضافاتهم، وإقناعهم بقبولها واستخدامها، وربط المجتمع وضمه بوجهات نظر محددة، فيما يُشبه الثورة على النظم التقليدية. وكما أن المُلْهِم يتمتع بصفات مُميزة، فكذلك المُهتمين، لهم من الصفات الخاصة ما يُباينون به باقي أفراد المجتمع في اهتماماتهم وعزائمهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم. والفضل الحقيقي في إحداث التحول الثقافي والتغير الاجتماعي يكون لهؤلاء المُهتمين، فالمُلْهِم في أحوال كثيرة يفنى قبل أن يُمَكن لتصوراته أو ترى صورته الذهنية النور، لكن الدور الأساسي الذي يقوم به هو تحرير إرادة المُهتمين من قيود الثقافة القديمة ونزع هيبة التغيير من صدورهم ورسم الطريق الجديدة لهم وربطهم ببعضهم برباط أفكاره الثورية ومدهم بالثقة في قُدرتهم على التغيير وتأهيل نفوسهم على خوض الغمار الصعبة، وعلى قدر ما يملك المُلْهِم من قوة وصدق على قدر ما يستطيع إحداث هذه الآثار في أتباعه، وعلى قدر ما يمتكلون من وضوح في أفكار متبوعهم على قدر ما يستطيعون تحقيق رؤيته. وفي الجملة فإن هذه العناصر الثلاثة؛ الرؤية، المُلْهِم، المُهتمون، ترتبط بأربعة وظائف مهارية جوهرية هي: الصياغة، الاستقطاب، التنظيم، المواجهة. ويُمكن تقسيم مرحلة الإحياء إلى مرحلتين رئيسيتين: المرحلة الأولى: الصدام الاجتماعي: حيث يستخدم المُلْهِم والمهتمون الذين استجابوا لأفكاره الإحيائية أو توافقوا معه عليها عدة أساليب لنشرها، بعضها اختياري وبعضها اضطراري وبعضها قسري، بحسب اختلاف الجماهير مع المُهتمين وأفكارهم أيدولوجيًا، وبحسب مواقفهم من هذه الأفكار وقبولهم أو رفضهم لها. فينتج عن ذلك عدة أنواع من الصدامات الاجتماعية التي تختلف في نوعها وقوتها بحسب اختلاف الأساليب المُستخدمة في نشر الأفكار الإحيائية، ابتداءً من الممانعة نتيجة الخوف، وهي أبسط أشكال المقاومة، ورفض التغيير المحض من قِبل الأجيال المُتقدمة في العمر، والرفض العدائي لاختلاف الأيدولوجية، وأخيرًا القمع والمقاومة العنيفة من السُّلطة أو الفصائل القوية في المجتمع. المرحلة الثانية: التكيُف المُنظم: وهي الحالة التي يبدأ معها المجتمع بالتكيف مع وسائل المقاومة الجديدة وقبول طريق الخروج من المتاهة البديل، وفي هذه المرحلة تحدث حالة من الإنعاش الاجتماعي، نتيجة زيادة عدد الذين يَقبلون الطريق الجديدة، ويحدث التحول الثقافي، حيث تحل الثقافة الجديدة وعناصرها المُختلفة محل الثقافة القديمة أو الثقافة المُشوهة، وهنا تبدأ مرحلة ثبات جديدة على التحول الثقافي، تُعاد فيها صياغة الأعراف والولاءات والنظرة إلى العالم، ورغم تمتع المجتمع معها بالهدوء النسبي، إلا أنها لا تخلو من التغيرات الثقافية المُتتابعة والتي تستمر لفترات طويلة، لاسيما الاقتصادية والسياسية. فالعملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر) بدأت عندما تولى يحيى بن إبراهيم زعامة قبيلة (جدالة)، وكان مُطاعًا في قومه، معروفًا برجاحة عقله وسداد رأيه، حريصًا على إصلاح قومه، إذ خرج من قريته إلى (القيروان) عازمًا على أن يبحث عن طالب علم يساعده على إحياء روح الإسلام التي غابت معالمها في قبيلته، فقابل شيخ كبير من شيوخ المالكية وهو أبا عمران الفارسي، فاشتكى له انقطاع قومه في الصحراء عن العلم والدين حيث لا يصل إليهم إلا بعض التجار الجهال ممن حرفتهم البيع والشراء، وطلب منه أن يعاونه على تعليم قومه أصول الإسلام الصحيحة بإرسال أحد طلبة العلم النابهين معه، فأرسله أبو عمران إلى تلميذه المُقرب الفقيه المالكي وجاج بن زلو اللمطي، طالبًا منه أن يُرسل معه يثق في دينه وكثرة علمه وسياسته، ليُعلمهم شرائع الإسلام، ويُفقههم في الدين(6) فعرض الأمر على تلميذه عبدالله بن ياسين ­ وكان كثير العلم كثير الترحال في طلبه ­ الذي وافق على الفور ورحل مع يحيى بن إبراهيم، تاركًا خلفه ماله وأهله وإقامته بالمدينة الساحلية إلى قلب الصحراء الموريتانية القاحلة، ليُؤدي دور المُلْهِم في العملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر)، حيث أقام في قبيلة (جدالة) أربع سنوات، حاول خلالها تصحيح عقيدة المجتمع، وتغيير عادات الفاسدة، ودعوة أفراده للتخلق بآداب الإسلام وأخلاقه. ولم يكن للإصلاح الذي أراده يحيى بن إبراهيم وعبدالله بن ياسين لقبائل (البربر) أن يُثمر في إحداث التحول والتغيير دون أن يكون موجه بالأساس للأعيان والأثرياء قبل الفقراء والضعفاء، وكان من لزام ذلك أن دعوة ابن ياسين انصبت في المقام الأول على قِيم المساواة والعدل والرحمة، ونبذ الطبقية والمحسوبية، وتجنب الغش والخيانة والجور والتعسف والاستغلال، وضرورة تكوين أُمة متحدة متماسكة تستمد قوانينها وعاداتها من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة والتابعين. وكان من نتائج ذلك أن اصطدم ابن ياسين بوجهاء وأعيان القبيلة الذين تعارضت مصالحهم مع دعوته، فتعرض للأذى والاضطهاد وانتهى الأمر بتهديدهم له بالقتل، فهَمَّ بالسفر إلى بعض قبائل السودان، غير أن الأمير يحيى رفض ذلك وأشار عليه بفكرة الاعتزال في رباط مجاور يقوم فيه بتنئشة وتربية رجال قادرين على مساندته في إحداث التغير المنشود. فخرج ابن ياسين بمشورة الأمير يحيى إلى رباط في جزيرة معزولة وانصرف يُربي أتباعه، ويُفقههم في الدين، فالتف حوله الكثيرون، فكوّن من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شَكّل إدارات متعددة لتقوم بأمور الرباط وشئون المرابطين بعد أن صاروا من الكثرة بمكان، فضلًا عن مدارس علمية متنوعة، وبيت مال تُجمع فيه الصدقات والعشور. وقد تميَّز الرباط بحسن إدارته وتنظيمه، ولم يقف الأمر عند حد ضبط الرباط وتنظيمه داخليًا، بل بدأ ابن ياسين بتوجيه النابهين من تلاميذه إلى قبائلهم كدعاة، فانقاد لهم القليل من أشراف صنهاجة، ولكن عموم القبائل تمنعت، فعزم ابن ياسين على تقويم الممانعين بالقوة، وإجبارهم على الانقياد له من خلال إعلانه الجهاد، واستطاع بسهولة إجبار الممانعين في قبيلة جدالة، ثم لَمتونة، ثم مسوفة، فانقادوا له وبايعوه، ثم أجابت عموم قبائل صنهاجة، فأرسل فيهم من يعلمهم الدين، ويُفقههم في أحكامه. وظلت دولة (المرابطين) التي تأسست على أنقاض قبائل (البربر) في اتساع، حتى ضمت عموم قبائل صحراء شمال ووسط أفريقيا، وساعد على انتشار دعوة المرابطين وانقياد الناس لهم: رفع الظُلم عن الناس، وإسقاط المغارم والمكوس والضرائب التي كانت مفروضةً عليهم، وإصلاح أحوالهم الاجتماعية والمعيشية، وتغيير المنكرات التي كانت منتشرة في عاداتهم وتقاليدهم. على أنه يجب أن يُفهم أن العملية الإحيائية هي عملية متعددة المستويات، تبدأ بالمستوى النفسي الذي يُركز على دور الانهيار في بدء العملية الإحيائية، والمستوى السلوكي الذي يُركز على تأثير الاستجابة في تسريع حدوث التحول، ومن جانب آخر المستوى الإنساني أو الفردي الذي يُركز على تأثير التحول بمراحله المُختلفة على الذات، والمستوى الاجتماعي الشمولي الذي ينظر لعملية التحول من كل الجوانب الاجتماعية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) Eiko Takamizawa; Revitalization Movements Theory and Japanese Mission, Torch Trinity Journal, 7 (2004), P. 168. (2) د. عاطف أمين وصفي: الثقافة والشخصية (الشخصية ومحدداتها الثقافية)، دار النهضة العربية (بيروت)، الطبعة الأولى 1981م، ص 68. (3) Anthony Wallace; Religion an Anthropological View, New York, Random House, (1966) (4) Anthony Wallace; Revitalization Movements, American Anthropologist, 58 (1956), P. 265. (5) Anthony Wallace; Revitalization Movements, Ibid. P. 266. (6) ابن عِذراي المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة (بيروت)، الطبعة الثالثة 1983م، ج 4 ص 7: 8.
الحركات الإحيائية .. نموذج عبد الله بن ياسين مع قبائل البربر
بقلم محمد وفيق زين العابدين

الحركات الإحيائية أو التنشيطية هي إحدى صور التغير الثقافي والاجتماعي الجذري، ويُراد بها مجموعة الأنشطة المُتصلة المقصودة لإحداث أثر مُعين يقوم بها أعضاء جماعة ما بهدف بناء ثقافة تضمن لهم إشباع أفضل لرغباتهم وقيمهم، ويتحقق ذلك من خلال قبول نمط من التجديدات المُتعددة المُمكنة، يقوم بصياغتها فرد أو أكثر كوسيلة للتغيير الاجتماعي عبر وَصلهم الماضي بالحاضر وإعطاء رؤية للمُستقبل.

وتختلف عن صور التغير الثقافي الكلاسيكية، كالتربية، والتطور، والتغير التاريخي، وغير ذلك، في أنها قصدية مُتعمدة للتغيير من قِبل أعضاء الجماعة الإنسانية، لذلك تحدث في فترة قصيرة نسبيًا، في حين أن صور التغيير الكلاسيكية عملية بطيئة، متواصلة ذاتيًا، حتمية يتعذر تجنبها(1).

وبعض الأساتذة أضاف في تعريفها وخصائصها صفة "التنظيم"(2)، وهي محل نظر، لأن بعض العمليات الإحيائية تتم بنوع من العشوائية أو الفوضوية، كما أن مراحلها في كثير من الأحيان مُتداخلة مُتشابكة لا يُمكن تمييزها بصورة مستقلة، وهي دينية في طبعها في الغالب، ونسبية تختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر متوقفة في ذلك على قوة عناصرها الجوهرية.

ويُعد الأنثروبولوجي الوظيفي Anthony Wallace أول من أشار إلى هذه العملية باعتبارها إحدى إفرازات تأثير الشخصية في الثقافة، عبر كتابه Religion An (3) Anthropological View، من خلال مراقبته وتتبعه لبعض المراحل التاريخية للحركات الدينية المنظمة التي بذلت جهدًا واعيًا متعمدًا لبناء ثقافة أكثر إرضاءً من تلك المُستبدلة المُفككة التي لا تُلبي احتياجاتهم الأساسية، وهي ليست ظواهر غير عادية، بل هي ظواهر متكررة في تاريخ البشرية.

وتستند الحركات الإحيائية إلى مفهومين أساسيين: الأول هو الضغط Stress، والآخر هو طريق المتاهة Maze Way.

فالتغيير الاجتماعي الجذري ينطلق في الأساس من ضغط وتأثير بعض المواقف العصيبة المُؤلمة، ووفور الخلل في جميع جهات المجتمع، ابتداءً من حالات المحو الثقافي التي تحدث نتيجة الاستعمار والهزائم العسكرية أو الحروب الأهلية أو الإبادة الجماعية أو الأمراض الوبائية أو التغيرات المناخية والبيئية الشديدة كالبراكين والزلازل، ومرورًا بالتشوه الثقافي الذي يحدث من الاضطراب الثقافي والتفكك الاجتماعي نتيجة استيراد القيم والعادات الغربية أو شدة التهميش الاجتماعي والاقتصادي أو طول مدة الاستبداد السياسي وعنفه.

فالمجتمع أشبه ما يكون بالكائن الحي، إذ يعتمد في بقاءه على آلية التوازن، وهي الآلية التي يحاول النظام الاجتماعي الحفاظ بها على حد أدنى من التماسك قِبل أي تغير يُصيب جزء منه أو يُهدد بذلك، حيث تعمل على اتخاذ تدابير الطوارئ اللازمة في ظل ظروف التغيير لضمان ثبات المصفوفة الاجتماعية(4)، لأن الإنسان الذي هو الحد الأدنى من مفردات هذا المجتمع غير معتاد على التغيرات الحياتية الجذرية.

لكن المجتمع في بعض الأحيان يواجه من الضغوط ما يُربك توازنه تمامًا، ولا تستطيع تدابير آلية التوازن العادية الحد من آثار هذا الضغط العنيف ومقاومة الظروف الضاغطة التي تهدد النظام الاجتماعي وتحول دون استعادة توازن المجتمع.

ويكون لعوامل الضغط الشديدة تأثيراتها على المستوى الشخصي والمجتمعي، التي تتسع لتشمل: تمزُّق العلاقات الإنسانية، الأزمات العاطفية، التفكك الأسري، الارتباك الوظيفي، فقدان الشعور بالقيمة الذاتية، الانهيار النفسي، اللامبالاة الأخلاقية، وفور الفساد في جهات الدولة، انتشار المُغيبات العقلية والثقافية، إلى غير ذلك من التأثيرات.

أما مفهوم طريق المتاهة Maze Way فينطلق من احتياج كل فرد في المجتمع وكجزء عضوي منه إلى وجود صورة ذهنية للمجتمع وثقافته، هذه الصورة الذهنية تساعده بشكل تلقائي في التغلب على التوترات على جميع المستويات، والحد من آثارها، كأشبه ما تكون بالطريق المحفوظة للخروج من المتاهة(5)، والحفاظ على النظام الذي يوجد في نهاية هذا الطريق والذي ينزع له كل الأفراد بغض النظر عن اختلافهم حول صورة هذا النظام ومكوناته ومستوياته.

لكن مع الضغط المتواصل، لا تستطيع أن تفي الصورة الذهنية للفرد لإخراجه من هذه المتاهة، وبعبارة أخرى لا تكفي ثقافته للتقليل من مستوى الإجهاد، فيُصبح مُخيرًا بين خيارين كلاهما صعب، إما الحفاظ على الطريق المُعتاد للخروج من المتاهة مع تحمل الإجهاد المُتكرر والمُستمر، أو البحث عن طريق بديل للخروج منها، وهو جوهر العملية الإحيائية أو حركة التنشيط الاجتماعي.

فالشعور بعدم الرضا عن الثقافة السائدة وحده لا يكفي للخروج من المتاهة، والنية المتعمدة للتغيير وحدها لا تكفي للخروج من المتاهة.

ومعظم الحركات الإحيائية تتبع - في الغالب - برنامج تدريجي قريب الشبه بشكل ملحوظ، هذا البرنامج يشمل مجموعة من الأدوار، والمسئوليات، والأدوات، وآليات التحكم الضرورية لتوفير إشباع كافي للحاجات الأساسية والقيم المشتركة.

ويُمكن القول أنها تتشكل من أربع مراحل أساسية:
أولًا: استقرار نسبي:
وفي هذه المرحلة يواجه المجتمع بعض أشكال الضغط لكنها تتفاعل مع المجتمع ضمن حدود مقبولة لا تتغير معها حالة الاستقرار النسبي، حيث يتبع الأفراد تقنيات وأنماط ثقافية محددة لتلبية مُتطلباتهم وحاجاتهم بشكل مُرضي.

ولا تخلو هذه الفترة من تغيرات ثقافية، لكنها بطيئة غير مُؤثرة ولا يُقاسي منها الأفراد في الغالب الأعم، وعلى الرغم من بعض الحوادث التي يُخفقون معها في تحقيق توقعاتهم وآمالهم، لكن ذلك لا يستدعي تغييرهم طريقة معالجة الأمور والتغلب على الضغوط المجتمعية، إذ يستطيعون تحمل التنازل عن بعض الحاجات أو إهمال بعض المُتطلبات للمحافظة على استمرار النظام القائم.

فغالبية الناس يُفضلون التسامح في حقوقهم وحرياتهم حتى مع المستويات العالية من القلق والتوتر الاجتماعي بدلًا من إجراء تغييرات تكيفية حقيقية في النظام السائد والثقافة السائدة، والأشخاص الأكثر مرونة يُفضلون إجراء تغييرات مختلفة في حياتهم الشخصية، لتقليل الإجهاد المجتمعي عن طريق إضافة أو استبدال عناصر أخرى في حياتهم.

ثانيًا: ضغط فردي مُتزايد:
وهي المرحلة التي تزداد فيها أسباب الضغط، وتختلف تأثيراتها الاجتماعية بحسب اختلاف الأسباب، فتبدأ بظروف اجتماعية عامة، مثل: الحروب، الكوارث الطبيعية، الاستطالة في الاستبداد، الإبادة الجماعية، ثم تتحول إلى صعوبات شخصية مثل: فقدان النفوس، ضياع الأموال والممتلكات، انتشار الأمراض، الانهيار النفسي، إلى غير ذلك.

في هذه المرحلة يتعرض أفراد المجتمع لحالة من الضغط غير المُحتمل بسبب عدم قُدرة الأنماط الثقافية السائدة في إشباع حاجاتهم والحفاظ على قيمهم، حيث لا تُجدي الحلول المُعتادة في التخفيف من حدة التوتر والقلق الشخصي ومقاومة الضغوط المجتمعية.

ثالثًا: تشوه ثقافي:
وتبدأ مع فشل الأنماط الثقافية السائدة في استعادة التوازن الاجتماعي تمامًا، واستمرار ارتفاع حدة التوتر والقلق والانهيار والتفكك المجتمعي، التي يتفاعل معها المجتمع بشكل سلبي فيما يُعرف بالاستجابة الرجعية Regressive Response بأشكال مُختلفة مثل: انتشار العُنف، إدمان المخدرات والكحول، البطالة، التفكك الأُسري، الفساد الوظيفي، ضعف الدين، التحرر من النظم الاجتماعية، زيادة معدلات الجريمة، اللامبالاة الأخلاقية، تفشي الاكتئاب والاضطرابات النفسية والعصبية، وغيرها من الأنماط الثقافية الانحدارية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتصادم معظم عناصر المجتمع في هذه المرحلة، وترتبط ببعضها بشكل نفعي مُتعارض في كثير من الأحيان، متجاهلةً صلات القرابة والصداقة والمسئوليات الاجتماعية، ولا تُفلح الأعراف التقليدية في حل الأزمات الفردية والمجتمعية، بل يصبح الصراع هو الوسيلة الأمثل لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، مما يُؤدي إلى وفور الخلل في جميع الجهات وتسريع انهيار المجتمع.

وفي الغالب ما تأخذ السلوكيات المنحرفة والشاذة صورة جماعية منظمة، بحيث يتصور البعض أن أنماط الثقافة الأصلية قد انهارت تمامًا وحلت محلها تلك الانحرافات، وهذا هو جوهر التشوه الثقافي، حيث يصعُب أو يستحيل استعادة حالة التوازن دون حركة تنشيطية جادة أو عملية إحيائية جذرية، وإلا استمر المجتمع في التفكك والانهيار حتى يَتفَتَت كليةً أو يندمج في آخر أكثر استقرارًا وقوةً وتأثيرًا، وهذه هي النهاية التي انتهت بها وعندها أكثر الأُمم التي تلاشت أو الجماعات التي اندثرت.
ولا يوجد حد مُعين للتشوه الثقافي المشار إليه، بل هو نسبي يختلف من مجتمع لآخر ومن جماعة لأخرى، وبرغم صعوبة هذه المرحلة وخطورتها التي قد تنذر في بعض الأحيان بزوال كيان الجماعة من الوجود تمامًا، إلا أنها ضرورية وأساسية في عمليات الإحياء المجتمعية، بل هي أهم مراحلها في الواقع، لأن من خلالها تتحدد النقطة المحددة التي يجب أن يبدأ عندها التحول والتغيير.

ويُقدم لنا التاريخ الإسلامي أكثر من حالة لبعض المجتمعات التي تعرضت للتشوه الثقافي لأسباب مختلفة بعد مرورها بفترات طويلة من الاستقرار، لعل من أبرزها ما شهدته قبائل (البربر) التي كانت قِوام دولة المرابطين فيما بعد في أواسط القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، ففي الصحراء الكبرى المُمتدة من (غدامس) شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن جبال (درن) شمالًا إلى وسط الصحراء الكبرى جنوبًا، كانت تعيش قبائل البربر وكانت مكونة من أكثر من سبعين قبيلة، من أهمها: لمتونة وجدالة ومسوفة ولمطة ومسراته ومداسه.

وعلى الرغم من دخول الإسلام لقبائل (البربر) قبل قيام دولة المرابطين، إلا أن غياب العقيدة الإسلامية وتعاليم الدين الصحيحة كان هو السمة العامة لشكل التدين فيها، فلم يُغن الدين عن أن يَعم فيهم الجهل، وتنتشر بينهم الجرائم كالسرقة والنهب وشرب الخمر واستحلال الزنا حتى أن الزنا بالزوجات كان يتم بعلم أزواجهم، فضلًا عن العادات الاجتماعية الغريبة كالزواج بأكثر من أربعة نساء وغير ذلك.

ويُمكن تلخيص أهم الأسباب التي أدت إلى وصول هذه القبائل إلى هذه الحالة من التشوه:

أولًا: انقطاعهم في الصحراء وشدة تأثرهم بالعادات والأعراف القبلية القديمة، وعدم اختلاطهم بأهل العلم والديانة، لبُعدهم عن طرق الحج والمراكز العلمية المعروفة في شمال أفريقيا وقتها، فكان لا يصل لهم إلا من كان يقصدهم من التجار الذين كان سمتهم - في الغالب - الجهل، كما أشار أمير قبيلة (جدالة) يحيى بن إبراهيم في كلامه مع شيخ المالكية أبي عمران الفارسي في القيروان أثناء عودته من رحلة الحج.

ثانيًا: الاستبداد والفساد السياسي الذي كان كانت تُعاني منه هذه القبائل، وما استتبعه من تحالف الطبقة الحاكمة مع أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا يحتكرون كل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك، ثم تطور الأمر للمغالاة الشديدة في فرض الضرائب والمكوس على الأفراد، فانقسم المجتمع إلى قسمين رئيسيين:
أسياد: وهم الأمراء والأعيان والأثرياء الذين كانوا يحتكرون النشاط التجاري وكل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك.
وعبيد: وهم الفقراء وعامة الناس الذين كانوا يعملون في المناجم والزراعة ورعي الماشية، الذين ليس لهم أية حقوق اجتماعية، حيث كانوا يعيشون في قحط شديد بسبب ضعف موارهم المالية وما يفرضه عليهم الأمراء والأعيان من الضرائب، حتى أن منازلهم كانت تُبنى من أغصان الأشجار وتُغطى بالجلود.

رابعًا: إحياء الجماعة:
حيث يأخذ بعض أعضاء الجماعة زمام إحداث واستخدام مجموعة من التجديدات الثقافية بهدف القضاء على حالة الانهيار المجتمعي، وهذه التجديدات في الغالب ما ترتبط بتعديلات في النظام الاقتصادي وتحولات في النظام السياسي.

وتتوقف سرعة التحول للثقافة الجديدة على ثلاثة عناصر أساسية:

(1) طريق المتاهة البديل :
أو ما نستطيع أن نعبر عنه بالرؤية، وهي الصورة الذهنية الجديدة التي تتم إعادة صياغتها لثقافة الفرد وشكل المجتمع بطريقة تختلف عن الصورة السائدة، ولا يهم أن تكون مبتكرة أو مجددة، المهم أنها تكون مفاجئة ومثيرة بحيث تلاقي قبولًا عند عدد من الناس.

(2) المُلْهِم:
وهو الفرد المُبتَكر الذي يظهر بين مجموعة من المُهتمين بإيجاد طريق بديل للخروج من المتاهة الاجتماعية من خلال تجديدات ثقافية جذرية، وتعتمد العملية الإحيائية على نجاحه في نشر أفكاره ومد المُهتمين بالثقة وبإمكانية التخلص من حالة الانهيار الثقافي وتحقيق الحالة المثالية، لذلك يتمتع المُلْهِم بخصائص وسمات خاصة ومهارات فذة، تُساعده بشكل كبير في نشر أفكاره وجذب التابعين وإقناعهم بوجهات نظره وطاعة توجيهاته.

(3) المُهتمون:
وهم مجموعة من الأفراد، يزيدون أو يقلون، يكونون أكثر اجتماعًا وأقرب أُلفةً وأقل تنافرًا، يتبعون أفكار المُلْهِم، ويُشكلون فيما بينهم تنظيم اجتماعي يحاول الاتصال بالآخرين والترويج لتجديدات المُلْهِم وإضافاتهم، وإقناعهم بقبولها واستخدامها، وربط المجتمع وضمه بوجهات نظر محددة، فيما يُشبه الثورة على النظم التقليدية.

وكما أن المُلْهِم يتمتع بصفات مُميزة، فكذلك المُهتمين، لهم من الصفات الخاصة ما يُباينون به باقي أفراد المجتمع في اهتماماتهم وعزائمهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم.

والفضل الحقيقي في إحداث التحول الثقافي والتغير الاجتماعي يكون لهؤلاء المُهتمين، فالمُلْهِم في أحوال كثيرة يفنى قبل أن يُمَكن لتصوراته أو ترى صورته الذهنية النور، لكن الدور الأساسي الذي يقوم به هو تحرير إرادة المُهتمين من قيود الثقافة القديمة ونزع هيبة التغيير من صدورهم ورسم الطريق الجديدة لهم وربطهم ببعضهم برباط أفكاره الثورية ومدهم بالثقة في قُدرتهم على التغيير وتأهيل نفوسهم على خوض الغمار الصعبة، وعلى قدر ما يملك المُلْهِم من قوة وصدق على قدر ما يستطيع إحداث هذه الآثار في أتباعه، وعلى قدر ما يمتكلون من وضوح في أفكار متبوعهم على قدر ما يستطيعون تحقيق رؤيته.

وفي الجملة فإن هذه العناصر الثلاثة؛ الرؤية، المُلْهِم، المُهتمون، ترتبط بأربعة وظائف مهارية جوهرية هي: الصياغة، الاستقطاب، التنظيم، المواجهة.

ويُمكن تقسيم مرحلة الإحياء إلى مرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى: الصدام الاجتماعي:
حيث يستخدم المُلْهِم والمهتمون الذين استجابوا لأفكاره الإحيائية أو توافقوا معه عليها عدة أساليب لنشرها، بعضها اختياري وبعضها اضطراري وبعضها قسري، بحسب اختلاف الجماهير مع المُهتمين وأفكارهم أيدولوجيًا، وبحسب مواقفهم من هذه الأفكار وقبولهم أو رفضهم لها.

فينتج عن ذلك عدة أنواع من الصدامات الاجتماعية التي تختلف في نوعها وقوتها بحسب اختلاف الأساليب المُستخدمة في نشر الأفكار الإحيائية، ابتداءً من الممانعة نتيجة الخوف، وهي أبسط أشكال المقاومة، ورفض التغيير المحض من قِبل الأجيال المُتقدمة في العمر، والرفض العدائي لاختلاف الأيدولوجية، وأخيرًا القمع والمقاومة العنيفة من السُّلطة أو الفصائل القوية في المجتمع.

المرحلة الثانية: التكيُف المُنظم:
وهي الحالة التي يبدأ معها المجتمع بالتكيف مع وسائل المقاومة الجديدة وقبول طريق الخروج من المتاهة البديل، وفي هذه المرحلة تحدث حالة من الإنعاش الاجتماعي، نتيجة زيادة عدد الذين يَقبلون الطريق الجديدة، ويحدث التحول الثقافي، حيث تحل الثقافة الجديدة وعناصرها المُختلفة محل الثقافة القديمة أو الثقافة المُشوهة، وهنا تبدأ مرحلة ثبات جديدة على التحول الثقافي، تُعاد فيها صياغة الأعراف والولاءات والنظرة إلى العالم، ورغم تمتع المجتمع معها بالهدوء النسبي، إلا أنها لا تخلو من التغيرات الثقافية المُتتابعة والتي تستمر لفترات طويلة، لاسيما الاقتصادية والسياسية.

فالعملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر) بدأت عندما تولى يحيى بن إبراهيم زعامة قبيلة (جدالة)، وكان مُطاعًا في قومه، معروفًا برجاحة عقله وسداد رأيه، حريصًا على إصلاح قومه، إذ خرج من قريته إلى (القيروان) عازمًا على أن يبحث عن طالب علم يساعده على إحياء روح الإسلام التي غابت معالمها في قبيلته، فقابل شيخ كبير من شيوخ المالكية وهو أبا عمران الفارسي، فاشتكى له انقطاع قومه في الصحراء عن العلم والدين حيث لا يصل إليهم إلا بعض التجار الجهال ممن حرفتهم البيع والشراء، وطلب منه أن يعاونه على تعليم قومه أصول الإسلام الصحيحة بإرسال أحد طلبة العلم النابهين معه، فأرسله أبو عمران إلى تلميذه المُقرب الفقيه المالكي وجاج بن زلو اللمطي، طالبًا منه أن يُرسل معه يثق في دينه وكثرة علمه وسياسته، ليُعلمهم شرائع الإسلام، ويُفقههم في الدين(6)

فعرض الأمر على تلميذه عبدالله بن ياسين ­ وكان كثير العلم كثير الترحال في طلبه ­ الذي وافق على الفور ورحل مع يحيى بن إبراهيم، تاركًا خلفه ماله وأهله وإقامته بالمدينة الساحلية إلى قلب الصحراء الموريتانية القاحلة، ليُؤدي دور المُلْهِم في العملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر)، حيث أقام في قبيلة (جدالة) أربع سنوات، حاول خلالها تصحيح عقيدة المجتمع، وتغيير عادات الفاسدة، ودعوة أفراده للتخلق بآداب الإسلام وأخلاقه.

ولم يكن للإصلاح الذي أراده يحيى بن إبراهيم وعبدالله بن ياسين لقبائل (البربر) أن يُثمر في إحداث التحول والتغيير دون أن يكون موجه بالأساس للأعيان والأثرياء قبل الفقراء والضعفاء، وكان من لزام ذلك أن دعوة ابن ياسين انصبت في المقام الأول على قِيم المساواة والعدل والرحمة، ونبذ الطبقية والمحسوبية، وتجنب الغش والخيانة والجور والتعسف والاستغلال، وضرورة تكوين أُمة متحدة متماسكة تستمد قوانينها وعاداتها من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة والتابعين.

وكان من نتائج ذلك أن اصطدم ابن ياسين بوجهاء وأعيان القبيلة الذين تعارضت مصالحهم مع دعوته، فتعرض للأذى والاضطهاد وانتهى الأمر بتهديدهم له بالقتل، فهَمَّ بالسفر إلى بعض قبائل السودان، غير أن الأمير يحيى رفض ذلك وأشار عليه بفكرة الاعتزال في رباط مجاور يقوم فيه بتنئشة وتربية رجال قادرين على مساندته في إحداث التغير المنشود.

فخرج ابن ياسين بمشورة الأمير يحيى إلى رباط في جزيرة معزولة وانصرف يُربي أتباعه، ويُفقههم في الدين، فالتف حوله الكثيرون، فكوّن من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شَكّل إدارات متعددة لتقوم بأمور الرباط وشئون المرابطين بعد أن صاروا من الكثرة بمكان، فضلًا عن مدارس علمية متنوعة، وبيت مال تُجمع فيه الصدقات والعشور.

وقد تميَّز الرباط بحسن إدارته وتنظيمه، ولم يقف الأمر عند حد ضبط الرباط وتنظيمه داخليًا، بل بدأ ابن ياسين بتوجيه النابهين من تلاميذه إلى قبائلهم كدعاة، فانقاد لهم القليل من أشراف صنهاجة، ولكن عموم القبائل تمنعت، فعزم ابن ياسين على تقويم الممانعين بالقوة، وإجبارهم على الانقياد له من خلال إعلانه الجهاد، واستطاع بسهولة إجبار الممانعين في قبيلة جدالة، ثم لَمتونة، ثم مسوفة، فانقادوا له وبايعوه، ثم أجابت عموم قبائل صنهاجة، فأرسل فيهم من يعلمهم الدين، ويُفقههم في أحكامه.

وظلت دولة (المرابطين) التي تأسست على أنقاض قبائل (البربر) في اتساع، حتى ضمت عموم قبائل صحراء شمال ووسط أفريقيا، وساعد على انتشار دعوة المرابطين وانقياد الناس لهم: رفع الظُلم عن الناس، وإسقاط المغارم والمكوس والضرائب التي كانت مفروضةً عليهم، وإصلاح أحوالهم الاجتماعية والمعيشية، وتغيير المنكرات التي كانت منتشرة في عاداتهم وتقاليدهم.

على أنه يجب أن يُفهم أن العملية الإحيائية هي عملية متعددة المستويات، تبدأ بالمستوى النفسي الذي يُركز على دور الانهيار في بدء العملية الإحيائية، والمستوى السلوكي الذي يُركز على تأثير الاستجابة في تسريع حدوث التحول، ومن جانب آخر المستوى الإنساني أو الفردي الذي يُركز على تأثير التحول بمراحله المُختلفة على الذات، والمستوى الاجتماعي الشمولي الذي ينظر لعملية التحول من كل الجوانب الاجتماعية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Eiko Takamizawa; Revitalization Movements Theory and Japanese Mission, Torch Trinity Journal, 7 (2004), P. 168.
(2) د. عاطف أمين وصفي: الثقافة والشخصية (الشخصية ومحدداتها الثقافية)، دار النهضة العربية (بيروت)، الطبعة الأولى 1981م، ص 68.
(3) Anthony Wallace; Religion an Anthropological View, New York, Random House, (1966)
(4) Anthony Wallace; Revitalization Movements, American Anthropologist, 58 (1956), P. 265.
(5) Anthony Wallace; Revitalization Movements, Ibid. P. 266.
(6) ابن عِذراي المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة (بيروت)، الطبعة الثالثة 1983م، ج 4 ص 7: 8.
‏١٠‏/١٠‏/٢٠١٧ ٨:١٩ م‏
ويسألونك عن انقلاب الجزائر! بقلم أ/ الصغير @[100001613664823:2048:منير] ((لتحميل العدد الجديد كاملًا: https://goo.gl/gYc5Jc)) كان انقلاب الجيش الجزائري على الاختيار الشعبي الجارف للجبهة الإسلامية للإنقاذ (ج إ إ ) في تشريعيات جانفي 1992م، نتيجة ومحصّلة لمقدّمات كثيرة ومتشابكة. فالانقلاب أولًا تمّ تسويقه أنّه مجرّد (توقيف للمسار الانتخابيّ) ليظهر كأنه إجراء مؤقت يتمّ من خلاله إصلاح واستدراك مواطن الخلل في العملية الانتخابية وبعض نتائجها غير المتوقّعة، التي كانت في الحقيقة صادمة للعسكر والعلمانيين وللغرب كله، وعلى رأسه فرنسا. كان هذا التسويق إعلاميًّا بامتياز، روّجت له الجرائد والصحف المفرنسة والمعرّبة التي كان يسيطر على 90% منها التيار العلماني واليساري الاستئصالي، بينما كان الشعب الجزائري يرى في الشارع انقلابًا صريحًا بكل أركانه ومقوماته. الغريب أن الجيش وأجهزة الأمن الأخرى لم تنتظر استكمال الدور الثاني من الانتخابات التشريعية؛ بل سارعت في غضب وحقد غير متوقعين إلى استباق الأحداث بطريقة كان فيها من الغدر والبطش والنكاية ما لم يكن يتوقعه في الجزائر أحد إلا مرتكبوه. والعجيب – وهو ما حدث مثله في مصر لاحقًا – أنه في الوقت الذي كانت فيه جرائد العلمانيين واليسار تحرض على الانقلاب تلميحًا وتصريحًا، وكانت مؤشرات تعفين الوضع أمنيًّا كمقدمة ضرورية جاريةً على قدم وساق وبإشراف ورعاية جهاز الأمن العسكريSM آنذاك، وفي الوقت الذي هدّد فيه سعيد سعدي رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية العلماني العرقي المتطرف الشيخ عباسي مدني رئيس ال (ج إإ) صراحة ودون أي غموض في حصة مباشِرة على التلفاز بقوله: "لن نترككم تمرّون"، ونون الجماعة التي استخدمها سعيد سعدي كانت في الحقيقة تعبّر عن شبكة من المؤسسات الرسمية والأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والنقابات التي تجمّعت قبيل الانقلاب وبعده، في (لجنة إنقاذ الجزائر) سيئة السمعة والذكر. في هذا الوقت كان آخر من يتوقّع الانقلاب ويحسب له حسابه ويأخذ للأمر أهبته هي قيادة الـ (ج إإ) ! لقد كان الانقلاب مُعدًّا له سلفًا، وتمّ فيه اعتماد مجموعة من الإجراءات كانت كفيلة بنجاحه لاحقًا على المستوى التكتيكي والاستراتيجي متوسط المدى؛ لأنه على المستوى الاستراتيجي البعيد أوقع الدولة كلها إلى يومنا هذا في مأزق الشرعية، ومع الانفتاح الإعلامي وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي وتواتر شهادات السياسيين والضباط الفارّين والمتقاعدين وظهور عدد معتبر من الدراسات والكتب والمقالات – وإن كانت غير كافية كمًّا ومضمونًا – وانتشار تسجيلات الفيديو عبر اليوتيوب؛ مع حدوث هذا كله أصبح كثير جدًّا من الشباب الجامعي والمثقف ممن لم يعايش تلك المرحلة يشكّك في كل مواقف السلطة ورواياتها للأحداث ويتبنى خطابًا رافضًا لها أو على الأقل متحفظًا وناقدًا، ومن هنا تأتي أهمية التوثيق كتابة وإحصاءً وصوتًا وصورة لكل حدث مهما بدا صغيرًا ولا أثر له. من الإجراءات التي تمّ اعتمادها في الانقلاب ما يلي: 1- إعداد وتحضير الإعلام المكتوب للانقلاب، من أجل تبريره و الدفاع عنه والتعتيم على كل ما يشوّش عليه ويعيق أداءه، وقد كانت شهادة الصحفي محمد فراح صحفي ثم مدير جريدة (مساء الجزائر) المفرنسة صادمة جدًّا وهو أحد كبار الصحفيين الاستئصاليين ومن أشد المدافعين عن انقلاب 92، عندما تحدّث في مقال شهير له عن لقاء مديري الجرائد مع وزير الإعلام الاستئصالي الانقلابي أبو بكر بلقايد، والذي قال فيه إنهم يتوقعون أن يكون عدد القتلى جرّاء الانقلاب في حدود 60000 ألف قتيل، وهذا قبيل حدوث الانقلاب وأثناء التحضيرات الأخيرة له(1). 2- التنسيق مع التيار العلماني واليساري الرافض للإسلام والمعادي له أحزابًا وجمعيات؛ لضمان تأييدها الكامل والذي كان في واقع الأمر مضمونًا مسبقًا؛ لأنهم كانوا أشد حرصًا ومطالبة بالانقلاب حتى من بعض ضباط الجيش السامين. 3- استخدام شعبية جبهة القوى الاشتراكية في منطقة القبائل (البربر)، بقيادة الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد ومعارضتها التاريخية للسلطة، بالسماح لها بمظاهرة ومسيرة ضخمة في العاصمة الجزائرية ترفض من خلالها حكم الإسلاميين، وتعتبره تهديدًا للجزائر وتشبّهه بالطاعون، وهو تحديدًا ما كان الانقلابيون يريدونه، وتمّ التسويق والتضخيم والاستثمار الإعلامي والسياسي لهذه المظاهرة الوحيدة كمبرر وغطاء يضفي قدرًا من الشرعية، كان الانقلابيون يبحثون عنها في كل مكان وعند كل أحد. 4- استباق الانقلاب بفبركة وتدبير أحداث أمنية متفاوتة وموزعة على عدد من ولايات الجزائر، منها ما كان من تدبير وتنفيذ المخابرات مباشرة، ومنها ما كان اختراقًا وتوظيفًا لمجموعات جهادية صغيرة جدًّا ومحدودة في البداية، سيكون لها بعد الانقلاب حضور طاغٍ وأثر كبير وخطر عظيم. 5- الاستنجاد بشخصيات تاريخية لها حضورها النضالي الثوري ودورها المميز في الحركة الوطنية وثورة التحرير، مثل علي كافي ومحمد بوضياف وغيرهما، واستغلال عدم تورطها المسبق في إدارة الدولة ومؤسساتها وعدم تلوثها بالفساد المالي والسياسي، وقد تمّ التمهيد لذلك قبل الانقلاب بمدّة عن طريق إرسال صحفيين بإشراف الاستخبارات لإجراء حوارات مع بوضياف وإخراجه من عزلته وتعريف الجزائريين به، وقد كان أكثرهم لا يعرفه ولا يسمع به، وكان ذلك تمهيدًا لاستخدام اسمه الثوري: سي الطيّب الوطني بعد الانقلاب وترؤسه للدولة، وبعد أن أدى دوره في إضفاء الشرعية على الانقلاب وتولّي كبر المحتشدات في الصحراء تمّ التخلّص منه بطريقة استعراضية باغتياله أمام الملأ وعلى مرأى ومسمع من الكاميرات والصحفيين، وهو ثاني اغتيال مصوّر على المباشر في العالم العربي بعد مشهد اغتيال السادات. 6- استغلال التنافر على مستوى المكتب الوطني لـ ج إإ ومجلس شوراها، وعدم اتّساق مواقف أعضائه في رؤاهم وتصوراتهم واختلاف مشاربهم الفكرية السابقة ومحاضنهم التربوية وانتماءاتهم التنظيمية قبل تأسيس الـ ج إإ؛ لإحداث فجوة وشروخ خطيرة في الموقف من الانقلاب بل قبله حينما ظهرت ملامح نجاح الإضراب العامّ. 7- ضمان تأييد ومساندة المنظمات الجماهيرية ذات الحضور الشعبيّ والتي كان كلّ كوادرها تقريبًا أعضاء في الأمن والاستخبارات أو متعاونين ومخبرين، واستغلال سذاجة قواعدها الجماهيرية وابتزاز قياداتها بالمصالح والمكاسب والامتيازات التي مُنِحت لها ومنها منظمة المجاهدين ومنظمة أبناء الشهداء والاتحاد العامّ للعمال الجزائريين واتحادات النساء والطلبة وغيرها، بينما لم يكن للممثلين والمغنّين - على عكس الحال في مصر - تأثير كبير في الرأي العام وتوجهاته، وقد أصبحت هذه المنظمات لاحقًا خزّانًا استمدّت منه المليشيات وفرق الدفاع الذاتي والحرس البلدي ثم خزّانا لحزب (التجمع الوطني الديموقراطي)، حينما احتاج الانقلابيون تأسيسه كواجهة سياسية تمثلهم وتعبّر عن مواقفهم. 8- ضمان حياد بل تأييد حركة الإخوان المسلمين ممثلة في حركة (حماس)، التي أصبحت لاحقا حركة (حِمْس)، والتي لم تنلْ مقعدًا واحدًا في التشريعيات وكانت قيادتها تشعر بغبن وظلم تاريخيين، وبأن البساط سُحب من تحت قدميها وهي الحركة الأقدم والأوسع انتشارًا والأكثر تنظيما بزعمهم، حتى لقد بارك رئيس حماس يومها خروج الدبابات لحماية الديموقراطية(2) واعتبر الـ(ج إإ) زجاجة انكسرت ويستحيل رأب صدعها وتجميع شظاياها! وأصبحت الحركة عضوًا في المجلس الانتقالي الذي أسّسه الانقلابيون وحظيت بامتيازات غير قليلة في مقابل مواقفها تلك، رغم أنها لم يكن مرضيًّا عنها تمامًا وكانت تتعرّض بشكل مستمرّ للضغط والابتزاز، وكان الاستئصاليون في الإعلام يعتبرونها خطرًا مؤجّلًا ريثما يتمّ إنهاء وطيّ ملفّ الـ (ج إإ)، وحديث الإخوان في الجزائر ذو شجون. 9- الحصول على موافقة وتأييد ومباركة فرنسا بعد الاجتماع الذي رتّبه وأشرف عليه الجنرال توفيق قائد الأمن العسكري بين الجنرالات: نزار وتواتي والعمّاري وبلخير، مع رئيس الاستخبارات الفرنسية: جان شارل ماركياني(3)، بل إن الدولة الفرنسية وأمنها كانت في الحقيقة هي عرّاب الانقلاب وحاميته والمستشار الأمين لمنفذّيه، مع ملاحظة أن الاجتماع تمّ في أحد مقرّات وزارة الدفاع ودون علم الرئيس الشاذلي بن جديد(4)، وهو يدلّ على عمق الاختراق والتدخّل الفرنسيين وعمق التواطؤ والعمالة من جهة جنرالات العسكر المذكورين. 10- النجاح في كسب تأييد المملكة العربية السعودية بكلّ ما كانت تمثّله يومها من ثقل إعلامي وديني، بل قد ذكر الجنرال نزّار في مذكراته أنه حين زار السعودية والتقى بالملك فهد بعد مقتل الرئيس بوضياف، قال له الملك عن منتسبي الـ (ج إإ): "هؤلاء ليسوا مسلمين". ثمّ قال له: "العصا.. العصا.. العصا" كرّرها ثلاث مرات. وقد تحدّثت التقارير الصحفية يومها عن دعم سعودي للانقلابيين بـ 03 ملايير دولار، وهو مبلغ كبير جدًّا في تلك الفترة، كما أن السعودية دعمت الجيش الجزائري بمدرّعات خفيفة وسريعة كان الجزائريون جميعا يتحدّثون أنّها سعودية وكانوا يسمّونها: فهد، نسبة إلى الملك وليس لسرعتها!(5). 11- تحييد التيّار الصوفي (الطرقي) الذي كان باستطاعته تثبيط وتخذيل أنصاره ومريديه وهم عشرات الألوف عن نصرة المظلومين، وكان يصمت تديّنًا أو رغبًا ورهبًا عن ظلم وجبروت وطغيان وإجرام رموز الانقلاب، مقابل السماح له بالانتشار واستعادة مواقعه وتأثيره، الذين فقدهما سنوات الصحوة وفي فترة الـ(ج إإ)، ولم يكن المطلوب من التيار الصوفي أكثر من ذلك. 12- اعتقال جميع قيادات (ج إإ) الوطنية والولائية والبلدية ورؤساء المجالس المنتخبة والبرلمانيين والدعاة وطلبة العلم والأئمة البارزين بشكل سريع ومباغت، ونقلهم إلى محتشدات الصحراء الرهيبة وقطع صلتهم بشكل كامل مع أهاليهم وإخوانهم في الحزب، ممّا أحدث فراغًا تعمّده الانقلابيون؛ وجد الشباب نفسَه بعده بدون قيادة ولا توجيه ولا معلومة ولا خطّة ولا موقف، فأربكه ذلك ودفعه إلى ردّات فعل غير محسوبة العواقب ولا معروفة المآلات، إضافة إلى الجهد السابق والموازي للاستخبارات في اختراق وتوجيه أولئك الشباب، الذين كان أكثرهم بين سنّ الـ 20 و 30 عامًا، وبدون ايّ تجربة سياسية أو تنظيمية أو أمنيّة كافية لمواجهة الواقع الجديد. لعلي أقف عند هذه النقاط الاثني عشرة، والتي تلخّص الاستراتيجية التي اعتمدها الانقلابيون في ملامحها الكبرى وكانت سببًا في تمكنهم من إدارة الأزمة التي كانوا هم صانعيها. إنها الاستراتيجية نفسها التي استخدمها العسكر في مصر مع تعديلات وإضافات، تتطلبها ظروف وسياقات وخصوصيات الأوضاع في مصر. لقد كان العسكر عمليّين وواقعيّين وجادّين وجُرآء في تنفيذ مشروعهم الدموي، وكانوا حازمين وقساة وغير متسامحين بشكل رهيب مع كل ما يقف في طريقهم ويحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم، وكانوا على قدر من التناغم والانسجام والولاء فيما بينهم مكّنهم من الاستجابة للتحدّيات والنجاح في خطّتهم ولو إلى حين. مع ملاحظة أن الجيش الجزائري كان قد وقع قبل الانقلاب قرابة عقد من الزمن تحت هيمنة شبه كاملة لمن يسمّيهم الجزائريون (ضبّاط فرنسا)، كما أن الجيش على مستوى الجنود وضباط الصفّ استُخدم بخبث ومكر وضغط نفسي وإعلامي رهيب كأداة تنفيذية من طرف العلمانيين في مراكز القرار والتأثير، واستُغلّ أبشع استغلال وتمّ توريطه بشكل جعله إلى يوم الناس هذا موضع تهمة وإدانة بالخيانة والولاء للغرب وأداء دور وظيفي قذِر لم يستطع التخلّص منها ولا الاعتذار والاعتراف بها ولا محاكمة المتورّطين فيها ولا نشر الأرشيف المتعلّق بها، وهو ما يحاول استدراكه منذ سنوات على احتشام وتردّد واضطراب في الرؤية والأهداف، فليس سهلًا أن يعترف الجيش وهو المؤسسة القوية المركزية أنه استُغلّ ووُظّف لمصلحة أطراف عدوّة للإسلام ولهويّة وانتماء الشعب الجزائري، وبيان أوّل نوفمبر الذي كان إطار المبادئ الإسلامية ثابتًا من ثوابته. كما أنّ الجيش كان قد وقع بالتدريج تحت هيمنة وتأثير جهاز الأمن العسكريّ وتدخلاته وفساد وانحراف وساديّة ضباطه، ولم يكن وحده في ذلك وإن كان هو رأس الحربة؛ بل كان معه جهازا الدرك والشرطة، الذان لم تكن أدوارهما أقلّ قذارة وإجرامًا وإن كانت أقلّ ظهورًا وانكشافًا بسبب حضور الجيش السياسي ومظاهر عسكرة الانقلاب التي جعلت الجيش يبوء بإثم الانقلاب ونتائجه كلها وحده. خلاصة ما حدث ويحدث إلى الآن: ● أن الجيوش العربية صُمّمت وأوكلت إليها وظائف ورُبطت باتفاقيات وعلاقات تدريب وتسليح، تجعلها حتمًا في مواجهة شعوبها إذا تحرّكت نحو المطالبة بالسيادة والحريّة والنهضة والاستقلال والتصالح مع دينها وشريعتها وهويتها وتاريخها. ●وأنّ أي جيش يزعم غير ذلك سيبقى خطابه نوعًا من التخدير والخداع ما دام لم يُختبَر ويُمتحن في محطّات الصراع (المفصليّة)، ولم يظهر من آثاره شيء يجعل الشعوب الحرّة تثق به وتطمئنّ إليه بناء على أفعال ومواقف واستجابات واضحة ومعلنة، لا على أقوال عاطفية وخطابات مناسباتية. ●وأنّ التحالف بين النخب العلمانية الاستئصالية والجيوش العربية تحالف عضوي، لا يستغني فيه أحد الطرفين عن الآخر برغم كلّ ما يمكن أن يحدث بينهما من الخصومات أو الاستقطاب أو سوء التفاهم أحيانًا. ●وأن أيّ حراك تغييري يتجاهل الجيوش وتأثيرها وموقعها في صلب النظام السياسي العربي الوظيفي الذي صمّمه الاستعمار أصلًا، ولا يمتلك رؤية واضحة واقعية جريئة للتعامل معها سيكون حراكًا فاشلًا، وسيتمّ ضربه وتفكيكه بسهولة ويسر، والأدلّة والوقائع كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ●وأنّ انتظار تفكّك هذه الجيوش أو سقوطها أو توبتها وعودتها إلى أحضان شعوبها وتبنّي قضاياها والدفاع عنها والتصالح معها، هكذا بدون خطّة أو جهد يؤدّي إلى ذلك – من داخل الجيوش أو من خارجها – وهْم جميل وحلم لذيذ، يثبّط كثيرًا من الساعين إلى التغيير ويخدّرهم ويشلّ قدرتهم على الإبداع والتجديد في تفكيرهم وخطابهم وأدائهم. ●وأنّ استراتيجية الأنظمة الوظيفية ومؤسساتها لم تتغيّر إلا في التفاصيل، كما أن تعامل حركات التغيير مع هذه الاستراتيجيات وردّات فعلها تجاهها بقيت هي هي، لم يستفد فيها اللاحق من السابق شيئًا إما استخفافًا وتجاهلًا أو غباء وجهلًا أو عنجهية وكبرًا. إنّ هناك غفلة كبيرة عن سنن التغيير والتمكين (كما هي) لا كما نريدها ونتمنّاها نحن، وهناك عاطفيّة ومثاليّة مَرَضيّة في التعامل مع الأحداث والأشخاص، تشكّلان تهديدًا لأيّ مشروع مهما كان عدد أنصاره وعمره التاريخي وتضحياته وإيمان أصحابه به . وهذا حديث آخر.. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)معمّر فراح، عنوان المقال: خالد نزّار؛ من أجل أن ننهي قضيّة محاكمة سويسرا، جريدة مساء الجزائر، Le Soir d’algerie، عدد: 13/08/2012 https://youtu.be/omlb2wT4CjM (2) تعذر على الكاتب العثور على التسجيل الذي تضمّن هذه المعلومة؛ لأنّ التلفزيون الجزائري لا يضع أرشيفه على الإنترنت. (3)حديثه مسجّل على اليوتيوب https://youtu.be/Zy7BmBY1xg8. (4)من قلب الحدث؛ مذكّرات النقيب السابق في الجيش الجزائريّ 1978-1992؛أحمد بن إبراهيم شوشان، ط1، أبريل (نيسان) 2013م. (5)مذكّرات الجنرال خالد نزّار؛ ط:الشهاب؛ 2000م؛ ص: 270-271؛ النسخة الفرنسية https://www.youtube.com/watch?v=7sNrYiyKnx8.
ويسألونك عن انقلاب الجزائر!

بقلم أ/ الصغير منير
((لتحميل العدد الجديد كاملًا: https://goo.gl/gYc5Jc))

كان انقلاب الجيش الجزائري على الاختيار الشعبي الجارف للجبهة الإسلامية للإنقاذ (ج إ إ ) في تشريعيات جانفي 1992م، نتيجة ومحصّلة لمقدّمات كثيرة ومتشابكة.
فالانقلاب أولًا تمّ تسويقه أنّه مجرّد (توقيف للمسار الانتخابيّ) ليظهر كأنه إجراء مؤقت يتمّ من خلاله إصلاح واستدراك مواطن الخلل في العملية الانتخابية وبعض نتائجها غير المتوقّعة، التي كانت في الحقيقة صادمة للعسكر والعلمانيين وللغرب كله، وعلى رأسه فرنسا.

كان هذا التسويق إعلاميًّا بامتياز، روّجت له الجرائد والصحف المفرنسة والمعرّبة التي كان يسيطر على 90% منها التيار العلماني واليساري الاستئصالي، بينما كان الشعب الجزائري يرى في الشارع انقلابًا صريحًا بكل أركانه ومقوماته.
الغريب أن الجيش وأجهزة الأمن الأخرى لم تنتظر استكمال الدور الثاني من الانتخابات التشريعية؛ بل سارعت في غضب وحقد غير متوقعين إلى استباق الأحداث بطريقة كان فيها من الغدر والبطش والنكاية ما لم يكن يتوقعه في الجزائر أحد إلا مرتكبوه.

والعجيب – وهو ما حدث مثله في مصر لاحقًا – أنه في الوقت الذي كانت فيه جرائد العلمانيين واليسار تحرض على الانقلاب تلميحًا وتصريحًا، وكانت مؤشرات تعفين الوضع أمنيًّا كمقدمة ضرورية جاريةً على قدم وساق وبإشراف ورعاية جهاز الأمن العسكريSM آنذاك، وفي الوقت الذي هدّد فيه سعيد سعدي رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية العلماني العرقي المتطرف الشيخ عباسي مدني رئيس ال (ج إإ) صراحة ودون أي غموض في حصة مباشِرة على التلفاز بقوله: "لن نترككم تمرّون"، ونون الجماعة التي استخدمها سعيد سعدي كانت في الحقيقة تعبّر عن شبكة من المؤسسات الرسمية والأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والنقابات التي تجمّعت قبيل الانقلاب وبعده، في (لجنة إنقاذ الجزائر) سيئة السمعة والذكر.

في هذا الوقت كان آخر من يتوقّع الانقلاب ويحسب له حسابه ويأخذ للأمر أهبته
هي قيادة الـ (ج إإ) !

لقد كان الانقلاب مُعدًّا له سلفًا، وتمّ فيه اعتماد مجموعة من الإجراءات كانت كفيلة بنجاحه لاحقًا على المستوى التكتيكي والاستراتيجي متوسط المدى؛ لأنه على المستوى الاستراتيجي البعيد أوقع الدولة كلها إلى يومنا هذا في مأزق الشرعية، ومع الانفتاح الإعلامي وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي وتواتر شهادات السياسيين والضباط الفارّين والمتقاعدين وظهور عدد معتبر من الدراسات والكتب والمقالات – وإن كانت غير كافية كمًّا ومضمونًا – وانتشار تسجيلات الفيديو عبر اليوتيوب؛ مع حدوث هذا كله أصبح كثير جدًّا من الشباب الجامعي والمثقف ممن لم يعايش تلك المرحلة يشكّك في كل مواقف السلطة ورواياتها للأحداث ويتبنى خطابًا رافضًا لها أو على الأقل متحفظًا وناقدًا، ومن هنا تأتي أهمية التوثيق كتابة وإحصاءً وصوتًا وصورة لكل حدث مهما بدا صغيرًا ولا أثر له.

من الإجراءات التي تمّ اعتمادها في الانقلاب ما يلي:
1- إعداد وتحضير الإعلام المكتوب للانقلاب، من أجل تبريره و الدفاع عنه والتعتيم على كل ما يشوّش عليه ويعيق أداءه، وقد كانت شهادة الصحفي محمد فراح صحفي ثم مدير جريدة (مساء الجزائر) المفرنسة صادمة جدًّا وهو أحد كبار الصحفيين الاستئصاليين ومن أشد المدافعين عن انقلاب 92، عندما تحدّث في مقال شهير له عن لقاء مديري الجرائد مع وزير الإعلام الاستئصالي الانقلابي أبو بكر بلقايد، والذي قال فيه إنهم يتوقعون أن يكون عدد القتلى جرّاء الانقلاب في حدود 60000 ألف قتيل، وهذا قبيل حدوث الانقلاب وأثناء التحضيرات الأخيرة له(1).

2- التنسيق مع التيار العلماني واليساري الرافض للإسلام والمعادي له أحزابًا وجمعيات؛ لضمان تأييدها الكامل والذي كان في واقع الأمر مضمونًا مسبقًا؛ لأنهم كانوا أشد حرصًا ومطالبة بالانقلاب حتى من بعض ضباط الجيش السامين.

3- استخدام شعبية جبهة القوى الاشتراكية في منطقة القبائل (البربر)، بقيادة الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد ومعارضتها التاريخية للسلطة، بالسماح لها بمظاهرة ومسيرة ضخمة في العاصمة الجزائرية ترفض من خلالها حكم الإسلاميين، وتعتبره تهديدًا للجزائر وتشبّهه بالطاعون، وهو تحديدًا ما كان الانقلابيون يريدونه، وتمّ التسويق والتضخيم والاستثمار الإعلامي والسياسي لهذه المظاهرة الوحيدة كمبرر وغطاء يضفي قدرًا من الشرعية، كان الانقلابيون يبحثون عنها في كل مكان وعند كل أحد.

4- استباق الانقلاب بفبركة وتدبير أحداث أمنية متفاوتة وموزعة على عدد من ولايات الجزائر، منها ما كان من تدبير وتنفيذ المخابرات مباشرة، ومنها ما كان اختراقًا وتوظيفًا لمجموعات جهادية صغيرة جدًّا ومحدودة في البداية، سيكون لها بعد الانقلاب حضور طاغٍ وأثر كبير وخطر عظيم.

5- الاستنجاد بشخصيات تاريخية لها حضورها النضالي الثوري ودورها المميز في الحركة الوطنية وثورة التحرير، مثل علي كافي ومحمد بوضياف وغيرهما، واستغلال عدم تورطها المسبق في إدارة الدولة ومؤسساتها وعدم تلوثها بالفساد المالي والسياسي، وقد تمّ التمهيد لذلك قبل الانقلاب بمدّة عن طريق إرسال صحفيين بإشراف الاستخبارات لإجراء حوارات مع بوضياف وإخراجه من عزلته وتعريف الجزائريين به، وقد كان أكثرهم لا يعرفه ولا يسمع به، وكان ذلك تمهيدًا لاستخدام اسمه الثوري: سي الطيّب الوطني بعد الانقلاب وترؤسه للدولة، وبعد أن أدى دوره في إضفاء الشرعية على الانقلاب وتولّي كبر المحتشدات في الصحراء تمّ التخلّص منه بطريقة استعراضية باغتياله أمام الملأ وعلى مرأى ومسمع من الكاميرات والصحفيين، وهو ثاني اغتيال مصوّر على المباشر في العالم العربي بعد مشهد اغتيال السادات.

6- استغلال التنافر على مستوى المكتب الوطني لـ ج إإ ومجلس شوراها، وعدم اتّساق مواقف أعضائه في رؤاهم وتصوراتهم واختلاف مشاربهم الفكرية السابقة ومحاضنهم التربوية وانتماءاتهم التنظيمية قبل تأسيس الـ ج إإ؛ لإحداث فجوة وشروخ خطيرة في الموقف من الانقلاب بل قبله حينما ظهرت ملامح نجاح الإضراب العامّ.

7- ضمان تأييد ومساندة المنظمات الجماهيرية ذات الحضور الشعبيّ والتي كان كلّ كوادرها تقريبًا أعضاء في الأمن والاستخبارات أو متعاونين ومخبرين، واستغلال سذاجة قواعدها الجماهيرية وابتزاز قياداتها بالمصالح والمكاسب والامتيازات التي مُنِحت لها ومنها منظمة المجاهدين ومنظمة أبناء الشهداء والاتحاد العامّ للعمال الجزائريين واتحادات النساء والطلبة وغيرها، بينما لم يكن للممثلين والمغنّين - على عكس الحال في مصر - تأثير كبير في الرأي العام وتوجهاته، وقد أصبحت هذه المنظمات لاحقًا خزّانًا استمدّت منه المليشيات وفرق الدفاع الذاتي والحرس البلدي ثم خزّانا لحزب (التجمع الوطني الديموقراطي)، حينما احتاج الانقلابيون تأسيسه كواجهة سياسية تمثلهم وتعبّر عن مواقفهم.

8- ضمان حياد بل تأييد حركة الإخوان المسلمين ممثلة في حركة (حماس)، التي أصبحت لاحقا حركة (حِمْس)، والتي لم تنلْ مقعدًا واحدًا في التشريعيات وكانت قيادتها تشعر بغبن وظلم تاريخيين، وبأن البساط سُحب من تحت قدميها وهي الحركة الأقدم والأوسع انتشارًا والأكثر تنظيما بزعمهم، حتى لقد بارك رئيس حماس يومها خروج الدبابات لحماية الديموقراطية(2) واعتبر الـ(ج إإ) زجاجة انكسرت ويستحيل رأب صدعها وتجميع شظاياها! وأصبحت الحركة عضوًا في المجلس الانتقالي الذي أسّسه الانقلابيون وحظيت بامتيازات غير قليلة في مقابل مواقفها تلك، رغم أنها لم يكن مرضيًّا عنها تمامًا وكانت تتعرّض بشكل مستمرّ للضغط والابتزاز، وكان الاستئصاليون في الإعلام يعتبرونها خطرًا مؤجّلًا ريثما يتمّ إنهاء وطيّ ملفّ الـ (ج إإ)، وحديث الإخوان في الجزائر ذو شجون.

9- الحصول على موافقة وتأييد ومباركة فرنسا بعد الاجتماع الذي رتّبه وأشرف عليه الجنرال توفيق قائد الأمن العسكري بين الجنرالات: نزار وتواتي والعمّاري وبلخير، مع رئيس الاستخبارات الفرنسية: جان شارل ماركياني(3)، بل إن الدولة الفرنسية وأمنها كانت في الحقيقة هي عرّاب الانقلاب وحاميته والمستشار الأمين لمنفذّيه، مع ملاحظة أن الاجتماع تمّ في أحد مقرّات وزارة الدفاع ودون علم الرئيس الشاذلي بن جديد(4)، وهو يدلّ على عمق الاختراق والتدخّل الفرنسيين وعمق التواطؤ والعمالة من جهة جنرالات العسكر المذكورين.

10- النجاح في كسب تأييد المملكة العربية السعودية بكلّ ما كانت تمثّله يومها من ثقل إعلامي وديني، بل قد ذكر الجنرال نزّار في مذكراته أنه حين زار السعودية والتقى بالملك فهد بعد مقتل الرئيس بوضياف، قال له الملك عن منتسبي الـ (ج إإ): "هؤلاء ليسوا مسلمين". ثمّ قال له: "العصا.. العصا.. العصا" كرّرها ثلاث مرات. وقد تحدّثت التقارير الصحفية يومها عن دعم سعودي للانقلابيين بـ 03 ملايير دولار، وهو مبلغ كبير جدًّا في تلك الفترة، كما أن السعودية دعمت الجيش الجزائري بمدرّعات خفيفة وسريعة كان الجزائريون جميعا يتحدّثون أنّها سعودية وكانوا يسمّونها: فهد، نسبة إلى الملك وليس لسرعتها!(5).

11- تحييد التيّار الصوفي (الطرقي) الذي كان باستطاعته تثبيط وتخذيل أنصاره ومريديه وهم عشرات الألوف عن نصرة المظلومين، وكان يصمت تديّنًا أو رغبًا ورهبًا عن ظلم وجبروت وطغيان وإجرام رموز الانقلاب، مقابل السماح له بالانتشار واستعادة مواقعه وتأثيره، الذين فقدهما سنوات الصحوة وفي فترة الـ(ج إإ)، ولم يكن المطلوب من التيار الصوفي أكثر من ذلك.

12- اعتقال جميع قيادات (ج إإ) الوطنية والولائية والبلدية ورؤساء المجالس المنتخبة والبرلمانيين والدعاة وطلبة العلم والأئمة البارزين بشكل سريع ومباغت، ونقلهم إلى محتشدات الصحراء الرهيبة وقطع صلتهم بشكل كامل مع أهاليهم وإخوانهم في الحزب، ممّا أحدث فراغًا تعمّده الانقلابيون؛ وجد الشباب نفسَه بعده بدون قيادة ولا توجيه ولا معلومة ولا خطّة ولا موقف، فأربكه ذلك ودفعه إلى ردّات فعل غير محسوبة العواقب ولا معروفة المآلات، إضافة إلى الجهد السابق والموازي للاستخبارات في اختراق وتوجيه أولئك الشباب، الذين كان أكثرهم بين سنّ الـ 20 و 30 عامًا، وبدون ايّ تجربة سياسية أو تنظيمية أو أمنيّة كافية لمواجهة الواقع الجديد.

لعلي أقف عند هذه النقاط الاثني عشرة، والتي تلخّص الاستراتيجية التي اعتمدها الانقلابيون في ملامحها الكبرى وكانت سببًا في تمكنهم من إدارة الأزمة التي كانوا هم صانعيها.

إنها الاستراتيجية نفسها التي استخدمها العسكر في مصر مع تعديلات وإضافات، تتطلبها ظروف وسياقات وخصوصيات الأوضاع في مصر.

لقد كان العسكر عمليّين وواقعيّين وجادّين وجُرآء في تنفيذ مشروعهم الدموي، وكانوا حازمين وقساة وغير متسامحين بشكل رهيب مع كل ما يقف في طريقهم ويحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم، وكانوا على قدر من التناغم والانسجام والولاء فيما بينهم مكّنهم من الاستجابة للتحدّيات والنجاح في خطّتهم ولو إلى حين.

مع ملاحظة أن الجيش الجزائري كان قد وقع قبل الانقلاب قرابة عقد من الزمن تحت هيمنة شبه كاملة لمن يسمّيهم الجزائريون (ضبّاط فرنسا)، كما أن الجيش على مستوى الجنود وضباط الصفّ استُخدم بخبث ومكر وضغط نفسي وإعلامي رهيب كأداة تنفيذية من طرف العلمانيين في مراكز القرار والتأثير، واستُغلّ أبشع استغلال وتمّ توريطه بشكل جعله إلى يوم الناس هذا موضع تهمة وإدانة بالخيانة والولاء للغرب وأداء دور وظيفي قذِر لم يستطع التخلّص منها ولا الاعتذار والاعتراف بها ولا محاكمة المتورّطين فيها ولا نشر الأرشيف المتعلّق بها، وهو ما يحاول استدراكه منذ سنوات على احتشام وتردّد واضطراب في الرؤية والأهداف، فليس سهلًا أن يعترف الجيش وهو المؤسسة القوية المركزية أنه استُغلّ ووُظّف لمصلحة أطراف عدوّة للإسلام ولهويّة وانتماء الشعب الجزائري، وبيان أوّل نوفمبر الذي كان إطار المبادئ الإسلامية ثابتًا من ثوابته.

كما أنّ الجيش كان قد وقع بالتدريج تحت هيمنة وتأثير جهاز الأمن العسكريّ وتدخلاته وفساد وانحراف وساديّة ضباطه، ولم يكن وحده في ذلك وإن كان هو رأس الحربة؛ بل كان معه جهازا الدرك والشرطة، الذان لم تكن أدوارهما أقلّ قذارة وإجرامًا وإن كانت أقلّ ظهورًا وانكشافًا بسبب حضور الجيش السياسي ومظاهر عسكرة الانقلاب التي جعلت الجيش يبوء بإثم الانقلاب ونتائجه كلها وحده.

خلاصة ما حدث ويحدث إلى الآن:
● أن الجيوش العربية صُمّمت وأوكلت إليها وظائف ورُبطت باتفاقيات وعلاقات تدريب وتسليح، تجعلها حتمًا في مواجهة شعوبها إذا تحرّكت نحو المطالبة بالسيادة والحريّة والنهضة والاستقلال والتصالح مع دينها وشريعتها وهويتها وتاريخها.

●وأنّ أي جيش يزعم غير ذلك سيبقى خطابه نوعًا من التخدير والخداع ما دام لم يُختبَر ويُمتحن في محطّات الصراع (المفصليّة)، ولم يظهر من آثاره شيء يجعل الشعوب الحرّة تثق به وتطمئنّ إليه بناء على أفعال ومواقف واستجابات واضحة ومعلنة، لا على أقوال عاطفية وخطابات مناسباتية.

●وأنّ التحالف بين النخب العلمانية الاستئصالية والجيوش العربية تحالف عضوي، لا يستغني فيه أحد الطرفين عن الآخر برغم كلّ ما يمكن أن يحدث بينهما من الخصومات أو الاستقطاب أو سوء التفاهم أحيانًا.

●وأن أيّ حراك تغييري يتجاهل الجيوش وتأثيرها وموقعها في صلب النظام السياسي العربي الوظيفي الذي صمّمه الاستعمار أصلًا، ولا يمتلك رؤية واضحة واقعية جريئة للتعامل معها سيكون حراكًا فاشلًا، وسيتمّ ضربه وتفكيكه بسهولة ويسر، والأدلّة والوقائع كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

●وأنّ انتظار تفكّك هذه الجيوش أو سقوطها أو توبتها وعودتها إلى أحضان شعوبها وتبنّي قضاياها والدفاع عنها والتصالح معها، هكذا بدون خطّة أو جهد يؤدّي إلى ذلك – من داخل الجيوش أو من خارجها – وهْم جميل وحلم لذيذ، يثبّط كثيرًا من الساعين إلى التغيير ويخدّرهم ويشلّ قدرتهم على الإبداع والتجديد في تفكيرهم وخطابهم وأدائهم.

●وأنّ استراتيجية الأنظمة الوظيفية ومؤسساتها لم تتغيّر إلا في التفاصيل، كما أن تعامل حركات التغيير مع هذه الاستراتيجيات وردّات فعلها تجاهها بقيت هي هي، لم يستفد فيها اللاحق من السابق شيئًا إما استخفافًا وتجاهلًا أو غباء وجهلًا أو عنجهية وكبرًا.

إنّ هناك غفلة كبيرة عن سنن التغيير والتمكين (كما هي) لا كما نريدها ونتمنّاها نحن، وهناك عاطفيّة ومثاليّة مَرَضيّة في التعامل مع الأحداث والأشخاص، تشكّلان تهديدًا لأيّ مشروع مهما كان عدد أنصاره وعمره التاريخي وتضحياته وإيمان أصحابه به .

وهذا حديث آخر..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)معمّر فراح، عنوان المقال: خالد نزّار؛ من أجل أن ننهي قضيّة محاكمة سويسرا، جريدة مساء الجزائر، Le Soir d’algerie، عدد: 13/08/2012
https://youtu.be/omlb2wT4CjM
(2) تعذر على الكاتب العثور على التسجيل الذي تضمّن هذه المعلومة؛ لأنّ التلفزيون الجزائري لا يضع أرشيفه على الإنترنت.
(3)حديثه مسجّل على اليوتيوب
https://youtu.be/Zy7BmBY1xg8.
(4)من قلب الحدث؛ مذكّرات النقيب السابق في الجيش الجزائريّ 1978-1992؛أحمد بن إبراهيم شوشان، ط1، أبريل (نيسان) 2013م.
(5)مذكّرات الجنرال خالد نزّار؛ ط:الشهاب؛ 2000م؛ ص: 270-271؛ النسخة الفرنسية
https://www.youtube.com/watch?v=7sNrYiyKnx8.
‏٠٨‏/١٠‏/٢٠١٧ ٨:٤٨ م‏
علوم محرمة على المسلمين (2) إدارة المخاطر والكوارث م. أحمد بكر لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/gYc5Jc تحدثنا في المقال السابق (علوم محرمة على المسلمين) عن أهمية العلوم في قيام الدول، وأن بالرغم من صعوبة السماح للدول بالحصول على العلوم إلا أننا أوردنا التجربة الألمانية كمثال بعد الحرب العالمية الأولى ونجاحها في القيام بدولة غزت العالم بالرغم من الهزيمة وشبه الاحتلال التي كانت تحته. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى مثل الصين الحديثة؛ لكننا اكتفينا بمثال واحد للتدليل على إمكانية الفكرة رغم صعوبتها. وإن كانت أوطاننا الآن تشكو من انعدام القيادات التي تمكن من تحقيق هذه النهضة، إلا أننا لن نعدم أن نعمل كأفراد وجماعات ما وسعنا حتى إن جاءت لحظة التنفيذ كان الأمر أسهل حينها. وأول علم سنعرضه في هذه السلسلة هو علم إدارة المخاطر والكوارث، وهو من علوم الإدارة الحديثة، ولنتعرف بصورة أكثر عليه، لابد من تعريف كل من هذه المصطلحات التي تعتبر مجالًا مستقلًّا بحد ذاته. إدارة المخاطر هو تحديد وتقييم ودراسة المخاطر، ومن ثم تقرير طرق معالجتها ومراقبتها والسيطرة عليها. والخطر يكمن في كل شيء يحيط بنا كبشر من الولادة وحتى الممات، وقد تكلمت في العدد الأول من المجلة عن خطة الطوارئ الشخصية على سبيل المثال، وهي تتعلق بالمخاطر التي قد تحيط بالإنسان في بيته، وهناك المخاطر في المشاريع المالية، ومخاطر الكوارث الطبيعية، ومخاطر الحروب، والقائمة لا تنتهي. فواقعيًّا لا توجد بيئة خالية من المخاطر بنسبة مائة في المئة، ومما يميز الدول الحديثة عن أنظمتنا المتخلفة هو وجود إدارة متخصصة ومعاهد أبحاث قائمة بتمويل كامل لإدارة المخاطر والكوارث. وهو ما قد يدفع البعض للاعتقاد بالعلم الكامل في هذه الدول، ورفعها لمصاف الإله، وهذا من الحماقة فالموضوع لا يتعدى كونه مجرد علم وحسن إدارة، مما يجعلهم يستفيدون بأي ظرف حتى لو في غير صالحهم وتغييره إلى ما يفيد مصالحهم الاستراتيجية، وقد نستشهد بما مدح به سيدنا عمرو بن العاص الروم في معرض حديثه عنهم، فمما قاله: “وأسرعهم إفاقة عند مصيبة”، وهذا هو عين مفهوم التعافي من الكوارث (Disaster Recovery) كما يعبر عنه حديثًا. كما أسلفنا فإدارة المخاطر يمكن الاستفادة منها في أوجه الحياة المختلفة فمثلًا استيقاظك صباحًا وذهابك للعمل هي عملية لها مخاطرها التي يجب عليك تقييمها ومن ثم محاولة تقليل المخاطر المتصلة بها، فذهابك للحمام فيه خطر الانزلاق، نزولك في المصعد فيه خطر أن يتعطل بك، قيادتك للسيارة فيها خطر الحوادث وهكذا. صحيح أن الكثير من هذه الأمور نقوم بها بشكل طبيعي ودوري؛ لكن يجب من حين لآخر أن تتحقق من استعدادك وجاهزيتك لمثل هذه المواقف. ومرورًا بالمواقف اليومية المعتادة المعرض لها الأشخاص إلى المواقف التي تتطلب جهد مؤسسات الدولة لتلافيها مثل الحروب والكوارث الطبيعية، نجد أنه لا غنى للدولة المسلمة القوية أن يكون بها من يتخصص في هذا العلم على اختلاف مجالاته السياسية والاقتصادية والعسكرية. فنأخذ مثلًا دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكيفية تعاملها مع الأخطار والكوارث المحيطة بها، نجد أن من أبرز عوامل قوتها هي حسن الإدارة للأزمات. مؤخرًا سمعنا عن إعصار ايرما وتقريبًا كل عام تضرب الولايات المتحدة أعاصير مهلكة، ناهيك عن مخاطر الهجمات العسكرية "الإرهابية"، الاضطرابات المحلية، الحروب الخارجية، كلها أمور تعرض أمن الولايات المتحدة ووجودها للخطر. لذا قامت الولايات المتحدة بإنشاء العديد من الوكالات الحكومية للتخطيط لإدارة الأزمات والكوارث أهمها (FEMA, Federal Emergency Management Agency) ، وهي وكالة تابعة لإدارة الأمن الداخلي تم إنشائها عام 1978 بأمر رئاسي. مهام هذه الوكالة الأساسية هي التنسيق والتحرك في حال وقوع أي كارثة داخل الولايات المتحدة، ومجالها أنواع الكوارث المختلفة الوارد حدوثها، وتضطلع بالتنسيق بين السلطات المحلية لكل ولاية، وترصد لها ميزانية مستقلة، وهي تقريبا تتراوح ما بين 10 إلى 15 مليار دولار سنويًّا. كما أسلفنا من مميزات التخصص والاستعداد في الدول الحديثة ومنها الولايات المتحدة، هي الجهوزية العالية، والتوقع، والاحتفاظ بتصورات مسبقة لسيناريوهات مختلفة، حتى غير المنطقي منها. على سبيل المثال هناك ورقة منشورة في موقع (FEMA) نقلًا عن مقالة مكتوبة في مركز السيطرة على الأوبئة (CDC)، يتكلم عن كيفية الاستعداد في حالة حدوث وباء يتسبب في انتشار الزومبي، نعم لم تخطئ في القراءة، هم يناقشون بكل جدية احتمالية انتشار وباء كهذا وكيفية مواجهته والاستعداد له. لذا حين تحدثنا عن إيمان بعض الأشخاص في مجتمعات تعيش تحت ظل أنظمة متخلفة مثل دولنا العربية وإسلامية بأمريكا، وأنها تتلاعب بمصائر الأمم والشعوب كأنها آله، فهذا نابع عن الجهل، فالموضوع علمي بحت ويتعلق بإسناد الأمر لذوي الاختصاص، وهو توجه من صميم الثقافة الاسمية بالأساس، لولا أن ابتلينا بطبقة حاكمة عميلة تعمدت الإفساد وتجهيل الأمة. ومفهوم إدارة المخاطر والأزمات هو من صميم ما يعلمه الإسلام لنا، ونلمسه في مواقف مختلفة في السيرة النبوية كقصة الهجرة، والغزوات المختلفة وأوضحها غزوة الأحزاب؛ حيث تضافرت عوامل خطر متعددة منها الغزو الخارجي والتهديد الداخلي من قبل اليهود، وبدأ مشروع دفاعي ضخم وهو حفر الخندق، كل هذه الأمور كانت عوامل خطر تعامل معها النبي صلى الله عليه، وبمشورة أصحابه رضوان الله عليهم بكفاءة تامة. وحتى نربط العلم بتطبيق عملي لنأخذ مثالًا حيًّا نلمسه جميعًا، ألا وهو كارثة الانقلاب العسكري، الذي حصل في مصر يوليو 2013. لأن الأمور في الغرب تقوم على الدراسات المعمقة للظواهر الاجتماعية، السياسية العسكرية، الاقتصادية... الخ؛ فالانقلابات ليست استثناء عما سبق؛ فهناك دراسات كاملة معمقة عن الانقلابات، أنماطها، الأسباب المؤدية لها، وكيفية تلافي الأنظمة الحاكمة لها. نظريًّا العوامل التي تجعل الانقلاب العسكري خطرًا على النظام من عدمه ثلاثة: · قوة المجتمع المدني وتأثيره. · شرعية النظام الحاكم. · الانقلابات السابقة وتاريخها. حكومة هشام قنديل، والرئيس المعزول محمد مرسي، وفي المجمل باقي القوى الإسلامية التي تمت معاملتها ككتلة واحدة بعد الانقلاب في التهميش والملاحقات بغرض الاعتقال والقتل أيضًا، تصرفت هذه القوى السياسية على اختلاف أطيافها ما عدا تيار الشباب الإسلامي المستقل ومعهم تيار الشيخ حازم أبو إسماعيل مع فرضية الانقلاب بالفرضية المستحيلة. مع أن الانقلاب نظريًّا خطر على أي نظام حاكم مهما كان استقراره وقوته، مثل مخاطر أخرى تحيق بالدول كالحروب والاجتياحات العسكرية، مخاطر كوارث طبيعية... إلخ؛ لكن تم التعامل بتجاهل بل واستخفاف في بعض الأحيان بهذه الفرضية بالرغم من أن النظام الجديد جاء في وقت صعب بعد إزاحة مبارك وتولي المجلس العسكري لشؤون الحكم في البلاد لفترة حاولوا فيها بكل طاقاتهم أن ينقلبوا على الثورة الهشة. لربما يعود الأمر إلى نقطتين: الأولى عدم استقراء التاريخ الواضح لتآمر العسكر على أي محاولة للتحرر من التبعية في مصر، والثانية عدم دراسة الموضوع من وجهة نظر علمية بحتة كنوع من إدارة المخاطر؛ حيث إن العديد من نظريات الحروب والثورات تتضمن الانقلابات كخطر يجب أخذه في الاعتبار. فالأمر ليس محض دراسات نظرية فحسب؛ بل هي مهمة واجبة على القيادات الشرعية لمعرفة كيفية تعاملهم مع الانقلاب حال وقوعه؛ بل واستباق ذلك باتباع استراتيجيات من شأنها منع وقوع الانقلاب. هاث وروزيت يشيران إلى أن القادة الذين يخافون أكثر من الانقلابات يرتكزون في الغالب إلى الاعتماد على تخويف الجماهير من مخاطر الغزو الخارجي، (مما يذكرنا بعبد الناصر والقذافي)، ومن الأمثلة على ذلك حرب الفوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، التي كانت سببها خوف النظام الأرجنتيني من محاولة الانقلاب عليه. تشير جوان لينز في كتابها (انهيار الأنظمة الديموقراطية) إلى أن أهم المؤشرات على انهيار الديموقراطية، حين يحتاج النظام الحاكم إلى التوثق من ولاء القوات العسكرية، وهو ما لمسناه مرارًا من تصريحات قيادات الإخوان وحزب الحرية والعدالة الحاكم، وآخرها التصريح الشهير لمرسي قبل الانقلاب بأيام معدودة عن (رجال مثل الدهب). ويجب الحديث هنا عن مصطلحين قد يبدوان لأول وهلة متقاربين، إلا أن أحدهما ليس بالضرورة يعبر عن الاخر ألا وهما: · خطر حدوث الانقلاب. · احتمالية حدوث الانقلاب. ولفهم الموضوع نضرب مثالين، الأول الولايات المتحدة حيث إن احتمالية حدوث انقلاب قليلة، بسبب تدابير وضعت من قبل المشرعين قانونيًّا، حرية الصحافة، ابتعاد الجيش عن التدخل في الحياة المدنية... إلخ. المثال الآخر هو سوريا قبل الثورة الحالية؛ حيث لم تشهد انقلابًا منذ تولي حافظ الأسد السلطة في 1971، حتى تولية بشار السلطة في 2000 وحتى بداية الثورة السورية في 2011، أربعون عامًا لم تشهد انقلابًا واحدًا، ليس بسبب انعدام خطر الانقلاب؛ بل بسبب التدابير الاحترازية لمنع وقوعه مما قلل من احتمالات حدوث انقلاب عسكري. الوضع المصري كان على النقيض، كان هناك خطر كبير لحدوث انقلاب مع احتمالية مرتفعة جدًّا شهدت عليها أحداث متتالية، لكن بالرغم من هذا لم يتم الاستعداد للحظة الانقلاب هذه. ولنتحدث هنا قليلًا عن النقاط الثلاث السابق ذكرها، حول العوامل الداخلة في شدة تأثير الانقلاب ومخاطره على النظام، وأولها: المجتمع المدني ومؤسساته. فوكوياما وجويل ميجدال يبرزان دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية في مواجهة الانقلابات العسكرية؛ حيث يتم مواجهة الانقلاب بتحريض الجماهير وعدم الانصياع لأوامر والتماهي مع القيادات الانقلابية؛ حيث إنه بغير وجود نقابات وأحزاب ومؤسسات غير حكومية قوية وفاعلة، فإن فرص مواجهة وإسقاط أي الانقلاب ستكون ضعيفة للغاية. أما في مصر، فقد رأينا بوضوح كيف أن أغلب هذه المنظمات كانت مدعومة بشكل كامل من الجيش، وأحيانًا من دول خارجية، مثل ما تم الإفصاح عنه من دعم الإمارات بالمال لحركة تمرد، وهي الحركة الأساسية التي انضوت باقي المنظمات والأحزاب تحتها واستغلها العسكر لتمرير الانقلاب؛ بل والدفاع عنه داخليًّا وخارجيًّا. ثانيا: شرعية النظام الحاكم، والشرعية قد يعبر عنها بإجماع أو توافق الشعب، الأحزاب، النخب، المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية على حق الدولة بإصدار القوانين و الأحكام وتنفيذها. والشرعية مهمة لا خلاف على ذلك حتى بالنسبة لقادة الانقلاب، أو أنظمة حكم الفرد الواحد أو الديكتاتوريات، تحتاج أيضًا لنوع ما من الشرعية وإن كانت مزيفة؛ لذا شهدنا استفتاءات تحت حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، وحتى بعد الانقلاب بقيادة السيسي فإنه حاول القيام بالأمر بتمثيلية لإسباغ شرعية ما عليه بتعيينه رئيسًا مؤقتًا ثم دستورًا جديدًا، وانتهاء بمسرحية الانتخابات الرئاسية المقررة سلفًا نتيجتها. ثالث هذه العوامل: تاريخ الانقلاب، حيث إن حدوث انقلابات سابقة في الدولة يشير إلى احتمالية تكرارها مرة أخرى، بصورة أكبر من تلك الدول التي تجنبت الانقلابات. الخلاصة نرى أن أخذ الأمر بصورة علمية، والاستعانة بهذه العلوم الغائبة عنا ومنها علم إدارة المخاطر والكوارث، كان ليجنبنا أو على أقل تقدير كان ليعدّنا بصورة أفضل لمنع كارثة الانقلاب العسكري، عوضًا عن تخدير للقاعدة الجماهيرية الهائلة في أول أيام تولي مرسي للحكم، وظل التخدير قائمًا إلى ما قبيل الانقلاب، ثم فوجئت هذه القاعدة - وأظن أغلب القيادات أيضًا - بالانقلاب، ومن ثم ظل التخبط قائمًا بعد حدوثه إلى أن آلت النتيجة إلى مذابح واعتقالات بحق فئة كبيرة من الشعب. ـــــــــــــــــــــــــــ مصادر (1) https://www.fema.gov/blog/2011-05-19/cdc-preparedness-101-zombie-apocalypse (2) إدارة الأزمة في الفكر الإسلامي - أ.د عبد الله الكيلاني (3) http://www.riskmanagementmonitor.com (4) Toward a structural understanding of coup risk – Aaron Belkin and Evan Schofer.
علوم محرمة على المسلمين (2)
إدارة المخاطر والكوارث

م. أحمد بكر
لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/gYc5Jc

تحدثنا في المقال السابق (علوم محرمة على المسلمين) عن أهمية العلوم في قيام الدول، وأن بالرغم من صعوبة السماح للدول بالحصول على العلوم إلا أننا أوردنا التجربة الألمانية كمثال بعد الحرب العالمية الأولى ونجاحها في القيام بدولة غزت العالم بالرغم من الهزيمة وشبه الاحتلال التي كانت تحته.

وهناك العديد من الأمثلة الأخرى مثل الصين الحديثة؛ لكننا اكتفينا بمثال واحد للتدليل على إمكانية الفكرة رغم صعوبتها.

وإن كانت أوطاننا الآن تشكو من انعدام القيادات التي تمكن من تحقيق هذه النهضة، إلا أننا لن نعدم أن نعمل كأفراد وجماعات ما وسعنا حتى إن جاءت لحظة التنفيذ كان الأمر أسهل حينها.

وأول علم سنعرضه في هذه السلسلة هو علم إدارة المخاطر والكوارث، وهو من علوم الإدارة الحديثة، ولنتعرف بصورة أكثر عليه، لابد من تعريف كل من هذه المصطلحات التي تعتبر مجالًا مستقلًّا بحد ذاته.

إدارة المخاطر هو تحديد وتقييم ودراسة المخاطر، ومن ثم تقرير طرق معالجتها ومراقبتها والسيطرة عليها.

والخطر يكمن في كل شيء يحيط بنا كبشر من الولادة وحتى الممات، وقد تكلمت في العدد الأول من المجلة عن خطة الطوارئ الشخصية على سبيل المثال، وهي تتعلق بالمخاطر التي قد تحيط بالإنسان في بيته، وهناك المخاطر في المشاريع المالية، ومخاطر الكوارث الطبيعية، ومخاطر الحروب، والقائمة لا تنتهي.

فواقعيًّا لا توجد بيئة خالية من المخاطر بنسبة مائة في المئة، ومما يميز الدول الحديثة عن أنظمتنا المتخلفة هو وجود إدارة متخصصة ومعاهد أبحاث قائمة بتمويل كامل لإدارة المخاطر والكوارث.

وهو ما قد يدفع البعض للاعتقاد بالعلم الكامل في هذه الدول، ورفعها لمصاف الإله، وهذا من الحماقة فالموضوع لا يتعدى كونه مجرد علم وحسن إدارة، مما يجعلهم يستفيدون بأي ظرف حتى لو في غير صالحهم وتغييره إلى ما يفيد مصالحهم الاستراتيجية، وقد نستشهد بما مدح به سيدنا عمرو بن العاص الروم في معرض حديثه عنهم، فمما قاله: “وأسرعهم إفاقة عند مصيبة”، وهذا هو عين مفهوم التعافي من الكوارث (Disaster Recovery) كما يعبر عنه حديثًا.

كما أسلفنا فإدارة المخاطر يمكن الاستفادة منها في أوجه الحياة المختلفة فمثلًا استيقاظك صباحًا وذهابك للعمل هي عملية لها مخاطرها التي يجب عليك تقييمها ومن ثم محاولة تقليل المخاطر المتصلة بها، فذهابك للحمام فيه خطر الانزلاق، نزولك في المصعد فيه خطر أن يتعطل بك، قيادتك للسيارة فيها خطر الحوادث وهكذا. صحيح أن الكثير من هذه الأمور نقوم بها بشكل طبيعي ودوري؛ لكن يجب من حين لآخر أن تتحقق من استعدادك وجاهزيتك لمثل هذه المواقف.

ومرورًا بالمواقف اليومية المعتادة المعرض لها الأشخاص إلى المواقف التي تتطلب جهد مؤسسات الدولة لتلافيها مثل الحروب والكوارث الطبيعية، نجد أنه لا غنى للدولة المسلمة القوية أن يكون بها من يتخصص في هذا العلم على اختلاف مجالاته السياسية والاقتصادية والعسكرية.

فنأخذ مثلًا دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكيفية تعاملها مع الأخطار والكوارث المحيطة بها، نجد أن من أبرز عوامل قوتها هي حسن الإدارة للأزمات.

مؤخرًا سمعنا عن إعصار ايرما وتقريبًا كل عام تضرب الولايات المتحدة أعاصير مهلكة، ناهيك عن مخاطر الهجمات العسكرية "الإرهابية"، الاضطرابات المحلية، الحروب الخارجية، كلها أمور تعرض أمن الولايات المتحدة ووجودها للخطر.

لذا قامت الولايات المتحدة بإنشاء العديد من الوكالات الحكومية للتخطيط لإدارة الأزمات والكوارث أهمها (FEMA, Federal Emergency Management Agency) ، وهي وكالة تابعة لإدارة الأمن الداخلي تم إنشائها عام 1978 بأمر رئاسي.

مهام هذه الوكالة الأساسية هي التنسيق والتحرك في حال وقوع أي كارثة داخل الولايات المتحدة، ومجالها أنواع الكوارث المختلفة الوارد حدوثها، وتضطلع بالتنسيق بين السلطات المحلية لكل ولاية، وترصد لها ميزانية مستقلة، وهي تقريبا تتراوح ما بين 10 إلى 15 مليار دولار سنويًّا.

كما أسلفنا من مميزات التخصص والاستعداد في الدول الحديثة ومنها الولايات المتحدة، هي الجهوزية العالية، والتوقع، والاحتفاظ بتصورات مسبقة لسيناريوهات مختلفة، حتى غير المنطقي منها.

على سبيل المثال هناك ورقة منشورة في موقع (FEMA) نقلًا عن مقالة مكتوبة في مركز السيطرة على الأوبئة (CDC)، يتكلم عن كيفية الاستعداد في حالة حدوث وباء يتسبب في انتشار الزومبي، نعم لم تخطئ في القراءة، هم يناقشون بكل جدية احتمالية انتشار وباء كهذا وكيفية مواجهته والاستعداد له.

لذا حين تحدثنا عن إيمان بعض الأشخاص في مجتمعات تعيش تحت ظل أنظمة متخلفة مثل دولنا العربية وإسلامية بأمريكا، وأنها تتلاعب بمصائر الأمم والشعوب كأنها آله، فهذا نابع عن الجهل، فالموضوع علمي بحت ويتعلق بإسناد الأمر لذوي الاختصاص، وهو توجه من صميم الثقافة الاسمية بالأساس، لولا أن ابتلينا بطبقة حاكمة عميلة تعمدت الإفساد وتجهيل الأمة.

ومفهوم إدارة المخاطر والأزمات هو من صميم ما يعلمه الإسلام لنا، ونلمسه في مواقف مختلفة في السيرة النبوية كقصة الهجرة، والغزوات المختلفة وأوضحها غزوة الأحزاب؛ حيث تضافرت عوامل خطر متعددة منها الغزو الخارجي والتهديد الداخلي من قبل اليهود، وبدأ مشروع دفاعي ضخم وهو حفر الخندق، كل هذه الأمور كانت عوامل خطر تعامل معها النبي صلى الله عليه، وبمشورة أصحابه رضوان الله عليهم بكفاءة تامة.

وحتى نربط العلم بتطبيق عملي لنأخذ مثالًا حيًّا نلمسه جميعًا، ألا وهو كارثة الانقلاب العسكري، الذي حصل في مصر يوليو 2013.

لأن الأمور في الغرب تقوم على الدراسات المعمقة للظواهر الاجتماعية، السياسية العسكرية، الاقتصادية... الخ؛ فالانقلابات ليست استثناء عما سبق؛ فهناك دراسات كاملة معمقة عن الانقلابات، أنماطها، الأسباب المؤدية لها، وكيفية تلافي الأنظمة الحاكمة لها.

نظريًّا العوامل التي تجعل الانقلاب العسكري خطرًا على النظام من عدمه ثلاثة:
· قوة المجتمع المدني وتأثيره.
· شرعية النظام الحاكم.
· الانقلابات السابقة وتاريخها.

حكومة هشام قنديل، والرئيس المعزول محمد مرسي، وفي المجمل باقي القوى الإسلامية التي تمت معاملتها ككتلة واحدة بعد الانقلاب في التهميش والملاحقات بغرض الاعتقال والقتل أيضًا، تصرفت هذه القوى السياسية على اختلاف أطيافها ما عدا تيار الشباب الإسلامي المستقل ومعهم تيار الشيخ حازم أبو إسماعيل مع فرضية الانقلاب بالفرضية المستحيلة.

مع أن الانقلاب نظريًّا خطر على أي نظام حاكم مهما كان استقراره وقوته، مثل مخاطر أخرى تحيق بالدول كالحروب والاجتياحات العسكرية، مخاطر كوارث طبيعية... إلخ؛ لكن تم التعامل بتجاهل بل واستخفاف في بعض الأحيان بهذه الفرضية بالرغم من أن النظام الجديد جاء في وقت صعب بعد إزاحة مبارك وتولي المجلس العسكري لشؤون الحكم في البلاد لفترة حاولوا فيها بكل طاقاتهم أن ينقلبوا على الثورة الهشة.

لربما يعود الأمر إلى نقطتين: الأولى عدم استقراء التاريخ الواضح لتآمر العسكر على أي محاولة للتحرر من التبعية في مصر، والثانية عدم دراسة الموضوع من وجهة نظر علمية بحتة كنوع من إدارة المخاطر؛ حيث إن العديد من نظريات الحروب والثورات تتضمن الانقلابات كخطر يجب أخذه في الاعتبار.

فالأمر ليس محض دراسات نظرية فحسب؛ بل هي مهمة واجبة على القيادات الشرعية لمعرفة كيفية تعاملهم مع الانقلاب حال وقوعه؛ بل واستباق ذلك باتباع استراتيجيات من شأنها منع وقوع الانقلاب.

هاث وروزيت يشيران إلى أن القادة الذين يخافون أكثر من الانقلابات يرتكزون في الغالب إلى الاعتماد على تخويف الجماهير من مخاطر الغزو الخارجي، (مما يذكرنا بعبد الناصر والقذافي)، ومن الأمثلة على ذلك حرب الفوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، التي كانت سببها خوف النظام الأرجنتيني من محاولة الانقلاب عليه.

تشير جوان لينز في كتابها (انهيار الأنظمة الديموقراطية) إلى أن أهم المؤشرات على انهيار الديموقراطية، حين يحتاج النظام الحاكم إلى التوثق من ولاء القوات العسكرية، وهو ما لمسناه مرارًا من تصريحات قيادات الإخوان وحزب الحرية والعدالة الحاكم، وآخرها التصريح الشهير لمرسي قبل الانقلاب بأيام معدودة عن (رجال مثل الدهب).
ويجب الحديث هنا عن مصطلحين قد يبدوان لأول وهلة متقاربين، إلا أن أحدهما ليس بالضرورة يعبر عن الاخر ألا وهما:
· خطر حدوث الانقلاب.
· احتمالية حدوث الانقلاب.

ولفهم الموضوع نضرب مثالين، الأول الولايات المتحدة حيث إن احتمالية حدوث انقلاب قليلة، بسبب تدابير وضعت من قبل المشرعين قانونيًّا، حرية الصحافة، ابتعاد الجيش عن التدخل في الحياة المدنية... إلخ.

المثال الآخر هو سوريا قبل الثورة الحالية؛ حيث لم تشهد انقلابًا منذ تولي حافظ الأسد السلطة في 1971، حتى تولية بشار السلطة في 2000 وحتى بداية الثورة السورية في 2011، أربعون عامًا لم تشهد انقلابًا واحدًا، ليس بسبب انعدام خطر الانقلاب؛ بل بسبب التدابير الاحترازية لمنع وقوعه مما قلل من احتمالات حدوث انقلاب عسكري.
الوضع المصري كان على النقيض، كان هناك خطر كبير لحدوث انقلاب مع احتمالية مرتفعة جدًّا شهدت عليها أحداث متتالية، لكن بالرغم من هذا لم يتم الاستعداد للحظة الانقلاب هذه.

ولنتحدث هنا قليلًا عن النقاط الثلاث السابق ذكرها، حول العوامل الداخلة في شدة تأثير الانقلاب ومخاطره على النظام، وأولها: المجتمع المدني ومؤسساته. فوكوياما وجويل ميجدال يبرزان دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية في مواجهة الانقلابات العسكرية؛ حيث يتم مواجهة الانقلاب بتحريض الجماهير وعدم الانصياع لأوامر والتماهي مع القيادات الانقلابية؛ حيث إنه بغير وجود نقابات وأحزاب ومؤسسات غير حكومية قوية وفاعلة، فإن فرص مواجهة وإسقاط أي الانقلاب ستكون ضعيفة للغاية.

أما في مصر، فقد رأينا بوضوح كيف أن أغلب هذه المنظمات كانت مدعومة بشكل كامل من الجيش، وأحيانًا من دول خارجية، مثل ما تم الإفصاح عنه من دعم الإمارات بالمال لحركة تمرد، وهي الحركة الأساسية التي انضوت باقي المنظمات والأحزاب تحتها واستغلها العسكر لتمرير الانقلاب؛ بل والدفاع عنه داخليًّا وخارجيًّا.

ثانيا: شرعية النظام الحاكم، والشرعية قد يعبر عنها بإجماع أو توافق الشعب، الأحزاب، النخب، المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية على حق الدولة بإصدار القوانين و الأحكام وتنفيذها.

والشرعية مهمة لا خلاف على ذلك حتى بالنسبة لقادة الانقلاب، أو أنظمة حكم الفرد الواحد أو الديكتاتوريات، تحتاج أيضًا لنوع ما من الشرعية وإن كانت مزيفة؛ لذا شهدنا استفتاءات تحت حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، وحتى بعد الانقلاب بقيادة السيسي فإنه حاول القيام بالأمر بتمثيلية لإسباغ شرعية ما عليه بتعيينه رئيسًا مؤقتًا ثم دستورًا جديدًا، وانتهاء بمسرحية الانتخابات الرئاسية المقررة سلفًا نتيجتها.

ثالث هذه العوامل: تاريخ الانقلاب، حيث إن حدوث انقلابات سابقة في الدولة يشير إلى احتمالية تكرارها مرة أخرى، بصورة أكبر من تلك الدول التي تجنبت الانقلابات.

الخلاصة نرى أن أخذ الأمر بصورة علمية، والاستعانة بهذه العلوم الغائبة عنا ومنها علم إدارة المخاطر والكوارث، كان ليجنبنا أو على أقل تقدير كان ليعدّنا بصورة أفضل لمنع كارثة الانقلاب العسكري، عوضًا عن تخدير للقاعدة الجماهيرية الهائلة في أول أيام تولي مرسي للحكم، وظل التخدير قائمًا إلى ما قبيل الانقلاب، ثم فوجئت هذه القاعدة - وأظن أغلب القيادات أيضًا - بالانقلاب، ومن ثم ظل التخبط قائمًا بعد حدوثه إلى أن آلت النتيجة إلى مذابح واعتقالات بحق فئة كبيرة من الشعب.

ـــــــــــــــــــــــــــ
مصادر

(1)
https://www.fema.gov/blog/2011-05-19/cdc-preparedness-101-zombie-apocalypse
(2) إدارة الأزمة في الفكر الإسلامي - أ.د عبد الله الكيلاني
(3)
http://www.riskmanagementmonitor.com/
(4) Toward a structural understanding of coup risk – Aaron Belkin and Evan Schofer.
‏٠٦‏/١٠‏/٢٠١٧ ٧:٢٥ م‏
سلسلة يجب كسرها (افتتاحية العدد الجديد)
بقلم محمد إلهامي

لتحميل العدد الجديد: https://goo.gl/gYc5Jc

يقال إن ديكا كان يؤذن كل صباح، فتضايق منه أحدهم فجاء إليه وقال: لئن أذنت مرة أخرى فسوف أذبحك. خاف الديك وكف عن الأذان وآثر السلامة. فجاءه الرجل بعد زمن وقال له: إن لم تصح مثل الدجاجات فسأذبحك! ارتاع الديك وتأفف لكنه آثر السلامة وحاكى صياح الدجاج. ثم جاءه بعد زمن فقال له: إن لم تبض مثل الدجاج فسأذبحك! حينها بكى الديك متأسفا وقال: ليتني مت وأنا أؤذن!

تلك قصة العلماء مع الطغاة..

لقد قال الله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).

لولا هاتان الآيتان وأمثالهما في المعنى لظن بل لتمنى الكثيرون من أهل الحق أن يتوصلوا مع الباطل إلى حل وسط، أو أن يكتفي الباطل بانتصار دون سحق وإنهاء..

لكننا اكتشفنا من تلك الآيات أن المعركة بين الحق والباطل صفرية.

يتحدث الكثيرون عن مشكلة التفكير الرغبوي، التفكير بالرغبة وبالتمني، وأكثر ما ينشأ نمط التفكير هذا حين يستصعب المرء خوض المعركة، فلا يزال يقنع نفسه أن التفاهم ممكن، وأن الحلول الوسط كفيلة، وأن الخصم لن يذهب في العداوة إلى كل هذا الحد! حتى تقع الواقعة أو حتى يفوت الوقت، ولات حين مندم!

أحرى الناس أن يعرفوا هذا هم العلماء بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فقد علموا وعلمونا قصة فرعون الذي لم يقبل من أحد أقل من الألوهية والربوبية فقال (يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيري)، وقال: (أنا ربكم الأعلى). وحكامنا منذ وضعهم الاستعمار في بلادنا لم تلح لأحدهم فرصة إلا وقال مثل ما قال فرعون أو ترك الناس يقولون له كما قيل لفرعون، فإن شاعر صدام قال له:

تبارك وجهك الخلاق فينا .. كوجه الله ينضح بالجلال

وقال أكرم السعدني للسيسي مثل ما قاله ابن هانئ للحاكم:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار .. فاحكم فأنت الواحد القهار

وكان شعار حزب البعث:
آمنت بالبعث ربا لا شريك له .. وبالعروبة دينا ما له ثانِ

وأفطر بورقيبة في نهار رمضان ودعا الناس أن يفطروا وأراد أن يحمل العلماء على الفتوى، وقد كادوا لولا وقفة الطاهر بن عاشور وقولته العامة "صدق الله وكذب بورقيبة"، وهذا السبسي خريج مدرسته يسمح بزواج المسلمة من غير المسلم، ولعله عند صدور هذا العدد يكون قد أصدر قراره بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى.
من يحاول التعايش مع الاستبداد سيضطر إلى تحريف الدين ولن يُرضي المستبدين.

ومهاودة العالم للطاغية هي كمهاودة الديك، لن تقف عند الكف عن قول الحق بل لا بد من قول الباطل وفعل الباطل والتحريض على الباطل!

وتلك الاعتقالات التي تعصف بالعلماء في السعودية لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة كذلك.. ومن حاولوا قديما تجنب سطوة الطاغية وقعوا الآن في فخ أشد، ثم أولئك الذين يحاولون الآن إرضاءه سيقعون غدا فيما هو أفدح وأخزى.. حتى تصير الحال على فسطاطين: المنافقون الآكلون بدينهم في الخزي والخوف في بيوتهم وعلى أسرة السلطان! والثابتون في المنافي أو الزنازين أو القبور.. إلا أن أولئك درجات، فلا يستوي من مات وهو يؤذن مع من مات يرفض أن يصيح كالدجاج!

ينبغي كسر تلك السلسلة.. السلسلة التي يمسك الطاغية بطرفها يريد شد العلماء ووضعهم تحت أمره، ويمسك العلماء بطرفها الآخر تحدوهم الطمأنينة يتوهمون أن الأمر لن يبلغ تلك الدرجة. فإن لم يمكن كسرها من جهة السلطة بالعجز عن التغيير فلا أقل من كسرها من جهة العلماء بكسر اطمئنانهم هذا فيكون أحسن الممكن أن يفلتوا قبل وقوع الفأس في الرأس أو وقوعهم هم في السجن يُفتنون في دينهم ويُراودون عليه!

لا مصالحة بين القرآن والطغيان! ومقتضى التوحيد نزع السلطان عن البشر.. وتلك المعركة لم تنته أبدا إلى حلول وسط، بل إما هذا أو ذاك.

====
بينما تعد المجلة للصدور، فجعنا خبر وفاة فضيلة الأستاذ الكبير المجاهد محمد مهدي عاكف في سجون العسكر بمصر، ولا نقول إلا: عزاؤنا يوم ثأرنا.

وأما الشهيد فنحسب أن الله اصطفاه بالشهادة، وختم له بالثبات والأجر بعد العمر المديد المبذول في العمل وفي الجهاد وفي المحنة.. ولقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن غمسة واحدة في الجنة تُنسي كل شقاء الدنيا.

رحم الله الشيخ الكبير المجاهد المعمر، وآجرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيرا منها، ورزقنا ثأرا يبلغ شفاء الصدور
‏٠٥‏/١٠‏/٢٠١٧ ٧:٣٤ م‏
(( العدد الجديد )) بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الثالث من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر أكتوبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي: https://goo.gl/gYc5Jc نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق: تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq المدونة: https://klmtuhaq.blog تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
(( العدد الجديد ))

بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الثالث من مجلة (كلمة حق)، عدد شهر أكتوبر، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.
لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الجديد اضغط على الرابط التالي:
https://goo.gl/gYc5Jc

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة #مجلة_كلمة_حق:
تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
المدونة:
https://klmtuhaq.blog/
تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/١٠‏/٢٠١٧ ٨:٥٨ م‏
دور المفكرين في إسقاط الأنظمة ( 2 ) اللورد برايس نموذجًا د. أحمد الشرقاوي @[100002370332573:2048:Ahmed] كانت مسألة تهجير الأرمن من المناطق الحدودية مع روسيا إلى ولاية سوريا العثمانية، وما صاحبها من حوادث وتجاوزات =مادة خصبة للدعاية والإعلام خاصة في وقت الحرب؛ إذ تصبح وسائل الدعاية من الأسلحة التي لا تقل أهمية عن طوابير الجيش الأربعة. وعليه؛ فقد استمرت وسائل الإعلام الغربي، خاصة دول الحلفاء، في إبراز الأحداث الأرمنية بالشكل الذي يخدم دول الحلفاء، ومن الطبيعي أن يكون ذلك بتوجيهات من الحكومات بما يؤيد خططها، ويخدم مصالحها وتوجهاتها. في 2 أكتوبر 1915 كتب اللورد كرومر إلى اللورد كريو في وزارة الخارجية، لعرض المسألة الأرمنية في مجلس اللوردات الذي سيعقد بعد أيام، يقول فيه: "أعتقد أنه من المرغوب فيه في الوقت الحالي إعطاء الدعاية الأهمية الكبرى، ضد الحكومة التركية والإجراءات المتخذة ضد الأرمن، وخاصة لدى المسلمين المتعلمين في الهند؛ ليدركوا طبيعة الحكومة التركية، مع الحرص على عدم ربط طبيعة الإسلام وتعاليمه بما تفعله تركيا [1]. وكان السبب الرئيسي في ذكر مسلمي الهند هو إعلان الجهاد الذي أعلنه السلطان العثماني لمسلمي العالم، بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، وخشية دول الحلفاء أن يؤدي هذا الإعلان إلى اضطرابات لدى الجاليات الإسلامية في دولهم أو لدى المسلمين في مستعمراتهم[2]. وفي 6 أكتوبر 1915 قام اللورد برايس في مجلس اللوردات بعرض المسألة الأرمنية، لكن وفقًا لمقترحات المجلس فإن اللورد برايس أعطى "صورة رهيبة" للحوادث في الأناضول، اعتمادًا على مصادر أرمنية وعلى المبشرين[3]. من جهة أخرى؛ كانت الصحافة البريطانية قد أرسلت إلى اللورد برايس لإمدادهم بالأخبار والمعلومات، وإمدادهم بشكل أخص بالصور عن الأحداث، ووعدهم بفعل ما يلزم، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الصور رغم مساعدة أصدقاؤه الأرمن.[4] وفي 1 يونيو 1916 كتب برايس إلى اللورد جراي: لصالح الخلفية التاريخية أجد أنه من المناسب أن أكتب تقريرًا مفصلاً عن الأحداث الأرمنية، وتحليلها، إذ أنه قد تمت الاستجابة لدعوتي، وجاء الكثيرون من الأرمن بالمصادر التي تثبت صحة أقوالهم. ثم أوضح أنه تعاون مع " مؤرخ شاب له خلفية أكاديمية جيدة هو أرنولد توينبي، الذي كان يعمل سابقًا في أكسفورد"[5]. في 23 أغسطس أجاب اللورد جراي أن التقرير "دليل واهي جدًّا" ، وعند نشره سيتم فحصه على نطاق عالمي من قِبل كل المهتمين بالمسألة، لكن برايس قال بأن هذا التقرير سيساعد في "دعم القضية الأرمنية والأرمن الضعفاء" ضد الحكومة التركية، ليس هذا فحسب بل "سيمد المؤرخين بالمعلومات في المستقبل"[6]. كان اللورد برايس من الليبراليين البريطانيين، وكان شديد الكراهية للأتراك والمسلمين عامة، وللحكم التركي في أوربا، وكان قد نشر كتابه "القوقاز وآرارات" عام 1877، شجع فيه الأرمن على الثورة ضد العثمانيين قائلاً: "لماذا لا يثور الأرمن على الظالمين كما فعل أجدادهم ضد الفرس؟"[7]. في أغسطس 1889 وقعت حادثة في إحدى مدن شرق الأناضول تسمى بلايدر Blaider، راح ضحيتها سبعة قتلى من الأرمن، ودمر 50 منزلاً، وعلى الفور استغل برايس الحادث، وراح يتهم رجال القبائل الكردية والمسلمين المتعصبين الأتراك، لكن بعد أيام عرف سبب الحادث؛ إذ أرسل المستشار البريطاني توماس بويدجيان Thomas Boyadjian وهو من أصل أرمني تقريرًا إلى البرلمان البريطاني عن الحادث، جاء فيه أن سبب هذا الحادث شخص أرمني من هذه القرية تحول إلى المذهب الكاثوليكي وقرر أن يقضي على كل الأرمن حوله الذين لم يتحولوا[8]. في أول مارس 1915 اقترح اللورد برايس أن تعلن روسيا عن دعمها لحكم ذاتي أرمني تحت الحماية الروسية، وطبقًا لرؤية برايس فإن هذا الإعلان سوف يلتقي مع رغبة الأرمن في الاستقلال، ويجعلهم يطلبون المساعدة من الحلفاء في صراعهم مع تركيا[9]. بل هو قد شجع الأرمن بشكل رسمي للثورة ضد الأتراك في قليقيا (المناطق التي يسكنها الأرمن شرقي الأناضول)[10]. ونستعرض فيما يلي بعضًا من "الوثائق والشهادات" التي جمعها برايس في كتابه "معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية". حسب رواية الآنسة جريس كناب الأمريكية المقيمة في مدينة وان، وهي رقم 15 في مجموعة برايس، فإن عدد سكان هذه المدينة كان خمسين ألفًا، ثلاثة أخماسهـم من الأرمن، وكانوا يشعرون بقوتهم، وكانت عيشتهم مزدهرة، وكان يفخرون بمدينتهم هذه التي أسموها "مدينة الكروم"، و"مدينة الحدائق"، وكانت تنشط بينهم الأحزاب الأرمنية، ويتزعمهم نائبهم في البرلمان العثماني أرشاك فراميان وزميلاه نيكوغايوس أشخان وآرام (مانوكيان)، وكانت بالمدينة إرسالية أمريكية ومعسكرات للقوات المسلحة العثمانية، وكان حاكمها العسكري "جودت بك" صهرًا لأنور باشا، وقد بدأت الأحداث فيها بطلب هذا الحاكم أو الوالي من أهلها من الأرمن ثلاثة آلاف شاب لتجنيدهم. وقد تجمع الأرمن في يوم20 إبريل 1915 بقيادة آرام مانوكيان في حي واحد هو حيهم المسمى "الحي ذو الأسوار"، وأحكموا تحصينه، وظلوا يقاومون بأسلحتهم القليلة البالغة 300 بندقية، وبالذخائر التي كانوا يصنعونها محليًا، هجمات القوات المسلحة العثمانية، واستطاعوا في وقت ما الاستيلاء على أحد المعسكرين العثمانيين، وصمدوا حتى دخلت القوات الروسية وقوات المتطوعين الأرمن التي أرسلت لنجدتهم[11] وحسب رواية القس الأرمني ديكران أندوسيان راعي كنيسة الأرمن البروتستانت في زيتون، وهي رقم 12 في مجموعة برايس، كانت الحالة متوترة في منطقة زيتون عند نشوب الحرب بسبب عدم إقبال الأرمن على التجنيد، وفرار بعضهم منه إلى الجبال، وقتالهم مطارديهم من الجنود. وحسب رواية الكاتب العربي "فايز أسعد الغصين" في كتابه "أرمينية الشهيدة" فإن الوالي رشيد بك أمر بالقبض على أعيان الأرمن وسجنهم؛ لأن عامتهم كانوا لا يقبلون على الخدمة العسكرية، ويهربون منها، ويقومون بتشكيل العصابات. وحسب رواية الأرمني توماس مجردتشيان وهي رقم 134 بمجموعة برايس، جرت المذابح على ثلاث دفعات في المدة من 19 أغسطس حتى أول أكتوبر 1915، وراح ضحيتها كل الأرمن بها الذي بلغ عددهم قرابة 28 ألفًا؛ إذ رفضوا الانصياع لأوامر ترحيلهم، وتحصنوا بحيهم ، فهاجمتهم القوات العثمانية بقيادة فخري باشا وضربتهم بالمدافع[12]. رواية شاهد أجنبي لم يذكر اسمه أيضًا؛ مقيم في قونية ومؤرخة في يوم 17 يولية سنة 1915 هي رقم 125 في مجموعة برايس، تقول إن السلطات العثمانية أسكنت الأرمن المبعدين في اسطبلات الجمال بعد أن خلت منها لأخذها لنقل المعدات الحربية، وكانت تعطي لكل منهم مائة وخمسين درهمًا من الدقيق يوميًا، ثم أنقصته إلى مائة، ثم لم تعطهم شيئًا بعد أربعة أسابيع وتركتهم يبحثون عن أعمال للاقتيات منها[13]. وحسب رواية أجنبي آخر لم يذكر اسمه مقيم بطرابزون وهي رقم 72 بمجموعة برايس فإنه في يوم 26 يونية سنة 1915، ألصقت بالشوارع إعلانات عن وجوب ترحيل كل الأرمن من طرابزن. وفي أول يولية سنة 1915 بدأ القبض عليهم من منازلهم البالغة جملتها ألف، وأرسلوا جنوبًا إلى داخل الأناضول برصا، كما أن بعضهم حمل في قوارب صغيرة لإرسالهم غربًا إلى ميناء سمسون بحرًا، فغرقت بهم هذه القوارب في الطريق إليها، ولعل هذا ما كان مقصودًا. ومن الأعمال غير الإنسانية التي قارفتها السلطات العثمانية ضد الأرمن إلحاق أطفالهم بملاجئ الأيتام الإسلامية، وتغيير أسمائهم ومحاولة طمس ماضيهم لكي ينشأوا أتراكًا[14]. وهو ما قامت العصابات الأرمنية بالانتقام له من أطفال المسلمين العثمانيين، إذ هاجمت مستشفيات الإرساليات الأجنبية والصليب الأحمر وغيرها، فذبحوا الأطفال فيها، ثم جعلوا من جثثهم دروعا بشرية، بل في أحيان كثيرة ألقوهم أحياء في قدور ماء مغلي، وأجبروا آبائهم على أكل لحوم أبنائهم مسلوقة[15]. وبعد استعراض مجموعة من شهادات ووثائق اللورد باريس، والاتهامات الموجهة إلى الحكومة العثمانية بالجرائم المقترفة ضد الأرمن، بقراءة متجردة عن تأثيرات الدعاية، وبوضع الأمور في سياقها التاريخي، نجد ببساطة أن هذه الاتهامات ضد الحكومة العثمانية تحمل اعترافات أرمنية قد تكون هي الأخرى جرائم مسوغة لتصرفات الحكومة العثمانية المتهمة، ومن هذه الاعترافات: -امتناع الشباب الأرمني عن التجنيد في القوات العثمانية. -مقاومة قوات الجيش العثماني التي جاءت لإجبارهم على تنفيذ واجب الالتحاق بالجيش وهو في حالة حرب. -المقاومة المسلحة، بل وتصنيع الأسلحة والذخيرة المعدة سلفًا للمقاومة. -قائد المقاومة – أو بالأحرى العصيان – تعينه القوات الروسية حاكمًا للمناطق المحتلة. -هروب الأرمن إلى الجبال حتى لا يلتحقوا بالجيش العثماني، بل وقتل الجنود العثمانيين المطاردين لهم. -عصيان أوامر الحكومة -وقت الحرب والطوارئ-، والامتناع عن الترحيل، رغم الإعلان عنه قبلها، والتشديد عليه . وغيرها من الاتهامات أو الجرائم الأخرى التي تحملها "شهادات" مجموعة برايس أو بمعنى أحرى "اعترافات" هؤلاء الشهود. وقد تجاوز الأمر الاعتراف، إلى القراءة العكسية للأحداث، وعلى سبيل المثال الإجراءات التي تمت لصالح الأطفال الأيتام، إذ وزعتهم السلطات على الأسر التركية لتربيتهم، أو سلمتهم لذويهم، والباقون أودعوا ملاجئ الأيتام، وكانت تلك إحدى الأعمال غير الإنسانية في نظر "الشهود"، فماذا كان المطلوب أن تقوم السلطات العثمانية ليكون ذلك عملاً إنسانيًا؟ هكذا يتم استخدام المثقفين سواء من السياسيين أو غيرهم من عامة المفكرين من قِبل السلطات لتزوير الحقائق وقلبها من خلال الكتب والمقالات والأبحاث، لما لهم من أثر قوي في توجيه الناس وقيادة الدفة السياسية للبلاد أحيانًا، وعندها تختفي شعارات أمانة البحث والكلمة والميثاق المعرفي الذي يتخذه كل مثقف على عاتقه. فحريٌّ بأهل الحق من المثقفين والمفكرين ألا يدخروا جهدًا في نشر كلمة الحق والجهر بها وتوعية الجماهير، بما يُحاك لهم ويُدبر ضدهم، غير مبالين بسلطان المستبدين، جاعلين غايتهم الله وحده. حينها سيجدون الثمرة بتوافد الصادقين عليهم والتفافهم حولهم فيقودونهم لإحداث التغيير المنشود. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) F. O. 371/2488/143621, 2.10.1915. ( 2 ) انظر: L. Evans: United States policy and the partion of Turkey, 1914 – 1924, Baltimore, 1964, P.: 27. (3) F. O. 371/2483, 6.10.1915. (4) F. O. 371/148680, 11.10.1915. (5) S. Sonyel: The Great Ware and the Tragedy of Anatoli, T. T. K., Ankara, 2001, P.: 144. (6) Toynbee : Op., Cit., Preface, P.: 16 - 18. (7) James Bryce: Transcaucasia and Ararat, London, 1877, P.: 344. (8) British Problementary Paper: 5376, XCVI, Turkey No. 1, (1980 – 91) C. 6214, 10.8.1889. (9) F. O. 371/2485/30439. 9.3. 1915 . (10) British Colonial Office, 67/178/20859, 4.5.1915, 26.4.1915. ( 11 ) نقلا عن : فؤاد حسن حافظ: تاريخ الشعب الأرمني منذ البداية وحتى اليوم ، القاهرة ، 1986م ، ص : 308 . ( 12) فؤاد حسن حافظ: مرجع سابق ، ص : 313 . ( 13 ) فؤاد حسن حافظ: مرجع سابق ، ص : 308 . ( 14 ) المرجع السابق ، ص : 315 . ( 15 ) أحمد الشرقاوي : مذابح الأرمن ضد الأتراك في الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية ، دار البشير ، القاهرة ، 2016م ، انظر على سبيل المثال الوثائق رقم 2 ، 4 ، 6 : BOA. HR. SYS. 2872/2, Belge No: 11, 17. BOA. HR. SYS. 2872/4, Belge No: 3, 4. BOA. HR. SYS. 2872/2, Belge No: 92 – 98 .
دور المفكرين في إسقاط الأنظمة ( 2 )
اللورد برايس نموذجًا

د. أحمد الشرقاوي Ahmed

كانت مسألة تهجير الأرمن من المناطق الحدودية مع روسيا إلى ولاية سوريا العثمانية، وما صاحبها من حوادث وتجاوزات =مادة خصبة للدعاية والإعلام خاصة في وقت الحرب؛ إذ تصبح وسائل الدعاية من الأسلحة التي لا تقل أهمية عن طوابير الجيش الأربعة. وعليه؛ فقد استمرت وسائل الإعلام الغربي، خاصة دول الحلفاء، في إبراز الأحداث الأرمنية بالشكل الذي يخدم دول الحلفاء، ومن الطبيعي أن يكون ذلك بتوجيهات من الحكومات بما يؤيد خططها، ويخدم مصالحها وتوجهاتها.

في 2 أكتوبر 1915 كتب اللورد كرومر إلى اللورد كريو في وزارة الخارجية، لعرض المسألة الأرمنية في مجلس اللوردات الذي سيعقد بعد أيام، يقول فيه: "أعتقد أنه من المرغوب فيه في الوقت الحالي إعطاء الدعاية الأهمية الكبرى، ضد الحكومة التركية والإجراءات المتخذة ضد الأرمن، وخاصة لدى المسلمين المتعلمين في الهند؛ ليدركوا طبيعة الحكومة التركية، مع الحرص على عدم ربط طبيعة الإسلام وتعاليمه بما تفعله تركيا [1].

وكان السبب الرئيسي في ذكر مسلمي الهند هو إعلان الجهاد الذي أعلنه السلطان العثماني لمسلمي العالم، بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، وخشية دول الحلفاء أن يؤدي هذا الإعلان إلى اضطرابات لدى الجاليات الإسلامية في دولهم أو لدى المسلمين في مستعمراتهم[2].

وفي 6 أكتوبر 1915 قام اللورد برايس في مجلس اللوردات بعرض المسألة الأرمنية، لكن وفقًا لمقترحات المجلس فإن اللورد برايس أعطى "صورة رهيبة" للحوادث في الأناضول، اعتمادًا على مصادر أرمنية وعلى المبشرين[3]. من جهة أخرى؛ كانت الصحافة البريطانية قد أرسلت إلى اللورد برايس لإمدادهم بالأخبار والمعلومات، وإمدادهم بشكل أخص بالصور عن الأحداث، ووعدهم بفعل ما يلزم، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الصور رغم مساعدة أصدقاؤه الأرمن.[4]

وفي 1 يونيو 1916 كتب برايس إلى اللورد جراي: لصالح الخلفية التاريخية أجد أنه من المناسب أن أكتب تقريرًا مفصلاً عن الأحداث الأرمنية، وتحليلها، إذ أنه قد تمت الاستجابة لدعوتي، وجاء الكثيرون من الأرمن بالمصادر التي تثبت صحة أقوالهم. ثم أوضح أنه تعاون مع " مؤرخ شاب له خلفية أكاديمية جيدة هو أرنولد توينبي، الذي كان يعمل سابقًا في أكسفورد"[5].

في 23 أغسطس أجاب اللورد جراي أن التقرير "دليل واهي جدًّا" ، وعند نشره سيتم فحصه على نطاق عالمي من قِبل كل المهتمين بالمسألة، لكن برايس قال بأن هذا التقرير سيساعد في "دعم القضية الأرمنية والأرمن الضعفاء" ضد الحكومة التركية، ليس هذا فحسب بل "سيمد المؤرخين بالمعلومات في المستقبل"[6].

كان اللورد برايس من الليبراليين البريطانيين، وكان شديد الكراهية للأتراك والمسلمين عامة، وللحكم التركي في أوربا، وكان قد نشر كتابه "القوقاز وآرارات" عام 1877، شجع فيه الأرمن على الثورة ضد العثمانيين قائلاً: "لماذا لا يثور الأرمن على الظالمين كما فعل أجدادهم ضد الفرس؟"[7].

في أغسطس 1889 وقعت حادثة في إحدى مدن شرق الأناضول تسمى بلايدر Blaider، راح ضحيتها سبعة قتلى من الأرمن، ودمر 50 منزلاً، وعلى الفور استغل برايس الحادث، وراح يتهم رجال القبائل الكردية والمسلمين المتعصبين الأتراك، لكن بعد أيام عرف سبب الحادث؛ إذ أرسل المستشار البريطاني توماس بويدجيان Thomas Boyadjian وهو من أصل أرمني تقريرًا إلى البرلمان البريطاني عن الحادث، جاء فيه أن سبب هذا الحادث شخص أرمني من هذه القرية تحول إلى المذهب الكاثوليكي وقرر أن يقضي على كل الأرمن حوله الذين لم يتحولوا[8].

في أول مارس 1915 اقترح اللورد برايس أن تعلن روسيا عن دعمها لحكم ذاتي أرمني تحت الحماية الروسية، وطبقًا لرؤية برايس فإن هذا الإعلان سوف يلتقي مع رغبة الأرمن في الاستقلال، ويجعلهم يطلبون المساعدة من الحلفاء في صراعهم مع تركيا[9]. بل هو قد شجع الأرمن بشكل رسمي للثورة ضد الأتراك في قليقيا (المناطق التي يسكنها الأرمن شرقي الأناضول)[10].

ونستعرض فيما يلي بعضًا من "الوثائق والشهادات" التي جمعها برايس في كتابه "معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية". حسب رواية الآنسة جريس كناب الأمريكية المقيمة في مدينة وان، وهي رقم 15 في مجموعة برايس، فإن عدد سكان هذه المدينة كان خمسين ألفًا، ثلاثة أخماسهـم من الأرمن، وكانوا يشعرون بقوتهم، وكانت عيشتهم مزدهرة، وكان يفخرون بمدينتهم هذه التي أسموها "مدينة الكروم"، و"مدينة الحدائق"، وكانت تنشط بينهم الأحزاب الأرمنية، ويتزعمهم نائبهم في البرلمان العثماني أرشاك فراميان وزميلاه نيكوغايوس أشخان وآرام (مانوكيان)، وكانت بالمدينة إرسالية أمريكية ومعسكرات للقوات المسلحة العثمانية، وكان حاكمها العسكري "جودت بك" صهرًا لأنور باشا، وقد بدأت الأحداث فيها بطلب هذا الحاكم أو الوالي من أهلها من الأرمن ثلاثة آلاف شاب لتجنيدهم.

وقد تجمع الأرمن في يوم20 إبريل 1915 بقيادة آرام مانوكيان في حي واحد هو حيهم المسمى "الحي ذو الأسوار"، وأحكموا تحصينه، وظلوا يقاومون بأسلحتهم القليلة البالغة 300 بندقية، وبالذخائر التي كانوا يصنعونها محليًا، هجمات القوات المسلحة العثمانية، واستطاعوا في وقت ما الاستيلاء على أحد المعسكرين العثمانيين، وصمدوا حتى دخلت القوات الروسية وقوات المتطوعين الأرمن التي أرسلت لنجدتهم[11]

وحسب رواية القس الأرمني ديكران أندوسيان راعي كنيسة الأرمن البروتستانت في زيتون، وهي رقم 12 في مجموعة برايس، كانت الحالة متوترة في منطقة زيتون عند نشوب الحرب بسبب عدم إقبال الأرمن على التجنيد، وفرار بعضهم منه إلى الجبال، وقتالهم مطارديهم من الجنود.

وحسب رواية الكاتب العربي "فايز أسعد الغصين" في كتابه "أرمينية الشهيدة" فإن الوالي رشيد بك أمر بالقبض على أعيان الأرمن وسجنهم؛ لأن عامتهم كانوا لا يقبلون على الخدمة العسكرية، ويهربون منها، ويقومون بتشكيل العصابات.

وحسب رواية الأرمني توماس مجردتشيان وهي رقم 134 بمجموعة برايس، جرت المذابح على ثلاث دفعات في المدة من 19 أغسطس حتى أول أكتوبر 1915، وراح ضحيتها كل الأرمن بها الذي بلغ عددهم قرابة 28 ألفًا؛ إذ رفضوا الانصياع لأوامر ترحيلهم، وتحصنوا بحيهم ، فهاجمتهم القوات العثمانية بقيادة فخري باشا وضربتهم بالمدافع[12].

رواية شاهد أجنبي لم يذكر اسمه أيضًا؛ مقيم في قونية ومؤرخة في يوم 17 يولية سنة 1915 هي رقم 125 في مجموعة برايس، تقول إن السلطات العثمانية أسكنت الأرمن المبعدين في اسطبلات الجمال بعد أن خلت منها لأخذها لنقل المعدات الحربية، وكانت تعطي لكل منهم مائة وخمسين درهمًا من الدقيق يوميًا، ثم أنقصته إلى مائة، ثم لم تعطهم شيئًا بعد أربعة أسابيع وتركتهم يبحثون عن أعمال للاقتيات منها[13].

وحسب رواية أجنبي آخر لم يذكر اسمه مقيم بطرابزون وهي رقم 72 بمجموعة برايس فإنه في يوم 26 يونية سنة 1915، ألصقت بالشوارع إعلانات عن وجوب ترحيل كل الأرمن من طرابزن. وفي أول يولية سنة 1915 بدأ القبض عليهم من منازلهم البالغة جملتها ألف، وأرسلوا جنوبًا إلى داخل الأناضول برصا، كما أن بعضهم حمل في قوارب صغيرة لإرسالهم غربًا إلى ميناء سمسون بحرًا، فغرقت بهم هذه القوارب في الطريق إليها، ولعل هذا ما كان مقصودًا.
ومن الأعمال غير الإنسانية التي قارفتها السلطات العثمانية ضد الأرمن إلحاق أطفالهم بملاجئ الأيتام الإسلامية، وتغيير أسمائهم ومحاولة طمس ماضيهم لكي ينشأوا أتراكًا[14].

وهو ما قامت العصابات الأرمنية بالانتقام له من أطفال المسلمين العثمانيين، إذ هاجمت مستشفيات الإرساليات الأجنبية والصليب الأحمر وغيرها، فذبحوا الأطفال فيها، ثم جعلوا من جثثهم دروعا بشرية، بل في أحيان كثيرة ألقوهم أحياء في قدور ماء مغلي، وأجبروا آبائهم على أكل لحوم أبنائهم مسلوقة[15].

وبعد استعراض مجموعة من شهادات ووثائق اللورد باريس، والاتهامات الموجهة إلى الحكومة العثمانية بالجرائم المقترفة ضد الأرمن، بقراءة متجردة عن تأثيرات الدعاية، وبوضع الأمور في سياقها التاريخي، نجد ببساطة أن هذه الاتهامات ضد الحكومة العثمانية تحمل اعترافات أرمنية قد تكون هي الأخرى جرائم مسوغة لتصرفات الحكومة العثمانية المتهمة، ومن هذه الاعترافات:

-امتناع الشباب الأرمني عن التجنيد في القوات العثمانية.
-مقاومة قوات الجيش العثماني التي جاءت لإجبارهم على تنفيذ واجب الالتحاق بالجيش وهو في حالة حرب.
-المقاومة المسلحة، بل وتصنيع الأسلحة والذخيرة المعدة سلفًا للمقاومة.
-قائد المقاومة – أو بالأحرى العصيان – تعينه القوات الروسية حاكمًا للمناطق المحتلة.
-هروب الأرمن إلى الجبال حتى لا يلتحقوا بالجيش العثماني، بل وقتل الجنود العثمانيين المطاردين لهم.
-عصيان أوامر الحكومة -وقت الحرب والطوارئ-، والامتناع عن الترحيل، رغم الإعلان عنه قبلها، والتشديد عليه .

وغيرها من الاتهامات أو الجرائم الأخرى التي تحملها "شهادات" مجموعة برايس أو بمعنى أحرى "اعترافات" هؤلاء الشهود.

وقد تجاوز الأمر الاعتراف، إلى القراءة العكسية للأحداث، وعلى سبيل المثال الإجراءات التي تمت لصالح الأطفال الأيتام، إذ وزعتهم السلطات على الأسر التركية لتربيتهم، أو سلمتهم لذويهم، والباقون أودعوا ملاجئ الأيتام، وكانت تلك إحدى الأعمال غير الإنسانية في نظر "الشهود"، فماذا كان المطلوب أن تقوم السلطات العثمانية ليكون ذلك عملاً إنسانيًا؟

هكذا يتم استخدام المثقفين سواء من السياسيين أو غيرهم من عامة المفكرين من قِبل السلطات لتزوير الحقائق وقلبها من خلال الكتب والمقالات والأبحاث، لما لهم من أثر قوي في توجيه الناس وقيادة الدفة السياسية للبلاد أحيانًا، وعندها تختفي شعارات أمانة البحث والكلمة والميثاق المعرفي الذي يتخذه كل مثقف على عاتقه.

فحريٌّ بأهل الحق من المثقفين والمفكرين ألا يدخروا جهدًا في نشر كلمة الحق والجهر بها وتوعية الجماهير، بما يُحاك لهم ويُدبر ضدهم، غير مبالين بسلطان المستبدين، جاعلين غايتهم الله وحده. حينها سيجدون الثمرة بتوافد الصادقين عليهم والتفافهم حولهم فيقودونهم لإحداث التغيير المنشود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) F. O. 371/2488/143621, 2.10.1915.
( 2 ) انظر:
L. Evans: United States policy and the partion of Turkey, 1914 – 1924, Baltimore, 1964, P.: 27.
(3) F. O. 371/2483, 6.10.1915.
(4) F. O. 371/148680, 11.10.1915.
(5) S. Sonyel: The Great Ware and the Tragedy of Anatoli, T. T. K., Ankara, 2001, P.: 144.
(6) Toynbee : Op., Cit., Preface, P.: 16 - 18.
(7) James Bryce: Transcaucasia and Ararat, London, 1877, P.: 344.
(8) British Problementary Paper: 5376, XCVI, Turkey No. 1, (1980 – 91) C. 6214, 10.8.1889.
(9) F. O. 371/2485/30439. 9.3. 1915 .
(10) British Colonial Office, 67/178/20859, 4.5.1915, 26.4.1915.
( 11 ) نقلا عن : فؤاد حسن حافظ: تاريخ الشعب الأرمني منذ البداية وحتى اليوم ، القاهرة ، 1986م ، ص : 308 .
( 12) فؤاد حسن حافظ: مرجع سابق ، ص : 313 .
( 13 ) فؤاد حسن حافظ: مرجع سابق ، ص : 308 .
( 14 ) المرجع السابق ، ص : 315 .
( 15 ) أحمد الشرقاوي : مذابح الأرمن ضد الأتراك في الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية ، دار البشير ، القاهرة ، 2016م ، انظر على سبيل المثال الوثائق رقم 2 ، 4 ، 6 :
BOA. HR. SYS. 2872/2, Belge No: 11, 17.
BOA. HR. SYS. 2872/4, Belge No: 3, 4.
BOA. HR. SYS. 2872/2, Belge No: 92 – 98 .
‏٢٨‏/٠٩‏/٢٠١٧ ١١:٥٦ ص‏
عذراء ماليزيا 2 يسرا جلال تكسرت الأمواج بعنف على صخور الشاطئ، بينما اكتسى المكان بحمرة الشفق، محاولات (إبراهيم) لتمالك أعصابه لم تُجدِ نفعًا؛ فانطلقت كلماته معنفة الشاب الصغير أمامه الذي يرتدي ملابس أوربية لا تخطئها العين: "يا هاشم.. المفاوضات مع هؤلاء مضيعة للوقت! عندما نسمح لهم بالتفاوض معنا نمنحهم فرصة ذهبية ليكسبوا أرضًا جديدة، ويعيدوا ترتيب صفوفهم، و...". قاطعه هاشم محاولًا إقناعه: "ولكن يا جدي التفاوض معنا معناه اعترافهم بوجودنا وبقوتنا..". احتدّ الشيخ وزاد غضبه: "اصمت أيها الغِر! وهل ننتظر اعترافًا منهم بوجودنا؟!! نحن هنا على هذه الأرض قبلهم؟ نحن من قاوم الإسبان ثم الأمريكان واليابانيين؟ نحن من لزم غرز الجهاد بينما كان الإسبان ينصرون الوثنيين مقابل تيجان من أوراق شجر الموز.. ولَم يترك هؤلاء المحتلون الفلبين إلا بعد أن اطمأنوا أنهم تَرَكُوا على كرسي الحكم من يواليهم وينفذ مخططاتهم من الباريوز المتنصرين والوثنيين! أنسيت كيف كانت الحكومة الفلبينية تحرض على نهضتنا الإسلامية في الجنوب؟ أنسيت تحالف السلطة مع المال وإشراف ماركوس بنفسه على إفراغ أراضي المسلمين من سكانها؟ ولِم لا؟ أراضٍ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. تنتج إنتاج الفلبين كاملًا من الموز والمطاط، ونصف ما تنتجه الفلبين من الذرة والبن وجوز الهند! لم لا يسيل لعابهم عليها؟ اختلقوا الصراعات وخططوا لها، رفضوا تسجيل الأرض بأسماء أصحابها المسلمين وسمحوا للنصارى بتملكها، وحين يطالب المسلمون بأرضهم يحدث الصدام الذي تغذيه الدولة وتنتظره.. حرقوا المزارع وألقوا السموم في آبار المياه فنفقت الحيوانات.. أنسيت مذبحة مانيلي حين "جمعت السلطات بعض المسلمين في المسجد (عام ١٩٧١) بحجة عقد صلح بينهم وبين النصارى، وإنهاء قضية الأرض، وبينما كان المسلمون في المسجد إذ دخلته جماعة مسلحة من النصارى (يرتدون زي الشرطة الفلبينية) وبدأت بإطلاق النار من المدافع الرشاشة التي بأيدي أفرادها، وكانت النتيجة أن قتل سبعون مسلمًا وجرح خمسون آخرون"(1). إنهم خونة يا هاشم.. عندها أمرنا جدي (سيف الدين) رحمه الله بالعودة لبنادقنا القديمة والمدي والعصي، ثم بعدها شكل الشيخان (سلامات هاشم) أسد الجهاد و(نور ميسواري) جبهة تحرير مورو عام ١٩٦٢.. لم نضع سلاحنا حتى بعد أن وسمتنا الحكومة بالمتمردين، وهل يفترض أن يقتلوا منا أكثر من مائة ألف مسلم ويشردوا أكثر من مليون مدني ونصمت؟ تتواطأ الحكومة مع عصابات (إيلاجا) لتغتصب أراضينا وتقتلنا في المساجد ثم نستكين لهم؟". عاد هاشم فقاطع جده متسائلًا: "ولكن أليست (إيلاجا) منظمة تابعة للحكومة؟".. "بلى، ولكنهم يدّعون غير ذلك.. يزودونهم بالمال والسلاح ويوفرون لهم الغطاء الشرعي.. مسرحية.. حتى تكون الخطوة الثانية منا فنرد عليهم لنصبح (متمردين).. حينها اتحد زعماء المسلمين وطالبوا العالم الإسلامي بحمايتنا، ولكن ماركوس لوقاحته وفَرط عنفه ظن أنه بإمكانه القضاء علينا فأعلن الأحكام العرفية في مناطق المسلمين.. صمدنا وقاومنا ببنادقنا القديمة وأسلحتنا البدائية.. كنّا صفًّا واحدًا في جبهة تحرير مورو، جمعنا الإسلام وفرقنا إسفين (المفاوضات)! أراد (القذافي) أن يبدو في صورة الزعيم المنقذ خليفة المسلمين فكانت اتفاقية (طرابلس) عام ١٩٧٦ التي منونا فيها بحكم ذاتي ومحاكم شرعية ومدارس ومعاهد.. كانت الاتفاقية كالغصة في الحلق؛ اختصت الحكومة نفسها بحق التعدين والتنجيم في الجنوب، كما أتاحت الاتفاقية الوقت لماركوس لتنظيم قواته من جديد. لم تمر سوى أشهر أربعة بعدها حتى أعلن (ماركوس) تخليه عن التزامات الاتفاقية، وعاد الهجوم الوحشي على المسلمين، قصف (ماركوس) مساجد المسلمين بالبوارج الحربية والطائرات، أبيدت قرى بأكملها.. كان أسد الجهاد (سلامات هاشم) على حق حين أعلن انشقاقه عن جبهة مورو الوطنية عام ١٩٧٧؛ فقد تخلت الجبهة عن فكرة الاستقلال واكتفت بالمطالبة بحكم ذاتي وتأكد لنا عوار اتفاقية طرابلس". عاد هاشم فقاطع الشيخ مرة أخرى: "ولكن الأمر هذه المرة مختلف، نحن الآن في موقف قوة". احتد عليه جده الشيخ (إبراهيم): "ومتى كنّا في موقف ضعف؟ هم من طلبوا منا توقيع اتفاقية طرابلس بعد أن أعياهم القتال مع رجالنا رغم تفوقهم في العدد والعتاد، لِم لا نفرض شروطنا ونصر عليها ؟ هم من تعبوا من القتال أما نحن فلا.. يئن قلبي والله حين أتذكر (نور ميسواري) وهو يضع يده في يد ممثل الحكومة بعد أن خدعوه بمنطقة للحكم الذاتي وجعلوه محافظًا لها، بينما كان جيشهم يقتل المسلمين في جبهة مورو! كان موقف (ميسواري) قويًّا حتى رضخ لشروطهم.. أما الحكومة فلم تفِ بما وعدت بل وضعوا العراقيل لتعقيد تنفيذ الاتفاقية. لقد وعدت جدي (سيف الدين) رحمه الله ألا أَترك الجهاد.. وعدته بإكمال ما بدأه (لابولابو) و(راجا سليمان).. دائمًا ما كان يحذرني رحمه الله من الوهن -حب الدنيا، وكراهية الموت- كما كان يتلو علىّ قول الله: {يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، ثم تلمع عيناه بعد تلاوة الآية ويشير بإصبعه: (الصبر والتقوى)! والله إنها لترن في أذني بصوته الرخيم!". لم يستمر (نور ميسواري) كمحافظ لإقليم ميندناو المسلم لأكثر من أربع سنين، أطاح به أعضاء جبهته عام ٢٠٠٠ مبررين ذلك بأدائه السيء.. اضطر (ميسواري) الذي بدا وكأنه ترك القتال إلى الأبد إلى إعلان الحرب على الحكومة التي كانت ترأسها (جلوريا أوريو). لم تكن الحرب هذه المرة لتحقيق الاستقلال للمسلمين ولَم تكن حتى تهدف للوصول للحكم الذاتي، كانت حربًا شنها لفقدانه منصبه في المنطقة، حربًا سقط فيها مئات القتلى من رجاله، واضطر بعدها للفرار إلى ماليزيا التي سلمته للفلبين، ثم اعتقلته الحكومة الفلبينية خمس سنوات قبل أن تطلق سراحه. أما مجاهدو جبهة مورو فقد استمروا في القتال والمقاومة ما ألجأ الحكومة الفلبينية إلى وساطة ماليزية لإقناع الجبهة بالعودة للتفاوض، وكان الشيخ (سلامات هاشم) أكد قبل وفاته التزام الجبهة بالوصول لتسوية سلمية. بدأت المفاوضات قبل وفاة الشيخ سلامات واستمرت حتى العام ٢٠١٤ حيث وقع الرئيس الفلبيني ورئيس تحرير جبهة مورو الشيخ (مراد إبراهيم) اتفاق سلام نهائي، وراح (هاشم) ليبشر جده الشيخ (إبراهيم) بنجاح المفاوضات: "اسمع يا شيخ - حكم ذاتي بحلول العام ٢٠١٦ في خمس محافظات سيطلق عليها جميعًا اسم (بانجاسا مورو) يعقبه استفتاء على الدستور ثم... يا شيخ؟ لا تبدو متحمسًا؟! اسمع.. اسمع.. نظام انتخابي مستقل، حكومة مركزية، سلطات تشريعية وقضائية، صفقة ممتازة.. يا شيخ هل أرفع صوتي لتسمعني؟". رد الشيخ التسعيني بصوت واهن: "وتعهدتم بإلقاء السلاح بالطبع؟ لا تتخلوا عن سلاحكم يا بني..". "لا تقلق يا جدي لا يمكن للجبهة أن تلقي سلاحها قبل أن نصل لما نريده وسنواصل الضغط السياسي إلى جانب العمل العسكري...". قاطعه الشيخ متهكمًا: "ضغط سياسي!! الضغط السياسي تمارسه فوهات البنادق لا عدسات الكاميرات.. أخشى أن يتسبب هذا الاتفاق كسابقه في إحداث شق جديد في صف الجبهة.. خاصة أن الحكومة الفلبينية غير مؤتمنة على أي اتفاق.. ولا يبدو أن...." "لننتظر ونرى يا جدي لننتظر ونرى..". غير بعيد من المسجد.. ارتفع صوت المذياع، ورن صوت مذيع النشرة عاليًا قبل أن يختلط بصوت الأمواج: "هذا وما زال دستور بانجاسامورو محل نقاش في البرلمان الفلبيني، ورغم أن شعب مورو يرغب بهذا الدستور إلا أن المحكمة الدستورية العليا في الفلبين قد تقول إنه يخالف دستور البلاد.. وقد كانت الجبهة سلمت أسلحتها رسميًّا خلال احتفالية أقيمت في منطقة “مينداناو” جنوبي الفلبين في وقت سابق من العام 2015، شارك فيها رئيس البلاد، بنيغنو آكينو، وزعيم الجبهة، الحاج مراد إبراهيم، ليسدل بذلك الستار على صراع امتد منذ سبعينيات القرن الماضي. على جانب آخر قال “آكينو” في كلمة له خلال المراسم (إننا نعيش لحظات تاريخية، فالحديث عن إلقاء مجموعة كانت تتصارع مع الحكومة أسلحتها، كان قبل سنوات ضربًا من الخيال، إلا إن إخواننا في جبهة مورو تعهدوا بالتخلي عن السلاح طواعيةً). وعلى صعيد متصل وعلى ذمة وكالة الأناضول أعلن الجيش الفلبيني، أمس الأحد تحييد 47 مسلحًا، بينهم أجانب، خلال سلسلة من العمليات الأمنية المدعومة من القوات الجوية جنوب البلاد. وقالت المتحدثة باسم قيادة مينداناو الغربية الكابتن جو آن بيتينج لاي في تصريح صحفي: (قواتنا وجهت ضربة قاسية ضد مسلحي حركة مقاتلو بانجسامورو الإسلاميين)". تمت.. ـــــــــــــــــــــــــــ (1) محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، ج٢٢ ص١٢١، ط المكتب الإسلامي.
عذراء ماليزيا 2
يسرا جلال

تكسرت الأمواج بعنف على صخور الشاطئ، بينما اكتسى المكان بحمرة الشفق، محاولات (إبراهيم) لتمالك أعصابه لم تُجدِ نفعًا؛ فانطلقت كلماته معنفة الشاب الصغير أمامه الذي يرتدي ملابس أوربية لا تخطئها العين: "يا هاشم.. المفاوضات مع هؤلاء مضيعة للوقت! عندما نسمح لهم بالتفاوض معنا نمنحهم فرصة ذهبية ليكسبوا أرضًا جديدة، ويعيدوا ترتيب صفوفهم، و...".

قاطعه هاشم محاولًا إقناعه: "ولكن يا جدي التفاوض معنا معناه اعترافهم بوجودنا وبقوتنا..". احتدّ الشيخ وزاد غضبه: "اصمت أيها الغِر! وهل ننتظر اعترافًا منهم بوجودنا؟!! نحن هنا على هذه الأرض قبلهم؟ نحن من قاوم الإسبان ثم الأمريكان واليابانيين؟ نحن من لزم غرز الجهاد بينما كان الإسبان ينصرون الوثنيين مقابل تيجان من أوراق شجر الموز.. ولَم يترك هؤلاء المحتلون الفلبين إلا بعد أن اطمأنوا أنهم تَرَكُوا على كرسي الحكم من يواليهم وينفذ مخططاتهم من الباريوز المتنصرين والوثنيين!

أنسيت كيف كانت الحكومة الفلبينية تحرض على نهضتنا الإسلامية في الجنوب؟ أنسيت تحالف السلطة مع المال وإشراف ماركوس بنفسه على إفراغ أراضي المسلمين من سكانها؟ ولِم لا؟ أراضٍ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. تنتج إنتاج الفلبين كاملًا من الموز والمطاط، ونصف ما تنتجه الفلبين من الذرة والبن وجوز الهند! لم لا يسيل لعابهم عليها؟ اختلقوا الصراعات وخططوا لها، رفضوا تسجيل الأرض بأسماء أصحابها المسلمين وسمحوا للنصارى بتملكها، وحين يطالب المسلمون بأرضهم يحدث الصدام الذي تغذيه الدولة وتنتظره.. حرقوا المزارع وألقوا السموم في آبار المياه فنفقت الحيوانات.. أنسيت مذبحة مانيلي حين "جمعت السلطات بعض المسلمين في المسجد (عام ١٩٧١) بحجة عقد صلح بينهم وبين النصارى، وإنهاء قضية الأرض، وبينما كان المسلمون في المسجد إذ دخلته جماعة مسلحة من النصارى (يرتدون زي الشرطة الفلبينية) وبدأت بإطلاق النار من المدافع الرشاشة التي بأيدي أفرادها، وكانت النتيجة أن قتل سبعون مسلمًا وجرح خمسون آخرون"(1).

إنهم خونة يا هاشم.. عندها أمرنا جدي (سيف الدين) رحمه الله بالعودة لبنادقنا القديمة والمدي والعصي، ثم بعدها شكل الشيخان (سلامات هاشم) أسد الجهاد و(نور ميسواري) جبهة تحرير مورو عام ١٩٦٢.. لم نضع سلاحنا حتى بعد أن وسمتنا الحكومة بالمتمردين، وهل يفترض أن يقتلوا منا أكثر من مائة ألف مسلم ويشردوا أكثر من مليون مدني ونصمت؟ تتواطأ الحكومة مع عصابات (إيلاجا) لتغتصب أراضينا وتقتلنا في المساجد ثم نستكين لهم؟".

عاد هاشم فقاطع جده متسائلًا: "ولكن أليست (إيلاجا) منظمة تابعة للحكومة؟"..
"بلى، ولكنهم يدّعون غير ذلك.. يزودونهم بالمال والسلاح ويوفرون لهم الغطاء الشرعي.. مسرحية.. حتى تكون الخطوة الثانية منا فنرد عليهم لنصبح (متمردين).. حينها اتحد زعماء المسلمين وطالبوا العالم الإسلامي بحمايتنا، ولكن ماركوس لوقاحته وفَرط عنفه ظن أنه بإمكانه القضاء علينا فأعلن الأحكام العرفية في مناطق المسلمين..
صمدنا وقاومنا ببنادقنا القديمة وأسلحتنا البدائية.. كنّا صفًّا واحدًا في جبهة تحرير مورو، جمعنا الإسلام وفرقنا إسفين (المفاوضات)! أراد (القذافي) أن يبدو في صورة الزعيم المنقذ خليفة المسلمين فكانت اتفاقية (طرابلس) عام ١٩٧٦ التي منونا فيها بحكم ذاتي ومحاكم شرعية ومدارس ومعاهد.. كانت الاتفاقية كالغصة في الحلق؛ اختصت الحكومة نفسها بحق التعدين والتنجيم في الجنوب، كما أتاحت الاتفاقية الوقت لماركوس لتنظيم قواته من جديد. لم تمر سوى أشهر أربعة بعدها حتى أعلن (ماركوس) تخليه عن التزامات الاتفاقية، وعاد الهجوم الوحشي على المسلمين، قصف (ماركوس) مساجد المسلمين بالبوارج الحربية والطائرات، أبيدت قرى بأكملها.. كان أسد الجهاد (سلامات هاشم) على حق حين أعلن انشقاقه عن جبهة مورو الوطنية عام ١٩٧٧؛ فقد تخلت الجبهة عن فكرة الاستقلال واكتفت بالمطالبة بحكم ذاتي وتأكد لنا عوار اتفاقية طرابلس".

عاد هاشم فقاطع الشيخ مرة أخرى: "ولكن الأمر هذه المرة مختلف، نحن الآن في موقف قوة". احتد عليه جده الشيخ (إبراهيم): "ومتى كنّا في موقف ضعف؟ هم من طلبوا منا توقيع اتفاقية طرابلس بعد أن أعياهم القتال مع رجالنا رغم تفوقهم في العدد والعتاد، لِم لا نفرض شروطنا ونصر عليها ؟ هم من تعبوا من القتال أما نحن فلا.. يئن قلبي والله حين أتذكر (نور ميسواري) وهو يضع يده في يد ممثل الحكومة بعد أن خدعوه بمنطقة للحكم الذاتي وجعلوه محافظًا لها، بينما كان جيشهم يقتل المسلمين في جبهة مورو! كان موقف (ميسواري) قويًّا حتى رضخ لشروطهم.. أما الحكومة فلم تفِ بما وعدت بل وضعوا العراقيل لتعقيد تنفيذ الاتفاقية.

لقد وعدت جدي (سيف الدين) رحمه الله ألا أَترك الجهاد.. وعدته بإكمال ما بدأه (لابولابو) و(راجا سليمان).. دائمًا ما كان يحذرني رحمه الله من الوهن -حب الدنيا، وكراهية الموت- كما كان يتلو علىّ قول الله: {يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، ثم تلمع عيناه بعد تلاوة الآية ويشير بإصبعه: (الصبر والتقوى)! والله إنها لترن في أذني بصوته الرخيم!".

لم يستمر (نور ميسواري) كمحافظ لإقليم ميندناو المسلم لأكثر من أربع سنين، أطاح به أعضاء جبهته عام ٢٠٠٠ مبررين ذلك بأدائه السيء.. اضطر (ميسواري) الذي بدا وكأنه ترك القتال إلى الأبد إلى إعلان الحرب على الحكومة التي كانت ترأسها (جلوريا أوريو). لم تكن الحرب هذه المرة لتحقيق الاستقلال للمسلمين ولَم تكن حتى تهدف للوصول للحكم الذاتي، كانت حربًا شنها لفقدانه منصبه في المنطقة، حربًا سقط فيها مئات القتلى من رجاله، واضطر بعدها للفرار إلى ماليزيا التي سلمته للفلبين، ثم اعتقلته الحكومة الفلبينية خمس سنوات قبل أن تطلق سراحه.

أما مجاهدو جبهة مورو فقد استمروا في القتال والمقاومة ما ألجأ الحكومة الفلبينية إلى وساطة ماليزية لإقناع الجبهة بالعودة للتفاوض، وكان الشيخ (سلامات هاشم) أكد قبل وفاته التزام الجبهة بالوصول لتسوية سلمية. بدأت المفاوضات قبل وفاة الشيخ سلامات واستمرت حتى العام ٢٠١٤ حيث وقع الرئيس الفلبيني ورئيس تحرير جبهة مورو الشيخ (مراد إبراهيم) اتفاق سلام نهائي، وراح (هاشم) ليبشر جده الشيخ (إبراهيم) بنجاح المفاوضات:
"اسمع يا شيخ - حكم ذاتي بحلول العام ٢٠١٦ في خمس محافظات سيطلق عليها جميعًا اسم (بانجاسا مورو) يعقبه استفتاء على الدستور ثم... يا شيخ؟ لا تبدو متحمسًا؟! اسمع.. اسمع.. نظام انتخابي مستقل، حكومة مركزية، سلطات تشريعية وقضائية، صفقة ممتازة.. يا شيخ هل أرفع صوتي لتسمعني؟".

رد الشيخ التسعيني بصوت واهن: "وتعهدتم بإلقاء السلاح بالطبع؟ لا تتخلوا عن سلاحكم يا بني..".
"لا تقلق يا جدي لا يمكن للجبهة أن تلقي سلاحها قبل أن نصل لما نريده وسنواصل الضغط السياسي إلى جانب العمل العسكري...".

قاطعه الشيخ متهكمًا: "ضغط سياسي!! الضغط السياسي تمارسه فوهات البنادق لا عدسات الكاميرات.. أخشى أن يتسبب هذا الاتفاق كسابقه في إحداث شق جديد في صف الجبهة.. خاصة أن الحكومة الفلبينية غير مؤتمنة على أي اتفاق.. ولا يبدو أن...."

"لننتظر ونرى يا جدي لننتظر ونرى..".

غير بعيد من المسجد.. ارتفع صوت المذياع، ورن صوت مذيع النشرة عاليًا قبل أن يختلط بصوت الأمواج:

"هذا وما زال دستور بانجاسامورو محل نقاش في البرلمان الفلبيني، ورغم أن شعب مورو يرغب بهذا الدستور إلا أن المحكمة الدستورية العليا في الفلبين قد تقول إنه يخالف دستور البلاد.. وقد كانت الجبهة سلمت أسلحتها رسميًّا خلال احتفالية أقيمت في منطقة “مينداناو” جنوبي الفلبين في وقت سابق من العام 2015، شارك فيها رئيس البلاد، بنيغنو آكينو، وزعيم الجبهة، الحاج مراد إبراهيم، ليسدل بذلك الستار على صراع امتد منذ سبعينيات القرن الماضي.

على جانب آخر قال “آكينو” في كلمة له خلال المراسم (إننا نعيش لحظات تاريخية، فالحديث عن إلقاء مجموعة كانت تتصارع مع الحكومة أسلحتها، كان قبل سنوات ضربًا من الخيال، إلا إن إخواننا في جبهة مورو تعهدوا بالتخلي عن السلاح طواعيةً).

وعلى صعيد متصل وعلى ذمة وكالة الأناضول أعلن الجيش الفلبيني، أمس الأحد تحييد 47 مسلحًا، بينهم أجانب، خلال سلسلة من العمليات الأمنية المدعومة من القوات الجوية جنوب البلاد. وقالت المتحدثة باسم قيادة مينداناو الغربية الكابتن جو آن بيتينج لاي في تصريح صحفي: (قواتنا وجهت ضربة قاسية ضد مسلحي حركة مقاتلو بانجسامورو الإسلاميين)".

تمت..

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، ج٢٢ ص١٢١، ط المكتب الإسلامي.
‏٢٢‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٨:٣٥ م‏
مقاومة الشعوب 2 د. @[618980873:2048:عمرو عادل] عرض المقال الأول المراحل الثلاث الرئيسية في مسار المقاومة الشعبية، وتناول العناصر التي توصف المرحلة الأولي "تجهيز الأرض والمجتمع للمقاومة" ،وكانت القيادة والجماهير والأرض والعدو، واستكمالًا لعرض هذه العناصر الأربعة ينبغي توضيح طبيعة العلاقات بينهم حتى تحقق أقصى كفاءة ممكنة عند الانتقال إلى المرحلة الثانية، وتحقق أكبر قدر من الحفاظ على القوى البشرية التي تم إعدادها. في البداية ينبغي توضيح عدة أمور: -التجارب السابقة في محاولات التحرير بمصر، اعتمدت فقط على مجموعات مركزية – صغيرة أم كبيرة لا يهم – ولكنها كانت بشكل ما منفصلة عن القواعد الشعبية الكبيرة، وبالتالي استطاع النظام حصارها داخل مساحة ما، أما الهدف من هذه الأفكار التي نعرضها هو إخراج فكرة المقاومة من حيز التنظيمات إلى حيز أوسع بكثير، فإن الثورة لا تكون شعبية حقيقة إلا إذا اشترك فيها جزء معتبر من الشعب ،ويعبر فيها عن رغباته ومصالحه (1) مع التأكيد أن الأنوية الصلبة شديدة الأهمية في العمل الثوري المقاوم، وهذا ما سنعرض له لاحقًا. -الخبرات السابقة أكدت ذلك؛ حيث أكدت أن فكرة حروب العصابات التي تبنتها بعض التنظيمات لم تحقق نجاحًا ،نظرًا لطبيعة مصر الطبوغرافية ،وطريقة التقسيم الإداري لمصر ومعدلات السيطرة العالية من النظام السياسي، فمصر الحديثة بنيت من أجل أن تكون تحت سيطرة الدولة كاملة، لذلك فالهدف الآن هو حشد أكبر قدر ممكن من الشعب المؤمن بقضية التحرير؛ غير المنتمي إلى تنظيمات هرمية ويرغب في المشاركة في العمل دون التعرض لبطش الأجهزة الأمنية الموجه للتنظيمات؛ على أهداف وأفكار وإجراءات محددة والانتظار للحظة ما يتحرك فيها بشكل مفاجئ للنظام وحاسم نحو أهداف محددة بالتتابع؛ حيث يفقد النظام السياسي توازنه وسيطرته طبقًا للمراحل الثلاث التي ذكرها ماوتسي يونج في كتابة حرب الأنصار(2) -لا يمكن المجازفة بالتحرك لمواجهة النظام بغرض إسقاطه تمامًا بشكل حقيقي ،دون الوصول إلى حد أدنى من الإعداد وبناء القوى الصلبة والجماهيرية. وكي تتحقق الأمور السابقة ينبغي أن تكون العلاقات بين العناصر الأربعة في هذه المرحلة واضحة، لأن أخطر الأمور هو اختراقات النظم الأمنية والعسكرية وضرب أي فكرة لتقوية أو نشر المقاومة. ويبين الشكل التالي التصور المقترح للعلاقة بين القيادة المعلنة والجماهير في مرحلة البناء، حيث يشير إلى خطورة الاتصال المباشر بينهما باستخدام الوسائل المتعارف عليها ،فهي إحدى وسائل الاختراق سواء بدفع عناصر أمنية لإجراء تواصلات خادعة بالقيادة أو لرصد القوى الجماهيرية التي تتواصل مع القيادة. وبالتالي فالهدف في بدايات المرحلة الأولى هو نشر الأفكار والإجراءات داخل المجتمع بطرق غير مباشرة، دون احتمال رصد مباشر من نظام، حيث إن المهارات العالية للتأمين والحماية من عدم التتبع غير متاحة لدى عموم الجماهير، لذلك لا ينبغي إحداث أي تواصل مباشر مع القيادة، وهذه الطريقة يمكن بها رصد القيادة المعلنة أصلًا وهذه لا تمثل أزمة، ولا يمكن بها رصد الجماهير المهتمة بشأن المقاومة. وبالتأكيد يكون استقبال الأفكار والإجراءات داخل الجماهير بالأساس بشكل فردي تمامًا؛ حيث إن أي تواصل بشكل غير آمن في هذه المرحلة بين الجماهير يزيد من احتمالية الرصد الأمني أيضا. نتيجة لتطور الأفكار وانتشارها ،تبدأ الأنوية الصغيرة في التكون داخل القطاع الجماهيري طبقًا لمدى ثقة الجماهير في القيادة ،ومدى قدرة الأفكار على الإقناع والتأثير على الجماهير؛ حيث إن غياب الجماهير هو انتحار للمقاومة(3) والمقصود بالأنوية الصغيرة الأفراد الذين آمنوا بقدرة الأفكار والإجراءات على تحقيق قيمة مضافة للمقاومة ،وبدأوا فعلًا في العمل وتنفيذ الإجراءات التحضيرية التي سنذكرها لاحقًا. مع تطور وزيادة الأنوية وزيادة إدراك ووعي الجماهير المؤمنة بالثورة؛ تبدأ القيادات الجماهيرية الميدانية في التشكل ،وهو تطور كبير في منظومة المقاومة الشعبية. تبدأ القيادات الجماهيرية عبر أساليب آمنة قدر المستطاع وبسبب وجودها داخل الجماهير بتكوين أنوية أكثر قوة وحجمًا وغير مترابطة بعضها ببعض، وهذه إحدى الخطوات الحاسمة في تطور بنية المقاومة، حيث إن تكون القيادات الميدانية أحد أكبر الخطوات في مسار التوجه نحو الحسم الثوري. ولا ينبغي أن تكون القيادات الميدانية منتمية إلى تنظيمات هرمية؛ حيث إن ضرب أي نقطة في التنظيم الهرمي يصيب المنظومة كلها بمشكلة، أما التنظيمات الأفقية غير المترابطة فيصعب للغاية تعقبها ،وفي حالة حدوث مشكلة في إحدى نقاطها لا يمكن لباقي الأنوية أن تتأثر. إن هذا التصور هو الهدف النهائي لمرحلة تجهيز المجتمع للمقاومة الشعبية ،ويرتبط بعنصري الجماهير والقيادة ،وهي عملية طويلة ولها إخفاقاتها ونجاحاتها؛ إلا أن الوصول لها لا بديل عنه حتى يمكننا التحرك بشكل صحيح في اتجاه المراحل المتعاقبة حتى الحسم الثوري، بالتأكيد ليست الأمور ميكانيكية تمامًا وبها الكثير من المتغيرات، إلا أن كل المتغيرات تخضع لواقع مختلف من مكان لآخر ،وبالتالي فإن القيادات الجماهيرية هي صاحبة اليد العليا في تحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب ،وهذه التحديات هي القادرة على إنتاج قيادات جماهيرية قوية يمكنها قيادة العمل الثوري(4). النقطتان الأخيرتان هما العدو والأرض، وبالنسبة للعدو؛ فالهدف الرئيسي هو معرفة أكبر قدر من المعلومات عن العدو المحدد للثورة الشعبية، وهو بالأساس مركز الثورة المضادة ومركز السيطرة على السلطة، وفي مصر لا أظن أننا نختلف عليه حيث تأكد لنا عبر خمسة وستين عامًا تقريبًا من إفساد البلاد وتخريبها أنها قيادات االعسكر الفاسدة، بقية نظام مبارك عملاء أمريكا وإسرائيل، الذين واجهوا كل كل محاولة سلمية للإطاحة بهم بالقتل والتعذيب والاعتقال. والمؤكد أن التعامل مع العدو المجهول هو هزيمة ساحقة ماحقة لا شك فيها، أما معرفة العدو معرفة كاملة فهو جزء كبير من النصر. أما الأرض، فطبيعة الطبوغرافية المصرية وطبيعة التنظيم الإداري المبني على فكرة حصار الشعب في كنتونات منفصلة ومساحات ضيقة يسهل السيطرة عليها عبر السيطرة على مفاصل محددة للطرق- تجعل السيطرة على هذه المفاصل نقطة صراع كبرى، وتجعل من يسيطر عليها يصبح هو الأقوى وهو صاحب اليد العليا، وهذا كما قال جمال حمدان نتيجة للطبيعة المركزية الصارخة للبلاد(5). لذا فمن الضروري أن تكون خطط السيطرة والحماية على مفاصل الطرق الرئيسية ومداخل المدن والعقد المرورية ،أحد أهم الإجراءات التحضيرية للحسم الثوري، كما أن المعلومات الخاصة بكل المؤسسات التي تدار منها السلطة بداية من أصغر قرية حتى القصور الرئاسية ،في غاية الأهمية للتجهيز للعمل الثوري. قد يرى البعض أن هذه الأمور تحتاج لتنظيمات قوية للقيام بها؛ وأن الشعوب غير مؤهلة لذلك، وأعتقد أن الحالة المصرية تحتاج لذلك العمل، بل وهناك بعض المؤشرات التي تشير إلى احتمالية النجاح. لقد قام الشعب المصري بملاحم كبرى بعد فض اعتصام رابعة؛ بل استطاع تحقيق جزء من الأهداف التي أشرنا إليها ،ولكن غياب القيادة وغياب الهدف وعدم وضوح العدو لم يجعل الأمور تكتمل؛ وبالتالي بقدر من التخطيط والتنظيم الجيد ربما ينجح في ذلك الأمر في النهاية. وبالتأكيد الطريق ليست سهلة، والأمور ليست بهذه البساطة ،إلا أن باستصحاب التصور الكلي المطروح ، نرى أنه قد يكون مثاليًّا للحالة المصرية، والأمل الأكبر منعقد على قيادة يمكنها طرح أفكار وإجراءات يثق بها المجتمع، ووجود قيادات جماهيرية تقتنع بتلك القيادة وتبدأ في البناء طبقًا لهذا النموذج؛ لتصل بالمجتمع للنقطة الحرجة التي يمكنه بها من الدخول في مرحلة الحسم الثوري. ودور المجموعات التي تعمل بأسلوب مختلف وخارج هذا الإطار مطلوب وهام، ولكنه يحتاج إلى خبرات ومهارات لا يمكن توفرها لدى القوى الشعبية الكبيرة، وهذه المجموعات ربما ستكون القاطرة التي تعطي القوة الدافعة للعمل الثوري، ولكنها وحدها لن يمكنها تحقيق تغيير جذري وحسم ثوري بدون القوى الشعبية التي نسعى لتكوينها. وفي المقال القادم نستعرض الإجراءات والأفكار المتعلقة بمعرفة العدو والأرض، والتي لابد أن تنتشر داخل المجتمع لتدفعه إلى إنتاج قياداته الميدانية. ــــــــــــــــــــــــــــــ 1) راجع الدولة الوثرة، فلاديمير لينين، ص 23-24. 2) المراحل الثلاث التي ذكرها في كتابه وهي مرحلة الفوضى ثم التوازن ثم الحسم، وما نسعى إليه الآن هو تأطير مرحلة البناء، وهي مقدمة للمرحلة الأولى، حيث إن الحالة المصرية تحتاج لذلك. 3) يقول روبرت تابر في كتابه "حرب المستضعفين" إن غياب الحاضنة الجماهيرية تحول المقاومين إلى قطاع طرق في نظر الجماهير، ص12. 4) ينظر: كتاب “ما العمل” ،لفلاديمير لينين ،ص 67 ،حول منظمة الثوريين. 5) شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان: لعل من أبرز ملامح الشخصية المصرية، المركزية الصارخة طبيعيا وإداريا، وهي صفة متوطنة لأنها قديمة قدم الأهرامات، مزمنة حتى اليوم. الجزء الرابع ص 253.
مقاومة الشعوب 2
د. عمرو عادل

عرض المقال الأول المراحل الثلاث الرئيسية في مسار المقاومة الشعبية، وتناول العناصر التي توصف المرحلة الأولي "تجهيز الأرض والمجتمع للمقاومة" ،وكانت القيادة والجماهير والأرض والعدو، واستكمالًا لعرض هذه العناصر الأربعة ينبغي توضيح طبيعة العلاقات بينهم حتى تحقق أقصى كفاءة ممكنة عند الانتقال إلى المرحلة الثانية، وتحقق أكبر قدر من الحفاظ على القوى البشرية التي تم إعدادها.
في البداية ينبغي توضيح عدة أمور:

-التجارب السابقة في محاولات التحرير بمصر، اعتمدت فقط على مجموعات مركزية – صغيرة أم كبيرة لا يهم – ولكنها كانت بشكل ما منفصلة عن القواعد الشعبية الكبيرة، وبالتالي استطاع النظام حصارها داخل مساحة ما، أما الهدف من هذه الأفكار التي نعرضها هو إخراج فكرة المقاومة من حيز التنظيمات إلى حيز أوسع بكثير، فإن الثورة لا تكون شعبية حقيقة إلا إذا اشترك فيها جزء معتبر من الشعب ،ويعبر فيها عن رغباته ومصالحه (1) مع التأكيد أن الأنوية الصلبة شديدة الأهمية في العمل الثوري المقاوم، وهذا ما سنعرض له لاحقًا.

-الخبرات السابقة أكدت ذلك؛ حيث أكدت أن فكرة حروب العصابات التي تبنتها بعض التنظيمات لم تحقق نجاحًا ،نظرًا لطبيعة مصر الطبوغرافية ،وطريقة التقسيم الإداري لمصر ومعدلات السيطرة العالية من النظام السياسي، فمصر الحديثة بنيت من أجل أن تكون تحت سيطرة الدولة كاملة، لذلك فالهدف الآن هو حشد أكبر قدر ممكن من الشعب المؤمن بقضية التحرير؛ غير المنتمي إلى تنظيمات هرمية ويرغب في المشاركة في العمل دون التعرض لبطش الأجهزة الأمنية الموجه للتنظيمات؛ على أهداف وأفكار وإجراءات محددة والانتظار للحظة ما يتحرك فيها بشكل مفاجئ للنظام وحاسم نحو أهداف محددة بالتتابع؛ حيث يفقد النظام السياسي توازنه وسيطرته طبقًا للمراحل الثلاث التي ذكرها ماوتسي يونج في كتابة حرب الأنصار(2)

-لا يمكن المجازفة بالتحرك لمواجهة النظام بغرض إسقاطه تمامًا بشكل حقيقي ،دون الوصول إلى حد أدنى من الإعداد وبناء القوى الصلبة والجماهيرية.

وكي تتحقق الأمور السابقة ينبغي أن تكون العلاقات بين العناصر الأربعة في هذه المرحلة واضحة، لأن أخطر الأمور هو اختراقات النظم الأمنية والعسكرية وضرب أي فكرة لتقوية أو نشر المقاومة.

ويبين الشكل التالي التصور المقترح للعلاقة بين القيادة المعلنة والجماهير في مرحلة البناء، حيث يشير إلى خطورة الاتصال المباشر بينهما باستخدام الوسائل المتعارف عليها ،فهي إحدى وسائل الاختراق سواء بدفع عناصر أمنية لإجراء تواصلات خادعة بالقيادة أو لرصد القوى الجماهيرية التي تتواصل مع القيادة. وبالتالي فالهدف في بدايات المرحلة الأولى هو نشر الأفكار والإجراءات داخل المجتمع بطرق غير مباشرة، دون احتمال رصد مباشر من نظام، حيث إن المهارات العالية للتأمين والحماية من عدم التتبع غير متاحة لدى عموم الجماهير، لذلك لا ينبغي إحداث أي تواصل مباشر مع القيادة، وهذه الطريقة يمكن بها رصد القيادة المعلنة أصلًا وهذه لا تمثل أزمة، ولا يمكن بها رصد الجماهير المهتمة بشأن المقاومة. وبالتأكيد يكون استقبال الأفكار والإجراءات داخل الجماهير بالأساس بشكل فردي تمامًا؛ حيث إن أي تواصل بشكل غير آمن في هذه المرحلة بين الجماهير يزيد من احتمالية الرصد الأمني أيضا.

نتيجة لتطور الأفكار وانتشارها ،تبدأ الأنوية الصغيرة في التكون داخل القطاع الجماهيري طبقًا لمدى ثقة الجماهير في القيادة ،ومدى قدرة الأفكار على الإقناع والتأثير على الجماهير؛ حيث إن غياب الجماهير هو انتحار للمقاومة(3) والمقصود بالأنوية الصغيرة الأفراد الذين آمنوا بقدرة الأفكار والإجراءات على تحقيق قيمة مضافة للمقاومة ،وبدأوا فعلًا في العمل وتنفيذ الإجراءات التحضيرية التي سنذكرها لاحقًا.

مع تطور وزيادة الأنوية وزيادة إدراك ووعي الجماهير المؤمنة بالثورة؛ تبدأ القيادات الجماهيرية الميدانية في التشكل ،وهو تطور كبير في منظومة المقاومة الشعبية.
تبدأ القيادات الجماهيرية عبر أساليب آمنة قدر المستطاع وبسبب وجودها داخل الجماهير بتكوين أنوية أكثر قوة وحجمًا وغير مترابطة بعضها ببعض، وهذه إحدى الخطوات الحاسمة في تطور بنية المقاومة، حيث إن تكون القيادات الميدانية أحد أكبر الخطوات في مسار التوجه نحو الحسم الثوري.

ولا ينبغي أن تكون القيادات الميدانية منتمية إلى تنظيمات هرمية؛ حيث إن ضرب أي نقطة في التنظيم الهرمي يصيب المنظومة كلها بمشكلة، أما التنظيمات الأفقية غير المترابطة فيصعب للغاية تعقبها ،وفي حالة حدوث مشكلة في إحدى نقاطها لا يمكن لباقي الأنوية أن تتأثر.

إن هذا التصور هو الهدف النهائي لمرحلة تجهيز المجتمع للمقاومة الشعبية ،ويرتبط بعنصري الجماهير والقيادة ،وهي عملية طويلة ولها إخفاقاتها ونجاحاتها؛ إلا أن الوصول لها لا بديل عنه حتى يمكننا التحرك بشكل صحيح في اتجاه المراحل المتعاقبة حتى الحسم الثوري، بالتأكيد ليست الأمور ميكانيكية تمامًا وبها الكثير من المتغيرات، إلا أن كل المتغيرات تخضع لواقع مختلف من مكان لآخر ،وبالتالي فإن القيادات الجماهيرية هي صاحبة اليد العليا في تحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب ،وهذه التحديات هي القادرة على إنتاج قيادات جماهيرية قوية يمكنها قيادة العمل الثوري(4).

النقطتان الأخيرتان هما العدو والأرض، وبالنسبة للعدو؛ فالهدف الرئيسي هو معرفة أكبر قدر من المعلومات عن العدو المحدد للثورة الشعبية، وهو بالأساس مركز الثورة المضادة ومركز السيطرة على السلطة، وفي مصر لا أظن أننا نختلف عليه حيث تأكد لنا عبر خمسة وستين عامًا تقريبًا من إفساد البلاد وتخريبها أنها قيادات االعسكر الفاسدة، بقية نظام مبارك عملاء أمريكا وإسرائيل، الذين واجهوا كل كل محاولة سلمية للإطاحة بهم بالقتل والتعذيب والاعتقال. والمؤكد أن التعامل مع العدو المجهول هو هزيمة ساحقة ماحقة لا شك فيها، أما معرفة العدو معرفة كاملة فهو جزء كبير من النصر.

أما الأرض، فطبيعة الطبوغرافية المصرية وطبيعة التنظيم الإداري المبني على فكرة حصار الشعب في كنتونات منفصلة ومساحات ضيقة يسهل السيطرة عليها عبر السيطرة على مفاصل محددة للطرق- تجعل السيطرة على هذه المفاصل نقطة صراع كبرى، وتجعل من يسيطر عليها يصبح هو الأقوى وهو صاحب اليد العليا، وهذا كما قال جمال حمدان نتيجة للطبيعة المركزية الصارخة للبلاد(5).

لذا فمن الضروري أن تكون خطط السيطرة والحماية على مفاصل الطرق الرئيسية ومداخل المدن والعقد المرورية ،أحد أهم الإجراءات التحضيرية للحسم الثوري، كما أن المعلومات الخاصة بكل المؤسسات التي تدار منها السلطة بداية من أصغر قرية حتى القصور الرئاسية ،في غاية الأهمية للتجهيز للعمل الثوري.

قد يرى البعض أن هذه الأمور تحتاج لتنظيمات قوية للقيام بها؛ وأن الشعوب غير مؤهلة لذلك، وأعتقد أن الحالة المصرية تحتاج لذلك العمل، بل وهناك بعض المؤشرات التي تشير إلى احتمالية النجاح. لقد قام الشعب المصري بملاحم كبرى بعد فض اعتصام رابعة؛ بل استطاع تحقيق جزء من الأهداف التي أشرنا إليها ،ولكن غياب القيادة وغياب الهدف وعدم وضوح العدو لم يجعل الأمور تكتمل؛ وبالتالي بقدر من التخطيط والتنظيم الجيد ربما ينجح في ذلك الأمر في النهاية.

وبالتأكيد الطريق ليست سهلة، والأمور ليست بهذه البساطة ،إلا أن باستصحاب التصور الكلي المطروح ، نرى أنه قد يكون مثاليًّا للحالة المصرية، والأمل الأكبر منعقد على قيادة يمكنها طرح أفكار وإجراءات يثق بها المجتمع، ووجود قيادات جماهيرية تقتنع بتلك القيادة وتبدأ في البناء طبقًا لهذا النموذج؛ لتصل بالمجتمع للنقطة الحرجة التي يمكنه بها من الدخول في مرحلة الحسم الثوري.

ودور المجموعات التي تعمل بأسلوب مختلف وخارج هذا الإطار مطلوب وهام، ولكنه يحتاج إلى خبرات ومهارات لا يمكن توفرها لدى القوى الشعبية الكبيرة، وهذه المجموعات ربما ستكون القاطرة التي تعطي القوة الدافعة للعمل الثوري، ولكنها وحدها لن يمكنها تحقيق تغيير جذري وحسم ثوري بدون القوى الشعبية التي نسعى لتكوينها.

وفي المقال القادم نستعرض الإجراءات والأفكار المتعلقة بمعرفة العدو والأرض، والتي لابد أن تنتشر داخل المجتمع لتدفعه إلى إنتاج قياداته الميدانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
1) راجع الدولة الوثرة، فلاديمير لينين، ص 23-24.
2) المراحل الثلاث التي ذكرها في كتابه وهي مرحلة الفوضى ثم التوازن ثم الحسم، وما نسعى إليه الآن هو تأطير مرحلة البناء، وهي مقدمة للمرحلة الأولى، حيث إن الحالة المصرية تحتاج لذلك.
3) يقول روبرت تابر في كتابه "حرب المستضعفين" إن غياب الحاضنة الجماهيرية تحول المقاومين إلى قطاع طرق في نظر الجماهير، ص12.
4) ينظر: كتاب “ما العمل” ،لفلاديمير لينين ،ص 67 ،حول منظمة الثوريين.
5) شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان: لعل من أبرز ملامح الشخصية المصرية، المركزية الصارخة طبيعيا وإداريا، وهي صفة متوطنة لأنها قديمة قدم الأهرامات، مزمنة حتى اليوم. الجزء الرابع ص 253.
‏١٩‏/٠٩‏/٢٠١٧ ١١:٥٢ ص‏
متى نكسر الحصار الفني؟ د. @[100011921894393:2048:عمرو كامل] (حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ) للعدالة وجه جديد Justice has a new face شعار تصدر أحد البوسترات الدعائية لأحد أنجح أفلام هوليوود، هو فيلم ديدبول Deadpool ، الصادر في فبراير عام 2016 عن شركة (مارفل كوميكس)، والذي يروي قصة وايد ويلسون الشاب الذي أنهى خدمته العسكرية ليعمل بعد ذلك كمرتزق شرس يتباهى بقتله 41 شخصًا، وذلك قبل تحوله لديدبول الخارق ويضاعف عدد قتلاه بأبشع الطرق والوسائل، والذي يقول عن نفسه في بداية الفيلم: (أنا لست بطلاً، ولن أكون أبدًا كذلك، أنا مجرد رجل سيئ يتلقى أجرًا لضرب رجل أسوأ). وفي أغسطس من العام نفسه أصدر المنافس العتيد لمارفل (دي سي كوميكس) فيلم الفرقة الانتحارية Suicide Squad ، والذي يروي قصة مجموعة من أعتى الأشرار المحتجزين في سجن شديد الحراسة، وتستعين بهم الحكومة الأمريكية في العمليات السرية ضد الأخطار التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، وذلك في مقابل تحقيق رغباتهم وتحسين أوضاعهم داخل السجن. ولقد وصف البوستر الدعائي للفيلم أعضاء هذا الفريق بأنهم (أسوأ الأبطال على الإطلاق) The Worst Heroes Ever أما في عالم الأطفال، فتعتبر سلسلة أفلام أنا الحقير Despicable me بأجزائها الثلاثة من أنجح أفلام الأنيميشن التي عرضت مؤخرا، لبطلها (جرو) الشرير اللطيف، والذي تقوم على خدمته كائنات (المينيوز) الصفراء المحبوبة التي بلغت شهرتها الآفاق، وباتت علامة تجارية رائجة لمنتجات كثيرة لمختلف الأعمار، حتى أنه صدر في 2015 فيلم خاص بالمينيونز يحكي كيف نشأوا في بداية الخلق ككائنات أولية صفراء، لها مهمة وحيدة هي خدمة أعظم الأشرار على مر التاريخ. وكان لرالف المدمر في فيلم أنيميشن ديزني Wreck it Ralph الصادر عام 2012 عبارة ترددت في أكثر من موضع في الفيلم: (أنا شرير، وهذا جيد، أنا لن أكون طيبًا أبدًا، وهذا ليس سيئًا، لا أرغب أن أكون أحدًا غيري). I'm bad, and that's good. I'll never be good, and that's not bad, there's no one I'd rather be than me. نستطيع من هذه الأمثلة المتقاربة زمنيًّا ملاحظة توجهًا عامًّا في عالم هوليوود يستهدف مختلف الفئات العمرية، ويهدف إلى إيصال رؤية مغايرة لمعايير الخير والشر، وتوظيفها في عدة أغراض مختلفة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية...)، في عالم (ما بعد حداثي) جديد تفكك من كل القيود الأخلاقية وتحلل من كل الثوابت. وإشكالية (ما وراء الخير والشر) قد طرحها قديما الفيلسوف المجنون فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، وذلك بعد إعلانه موت الإله، وتبشيره بميلاد الإنسان الأعلى (سوبرمان) الجديد [1]الذي يفرض أخلاقه وأفكاره وكل ما يحلو له بالقوة [2]، ويضع لنفسه المعايير الخاصة بالخير والشر، في عالم دارويني شمولي البقاء فيه للأصلح، حيث يتساءل نيتشه: "ألا يمكن قلب كل القيم؟ والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟”[3]. وقد تنبأ نيتشه قبل موته بأن أفكاره لن تنتشر سريعًا في حياته، ولكنها كالديناميت الذي سينفجر في وقت لاحق ويغير ملامح الكون، وقال حينها: "فأنا لست إنسانًا، بل عبوة ديناميت”[4]. تغلغلت هذه الأفكار في الوعي الغربي ببطء شديد جدًّا استمر لمدة سنوات طويلة تعود بجذورها إلى العصور الوسطى الظلامية، تعرَّض فيها الإنسان لصدمات دينية وعلمية وعقلية وأخلاقية عنيفة، توجتها الحروب العالمية وما نتج عنها من خراب ودمار كبيرين، أديا بالإنسان الغربي إلى سقوطه من علوه ومكانته السامية ومركزيته الكونية التي طالما اعتقد فيها، وهروبه وانزوائه في هدوء إلى هامش الكون والحياة متنحيًا عن احتكار أي تفسير أو ثابت من الثوابت طالما كان يدَّعي حق امتلاكه، اللهم إلا شهوة القوة والأحلام الإمبريالية التوسعية التي لازمته منذ قديم الأزل، والتي كبح جماحها -ظاهرًا- بزوغ عهد الديمقراطية وشعارات احترام الإنسان والرأي والحقوق. ولذلك، خروجًا من هذا المأزق الأخلاقي الظاهري، كان على الإنسان الغربي لقضاء وطره ولإشباع رغبته تلك، سلوك طريقٍ آخرَ أكثر نعومة وأقل صَخبًا، طريق يجعله في حل من اللوم بانتهاك الحقوق وسفك الدماء وما إلى ذلك، بدعوى أن هذا شر أدنى ضروري للقضاء على شر أعلى يهدد المجتمع الديمقراطي والبشرية، تحت مسمى مكافحة الإرهاب وما شابه ذلك.. وهذا الطريق هو طريق الوعي والأفكار. وحرب الأفكار هذه لها مستويان: مستوى نخبوي؛ تغلب عليه الكتب والتنظيرات والجدليات والفلسفات، وموضعه تحت القباب وفي ساحات المناظرات.. ومستوى آخر شعبوي؛ ويغلب عليه القيل والقال والقصص والروايات، وموضعه في الفضائيات وعلى الشاشات، وبين دفات المجلات والروايات.. وهذا الأخير بطبيعة الحال هو الأكثر نفوذًا وشيوعًا ورواجًا؛ فلو أننا طرحنا سؤالًا عمليًّا وقلنا: - كم منا يعرف عن فلسفة ما بعد الحداثة ودقائق أفكار نيتشه أو فوكو أو دريدا المهيمنة على الفكر الغربي؟ - كم شخصًا على مستوى العالم كله قرأ كتبهم، أو استوعب تنظيراتهم؟ وفي المقابل: - كم منا يعرف فيلم كذا أو رواية كذا؟ بالإجابة عن هذا السؤال يَتبين لنا مدى تأثير الفن والإعلام وتوغلهما في القطاع الأعرض من الناس، واستحواذه على قلوبهم وعقولهم على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم.. وعليه يتبين كيف أنه باختصار سلاح خطير في يدِ مَن يُجيد استخدامه وتوجيهه، تستطيع النخب الفكرية من خلاله الخروج من هذا المأزق الأخلاقي الديمقراطي (بشياكة)! بل وتجنيد جحافل من المبشرين بهذه الأفكار طواعية ودون مقابل، فماذا بعد الاستحواذ على القلوب والعقول؟ ماذا أفضل من الدعم التلقائي والتحيز غير الواعي؟ تدبَّر جواب الروائي والفيلسوف الإيطالي (أومبرتو إكو)، حينما سألته الكاتبة الفرنسية ذات الأصل الإيراني (لِيلا أزام زانجانيه) عام 2008 عن عبارته المشهورة "الأشياء التي نعجز عن التنظير لها، يجب أن نسردها في رواية"، حيث قال: "أظنني عبّرتُ عن أفكاري بشكل أوضح في رواية (بندول فوكو) أكثر مما فعلته في مقالاتي الأكاديمية. كل فكرةٍ مهما بدت أصيلة، تأكد بأن أرسطو توصل لها قبلك. لكن كتابة رواية حول تلك الفكرة ستجعلها تبدو أصيلة ومبتكرة. (مثلاً) الرجال يحبون النساء، هذه ليست بفكرة أصيلة، لكن، لو استطعت بشكل ما أن تكتب رواية رائعة عن هذا المعنى، حينها بخدعة أدبية ساحرة ستتحول إلى فكرة مبتكرة. في نهاية الأمر، وبكل بساطة، أؤمن أن القصة أكثر ثراءً؛ لأنها فكرة يُعاد تشكيلها إلى حدث، تحكيه شخصيات القصة، ويُسرد بلغة محبوكة. لذا بطبيعة الحال، حين تتحول الفكرة لكائن حي، تصبح شيئًا مختلفًا تمامًا: كِيانًا له القدرة على التعبير. من الناحية الأخرى، التناقض قد يكون من أساس الرواية. فقتل شخصية امرأة طاعنة في السن يبدو ممتعًا. إنما بفكرة كهذه، ستنال معدل (هـ = راسب) في امتحان علم الأخلاق. لكن في الأدب ستنال على (الجريمة والعقاب) تحفة فنية من النثر، الشخصية فيها تتساءل إن كان قتل امرأة طاعنة في السن أمرًا جيدًا أم سيئًا، الحيرة في أفكار الشخصية -مع تضارب آرائنا نحن- حينها تغدو مسألة شاعرية وتحديًا كبيرًا" [5]. فلا عجب إذن حينما يقع الفن والآلة الإعلامية بشكل أعَم في براثن من يجيد إدارة دفته وتوظيفه واستثماره وجني ثماره لصالحه، ولا عجب أن يصبح مدار صراع هائل تتنازع فيه كيانات اقتصادية ضخمة، وحكومات، ونخب فكرية، وتسخيره ليكون آلة حرب أقل كلفة وخسارة، وتحرر الطموح الاستعماري الإنساني الفطري من أغلاله، بل وتُزيل عنه الحرج الأخلاقي، فما يضر في غزوة بلا سلاح أو دماء، وساحتها ببساطة هي (الوعي الشعبي)؟! عمليًّا، وبعيدًا عن المثالية، أو الرومانسية الأخلاقية، لا يوجد في قاموس الإعلام ما يُعرف بـ (الإعلام المحايد) أو غير المؤدلج؛ فوسائل الإعلام المختلفة هي الآلة التي يَستخدمها صاحب الرسالة أو الأيديولوجيا لنشر أفكاره أيًّا كانت، وثمة فرق -نظريًّا- بين الخبر والرأي؛ فنقل الخبر هو الذي يُشترط فيه الحِياد، أما الرأيُ؛ فلا يُشترط فيه ذلك. وكون إعلام الرأي ليس حياديًّا ليس عيبًا في ذاته، إذا كانت الساحة مفتوحة والمُعترك شريفًا، إلا أن هذا ليس ما يحدث عادةً في العالم الدارويني النيتشوي الشمولي؛ حيث التضييق الواضح على الآخَر، ومُصادرة رأيه، وتجفيف منابعه الفكرية والخبراتية والمالية. نحن في عالمنا العربي والإسلامي في مرحلة صعبة ولا شك؛ فالمبدع البارز المتصدر صاحب الإمكانيات والموارد هو من يخدم المسار الغربي ذاته وبتسهيلات منه، أما من يقاوم؛ فهو أشبه بمن ينحت في الصخر.. في الإمكان أن نصلَ إلى نتيجة إيجابية أينعم، ولكن بعد عناءٍ شديدٍ وعوائقَ كبيرةٍ. يجب على (المشتغلين) بهذا المجال في سبيل تحقيق ذلك الصبر والمصابرة، والتطوير والإبداع والمواكبة. وأما (المنشغلون) بهذا المجال غير المشتغلين به؛ فيجب عليهم -على أقل تقدير- التحصُّن بالحد الأساسي من الثوابت العقَدية والأخلاقية، التي يَستطيعون من خلالها التمييز بين الخطأ والصواب، وحفظ أبنائهم وصيانة مجتمعاتهم. وقياسًا: أتصور أن المنافسة في مجال أفلام الرسوم المتحركة هو السبيل الأنجح لاقتحام عالم الأفلام والمسلسلات والسينما بقوة؛ فهي وسيلة -رغم تكاليفها الضخمة التي يجب أن يتحملها شرفاء المستثمرين-، وسيلة تُزيل الحرجَ عن الكثير من المبدعين المحترفين، عن التحفظ في إخراج المشاهد العائلية والمنزلية الخاصة والمختلطة، ليخرج المنتج أكثر تأثيرًا وعاكسًا للواقع. ولا شك أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي صارت خطوة أساسية على الطريق؛ فهي الأسهل، والأقل تكلفة، والأكثر نفوذًا وانتشارًا، ووسائل عرض المحتوى فيها كثيرة ومتنوعة، يتطلب الأمر فقط دراسة جيدة، وإعدادًا احترافيًّا، وتسويقًا ذكيًّا، وقبل ذلك كلِّه نية وعزيمة صادقة. فهل يأتي يوم نرى فيه عملًا فنيًّا أو رواية عربية تحملُ قيمًا وثوابتَ إسلاميةً أصيلة، تطرح رؤية واسعة لحياة موازية متحررة من أغلال النظام العالمي المهيمن، وترسخ في الوجدان أصالة مقاومة الظلم والطغيان داخليًّا وخارجيًّا، وتخرج إلى العالم منافسة للروايات العالمية الناجحة كعلى سبيل المثال رواية (الخيميائي) لباولو كويلو؟ والتي نشرت في 119 دولة في العالم، وظلت 300 أسبوعًا على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية! بل ترجمت إلى 80 لغة، ودخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأكثر رواية تم توقيع ترجمات لها في حفل توقيع واحد، حيث وقع كويلو نسخًا بـ 53 لغة في معرض فرانكفورت للكتاب في العام 2003، مما جعلها واحدة من أكثر الكتب مبيعًا على مر التاريخ، على ما فيها من أفكار اتحادية وحلولية عقدية خطيرة؟ هل يأتي ذلك اليوم الذي نوصّل فيه فكر المقاومة والتحرر وسيادة الحضارة الإسلامية للجمهور في صورة فنية يُكتب لها الانتشار هكذا؟ أرجو ذلك.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ص6، مطبعة جريدة البصير، الإسكندرية، 1938 [2] نيتشه: ما وراء الخير والشر، ص37، دار الفارابي [3] نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، ص12، دار أفريقيا الشرق، ط. 2002 [4] نيتشه: هذا هو الإنسان، ص153، منشورات الجمل [5] Umberto Eco, The art of Fiction No.197, interviewed by Lila Azam Zanganeh, The Paris Review, Summer 2008, No.185, www.theparisreview.org
متى نكسر الحصار الفني؟
د. عمرو كامل

(حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ)

للعدالة وجه جديد Justice has a new face شعار تصدر أحد البوسترات الدعائية لأحد أنجح أفلام هوليوود، هو فيلم ديدبول Deadpool ، الصادر في فبراير عام 2016 عن شركة (مارفل كوميكس)، والذي يروي قصة وايد ويلسون الشاب الذي أنهى خدمته العسكرية ليعمل بعد ذلك كمرتزق شرس يتباهى بقتله 41 شخصًا، وذلك قبل تحوله لديدبول الخارق ويضاعف عدد قتلاه بأبشع الطرق والوسائل، والذي يقول عن نفسه في بداية الفيلم: (أنا لست بطلاً، ولن أكون أبدًا كذلك، أنا مجرد رجل سيئ يتلقى أجرًا لضرب رجل أسوأ).

وفي أغسطس من العام نفسه أصدر المنافس العتيد لمارفل (دي سي كوميكس) فيلم الفرقة الانتحارية Suicide Squad ، والذي يروي قصة مجموعة من أعتى الأشرار المحتجزين في سجن شديد الحراسة، وتستعين بهم الحكومة الأمريكية في العمليات السرية ضد الأخطار التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، وذلك في مقابل تحقيق رغباتهم وتحسين أوضاعهم داخل السجن. ولقد وصف البوستر الدعائي للفيلم أعضاء هذا الفريق بأنهم (أسوأ الأبطال على الإطلاق) The Worst Heroes Ever

أما في عالم الأطفال، فتعتبر سلسلة أفلام أنا الحقير Despicable me بأجزائها الثلاثة من أنجح أفلام الأنيميشن التي عرضت مؤخرا، لبطلها (جرو) الشرير اللطيف، والذي تقوم على خدمته كائنات (المينيوز) الصفراء المحبوبة التي بلغت شهرتها الآفاق، وباتت علامة تجارية رائجة لمنتجات كثيرة لمختلف الأعمار، حتى أنه صدر في 2015 فيلم خاص بالمينيونز يحكي كيف نشأوا في بداية الخلق ككائنات أولية صفراء، لها مهمة وحيدة هي خدمة أعظم الأشرار على مر التاريخ.

وكان لرالف المدمر في فيلم أنيميشن ديزني Wreck it Ralph الصادر عام 2012 عبارة ترددت في أكثر من موضع في الفيلم: (أنا شرير، وهذا جيد، أنا لن أكون طيبًا أبدًا، وهذا ليس سيئًا، لا أرغب أن أكون أحدًا غيري).
I'm bad, and that's good. I'll never be good, and that's not bad, there's no one I'd rather be than me.

نستطيع من هذه الأمثلة المتقاربة زمنيًّا ملاحظة توجهًا عامًّا في عالم هوليوود يستهدف مختلف الفئات العمرية، ويهدف إلى إيصال رؤية مغايرة لمعايير الخير والشر، وتوظيفها في عدة أغراض مختلفة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية...)، في عالم (ما بعد حداثي) جديد تفكك من كل القيود الأخلاقية وتحلل من كل الثوابت.
وإشكالية (ما وراء الخير والشر) قد طرحها قديما الفيلسوف المجنون فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، وذلك بعد إعلانه موت الإله، وتبشيره بميلاد الإنسان الأعلى (سوبرمان) الجديد [1]الذي يفرض أخلاقه وأفكاره وكل ما يحلو له بالقوة [2]، ويضع لنفسه المعايير الخاصة بالخير والشر، في عالم دارويني شمولي البقاء فيه للأصلح، حيث يتساءل نيتشه: "ألا يمكن قلب كل القيم؟ والخير ألا يكون هو الشر؟ والإله مجرد ابتكار، مجرد خدعة شيطان؟ ألا يحتمل أن يكون كل شيء خطأ؟”[3]. وقد تنبأ نيتشه قبل موته بأن أفكاره لن تنتشر سريعًا في حياته، ولكنها كالديناميت الذي سينفجر في وقت لاحق ويغير ملامح الكون، وقال حينها: "فأنا لست إنسانًا، بل عبوة ديناميت”[4].

تغلغلت هذه الأفكار في الوعي الغربي ببطء شديد جدًّا استمر لمدة سنوات طويلة تعود بجذورها إلى العصور الوسطى الظلامية، تعرَّض فيها الإنسان لصدمات دينية وعلمية وعقلية وأخلاقية عنيفة، توجتها الحروب العالمية وما نتج عنها من خراب ودمار كبيرين، أديا بالإنسان الغربي إلى سقوطه من علوه ومكانته السامية ومركزيته الكونية التي طالما اعتقد فيها، وهروبه وانزوائه في هدوء إلى هامش الكون والحياة متنحيًا عن احتكار أي تفسير أو ثابت من الثوابت طالما كان يدَّعي حق امتلاكه، اللهم إلا شهوة القوة والأحلام الإمبريالية التوسعية التي لازمته منذ قديم الأزل، والتي كبح جماحها -ظاهرًا- بزوغ عهد الديمقراطية وشعارات احترام الإنسان والرأي والحقوق.

ولذلك، خروجًا من هذا المأزق الأخلاقي الظاهري، كان على الإنسان الغربي لقضاء وطره ولإشباع رغبته تلك، سلوك طريقٍ آخرَ أكثر نعومة وأقل صَخبًا، طريق يجعله في حل من اللوم بانتهاك الحقوق وسفك الدماء وما إلى ذلك، بدعوى أن هذا شر أدنى ضروري للقضاء على شر أعلى يهدد المجتمع الديمقراطي والبشرية، تحت مسمى مكافحة الإرهاب وما شابه ذلك.. وهذا الطريق هو طريق الوعي والأفكار.

وحرب الأفكار هذه لها مستويان: مستوى نخبوي؛ تغلب عليه الكتب والتنظيرات والجدليات والفلسفات، وموضعه تحت القباب وفي ساحات المناظرات.. ومستوى آخر شعبوي؛ ويغلب عليه القيل والقال والقصص والروايات، وموضعه في الفضائيات وعلى الشاشات، وبين دفات المجلات والروايات..
وهذا الأخير بطبيعة الحال هو الأكثر نفوذًا وشيوعًا ورواجًا؛ فلو أننا طرحنا سؤالًا عمليًّا وقلنا:
- كم منا يعرف عن فلسفة ما بعد الحداثة ودقائق أفكار نيتشه أو فوكو أو دريدا المهيمنة على الفكر الغربي؟
- كم شخصًا على مستوى العالم كله قرأ كتبهم، أو استوعب تنظيراتهم؟
وفي المقابل:
- كم منا يعرف فيلم كذا أو رواية كذا؟

بالإجابة عن هذا السؤال يَتبين لنا مدى تأثير الفن والإعلام وتوغلهما في القطاع الأعرض من الناس، واستحواذه على قلوبهم وعقولهم على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم.. وعليه يتبين كيف أنه باختصار سلاح خطير في يدِ مَن يُجيد استخدامه وتوجيهه، تستطيع النخب الفكرية من خلاله الخروج من هذا المأزق الأخلاقي الديمقراطي (بشياكة)! بل وتجنيد جحافل من المبشرين بهذه الأفكار طواعية ودون مقابل، فماذا بعد الاستحواذ على القلوب والعقول؟ ماذا أفضل من الدعم التلقائي والتحيز غير الواعي؟

تدبَّر جواب الروائي والفيلسوف الإيطالي (أومبرتو إكو)، حينما سألته الكاتبة الفرنسية ذات الأصل الإيراني (لِيلا أزام زانجانيه) عام 2008 عن عبارته المشهورة "الأشياء التي نعجز عن التنظير لها، يجب أن نسردها في رواية"، حيث قال: "أظنني عبّرتُ عن أفكاري بشكل أوضح في رواية (بندول فوكو) أكثر مما فعلته في مقالاتي الأكاديمية. كل فكرةٍ مهما بدت أصيلة، تأكد بأن أرسطو توصل لها قبلك. لكن كتابة رواية حول تلك الفكرة ستجعلها تبدو أصيلة ومبتكرة. (مثلاً) الرجال يحبون النساء، هذه ليست بفكرة أصيلة، لكن، لو استطعت بشكل ما أن تكتب رواية رائعة عن هذا المعنى، حينها بخدعة أدبية ساحرة ستتحول إلى فكرة مبتكرة. في نهاية الأمر، وبكل بساطة، أؤمن أن القصة أكثر ثراءً؛ لأنها فكرة يُعاد تشكيلها إلى حدث، تحكيه شخصيات القصة، ويُسرد بلغة محبوكة. لذا بطبيعة الحال، حين تتحول الفكرة لكائن حي، تصبح شيئًا مختلفًا تمامًا: كِيانًا له القدرة على التعبير.
من الناحية الأخرى، التناقض قد يكون من أساس الرواية. فقتل شخصية امرأة طاعنة في السن يبدو ممتعًا. إنما بفكرة كهذه، ستنال معدل (هـ = راسب) في امتحان علم الأخلاق. لكن في الأدب ستنال على (الجريمة والعقاب) تحفة فنية من النثر، الشخصية فيها تتساءل إن كان قتل امرأة طاعنة في السن أمرًا جيدًا أم سيئًا، الحيرة في أفكار الشخصية -مع تضارب آرائنا نحن- حينها تغدو مسألة شاعرية وتحديًا كبيرًا" [5].

فلا عجب إذن حينما يقع الفن والآلة الإعلامية بشكل أعَم في براثن من يجيد إدارة دفته وتوظيفه واستثماره وجني ثماره لصالحه، ولا عجب أن يصبح مدار صراع هائل تتنازع فيه كيانات اقتصادية ضخمة، وحكومات، ونخب فكرية، وتسخيره ليكون آلة حرب أقل كلفة وخسارة، وتحرر الطموح الاستعماري الإنساني الفطري من أغلاله، بل وتُزيل عنه الحرج الأخلاقي، فما يضر في غزوة بلا سلاح أو دماء، وساحتها ببساطة هي (الوعي الشعبي)؟!

عمليًّا، وبعيدًا عن المثالية، أو الرومانسية الأخلاقية، لا يوجد في قاموس الإعلام ما يُعرف بـ (الإعلام المحايد) أو غير المؤدلج؛ فوسائل الإعلام المختلفة هي الآلة التي يَستخدمها صاحب الرسالة أو الأيديولوجيا لنشر أفكاره أيًّا كانت، وثمة فرق -نظريًّا- بين الخبر والرأي؛ فنقل الخبر هو الذي يُشترط فيه الحِياد، أما الرأيُ؛ فلا يُشترط فيه ذلك. وكون إعلام الرأي ليس حياديًّا ليس عيبًا في ذاته، إذا كانت الساحة مفتوحة والمُعترك شريفًا، إلا أن هذا ليس ما يحدث عادةً في العالم الدارويني النيتشوي الشمولي؛ حيث التضييق الواضح على الآخَر، ومُصادرة رأيه، وتجفيف منابعه الفكرية والخبراتية والمالية.

نحن في عالمنا العربي والإسلامي في مرحلة صعبة ولا شك؛ فالمبدع البارز المتصدر صاحب الإمكانيات والموارد هو من يخدم المسار الغربي ذاته وبتسهيلات منه، أما من يقاوم؛ فهو أشبه بمن ينحت في الصخر.. في الإمكان أن نصلَ إلى نتيجة إيجابية أينعم، ولكن بعد عناءٍ شديدٍ وعوائقَ كبيرةٍ. يجب على (المشتغلين) بهذا المجال في سبيل تحقيق ذلك الصبر والمصابرة، والتطوير والإبداع والمواكبة. وأما (المنشغلون) بهذا المجال غير المشتغلين به؛ فيجب عليهم -على أقل تقدير- التحصُّن بالحد الأساسي من الثوابت العقَدية والأخلاقية، التي يَستطيعون من خلالها التمييز بين الخطأ والصواب، وحفظ أبنائهم وصيانة مجتمعاتهم.
وقياسًا: أتصور أن المنافسة في مجال أفلام الرسوم المتحركة هو السبيل الأنجح لاقتحام عالم الأفلام والمسلسلات والسينما بقوة؛ فهي وسيلة -رغم تكاليفها الضخمة التي يجب أن يتحملها شرفاء المستثمرين-، وسيلة تُزيل الحرجَ عن الكثير من المبدعين المحترفين، عن التحفظ في إخراج المشاهد العائلية والمنزلية الخاصة والمختلطة، ليخرج المنتج أكثر تأثيرًا وعاكسًا للواقع.

ولا شك أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي صارت خطوة أساسية على الطريق؛ فهي الأسهل، والأقل تكلفة، والأكثر نفوذًا وانتشارًا، ووسائل عرض المحتوى فيها كثيرة ومتنوعة، يتطلب الأمر فقط دراسة جيدة، وإعدادًا احترافيًّا، وتسويقًا ذكيًّا، وقبل ذلك كلِّه نية وعزيمة صادقة.

فهل يأتي يوم نرى فيه عملًا فنيًّا أو رواية عربية تحملُ قيمًا وثوابتَ إسلاميةً أصيلة، تطرح رؤية واسعة لحياة موازية متحررة من أغلال النظام العالمي المهيمن، وترسخ في الوجدان أصالة مقاومة الظلم والطغيان داخليًّا وخارجيًّا، وتخرج إلى العالم منافسة للروايات العالمية الناجحة كعلى سبيل المثال رواية (الخيميائي) لباولو كويلو؟ والتي نشرت في 119 دولة في العالم، وظلت 300 أسبوعًا على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية! بل ترجمت إلى 80 لغة، ودخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأكثر رواية تم توقيع ترجمات لها في حفل توقيع واحد، حيث وقع كويلو نسخًا بـ 53 لغة في معرض فرانكفورت للكتاب في العام 2003، مما جعلها واحدة من أكثر الكتب مبيعًا على مر التاريخ، على ما فيها من أفكار اتحادية وحلولية عقدية خطيرة؟ هل يأتي ذلك اليوم الذي نوصّل فيه فكر المقاومة والتحرر وسيادة الحضارة الإسلامية للجمهور في صورة فنية يُكتب لها الانتشار هكذا؟

أرجو ذلك..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ص6، مطبعة جريدة البصير، الإسكندرية، 1938
[2] نيتشه: ما وراء الخير والشر، ص37، دار الفارابي
[3] نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، ص12، دار أفريقيا الشرق، ط. 2002
[4] نيتشه: هذا هو الإنسان، ص153، منشورات الجمل
[5] Umberto Eco, The art of Fiction No.197, interviewed by Lila Azam Zanganeh, The Paris Review, Summer 2008, No.185,
www.theparisreview.org
‏١٧‏/٠٩‏/٢٠١٧ ١:١٠ م‏
تجربة تنظيم أجناد مصر م. أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Mawlana] حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ تعود نشأة التنظيم(1) إلى جهود مؤسسه "همام عطية" الذي وُلد بسويسرا عام 1981 ، ثم انتقل منها عام 2002 للعمل بالسعودية في مجال تجارة الدواجن، ثم سافر إلى العراق فى عام 2007 للمشاركة فى مواجهة الاحتلال الأمريكي، ثم عاد للسعودية . رجع "همام" إلى مصر نهاية عام 2011 وعمل مع صديقه "بلال صبحي" ضمن جماعة "أنصار بيت المقدس" كمختصين في تطوير المتفجرات(2)، وكادت الأجهزة الأمنية أن تلقي القبض عليهما في كمين على طريق الإسماعيلية القاهرة الصحراوي بتاريخ 9/9/2012 ، ولكنهما تمكنا من الفرارعقب اشتباك مسلح مع الكمين، وتركا سيارتهما التي عثرت فيها الشرطة على بطاقاتهما الشخصية وبعض المتفجرات(3)، وذهب همام إلى مدينة العريش فرارًا من الملاحقات الأمنية، إلى أن حدث الانقلاب العسكري فعاد إلى محافظة الجيزة ليؤسس تنظيم أجناد مصر. نجح عطية في ضم عدد من الشباب من خلفيات متنوعة إلى تنظيمه، فكان أحمد سعد الشهير بمالك الأمير عطا عضوًا سابقًا بجماعة الإخوان، بينما كان أحمد جلال(4) عضوًا بحزب النور، وكان سعد عبد الرءوف(5) سجينًا سابقًا باليمن لمدة سنتين، بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة، بينما كان جمال زكي مدمنًا للمخدرات(6). كون عطية عدة خلايا بنطاق محافظتي القاهرة والجيزة، وقامت هذه الخلايا بنحو 47 عملية خلال الفترة الممتدة من 2013 إلى 2015م. منهج التنظيم ومشروعه السياسي اختلف تنظيم أجناد مصر عن بقية التنظيمات الجهادية الناشئة بعد الانقلاب، بحرصه على إبراز منهجه ومشروعه السياسي وبيان علاقته بالجماعات الأخرى، وموقفه من الأنظمة العربية والغرب والأقليات الدينية والثورة والمظاهرات، ويمكن تلخيص منهج ورؤية التنظيم وفقًا لتصريحات عطية في حوار إعلامي مطول معه(7) في النقاط التالية: *اختير اسم التنظيم تشبهًا بلقب جنود مصر في عهد صلاح الدين وقطز، مما يظهر الحرص على الارتباط الواضح بالأحداث الجارية في مصر دون الارتباط بقضايا مركزية أخرى ،مثل فلسطين التي ارتبط بها اسم جماعة "أنصار بيت المقدس". *العدو الخارجي يعتمد اعتماداً كلياً على العدو الداخلي، ويوجهه لضرب أي قوة يحتمل أن تضر باليهود ،ومن ثم فإن ضرب العدو الداخلي بمثابة ضرب للنظام العالمي. *الأصل في الشعب أنه مسلم ثبت إسلامه بيقين، والتبرؤ من البدع التي تكفر المسلمين بغير حق، ومن اعتبار الطواغيت ولاة أمر شرعيين. *أزمة المسلمين الحالية تتمثل في وجود أنظمة تنهب وتستنزف ثروات الشعوب، ولابد من السعي لحدوث تغيير شامل باستعمال القوة ،مع رفض المشاركة السياسية في ظل أي نظام يجعل التشريع لغير الله. *وجوب النصح للجماعات الإسلامية الأخرى ،وبيان الحق والإنكار على الأخطاء، دون التطرق لأشخاص أو كيانات بعينها . *تأييد ثورة 25 يناير، واعتبار أن المظاهرات وسيلة من وسائل الضغط على النظام خاصة إذا صاحبتها قوة تحميها، وأن المظاهرات السلمية- رغم اعتراض التنظيم عليها- أقل ضرراً من السلبية . *الأولوية لاستهداف الأجهزة الأمنية باعتبار قتالها من جنس دفع العدو الصائل، والموقف من النصارى مرتبط بموقفهم من المسلمين فإن جنحوا للسلم فلهم البر والقسط. *الحرص على مخاطبة الناس بما يستوعبونه، مع التركيز على طلاب الجامعات باعتبارهم عماد رئيسي في أي عمل . رؤية التنظيم واستراتيجية عمله اعتبر التنظيم أن مصر تتوافر بها 4 مقومات تساعد على النجاح في مواجهة نظام السيسي، وتتمثل في :النظام، الشعب، الحالة، الأفراد؛ فالنظام في ضعف شديد وهيبته في أقل حالاتها وجرائمه قد كثرت، والشعب به فئة كبيرة لديها ثأر مع الأجهزة الأمنية، فضلًا عن انتشار الجهاد كحالة عامة في العالم الإسلامي، ووجود أفراد على قدر كاف من التجربة والخبرة(8) ومن ثم عمل التنظيم على شن عمليات مسلحة ضد الأجهزة الأمنية ،مع إعطائه الأولوية لاستهداف ضباط الشرطة. النشاط الإعلامي تمثلت الخطة الإعلامية للتنظيم في البدء بفترة تمهيدية اكتفى فيها بإصدار بيانات بتبني العمليات، ونشر أول بيان في 24/1/2014 معلنا عن تدشين حملة بعنوان "القصاص حياة" للقصاص من المعتدين الذين نكلوا بالشعب، ثم نشر أول فيديو يضم مقتطفات من عملياته بتاريخ 17/4/2014، ثم أعلن عن تأسيس ذراع إعلامي باسم مؤسسة الكنانة بتاريخ 27/10/2014ثم أعلن في 13/12/2014 عن أسماء قياداته الإعلامية لتسهيل التواصل مع وسائل الإعلام، ثم نشر من خلال مؤسسة الكنانة بتاريخ 11/1/2015 فيديو لحوار مطول مع قائد التنظيم همام عطية، كما نشر التنظيم عبر مؤسسة الكنانة عددا من المقالات التحليلية والتحريضية، مثل (توالي الإقالات واستمرار العمليات) لعبدالرحمن أسامة، و(خطوة لتكون مجاهدا) لمحمد بلال القاهري، و(هل هناك أمل؟) لعلي سعيد. حرص التنظيم على أن يكون خطابه الإعلامي يبدو هادئًا ملامسًا لمعاناة الجماهير، فركز على إبراز معاني القصاص من القتلة، والدفاع عن المظلومين، مع الابتعاد عن الخطاب الجهادي التقليدي الذي يركز على دمغ قوات الجيش والشرطة بالردة . الأطوار الثلاثة لتنظيم أجناد مصر سنتناول بالبحث والدراسة عمليات تنظيم أجناد مصر، وذلك من خلال رصد وتحليل ثلاثة أطوار متتالية مر بها التنظيم: الطور الأول: منذ الانقلاب حتى مايو٢٠١٤ خلال تلك المرحلة نجح همام عطية في تأسيس خليتين ،وصل مجموع أفرادهما والمتعاونين معهم إلى ٢٠ شخصًا ،وقامت هاتان الخليتان بتنفيذ 24عملية استهدفت التمركزات الأمنية بالميادين الرئيسية، ومعسكرات الأمن المركزي، وسيارات ضباط الشرطة والجيش، مما أسفر عن مقتل 6 ضباط وأفراد شرطة، بالإضافة إلى مدني واحد وإصابة قرابة 100 آخرين. جدول عمليات التنظيم في طوره الأول منذ نوفمبر2013 حتى مايو 2014 (انظر تعليق رقم 1 في التعليقات) تحليل الخط الزمني لعمليات التنظيم في طوره الأول نفذ التنظيم أولى عملياته في 20/11/ 2013 باستهداف كمين عبود بعبوة ناسفة لم تسفر عن وقوع خسائر .ثم تصاعدت عملياته في ذكرى الثورة في يناير، ثم زادت وتيرتها في شهر إبريل لشعور أفراد التنظيم بقرب وصول الأمن لهم عقب القبض في 15/4/2014 على ياسر خضير، عقب تفجيره عبوة ناسفة بنقطة مرور بشارع الجلاء بالدقي الساعة 7 صباحا أثناء خلو الشارع من المشاة، إذ شك سائق تاكسي فيه أثناء هروبه، وقبض عليه وسلمه للشرطة، والتي سرعان ما نجحت من خلال التحقيق معه في القبض على أغلب أعضاء التنظيم ما عدا همام عطية، وكانت آخر عملية للتنظيم في هذا الطور في مايو 2014، باستهداف سيارة لادا نيفيا خاصة بضابط الاحتياط بسام جامع بعبوة ناسفة بشارع رمسيس مما أدى لمقتله. الطور الثاني: منذ إعادة بناء التنظيم يونيو 2014حتى مقتل زعيمه في إبريل ٢٠١٥ نجح همام عطية في امتصاص الضربة الأمنية السابق ذكرها، وضم عناصر جديدة للتنظيم ليعاود نشاطه مجددًا ،بعد أن فصل الخلايا الجديدة عن بعضها، كما أوقف استهداف السيارات الخاصة بأفراد الشرطة والجيش نظرًا لوقوع ضحايا مدنيين في آخر عمليتين بهذا الأسلوب(9) ونظرًا للقمع الأمني لطلبة الجامعات استهدف التنظيم التمركزات الأمنية في محيط جامعات (القاهرة، عين شمس، حلوان) وكلية طب الأسنان بالقصر العيني، فضلًا عن استهداف التمركزات الأمنية قرب الأماكن السيادية ،مثل قصري الاتحادية والقبة ووزارة الخارجية ومجلس الوزراء ودار القضاء العالي. جدول عمليات التنظيم في طوره الثاني منذ يونيو2014 حتى إبريل 2015 (انظر تعليق رقم 2 في التعليقات) تحليل الخط الزمني لعمليات التنظيم في طوره الثاني بدأ التنظيم أولى عملياته في 30/ 6 /2014 بتفجيرعبوتين ناسفتين في خبراء المفرقعات أمام قصر الاتحادية، مما أسفر عن مقتل ضابطين وإصابة 12 آخرين. ثم كمن التنظيم بعد هذه العملية لإعادة بناء خلاياه، ثم عاد في 21/9/2014 بتفجير عبوة ناسفة في تمركز أمني أمام وزارة الخارجية مما أسفر عن مصرع ضابطي شرطة وإصابة 6آخرين، ثم تزايدت عمليات التنظيم في يناير 2015 بمناسبة ذكرى الثورة ، وكانت آخر عملية للتنظيم صباح يوم 5/4/2015 باستهداف نقطة مرور أعلى كوبري 15 مايو ، ليبلغ إجمالي عدد العمليات التي قام بها في طوره الثاني 21 عملية أسفرت عن مقتل 6 ضباط وفردي شرطة واثنين من المواطنين ،فضلًا عن إصابة العشرات من ضباط وأفراد الشرطة. انكشاف التنظيم للمرة الثانية تمكن عامل بمقهي من القبض على إسلام شحاتة(10) يوم 11/3/2015 أثناء وضعه لقنبلة قرب تمركز أمني بجوار مجلس الوزراء، كما قامت إحدى خلايا التنظيم دون تنسيق مع قيادته(11) في 25/3/2015 باستهداف قوات تأمين سفارة الكونغو ،فقبض الأهالي على اثنين من منفذي الحادث ،ومن خلال التحقيق معهم وصلت الأجهزة الأمنية لمعلومات مهمة عن التنظيم في طوره الجديد، ثم كانت الضربة الأمنية الكبرى باقتحام مقر إقامة همام عطية و قتله بتاريخ 5/4/2015 والقبض على زوجته وأولاده التسعة ،وذكرت زوجة همام في التحقيقات بنيابة أمن الدولة أن الأمن اقتحم الشقة وقبض على همام حيّا قبل أن يقتله(12) وأصدر فرعا تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي وجزيرة العرب بياني نعي لهمام. الطورالثالث: منذ مقتل مؤسس التنظيم وصولًا إلى مقتل القائد الجديد للتنظيم وتصفية أفراده -إبريل 2015 إلى إبريل 2016: نعى التنظيم همام عطية في بيان أصدره بتاريخ 9/4/2015 وأعلن اختيار عزالدين المصري قائدًا جديدًا للتنظيم، ونفذ التنظيم في طوره الثالث عمليتين بواسطة العبوات الناسفة: 12/7/2015 استهداف تمركز أمني في روكسي ، ونتج عن الحادث إقالة مدير أمن القاهرة أسامة بدير لوقوع مشادة بينه وبين وزير الداخلية أثناء تفقده لموقع الحادث. 10/8/2015 استهداف نقطة مرور بمصر الجديدة مما أسفر عن مقتل عقيد شرطة. تصفية التنظيم أعلنت الأجهزة الأمنية خلال الفترة الممتدة من 26/7/2015 حتى 2/4/2016 عن تصفية 15 عنصر من التنظيم - على رأسهم قائده الجديد عزالدين المصري- أحمد جلال، في 7 مداهمات لتسدل الستار على التنظيم، فتوقفت عملياته ولم تصدر عنه أي بيانات إعلامية لاحقًا، ويذكر أن آخر بيان أصدره التنظيم كان في 29/7/2015 أعلن خلاله أن "مالك الأمير عطا" الذي أعلن الأمن مقتله في 26/7/2015 رفقة شخص آخر أثناء مداهمة محل إقامتهما بمنطقة فيصل سبق له أن ترك الجماعة بعد أن عمل معها فترة. وجدير بالذكر أن زوجة همام عطية قالت إن "مالك" هو الشخص الذي أجرى حوارًا مع زوجها ونشره التنظيم بعنوان (الحوار المفتوح مع المسؤول العام لأجناد مصر مجد الدين المصري). التوزيع الديموغرافي لعناصر التنظيم من خلال التحليل الديموغرافي للبيانات الخاصة بأعضاء التنظيم المحالين للمحاكمة في القضية رقم 103/2014 حصر أمن دولة عليا، والبالغ عددهم ٤٢ فرد بالإضافة إلى 15 آخرين أعلنت الداخلية عن تصفيتهم ، نحصل على النتائج التالية: متوسط العمر لأفراد التتظيم: 30 عامًا. التوزيع الجغرافي(13): (انطر التعليق رقم 3 في التعليقات) التوزيع المهني(14): 13 طالب،7مهندس،4 عاطلين 3موظفين،2سائق،2عامل،1صيدلي،1صاحب ورشة حدادة،1صاحب معمل أسنان،1تاجر خضروات،1مدرس،1خراط معادن،1صاحب مصنع ملابس،1نجار،1ترزي،1صاحب محل موبايلات. ومن خلال تحليل بيانات عناصرالتنظيم نجد أنهم تمركزوا بالقاهرة والجيزة، وهى الأماكن التي نفذ فيها التنظيم عملياته ، ومثل طلبة الجامعات العنصر الأبرز في التنظيم، يليهم المهندسون نظرًا لاهتمام التنظيم بتصنيع العبوات الناسفة ومستلزماتها. تحليل تجربة تنظيم مصر تنظيم أجناد مصر تنظيم جهادي نشأ على أرضية عقدية، واعتبر قتاله للنظام من جنس دفع الصائل والقصاص من المعتدين، واتسم بتجميعه لأفراده حول القواسم المشتركة، والابتعاد بهم عن النزاعات بين الجماعات الجهادية الأخرى . أدى تمركز نشاط التنظيم بنطاق محافظتي القاهرة والجيزة واستهدافه للتمركزات الأمنية بالقرب من الأماكن السيادية والحيوية إلى إرهاق الأجهزة الأمنية ،فضلًا عن تسليط الأضواء الإعلامية بكثافة على عملياته بالرغم من محدودية الخسائر البشرية الناتجة عنها. لم يتمكن التنظيم رغم خطابه الإعلامي الهادئ من توظيف حالة التعاطف الشبابي معه، نظرًا لضعف هيكله التعبوي وصعوبة التواصل المباشر بينه وبين مؤيديه. لم يمتلك التنظيم مقومات مالية وبشرية تمكنه من إكمال خوض صراع أمني مع نظام بحجم النظام المصري، وبالتالي تفكك التنظيم خلال 3 سنوات من إنشائه، فصغر حجم التنظيم أدى لعدم قدرته على تحمل الضربات الأمنية المتتالية ضده ، وضعف موارده المالية أدى لضعف التسليح واستئجاره شقق لإيواء عناصره الهاربة في أماكن شعبية يسهل فيها رصد الغرباء، كما تبنى التنظيم استراتيجية تعتمد على استهداف قوات الشرطة وبالأخص الضباط بطريقة عشوائية، بينما تعدادهم يبلغ قرابة 40 ألف ضابط، ويسهل تعويض الخسائر في صفوفهم. ضعف الجانب الأمني لدى التنظيم في طوره الأول، ومعرفة أفراده لبعضهم البعض، سهل انكشافه بمجرد القبض على أحد عناصره، ووجود قياداته داخل مصر سهل اكتشاف العديد من خلاياه من خلال فحص أجهزة الكمبيوتر والهواتف الخاصة بهم بعد تصفيتهم . ـــــــــــــــــ المصادر: 1- هذه المعلومات مستقاة من ملف التحقيق مع زوجة "همام عطية" أمام نيابة أمن الدولة العليا ، والذي نشر نصه كاملا موقع اليوم السابع بتاريخ 21/4/2016 تحت عنوان ( انفراد . اعترافات الزوجة تكشف حقيقة مؤسس "أجناد مصر( 2- انظر اعترافات قيادي جماعة أنصار بيت المقدس "محمد عفيفي" - اليوم السابع 23/8/2014. 3- اليوم السابع 11/9/2012. 4- البوابة نيوز 4/2/2016. 5- ورد في اعترافات "سعد عبدالرؤوف" أنه حبس باليمن من فبراير2012 إلى فبراير2014 وعاد إلى البلاد لينضم إلى أجناد مصر في مارس2014 - اليوم السابع 28/7/2014. 6- اعترافات جمال زكي– اليوم السابع 28/7/2014. 7- لحوار المفتوح مع المسؤول العام لأجناد مصر: مجد الدين المصري: https://archive.org/details/ajnad-misr 8- للمزيد ينظر: المصدر السابق. 9- في 15/4/2014 تم استهداف سيارة خاصة بضابط شرطة بالهرم، مما أسفر عن إصابة شقيقه "إسلام عبدالحفيظ" ومرافق له ، فضلا عن مقتل ضابط الاحتياط السابق "بسام جامع" في 2/5/2014 بتفجير سيارته ظنا أنها سيارة ضابط جيش بالخدمة. 10- انضم "إسلام شحاتة" للتنظيم في شهر أكتوبر 2014 11- اعترافات منفذ الحادث "محمد عادل عبدالحميد"– اليوم السابع 25 /4/2016 12- نص التحقيقات مع زوجة همام عطية – مصدر سابق. 13-اعتمدت محل الإقامة المرتبط بالعمليات، فياسر خضير من بني سويف وله إقامة ببولاق الدكرور، وعبدالله السيد من الفيوم وله إقامة بعزبة الهجانة، وأحمد سعد من طنطا وله إقامة بفيصل. 14- أمكن الحصول على معلومات عن مهن 41 فرد من أعضاء التنظيم.
تجربة تنظيم أجناد مصر
م. أحمد مولانا Mawlana

حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ

تعود نشأة التنظيم(1) إلى جهود مؤسسه "همام عطية" الذي وُلد بسويسرا عام 1981 ، ثم انتقل منها عام 2002 للعمل بالسعودية في مجال تجارة الدواجن، ثم سافر إلى العراق فى عام 2007 للمشاركة فى مواجهة الاحتلال الأمريكي، ثم عاد للسعودية .

رجع "همام" إلى مصر نهاية عام 2011 وعمل مع صديقه "بلال صبحي" ضمن جماعة "أنصار بيت المقدس" كمختصين في تطوير المتفجرات(2)، وكادت الأجهزة الأمنية أن تلقي القبض عليهما في كمين على طريق الإسماعيلية القاهرة الصحراوي بتاريخ 9/9/2012 ، ولكنهما تمكنا من الفرارعقب اشتباك مسلح مع الكمين، وتركا سيارتهما التي عثرت فيها الشرطة على بطاقاتهما الشخصية وبعض المتفجرات(3)، وذهب همام إلى مدينة العريش فرارًا من الملاحقات الأمنية، إلى أن حدث الانقلاب العسكري فعاد إلى محافظة الجيزة ليؤسس تنظيم أجناد مصر.

نجح عطية في ضم عدد من الشباب من خلفيات متنوعة إلى تنظيمه، فكان أحمد سعد الشهير بمالك الأمير عطا عضوًا سابقًا بجماعة الإخوان، بينما كان أحمد جلال(4) عضوًا بحزب النور، وكان سعد عبد الرءوف(5) سجينًا سابقًا باليمن لمدة سنتين، بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة، بينما كان جمال زكي مدمنًا للمخدرات(6).

كون عطية عدة خلايا بنطاق محافظتي القاهرة والجيزة، وقامت هذه الخلايا بنحو 47 عملية خلال الفترة الممتدة من 2013 إلى 2015م.

منهج التنظيم ومشروعه السياسي
اختلف تنظيم أجناد مصر عن بقية التنظيمات الجهادية الناشئة بعد الانقلاب، بحرصه على إبراز منهجه ومشروعه السياسي وبيان علاقته بالجماعات الأخرى، وموقفه من الأنظمة العربية والغرب والأقليات الدينية والثورة والمظاهرات، ويمكن تلخيص منهج ورؤية التنظيم وفقًا لتصريحات عطية في حوار إعلامي مطول معه(7) في النقاط التالية:

*اختير اسم التنظيم تشبهًا بلقب جنود مصر في عهد صلاح الدين وقطز، مما يظهر الحرص على الارتباط الواضح بالأحداث الجارية في مصر دون الارتباط بقضايا مركزية أخرى ،مثل فلسطين التي ارتبط بها اسم جماعة "أنصار بيت المقدس".

*العدو الخارجي يعتمد اعتماداً كلياً على العدو الداخلي، ويوجهه لضرب أي قوة يحتمل أن تضر باليهود ،ومن ثم فإن ضرب العدو الداخلي بمثابة ضرب للنظام العالمي.

*الأصل في الشعب أنه مسلم ثبت إسلامه بيقين، والتبرؤ من البدع التي تكفر المسلمين بغير حق، ومن اعتبار الطواغيت ولاة أمر شرعيين.

*أزمة المسلمين الحالية تتمثل في وجود أنظمة تنهب وتستنزف ثروات الشعوب، ولابد من السعي لحدوث تغيير شامل باستعمال القوة ،مع رفض المشاركة السياسية في ظل أي نظام يجعل التشريع لغير الله.

*وجوب النصح للجماعات الإسلامية الأخرى ،وبيان الحق والإنكار على الأخطاء، دون التطرق لأشخاص أو كيانات بعينها .

*تأييد ثورة 25 يناير، واعتبار أن المظاهرات وسيلة من وسائل الضغط على النظام خاصة إذا صاحبتها قوة تحميها، وأن المظاهرات السلمية- رغم اعتراض التنظيم عليها- أقل ضرراً من السلبية .

*الأولوية لاستهداف الأجهزة الأمنية باعتبار قتالها من جنس دفع العدو الصائل، والموقف من النصارى مرتبط بموقفهم من المسلمين فإن جنحوا للسلم فلهم البر والقسط.

*الحرص على مخاطبة الناس بما يستوعبونه، مع التركيز على طلاب الجامعات باعتبارهم عماد رئيسي في أي عمل .

رؤية التنظيم واستراتيجية عمله
اعتبر التنظيم أن مصر تتوافر بها 4 مقومات تساعد على النجاح في مواجهة نظام السيسي، وتتمثل في :النظام، الشعب، الحالة، الأفراد؛ فالنظام في ضعف شديد وهيبته في أقل حالاتها وجرائمه قد كثرت، والشعب به فئة كبيرة لديها ثأر مع الأجهزة الأمنية، فضلًا عن انتشار الجهاد كحالة عامة في العالم الإسلامي، ووجود أفراد على قدر كاف من التجربة والخبرة(8) ومن ثم عمل التنظيم على شن عمليات مسلحة ضد الأجهزة الأمنية ،مع إعطائه الأولوية لاستهداف ضباط الشرطة.

النشاط الإعلامي
تمثلت الخطة الإعلامية للتنظيم في البدء بفترة تمهيدية اكتفى فيها بإصدار بيانات بتبني العمليات، ونشر أول بيان في 24/1/2014 معلنا عن تدشين حملة بعنوان "القصاص حياة" للقصاص من المعتدين الذين نكلوا بالشعب، ثم نشر أول فيديو يضم مقتطفات من عملياته بتاريخ 17/4/2014، ثم أعلن عن تأسيس ذراع إعلامي باسم مؤسسة الكنانة بتاريخ 27/10/2014ثم أعلن في 13/12/2014 عن أسماء قياداته الإعلامية لتسهيل التواصل مع وسائل الإعلام، ثم نشر من خلال مؤسسة الكنانة بتاريخ 11/1/2015 فيديو لحوار مطول مع قائد التنظيم همام عطية، كما نشر التنظيم عبر مؤسسة الكنانة عددا من المقالات التحليلية والتحريضية، مثل (توالي الإقالات واستمرار العمليات) لعبدالرحمن أسامة، و(خطوة لتكون مجاهدا) لمحمد بلال القاهري، و(هل هناك أمل؟) لعلي سعيد.

حرص التنظيم على أن يكون خطابه الإعلامي يبدو هادئًا ملامسًا لمعاناة الجماهير، فركز على إبراز معاني القصاص من القتلة، والدفاع عن المظلومين، مع الابتعاد عن الخطاب الجهادي التقليدي الذي يركز على دمغ قوات الجيش والشرطة بالردة .

الأطوار الثلاثة لتنظيم أجناد مصر
سنتناول بالبحث والدراسة عمليات تنظيم أجناد مصر، وذلك من خلال رصد وتحليل ثلاثة أطوار متتالية مر بها التنظيم:

الطور الأول: منذ الانقلاب حتى مايو٢٠١٤
خلال تلك المرحلة نجح همام عطية في تأسيس خليتين ،وصل مجموع أفرادهما والمتعاونين معهم إلى ٢٠ شخصًا ،وقامت هاتان الخليتان بتنفيذ 24عملية استهدفت التمركزات الأمنية بالميادين الرئيسية، ومعسكرات الأمن المركزي، وسيارات ضباط الشرطة والجيش، مما أسفر عن مقتل 6 ضباط وأفراد شرطة، بالإضافة إلى مدني واحد وإصابة قرابة 100 آخرين.

جدول عمليات التنظيم في طوره الأول منذ نوفمبر2013 حتى مايو 2014
(انظر تعليق رقم 1 في التعليقات)

تحليل الخط الزمني لعمليات التنظيم في طوره الأول
نفذ التنظيم أولى عملياته في 20/11/ 2013 باستهداف كمين عبود بعبوة ناسفة لم تسفر عن وقوع خسائر .ثم تصاعدت عملياته في ذكرى الثورة في يناير، ثم زادت وتيرتها في شهر إبريل لشعور أفراد التنظيم بقرب وصول الأمن لهم عقب القبض في 15/4/2014 على ياسر خضير، عقب تفجيره عبوة ناسفة بنقطة مرور بشارع الجلاء بالدقي الساعة 7 صباحا أثناء خلو الشارع من المشاة، إذ شك سائق تاكسي فيه أثناء هروبه، وقبض عليه وسلمه للشرطة، والتي سرعان ما نجحت من خلال التحقيق معه في القبض على أغلب أعضاء التنظيم ما عدا همام عطية، وكانت آخر عملية للتنظيم في هذا الطور في مايو 2014، باستهداف سيارة لادا نيفيا خاصة بضابط الاحتياط بسام جامع بعبوة ناسفة بشارع رمسيس مما أدى لمقتله.

الطور الثاني: منذ إعادة بناء التنظيم يونيو 2014حتى مقتل زعيمه في إبريل ٢٠١٥
نجح همام عطية في امتصاص الضربة الأمنية السابق ذكرها، وضم عناصر جديدة للتنظيم ليعاود نشاطه مجددًا ،بعد أن فصل الخلايا الجديدة عن بعضها، كما أوقف استهداف السيارات الخاصة بأفراد الشرطة والجيش نظرًا لوقوع ضحايا مدنيين في آخر عمليتين بهذا الأسلوب(9) ونظرًا للقمع الأمني لطلبة الجامعات استهدف التنظيم التمركزات الأمنية في محيط جامعات (القاهرة، عين شمس، حلوان) وكلية طب الأسنان بالقصر العيني، فضلًا عن استهداف التمركزات الأمنية قرب الأماكن السيادية ،مثل قصري الاتحادية والقبة ووزارة الخارجية ومجلس الوزراء ودار القضاء العالي.

جدول عمليات التنظيم في طوره الثاني منذ يونيو2014 حتى إبريل 2015
(انظر تعليق رقم 2 في التعليقات)

تحليل الخط الزمني لعمليات التنظيم في طوره الثاني
بدأ التنظيم أولى عملياته في 30/ 6 /2014 بتفجيرعبوتين ناسفتين في خبراء المفرقعات أمام قصر الاتحادية، مما أسفر عن مقتل ضابطين وإصابة 12 آخرين.
ثم كمن التنظيم بعد هذه العملية لإعادة بناء خلاياه، ثم عاد في 21/9/2014 بتفجير عبوة ناسفة في تمركز أمني أمام وزارة الخارجية مما أسفر عن مصرع ضابطي شرطة وإصابة 6آخرين، ثم تزايدت عمليات التنظيم في يناير 2015 بمناسبة ذكرى الثورة ، وكانت آخر عملية للتنظيم صباح يوم 5/4/2015 باستهداف نقطة مرور أعلى كوبري 15 مايو ، ليبلغ إجمالي عدد العمليات التي قام بها في طوره الثاني 21 عملية أسفرت عن مقتل 6 ضباط وفردي شرطة واثنين من المواطنين ،فضلًا عن إصابة العشرات من ضباط وأفراد الشرطة.

انكشاف التنظيم للمرة الثانية
تمكن عامل بمقهي من القبض على إسلام شحاتة(10) يوم 11/3/2015 أثناء وضعه لقنبلة قرب تمركز أمني بجوار مجلس الوزراء، كما قامت إحدى خلايا التنظيم دون تنسيق مع قيادته(11) في 25/3/2015 باستهداف قوات تأمين سفارة الكونغو ،فقبض الأهالي على اثنين من منفذي الحادث ،ومن خلال التحقيق معهم وصلت الأجهزة الأمنية لمعلومات مهمة عن التنظيم في طوره الجديد، ثم كانت الضربة الأمنية الكبرى باقتحام مقر إقامة همام عطية و قتله بتاريخ 5/4/2015 والقبض على زوجته وأولاده التسعة ،وذكرت زوجة همام في التحقيقات بنيابة أمن الدولة أن الأمن اقتحم الشقة وقبض على همام حيّا قبل أن يقتله(12) وأصدر فرعا تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي وجزيرة العرب بياني نعي لهمام.

الطورالثالث: منذ مقتل مؤسس التنظيم وصولًا إلى مقتل القائد الجديد للتنظيم وتصفية أفراده -إبريل 2015 إلى إبريل 2016:
نعى التنظيم همام عطية في بيان أصدره بتاريخ 9/4/2015 وأعلن اختيار عزالدين المصري قائدًا جديدًا للتنظيم، ونفذ التنظيم في طوره الثالث عمليتين بواسطة العبوات الناسفة:

12/7/2015 استهداف تمركز أمني في روكسي ، ونتج عن الحادث إقالة مدير أمن القاهرة أسامة بدير لوقوع مشادة بينه وبين وزير الداخلية أثناء تفقده لموقع الحادث.
10/8/2015 استهداف نقطة مرور بمصر الجديدة مما أسفر عن مقتل عقيد شرطة.

تصفية التنظيم
أعلنت الأجهزة الأمنية خلال الفترة الممتدة من 26/7/2015 حتى 2/4/2016 عن تصفية 15 عنصر من التنظيم - على رأسهم قائده الجديد عزالدين المصري- أحمد جلال، في 7 مداهمات لتسدل الستار على التنظيم، فتوقفت عملياته ولم تصدر عنه أي بيانات إعلامية لاحقًا، ويذكر أن آخر بيان أصدره التنظيم كان في 29/7/2015 أعلن خلاله أن "مالك الأمير عطا" الذي أعلن الأمن مقتله في 26/7/2015 رفقة شخص آخر أثناء مداهمة محل إقامتهما بمنطقة فيصل سبق له أن ترك الجماعة بعد أن عمل معها فترة. وجدير بالذكر أن زوجة همام عطية قالت إن "مالك" هو الشخص الذي أجرى حوارًا مع زوجها ونشره التنظيم بعنوان (الحوار المفتوح مع المسؤول العام لأجناد مصر مجد الدين المصري).

التوزيع الديموغرافي لعناصر التنظيم
من خلال التحليل الديموغرافي للبيانات الخاصة بأعضاء التنظيم المحالين للمحاكمة في القضية رقم 103/2014 حصر أمن دولة عليا، والبالغ عددهم ٤٢ فرد بالإضافة إلى 15 آخرين أعلنت الداخلية عن تصفيتهم ، نحصل على النتائج التالية:

متوسط العمر لأفراد التتظيم: 30 عامًا.

التوزيع الجغرافي(13):
(انطر التعليق رقم 3 في التعليقات)

التوزيع المهني(14):
13 طالب،7مهندس،4 عاطلين 3موظفين،2سائق،2عامل،1صيدلي،1صاحب ورشة حدادة،1صاحب معمل أسنان،1تاجر خضروات،1مدرس،1خراط معادن،1صاحب مصنع ملابس،1نجار،1ترزي،1صاحب محل موبايلات.

ومن خلال تحليل بيانات عناصرالتنظيم نجد أنهم تمركزوا بالقاهرة والجيزة، وهى الأماكن التي نفذ فيها التنظيم عملياته ، ومثل طلبة الجامعات العنصر الأبرز في التنظيم، يليهم المهندسون نظرًا لاهتمام التنظيم بتصنيع العبوات الناسفة ومستلزماتها.

تحليل تجربة تنظيم مصر
تنظيم أجناد مصر تنظيم جهادي نشأ على أرضية عقدية، واعتبر قتاله للنظام من جنس دفع الصائل والقصاص من المعتدين، واتسم بتجميعه لأفراده حول القواسم المشتركة، والابتعاد بهم عن النزاعات بين الجماعات الجهادية الأخرى .

أدى تمركز نشاط التنظيم بنطاق محافظتي القاهرة والجيزة واستهدافه للتمركزات الأمنية بالقرب من الأماكن السيادية والحيوية إلى إرهاق الأجهزة الأمنية ،فضلًا عن تسليط الأضواء الإعلامية بكثافة على عملياته بالرغم من محدودية الخسائر البشرية الناتجة عنها.

لم يتمكن التنظيم رغم خطابه الإعلامي الهادئ من توظيف حالة التعاطف الشبابي معه، نظرًا لضعف هيكله التعبوي وصعوبة التواصل المباشر بينه وبين مؤيديه.

لم يمتلك التنظيم مقومات مالية وبشرية تمكنه من إكمال خوض صراع أمني مع نظام بحجم النظام المصري، وبالتالي تفكك التنظيم خلال 3 سنوات من إنشائه، فصغر حجم التنظيم أدى لعدم قدرته على تحمل الضربات الأمنية المتتالية ضده ، وضعف موارده المالية أدى لضعف التسليح واستئجاره شقق لإيواء عناصره الهاربة في أماكن شعبية يسهل فيها رصد الغرباء، كما تبنى التنظيم استراتيجية تعتمد على استهداف قوات الشرطة وبالأخص الضباط بطريقة عشوائية، بينما تعدادهم يبلغ قرابة 40 ألف ضابط، ويسهل تعويض الخسائر في صفوفهم.

ضعف الجانب الأمني لدى التنظيم في طوره الأول، ومعرفة أفراده لبعضهم البعض، سهل انكشافه بمجرد القبض على أحد عناصره، ووجود قياداته داخل مصر سهل اكتشاف العديد من خلاياه من خلال فحص أجهزة الكمبيوتر والهواتف الخاصة بهم بعد تصفيتهم .

ـــــــــــــــــ
المصادر:
1- هذه المعلومات مستقاة من ملف التحقيق مع زوجة "همام عطية" أمام نيابة أمن الدولة العليا ، والذي نشر نصه كاملا موقع اليوم السابع بتاريخ 21/4/2016 تحت عنوان ( انفراد . اعترافات الزوجة تكشف حقيقة مؤسس "أجناد مصر(
2- انظر اعترافات قيادي جماعة أنصار بيت المقدس "محمد عفيفي" - اليوم السابع 23/8/2014.
3- اليوم السابع 11/9/2012.
4- البوابة نيوز 4/2/2016.
5- ورد في اعترافات "سعد عبدالرؤوف" أنه حبس باليمن من فبراير2012 إلى فبراير2014 وعاد إلى البلاد لينضم إلى أجناد مصر في مارس2014 - اليوم السابع 28/7/2014.
6- اعترافات جمال زكي– اليوم السابع 28/7/2014.
7- لحوار المفتوح مع المسؤول العام لأجناد مصر: مجد الدين المصري:
https://archive.org/details/ajnad-misr
8- للمزيد ينظر: المصدر السابق.
9- في 15/4/2014 تم استهداف سيارة خاصة بضابط شرطة بالهرم، مما أسفر عن إصابة شقيقه "إسلام عبدالحفيظ" ومرافق له ، فضلا عن مقتل ضابط الاحتياط السابق "بسام جامع" في 2/5/2014 بتفجير سيارته ظنا أنها سيارة ضابط جيش بالخدمة.
10- انضم "إسلام شحاتة" للتنظيم في شهر أكتوبر 2014
11- اعترافات منفذ الحادث "محمد عادل عبدالحميد"– اليوم السابع 25 /4/2016
12- نص التحقيقات مع زوجة همام عطية – مصدر سابق.
13-اعتمدت محل الإقامة المرتبط بالعمليات، فياسر خضير من بني سويف وله إقامة ببولاق الدكرور، وعبدالله السيد من الفيوم وله إقامة بعزبة الهجانة، وأحمد سعد من طنطا وله إقامة بفيصل.
14- أمكن الحصول على معلومات عن مهن 41 فرد من أعضاء التنظيم.
‏١٥‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٧:٣٩ م‏
علوم محرمة على المسلمين (1) بقلم @[1065146872:2048:أحمد بكر] حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ النية بحول الله أن تتناول هذه السلسلة مجموعة من العلوم والتخصصات التي تدعو الحاجة إليها بشدة في عصرنا الحالي، موجهة لأبناء الأمة المخلصين كي يشحذوا الهمم ويجبروا النقص والقصور؛ حيث إن تعلم هذه العلوم يعد من فروض الكفاية التي إن أهملتها الأمة جميعًا أثمت، مع العلم أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين كما قال بذلك بعض الأئمة لإسقاط القائم به الحرج عن باقي الأمة. والعلوم التي سأتناولها في هذه السلسلة هي: ●إدارة الأزمات والكوارث (Crisis, Risk, and Disaster Management) ●نظم المعلومات الجغرافية (Geographic Information Systems) ●علم البيانات (Data Science) ●هندسة الطيران (Aerospace engineering) وهذه التخصصات بالطبع ليست كل ما ينبغي تغطيته؛ فهي على سبيل الإيراد لا الحصر؛ لأن نهضة الأمم لا تقوم بالتركيز على علم دون باقي العلوم؛ بل تقوم بتكامل العلوم والتخصصات جميعًا بين بعضها البعض، نظرية كانت أم تطبيقية. في أول مقال في هذه السلسلة أتناول تساؤلًا مهمًّا قد يخطر في بالنا جميعًا ألا وهو كيف تستفيد الأمة من الجهود المشتتة هنا وهناك، وهل يسمح لنا أعداؤنا بامتلاك عوامل النهضة ابتداء؟ وهل تترك لنا حرية البحث العلمي بحيث ينتج عنها ما يساهم في دفع الخطر المحدق بالأمة؟ نعود إلى الوراء - ليس بعيدًا - ولن نتحدث عن أمجاد من الماضي السحيق، وكيفية نهوض الحضارة الإسلامية؛ بل نكتفي بالعودة بضع عشرات السنين، وتحديدًا ألمانيا في العام 1919 حين توقيع معاهدة فرساي. وألمانيا في العصر الحديث مرت بنهضتين عظيمتين جاءتا بعد حربين لا تقل إحداهما عنفًا عن الأخرى، شملت مناطق واسعة من الكوكب وقتل فيهما ملايين البشر، لكن سبب اختياري لمرحلة النهضة بعد الحرب الأولى أن ألمانيا نهضت بعدها صناعيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا بشكل استقلالي أتاح لها بدأ حرب أخرى بعدها في أقل من ثلاثين عامًا فقط، أما الحرب الثانية فخرجت منها ألمانيا مستئنسة بسبب خطط الحلفاء وخاصة أمريكا لبناء ألمانيا جديدة لا تعادي الغرب؛ بل تكون في القلب منه وحاملة لأفكاره. نبدأ من انتهاء الحرب العالمية الأولى، الإمبراطورية الألمانية محطمة حرفيًّا بعد حرب كونية حصدت أرواح ملايين البشر، من مقاتلين ومدنيين، ودمرت مدنًا بأسرها، وظهر في نفس الوقت لسوء حظ البشرية وباء الأنفلونزا الذي قتل الملايين أيضًا. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب قام الحلفاء المتمثلون في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، بإجبار ألمانيا ودولة الخلافة العثمانية - باعتبارهما أبرز أعضاء دول المحور - على القبول باتفاقات (معاهدتي سيفر وفرساي) أقل ما يقال عنها إنها مهينة. ما بين تفكيك لأراض تحت سيطرتها، وفرض تعويضات باهظة (وباهظة هنا قد لا تعبر عن فداحة التعويضات التي طولبت بها ألمانيا فقد وصلت إلى ما يعادل مئات مليارات الدولارات بأسعار اليوم)، انتهاء بفرض قيود على التسليح وإعداد الجيش الألماني (ألا يذكرك هذا باتفاقية كامب ديفيد؟). ما يتعلق بالجيش كان الهدف هو منع ألمانيا من النهوض بقوتها العسكرية والانتقام من الحلفاء مرة أخرى؛ مما دفع الحلفاء لفرض قيود على الجيش الألماني سواء في العتاد أو العدد، ومن هذه الشروط: ●ألا يزيد الجيش الألماني عن 100 ألف مقاتل، مقسمين على سبع وحدات مشاة وثلاثة للضباط. ●تقليل عدد المدارس العسكرية للضباط إلى ثلاث، واحدة لكل سلاح. ●ألا يزيد سلاح البحرية عن 15ألف جندي وضابط. ●الجنود وضباط الصف يحالون إلى التقاعد بعد 12 عامًا، والضباط بعد 25 عامًا بحد أقصى؛ لتفريغ الجيش من الخبرات العسكرية. ●تقليل عدد المدنيين في صفوف الجيش والشرطة. ●منع الصناعات العسكرية المتعلقة بالطائرات، والدبابات، وناقلات الجنود، والمركبات العسكرية. ●تقليل عدد القطع البحرية، من مدمرات، وسفن قتالية، ومنع امتلاك الغواصات. ●حرمان ألمانيا نهائيًّا من سلاح الطيران. المدهش أنه بالرغم من الرقابة اللصيقة على ألمانيا، نجحت كما العنقاء بالنهوض مجددًا من بين رماد خرائبها، وبناء قوة عسكرية واقتصادية وعلمية مكنتها من إخضاع أوروبا باسرها في خلال بضع سنوات، لذا سنستعرض كيف أفلت الألمان من الرقابة الدولية عليهم، وكيف بنوا جيشهم الذي بدأ به الرايخ الثالث الحرب العالمية الجديدة، تحت قيادة هتلر، وما سبقه من نهضة شاملة اقتصادية وعلمية. بدأ تسليح الجيش الألماني مباشرة بعد انتهاء الحرب، في خلال بداية فترة ما يعرف بجمهورية فايمار Weimarer Republik ، ومع تولي المستشار الألماني هيرمان مولر (Hermann Müller) بدايات 1920 حيث أقر عددًا من القوانين للسماح بالتسليح السري. وحتى عام 1933 كانت جهود التسليح وتطوير الجيش سرية ومحدودة إلى حد ما، ومدعومة من قبل القوميين الألمان الذين نظروا إلى معاهدة فرساي ومسألة التعويضات التي طولبت بها ألمانيا، كوسيلة من بريطانيا وفرنسا لإنهاء التأثير الاقتصادي الألماني العالمي. وكانت نظرة الألمان هي بناء القوة العسكرية ببطء يتيح لألمانيا العودة لنشاطها الاستعماري الذي تم الحد منه، والوصول لنقطة قوة، بحيث تعجز قوى الحلفاء عن إجبار ألمانيا على الرضوخ لمعاهدة فرساي مرة أخرى ومن ثم إلغائها.ومن الأمثلة على التدابير السرية التي تم اتخاذها في عهد جمهورية فايمار، السماح بتدريب قوات الشرطة تدريبًا عسكريًّا، بحيث تصبح قوة احتياطية للجيش الألماني، كنوع من التحايل على القيود التي وضعتها معاهدة فرساي، مع التساهل في تسليح الميلشيات، وتزامن ذلك مع ظهور العديد من الميليشيات الشعبية المسلحة. بعد استيلاء الحزب النازي على السلطة بقيادة هتلر في عام 1933تتم اتباع خطوات أكثر تسارعًا ووضوحًا لإعادة تسليح الجيش الألماني؛ حيث وعد الحزب النازي باستعادة أمجاد الأمة الألمانية مهاجمًا الحكمومات التي قبلت بمعاهدة فرساي من قبل، واستعادة ألمانيا لقوتها ومكانتها وتوحيد الشعوب الناطقة بالألمانية، وترأس هتلر نهضة توسعية ضخمة في مجال الإنتاج الصناعي والخدمات المدنية، بالإضافة للإنتاج العسكري، وكان رهان ألمانيا أن الحلفاء لن يجرؤوا على البدء بحرب لإيقاف سباق التسلح، وسيكتفون فقط بالتنديد والتهديد. وهو ما كان. كان من أبرز الشخصيات تأثيرًا في بداية ظهور الرايخ الثالث هو وزير الداخلية فيلهلم فريك، والاقتصادي هجلمار شاخت، الذي قدم توصياته لإزالة آثار الكساد الاقتصادي في ألمانيا بسبب الحرب وتوابعها. تم إنشاء العديد من الشركات الاقتصادية الوهمية لتكون واجهة لتمويل مجهودات إعادة التسليح، وأيضًا إنشاء منظمات وهمية كمنظمة دويتشه فيركرسفليجيرشول (Deutsche Verkehrsfliegerschule)، التي أُنشئت لتدريب الطيارين الألمان تحت ستار مدني. أدت هذه الطفرة التسليحية إلى حدوث سباق صناعي كانت من آثاره اختفاء البطالة خلال الثلاثينيات، بالإضافة لإنعاش المصانع الألمانية الذي أدى بدوره إلى انتشال ألمانيا من الكساد الذي ظلت تعاني منه. في 16 مارس 1935 أعلن هتلر بشكل علني عن رفضه للقيود العسكرية في معاهدة فرساي، وإعادة التسليح الكامل غير المشروط للجيش. كان سباق التسلح حافزًا للعديد من الشركات لتقديم حلول مبتكرة وثورية في مجال الصناعات الحربية والمدنية على حد سواء، خصوصًا في مجال علوم الطيران. وكانت الحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939 فرصة جيدة لاختبار الأسلحة الألمانية الجديدة وكفاءتها على أرض المعركة، بعد تحالف الجنرال فرانكو مع ألمانيا ضد الجمهوريين، وهتلر كان يصف نيته بأنها كانت سلمية ولا تنوي إدخال ألمانيا في حرب جديدة؛ لذا تم إطلاق اسم ساخر على استراتيجيته هذا باسم حرب الزهور (Blumenkrieg). كل هذه الجهود التي تكللت بنجاح عظيم أدت بهتلر للزهو فخرًا خلال خطابه في برلين في 26 سبتمبر1983 : “لقد قمنا بإعادة التسليح بشكل لم يشهد له العالم مثيلًا من قبل". حيث وصل عدد تعداد الجيش الألماني من 100 ألف فقط إلى اثنين ونصف مليون من الجنود والضباط. ويمكن تلخيص أسباب نجاح التجربة النازية في النهوض بألمانيا في النقاط التالية: ●وجود ظلم حقيقي ومتسلط ومهين تم تطبيقه بشكل مستفز، غذى روح الانتقام لدى الألمان شعبويًّا. ●وجود قيادة عسكرية وسياسية وطنية استغلت حالة الإحباط الشعبي لبناء الدولة من جديد. ●وجود كفاءات علمية واقتصادية، وتوظيفها بشكل صحيح من قبل القيادة. ●عدم الإذعان للتهديدات والاملاءات الخارجية أو الاستسلام لها. ●انتهاج السرية لحين الوصول لمرحلة التمكين والاستعلان بالأهداف الحقيقية المبنية على قوة تحميها. ●وجوب اتخاذ اجراءات حاسمة من قبل جيل الشباب لإزاحة الأجيال العجوزة، التي قد تكون وطنية لكن بالرغم من ذلك قد يحول ترددها في اتخاذ قرارات مهمة في مرحلة فاصلة إلى تمكين العدو من أهدافه. ●نهضة أي أمة يجب أن تبنى على عقيدة ولو فاسدة في جوهرها، لأن الإيمان في حد ذاته بالأفكار يجعل من السهل القبول بتضحيات في سبيل تحقيق تلك الأفكار. لذا يمكنني ختام هذه المقالة بالقول بأن التحرر من التبعية للقوى الاستعمارية ليس بالأمر الهين، ولكنه ليس مستحيلًا كما رأينا من التجربة الألمانية؛ لكن هو كأي شيء آخر لا بد له من توافر شيئين مهمين، الإرادة والوسيلة. فإن توفرت إحداهما دون الأخرى فإن الفشل المحقق سيكون مصير التجربة ولا ريب. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ مصادر ●https://en.wikipedia.org/wiki/Treaty_of_Versailles ●https://en.wikipedia.org/wiki/German_re-armament ●Hitler's Soldiers: The German Army in the Third Reich, by Ben H. Shepherd ●Luftwaffe, the Secret Bombers of the Third Reich. ●The Rise and fall of The Third Reich, by William L. Shirer ●The Third Reich in Power, by Richard J. Evans ●Dark Side of the Moon: Wernher von Braun, the Third Reich, and the Space Race, by Wayne Biddle ●German Secret Weapons of the Second World War: The Missons and New Technology of the Third Reich, by Ian V. Hogg ●Scientists under Hitler: Politics and the Physics Community in the Third Reich, by Alan D. Beyerchen ●Hitler's Engineers: Fritz Todt and Albert Speer, Master Builders of the Third Reich, by Blaine Taylor ●Gun Control in the Third Reich: Disarming the Jews and "Enemies of the State", by Stephen P. Halb ●كتاب كفاحي، لادولف هتلر، المكتبة الأهلية بيروت.
علوم محرمة على المسلمين (1)

بقلم أحمد بكر
حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ

النية بحول الله أن تتناول هذه السلسلة مجموعة من العلوم والتخصصات التي تدعو الحاجة إليها بشدة في عصرنا الحالي، موجهة لأبناء الأمة المخلصين كي يشحذوا الهمم ويجبروا النقص والقصور؛ حيث إن تعلم هذه العلوم يعد من فروض الكفاية التي إن أهملتها الأمة جميعًا أثمت، مع العلم أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين كما قال بذلك بعض الأئمة لإسقاط القائم به الحرج عن باقي الأمة.

والعلوم التي سأتناولها في هذه السلسلة هي:
●إدارة الأزمات والكوارث (Crisis, Risk, and Disaster Management)
●نظم المعلومات الجغرافية (Geographic Information Systems)
●علم البيانات (Data Science)
●هندسة الطيران (Aerospace engineering)

وهذه التخصصات بالطبع ليست كل ما ينبغي تغطيته؛ فهي على سبيل الإيراد لا الحصر؛ لأن نهضة الأمم لا تقوم بالتركيز على علم دون باقي العلوم؛ بل تقوم بتكامل العلوم والتخصصات جميعًا بين بعضها البعض، نظرية كانت أم تطبيقية.

في أول مقال في هذه السلسلة أتناول تساؤلًا مهمًّا قد يخطر في بالنا جميعًا ألا وهو كيف تستفيد الأمة من الجهود المشتتة هنا وهناك، وهل يسمح لنا أعداؤنا بامتلاك عوامل النهضة ابتداء؟ وهل تترك لنا حرية البحث العلمي بحيث ينتج عنها ما يساهم في دفع الخطر المحدق بالأمة؟

نعود إلى الوراء - ليس بعيدًا - ولن نتحدث عن أمجاد من الماضي السحيق، وكيفية نهوض الحضارة الإسلامية؛ بل نكتفي بالعودة بضع عشرات السنين، وتحديدًا ألمانيا في العام 1919 حين توقيع معاهدة فرساي.

وألمانيا في العصر الحديث مرت بنهضتين عظيمتين جاءتا بعد حربين لا تقل إحداهما عنفًا عن الأخرى، شملت مناطق واسعة من الكوكب وقتل فيهما ملايين البشر، لكن سبب اختياري لمرحلة النهضة بعد الحرب الأولى أن ألمانيا نهضت بعدها صناعيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا بشكل استقلالي أتاح لها بدأ حرب أخرى بعدها في أقل من ثلاثين عامًا فقط، أما الحرب الثانية فخرجت منها ألمانيا مستئنسة بسبب خطط الحلفاء وخاصة أمريكا لبناء ألمانيا جديدة لا تعادي الغرب؛ بل تكون في القلب منه وحاملة لأفكاره.

نبدأ من انتهاء الحرب العالمية الأولى، الإمبراطورية الألمانية محطمة حرفيًّا بعد حرب كونية حصدت أرواح ملايين البشر، من مقاتلين ومدنيين، ودمرت مدنًا بأسرها، وظهر في نفس الوقت لسوء حظ البشرية وباء الأنفلونزا الذي قتل الملايين أيضًا. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب قام الحلفاء المتمثلون في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، بإجبار ألمانيا ودولة الخلافة العثمانية - باعتبارهما أبرز أعضاء دول المحور - على القبول باتفاقات (معاهدتي سيفر وفرساي) أقل ما يقال عنها إنها مهينة. ما بين تفكيك لأراض تحت سيطرتها، وفرض تعويضات باهظة (وباهظة هنا قد لا تعبر عن فداحة التعويضات التي طولبت بها ألمانيا فقد وصلت إلى ما يعادل مئات مليارات الدولارات بأسعار اليوم)، انتهاء بفرض قيود على التسليح وإعداد الجيش الألماني (ألا يذكرك هذا باتفاقية كامب ديفيد؟).

ما يتعلق بالجيش كان الهدف هو منع ألمانيا من النهوض بقوتها العسكرية والانتقام من الحلفاء مرة أخرى؛ مما دفع الحلفاء لفرض قيود على الجيش الألماني سواء في العتاد أو العدد، ومن هذه الشروط:
●ألا يزيد الجيش الألماني عن 100 ألف مقاتل، مقسمين على سبع وحدات مشاة وثلاثة للضباط.
●تقليل عدد المدارس العسكرية للضباط إلى ثلاث، واحدة لكل سلاح.
●ألا يزيد سلاح البحرية عن 15ألف جندي وضابط.
●الجنود وضباط الصف يحالون إلى التقاعد بعد 12 عامًا، والضباط بعد 25 عامًا بحد أقصى؛ لتفريغ الجيش من الخبرات العسكرية.
●تقليل عدد المدنيين في صفوف الجيش والشرطة.
●منع الصناعات العسكرية المتعلقة بالطائرات، والدبابات، وناقلات الجنود، والمركبات العسكرية.
●تقليل عدد القطع البحرية، من مدمرات، وسفن قتالية، ومنع امتلاك الغواصات.
●حرمان ألمانيا نهائيًّا من سلاح الطيران.

المدهش أنه بالرغم من الرقابة اللصيقة على ألمانيا، نجحت كما العنقاء بالنهوض مجددًا من بين رماد خرائبها، وبناء قوة عسكرية واقتصادية وعلمية مكنتها من إخضاع أوروبا باسرها في خلال بضع سنوات، لذا سنستعرض كيف أفلت الألمان من الرقابة الدولية عليهم، وكيف بنوا جيشهم الذي بدأ به الرايخ الثالث الحرب العالمية الجديدة، تحت قيادة هتلر، وما سبقه من نهضة شاملة اقتصادية وعلمية.

بدأ تسليح الجيش الألماني مباشرة بعد انتهاء الحرب، في خلال بداية فترة ما يعرف بجمهورية فايمار Weimarer Republik ، ومع تولي المستشار الألماني هيرمان مولر (Hermann Müller) بدايات 1920 حيث أقر عددًا من القوانين للسماح بالتسليح السري. وحتى عام 1933 كانت جهود التسليح وتطوير الجيش سرية ومحدودة إلى حد ما، ومدعومة من قبل القوميين الألمان الذين نظروا إلى معاهدة فرساي ومسألة التعويضات التي طولبت بها ألمانيا، كوسيلة من بريطانيا وفرنسا لإنهاء التأثير الاقتصادي الألماني العالمي.

وكانت نظرة الألمان هي بناء القوة العسكرية ببطء يتيح لألمانيا العودة لنشاطها الاستعماري الذي تم الحد منه، والوصول لنقطة قوة، بحيث تعجز قوى الحلفاء عن إجبار ألمانيا على الرضوخ لمعاهدة فرساي مرة أخرى ومن ثم إلغائها.ومن الأمثلة على التدابير السرية التي تم اتخاذها في عهد جمهورية فايمار، السماح بتدريب قوات الشرطة تدريبًا عسكريًّا، بحيث تصبح قوة احتياطية للجيش الألماني، كنوع من التحايل على القيود التي وضعتها معاهدة فرساي، مع التساهل في تسليح الميلشيات، وتزامن ذلك مع ظهور العديد من الميليشيات الشعبية المسلحة.

بعد استيلاء الحزب النازي على السلطة بقيادة هتلر في عام 1933تتم اتباع خطوات أكثر تسارعًا ووضوحًا لإعادة تسليح الجيش الألماني؛ حيث وعد الحزب النازي باستعادة أمجاد الأمة الألمانية مهاجمًا الحكمومات التي قبلت بمعاهدة فرساي من قبل، واستعادة ألمانيا لقوتها ومكانتها وتوحيد الشعوب الناطقة بالألمانية، وترأس هتلر نهضة توسعية ضخمة في مجال الإنتاج الصناعي والخدمات المدنية، بالإضافة للإنتاج العسكري، وكان رهان ألمانيا أن الحلفاء لن يجرؤوا على البدء بحرب لإيقاف سباق التسلح، وسيكتفون فقط بالتنديد والتهديد. وهو ما كان.

كان من أبرز الشخصيات تأثيرًا في بداية ظهور الرايخ الثالث هو وزير الداخلية فيلهلم فريك، والاقتصادي هجلمار شاخت، الذي قدم توصياته لإزالة آثار الكساد الاقتصادي في ألمانيا بسبب الحرب وتوابعها. تم إنشاء العديد من الشركات الاقتصادية الوهمية لتكون واجهة لتمويل مجهودات إعادة التسليح، وأيضًا إنشاء منظمات وهمية كمنظمة دويتشه فيركرسفليجيرشول (Deutsche Verkehrsfliegerschule)، التي أُنشئت لتدريب الطيارين الألمان تحت ستار مدني. أدت هذه الطفرة التسليحية إلى حدوث سباق صناعي كانت من آثاره اختفاء البطالة خلال الثلاثينيات، بالإضافة لإنعاش المصانع الألمانية الذي أدى بدوره إلى انتشال ألمانيا من الكساد الذي ظلت تعاني منه. في 16 مارس 1935 أعلن هتلر بشكل علني عن رفضه للقيود العسكرية في معاهدة فرساي، وإعادة التسليح الكامل غير المشروط للجيش.

كان سباق التسلح حافزًا للعديد من الشركات لتقديم حلول مبتكرة وثورية في مجال الصناعات الحربية والمدنية على حد سواء، خصوصًا في مجال علوم الطيران.
وكانت الحرب الأهلية الإسبانية 1936-1939 فرصة جيدة لاختبار الأسلحة الألمانية الجديدة وكفاءتها على أرض المعركة، بعد تحالف الجنرال فرانكو مع ألمانيا ضد الجمهوريين، وهتلر كان يصف نيته بأنها كانت سلمية ولا تنوي إدخال ألمانيا في حرب جديدة؛ لذا تم إطلاق اسم ساخر على استراتيجيته هذا باسم حرب الزهور (Blumenkrieg).

كل هذه الجهود التي تكللت بنجاح عظيم أدت بهتلر للزهو فخرًا خلال خطابه في برلين في 26 سبتمبر1983 : “لقد قمنا بإعادة التسليح بشكل لم يشهد له العالم مثيلًا من قبل". حيث وصل عدد تعداد الجيش الألماني من 100 ألف فقط إلى اثنين ونصف مليون من الجنود والضباط.

ويمكن تلخيص أسباب نجاح التجربة النازية في النهوض بألمانيا في النقاط التالية:
●وجود ظلم حقيقي ومتسلط ومهين تم تطبيقه بشكل مستفز، غذى روح الانتقام لدى الألمان شعبويًّا.
●وجود قيادة عسكرية وسياسية وطنية استغلت حالة الإحباط الشعبي لبناء الدولة من جديد.
●وجود كفاءات علمية واقتصادية، وتوظيفها بشكل صحيح من قبل القيادة.
●عدم الإذعان للتهديدات والاملاءات الخارجية أو الاستسلام لها.
●انتهاج السرية لحين الوصول لمرحلة التمكين والاستعلان بالأهداف الحقيقية المبنية على قوة تحميها.
●وجوب اتخاذ اجراءات حاسمة من قبل جيل الشباب لإزاحة الأجيال العجوزة، التي قد تكون وطنية لكن بالرغم من ذلك قد يحول ترددها في اتخاذ قرارات مهمة في مرحلة فاصلة إلى تمكين العدو من أهدافه.
●نهضة أي أمة يجب أن تبنى على عقيدة ولو فاسدة في جوهرها، لأن الإيمان في حد ذاته بالأفكار يجعل من السهل القبول بتضحيات في سبيل تحقيق تلك الأفكار.
لذا يمكنني ختام هذه المقالة بالقول بأن التحرر من التبعية للقوى الاستعمارية ليس بالأمر الهين، ولكنه ليس مستحيلًا كما رأينا من التجربة الألمانية؛ لكن هو كأي شيء آخر لا بد له من توافر شيئين مهمين، الإرادة والوسيلة. فإن توفرت إحداهما دون الأخرى فإن الفشل المحقق سيكون مصير التجربة ولا ريب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر
https://en.wikipedia.org/wiki/Treaty_of_Versailles
https://en.wikipedia.org/wiki/German_re-armament
●Hitler's Soldiers: The German Army in the Third Reich, by Ben H. Shepherd
●Luftwaffe, the Secret Bombers of the Third Reich.
●The Rise and fall of The Third Reich, by William L. Shirer
●The Third Reich in Power, by Richard J. Evans
●Dark Side of the Moon: Wernher von Braun, the Third Reich, and the Space Race, by Wayne Biddle
●German Secret Weapons of the Second World War: The Missons and New Technology of the Third Reich, by Ian V. Hogg
●Scientists under Hitler: Politics and the Physics Community in the Third Reich, by Alan D. Beyerchen
●Hitler's Engineers: Fritz Todt and Albert Speer, Master Builders of the Third Reich, by Blaine Taylor
●Gun Control in the Third Reich: Disarming the Jews and "Enemies of the State", by Stephen P. Halb
●كتاب كفاحي، لادولف هتلر، المكتبة الأهلية بيروت.
‏١٤‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٧:٤١ م‏
العلمنة والمقاومة بقلم: @[1252740136:2048:البشير عصام المراكشي] حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. من صراع الأفكار يبدأ كل شيء ..فتحت راية عقائد الكفاح، تنطلق جموع المقاومين والمجاهدين، وهم يحملون بأيديهم المتوضئة شعلة الفكر الأبيّ .. وتحت الأنغام الهادئة لعقائد الخنوع، ينام المرجفون والجبناء، وفي أيديهم عرائض الذل ومنشورات الهوان، يسوّغون بها قعودهم عن نصرة الحق ..وأفكارُ الخنوع وعقائد الانحناء، المناقضةُ لفكر المقاومة والانعتاق، كثيرة في أعدادها، متنوعة في استمدادها. فمنها ما يحمل الذلَّ في ذرات كيانه، ويلتحم بالهوان في حقيقة ماهيته، كالجبرية والإرجاء .. ومنها ما يلتحم بالذل والخنوع في ظروف مخصوصة، لأغراض مخصوصة، كالعلمنة التي تدبّ اليوم في مفاصل الأمة، ولا تلتقي في المفهوم – بالضرورة – مع مناقضة المقاومة، وإن كانا يجتمعان في الماصدق اليوم، لأسباب ستأتي – إن شاء الله - في مطلب العلمانية السلطانية. والعلمنة كالآكلة .. تنخر الفكر في جميع أجزائه، وأدقّ مفاصله، حتى ما تدع فيه نسيجا مكتملا، ولا موضعا من العيب سالما ..وهي كالريح الخبيثة .. تندسّ في كل غرفة، متى وجدت أدنى صدع في الباب، أو ثقب في النافذة ..وهي كالهواء الملوث .. يتسرب إلى كل مكان متى وجد فيه فراغا يتمدّد إليه ..وهي - بعد ذلك كله - كالوجه البغيض الذي تستر أصباغُ التطريةِ قبحَه، فيلتبس حاله على الكثيرين من عشاق الجمال، ولا يتفطن لسره الدفين إلا من عرف وخبر، واستعمل الحذر .. ولذلك كله – ولغيره مما غاب عني ذكرُه – فمسار العلمنة اليوم ماض منطلق لا يكاد يحدّه شيء .. وذلك في كل مكان، حتى في ما يفترض أن يكون حصون الممانعة الأخيرة في وجه العلمانية، أقصد في قلب الحركة الإسلامية بمختلف توجهاتها العلمية والعملية .. وقد بينتُ منذ نحو ثلاث سنوات في كتابي “العلمنة من الداخل”(1)، طرائقَ تسرب العلمنة إلى داخل التيار الإسلامي، فليس من غرضي أن أعيد شيئا من ذلك؛ ولكن قصدي في هذا المقال أن أبيّن أن العلمنة فكر يناقض المقاومة، ويفتك بالممانعة، ويُسْلِم الأمة لأعدائها لقمة سهلة سائغة. العلمانية المفروضة انبثقت العلمانية في أوروبا من مسار طويل، تغذى بروافد فلسفية وسياسية واجتماعية كثيرة ومختلفة. ثم في ظروف الامبريالية الأروربية، انتقل مسار العلمنة – بقوة الحديد والنار - إلى الأمة الإسلامية. فالعلمانية عندنا – فوق مناقضتها الصريحة للمفهوم الإسلامي للدين، وعلاقته بالدنيا عموما والسياسة خصوصا - فكرٌ وافد، ليست له جذور فلسفية، ولا امتداد تاريخي، ولا مشروعية اجتماعية ..هي فكر دخيل، الغرضُ الأساس منه: تسوية نتوءات الاختلاف بين فكر السيد وفكر العبد؛ أو قل بعبارة أخرى: تذليل وجدان العبد لسيده – بعد تذليل جسده – لتكون عبوديته اختيارية، سالمة من احتمال التمرد، ومخاطر التطلع إلى التحرر! نعم.. العلمانية تسعى إلى إلحاق الأمة بالغرب ..والمقاومة تسعى إلى تحرير الأمة من قبضة الغرب ..فكيف يلتقيان؟! العلمانية الأخطبوطية وليست العلمانية مثل أي فكر آخر ..ليست تنظيرا فلسفيا مودَعا في بطون الكتب، ولا ترفا فكريا متداولا بين أفراد النخبة المثقفة ..إنها تنتشر في كل مكان، وتملأ كل فراغ، وتحكم الدولة، وتشكّل المجتمع، وتصوغ وعي الأفراد ..ولذلك كانت العلمانية في البدء من اختصاص الطبقة الحاكمة في البلاد الإسلامية، يطبّقونها ويدعون إليها، مع ممانعة كثيفة في أغلب مفاصل المجتمع وتياراته العاملة ..ثم انتقل مسار العلمنة إلى قلب التيارات الإسلامية الحركية، عبر مسار المشاركة السياسية الديمقراطية (والديمقراطيةُ – في أغلب الصور والحالات - هي المركب الوثير للعلمانية). ثم وصل الخلل أخيرا إلى علماء الشريعة والدعاة وطلبة العلم، الذين صار الواحد منهم يتباهى – عن غير قصد في الغالب - بالتأصيل "الشرعي" لبعض مُخرجات الثقافة العلمانية المهيمنة، مع الرفض النظري للعلمانية (التي صارت ترادف في أذهان الكثيرين محض العداء للدين – كما سيأتي في مبحث "العلمانية الملتبسة")! ثم سقط أخيرا "تابو" الرفض النظري المطلق للعلمانية عند بعضهم، فرأينا من يكتب – بسذاجة - عن الجزء الموافق للإسلام من العلمانية (2) وإذا ثبت أن العلمانية تنتشر بهذه السهولة، فإن شباب الأمة الذين يُفترض أن يتشكل وجدانهم - منذ التحاقهم بركب التديّن - بالوعي المقاوِم، واقعون للأسف في براثنها ..وإن العلماء الذين يُفترض أن يُفتوا للمقاوِمين بما يعينهم على التأصيل العلمي لعملهم العظيم، هم أيضا غير سالمين من سطوتها ..بل إن تيارات المقاومة العاملة نفسها، لا يمكنها أن تسلم من أثرها الهدّام إلا بكثير من الحذر واليقظة وبناء الوعي. العلمانية السلطانية تدّعي العلمانية – منذ بزوغ فجرها في أوروبا الحديثة – أنها جاءت لتحرّر الإنسان من رق الكنيسة، ولتعتق العقل من العبودية لخرافات الدين، ولتحرر الشعوب من سطوة الملوك الحاكمين بالحق الإلهي. ولكن حقيقة الأمر – في بلداننا على الأقل – على عكس ذلك! فإن العلمانيين – إلا النادر - يصطفّون اليوم مع الظلَمة والطغاة في صف واحد، في مواجهة مشروعات التحرر والانعتاق، التي هي - في الغالب ومنذ عقود – مشروعات إسلامية خالصة. ولذلك، تجدهم يرفعون شعارات الحرية مثلا (وهي من أهم مكوّنات الثقافة العلمانية)، ولكنها – عند التطبيق - حريةٌ في اتجاه واحد، هو حرية الكفر والفسق ومحاربة شعائر الدين، وليس فيها شيء من حرية امتلاك الأمة قرارَها السياسي، ولا حريتها في تطبيق شرع ربها بعيدا عن ضغوط أعدائها .. واعتبِر بأحوال كبار دعاة العلمانية في بلداننا، فإن أغلبهم ممن تحتفي به الأنظمة القائمة، ويبادلها احتفاء بمثله؛ كأنه زواج مصلحة بين الطرفين، يستمد منه كلاهما عوامل بقائه وصموده أمام المخالف! والطغاة يسعون لبث العلمانية في الأمة، لا لهاجس فلسفي أو حاجة فكرية، بل فقط لاعتباراتِ تحقيق التبعية الكاملة للغرب، ومصادمة فكر مشروعات المقاومة الإسلامية. العلمانية التسويقية مما يزيد من خطورة مسار العلمنة على فكر المقاومة، أن العلمانية تسوّق نفسها من خلال جميع وسائل التسويق المتاحة اليوم في الإعلام والسينما وشبكات التواصل ومنابر السياسة ومحافل الاقتصاد، أو قل: في كل مكان .. والعلمانية تسوَّق لنا - خارج الإطار الإسلامي - على أنها الحل لجميع المشكلات الحضارية والتنموية للعالم الإسلامي. بل صار بعض الدعاة الإسلاميين يسوّق لها من جهة أن قبولَها حلٌّ سحري لمشكلات التيار الإسلامي نفسه، الذي يعاني من القمع الخارجي والصراع الداخلي! ولك أن تسأل: وما علاقة هذا بفكر المقاومة؟ وجوابي لك: أن المشكلة إذا اقتُرحت حلًّا، فَقدت الحلولُ الحقيقية مكانتها ضمن أولويات العاملين! فإذا جعل المسلمون - عموما والإسلاميون خصوصا - وسيلتَهم لتحقيق ما يصبون إليه من الغايات ترسيخَ مبادئ العلمانية، فإن الوسائل الأخرى – وعلى رأسها فكر المقاومة – يتعرض للاحتضار فالاندثار! العلمانية الملتبسة ومن مخاطر العلمانيةِ: التباسُها المفاهيمي في أذهان أهل الخير قبل غيرهم! وهكذا كثرت تعريفات العلمانية وتقسيماتها وتصنيفاتها، كما تعدّدت – تبعا لذلك – مواقف الناس منها ..فمن قبولٍ للعلمانية "الجزئية" مع رفض للعلمانية "الشاملة"، عند بعض المفكرين المعاصرين (مع التباس في تعريف الأُولى، ما بين فصل الدين عن السياسة، وتقرير مرجعية الخبراء، وغير ذلك) .. إلى قبول العلمانية التي تسمح بشعائر الدين الظاهرة (من نحو الحجاب والصلاة وتحفيظ القرآن ..)، ولو مع حصر الدين في الدائرة الفردية ورفض تمدده إلى المجتمع والدولة ..إلى قبول مكوّنات العلمانية وآثارها كالوطنية الضيقة والحرية المطلقة ونسبية الحقيقة ونحو ذلك ..إلى تصريح بقبول العلمانية من حيث هي، بجميع أجزائها ومكوناتها .. والالتباس المفاهيمي كارثة؛ وذلك أنه إذا التبس الحق بالباطل، وكان الأول (وهو المقاومة والجهاد) عسرا في متطلباته، صعبا في تكاليفه، وكان الثاني (وهو قبول الفكر العلماني وإدماجه في المنظومة الفكرية الإسلامية) سهلا في تطبيقه، مقبولا عند أهل السطوة والسلطة الغالبة: تعلق الناس بالباطل، وتركوا الحق، ولا بدّ! هذه بعض مخاطر "العلمنة من الداخل" على مشروع المقاومة، الذي يتوخى تحرير الأمة، وانعتاقها من التبعية للغرب، والعبودية لثقافته العلمانية المهيمنة. والله الموفق ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) صدر عن مركز تفكر، عام 1436 هـ. 2) كتب الباحث الشيخ عبد الكريم الدخين في مقال له على الشبكة: “لا علمانية "ناجحة" ولا خروج من الدين "من دون مشكلات" إلا من خلال المتدينين.. هذا ما يخبرنا به التاريخ الحديث سواء في السياق الغربي أو حتى الإسلامي والعربي”.
العلمنة والمقاومة

بقلم: البشير عصام المراكشي
حمل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق: https://goo.gl/qDdodQ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

من صراع الأفكار يبدأ كل شيء ..فتحت راية عقائد الكفاح، تنطلق جموع المقاومين والمجاهدين، وهم يحملون بأيديهم المتوضئة شعلة الفكر الأبيّ ..

وتحت الأنغام الهادئة لعقائد الخنوع، ينام المرجفون والجبناء، وفي أيديهم عرائض الذل ومنشورات الهوان، يسوّغون بها قعودهم عن نصرة الحق ..وأفكارُ الخنوع وعقائد الانحناء، المناقضةُ لفكر المقاومة والانعتاق، كثيرة في أعدادها، متنوعة في استمدادها.

فمنها ما يحمل الذلَّ في ذرات كيانه، ويلتحم بالهوان في حقيقة ماهيته، كالجبرية والإرجاء .. ومنها ما يلتحم بالذل والخنوع في ظروف مخصوصة، لأغراض مخصوصة، كالعلمنة التي تدبّ اليوم في مفاصل الأمة، ولا تلتقي في المفهوم – بالضرورة – مع مناقضة المقاومة، وإن كانا يجتمعان في الماصدق اليوم، لأسباب ستأتي – إن شاء الله - في مطلب العلمانية السلطانية.

والعلمنة كالآكلة .. تنخر الفكر في جميع أجزائه، وأدقّ مفاصله، حتى ما تدع فيه نسيجا مكتملا، ولا موضعا من العيب سالما ..وهي كالريح الخبيثة .. تندسّ في كل غرفة، متى وجدت أدنى صدع في الباب، أو ثقب في النافذة ..وهي كالهواء الملوث .. يتسرب إلى كل مكان متى وجد فيه فراغا يتمدّد إليه ..وهي - بعد ذلك كله - كالوجه البغيض الذي تستر أصباغُ التطريةِ قبحَه، فيلتبس حاله على الكثيرين من عشاق الجمال، ولا يتفطن لسره الدفين إلا من عرف وخبر، واستعمل الحذر ..

ولذلك كله – ولغيره مما غاب عني ذكرُه – فمسار العلمنة اليوم ماض منطلق لا يكاد يحدّه شيء .. وذلك في كل مكان، حتى في ما يفترض أن يكون حصون الممانعة الأخيرة في وجه العلمانية، أقصد في قلب الحركة الإسلامية بمختلف توجهاتها العلمية والعملية ..

وقد بينتُ منذ نحو ثلاث سنوات في كتابي “العلمنة من الداخل”(1)، طرائقَ تسرب العلمنة إلى داخل التيار الإسلامي، فليس من غرضي أن أعيد شيئا من ذلك؛ ولكن قصدي في هذا المقال أن أبيّن أن العلمنة فكر يناقض المقاومة، ويفتك بالممانعة، ويُسْلِم الأمة لأعدائها لقمة سهلة سائغة.

العلمانية المفروضة
انبثقت العلمانية في أوروبا من مسار طويل، تغذى بروافد فلسفية وسياسية واجتماعية كثيرة ومختلفة. ثم في ظروف الامبريالية الأروربية، انتقل مسار العلمنة – بقوة الحديد والنار - إلى الأمة الإسلامية. فالعلمانية عندنا – فوق مناقضتها الصريحة للمفهوم الإسلامي للدين، وعلاقته بالدنيا عموما والسياسة خصوصا - فكرٌ وافد، ليست له جذور فلسفية، ولا امتداد تاريخي، ولا مشروعية اجتماعية ..هي فكر دخيل، الغرضُ الأساس منه: تسوية نتوءات الاختلاف بين فكر السيد وفكر العبد؛ أو قل بعبارة أخرى: تذليل وجدان العبد لسيده – بعد تذليل جسده – لتكون عبوديته اختيارية، سالمة من احتمال التمرد، ومخاطر التطلع إلى التحرر! نعم.. العلمانية تسعى إلى إلحاق الأمة بالغرب ..والمقاومة تسعى إلى تحرير الأمة من قبضة الغرب ..فكيف يلتقيان؟!

العلمانية الأخطبوطية
وليست العلمانية مثل أي فكر آخر ..ليست تنظيرا فلسفيا مودَعا في بطون الكتب، ولا ترفا فكريا متداولا بين أفراد النخبة المثقفة ..إنها تنتشر في كل مكان، وتملأ كل فراغ، وتحكم الدولة، وتشكّل المجتمع، وتصوغ وعي الأفراد ..ولذلك كانت العلمانية في البدء من اختصاص الطبقة الحاكمة في البلاد الإسلامية، يطبّقونها ويدعون إليها، مع ممانعة كثيفة في أغلب مفاصل المجتمع وتياراته العاملة ..ثم انتقل مسار العلمنة إلى قلب التيارات الإسلامية الحركية، عبر مسار المشاركة السياسية الديمقراطية (والديمقراطيةُ – في أغلب الصور والحالات - هي المركب الوثير للعلمانية).

ثم وصل الخلل أخيرا إلى علماء الشريعة والدعاة وطلبة العلم، الذين صار الواحد منهم يتباهى – عن غير قصد في الغالب - بالتأصيل "الشرعي" لبعض مُخرجات الثقافة العلمانية المهيمنة، مع الرفض النظري للعلمانية (التي صارت ترادف في أذهان الكثيرين محض العداء للدين – كما سيأتي في مبحث "العلمانية الملتبسة")!
ثم سقط أخيرا "تابو" الرفض النظري المطلق للعلمانية عند بعضهم، فرأينا من يكتب – بسذاجة - عن الجزء الموافق للإسلام من العلمانية (2)

وإذا ثبت أن العلمانية تنتشر بهذه السهولة، فإن شباب الأمة الذين يُفترض أن يتشكل وجدانهم - منذ التحاقهم بركب التديّن - بالوعي المقاوِم، واقعون للأسف في براثنها ..وإن العلماء الذين يُفترض أن يُفتوا للمقاوِمين بما يعينهم على التأصيل العلمي لعملهم العظيم، هم أيضا غير سالمين من سطوتها ..بل إن تيارات المقاومة العاملة نفسها، لا يمكنها أن تسلم من أثرها الهدّام إلا بكثير من الحذر واليقظة وبناء الوعي.

العلمانية السلطانية
تدّعي العلمانية – منذ بزوغ فجرها في أوروبا الحديثة – أنها جاءت لتحرّر الإنسان من رق الكنيسة، ولتعتق العقل من العبودية لخرافات الدين، ولتحرر الشعوب من سطوة الملوك الحاكمين بالحق الإلهي. ولكن حقيقة الأمر – في بلداننا على الأقل – على عكس ذلك! فإن العلمانيين – إلا النادر - يصطفّون اليوم مع الظلَمة والطغاة في صف واحد، في مواجهة مشروعات التحرر والانعتاق، التي هي - في الغالب ومنذ عقود – مشروعات إسلامية خالصة. ولذلك، تجدهم يرفعون شعارات الحرية مثلا (وهي من أهم مكوّنات الثقافة العلمانية)، ولكنها – عند التطبيق - حريةٌ في اتجاه واحد، هو حرية الكفر والفسق ومحاربة شعائر الدين، وليس فيها شيء من حرية امتلاك الأمة قرارَها السياسي، ولا حريتها في تطبيق شرع ربها بعيدا عن ضغوط أعدائها ..

واعتبِر بأحوال كبار دعاة العلمانية في بلداننا، فإن أغلبهم ممن تحتفي به الأنظمة القائمة، ويبادلها احتفاء بمثله؛ كأنه زواج مصلحة بين الطرفين، يستمد منه كلاهما عوامل بقائه وصموده أمام المخالف!

والطغاة يسعون لبث العلمانية في الأمة، لا لهاجس فلسفي أو حاجة فكرية، بل فقط لاعتباراتِ تحقيق التبعية الكاملة للغرب، ومصادمة فكر مشروعات المقاومة الإسلامية.

العلمانية التسويقية
مما يزيد من خطورة مسار العلمنة على فكر المقاومة، أن العلمانية تسوّق نفسها من خلال جميع وسائل التسويق المتاحة اليوم في الإعلام والسينما وشبكات التواصل ومنابر السياسة ومحافل الاقتصاد، أو قل: في كل مكان ..

والعلمانية تسوَّق لنا - خارج الإطار الإسلامي - على أنها الحل لجميع المشكلات الحضارية والتنموية للعالم الإسلامي. بل صار بعض الدعاة الإسلاميين يسوّق لها من جهة أن قبولَها حلٌّ سحري لمشكلات التيار الإسلامي نفسه، الذي يعاني من القمع الخارجي والصراع الداخلي!

ولك أن تسأل: وما علاقة هذا بفكر المقاومة؟ وجوابي لك: أن المشكلة إذا اقتُرحت حلًّا، فَقدت الحلولُ الحقيقية مكانتها ضمن أولويات العاملين! فإذا جعل المسلمون - عموما والإسلاميون خصوصا - وسيلتَهم لتحقيق ما يصبون إليه من الغايات ترسيخَ مبادئ العلمانية، فإن الوسائل الأخرى – وعلى رأسها فكر المقاومة – يتعرض للاحتضار فالاندثار!

العلمانية الملتبسة
ومن مخاطر العلمانيةِ: التباسُها المفاهيمي في أذهان أهل الخير قبل غيرهم!
وهكذا كثرت تعريفات العلمانية وتقسيماتها وتصنيفاتها، كما تعدّدت – تبعا لذلك – مواقف الناس منها ..فمن قبولٍ للعلمانية "الجزئية" مع رفض للعلمانية "الشاملة"، عند بعض المفكرين المعاصرين (مع التباس في تعريف الأُولى، ما بين فصل الدين عن السياسة، وتقرير مرجعية الخبراء، وغير ذلك) .. إلى قبول العلمانية التي تسمح بشعائر الدين الظاهرة (من نحو الحجاب والصلاة وتحفيظ القرآن ..)، ولو مع حصر الدين في الدائرة الفردية ورفض تمدده إلى المجتمع والدولة ..إلى قبول مكوّنات العلمانية وآثارها كالوطنية الضيقة والحرية المطلقة ونسبية الحقيقة ونحو ذلك ..إلى تصريح بقبول العلمانية من حيث هي، بجميع أجزائها ومكوناتها ..

والالتباس المفاهيمي كارثة؛ وذلك أنه إذا التبس الحق بالباطل، وكان الأول (وهو المقاومة والجهاد) عسرا في متطلباته، صعبا في تكاليفه، وكان الثاني (وهو قبول الفكر العلماني وإدماجه في المنظومة الفكرية الإسلامية) سهلا في تطبيقه، مقبولا عند أهل السطوة والسلطة الغالبة: تعلق الناس بالباطل، وتركوا الحق، ولا بدّ!

هذه بعض مخاطر "العلمنة من الداخل" على مشروع المقاومة، الذي يتوخى تحرير الأمة، وانعتاقها من التبعية للغرب، والعبودية لثقافته العلمانية المهيمنة.
والله الموفق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) صدر عن مركز تفكر، عام 1436 هـ.
2) كتب الباحث الشيخ عبد الكريم الدخين في مقال له على الشبكة: “لا علمانية "ناجحة" ولا خروج من الدين "من دون مشكلات" إلا من خلال المتدينين.. هذا ما يخبرنا به التاريخ الحديث سواء في السياق الغربي أو حتى الإسلامي والعربي”.
‏١٢‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٨:٣٨ م‏
لهذا فشلت الثورة العرابية بقلم: @[520036614:2048:محمد إلهامي] [لتحميل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: https://goo.gl/qDdodQ] كانت الثورة العرابية أخطر تهديد لنظام الدولة الحديثة العلمانية التي أسسها محمد علي باشا، تلك الدولة التي حطمت نظام المجتمع الإسلامي وأنشأت نظامًا استبداديًّا قاهرًا على نمط فرعوني جديد تتحول فيه السلطة لغول يستولي ويستعبد كل ما في البلاد من بشر وموارد. الأدهى والأمر أن نظام محمد علي تأسس على يد نخبة من الأجانب، فلقد كانوا سادة البلاد وأصحاب الأمر والنهي فيها، وقد استكثر محمد علي في بلاطه من اليهود والنصارى كما لم يفعل حاكم في كل التاريخ الإسلامي، وهو الأمر الذي استمر واستقر من بعده بأفحش وأشنع مما كان في وقته، حتى وصل الحال في عصر الخديوي إسماعيل إلى أن كان الأجانب هم سادة كل مؤسسات البلد المهمة من الجيش وحتى البريد، وصار لهم وزارتان في الحكومة المصرية: المالية والعمل (الأشغال)، وكان النظام القانوني في مصر يجعل الأجانب سادة حتى على الخديوي نفسه، وتستطيع محكمة أجنبية أن تقضي بحجز أموال الخديوي ومنعه من التصرف فيها. كانت مصر كنزًا يسيل في جيوب الأجانب، حتى إن الشحاذ في أوروبا كان يلقي بنفسه في المركب (هجرة غير شرعية!) ليصل إلى مصر، فيجد النظم والقوانين والقنصليات والحماية الأجنبية توفر له كل عوامل الغنى والثراء ونهب الموارد المصرية. ولهذا فقد كان النظام في مصر محققًا للمصالح الأجنبية كما لم يكن نظام آخر، وهذا بغير تكلفة الاحتلال العسكري المباشر. كان من نتائج هذا الوضع وجود سخط شعبي عارم جعل حركة تململ محدودة في الجيش تتحول من فورها إلى ثورة شعبية كبيرة، وكان من نتائجه أيضًا أن يصير تغيير النظام في مصر مشكلة دولية لا محلية، تتحرك لها البوارج والقوات الأجنبية، وتتفق عليها القوى الاستعمارية رغم اختلافهم الواسع فيما سوى ذلك من المصالح. حاولت القوى الاستعمارية نزع فتيل الثورة بتغيير رأس النظام (الخديوي إسماعيل) فعُزِل الخديوي الذي التقت على عزله رغبات جميع الأطراف: الشعب والنخب المتذمرة، القوى الأجنبية للحفاظ على النظام واستباق الثورة، السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني) الذي يحاول استعادة سلطانه على مصر ومقاومة التغلغل الأجنبي. جاء ابنه الخديوي توفيق فسعى في تصفية الثورة ضمن إجراءات التغيير، فنفى أبرز رموز الحراك الثوري: جمال الدين الأفغاني بعملية سرية سريعة بمنتصف الليل، وترأس بنفسه الحكومة ليغل يد البرلمان عن محاسبتها، وجاء بحكومة يقودها القانوني الإصلاحي "محمد شريف باشا" الملقب بـ "أبو الدستور المصري"، وأجرى تعديلات في ألوية الجيش ليبعد بها ألوية عرابي ورفيقيه عن القاهرة، ثم حاول القبض على عرابي ورفاقه لولا أنهم انتبهوا. على مسار آخر سعى محمد شريف باشا إلى تصفية قوة عرابي وإلى غل يد البرلمان، وإلى الاستجابة للضغوط الإنجليزية الفرنسية "لسحب الذرائع وتفويت الفرصة"، مما أشعل مواجهة بين الحكومة الإصلاحية والقوى الثورية اضطرت معها الحكومة إلى الاستقالة وأعقبتها حكومة ثورية بقيادة محمود سامي البارودي، وكان عرابي هو وزير الحربية فيها. هنا بدا أن الأمر سينفلت وأن نظام محمد علي على وشك السقوط، ودعم السلطان العثماني تلك الحركة بكل قوته، وأنعم على عرابي برتبة الباشا، وكانت له معه مراسلات سرية أبدى فيها موافقته على إنهاء نظام أسرة محمد علي، وتلك هي الشرعية الكبرى التي حازتها الثورة العرابية، كذلك فقد ألقى السلطان عبد الحميد بكل ثقله السياسي لمحاولة منع الإنجليز من احتلال مصر في مؤتمر القسطنطينية، إلا أنه لم ينجح، واستطاع الإنجليز بتفاهم مع الحكومات الغربية أن ينزلوا لاحتلال مصر بذريعة أن الأجانب في خطر وأن عرابي مثير للقلاقل والأزمات فوق أنه يمارس إجراءات عدوانية "تحصين ساحل الإسكندرية"! لسنا هنا بإزاء حكاية الثورة العرابية ولكن لحكاية: كيف فشلت تلك الثورة التي اجتمع لها كثير من عوامل النجاح؟ الواقع أنه يمكن تلخيص هذا الفشل في سبب رئيسي كبير هو: العقلية العسكرية لأحمد عرابي. كان عرابي ثمرة من نظام الجندية الذي بدأ في عصر محمد علي، الجيش النظامي الرسمي المتدرب على طاعة الأوامر والمتشرب للتقاليد العسكرية الغربية، التي بدأت بالجنرال الفرنسي سيف (سليمان باشا الفرنساوي) واستمرت مع بقية القيادات الفرنسية والأمريكية والإيطالية التي توالت وانتشرت في المراتب العليا للجيش المصري. لقد كان عرابي متدينًا، لكنه لم يتشرب الجندية الإسلامية بل تشرب الجندية الغربية، وقد أدى هذا لثلاث مشكلات عظيمة صنعت بمجموعها فشل الثورة العرابية. 1. الإيمان بالقانون الدولي كانت الخطة البريطانية لاحتلال مصر هي الهجوم عليها من ناحيتين؛ الأولى: من الإسكندرية عبر البحر المتوسط بضربها بالمدافع المحمولة على السفن البحرية والتي لا تستطيع المدافع المصرية أن تصل إلى مداها، ثم إنزال القوات البرية لتسير إلى القاهرة. والثانية: عبر البحر الأحمر عند السويس حيث تأتي القوات الإنجليزية من الهند والخليج لتدخل البحر الأحمر ثم إلى قناة السويس ثم تنزل برًّا إلى القاهرة. فكر عرابي تلقائيًّا في ردم قناة السويس، وهو التفكير الحربي المنطقي والطبيعي ليمنع رسو السفن الحربية وإنزال القوات الإنجليزية، وهنا تصدى له ديليسبس صاحب شركة القناة، وأحد المجرمين العتاة الكبار في تاريخ مصر، وأقنعه بكل وسائل الإقناع: الرغبة والرهبة أن القناة ممر ملاحي دولي محايد لا يمكن لبريطانيا خرق القانون الدولي واستعماله للأغراض الحربية، وأنه هو –أي ديليسبس- لا يمكن أن يسمح بهذا، ومن ورائه فرنسا. إيمان عرابي بالقانون الدولي والشرعية الدولية وما إلى ذلك منعه من ردم القناة.. وهو المسار الذي دخلت منه القوات البريطانية، ومنه أوقعت بالجيش المصري هزيمة التل الكبير المشهورة، والتي كانت بداية الاحتلال. أما في الجهة التي حصنها عرابي ووضع فيها القوات المصرية فقد استطاع أن ينزل هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية عند كفر الدوار. ولو لم تجد القوات البريطانية ممر قناة السويس لماتوا جوعًا وعطشًا وما استطاعوا إنزل قواتهم في الصحراء الشرقية والتعرض لمهالكها. أما ديليسبس فقد أرسل برقية إلى عرابي يتأسف فيها أن بريطانيا خرقت القانون الدولي وأن لعرابي أن يفعل الآن ما يشاء! يومًا ما حين تنتهي دولة محمد علي العلمانية العسكرية سينصب المصريون تمثالًا لديليسبس لرجمه، بل ولجمعوا مئات أو آلاف التريليونات من فرنسا للتعويض عما أجرمه في حق بلادنا بدعم وتواطؤ حكومته. 2. الإيمان بمؤسسات الدولة بين بداية بواكير الثورة وبين وقوع الاحتلال الإنجليزي ست سنوات، وبين بداية تولي وزارة الثورة وبين احتلال القاهرة سبعة أشهر (من فبراير – سبتمبر 1882م)، وطوال الوقت لم يتخذ عرابي وسيلة للاستفادة من قوات المتطوعين القادمين للجهاد معه في سياق الثورة أو في سياق مقاومة الاحتلال الإنجليزي! لقد اعتمد عرابي على "مؤسسة الجيش" النظامي، وهو ما جعل طاقة ضخمة من الشعب محذوفة من المعركة، لا هي تدري كيف تساعد، ولا القيادة تفكر في الاستعانة بها، وهو ما انعكس بقوة على نتائج المعركة التي انتهت بالاحتلال الإنجليزي. إن فكرة تسليح الشعب كانت حاضرة بقوة طوال تاريخنا الإسلامي، حيث كانت الشعوب بطبيعتها مسلحة، لكن منذ أن حرم محمد علي على الناس حمل السلاح خرج الشعب من المعركة وصار عبدًا للاستبداد ثم للاحتلال، كالأسير الأعزل بين يدي السجان المسلح! وقد كان ممكنًا لفكرة مثل تسليح الشعب أن تغير ميزان القوى كله لتجعل طاقة المقاومة أضعاف أضعاف ما يستطيعه الجيش النظامي. لكن عرابي الذي تربى في جيش الدولة النظامي لم يكن بالذي تخطر برأسه مثل تلك الأفكار المناقضة لطبيعة الدولة الحديثة ومنهجها، فلم يكن في المواجهة إلا الجيش وحده بينما الجماهير لم تملك إلا مقاعد المتفرجين والمشجعين.. وقديما كان الجيش الرسمي إن هزم بدأت المقاومة الشعبية، أما منذ محمد علي وحتى اللحظة فإن هزيمة الجيش الرسمي تعني سقوط البلد كلها في قبضة الاحتلال، وهو ما كان! 3. الإيمان بالتقاليد العسكرية حين هُزِم جيش عرابي المأخوذ على حين غرة في التل الكبير، تصرف أحمد عرابي كعسكري مهزوم لا كقائد ثورة. والتقاليد العسكرية التي شربها عرابي في جيش محمد علي تدفع بالقائد المهزوم إلى تسليم نفسه للمنتصر، متوقعًا من الطرف المنتصر أن يتعامل معه كقائد مهزوم، بينما التقاليد الإسلامية بل ودوافع الفطرة الطبيعية إن لم تتلوث تقضي على القائد المهزوم أن يتحول إلى قائد مقاومة سرية تستحث كل ما من شأنه إشعال الأرض تحت أقدام العدو الغاصب. ولقد كان بالإمكان إن لم يستسلم عرابي أن تواصل المناطق المنتفضة والتي استعدت للمقاومة نضالها، وهو الأمر الذي تحطم بتسليم عرابي لنفسه، فانتهى حلم المقاومة السرية. ومن جهتهم سعى الإنجليز من لحظة الاحتلال الأولى إلى تسريح الجيش المصري وإبقاء قوة صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي إن استخدمت فإنما ستكون كقوة "مكافحة الإرهاب" لا غير. هكذا فشلت الثورة العرابية.. فشلت بالقناعات والأفكار قبل أن تفشل لأسباب القوة والحرب، وبدأ عصر الإنجليز. وهكذا تجرع المصريون جميعًا ولسبعين سنة ثمار الإيمان بالقانون الدولي، والإيمان بمؤسسات الدولة، والإيمان بالأعراف والتقاليد العسكرية.. والمؤسف أن من لا يُتَهمون في شرف ووطنية لا زالوا يؤمنون بتلك الثلاثية التي أوردتنا المهالك والمجازر والمذابح، وألقت ببلادنا في يد الإنجليز قديمًا، وفي يد الصهاينة والأمريكان اليوم! ــــــــــــــــــــــــــــــــ حسابنا على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
لهذا فشلت الثورة العرابية
بقلم: محمد إلهامي

[لتحميل العدد الجديد من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: https://goo.gl/qDdodQ]

كانت الثورة العرابية أخطر تهديد لنظام الدولة الحديثة العلمانية التي أسسها محمد علي باشا، تلك الدولة التي حطمت نظام المجتمع الإسلامي وأنشأت نظامًا استبداديًّا قاهرًا على نمط فرعوني جديد تتحول فيه السلطة لغول يستولي ويستعبد كل ما في البلاد من بشر وموارد.

الأدهى والأمر أن نظام محمد علي تأسس على يد نخبة من الأجانب، فلقد كانوا سادة البلاد وأصحاب الأمر والنهي فيها، وقد استكثر محمد علي في بلاطه من اليهود والنصارى كما لم يفعل حاكم في كل التاريخ الإسلامي، وهو الأمر الذي استمر واستقر من بعده بأفحش وأشنع مما كان في وقته، حتى وصل الحال في عصر الخديوي إسماعيل إلى أن كان الأجانب هم سادة كل مؤسسات البلد المهمة من الجيش وحتى البريد، وصار لهم وزارتان في الحكومة المصرية: المالية والعمل (الأشغال)، وكان النظام القانوني في مصر يجعل الأجانب سادة حتى على الخديوي نفسه، وتستطيع محكمة أجنبية أن تقضي
بحجز أموال الخديوي ومنعه من التصرف فيها.
كانت مصر كنزًا يسيل في جيوب الأجانب، حتى إن الشحاذ في أوروبا كان يلقي بنفسه في المركب (هجرة غير شرعية!) ليصل إلى مصر، فيجد النظم والقوانين والقنصليات والحماية الأجنبية توفر له كل عوامل الغنى والثراء ونهب الموارد المصرية. ولهذا فقد كان النظام في مصر محققًا للمصالح الأجنبية كما لم يكن نظام آخر، وهذا بغير تكلفة
الاحتلال العسكري المباشر.
كان من نتائج هذا الوضع وجود سخط شعبي عارم جعل حركة تململ محدودة في الجيش تتحول من فورها إلى ثورة شعبية كبيرة، وكان من نتائجه أيضًا أن يصير تغيير النظام في مصر مشكلة دولية لا محلية، تتحرك لها البوارج والقوات الأجنبية، وتتفق عليها القوى الاستعمارية رغم اختلافهم الواسع فيما سوى ذلك من المصالح.

حاولت القوى الاستعمارية نزع فتيل الثورة بتغيير رأس النظام (الخديوي إسماعيل) فعُزِل الخديوي الذي التقت على عزله رغبات جميع الأطراف: الشعب والنخب المتذمرة، القوى الأجنبية للحفاظ على النظام واستباق الثورة، السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني) الذي يحاول استعادة سلطانه على مصر ومقاومة التغلغل الأجنبي.

جاء ابنه الخديوي توفيق فسعى في تصفية الثورة ضمن إجراءات التغيير، فنفى أبرز رموز الحراك الثوري: جمال الدين الأفغاني بعملية سرية سريعة بمنتصف الليل، وترأس بنفسه الحكومة ليغل يد البرلمان عن محاسبتها، وجاء بحكومة يقودها القانوني الإصلاحي "محمد شريف باشا" الملقب بـ "أبو الدستور المصري"، وأجرى تعديلات في ألوية الجيش ليبعد بها ألوية عرابي ورفيقيه عن القاهرة، ثم حاول القبض على عرابي ورفاقه لولا أنهم انتبهوا. على مسار آخر سعى محمد شريف باشا إلى تصفية قوة عرابي وإلى غل يد البرلمان، وإلى الاستجابة للضغوط الإنجليزية الفرنسية "لسحب الذرائع وتفويت الفرصة"، مما أشعل مواجهة بين الحكومة الإصلاحية والقوى الثورية اضطرت معها الحكومة إلى الاستقالة وأعقبتها حكومة ثورية بقيادة محمود سامي البارودي، وكان عرابي هو وزير الحربية فيها.

هنا بدا أن الأمر سينفلت وأن نظام محمد علي على وشك السقوط، ودعم السلطان العثماني تلك الحركة بكل قوته، وأنعم على عرابي برتبة الباشا، وكانت له معه مراسلات سرية أبدى فيها موافقته على إنهاء نظام أسرة محمد علي، وتلك هي الشرعية الكبرى التي حازتها الثورة العرابية، كذلك فقد ألقى السلطان عبد الحميد بكل ثقله السياسي لمحاولة منع الإنجليز من احتلال مصر في مؤتمر القسطنطينية، إلا أنه لم ينجح، واستطاع الإنجليز بتفاهم مع الحكومات الغربية أن ينزلوا لاحتلال مصر بذريعة أن الأجانب في خطر وأن عرابي مثير للقلاقل والأزمات فوق أنه يمارس إجراءات عدوانية "تحصين ساحل الإسكندرية"!

لسنا هنا بإزاء حكاية الثورة العرابية ولكن لحكاية: كيف فشلت تلك الثورة التي اجتمع لها كثير من عوامل النجاح؟ الواقع أنه يمكن تلخيص هذا الفشل في سبب رئيسي كبير هو: العقلية العسكرية لأحمد عرابي.

كان عرابي ثمرة من نظام الجندية الذي بدأ في عصر محمد علي، الجيش النظامي الرسمي المتدرب على طاعة الأوامر والمتشرب للتقاليد العسكرية الغربية، التي بدأت بالجنرال الفرنسي سيف (سليمان باشا الفرنساوي) واستمرت مع بقية القيادات الفرنسية والأمريكية والإيطالية التي توالت وانتشرت في المراتب العليا للجيش المصري.

لقد كان عرابي متدينًا، لكنه لم يتشرب الجندية الإسلامية بل تشرب الجندية الغربية، وقد أدى هذا لثلاث مشكلات عظيمة صنعت بمجموعها فشل الثورة العرابية.

1. الإيمان بالقانون الدولي
كانت الخطة البريطانية لاحتلال مصر هي الهجوم عليها من ناحيتين؛ الأولى: من الإسكندرية عبر البحر المتوسط بضربها بالمدافع المحمولة على السفن البحرية والتي لا تستطيع المدافع المصرية أن تصل إلى مداها، ثم إنزال القوات البرية لتسير إلى القاهرة.

والثانية: عبر البحر الأحمر عند السويس حيث تأتي القوات الإنجليزية من الهند والخليج لتدخل البحر الأحمر ثم إلى قناة السويس ثم تنزل برًّا إلى القاهرة.

فكر عرابي تلقائيًّا في ردم قناة السويس، وهو التفكير الحربي المنطقي والطبيعي ليمنع رسو السفن الحربية وإنزال القوات الإنجليزية، وهنا تصدى له ديليسبس صاحب شركة القناة، وأحد المجرمين العتاة الكبار في تاريخ مصر، وأقنعه بكل وسائل الإقناع: الرغبة والرهبة أن القناة ممر ملاحي دولي محايد لا يمكن لبريطانيا خرق القانون الدولي واستعماله للأغراض الحربية، وأنه هو –أي ديليسبس- لا يمكن أن يسمح بهذا، ومن ورائه فرنسا.

إيمان عرابي بالقانون الدولي والشرعية الدولية وما إلى ذلك منعه من ردم القناة.. وهو المسار الذي دخلت منه القوات البريطانية، ومنه أوقعت بالجيش المصري هزيمة التل الكبير المشهورة، والتي كانت بداية الاحتلال. أما في الجهة التي حصنها عرابي ووضع فيها القوات المصرية فقد استطاع أن ينزل هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية عند كفر الدوار. ولو لم تجد القوات البريطانية ممر قناة السويس لماتوا جوعًا وعطشًا وما استطاعوا إنزل قواتهم في الصحراء الشرقية والتعرض لمهالكها.

أما ديليسبس فقد أرسل برقية إلى عرابي يتأسف فيها أن بريطانيا خرقت القانون الدولي وأن لعرابي أن يفعل الآن ما يشاء!

يومًا ما حين تنتهي دولة محمد علي العلمانية العسكرية سينصب المصريون تمثالًا لديليسبس لرجمه، بل ولجمعوا مئات أو آلاف التريليونات من فرنسا للتعويض عما أجرمه في حق بلادنا بدعم وتواطؤ حكومته.

2. الإيمان بمؤسسات الدولة
بين بداية بواكير الثورة وبين وقوع الاحتلال الإنجليزي ست سنوات، وبين بداية تولي وزارة الثورة وبين احتلال القاهرة سبعة أشهر (من فبراير – سبتمبر 1882م)، وطوال الوقت لم يتخذ عرابي وسيلة للاستفادة من قوات المتطوعين القادمين للجهاد معه في سياق الثورة أو في سياق مقاومة الاحتلال الإنجليزي!

لقد اعتمد عرابي على "مؤسسة الجيش" النظامي، وهو ما جعل طاقة ضخمة من الشعب محذوفة من المعركة، لا هي تدري كيف تساعد، ولا القيادة تفكر في الاستعانة بها، وهو ما انعكس بقوة على نتائج المعركة التي انتهت بالاحتلال الإنجليزي.

إن فكرة تسليح الشعب كانت حاضرة بقوة طوال تاريخنا الإسلامي، حيث كانت الشعوب بطبيعتها مسلحة، لكن منذ أن حرم محمد علي على الناس حمل السلاح خرج الشعب من المعركة وصار عبدًا للاستبداد ثم للاحتلال، كالأسير الأعزل بين يدي السجان المسلح! وقد كان ممكنًا لفكرة مثل تسليح الشعب أن تغير ميزان القوى كله لتجعل طاقة المقاومة أضعاف أضعاف ما يستطيعه الجيش النظامي.

لكن عرابي الذي تربى في جيش الدولة النظامي لم يكن بالذي تخطر برأسه مثل تلك الأفكار المناقضة لطبيعة الدولة الحديثة ومنهجها، فلم يكن في المواجهة إلا الجيش وحده بينما الجماهير لم تملك إلا مقاعد المتفرجين والمشجعين.. وقديما كان الجيش الرسمي إن هزم بدأت المقاومة الشعبية، أما منذ محمد علي وحتى اللحظة فإن هزيمة الجيش الرسمي تعني سقوط البلد كلها في قبضة الاحتلال، وهو ما كان!

3. الإيمان بالتقاليد العسكرية
حين هُزِم جيش عرابي المأخوذ على حين غرة في التل الكبير، تصرف أحمد عرابي كعسكري مهزوم لا كقائد ثورة.

والتقاليد العسكرية التي شربها عرابي في جيش محمد علي تدفع بالقائد المهزوم إلى تسليم نفسه للمنتصر، متوقعًا من الطرف المنتصر أن يتعامل معه كقائد مهزوم، بينما التقاليد الإسلامية بل ودوافع الفطرة الطبيعية إن لم تتلوث تقضي على القائد المهزوم أن يتحول إلى قائد مقاومة سرية تستحث كل ما من شأنه إشعال الأرض تحت أقدام العدو الغاصب.

ولقد كان بالإمكان إن لم يستسلم عرابي أن تواصل المناطق المنتفضة والتي استعدت للمقاومة نضالها، وهو الأمر الذي تحطم بتسليم عرابي لنفسه، فانتهى حلم المقاومة السرية. ومن جهتهم سعى الإنجليز من لحظة الاحتلال الأولى إلى تسريح الجيش المصري وإبقاء قوة صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي إن استخدمت فإنما ستكون كقوة "مكافحة الإرهاب" لا غير.

هكذا فشلت الثورة العرابية..
فشلت بالقناعات والأفكار قبل أن تفشل لأسباب القوة والحرب، وبدأ عصر الإنجليز.
وهكذا تجرع المصريون جميعًا ولسبعين سنة ثمار الإيمان بالقانون الدولي، والإيمان بمؤسسات الدولة، والإيمان بالأعراف والتقاليد العسكرية.. والمؤسف أن من لا يُتَهمون في شرف ووطنية لا زالوا يؤمنون بتلك الثلاثية التي أوردتنا المهالك والمجازر والمذابح، وألقت ببلادنا في يد الإنجليز قديمًا، وفي يد الصهاينة والأمريكان اليوم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسابنا على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏١١‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٦:٣١ م‏
مقال: الغزالي ثائرًا! بقلم د. @[710607845:2048:وصفي أبو زيد] [لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق كاملًا: https://goo.gl/qDdodQ] في 22 من هذا الشهر، تمر بنا الذكرى المائة على مجيئ رجل حبيب إلى قلوبنا عزيز على أنفسنا إلى الدنيا، نذر نفسه للدعوة إلى الله، والجهاد من أجل إعزاز رسالة الإسلام، والدفاع عنه في كل ميدان، ورد الشبهات عن حماه، إنه الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه. ولقد نذر الشيخ نصف حياته الفكرية الأول لبيان مفاسد الاستبداد والمستبدين، ومقاومة الزحف الأحمر والمذاهب الفكرية الهدامة، في حين كان نصف حياته الأخير متمحورًا حول كشف عوار الفكر "الأحول"، وبيان زيف التدين المغشوش، والتحذير من الفهم المغلوط للإسلام. ومن خلال معرفتي المتواضعة بتراث الشيخ الغزالي رأيت أن نتحدث في هذه المناسبة عن رؤيته للثورات والثوار، لا سيما وأمتنا العربية تمر بعصر الثورات الشعبية، التي أجرى الله تعالى قدرها على هذه الأمة في هذا الوقت، بعد أن صلِيَت الشعوب نار الظلم والقهر ونهب مقدرات البلاد. أسباب الثورات ومطالب الثوار يرى الغزالي أن أسباب الثورات هي: شيوع الظلم، ومصادرة الحريات، وسلب ضرورات الجماهير، يقول: "العدل هو المساواة التي لا تعطي أحدا حقًّا ليس له، ولا تبخس إنسانًا شيئًا من مقومات حياته الكريمة! غير أن الدنيا كانت عند سوء الظن بها! فما لبثت حقوق الأمم المعقولة أن وضعت على موائد المترفين، فأكلوها أكلا لَمًّا، وسلب الألوف ضروراتهم ليُتخَم بها أفراد، وصودرت حرياتٌ شتى ليشبع طغيان الكبر عند الأوغاد، وقد تُقلب بعض صحائف التاريخ فتسمع بها ضجيج الثوار الذين حطموا الأصنام، وهتكوا حجاب الخرافات المقدسة، ولكن صحائف التاريخ الطويلة، عليها صمت مريب، كأنما هو صمت القبور، التي ماتت فيها الآمال، وذلت فيها الرجال من طول ما توارثت البشرية من عسف وطغيان وتشريد"([1]). ومن أسبابها أيضا شيوع حكم الفرد، يقول: "ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها"([2]). وفي مقام آخر يبين فيه أن سر نجاح الثورات مرتبط بظهور غصب حقوق الناس، وفشوِّ أكل أموالهم بالباطل، يقول: "إن الأمة التي يفشو فيها أكل أجور العامل، وغصب حقوقه الواضحة، ليست الأمة التي تعيش في ضمان السماء، أو التي تتوقى نكبات الحياة، أو التي إذا أصابها حرج توقع لها الفرج، بل على العكس، لا تكاد تتردى في هاوية حتى تجد من يتقدم ليهيل عليها التراب لا لينجدها: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}. وذلك سر نجاح الثورات الكبرى في هذه الحياة! إنها تندلع في نظم قد دب فيها البلى، وطال منها الظلم، وابتعد عنها التوفيق، وأدبر عنها النجاح، فما تكاد نذر التمرد على الطغيان والاستبداد تظهر في الأفق حتى يفغر التاريخ فمه ليبتلع دولة شاخت، ويسلكها في عداد الذكريات المرة، وليتأذن بميلاد دولة جديدة ونظام جديد تتعلق به آمال البشر كرة أخرى"([3]). ويبين الشيخ الحالة النفسية والواقعية للثوار حين تحقُّق الثورة كرد فعل على طول وقوع الظلم عليهم والعسف بهم: "ما إن اندلعت الثورات في القرن الأخير حتى تطلعت الجماهير إلى مساواة خيالية! كالظمآن الذي طال عليه العطش، فلما وقع على الماء أخذ يعب ويعب حتى خرج الري من أظافره"([4]). وفي الوقت نفسه يستبعد الشيخ الإمام، بل يرفض، إلباس الثورات ثوب الاضطهاد الديني سببًا لها، يقول: "وإلباس الثورة في مصر ثوب الاضطهاد الديني محاولة فاشلة لجعل تاريخ الإسلام مشابًها لتاريخ النصرانية في التعصب ضد الأقليات"([5]). وظيفة الحاكم والحكومة وحكم الخروج عليهما ووقته وثمن الثورات وفي سياق الثورات وبعد بيان أسبابها يحسن أن نورد تكييف الشيخ لوضعية الحاكم ووظائفه في الإسلام، وكذلك الحكومة وواجباتها نحو الأمة، يقول: "وظيفة حاكم ما في أي بلد مسلم، أن يحرس الإيمان ويقيم العدالة ويصون المصالح، فإذا فرط في أداء هذه الواجبات فقد قصر في أعمال وظيفته، ووجب تنبيهه وإرشاده، أما إذا هدم الإيمان بالإلحاد، وأضاع العدالة بالجور، وأهمل المصالح باللهو، فقد خرج عن طبيعة وظيفته ووجب إسقاطه"([6]). ويبين متى ينحل العقد الذي بين الحاكم والمحكومين، فيقول: "والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد!"([7]). ويبين بإدراك تحليلي لما يبدأ عليه أمر الحاكم حين توليته، وما يؤول إليه حاله فيما بعد، فيقول: "وللحُكم إغراء يزين لمتوليه أن يتخفف رويدًا رويدًا من تبعات الفضيلة والعفاف، وما أكثر ما يذكر الحاكم شخصه وينسى أمته، وما أسرع أن ينسى مثله العليا ويهبط عنها قليلًا قليًلا، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع في غير ما منح له! بيد أن دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون فيجب أن ينتصب له في كل زمان ومكان من يذودون عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا في ذلك الويل والثبور"([8]). وهذا الذود وذاك الصون له ضريبته وثمنه كما ذكر الشيخ، ويؤكد دائما على هذا المعنى فيقول: "وليس هذا التغيير سهلا؛ فإن الأيدي الحمراء وحدها هي التي تصنعه! الأيدي التي عناها الشاعر يوم قال: وللحرية الحمراء باب * بكل يد مضرجة يدق"([9]). ضوابط للثورات وحتى تؤتي الثورات ثمارها، وتحقق غاياتها، وتلبي تطلعات الشعوب التي قامت من أجلها، فقد تحدث الشيخ عن سياسة عامة لا يصح أن تغيب عن عقول المصلحين أثناء الثورات، وأورد ضوابط أخلاقية يجب أن ينضبط بها الثوار حتى لا نسيء من حيث أردنا الإحسان، يقول الشيخ: "على أن لقول الحق وغرسه في المجتمع سياسة لا ينبغي أن تغيب عن أذهان الدعاة والمصلحين، فليس الهدف المقصود أن يستقتل المرشدون من غير جدوى، وأن يضحوا بغير ثمرة؛ فذلك ما لا ينتفع به الحق، ولا يضار به الباطل، وقد رأى الفقهاء أن إزالة المنكر إذا استتبعت مفسدة أعظم، فمن الخير التربص بها وارتقاب الفرص السانحة لها، والسكوت حينئذ ليس سكوت مجبنة وتخوف، ولكنه ترسم سياسة أفضل في حرب المنكر كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}. كما أن الحماسة للخير لا تعنى السفاهة على الناس، وسوء الأدب في عشرتهم، والمتاجرة بأخطائهم؛ بغية فضحهم والتشهير بهم، فذلك كله ليس خلق المسلم ولا منهجه في تدعيم الجماعة ورفع شأنها، فالحرية المطلوبة حدها الأعلى أن نتمكن من قول الحق، لا أن نتمكن من التطاول والبذاء!"([10]). شروط نجاح الثورات ونجاح الثورات والنهضات مرهون بشروط متى تحققت نجحت الثورة، ومتى غابت لم تُحقق الثورة نجاحًا يذكر؛ ولهذا يرى الشيخ أن من شروط نجاحها التمهيد لها بأدبيات تملأ النفوس وتشحذ العقول وتحمس الهمم بما يحقق يقظة إنسانية عالية وشاملة، يقول الشيخ: "إن نجاح النهضات وبقاءها يرتبطان بمقدار ما تستند إليه من مشاعر وأفكار، بل إن الارتقاء الصحيح لا يكون إلا معتمدًا على خصب المشاعر ونضارة الأفكار؛ ولذلك لابد في الثورات الاجتماعية الكبرى من ثورات أدبية، تمهد لها، وتملأ النفوس والعقول إيمانًا بها.. وقد تعتري الأمم هزات موقوتة، أو انكسارات وانتصارات سريعة، وقد يصيب الحضارات مد وجزر لأسباب شخصية أو محلية، وذلك كله ينظر إليه المؤرخون نظرة عابرة، ولا ينتظرون من ورائه نتائج بعيدة المدى، أما النهضات التي تصحبها يقظات إنسانية واسعة، وتحف بها عواطف جياشة ونظرات عميقة؛ فهي أمر له خطره، وله ما بعده"([11]). كما أن من شروط نجاحها - عند الشيخ وعند العقلاء - تحقق الوحدة على اختلاف المشارب والأفكار، فمتى تخلى الجميع عن رؤاه الخاصة ومكاسبه المحدودة، وذاب مع غيره في إطار تحقيق هدف واحد ومصلحة كبرى تحقَّقَ النجاح بلا ريب؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا}، أما حين تجتمع الأجساد وتتفرق العقول والأرواح فهنا يكون الفشل المؤكد، ويقوم المرتزقة بسرقة الثورات ووراثتها، يقول الشيخ: "سمعت قائلا يردد في ألم: نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادًا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها، ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد في الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟ إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!"([12]). هكذا تحدث إمامنا المجدد الثائر على الظلم والظالمين الشيخ محمد الغزالي عن الثورات في ضوء ما سبق من ثورات في العالم، لكن حديثه عنها لم يزل صالحا لاستلهامه في ثورات معاصرة أو ثورات تالية، وهذا مستمد من الفكر الإسلامي الذي نشأ في حضن القرآن وتحت راية السنة؛ ولهذا يستمد خلوده من خلودهما، فرحمة الله عليه. ([1]) الإسلام المفترى عليه: 46. طبعة نهضة مصر، وكل الطبعات التي اعتمدنا عليها هي طبعة نهضة مصر. ([2]) من مقالات الشيخ محمد الغزالي: 1/66. ([3]) الإسلام والمناهج الاشتراكية: 190. ([4]) الإسلام المفترى عليه: 46. ([5]) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام: 239. ([6]) الإسلام والاستبداد السياسي: 160. ([7]) الإسلام والاستبداد السياسي: 162. ([8]) الإسلام والاستبداد السياسي: 163. ([9]) تأملات في الدين والحياة: 25. ([10]) الإسلام والاستبداد السياسي: 164. ([11]) نظرات في القرآن: 12. ([12]) الحق المر: 1/57.
مقال: الغزالي ثائرًا!
بقلم د. وصفي أبو زيد

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق كاملًا: https://goo.gl/qDdodQ]

في 22 من هذا الشهر، تمر بنا الذكرى المائة على مجيئ رجل حبيب إلى قلوبنا عزيز على أنفسنا إلى الدنيا، نذر نفسه للدعوة إلى الله، والجهاد من أجل إعزاز رسالة الإسلام، والدفاع عنه في كل ميدان، ورد الشبهات عن حماه، إنه الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه.
ولقد نذر الشيخ نصف حياته الفكرية الأول لبيان مفاسد الاستبداد والمستبدين، ومقاومة الزحف الأحمر والمذاهب الفكرية الهدامة، في حين كان نصف حياته الأخير متمحورًا حول كشف عوار الفكر "الأحول"، وبيان زيف التدين المغشوش، والتحذير من الفهم المغلوط للإسلام.
ومن خلال معرفتي المتواضعة بتراث الشيخ الغزالي رأيت أن نتحدث في هذه المناسبة عن رؤيته للثورات والثوار، لا سيما وأمتنا العربية تمر بعصر الثورات الشعبية، التي أجرى الله تعالى قدرها على هذه الأمة في هذا الوقت، بعد أن صلِيَت الشعوب نار الظلم والقهر ونهب مقدرات البلاد.
أسباب الثورات ومطالب الثوار
يرى الغزالي أن أسباب الثورات هي: شيوع الظلم، ومصادرة الحريات، وسلب ضرورات الجماهير، يقول: "العدل هو المساواة التي لا تعطي أحدا حقًّا ليس له، ولا تبخس إنسانًا شيئًا من مقومات حياته الكريمة! غير أن الدنيا كانت عند سوء الظن بها! فما لبثت حقوق الأمم المعقولة أن وضعت على موائد المترفين، فأكلوها أكلا لَمًّا، وسلب الألوف ضروراتهم ليُتخَم بها أفراد، وصودرت حرياتٌ شتى ليشبع طغيان الكبر عند الأوغاد، وقد تُقلب بعض صحائف التاريخ فتسمع بها ضجيج الثوار الذين حطموا الأصنام، وهتكوا حجاب الخرافات المقدسة، ولكن صحائف التاريخ الطويلة، عليها صمت مريب، كأنما هو صمت القبور، التي ماتت فيها الآمال، وذلت فيها الرجال من طول ما توارثت البشرية من عسف وطغيان وتشريد"([1]).
ومن أسبابها أيضا شيوع حكم الفرد، يقول: "ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها"([2]).
وفي مقام آخر يبين فيه أن سر نجاح الثورات مرتبط بظهور غصب حقوق الناس، وفشوِّ أكل أموالهم بالباطل، يقول: "إن الأمة التي يفشو فيها أكل أجور العامل، وغصب حقوقه الواضحة، ليست الأمة التي تعيش في ضمان السماء، أو التي تتوقى نكبات الحياة، أو التي إذا أصابها حرج توقع لها الفرج، بل على العكس، لا تكاد تتردى في هاوية حتى تجد من يتقدم ليهيل عليها التراب لا لينجدها: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}. وذلك سر نجاح الثورات الكبرى في هذه الحياة! إنها تندلع في نظم قد دب فيها البلى، وطال منها الظلم، وابتعد عنها التوفيق، وأدبر عنها النجاح، فما تكاد نذر التمرد على الطغيان والاستبداد تظهر في الأفق حتى يفغر التاريخ فمه ليبتلع دولة شاخت، ويسلكها في عداد الذكريات المرة، وليتأذن بميلاد دولة جديدة ونظام جديد تتعلق به آمال البشر كرة أخرى"([3]).
ويبين الشيخ الحالة النفسية والواقعية للثوار حين تحقُّق الثورة كرد فعل على طول وقوع الظلم عليهم والعسف بهم: "ما إن اندلعت الثورات في القرن الأخير حتى تطلعت الجماهير إلى مساواة خيالية! كالظمآن الذي طال عليه العطش، فلما وقع على الماء أخذ يعب ويعب حتى خرج الري من أظافره"([4]).
وفي الوقت نفسه يستبعد الشيخ الإمام، بل يرفض، إلباس الثورات ثوب الاضطهاد الديني سببًا لها، يقول: "وإلباس الثورة في مصر ثوب الاضطهاد الديني محاولة فاشلة لجعل تاريخ الإسلام مشابًها لتاريخ النصرانية في التعصب ضد الأقليات"([5]).
وظيفة الحاكم والحكومة وحكم الخروج عليهما ووقته وثمن الثورات
وفي سياق الثورات وبعد بيان أسبابها يحسن أن نورد تكييف الشيخ لوضعية الحاكم ووظائفه في الإسلام، وكذلك الحكومة وواجباتها نحو الأمة، يقول: "وظيفة حاكم ما في أي بلد مسلم، أن يحرس الإيمان ويقيم العدالة ويصون المصالح، فإذا فرط في أداء هذه الواجبات فقد قصر في أعمال وظيفته، ووجب تنبيهه وإرشاده، أما إذا هدم الإيمان بالإلحاد، وأضاع العدالة بالجور، وأهمل المصالح باللهو، فقد خرج عن طبيعة وظيفته ووجب إسقاطه"([6]).
ويبين متى ينحل العقد الذي بين الحاكم والمحكومين، فيقول: "والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد!"([7]).
ويبين بإدراك تحليلي لما يبدأ عليه أمر الحاكم حين توليته، وما يؤول إليه حاله فيما بعد، فيقول: "وللحُكم إغراء يزين لمتوليه أن يتخفف رويدًا رويدًا من تبعات الفضيلة والعفاف، وما أكثر ما يذكر الحاكم شخصه وينسى أمته، وما أسرع أن ينسى مثله العليا ويهبط عنها قليلًا قليًلا، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع في غير ما منح له! بيد أن دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون فيجب أن ينتصب له في كل زمان ومكان من يذودون عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا في ذلك الويل والثبور"([8]).
وهذا الذود وذاك الصون له ضريبته وثمنه كما ذكر الشيخ، ويؤكد دائما على هذا المعنى فيقول: "وليس هذا التغيير سهلا؛ فإن الأيدي الحمراء وحدها هي التي تصنعه! الأيدي التي عناها الشاعر يوم قال: وللحرية الحمراء باب * بكل يد مضرجة يدق"([9]).
ضوابط للثورات
وحتى تؤتي الثورات ثمارها، وتحقق غاياتها، وتلبي تطلعات الشعوب التي قامت من أجلها، فقد تحدث الشيخ عن سياسة عامة لا يصح أن تغيب عن عقول المصلحين أثناء الثورات، وأورد ضوابط أخلاقية يجب أن ينضبط بها الثوار حتى لا نسيء من حيث أردنا الإحسان، يقول الشيخ: "على أن لقول الحق وغرسه في المجتمع سياسة لا ينبغي أن تغيب عن أذهان الدعاة والمصلحين، فليس الهدف المقصود أن يستقتل المرشدون من غير جدوى، وأن يضحوا بغير ثمرة؛ فذلك ما لا ينتفع به الحق، ولا يضار به الباطل، وقد رأى الفقهاء أن إزالة المنكر إذا استتبعت مفسدة أعظم، فمن الخير التربص بها وارتقاب الفرص السانحة لها، والسكوت حينئذ ليس سكوت مجبنة وتخوف، ولكنه ترسم سياسة أفضل في حرب المنكر كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}. كما أن الحماسة للخير لا تعنى السفاهة على الناس، وسوء الأدب في عشرتهم، والمتاجرة بأخطائهم؛ بغية فضحهم والتشهير بهم، فذلك كله ليس خلق المسلم ولا منهجه في تدعيم الجماعة ورفع شأنها، فالحرية المطلوبة حدها الأعلى أن نتمكن من قول الحق، لا أن نتمكن من التطاول والبذاء!"([10]).
شروط نجاح الثورات
ونجاح الثورات والنهضات مرهون بشروط متى تحققت نجحت الثورة، ومتى غابت لم تُحقق الثورة نجاحًا يذكر؛ ولهذا يرى الشيخ أن من شروط نجاحها التمهيد لها بأدبيات تملأ النفوس وتشحذ العقول وتحمس الهمم بما يحقق يقظة إنسانية عالية وشاملة، يقول الشيخ: "إن نجاح النهضات وبقاءها يرتبطان بمقدار ما تستند إليه من مشاعر وأفكار، بل إن الارتقاء الصحيح لا يكون إلا معتمدًا على خصب المشاعر ونضارة الأفكار؛ ولذلك لابد في الثورات الاجتماعية الكبرى من ثورات أدبية، تمهد لها، وتملأ النفوس والعقول إيمانًا بها.. وقد تعتري الأمم هزات موقوتة، أو انكسارات وانتصارات سريعة، وقد يصيب الحضارات مد وجزر لأسباب شخصية أو محلية، وذلك كله ينظر إليه المؤرخون نظرة عابرة، ولا ينتظرون من ورائه نتائج بعيدة المدى، أما النهضات التي تصحبها يقظات إنسانية واسعة، وتحف بها عواطف جياشة ونظرات عميقة؛ فهي أمر له خطره، وله ما بعده"([11]).
كما أن من شروط نجاحها - عند الشيخ وعند العقلاء - تحقق الوحدة على اختلاف المشارب والأفكار، فمتى تخلى الجميع عن رؤاه الخاصة ومكاسبه المحدودة، وذاب مع غيره في إطار تحقيق هدف واحد ومصلحة كبرى تحقَّقَ النجاح بلا ريب؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا}، أما حين تجتمع الأجساد وتتفرق العقول والأرواح فهنا يكون الفشل المؤكد، ويقوم المرتزقة بسرقة الثورات ووراثتها، يقول الشيخ: "سمعت قائلا يردد في ألم: نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادًا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها، ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد في الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟ إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!"([12]).
هكذا تحدث إمامنا المجدد الثائر على الظلم والظالمين الشيخ محمد الغزالي عن الثورات في ضوء ما سبق من ثورات في العالم، لكن حديثه عنها لم يزل صالحا لاستلهامه في ثورات معاصرة أو ثورات تالية، وهذا مستمد من الفكر الإسلامي الذي نشأ في حضن القرآن وتحت راية السنة؛ ولهذا يستمد خلوده من خلودهما، فرحمة الله عليه.

([1]) الإسلام المفترى عليه: 46. طبعة نهضة مصر، وكل الطبعات التي اعتمدنا عليها هي طبعة نهضة مصر.
([2]) من مقالات الشيخ محمد الغزالي: 1/66.
([3]) الإسلام والمناهج الاشتراكية: 190.
([4]) الإسلام المفترى عليه: 46.
([5]) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام: 239.
([6]) الإسلام والاستبداد السياسي: 160.
([7]) الإسلام والاستبداد السياسي: 162.
([8]) الإسلام والاستبداد السياسي: 163.
([9]) تأملات في الدين والحياة: 25.
([10]) الإسلام والاستبداد السياسي: 164.
([11]) نظرات في القرآن: 12.
([12]) الحق المر: 1/57.
‏١٠‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٦:١٩ م‏
العدد الثاني من مجلة (كلمة حق) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الثاني من مجلة (كلمة حق)، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الثاني اضغط على الرابط التالي: http://klmtuhaq.blog/2017/09/05/2 نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
العدد الثاني من مجلة (كلمة حق)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم.

القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الثاني من مجلة (كلمة حق)، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.

لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.

لتحميل العدد الثاني اضغط على الرابط التالي:
http://klmtuhaq.blog/2017/09/05/2

نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة #مجلة_كلمة_حق على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠٥‏/٠٩‏/٢٠١٧ ٤:٢٢ م‏
من مقالات العدد الثاني من #مجلة_كلمة_حق والذي يصدر قريبا:

مقال (الغزالي ثائرًا) للدكتور وصفي أبو زيد

ومقال (لهذا فشلت الثورة العرابية) لـ م. محمد إلهامي

وغيرها من المقالات..

انتظرونا..
‏٣١‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٥٠ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
العدد القادم من #مجلة_كلمة_حق، سيكون عددًا مميزًا، وترون فيه كُتابًا جُددًا مع موضوعات مهمة.

انتظرونا.
‏٢٥‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٥:١٧ م‏
رابط العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق على موقع جود ريدز: https://www.goodreads.com/book/show/36068530?ac=1&from_search=true تسعدنا تقييماتكم ومراجعاتكم.
رابط العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق على موقع جود ريدز:

https://www.goodreads.com/book/show/36068530?ac=1&from_search=true

تسعدنا تقييماتكم ومراجعاتكم.
‏١٩‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٣:١٩ م‏
من الذى باع الأرض؟ محمد على، وفتح الشام.. لليهود! لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1 كتبت: @[100002071337719:2048:نور عبد الرحمن] يقول التاريخ والواقع الحي إن الذين باعوا الأرض، صف طويل، لم يبلغ نهايته بعد. ولكننا نستطيع أن نرصد مقدمته، التي يتصدرها "محمد علي". وهى الصدارة التي أحرزها بحملته على الشام، وأُطلق عليها "فتح الشام"، وما هو إلا فتحها لليهود، تستقبل طلائعهم الزاحفة من شتات الأرض! حملة "محمد علي" على الشام، لحظة فارقة فى تاريخ فلسطين، ما بعدها ليس كما قبلها. استهلها ولده، ورأس جيشه "إبراهيم باشا"، وحاميته بعدها على أبواب القدس، بإصداره أمرًا إلى الخاصة والعامة من أهل القدس الشريف؛ برفع كافة العوائد، والمرتبات، والأغفار التي كانت تُجبى من طوائف المسيحيين، وطائفة اليهود. مع تهديد صارم لكل من يخالف الأمر(1) وكان الأمر الذى أُذيع به فى ربوع المدينة المقدسة، نذيرًا لعهد جديد، وأول الغيث فى سلسلة سياسات غير مسبوقة تجاه طوائف المسيحيين واليهود. ففى إعادته تنظيم الجهاز الإداري للدولة؛ استحدث "الباشا" مجلسًا محليًّا فى المدن الرئيسية، يضم ممثلاً عن كل طائفة، عُهد إليهم بإدارة شئون المدينة. فكان "مجلس شورى مدينة القدس" يتألف في عضويته من 14 عضوًا، بينهم: الخواجة "رونة" وكيلاً عن طائفة اليهود، و"يوسف" وكيلًا عن طائفة الإفرنج، وياقوت حاسر من طائفة الأرمن(2). أما خزينة القدس الشريف، فقد عُهد بها إلى الخواجة "أنطوان أيوب"(3)، "الشخصية الأولى بعد شريف باشا، وهو مسيحي كُرم بلقب "بيه"، وصار يدير بصورة مستقلة عن الباشا الشؤون الاقتصادية لكل الباشالكات السورية"(4). وعن القضاء، يقول "بازيلى": "أُمرت السلطات المدنية بأن تتجنب قدر الإمكان حل القضايا المتنازع عليها بين المسيحيين والمسلمين فى المحكمة الدينية، وتراعى العدل إزاء المواطنين بلا تمييز بين الأديان"(5). فتم "حصر صلاحية المحاكم الشرعية فى الأحوال الشخصية فقط"(6). فكيف والحال كذلك، بمبادرة "محمد علي" تدليل طوائف المسيحيين واليهود، ليقربوه إلى حكومات أوروبا زُلفى، طامعًا فى دعمهم توسعاته الطموحة، على حساب الدولة العثمانية؛ ألا يغتنم اليهود، والحكومات الغربية مِن ورائهم الأوضاع الجديدة، التي سبقت أحلامهم، فهبوا كى يلاحقوها! ولما كان الحال كما يصفه "بازيلى": "إنه لأمر لم يُعهد له نظير فى الإمبراطورية العثمانية أن يُمنح المسيحيون الحرية لتجديد معابدهم وأديرتهم فى كل مكان، وحتى لبناء الجديد منها دون أن يشتروا شهادات من المحكمة الإسلامية (أعلاما) بضرورة أعمال التصليح والبناء، ولا إذنًا من السلطات المحلية"(7). - فقد بدأ اليهود سعيهم الحثيث بطلبات ترميم كُنُسهم ومعابدهم(8).. فإحياء الخَرِب منها(9).. فاستحداث أُخر(10)... وطالبوا بزيادة مبانيهم فى القدس الشريف(11)، أما "الأشكناز" الغربيون النازحون، فقد عمدوا إلى تعزيز وجودهم في المدينة المقدسة، وتوطين أنفسهم بطلبهم الترخيص لهم بشراء الأملاك، والأراضي الزراعية، وتعاطي الحرث والزرع، وتعاطى البيع والشراء، وبيع الأغنام والأبقار، وتعاطي مصابن ومعاصر(12). - ولم يقف سعيهم عند حدود معابدهم فقط، بل تجاوز إلى ما للمسلمين من مقدسات.. فقد سُمح لهم بزيارة قبر النبي يعقوب بالمسجد الإبراهيمي(13). وطمعوا فى تبليط ساحة البراق، من أجل تمهيد موطئ قدم لهم فى المكان الشريف(14). وكان من بين وثائق الواقعة، وثيقة عجيبة، يقول نصها: "فرمان شريف سر عسكري صادر فى 14 شوال سنة 55 مضمونه الشريف: وردت ورقة من ممتا قونسلوس دولة الإنجليز ويذكر أن واحدًا من الرعايا كان حاصل له لطف ونذر على نفسه أن يبلط زقاق البراق ويستدعى رخصة بذلك، فيلزم تعطوا إلى الرعايا المذكورة الرخصة بتبليط الزقاق المذكور"(15). فلأجل اليهودي الذي "حاصل له لطف" ونَذَر أن يبلط زقاق البراق؛ يطالب قنصل الإنجليز بإعطاء اليهود الرخصة بتبليط الزقاق الواقع ضمن وقف إسلامي!! أما الطامة الكبرى.. فكانت انتهاك المسجد الأقصى، فى مشهد متكرر، يرويه "بازيلى"، ويراه إهانة من "الباشا" لشعور الشعب الديني: "وسُمح للكثير من الرحالة الأوربيين بزيارة مسجد عمر فى القدس، الذى يُعتبر قدس الإسلام الثاني بعد حرم مكة. لا شي كان فى وسعه أن يثير وساوس أشد لدى سكان القدس المتعصبين. لقد نشج خدم مسجد عمر المسنّون لهذا الانتهاك الذي لم يعهد له نظير من قبل فى العالم الإسلامي، وفى كل مرة عند زيارة الأجانب للمسجد كان على السلطات المحلية أن تحيط نفسها وضيوفها بفصيلة عسكرية لدرء فورة التعصب فى المشاهدين"(16). " بازيلى"، الذى يصحبنا منذ بداية المقال، هو " قسطنطين بازيلى"، قنصل روسيا فى سوريا، الذى تولى مهام عمله إبان حكم "محمد علي" للشام، وما تلاه من سنوات. وهو شاهد العيان المعاصر، بل والمشارك أحيانًا فى أحداث هذه الفترة، تجده في كتابه، إذا ما ذكر سياسة الباشا أو ولده تجاه المسيحيين أو اليهود، وصفها بـ "التسامح الديني"، أما سياستهما تجاه المسلمين، فإنه يكرر فى أكثر من موضع، بأنها "إهانة الشعور الديني"! غير أن هذا "التسامح الديني" لم يكن ليغره، بل يقول: "ولكن ننوه بأن تسامح إبراهيم باشا الديني نفسه، عكره إلحاد راسخ، ماجن، فقد كان هو نفسه وشريف باشا، وعلى أثرهما كل أكابر الأعيان المصريين تقريبا، يكنون فى أعماق نفوسهم احتقارًا شديدا للقبيلة العربية كلها، وبدوسهم على أوهامها داسوا فى الوقت نفسه قوانين الإسلام الجذرية. كان إبراهيم يعب الشمبانيا علانية فى دمشق، وفى كل مدن سوريا... لم يكن تهتكه خافيًا على الشعب... نادرًا ما كان يظهر فى المسجد، ولم يكن فى ساعات الصلاة يقوم بالوضوء الشرعي، ولم يكن يصوم رمضان"(17). فكان للتسامح الديني وجهه الآخر مع المسلمين، فهؤلاء كان نصيبهم: ضريبة الرأس (الفردة)، التى فُرضت على الذكور من سن 14 فما فوق، والتجنيد الإلزامي؛ الذي طال عُشر الملزمين بضريبة الفردة، وأعمال السخرة فى مشاريع الحكومة، وسحب الأسلحة من أيدى الناس.(18) فعن الضرائب يقول "بازيلى": "ولكى ترغم الحكومة السكان والمجتمعات على مراقبة بعضهم البعض أدخلت التكافل والتضامن فى نظام الضرائب، فصارت تحصل إتاوات الفارين وضرائبهم المتأخرة من المجتمع الذي كانوا ينتسبون إليه، وتفرض ضرائب القرية المهجورة على الناحية بأسرها"(19). أما التجنيد الإجباري: "وبسبب العنف وانعدام أية قاعدة أو نظام للتجنيد؛ كانت القيادات المحلية: العسكرية والمدنية، تتلقى أمرًا سريًّا بتقديم عدد معين من المجندين. وكان عليها تحيُن المناسبة واختيار الوسائل لتصيد العدد المطلوب من الناس فى الأسواق أو المساجد أو فى خلال أعمال الحقول. وفي أيام الجمعة، حينما يجتمع الناس فى المسجد، كانت فصائل القوات تطوق المسجد، ولا تسمح إلا للشيوخ والصغار بالخروج وتأخذ كل الصالحين لخدمة الصف"(20). فكان من جراء ذلك أن "كان المسلمون يحسدون المسيحيين واليهود على قسمتهم، إذ أن إعفاءهم من الخدمة تحت رايات المؤمنين قد أصبح -عوضًا عن الإذلال- ميزة عظيمة بالنسبة إليهم"(21). وبلغ الأمر أن "قد أهين المسلمون المساكين، سكان المدن، فى شعورهم الديني بحيث أخذ الناس ذوو المقام النبيل يعملون قواسين، وخدمًا، وسواسًا عند القناصل الأوربيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين؛ ليتجنبوا خدمة الصف إستنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين فى القنصليات"(22). ولنا بعد استعراض هذه السياسة، ذات الوجهين، أن ندرك بلا شك نتائجها، وما أحدثته من أثر في التركيب الديموغرافي .. فيما قبل ثلاثينات القرن التاسع عشر (حتى عام 1831، وبداية حكم "محمد علي") قاوم العثمانيون، والسكان المسلمون المحليون الاختراق الغربي واليهودي للقدس؛ ففى بداية القرن التاسع عشر كانت هناك سياسة عامة تُقيد الاستيطان اليهودي بالقدس بحدود 2000 من اليهود. إلى جانب ذلك، كان هناك حظر على استيطان اليهود الغربيين (أشكناز) فى المدينة، حتى رُفع هذا الحظر عام 1816. أما الزيادة الدراماتيكية فى الهجرة اليهودية إلى القدس خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر (فترة حكم محمد على)، فترجع إلى عوامل سياسية مشجعة، مع تحسن أحوالهم بسبب حماية القناصل الأوروبيين.(23) بينما كان "محمد علي" (1832 – 1840) أكثر مرونة إزاء الهجرة اليهودية للقدس، مما رفع تعداد اليهود في المدينة بشكل كبير، فإن سياسته تجاه المسلمين قد دفعتهم إلى مغادرتها، كما كان للثورة على هذه السياسة (1834) تأثيرها على تعداد المسلمين كذلك.(24). "لم يفر المجندون وحدهم، بل هرب ألوف الناس من الجندية مسبقًا إلى البدو فى الصحراء، وإلى ديار بكر والأناضول وجزيرة قبرص.".. "لقد فر ما يربو على 100 ألف سوري من قسوة الحكم المصري."(25) في أوائل القرن التاسع عشر، كان مجموع السكان حوالي 8,750 نسمة، منهم: 4,000 مسلم، و 2,750 مسيحي، و 2،000 يهودي. وبحلول الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كان عدد سكانها 5,350 مسلم، و 3,650 مسيحيا و 6,000 يهودي، أي ما مجموعه 15,000 نسمة.(26) وقد فتح "محمد علي" الباب لأول مرة أمام: النفوذ الغربي (القنصليات، والإرساليات التبشيرية)؛ وأمام الاستيطان اليهودي فى الأرض المقدسة! "فى سنة 1838م سمح لبريطانيا بفتح قنصلية دائمة لها فى القدس، الأمر الذي شكل سابقة فى العرف القائم، إذ كانت القنصليات تقام فى المدن الساحلية، وتعنى بالشؤون التجارية. فى الواقع، ومنذ زمن طويل، كانت القنصليات قد تراجعت فى عددها وأهميتها مع تراجع الأهمية التجارية لمدن الساحل السوري، وراح رجال محليون يتولون المهمة، أما أيام إبراهيم باشا، وخصوصًا بعد انسحابه من البلاد، فقد راحت القنصليات تؤدى فى الأساس دورًا سياسيًا"(27). وقنصلية بريطانيا على وجه الخصوص كانت الراعي الرسمي لليهود فى فلسطين، وتحمل على عاتقها مسئولية إقامة دولة لهم فى فلسطين. "وعلى نقيض سابقيه من الباشوات، سمح إبراهيم للبعثات التبشيرية المسيحية بممارسة نشاطها بحرية كبيرة، ومنحها الإذن بإقامة مؤسسات تعليمية وثقافية"(28). وكان تدشين أول بعثة تبشيرية للكنيسة الإنجليزية البروتستانتية بالقدس عام 1839(29). وقد أحيت سياسات "محمد علي" فى فلسطين آمال الثري اليهودي الإنجليزي، وزعيم الجماعة اليهودية فى إنجلترا، والذي دشن أول مستوطنة لليهود فى فلسطين، سير "موسى مونتفيوري"(30)، بجمع اليهود فى أرض (الأجداد). كان للسير "مونتفيوري" خططته، التي أدلى بتفاصيلها إلى صحيفة كانت تصدر فى مدينة "صفد"(31)، ودونها فى مذكراته بذات التاريخ 24 مايو سنة 1839، جاء فيها: "إنني على ثقة من إنه لو قُدر لخطتي النجاح، فإنها سوف تجلب السعادة والرخاء للأرض المقدسة. وكخطوة أولى، سوف أطلب إلى محمد علي منحي أرضًا لمدة خمسين عامًا؛ مائة أو مائتي قرية؛ على أن أمنحه إيجارًا يزيد سنويًا بمقدار 10 إلى 20 بالمائة، تُدفع كاملة سنويًّا في الإسكندرية، ولكن الأرض والقرى يجب أن تكون طيلة هذه الفترة، حرة من كل ضريبة سواء للباشا أو حكام المقاطعات المختلفة؛ مع حرية تصريف المنتجات في أى مكان في العالم. هذه المنحة التي حصلت عليها، سوف أرجو من السماء، لدى عودتي إلى إنجلترا، أن تكون شركة لزراعة الأرض، وأن تشجيع إخوتنا في أوروبا على العودة إلى فلسطين"(32). ثم.. "وصل الإسكندرية فى 13 يوليو، واستقبله الباشا بهدوء، واستمع إليه باهتمام وهو يكشف له عن مخططاته. ووعد محمد على بكل مساعدة، وأعرب عن حرصه على تحسين أحوال رعاياه اليهود، وقال: "سوف يكون لك أي أرض متاحة للبيع في سوريا، وأية أرض أخرى للسلطان يُبيحها لك، لك أن تختار أي شخص لكي أُعينه حاكمًا لأية مقاطعة ريفية فى الأرض المقدسة، وسأبذل كل ما في وسعي لدعم مساعيكم الجديرة بالثناء". كما أعطى تعليمات لوزير المالية "بوغوص بك" بإثبات هذه التأكيدات كتابةً"(33) (34). "ثم تحدث عن إنشاء بنوك مساهمة برأس مال قدره مليون جنيه إسترليني، مع القدرة على زيادته، إذا لزم الأمر. عندئذ برقت عيناه وبدا سعيدًا، وأكد لي أن البنك يجب أن يكون تحت حمايته، وإنه بالتأكيد سوف يكون سعيدًا لرؤية هذا البنك قائمًا"(35). وهى رواية سجلها "مونتفيوري" فى مذكراته، ونشرتها الصحف، وأوردها "ايلى ليفى أبو عسل" فى كتابه "يقظة العالم اليهودي"، الذى طُبع بمطبعة "النظام" فى مصر عام 1934، تتصدرها صورة الملك "فؤاد"! ولما أُجبر "محمد علي" على الانسحاب من الشام، بأمر ممن باع لهم الأرض، وعلى رأسهم إنجلترا؛ فإن الأمر لم يعد أبدًا لما كان عليه من قبل. بشهادة القنصل الروسي مرة أخرى: "فى كانون الثاني (يناير) عام 1841 صدرت بإلحاح من البعثة الروسية فى القسطنطينية فرمانات تنص على حماية ورعاية المسيحيين السوريين، مع تأكيد تلك الامتيازات التي تمتعت بها الكنيسة تحت الحكم المصري، ولا سيما فى القدس، ومنعت أية غرامة تفرض على الأديرة والحجاج... ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فى سورية تدخل الدول الكبرى فى شؤون الإدارة مهما كان معارضًا لنفوذ السلطان"(36). فكان حكم "محمد علي" للشام، على قصره، قد أحدث ثقوبًا فى قلب العالم الإسلامي، اتسعت على الراتق من بعده، وأعجزته وهو.. "الرجل المريض". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- أسد رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج1، (الجامعة الأمريكية فى بيروت، منشورات كلية العلوم والآداب، بيروت، 1930م )، ص: 87-89، ص: 131-132. 2- رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج5، (بيروت، 1933)، ص: 224. 3-المرجع السابق، ص: 226. 4- قسطنطين بازيلى، سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني، (الترجمة العربية - دار التقدم، موسكو، 1989م)، ص: 164. 5-السابق، ص: 163. 6- إلياس شوفاني، الموجز فى تاريخ فلسطين السياسي، (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1996م)، ص: 266. 7-بازيلى، ص: 162. 8-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج3، (بيروت، 1942م)، ص: 134-135، وثيقة رقم 4641. 9- رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، (بيروت، 1943)، ص: 296-298، وثيقة رقم 6206. 10-السابق، ص: 385، وثيقة رقم 6341. 11-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، ص: 294، وثيقة رقم 6205. 12-رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج3، (بيروت، 1934)، ص: 65-66. 13-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج2، (بيروت، 1941)، ص: 326، وثيقة رقم 3015. 14-رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج5، ص: 78. 15-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، ص294-296، وثيقة رقم 6205. 16-بازيلى، ص: 162. 17-السابق، ص: 164. 18-شوفاني، ص: 266 – 267. 19-بازيلى، ص: 161. 20- بازيلى، ص: 161. 21-بازيلى، ص: 162. 22-بازيلى، ص: 162. 23-Muthanna S. Ammus, Jerusalem in the Arab Israeli Conflict 1967-1998 (Centre for Middle Eastern and Islamic Studies University of Durham, 1999), P: 14-15. 24-السابق، ص: 13. 25-بازيلى، ص: 161. 26-Muthanna S. Ammus, P: 13. 27-شوفاني، ص: 265. 28-السابق، ص: 265. 29-Laura Robson, Minorities and the Modern Arab World: New Perspectives, (Syracuse University Press, 2016), P: 64. 30-عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج6، (دار الشروق، القاهرة، 1999م)، ص: 177. 31-ايلى ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (مطبعة النظام بمصر، القاهرة، 1934م) ص: 145-147. 32-L. Loewe (ed.) Diaries of Sir Moses and Lady Motefiore, (London, 1890) I, P: 167 33-L. Wolf, Sir Moses Motefiore, A Centennial Biography, (New York, 1885), P: 69. 34- ايلى ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (مطبعة النظام بمصر، القاهرة، 1934م)، ص: 150. 35-L. Loewe (ed.) Diaries of Sir Moses and Lady Motefiore, (London, 1890) I, P: 199. 36-بازيلى، ص: 162.
من الذى باع الأرض؟
محمد على، وفتح الشام.. لليهود!

لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1

كتبت: نور عبد الرحمن

يقول التاريخ والواقع الحي إن الذين باعوا الأرض، صف طويل، لم يبلغ نهايته بعد. ولكننا نستطيع أن نرصد مقدمته، التي يتصدرها "محمد علي". وهى الصدارة التي أحرزها بحملته على الشام، وأُطلق عليها "فتح الشام"، وما هو إلا فتحها لليهود، تستقبل طلائعهم الزاحفة من شتات الأرض!

حملة "محمد علي" على الشام، لحظة فارقة فى تاريخ فلسطين، ما بعدها ليس كما قبلها. استهلها ولده، ورأس جيشه "إبراهيم باشا"، وحاميته بعدها على أبواب القدس، بإصداره أمرًا إلى الخاصة والعامة من أهل القدس الشريف؛ برفع كافة العوائد، والمرتبات، والأغفار التي كانت تُجبى من طوائف المسيحيين، وطائفة اليهود. مع تهديد صارم لكل من يخالف الأمر(1)
وكان الأمر الذى أُذيع به فى ربوع المدينة المقدسة، نذيرًا لعهد جديد، وأول الغيث فى سلسلة سياسات غير مسبوقة تجاه طوائف المسيحيين واليهود.

ففى إعادته تنظيم الجهاز الإداري للدولة؛ استحدث "الباشا" مجلسًا محليًّا فى المدن الرئيسية، يضم ممثلاً عن كل طائفة، عُهد إليهم بإدارة شئون المدينة. فكان "مجلس شورى مدينة القدس" يتألف في عضويته من 14 عضوًا، بينهم: الخواجة "رونة" وكيلاً عن طائفة اليهود، و"يوسف" وكيلًا عن طائفة الإفرنج، وياقوت حاسر من طائفة الأرمن(2). أما خزينة القدس الشريف، فقد عُهد بها إلى الخواجة "أنطوان أيوب"(3)، "الشخصية الأولى بعد شريف باشا، وهو مسيحي كُرم بلقب "بيه"، وصار يدير بصورة مستقلة عن الباشا الشؤون الاقتصادية لكل الباشالكات السورية"(4).

وعن القضاء، يقول "بازيلى": "أُمرت السلطات المدنية بأن تتجنب قدر الإمكان حل القضايا المتنازع عليها بين المسيحيين والمسلمين فى المحكمة الدينية، وتراعى العدل إزاء المواطنين بلا تمييز بين الأديان"(5). فتم "حصر صلاحية المحاكم الشرعية فى الأحوال الشخصية فقط"(6).

فكيف والحال كذلك، بمبادرة "محمد علي" تدليل طوائف المسيحيين واليهود، ليقربوه إلى حكومات أوروبا زُلفى، طامعًا فى دعمهم توسعاته الطموحة، على حساب الدولة العثمانية؛ ألا يغتنم اليهود، والحكومات الغربية مِن ورائهم الأوضاع الجديدة، التي سبقت أحلامهم، فهبوا كى يلاحقوها!

ولما كان الحال كما يصفه "بازيلى": "إنه لأمر لم يُعهد له نظير فى الإمبراطورية العثمانية أن يُمنح المسيحيون الحرية لتجديد معابدهم وأديرتهم فى كل مكان، وحتى لبناء الجديد منها دون أن يشتروا شهادات من المحكمة الإسلامية (أعلاما) بضرورة أعمال التصليح والبناء، ولا إذنًا من السلطات المحلية"(7).

- فقد بدأ اليهود سعيهم الحثيث بطلبات ترميم كُنُسهم ومعابدهم(8).. فإحياء الخَرِب منها(9).. فاستحداث أُخر(10)... وطالبوا بزيادة مبانيهم فى القدس الشريف(11)، أما "الأشكناز" الغربيون النازحون، فقد عمدوا إلى تعزيز وجودهم في المدينة المقدسة، وتوطين أنفسهم بطلبهم الترخيص لهم بشراء الأملاك، والأراضي الزراعية، وتعاطي الحرث والزرع، وتعاطى البيع والشراء، وبيع الأغنام والأبقار، وتعاطي مصابن ومعاصر(12).

- ولم يقف سعيهم عند حدود معابدهم فقط، بل تجاوز إلى ما للمسلمين من مقدسات.. فقد سُمح لهم بزيارة قبر النبي يعقوب بالمسجد الإبراهيمي(13).
وطمعوا فى تبليط ساحة البراق، من أجل تمهيد موطئ قدم لهم فى المكان الشريف(14).

وكان من بين وثائق الواقعة، وثيقة عجيبة، يقول نصها: "فرمان شريف سر عسكري صادر فى 14 شوال سنة 55 مضمونه الشريف: وردت ورقة من ممتا قونسلوس دولة الإنجليز ويذكر أن واحدًا من الرعايا كان حاصل له لطف ونذر على نفسه أن يبلط زقاق البراق ويستدعى رخصة بذلك، فيلزم تعطوا إلى الرعايا المذكورة الرخصة بتبليط الزقاق المذكور"(15). فلأجل اليهودي الذي "حاصل له لطف" ونَذَر أن يبلط زقاق البراق؛ يطالب قنصل الإنجليز بإعطاء اليهود الرخصة بتبليط الزقاق الواقع ضمن وقف إسلامي!!

أما الطامة الكبرى.. فكانت انتهاك المسجد الأقصى، فى مشهد متكرر، يرويه "بازيلى"، ويراه إهانة من "الباشا" لشعور الشعب الديني: "وسُمح للكثير من الرحالة الأوربيين بزيارة مسجد عمر فى القدس، الذى يُعتبر قدس الإسلام الثاني بعد حرم مكة. لا شي كان فى وسعه أن يثير وساوس أشد لدى سكان القدس المتعصبين. لقد نشج خدم مسجد عمر المسنّون لهذا الانتهاك الذي لم يعهد له نظير من قبل فى العالم الإسلامي، وفى كل مرة عند زيارة الأجانب للمسجد كان على السلطات المحلية أن تحيط نفسها وضيوفها بفصيلة عسكرية لدرء فورة التعصب فى المشاهدين"(16).

" بازيلى"، الذى يصحبنا منذ بداية المقال، هو " قسطنطين بازيلى"، قنصل روسيا فى سوريا، الذى تولى مهام عمله إبان حكم "محمد علي" للشام، وما تلاه من سنوات. وهو شاهد العيان المعاصر، بل والمشارك أحيانًا فى أحداث هذه الفترة، تجده في كتابه، إذا ما ذكر سياسة الباشا أو ولده تجاه المسيحيين أو اليهود، وصفها بـ "التسامح الديني"، أما سياستهما تجاه المسلمين، فإنه يكرر فى أكثر من موضع، بأنها "إهانة الشعور الديني"!

غير أن هذا "التسامح الديني" لم يكن ليغره، بل يقول: "ولكن ننوه بأن تسامح إبراهيم باشا الديني نفسه، عكره إلحاد راسخ، ماجن، فقد كان هو نفسه وشريف باشا، وعلى أثرهما كل أكابر الأعيان المصريين تقريبا، يكنون فى أعماق نفوسهم احتقارًا شديدا للقبيلة العربية كلها، وبدوسهم على أوهامها داسوا فى الوقت نفسه قوانين الإسلام الجذرية. كان إبراهيم يعب الشمبانيا علانية فى دمشق، وفى كل مدن سوريا... لم يكن تهتكه خافيًا على الشعب... نادرًا ما كان يظهر فى المسجد، ولم يكن فى ساعات الصلاة يقوم بالوضوء الشرعي، ولم يكن يصوم رمضان"(17).

فكان للتسامح الديني وجهه الآخر مع المسلمين، فهؤلاء كان نصيبهم: ضريبة الرأس (الفردة)، التى فُرضت على الذكور من سن 14 فما فوق، والتجنيد الإلزامي؛ الذي طال عُشر الملزمين بضريبة الفردة، وأعمال السخرة فى مشاريع الحكومة، وسحب الأسلحة من أيدى الناس.(18)

فعن الضرائب يقول "بازيلى": "ولكى ترغم الحكومة السكان والمجتمعات على مراقبة بعضهم البعض أدخلت التكافل والتضامن فى نظام الضرائب، فصارت تحصل إتاوات الفارين وضرائبهم المتأخرة من المجتمع الذي كانوا ينتسبون إليه، وتفرض ضرائب القرية المهجورة على الناحية بأسرها"(19).

أما التجنيد الإجباري: "وبسبب العنف وانعدام أية قاعدة أو نظام للتجنيد؛ كانت القيادات المحلية: العسكرية والمدنية، تتلقى أمرًا سريًّا بتقديم عدد معين من المجندين. وكان عليها تحيُن المناسبة واختيار الوسائل لتصيد العدد المطلوب من الناس فى الأسواق أو المساجد أو فى خلال أعمال الحقول. وفي أيام الجمعة، حينما يجتمع الناس فى المسجد، كانت فصائل القوات تطوق المسجد، ولا تسمح إلا للشيوخ والصغار بالخروج وتأخذ كل الصالحين لخدمة الصف"(20).

فكان من جراء ذلك أن "كان المسلمون يحسدون المسيحيين واليهود على قسمتهم، إذ أن إعفاءهم من الخدمة تحت رايات المؤمنين قد أصبح -عوضًا عن الإذلال- ميزة عظيمة بالنسبة إليهم"(21).

وبلغ الأمر أن "قد أهين المسلمون المساكين، سكان المدن، فى شعورهم الديني بحيث أخذ الناس ذوو المقام النبيل يعملون قواسين، وخدمًا، وسواسًا عند القناصل الأوربيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين؛ ليتجنبوا خدمة الصف إستنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين فى القنصليات"(22).

ولنا بعد استعراض هذه السياسة، ذات الوجهين، أن ندرك بلا شك نتائجها، وما أحدثته من أثر في التركيب الديموغرافي ..
فيما قبل ثلاثينات القرن التاسع عشر (حتى عام 1831، وبداية حكم "محمد علي") قاوم العثمانيون، والسكان المسلمون المحليون الاختراق الغربي واليهودي للقدس؛ ففى بداية القرن التاسع عشر كانت هناك سياسة عامة تُقيد الاستيطان اليهودي بالقدس بحدود 2000 من اليهود. إلى جانب ذلك، كان هناك حظر على استيطان اليهود الغربيين (أشكناز) فى المدينة، حتى رُفع هذا الحظر عام 1816. أما الزيادة الدراماتيكية فى الهجرة اليهودية إلى القدس خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر (فترة حكم محمد على)، فترجع إلى عوامل سياسية مشجعة، مع تحسن أحوالهم بسبب حماية القناصل الأوروبيين.(23)

بينما كان "محمد علي" (1832 – 1840) أكثر مرونة إزاء الهجرة اليهودية للقدس، مما رفع تعداد اليهود في المدينة بشكل كبير، فإن سياسته تجاه المسلمين قد دفعتهم إلى مغادرتها، كما كان للثورة على هذه السياسة (1834) تأثيرها على تعداد المسلمين كذلك.(24). "لم يفر المجندون وحدهم، بل هرب ألوف الناس من الجندية مسبقًا إلى البدو فى الصحراء، وإلى ديار بكر والأناضول وجزيرة قبرص.".. "لقد فر ما يربو على 100 ألف سوري من قسوة الحكم المصري."(25)

في أوائل القرن التاسع عشر، كان مجموع السكان حوالي 8,750 نسمة، منهم: 4,000 مسلم، و 2,750 مسيحي، و 2،000 يهودي. وبحلول الخمسينيات من القرن التاسع عشر، كان عدد سكانها 5,350 مسلم، و 3,650 مسيحيا و 6,000 يهودي، أي ما مجموعه 15,000 نسمة.(26)

وقد فتح "محمد علي" الباب لأول مرة أمام: النفوذ الغربي (القنصليات، والإرساليات التبشيرية)؛ وأمام الاستيطان اليهودي فى الأرض المقدسة! "فى سنة 1838م سمح لبريطانيا بفتح قنصلية دائمة لها فى القدس، الأمر الذي شكل سابقة فى العرف القائم، إذ كانت القنصليات تقام فى المدن الساحلية، وتعنى بالشؤون التجارية. فى الواقع، ومنذ زمن طويل، كانت القنصليات قد تراجعت فى عددها وأهميتها مع تراجع الأهمية التجارية لمدن الساحل السوري، وراح رجال محليون يتولون المهمة، أما أيام إبراهيم باشا، وخصوصًا بعد انسحابه من البلاد، فقد راحت القنصليات تؤدى فى الأساس دورًا سياسيًا"(27).

وقنصلية بريطانيا على وجه الخصوص كانت الراعي الرسمي لليهود فى فلسطين، وتحمل على عاتقها مسئولية إقامة دولة لهم فى فلسطين. "وعلى نقيض سابقيه من الباشوات، سمح إبراهيم للبعثات التبشيرية المسيحية بممارسة نشاطها بحرية كبيرة، ومنحها الإذن بإقامة مؤسسات تعليمية وثقافية"(28). وكان تدشين أول بعثة تبشيرية للكنيسة الإنجليزية البروتستانتية بالقدس عام 1839(29).

وقد أحيت سياسات "محمد علي" فى فلسطين آمال الثري اليهودي الإنجليزي، وزعيم الجماعة اليهودية فى إنجلترا، والذي دشن أول مستوطنة لليهود فى فلسطين، سير "موسى مونتفيوري"(30)، بجمع اليهود فى أرض (الأجداد). كان للسير "مونتفيوري" خططته، التي أدلى بتفاصيلها إلى صحيفة كانت تصدر فى مدينة "صفد"(31)، ودونها فى مذكراته بذات التاريخ 24 مايو سنة 1839، جاء فيها: "إنني على ثقة من إنه لو قُدر لخطتي النجاح، فإنها سوف تجلب السعادة والرخاء للأرض المقدسة. وكخطوة أولى، سوف أطلب إلى محمد علي منحي أرضًا لمدة خمسين عامًا؛ مائة أو مائتي قرية؛ على أن أمنحه إيجارًا يزيد سنويًا بمقدار 10 إلى 20 بالمائة، تُدفع كاملة سنويًّا في الإسكندرية، ولكن الأرض والقرى يجب أن تكون طيلة هذه الفترة، حرة من كل ضريبة سواء للباشا أو حكام المقاطعات المختلفة؛ مع حرية تصريف المنتجات في أى مكان في العالم. هذه المنحة التي حصلت عليها، سوف أرجو من السماء، لدى عودتي إلى إنجلترا، أن تكون شركة لزراعة الأرض، وأن تشجيع إخوتنا في أوروبا على العودة إلى فلسطين"(32).

ثم.. "وصل الإسكندرية فى 13 يوليو، واستقبله الباشا بهدوء، واستمع إليه باهتمام وهو يكشف له عن مخططاته. ووعد محمد على بكل مساعدة، وأعرب عن حرصه على تحسين أحوال رعاياه اليهود، وقال: "سوف يكون لك أي أرض متاحة للبيع في سوريا، وأية أرض أخرى للسلطان يُبيحها لك، لك أن تختار أي شخص لكي أُعينه حاكمًا لأية مقاطعة ريفية فى الأرض المقدسة، وسأبذل كل ما في وسعي لدعم مساعيكم الجديرة بالثناء". كما أعطى تعليمات لوزير المالية "بوغوص بك" بإثبات هذه التأكيدات كتابةً"(33) (34).

"ثم تحدث عن إنشاء بنوك مساهمة برأس مال قدره مليون جنيه إسترليني، مع القدرة على زيادته، إذا لزم الأمر. عندئذ برقت عيناه وبدا سعيدًا، وأكد لي أن البنك يجب أن يكون تحت حمايته، وإنه بالتأكيد سوف يكون سعيدًا لرؤية هذا البنك قائمًا"(35).

وهى رواية سجلها "مونتفيوري" فى مذكراته، ونشرتها الصحف، وأوردها "ايلى ليفى أبو عسل" فى كتابه "يقظة العالم اليهودي"، الذى طُبع بمطبعة "النظام" فى مصر عام 1934، تتصدرها صورة الملك "فؤاد"!

ولما أُجبر "محمد علي" على الانسحاب من الشام، بأمر ممن باع لهم الأرض، وعلى رأسهم إنجلترا؛ فإن الأمر لم يعد أبدًا لما كان عليه من قبل.

بشهادة القنصل الروسي مرة أخرى: "فى كانون الثاني (يناير) عام 1841 صدرت بإلحاح من البعثة الروسية فى القسطنطينية فرمانات تنص على حماية ورعاية المسيحيين السوريين، مع تأكيد تلك الامتيازات التي تمتعت بها الكنيسة تحت الحكم المصري، ولا سيما فى القدس، ومنعت أية غرامة تفرض على الأديرة والحجاج... ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فى سورية تدخل الدول الكبرى فى شؤون الإدارة مهما كان معارضًا لنفوذ السلطان"(36).

فكان حكم "محمد علي" للشام، على قصره، قد أحدث ثقوبًا فى قلب العالم الإسلامي، اتسعت على الراتق من بعده، وأعجزته وهو.. "الرجل المريض".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أسد رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج1، (الجامعة الأمريكية فى بيروت، منشورات كلية العلوم والآداب، بيروت، 1930م )، ص: 87-89، ص: 131-132.
2- رستم: الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج5، (بيروت، 1933)، ص: 224.
3-المرجع السابق، ص: 226.
4- قسطنطين بازيلى، سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني، (الترجمة العربية - دار التقدم، موسكو، 1989م)، ص: 164.
5-السابق، ص: 163.
6- إلياس شوفاني، الموجز فى تاريخ فلسطين السياسي، (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1996م)، ص: 266.
7-بازيلى، ص: 162.
8-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج3، (بيروت، 1942م)، ص: 134-135، وثيقة رقم 4641.
9- رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، (بيروت، 1943)، ص: 296-298، وثيقة رقم 6206.
10-السابق، ص: 385، وثيقة رقم 6341.
11-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، ص: 294، وثيقة رقم 6205.
12-رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج3، (بيروت، 1934)، ص: 65-66.
13-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج2، (بيروت، 1941)، ص: 326، وثيقة رقم 3015.
14-رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي، ج5، ص: 78.
15-رستم، المحفوظات الملكية المصرية، ج4، ص294-296، وثيقة رقم 6205.
16-بازيلى، ص: 162.
17-السابق، ص: 164.
18-شوفاني، ص: 266 – 267.
19-بازيلى، ص: 161.
20- بازيلى، ص: 161.
21-بازيلى، ص: 162.
22-بازيلى، ص: 162.
23-Muthanna S. Ammus, Jerusalem in the Arab Israeli Conflict 1967-1998 (Centre for Middle Eastern and Islamic Studies University of Durham, 1999), P: 14-15.
24-السابق، ص: 13.
25-بازيلى، ص: 161.
26-Muthanna S. Ammus, P: 13.
27-شوفاني، ص: 265.
28-السابق، ص: 265.
29-Laura Robson, Minorities and the Modern Arab World: New Perspectives, (Syracuse University Press, 2016), P: 64.
30-عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج6، (دار الشروق، القاهرة، 1999م)، ص: 177.
31-ايلى ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (مطبعة النظام بمصر، القاهرة، 1934م) ص: 145-147.
32-L. Loewe (ed.) Diaries of Sir Moses and Lady Motefiore, (London, 1890) I, P: 167
33-L. Wolf, Sir Moses Motefiore, A Centennial Biography, (New York, 1885), P: 69.
34- ايلى ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (مطبعة النظام بمصر، القاهرة، 1934م)، ص: 150.
35-L. Loewe (ed.) Diaries of Sir Moses and Lady Motefiore, (London, 1890) I, P: 199.
36-بازيلى، ص: 162.
‏١٩‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١:٠١ م‏
مختصر كتاب (تأملات إعجازية للرسول في مجال الأمن السياسي)* لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1 كان للرسول صلى الله عليه وسلم الأسبقية في إرساء وابتداع العديد من المبادئ والأسس، التي تعتبر حاليًا قوانين في مجال الأمن السياسي، ولعل من أبرزها: 1- أهمية المعلومات وسرعة توافرها. 2- الشائعات وكيفية مواجهتها. 3- تنويع المصادر لضمان وصول أكبر قدر من المعلومات مع ضمان صحتها. 4- دراسة أمنية للمنطقة وكذا الأراضي المحيطة بها مع معرفة المداخل والمخارج. 5- استخدام ما يسمى بالشفرة وهي كلمة السر. 6- كيفية الاستفادة من شخص معين وكيفية زرعه. 7- كيفية توجيه المصدر ومتى يترك له حرية العمل والتصرف. 8- أهمية دراسة ردود الفعل، سواء داخل المنظمات المناهضة، أو داخل المكان الأمني نفسه. 9- استخدام سياسة تعميق الخلاف بين الأعداء. السرية والمفاتحة والاستقطاب أساس العمل الأمني السياسي وعموده الفقري هو السرية، والتي يؤدي التمسك بها لنجاح أي عمل أو أية مأمورية أو أية مهمة؛ حيث ولو كان الهدف في النهاية سيحظى بالعلانية، إلا أن السرية ستؤدي إما إلى نجاحه أو إلى فشله. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق مبدأ السرية في الجانب الأمني السياسي، في مكة خلال الدعوة، ثم في المدينة، ثم في حروبه ومعاركه المختلفة، إلى أن انتهت بفتح مكة. والسرية: هي تحتم وجود أمر ما لا ينبغي لأحد الاطلاع عليه أو معرفته، حتى يأتي الوقت والظروف المناسبة لإعلانه بالأمر، وهذا لا يكون إلا بالتأكد التام من أن هذا الشخص لن يقوم بتسريب الخبر أو الموضوع لآخرين؛ مما قد يؤدي لإجهاض العمل قبل نجاحه. أما المفاتحة والاستقطاب: فهي كيفية استمالة شخص ما لدعوة ما، أو أمر ما، دون أن يخشى مما يسمى بردود الفعل أو تسريب السر، وفي المفاتحة يتم اختيار الوقت المناسب لإبلاغ الشخص بما يسمى بطبيعة المأمورية أو المهمة، مع أخذ الاحتياطات المناسبة في حالة عدم قبول الشخص لهذه الدعوة. المعلومات تقاس قوة أي جهاز أمني بما يملكه من معلومات، وكلًّا بحسب نوعه وتخصصه، وكلما ازدادت المعلومات أصبحت الخريطة الأمنية واضحة المعالم أمام مصدر القرار. والمعلومات هي الكلام الصادق المؤكد وجوده والذي يؤيد أمرها أو ينفيه، وذلك بعكس الخبر الذي قد يحتمل الكذب ويحتمل الصواب، ومن هنا يقال في أجهزة الأمن المعلومة المؤكدة بالنسبة للأولى والشائعة بالنسبة للثانية. أي جهاز أمني هو الأولى بالحصول على المعلومات اللازمة حتى يضمن نجاح واستقرار النظام السياسي، ولأن الأمن له قاعدة وهدف أساسي هو منع وقوع الجريمة وإذا وقعت ضبط مرتكبيها. وسائل جمع المعلومات لأجهزة الأمن السياسي العديد من الوسائل التي تلجأ إليها لجمع المعلومات، ولعل بعضها معروف والآخر غير معروف. الوسائل المعروفة: الصحف والمجلات، سواء الحكومية أو المعارضة والمستقلة، وسائل الإعلام المختلفة من التلفزيون ووكالات الأنباء، الأحاديث الشخصية مع سائقي التاكسي والعاملين بالسنترال والحلاق والبائعين المتجولين وغيرهم، الكتب الدورية والإرشادية والتي يتم إرسالها بصفة شبه دائمة للجهات الأمنية. الوسائل غير المعروفة: أدوات التنصت والتسجيل، المراقبات التليفونية والبريدية والشخصية، تقارير الرأي العام، التحليلات والدراسات، الأبحاث العلمية والأدبية، المصدر. من هو المصدر؟ هو شخص ذو مهارة معينة وإمكانات عقلية غير عادية، أمكن زرعه أو تجنيده من خلال مجموعة معينة أو شخص معين لاستطلاع الأخبار. لا يشترط أن تكون المعلومات متكاملة أو مباشرة؛ بل تكون متناثرة أو جزئية، وفي كلتا الحالتين تعتبر استكمالًا لسلسلة يمكن إغلاقها، وهي مثل ضوء بسيط يؤدي لتحديد المسار، وكلما كان الضوء مكثفًا (المعلومات) كلما كان الطريق واضحًا محددًا. أنواع المصادر: 1- مصدر دائم: ويكون موجودًا بمكان معين ومرتبطًا بالمقيمين أو العاملين فيه، ويمكنه من خلال ممارسته لحياته العادية الوقوف على أخبارهم. (ومثال ذلك العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه). 2- المصدر المزدوج: وهو شخص أمكن استقطابه بوسيلة ما (المال – المنصب – الإقناع)، ويقوم بنقل معلومات غير حقيقية لمن أرسلوه بهدف تضليلهم، (ومثال ذلك سراقة رضي الله عنه في واقعة الهجرة). 3- المصدر العرضي: وهو شخص يتصادف وجوده في مكان ما أثناء حدث معين، يمكن من خلال مناقشته الحصول على العديد من المعلومات، ومن تحليلها (العامل الإنساني) يمكن الوقوف على حقائق معينة، (مثال ذلك الأعرابي الذي قابل الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدفة قبل غزوة بدر واستفسر منه عن قريش، ولم يكن الأعرابي يعلم حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نجح في الحصول على معلومات قيمة منه). قواعد أمنية مهمة: قاعدة تأمين المكاتبات: وتتلخص هذه القاعدة في أن المكاتبات التي تصدر أو ترد عن شخصية مهمة أو وزارة مهمة، لها درجات من السرية حسب أهميتها، وينبغي الحفاظ على هذه الدرجات تحسبًا لتسربها لأشخاص قد يسيئون استخدامها سواء بقصد أو بدون قصد. كلما كانت المكاتبات تتدرج في مستوياتها كلما زادت درجات السرية والأهمية، إلى أن تصل للقيادة العليا أو ترد منها لمستويات أقل. درجات السرية هي: سري/ سري جدًّا/ سري شخصي/ سري للغاية/ سري للغاية وشخصي. قاعدة الأوامر المختومة: من أهم وسائل أجهزة الأمن والمخابرات الحديثة، وهي عبارة عن مأمورية معينة محددة المكان والزمان، تكون مكتوبة داخل مظروف مغلق موضح فيه طبيعة المأمورية، ويُكلف المندوب بحمل هذا المظروف وعدم فتحه لأي ظرف أو اعتبارات، إلا في وقت محدد في مكان محدد. تستخدم هذه الوسيلة استنادًا لقاعدة السرية وأمن الحفاظ على المأمورية وطبيعتها، حتى لا تتسرب أنباؤها فتؤدي ليس فقط لفشل المأمورية، وإنما تؤدي لانتكاسة أمنية ونتائج عكسية. وباستعراض السيرة النبوية نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم تلك القاعدة في سرية عبدالله بن جحش. تحليل المضمون ويقصد به فحص أي خبر أو معلومة يمكن من خلالها التوصل لحقيقة وضع معين، ومفتاح الوصول لهدف يمكن تحقيقه. أصبح تحليل المضمون علمًا بذاته يُدرس. ودور إدارة تحليل المضمون تحليل أي خبر، والوصول به لأن يكون معلومة مؤكدة توضع أمام مصدر القرار، حتى يكون ملمًّا بكافة جوانبه السلبية والإيجابية. المناقشة تعتبر المناقشة أحد الوسائل الجوهرية التي تعتمد عليها الأجهزة الأمنية، وفكرة المناقشة تقوم على خلق حوار عام، داخله مجموعة أسئلة محددة يقوم رجل الأمن بإلقائها عفوية، ثم يستخلص منها المعلومات المطلوبة أو الجزء الأكبر منها. ومن القواعد الأمنية التي أسس لها الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا: - ضرورة أن يستبعد أي موظف من عمله ممن هم في موضع الشبهات، سواء لقناعة ذاتية أو فكر مناهض أو صلة قرابة مع أي شخص مناهض. - أن يحيط الرئيس نفسه بمجموعة أشخاص أمناء (مؤمنين)، وذوو علم حتى تكون المعادلة أهل الثقة مع أهل الخبرة. - أن لا يكون العامل من ديانة أخرى تخلق في داخله دوافع مناهضة، تؤدي لإهدار مبدأ السرية والأمن. - أن يكون الشخص على قدر عال من الثقافة والعلم؛ حتى يستطيع إنجاز ما يكلف به. الشائعة هي عبارة عن خبر غير حقيقي يتناوله الناس في فترة معينة لظروف معينة محيطة بها، وهو الأمر الذي يضفي عليها ثوب الحقيقة وأنها أمر واقع فعلًا، وهي من أهم أسلحة العالم الأمني الحديث، وقد تؤدي إلى انهيار نُظم واختفاء شخصيات محورية، كما تؤثر على المجال الداخلي والخارجي لأية دولة. الشائعة أصبحت اليوم علمًا كاملًا يدرس على كافة المستويات المختلفة، ووضعت لها الأكاديميات العلمية ضوابط وأسسًا وأساليب وأصبح لها متخصصون. وعلى ذات الجانب تقوم الأجهزة الأمنية بدراسة الشائعة باعتبارها تؤثر على الأمن القومي بل أيضا تقوم هذه الأجهزة بتخصيص أقسام لتجميع الشائعات ودراستها وفحصها. لا تكتفي الأجهزة الأمنية بتتبع الشائعة ودراستها فقط بل تقوم أيضًا في أوقات مختلفة بخلق الشائعة وإطلاقها؛ وذلك لتحقيق الآتي: 1- هدف معين وقد يكون هذا الهدف تلميع أو إلقاء الضوء على شخص معين، وعلى العكس قد يكون الهدف ما يسمى أمنيًّا بحرق هذا الشخص وهدمه تمامًا، أو حتى حول قبول الناس لأمر ما أو شخص ما لتولي منصب معين. 2- كما قد تتواجد الشائعات في أوقات عصيبة بهدف رفع الروح المعنوية، مثلما حدث بعد حرب 1967 وشائعة ظهور السيدة مريم، كناية عن تأييد الله للمصريين عقب النكسة. ولابد للشائعة من ظل من الحقيقة حتى يمكن تصديقها. وعدم التأكد من صحة المعلومات بدقة يؤدي إلى الوقوع في ما يترتب على تصديق الشائعات، ومن هذا عودة الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة إلى مكة بعد أن سمعوا بإسلام قريش، ولم يتأكدوا التأكد الكافي من هذا. الاغتيال السياسي قامت الدول العديدة بإعداد الميزانيات السرية الكبيرة للإنفاق على هذه الوسيلة؛ بل يشار إلى أن العالم الحدث أنشأ الإدارات أو المجموعات التي تختص بهذا، تندرج جميعها ضمن جهاز الأمن السياسي على مستوى كافة الدول أو على أقل تقدير أغلبها. تتكون هذه المجموعة من أشخاص محدودين، يتمتعون بمهارات فردية عالية وإمكانات جسدية وذهنية على أرقى مستوى، يتم تدريب هذه المجموعة على كيفية استخدام الأسلحة والأسلحة البيضاء بل أيضًا السموم، تكون هذه المجموعة غير معروفة حتى لزملائهم وفقط معروفة لعدد محدود من القيادات الأمنية. وبالرغم من تنديد أغلب الدول بهذه الوسيلة إلا أن أغلب الدول لديها هذا الأسلوب وإن كان غير معلن، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك إسرائيل التي تعتبر الاغتيال وسيلة شرعية للدفاع عن أمنها القومي وما تقوم به من عمليات تصفية لقيادة الثورة الفلسطينية، ليس فقط داخل حدودها ولكن تتعقبهم إلى خارج البلاد، وأمريكا تؤيدها في ذلك بل إنها تستهدف شخصيات قد ترى أنهم خطر على أمنها القومي، ولعل واقعة اغتيال الدكتور المشد عالم الذرة النووية أثناء عمله في بناء المفاعل العراقي خير دليل على ذلك. والاغتيال نوعان: أ- الاغتيال المادي: وهو المعروف بتصفية شخص جسديًّا. ب- الاغتيال المعنوي: ولعل أبرز وسائله الشائعات، والهدف منه إزالة الشخص المقصود عن موقعه الوظيفي أو السياسي، وإجباره إما على الاستقالة أو هجر الحياة العامة عمومًا، وبذلك يكون الاغتيال قد أدى غرضه. وقد دبرت العديد من محاولات الاغتيال للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى استهداف بعض أعداء الإسلام والمسلمين، وكان هذا أربع مرات تقريبًا، وهذا لأن العالم تسوده نظرية قديمًا وحديثًا، وهي نظرية شرعية المعاملة بالمثل، وأعداء الإسلام خاصة من اليهود حاولوا أكثر من مرة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم. وأيضًا كان في استهداف النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأعداء حقن دماء قومهم، فهؤلاء الأعداء كانوا سفهاء يدفعون قومهم إلى الحرب دفعًا؛ فاستهدافهم هو في الحقيقة رحمة بقومهم قبل أن يكون رحمة بالمسلمين. ولم تكن هذه المحاولات لانتقام شخصي أو لإشباع رغبة مثلا، كما هو واضح في مبررات كل محاولة منهم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * تأليف: صادق حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، عدد الصفحات: 289.
مختصر كتاب (تأملات إعجازية للرسول في مجال الأمن السياسي)*

لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1

كان للرسول صلى الله عليه وسلم الأسبقية في إرساء وابتداع العديد من المبادئ والأسس، التي تعتبر حاليًا قوانين في مجال الأمن السياسي، ولعل من أبرزها:
1- أهمية المعلومات وسرعة توافرها.
2- الشائعات وكيفية مواجهتها.
3- تنويع المصادر لضمان وصول أكبر قدر من المعلومات مع ضمان صحتها.
4- دراسة أمنية للمنطقة وكذا الأراضي المحيطة بها مع معرفة المداخل والمخارج.
5- استخدام ما يسمى بالشفرة وهي كلمة السر.
6- كيفية الاستفادة من شخص معين وكيفية زرعه.
7- كيفية توجيه المصدر ومتى يترك له حرية العمل والتصرف.
8- أهمية دراسة ردود الفعل، سواء داخل المنظمات المناهضة، أو داخل المكان الأمني نفسه.
9- استخدام سياسة تعميق الخلاف بين الأعداء.

السرية والمفاتحة والاستقطاب
أساس العمل الأمني السياسي وعموده الفقري هو السرية، والتي يؤدي التمسك بها لنجاح أي عمل أو أية مأمورية أو أية مهمة؛ حيث ولو كان الهدف في النهاية سيحظى بالعلانية، إلا أن السرية ستؤدي إما إلى نجاحه أو إلى فشله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق مبدأ السرية في الجانب الأمني السياسي، في مكة خلال الدعوة، ثم في المدينة، ثم في حروبه ومعاركه المختلفة، إلى أن انتهت بفتح مكة.
والسرية: هي تحتم وجود أمر ما لا ينبغي لأحد الاطلاع عليه أو معرفته، حتى يأتي الوقت والظروف المناسبة لإعلانه بالأمر، وهذا لا يكون إلا بالتأكد التام من أن هذا الشخص لن يقوم بتسريب الخبر أو الموضوع لآخرين؛ مما قد يؤدي لإجهاض العمل قبل نجاحه.
أما المفاتحة والاستقطاب: فهي كيفية استمالة شخص ما لدعوة ما، أو أمر ما، دون أن يخشى مما يسمى بردود الفعل أو تسريب السر، وفي المفاتحة يتم اختيار الوقت المناسب لإبلاغ الشخص بما يسمى بطبيعة المأمورية أو المهمة، مع أخذ الاحتياطات المناسبة في حالة عدم قبول الشخص لهذه الدعوة.
المعلومات
تقاس قوة أي جهاز أمني بما يملكه من معلومات، وكلًّا بحسب نوعه وتخصصه، وكلما ازدادت المعلومات أصبحت الخريطة الأمنية واضحة المعالم أمام مصدر القرار.
والمعلومات هي الكلام الصادق المؤكد وجوده والذي يؤيد أمرها أو ينفيه، وذلك بعكس الخبر الذي قد يحتمل الكذب ويحتمل الصواب، ومن هنا يقال في أجهزة الأمن المعلومة المؤكدة بالنسبة للأولى والشائعة بالنسبة للثانية.
أي جهاز أمني هو الأولى بالحصول على المعلومات اللازمة حتى يضمن نجاح واستقرار النظام السياسي، ولأن الأمن له قاعدة وهدف أساسي هو منع وقوع الجريمة وإذا وقعت ضبط مرتكبيها.
وسائل جمع المعلومات
لأجهزة الأمن السياسي العديد من الوسائل التي تلجأ إليها لجمع المعلومات، ولعل بعضها معروف والآخر غير معروف.
الوسائل المعروفة: الصحف والمجلات، سواء الحكومية أو المعارضة والمستقلة، وسائل الإعلام المختلفة من التلفزيون ووكالات الأنباء، الأحاديث الشخصية مع سائقي التاكسي والعاملين بالسنترال والحلاق والبائعين المتجولين وغيرهم، الكتب الدورية والإرشادية والتي يتم إرسالها بصفة شبه دائمة للجهات الأمنية.
الوسائل غير المعروفة: أدوات التنصت والتسجيل، المراقبات التليفونية والبريدية والشخصية، تقارير الرأي العام، التحليلات والدراسات، الأبحاث العلمية والأدبية، المصدر.
من هو المصدر؟
هو شخص ذو مهارة معينة وإمكانات عقلية غير عادية، أمكن زرعه أو تجنيده من خلال مجموعة معينة أو شخص معين لاستطلاع الأخبار. لا يشترط أن تكون المعلومات متكاملة أو مباشرة؛ بل تكون متناثرة أو جزئية، وفي كلتا الحالتين تعتبر استكمالًا لسلسلة يمكن إغلاقها، وهي مثل ضوء بسيط يؤدي لتحديد المسار، وكلما كان الضوء مكثفًا (المعلومات) كلما كان الطريق واضحًا محددًا.
أنواع المصادر:
1- مصدر دائم: ويكون موجودًا بمكان معين ومرتبطًا بالمقيمين أو العاملين فيه، ويمكنه من خلال ممارسته لحياته العادية الوقوف على أخبارهم. (ومثال ذلك العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه).
2- المصدر المزدوج: وهو شخص أمكن استقطابه بوسيلة ما (المال – المنصب – الإقناع)، ويقوم بنقل معلومات غير حقيقية لمن أرسلوه بهدف تضليلهم، (ومثال ذلك سراقة رضي الله عنه في واقعة الهجرة).
3- المصدر العرضي: وهو شخص يتصادف وجوده في مكان ما أثناء حدث معين، يمكن من خلال مناقشته الحصول على العديد من المعلومات، ومن تحليلها (العامل الإنساني) يمكن الوقوف على حقائق معينة، (مثال ذلك الأعرابي الذي قابل الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدفة قبل غزوة بدر واستفسر منه عن قريش، ولم يكن الأعرابي يعلم حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نجح في الحصول على معلومات قيمة منه).
قواعد أمنية مهمة:
قاعدة تأمين المكاتبات: وتتلخص هذه القاعدة في أن المكاتبات التي تصدر أو ترد عن شخصية مهمة أو وزارة مهمة، لها درجات من السرية حسب أهميتها، وينبغي الحفاظ على هذه الدرجات تحسبًا لتسربها لأشخاص قد يسيئون استخدامها سواء بقصد أو بدون قصد.
كلما كانت المكاتبات تتدرج في مستوياتها كلما زادت درجات السرية والأهمية، إلى أن تصل للقيادة العليا أو ترد منها لمستويات أقل. درجات السرية هي: سري/ سري جدًّا/ سري شخصي/ سري للغاية/ سري للغاية وشخصي.
قاعدة الأوامر المختومة:
من أهم وسائل أجهزة الأمن والمخابرات الحديثة، وهي عبارة عن مأمورية معينة محددة المكان والزمان، تكون مكتوبة داخل مظروف مغلق موضح فيه طبيعة المأمورية، ويُكلف المندوب بحمل هذا المظروف وعدم فتحه لأي ظرف أو اعتبارات، إلا في وقت محدد في مكان محدد. تستخدم هذه الوسيلة استنادًا لقاعدة السرية وأمن الحفاظ على المأمورية وطبيعتها، حتى لا تتسرب أنباؤها فتؤدي ليس فقط لفشل المأمورية، وإنما تؤدي لانتكاسة أمنية ونتائج عكسية. وباستعراض السيرة النبوية نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استخدم تلك القاعدة في سرية عبدالله بن جحش.
تحليل المضمون
ويقصد به فحص أي خبر أو معلومة يمكن من خلالها التوصل لحقيقة وضع معين، ومفتاح الوصول لهدف يمكن تحقيقه. أصبح تحليل المضمون علمًا بذاته يُدرس.
ودور إدارة تحليل المضمون تحليل أي خبر، والوصول به لأن يكون معلومة مؤكدة توضع أمام مصدر القرار، حتى يكون ملمًّا بكافة جوانبه السلبية والإيجابية.
المناقشة
تعتبر المناقشة أحد الوسائل الجوهرية التي تعتمد عليها الأجهزة الأمنية، وفكرة المناقشة تقوم على خلق حوار عام، داخله مجموعة أسئلة محددة يقوم رجل الأمن بإلقائها عفوية، ثم يستخلص منها المعلومات المطلوبة أو الجزء الأكبر منها.
ومن القواعد الأمنية التي أسس لها الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا:
- ضرورة أن يستبعد أي موظف من عمله ممن هم في موضع الشبهات، سواء لقناعة ذاتية أو فكر مناهض أو صلة قرابة مع أي شخص مناهض.
- أن يحيط الرئيس نفسه بمجموعة أشخاص أمناء (مؤمنين)، وذوو علم حتى تكون المعادلة أهل الثقة مع أهل الخبرة.
- أن لا يكون العامل من ديانة أخرى تخلق في داخله دوافع مناهضة، تؤدي لإهدار مبدأ السرية والأمن.
- أن يكون الشخص على قدر عال من الثقافة والعلم؛ حتى يستطيع إنجاز ما يكلف به.
الشائعة
هي عبارة عن خبر غير حقيقي يتناوله الناس في فترة معينة لظروف معينة محيطة بها، وهو الأمر الذي يضفي عليها ثوب الحقيقة وأنها أمر واقع فعلًا، وهي من أهم أسلحة العالم الأمني الحديث، وقد تؤدي إلى انهيار نُظم واختفاء شخصيات محورية، كما تؤثر على المجال الداخلي والخارجي لأية دولة. الشائعة أصبحت اليوم علمًا كاملًا يدرس على كافة المستويات المختلفة، ووضعت لها الأكاديميات العلمية ضوابط وأسسًا وأساليب وأصبح لها متخصصون.
وعلى ذات الجانب تقوم الأجهزة الأمنية بدراسة الشائعة باعتبارها تؤثر على الأمن القومي بل أيضا تقوم هذه الأجهزة بتخصيص أقسام لتجميع الشائعات ودراستها وفحصها. لا تكتفي الأجهزة الأمنية بتتبع الشائعة ودراستها فقط بل تقوم أيضًا في أوقات مختلفة بخلق الشائعة وإطلاقها؛ وذلك لتحقيق الآتي:
1- هدف معين وقد يكون هذا الهدف تلميع أو إلقاء الضوء على شخص معين، وعلى العكس قد يكون الهدف ما يسمى أمنيًّا بحرق هذا الشخص وهدمه تمامًا، أو حتى حول قبول الناس لأمر ما أو شخص ما لتولي منصب معين.
2- كما قد تتواجد الشائعات في أوقات عصيبة بهدف رفع الروح المعنوية، مثلما حدث بعد حرب 1967 وشائعة ظهور السيدة مريم، كناية عن تأييد الله للمصريين عقب النكسة.
ولابد للشائعة من ظل من الحقيقة حتى يمكن تصديقها. وعدم التأكد من صحة المعلومات بدقة يؤدي إلى الوقوع في ما يترتب على تصديق الشائعات، ومن هذا عودة الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة إلى مكة بعد أن سمعوا بإسلام قريش، ولم يتأكدوا التأكد الكافي من هذا.
الاغتيال السياسي
قامت الدول العديدة بإعداد الميزانيات السرية الكبيرة للإنفاق على هذه الوسيلة؛ بل يشار إلى أن العالم الحدث أنشأ الإدارات أو المجموعات التي تختص بهذا، تندرج جميعها ضمن جهاز الأمن السياسي على مستوى كافة الدول أو على أقل تقدير أغلبها.
تتكون هذه المجموعة من أشخاص محدودين، يتمتعون بمهارات فردية عالية وإمكانات جسدية وذهنية على أرقى مستوى، يتم تدريب هذه المجموعة على كيفية استخدام الأسلحة والأسلحة البيضاء بل أيضًا السموم، تكون هذه المجموعة غير معروفة حتى لزملائهم وفقط معروفة لعدد محدود من القيادات الأمنية.
وبالرغم من تنديد أغلب الدول بهذه الوسيلة إلا أن أغلب الدول لديها هذا الأسلوب وإن كان غير معلن، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك إسرائيل التي تعتبر الاغتيال وسيلة شرعية للدفاع عن أمنها القومي وما تقوم به من عمليات تصفية لقيادة الثورة الفلسطينية، ليس فقط داخل حدودها ولكن تتعقبهم إلى خارج البلاد، وأمريكا تؤيدها في ذلك بل إنها تستهدف شخصيات قد ترى أنهم خطر على أمنها القومي، ولعل واقعة اغتيال الدكتور المشد عالم الذرة النووية أثناء عمله في بناء المفاعل العراقي خير دليل على ذلك.
والاغتيال نوعان:
أ- الاغتيال المادي: وهو المعروف بتصفية شخص جسديًّا.
ب- الاغتيال المعنوي: ولعل أبرز وسائله الشائعات، والهدف منه إزالة الشخص المقصود عن موقعه الوظيفي أو السياسي، وإجباره إما على الاستقالة أو هجر الحياة العامة عمومًا، وبذلك يكون الاغتيال قد أدى غرضه.
وقد دبرت العديد من محاولات الاغتيال للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى استهداف بعض أعداء الإسلام والمسلمين، وكان هذا أربع مرات تقريبًا، وهذا لأن العالم تسوده نظرية قديمًا وحديثًا، وهي نظرية شرعية المعاملة بالمثل، وأعداء الإسلام خاصة من اليهود حاولوا أكثر من مرة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا كان في استهداف النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأعداء حقن دماء قومهم، فهؤلاء الأعداء كانوا سفهاء يدفعون قومهم إلى الحرب دفعًا؛ فاستهدافهم هو في الحقيقة رحمة بقومهم قبل أن يكون رحمة بالمسلمين.
ولم تكن هذه المحاولات لانتقام شخصي أو لإشباع رغبة مثلا، كما هو واضح في مبررات كل محاولة منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تأليف: صادق حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، عدد الصفحات: 289.
‏١٥‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٣:٤٥ م‏
مقال (مقاومة الشعوب 1) [لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1 كتب د. @[618980873:2048:عمرو عادل] المقاومة الشعبية هي أحد السمات الرئيسية للشعوب المضطهدة سواء عن طريق الاحتلال أم عن طريق الاستبداد، ولا أعتقد عند ذكر مصطلح المقاومة أن تتبادر الجيوش إلى الذهن؛ حيث إنها إحدى أدوات السلطة، وعلى مدى ما أعرف لم تكن الجيوش على مر التاريخ الحديث أداة من أدوات المقاومة لتحرير الشعوب؛ بل كانت أحد أدوات ضبط السلطة سواء للمحتل أو لسلطة الاستبداد، والجيوش الحديثة أشبه بظاهرة فرسان المعبد في العصور الوسطى. إذًا فمفهوم المقاومة المعاصر داخل نماذج الدولة الحديثة مرتبط بالقوى الشعبية غير المرتبطة بمفاصل السلطة، وتنقسم مراحل المقاومة إلى ثلاث مراحل رئيسية، وهي تجهيز الأرض للمقاومة، ثم المرحلة الثانية وهي المظاهر العملية للمقاومة الشعبية، والثالثة هي مرحلة الصدام الكبير والحسم. والمرحلة الأولى -وهي تجهيز الأرض والمجتمع للمقاومة- هي الأخطر والأهم وربما هي ما سنحاول الحديث عنها في هذا المقال، ونكمل باقي المراحل بالتتابع إن شاء الله. هناك عدة محاور رئيسية ألا وهي الجماهير والقيادة و الأرض والعدو، ولابد من التعامل مع العناصر الأربعة بعمق حتى يكون البناء قويًّا. 1. القيادة: هي التي تستطيع بناء باقي العناصر اللازمة للمرحلة الأولى، وبها تنضبط الحركة الشعبية. يقول إيريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق: "لا تصعد الحركات الجماهيرية عادة، إلا بعد أن يتم تعرية النظام القائم، وهذه التعرية لا تجيء عفويًّا نتيجة أخطاء النظام وسوء استغلاله السلطة، بل عن طريق عمل متعمد يقوم به رجال الكلمة الذين يحملون ظلامات ضد النظام، عندما يغيب القادرون على صياغة الكلمات أو عندما يوجَدون ولا يحملون أي ظلامة؛ فإن النظام القائم مهما كان فاسدًا وضعيف الإرادة قد يستمر في الوجود، حتى ينهار من تلقاء نفسه"(1). وفق هذا التعريف يمكننا فهم مهمة القيادة في تحديد العدو وتعريته أمام القوى الجماهيرية، فهي خطوة رئيسية مبدئية بصناعة وعي جماهيري عام، عن طريق كتلة لها قدرة على الحديث، وقدر معتبر من الحكمة والثقافة تؤهلهم لثقة الجماهير. وتؤكد هذه الجملة أيضًا أن وجود هذه القيادة ليس عاملًا مساعدًا، بل عاملًا رئيسيًّا، غيابه يوقف كل المحاور الأخرى. وهذه القيادة لها صفات كما قال أيضا هوفر في كتابه: "إن الذين يحاولون تغيير أمة ما، أو تغيير العالم لا يستطيعون تحقيق هدفهم بتوليد التذمر واستثماره، أو إثبات أهمية التغييرات المنشودة وضرورتها، أو بإجبار الناس على تغيير أسلوب حياتهم. على الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة، وليس مهم أن ترتبط هذه الآمال بجنة سماوية أو على الأرض"(2). وكما ذكر أن قيادات الثورة الفرنسية وغيرها لم يكن لديهم الخبرة السياسية الكبيرة لأن دور هؤلاء "الخبراء" لا يأتي إلا متأخرًا بعد التأكد من نجاح الثورة(3). ويؤكد ذلك جوستاف لوبون(4) في كتابه سيكولوجية الجماهير، على ضرورة أن تكون القيادة قادرة على زرع الأفكار بالجماهير(5) بكل الطرق المتاحة. كما اتفق مع هوفر في أن الجماهير لا يمكنها التحرك دون قيادة(6)، ومع تحفظنا على وصف لوبون الجماهير بالقطيع نظرًا لطبيعته المحافظة، إلا أن ما يعنينا هو تأكيده على ضرورة وجود قيادة للجماهير. ربما مما سبق نستطيع بلورة العامل الأول في المرحلة التحضيرية، "ألا وهي القيادة"؛ حيث يتحتم وجود قيادة لها أفكار محددة تستطيع تفتيت النظام في عقل الجماهير، ويستطيعون أيضا بث الأحلام الجامحة في الجماهير. هذه الأمور يمكنها أن تصنع رأًسا ثورًّيا حقيقيًّا، مع التأكيد على أن خبراء العمل السياسي غير مؤهلين لمثل هذا العمل. ومع التأكيد أيضًا أن مهما كان حجم الدمار الذي يسببه النظام، لا يمكن صناعة عمل ثوري بدون قيادة مؤمنة بالثورة. العنصر الثاني هو الجماهير: وهي نقطة شديدة التعقيد، فهناك الكثير من العوامل التي يمكن بها توصيف الجماهير وتصنيفها، إلا أن هناك قاعدة عامة قد تكون مفيدة في أي نوع من التصنيفات الجماهيرية ألا وهي التوزيع الطبيعي(7) للبشر، فدائمًا ما توجد كتلة صغيرة تؤمن بفكرة التغيير ولا يمكن تغيير قناعاتها، كما أن هناك كتلة صغيرة أيضًا محافظة لا ترغب إطلاقًا في تغيير الوضع القائم، وهاتان الكتلتان لهما من الأفكار والأيديولوجيات والمصالح ما يجعلها غير قابلة للتغيير، وفي المنتصف كتلة ضخمة يعتمد انضمامها لأحد الاتجاهين طبقًا لقدرة إحدى الكتلتين على التأثير في تلك الكتلة. يقول هوفر: "والمحافظة التي تميز المرضى المقعدين وكبار السن تنبع جذورها من الخوف من المستقبل، يخشى هؤلاء أن يأتي المستقبل ومعه المزيد من علامات الضعف والوهن، يشعرون أن أي تغيير سوف يكون إلى الأسوأ. كما أن الفقراء فقرًا مدقعًا لا يشعرون بأي أمل في المستقبل الذي يبدو كما لو كان فخًّا منصوبًا أمامهم عليهم أن يتحاشوه. عند هؤلاء كلهم لا يعني التغيير سوى المتاعب"(8). هذا عين ما تفعله السلطة المستبدة أو سلطات الاحتلال، إفقار وإذلال وإمراض للمجتمع وإرهاب دائم من المستقبل، لذا يجب على القيادات المحتملة للعمل الثوري العمل الدائم على صناعة الأمل، وتفتيت كل أدوات السلطة التي تقوم بذلك، وإلا ستبقى وحدها مهما حاولت ومهما أظهرت من عورات النظام، فإظهار العوار وحده ليس قادرًا على تغذية التمرد. والفقر وحده أيضًا لا يصنع ثورة؛ بل الوعي بالفقر والأمل في المستقبل، يذكر كرين برينتن في كتابه تشريح الثورة أن المجتمع الفرنسي حقق تطورًا اقتصاديًّا كبيرًا قبل الثورة(9)، فلم يكن الفقر هو الدافع لثورة الفرنسيين، وهذا يشير إلى أن الأمل هو من يصنع الثورة وليس الفقر، وهذا الأمل ينتج عن صناعة وعي. ومن ذلك يمكن القول إن تثوير الجماهير يكون بضرب ساحق ومتتالي للنظام القائم الذي يدمر المجتمع، كما يجب دراسة تفصيلية للطبقات وقطاعات المجتمع وتحديد لغة الخطاب المناسبة لكل قطاع، وكذلك يجب الفصل في التفكير عند القيادة بين إدارة التنظيمات والكيانات التي تعتمد على الصلابة الفكرية والتنظيمية؛ وبين إدارة العمل الجماهيري الثوري الذي يعتمد على الصلابة الفكرية والسيولة التنظيمية، ولذلك ربما لا تستطيع التنظيمات قيادة عمل ثوري وتحتاج المقاومة لأطر أقل تنظيميًّا. العنصر الثالث هو العدو: فلا يمكن أن تتشكل قيادة وتدفع الجماهير للمقاومة دون تحديد عدو ملموس؛ وليس فقط مجرد أفكار أو أمور مجردة، بل يجب أن يكون محددًا وواضحًا. وتحديد العدو هو عمل أصيل للقيادة ولا توجد معركة أو قدرة على التحفيز للمقاومة الشعبية دون تحديد للعدو ووضوحه في ذهن الجماهير، ولا يمكن أن يكون العدو مبهمًا، كمصطلحات النظام أو أعداء الشعب أو ما إلى ذلك، فإن هذه المصطلحات لا يمكنها دفع الجماهير للتحرك، قد تكون مفيدة في التنظير النخبوي والجلسات الفكرية أو حتى تحفيز الجماهير الغاضبة، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لتحريك الجماهير. وبعد تحديد العدو يجب معرفته بشكل كامل ومفصل، كما أشار صن تزو في كتابه فن الحرب بقوله: "معرفة الآخر ومعرفة النفس؛ في مائة معركة ما من أخطر من عدم معرفة الآخر ومعرفة النفس؛ انتصار لقاء هزيمة، عدم معرفة الآخر وعدم معرفة النفس هزيمة مؤكدة في كل معركة"(10). العنصر الرابع في المرحلة الأولى وهو الأرض: والمقصود بالأرض هنا هو الظروف الميدانية وتوزيع العدو على الأرض وقدراته ومسانديه، فبدون هذه المعلومات فإن الدخول في أي مواجهة مع العدو هي هزيمة ساحقة بدون معركة، وقد أكد صن تزو على ذلك حيث اعتبر عدم معرفة أرض الصراع من الأخطاء التي تؤدي للهزيمة، وهي العنصر الثالث من عناصر النصر الخمسة التي ذكرها(11). هذه العناصر الأربعة تحتاج لتفصيل أكثر وبناء أكثر عمقًا، ولكنه يعتمد على الظروف الخاصة بكل مجتمع، وكما أعتقد تجربة فيتنام أحد التجارب النموذجية في هذا المجال(12)، وينبغي أيضًا ذِكر أن مدة هذه المرحلة ليست محددة، وتختلف طبقًا لظروف كل حالة من حالات المقاومة، إلا أن الأمر الهام هو ضرورة إدراك القيادة أن التسرع في التحرك للمرحلة الثانية دون اكتمالها خطر كبير، كما أن محاولة الوصول لشكل مثالي لهذه المرحلة هو أيضًا وهم كبير، لذلك فالقيادة هي عقل الثورة ومحركها المركزي، وهي المعنية باتخاذ القرار بضرورة التحرك من المرحلة الأولى للمرحلة الثانية، التي سنتحدث عنها في المقال التالي إن شاء الله. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المؤمن الصادق، إريك هوفر، ص 192. (2) المصدر السابق ص30. (3) السابق، ص32. (4) هناك اختلاف حول تقييم جوستاف لوبون العام للجماهير، ولكن لا يمكن إغفال قدرة أفكاره على الصمود والنجاح في الكثير من النقاط التي ذكرها والتي تتعرض لتوصيف الجماهير والقيادة الجماهيرية. (5) سيكولوجية الجماهير، جوستاف لوبون، ص 13. (6) المصدر السابق ص127. (7) مصطلح إحصائي. (8) المؤمن الصادق، إريك هوفر، ص 32. (9) تشريح الثورة، كرين برينتن، ص 55-56. (10) فن الحرب، صن تزو، ص61. (11) السابق، ص41. (12) يمكن مراجعة كتاب تجارب ست ثورات عالمية، د. منير شفيق.
مقال (مقاومة الشعوب 1)

[لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1

كتب د. عمرو عادل

المقاومة الشعبية هي أحد السمات الرئيسية للشعوب المضطهدة سواء عن طريق الاحتلال أم عن طريق الاستبداد، ولا أعتقد عند ذكر مصطلح المقاومة أن تتبادر الجيوش إلى الذهن؛ حيث إنها إحدى أدوات السلطة، وعلى مدى ما أعرف لم تكن الجيوش على مر التاريخ الحديث أداة من أدوات المقاومة لتحرير الشعوب؛ بل كانت أحد أدوات ضبط السلطة سواء للمحتل أو لسلطة الاستبداد، والجيوش الحديثة أشبه بظاهرة فرسان المعبد في العصور الوسطى.
إذًا فمفهوم المقاومة المعاصر داخل نماذج الدولة الحديثة مرتبط بالقوى الشعبية غير المرتبطة بمفاصل السلطة، وتنقسم مراحل المقاومة إلى ثلاث مراحل رئيسية، وهي تجهيز الأرض للمقاومة، ثم المرحلة الثانية وهي المظاهر العملية للمقاومة الشعبية، والثالثة هي مرحلة الصدام الكبير والحسم.
والمرحلة الأولى -وهي تجهيز الأرض والمجتمع للمقاومة- هي الأخطر والأهم وربما هي ما سنحاول الحديث عنها في هذا المقال، ونكمل باقي المراحل بالتتابع إن شاء الله.
هناك عدة محاور رئيسية ألا وهي الجماهير والقيادة و الأرض والعدو، ولابد من التعامل مع العناصر الأربعة بعمق حتى يكون البناء قويًّا.
1. القيادة: هي التي تستطيع بناء باقي العناصر اللازمة للمرحلة الأولى، وبها تنضبط الحركة الشعبية. يقول إيريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق: "لا تصعد الحركات الجماهيرية عادة، إلا بعد أن يتم تعرية النظام القائم، وهذه التعرية لا تجيء عفويًّا نتيجة أخطاء النظام وسوء استغلاله السلطة، بل عن طريق عمل متعمد يقوم به رجال الكلمة الذين يحملون ظلامات ضد النظام، عندما يغيب القادرون على صياغة الكلمات أو عندما يوجَدون ولا يحملون أي ظلامة؛ فإن النظام القائم مهما كان فاسدًا وضعيف الإرادة قد يستمر في الوجود، حتى ينهار من تلقاء نفسه"(1).
وفق هذا التعريف يمكننا فهم مهمة القيادة في تحديد العدو وتعريته أمام القوى الجماهيرية، فهي خطوة رئيسية مبدئية بصناعة وعي جماهيري عام، عن طريق كتلة لها قدرة على الحديث، وقدر معتبر من الحكمة والثقافة تؤهلهم لثقة الجماهير. وتؤكد هذه الجملة أيضًا أن وجود هذه القيادة ليس عاملًا مساعدًا، بل عاملًا رئيسيًّا، غيابه يوقف كل المحاور الأخرى.
وهذه القيادة لها صفات كما قال أيضا هوفر في كتابه: "إن الذين يحاولون تغيير أمة ما، أو تغيير العالم لا يستطيعون تحقيق هدفهم بتوليد التذمر واستثماره، أو إثبات أهمية التغييرات المنشودة وضرورتها، أو بإجبار الناس على تغيير أسلوب حياتهم. على الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة، وليس مهم أن ترتبط هذه الآمال بجنة سماوية أو على الأرض"(2). وكما ذكر أن قيادات الثورة الفرنسية وغيرها لم يكن لديهم الخبرة السياسية الكبيرة لأن دور هؤلاء "الخبراء" لا يأتي إلا متأخرًا بعد التأكد من نجاح الثورة(3).
ويؤكد ذلك جوستاف لوبون(4) في كتابه سيكولوجية الجماهير، على ضرورة أن تكون القيادة قادرة على زرع الأفكار بالجماهير(5) بكل الطرق المتاحة. كما اتفق مع هوفر في أن الجماهير لا يمكنها التحرك دون قيادة(6)، ومع تحفظنا على وصف لوبون الجماهير بالقطيع نظرًا لطبيعته المحافظة، إلا أن ما يعنينا هو تأكيده على ضرورة وجود قيادة للجماهير.
ربما مما سبق نستطيع بلورة العامل الأول في المرحلة التحضيرية، "ألا وهي القيادة"؛ حيث يتحتم وجود قيادة لها أفكار محددة تستطيع تفتيت النظام في عقل الجماهير، ويستطيعون أيضا بث الأحلام الجامحة في الجماهير. هذه الأمور يمكنها أن تصنع رأًسا ثورًّيا حقيقيًّا، مع التأكيد على أن خبراء العمل السياسي غير مؤهلين لمثل هذا العمل. ومع التأكيد أيضًا أن مهما كان حجم الدمار الذي يسببه النظام، لا يمكن صناعة عمل ثوري بدون قيادة مؤمنة بالثورة.
العنصر الثاني هو الجماهير: وهي نقطة شديدة التعقيد، فهناك الكثير من العوامل التي يمكن بها توصيف الجماهير وتصنيفها، إلا أن هناك قاعدة عامة قد تكون مفيدة في أي نوع من التصنيفات الجماهيرية ألا وهي التوزيع الطبيعي(7) للبشر، فدائمًا ما توجد كتلة صغيرة تؤمن بفكرة التغيير ولا يمكن تغيير قناعاتها، كما أن هناك كتلة صغيرة أيضًا محافظة لا ترغب إطلاقًا في تغيير الوضع القائم، وهاتان الكتلتان لهما من الأفكار والأيديولوجيات والمصالح ما يجعلها غير قابلة للتغيير، وفي المنتصف كتلة ضخمة يعتمد انضمامها لأحد الاتجاهين طبقًا لقدرة إحدى الكتلتين على التأثير في تلك الكتلة.
يقول هوفر: "والمحافظة التي تميز المرضى المقعدين وكبار السن تنبع جذورها من الخوف من المستقبل، يخشى هؤلاء أن يأتي المستقبل ومعه المزيد من علامات الضعف والوهن، يشعرون أن أي تغيير سوف يكون إلى الأسوأ. كما أن الفقراء فقرًا مدقعًا لا يشعرون بأي أمل في المستقبل الذي يبدو كما لو كان فخًّا منصوبًا أمامهم عليهم أن يتحاشوه. عند هؤلاء كلهم لا يعني التغيير سوى المتاعب"(8).
هذا عين ما تفعله السلطة المستبدة أو سلطات الاحتلال، إفقار وإذلال وإمراض للمجتمع وإرهاب دائم من المستقبل، لذا يجب على القيادات المحتملة للعمل الثوري العمل الدائم على صناعة الأمل، وتفتيت كل أدوات السلطة التي تقوم بذلك، وإلا ستبقى وحدها مهما حاولت ومهما أظهرت من عورات النظام، فإظهار العوار وحده ليس قادرًا على تغذية التمرد. والفقر وحده أيضًا لا يصنع ثورة؛ بل الوعي بالفقر والأمل في المستقبل، يذكر كرين برينتن في كتابه تشريح الثورة أن المجتمع الفرنسي حقق تطورًا اقتصاديًّا كبيرًا قبل الثورة(9)، فلم يكن الفقر هو الدافع لثورة الفرنسيين، وهذا يشير إلى أن الأمل هو من يصنع الثورة وليس الفقر، وهذا الأمل ينتج عن صناعة وعي.
ومن ذلك يمكن القول إن تثوير الجماهير يكون بضرب ساحق ومتتالي للنظام القائم الذي يدمر المجتمع، كما يجب دراسة تفصيلية للطبقات وقطاعات المجتمع وتحديد لغة الخطاب المناسبة لكل قطاع، وكذلك يجب الفصل في التفكير عند القيادة بين إدارة التنظيمات والكيانات التي تعتمد على الصلابة الفكرية والتنظيمية؛ وبين إدارة العمل الجماهيري الثوري الذي يعتمد على الصلابة الفكرية والسيولة التنظيمية، ولذلك ربما لا تستطيع التنظيمات قيادة عمل ثوري وتحتاج المقاومة لأطر أقل تنظيميًّا.
العنصر الثالث هو العدو: فلا يمكن أن تتشكل قيادة وتدفع الجماهير للمقاومة دون تحديد عدو ملموس؛ وليس فقط مجرد أفكار أو أمور مجردة، بل يجب أن يكون محددًا وواضحًا. وتحديد العدو هو عمل أصيل للقيادة ولا توجد معركة أو قدرة على التحفيز للمقاومة الشعبية دون تحديد للعدو ووضوحه في ذهن الجماهير، ولا يمكن أن يكون العدو مبهمًا، كمصطلحات النظام أو أعداء الشعب أو ما إلى ذلك، فإن هذه المصطلحات لا يمكنها دفع الجماهير للتحرك، قد تكون مفيدة في التنظير النخبوي والجلسات الفكرية أو حتى تحفيز الجماهير الغاضبة، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لتحريك الجماهير.
وبعد تحديد العدو يجب معرفته بشكل كامل ومفصل، كما أشار صن تزو في كتابه فن الحرب بقوله: "معرفة الآخر ومعرفة النفس؛ في مائة معركة ما من أخطر من عدم معرفة الآخر ومعرفة النفس؛ انتصار لقاء هزيمة، عدم معرفة الآخر وعدم معرفة النفس هزيمة مؤكدة في كل معركة"(10).
العنصر الرابع في المرحلة الأولى وهو الأرض: والمقصود بالأرض هنا هو الظروف الميدانية وتوزيع العدو على الأرض وقدراته ومسانديه، فبدون هذه المعلومات فإن الدخول في أي مواجهة مع العدو هي هزيمة ساحقة بدون معركة، وقد أكد صن تزو على ذلك حيث اعتبر عدم معرفة أرض الصراع من الأخطاء التي تؤدي للهزيمة، وهي العنصر الثالث من عناصر النصر الخمسة التي ذكرها(11).
هذه العناصر الأربعة تحتاج لتفصيل أكثر وبناء أكثر عمقًا، ولكنه يعتمد على الظروف الخاصة بكل مجتمع، وكما أعتقد تجربة فيتنام أحد التجارب النموذجية في هذا المجال(12)، وينبغي أيضًا ذِكر أن مدة هذه المرحلة ليست محددة، وتختلف طبقًا لظروف كل حالة من حالات المقاومة، إلا أن الأمر الهام هو ضرورة إدراك القيادة أن التسرع في التحرك للمرحلة الثانية دون اكتمالها خطر كبير، كما أن محاولة الوصول لشكل مثالي لهذه المرحلة هو أيضًا وهم كبير، لذلك فالقيادة هي عقل الثورة ومحركها المركزي، وهي المعنية باتخاذ القرار بضرورة التحرك من المرحلة الأولى للمرحلة الثانية، التي سنتحدث عنها في المقال التالي إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المؤمن الصادق، إريك هوفر، ص 192.
(2) المصدر السابق ص30.
(3) السابق، ص32.
(4) هناك اختلاف حول تقييم جوستاف لوبون العام للجماهير، ولكن لا يمكن إغفال قدرة أفكاره على الصمود والنجاح في الكثير من النقاط التي ذكرها والتي تتعرض لتوصيف الجماهير والقيادة الجماهيرية.
(5) سيكولوجية الجماهير، جوستاف لوبون، ص 13.
(6) المصدر السابق ص127.
(7) مصطلح إحصائي.
(8) المؤمن الصادق، إريك هوفر، ص 32.
(9) تشريح الثورة، كرين برينتن، ص 55-56.
(10) فن الحرب، صن تزو، ص61.
(11) السابق، ص41.
(12) يمكن مراجعة كتاب تجارب ست ثورات عالمية، د. منير شفيق.
‏١٤‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٣:٢٦ م‏
مقال (دور العسكريين في التيار الجهادي المصري) أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed Fared Mawlana] [لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1] لم ينشأ التيار الجهادي في مصر على هيئة تنظيم موحد؛ بل تكون على شكل مجموعات متعددة تأسست بداية من عام 1966 إثر إعدام سيد قطب، وتبنت معظم تلك المجموعات مبدأ الانقلاب العسكري كآلية للتغيير لأن "النظام الحاكم يحكم بالقوة والقمع ويسد أي منفذ للتغيير السلمي"(1)، فدفعت العديد من عناصرها للالتحاق بالجيش، ونجحت في ضم عدة ضباط ونظرا لتلك النزعة العسكرية للتيار الجهادي المصري برز بين صفوفه عدد من العسكريين الذين تركوا بصمات على مسيرة التيار من أبرزها: أ - تطوير نظريات التغيير: 1- نظرية عبود الزمر طور مقدّم المخابرات الحربية (عبود الزمر)(2) نظرية التغيير بانقلاب عسكري التي تبنتها مجموعات الجهاد، فأضاف لها محور تكوين مجموعات مدنية تدعم الانقلاب لحظة وقوعه فوفقًا لعبود "الانقلاب العسكري لابد أن تصحبه تحركات شعبية مؤيدة له"(3)، وظلت هذه النظرية تمثل مرتكزًا لإحدى أبرز التكلات الجهادية، ألا وهي جماعة الجهاد(4) قبل اندماجها فيما بعد مع تنظيم القاعدة. لم تظل أطروحة عبود مجرد حلمًا أو وهمًا، وإنما تم تنفيذها على أرض الواقع من خلال أحد أبرز قادة المجموعات الجهادية (محمد عبدالسلام فرج)، الذي اقتنع بأطروحة الزمر، واعتمد عليها في رسم مشروعه للتغيير الذي استند على محورين(5): الأول: تكوين مجموعات عسكرية من أفراد الجيش بغرض القيام بانقلاب عسكري. الثاني: إعداد مجموعات مدنية تدعم الانقلاب العسكري لحظة وقوعه. وفي تلك الآونة تصاعدت إجراءات السادات القمعية، فأصدر قرارًا باعتقال 1536 شخصية عامة في سبتمبر 1981، وشملت قرارات الاعتقال عددًا من قيادات المجموعات الجهادية؛ مما جعل اغتيال السادات من أولوياتهم قبل أن يفتك بهم ويكرر معهم التجربة الناصرية مع الإخوان. نجح محمد عبدالسلام فرج في ربط معظم المجموعات الجهادية(6) بمخططه المتمثل في اغتيال السادات والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون؛ لبث بيان يدعو الشعب لتأييد الثورة الوليدة بالتزامن مع مظاهرات يقودها الجهاديون بالميادين الرئيسية. ولم ينجح من المخطط سوى اغتيال السادات في 6 أكتوبر1981، بينما حاول عناصر الجماعة الإسلامية السيطرة على مدينة أسيوط يوم 8 أكتوبر تمهيدًا للزحف منها على بقية المحافظات، ولكن نجحت قوات الصاعقة والشرطة في السيطرة على المدينة عقب اشتباكات دامية. 2- نظرية عصام القمري صاغ الرائد بسلاح المدرعات (عصام القمري)(7) نظرية مختلفة عن عبود الزمر؛ إذ اعتبر القمري أن إمكانية التغلغل في الجيش وتجنيد العديد من أفراده للقيام بانقلاب عسكري أمر صعب المنال، في ظل المتابعة الأمنية الدقيقة للعناصر الملتزمة دينيًّا بالجيش، وانتقد اهتمام الجهاديين بمواجهة قوات الشرطة، وتمثلت نظريته البديلة في تدريب بضعة مئات من الشباب الجهادي على استخدام الأسلحة وقيادة المدرعات والدبابات، ومن ثم الاستيلاء بواسطتهم على العاصمة والصمود فيها لمدة أسبوعين مما يؤدي لإنهيار النظام حسب تصوره، ولكن لم تجد نظرية القمري من يتبناها ويسعى لتطبيقها عمليًّا داخل مصر، ويمكن القول بأن نظريته تتشابه نسبيًّا مع نمط تنظيم الدولة الإسلامية في السيطرة على المدن بالعراق والشام. ب- تطوير المهارات العسكرية لأعضاء التنظيمات الجهادية تبنت جماعة الجهاد(8) استراتيجية الإعداد لانقلاب عسكري مدعوم بمجموعات مدنية، ورفضت اعتماد أسلوب حرب العصابات؛ لأن "الطبيعة الجغرافية لمصر تجعل نشوء حرب عصابات فيها أمرًا غير ممكن"(9)؛ فاعتمدت على استقطاب عناصر مدنية وتسفيرها إلى الخارج لإعطائهم دورات عسكرية وشرعية وأمنية، ثم إعادتهم للبلاد دون ممارسة أي أعمال عنف بانتظار التمكن من التغلغل في صفوف الجيش لتنفيذ انقلاب عسكري تدعمه المجموعات المدنية السابق إعدادها. وقد ساهم العسكريون في تطوير مناهج التدريب والمهارات العسكرية لأعضاء الجماعة، وبالأخص في معسكرات التدريب بأفغانستان؛ إذ تطوع مقدم الصاعقة السابق (محمد أبو السعود)(10) في قوات المارينز الأمريكية واكتسب منها خبرات واسعة، ثم انتقل إلى أفغانستان وأعطى دورات متخصصة لعناصر جماعة الجهاد وتنظيم القاعدة في العمليات الخاصة وحروب المدن والطيران بالشراع والغطس والاغتيالات والحراسات الشخصية، فضلًا عن تدريسه دورة (جنرالات حرب)، تتضمن كيفية إدارة القوات في المعارك وقراءة الخرائط وتنظيم الكتائب والسرايا والفصائل والجماعات، ووفقًا لشهادة مسئول القاعدة بشرق إفريقيا (فاضل هارون) فإن أبوالسعود هو من أدخل في قيادة تنظيم القاعدة التخصصات وإتقان العمل، بدلًا من العمل العشوائي. كما استفاد تنظيم أنصار بيت المقدس في تطوير بنيته العسكرية من خبرات بعض ضباط الجيش المفصولين، مثل مقدم الصاعقة (هشام عشماوي) والمقدم (عماد عبدالحميد) والرائد (وليد بدر)(11). ج- تنفيذ العمليات الخطرة 1- حادثة الفنية العسكرية: وفد إلى مصر عام 1971 الفلسطيني (صالح سرية) ليعمل موظفًا بالجامعة العربية(12)، وأسس تنظيمًا جهاديًّا سعى لتنفيذ انقلاب عام 1974، اشتهر بأحداث (الفنية العسكرية)؛ إذ سعى أفراد التنظيم من طلبة كلية الفنية العسكرية بمساعدة أعضاء التنظيم من المدنيين في الهجوم على الكلية والاستيلاء على الأسلحة الموجودة بها، ثم التوجه لمقر اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي لمهاجمته وقت وجود السادات به، وفشل المخطط عقب اشتباكات محدودة، ونجحت قوات الجيش والشرطة في القبض على أفراد التنظيم والبالغ عددهم 92 شخصًا(13)، من بينهم 16طالب بكلية الفنية العسكرية وطالب واحد بالكلية الجوية و3 عسكريين بينهم نقيبان، ورغم بساطة الخطة وفشلها إلا أن خطورتها تكمن في كونها أول خطة انقلاب إسلامي تدخل حيز التنفيذ(14)، فضلًا عن رسالتها الرمزية برفض الحكم العلماني للسادات، رغم ما حققه من انجاز عسكري وسياسي وإعلامي في حرب أكتوبر. 2- اغتيال السادات قام الملازم خالد الإسلامبولي رفقة ثلاثة من أفراد الجيش السابقين بتنفيذ عملية اغتيال الرئيس السابق أنور السادات في 6 أكتوبر عام 1981، أثناء احتفالات ذكرى حرب أكتوبر، في عملية جريئة استغرقت 40 ثانية فقط. 3- محاولة اغتيال وزير الداخلية (محمد ابراهيم) إثر أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس 2013، نفذ رائد الجيش السابق (وليد بدر)(15) محاولة اغتيال وزير الداخلية (محمد ابراهيم) بسيارة مفخخة في 8 سبتمبر 2013، دون أن يتمكن من قتله. 4- حادثة الفرافرة 2 مع تساقط خلايا تنظيم أنصار بيت المقدس بالمحافظات مطلع 2014 أنشأ المقدم (هشام عشماوي) معسكرًا بالواحات؛ ليأوي العناصر الهاربة من المطاردات(16)، وبدأ عشماوي انطلاقًا من هذا المعسكر ينفذ عمليات بالصحراء الغربية؛ فهاجم: دورية جيش بالواحات(17) في 1-6-2014؛ مما أسفر عن مقتل 5 من عناصر الجيش، ثم هاجم وحدة عسكرية بالفرافرة في 20 يوليو 2014؛ مما أسفر عن مقتل 22 عنصرًا من الجيش، فيما تعد أول عملية إبادة لوحدة عسكرية مصرية كاملة بواسطة تنظيمات مسلحة داخلية. مما سبق نجد أن للعسكريين المصريين دورًا بارزًا في مسيرة التيارات الجهادية، سواء بتطوير نظريات التغيير وتكتيكات المواجهة، أو بتدريب الأفراد ورفع مستواهم القتالي، أو بتنفيذ العمليات الخطرة التي تحتاج لمستوى عالٍ من التدريب والاحتراف. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) عبدالمنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية المصرية، ص78، مكتبة مدبولي، ط1. نقل منيب هذا التفسير لاختيار الانقلاب العسكري كاستراتيجية للتغيير عن نبيل البرعي، ومصطفى يسري، من مؤسسي التيار الجهادي بمصر. (2) عبود الزمر كان مقدمًا بالمخابرات الحربية، وانضم إلى مجموعة طارق الزمر عام 1978، وتعرف على محمد فرج عام1979. (3) عبدالمنعم منيب، التنظيم والتنظير، ص11، مكتبة مدبولي ط1. (4) جماعة الجهاد تأسست نهاية عام 1988 ببيشاور. (5) انظر: عبدالمنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية، ص87، 88. (6) شاركت في أحداث 1981 مجموعة سالم الرحال، ومجموعة نبيل المغربي، ومجموعة الجماعة الإسلامية بالصعيد، مع بعض أفراد من مجموعة اسماعيل طنطاوي. (7) لمزيد من التفصيل انظر: أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، ص(68،69)، ط. دار إشبيلية. (8) أسست جماعة الجهاد مطلع التسعينات ثلاث معسكرات لتدريب عناصرها، بالقرب من جلال آباد تحت اسم (بدر- القعقاع- القادسية). (9) أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، ص 93. (10) لمزيد من التفصيل عن دوره انظر: عبدالله فاضل هارون، حرب على الإسلام، ج1، ص(313-328). (11) رائد جيش فصل من الخدمة عام 2005، شارك بالقتال في أفغانستان والعراق. (12) حصل صالح سرية على الدكتوراه في التربية، وعمل موظفًا بمنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية. (13) انظر بيانات المتهمين في القضية في مقال للمحامي مختار نوح، جريدة المصريون، 6-10-2009. (14) انظر: رفاعي سرور، التصور السياسي: ص279 ، 280. (15) فصل من الخدمة عام 2005، شارك بالقتال في أفغانستان والعراق. (16) انظر اعترافات عضوي المعسكر المقبوض عليهما: (علي صبحي فرحات ونمر إبراهيم)، بوابة أخبار اليوم، 26/3/2016. (17) حادثة الفرافرة الأولى.
مقال (دور العسكريين في التيار الجهادي المصري)
أحمد مولانا Ahmed Fared Mawlana

[لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق: http://wp.me/s8R1ax-1]


لم ينشأ التيار الجهادي في مصر على هيئة تنظيم موحد؛ بل تكون على شكل مجموعات متعددة تأسست بداية من عام 1966 إثر إعدام سيد قطب، وتبنت معظم تلك المجموعات مبدأ الانقلاب العسكري كآلية للتغيير لأن "النظام الحاكم يحكم بالقوة والقمع ويسد أي منفذ للتغيير السلمي"(1)، فدفعت العديد من عناصرها للالتحاق بالجيش، ونجحت في ضم عدة ضباط ونظرا لتلك النزعة العسكرية للتيار الجهادي المصري برز بين صفوفه عدد من العسكريين الذين تركوا بصمات على مسيرة التيار من أبرزها:
أ - تطوير نظريات التغيير:
1- نظرية عبود الزمر
طور مقدّم المخابرات الحربية (عبود الزمر)(2) نظرية التغيير بانقلاب عسكري التي تبنتها مجموعات الجهاد، فأضاف لها محور تكوين مجموعات مدنية تدعم الانقلاب لحظة وقوعه فوفقًا لعبود "الانقلاب العسكري لابد أن تصحبه تحركات شعبية مؤيدة له"(3)، وظلت هذه النظرية تمثل مرتكزًا لإحدى أبرز التكلات الجهادية، ألا وهي جماعة الجهاد(4) قبل اندماجها فيما بعد مع تنظيم القاعدة.
لم تظل أطروحة عبود مجرد حلمًا أو وهمًا، وإنما تم تنفيذها على أرض الواقع من خلال أحد أبرز قادة المجموعات الجهادية (محمد عبدالسلام فرج)، الذي اقتنع بأطروحة الزمر، واعتمد عليها في رسم مشروعه للتغيير الذي استند على محورين(5):
الأول: تكوين مجموعات عسكرية من أفراد الجيش بغرض القيام بانقلاب عسكري.
الثاني: إعداد مجموعات مدنية تدعم الانقلاب العسكري لحظة وقوعه.
وفي تلك الآونة تصاعدت إجراءات السادات القمعية، فأصدر قرارًا باعتقال 1536 شخصية عامة في سبتمبر 1981، وشملت قرارات الاعتقال عددًا من قيادات المجموعات الجهادية؛ مما جعل اغتيال السادات من أولوياتهم قبل أن يفتك بهم ويكرر معهم التجربة الناصرية مع الإخوان.
نجح محمد عبدالسلام فرج في ربط معظم المجموعات الجهادية(6) بمخططه المتمثل في اغتيال السادات والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون؛ لبث بيان يدعو الشعب لتأييد الثورة الوليدة بالتزامن مع مظاهرات يقودها الجهاديون بالميادين الرئيسية. ولم ينجح من المخطط سوى اغتيال السادات في 6 أكتوبر1981، بينما حاول عناصر الجماعة الإسلامية السيطرة على مدينة أسيوط يوم 8 أكتوبر تمهيدًا للزحف منها على بقية المحافظات، ولكن نجحت قوات الصاعقة والشرطة في السيطرة على المدينة عقب اشتباكات دامية.
2- نظرية عصام القمري
صاغ الرائد بسلاح المدرعات (عصام القمري)(7) نظرية مختلفة عن عبود الزمر؛ إذ اعتبر القمري أن إمكانية التغلغل في الجيش وتجنيد العديد من أفراده للقيام بانقلاب عسكري أمر صعب المنال، في ظل المتابعة الأمنية الدقيقة للعناصر الملتزمة دينيًّا بالجيش، وانتقد اهتمام الجهاديين بمواجهة قوات الشرطة، وتمثلت نظريته البديلة في تدريب بضعة مئات من الشباب الجهادي على استخدام الأسلحة وقيادة المدرعات والدبابات، ومن ثم الاستيلاء بواسطتهم على العاصمة والصمود فيها لمدة أسبوعين مما يؤدي لإنهيار النظام حسب تصوره، ولكن لم تجد نظرية القمري من يتبناها ويسعى لتطبيقها عمليًّا داخل مصر، ويمكن القول بأن نظريته تتشابه نسبيًّا مع نمط تنظيم الدولة الإسلامية في السيطرة على المدن بالعراق والشام.
ب- تطوير المهارات العسكرية لأعضاء التنظيمات الجهادية
تبنت جماعة الجهاد(8) استراتيجية الإعداد لانقلاب عسكري مدعوم بمجموعات مدنية، ورفضت اعتماد أسلوب حرب العصابات؛ لأن "الطبيعة الجغرافية لمصر تجعل نشوء حرب عصابات فيها أمرًا غير ممكن"(9)؛ فاعتمدت على استقطاب عناصر مدنية وتسفيرها إلى الخارج لإعطائهم دورات عسكرية وشرعية وأمنية، ثم إعادتهم للبلاد دون ممارسة أي أعمال عنف بانتظار التمكن من التغلغل في صفوف الجيش لتنفيذ انقلاب عسكري تدعمه المجموعات المدنية السابق إعدادها.
وقد ساهم العسكريون في تطوير مناهج التدريب والمهارات العسكرية لأعضاء الجماعة، وبالأخص في معسكرات التدريب بأفغانستان؛ إذ تطوع مقدم الصاعقة السابق (محمد أبو السعود)(10) في قوات المارينز الأمريكية واكتسب منها خبرات واسعة، ثم انتقل إلى أفغانستان وأعطى دورات متخصصة لعناصر جماعة الجهاد وتنظيم القاعدة في العمليات الخاصة وحروب المدن والطيران بالشراع والغطس والاغتيالات والحراسات الشخصية، فضلًا عن تدريسه دورة (جنرالات حرب)، تتضمن كيفية إدارة القوات في المعارك وقراءة الخرائط وتنظيم الكتائب والسرايا والفصائل والجماعات، ووفقًا لشهادة مسئول القاعدة بشرق إفريقيا (فاضل هارون) فإن أبوالسعود هو من أدخل في قيادة تنظيم القاعدة التخصصات وإتقان العمل، بدلًا من العمل العشوائي.
كما استفاد تنظيم أنصار بيت المقدس في تطوير بنيته العسكرية من خبرات بعض ضباط الجيش المفصولين، مثل مقدم الصاعقة (هشام عشماوي) والمقدم (عماد عبدالحميد) والرائد (وليد بدر)(11).
ج- تنفيذ العمليات الخطرة
1- حادثة الفنية العسكرية:
وفد إلى مصر عام 1971 الفلسطيني (صالح سرية) ليعمل موظفًا بالجامعة العربية(12)، وأسس تنظيمًا جهاديًّا سعى لتنفيذ انقلاب عام 1974، اشتهر بأحداث (الفنية العسكرية)؛ إذ سعى أفراد التنظيم من طلبة كلية الفنية العسكرية بمساعدة أعضاء التنظيم من المدنيين في الهجوم على الكلية والاستيلاء على الأسلحة الموجودة بها، ثم التوجه لمقر اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي لمهاجمته وقت وجود السادات به، وفشل المخطط عقب اشتباكات محدودة، ونجحت قوات الجيش والشرطة في القبض على أفراد التنظيم والبالغ عددهم 92 شخصًا(13)، من بينهم 16طالب بكلية الفنية العسكرية وطالب واحد بالكلية الجوية و3 عسكريين بينهم نقيبان، ورغم بساطة الخطة وفشلها إلا أن خطورتها تكمن في كونها أول خطة انقلاب إسلامي تدخل حيز التنفيذ(14)، فضلًا عن رسالتها الرمزية برفض الحكم العلماني للسادات، رغم ما حققه من انجاز عسكري وسياسي وإعلامي في حرب أكتوبر.
2- اغتيال السادات
قام الملازم خالد الإسلامبولي رفقة ثلاثة من أفراد الجيش السابقين بتنفيذ عملية اغتيال الرئيس السابق أنور السادات في 6 أكتوبر عام 1981، أثناء احتفالات ذكرى حرب أكتوبر، في عملية جريئة استغرقت 40 ثانية فقط.
3- محاولة اغتيال وزير الداخلية (محمد ابراهيم)
إثر أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس 2013، نفذ رائد الجيش السابق (وليد بدر)(15) محاولة اغتيال وزير الداخلية (محمد ابراهيم) بسيارة مفخخة في 8 سبتمبر 2013، دون أن يتمكن من قتله.
4- حادثة الفرافرة 2
مع تساقط خلايا تنظيم أنصار بيت المقدس بالمحافظات مطلع 2014 أنشأ المقدم (هشام عشماوي) معسكرًا بالواحات؛ ليأوي العناصر الهاربة من المطاردات(16)، وبدأ عشماوي انطلاقًا من هذا المعسكر ينفذ عمليات بالصحراء الغربية؛ فهاجم: دورية جيش بالواحات(17) في 1-6-2014؛ مما أسفر عن مقتل 5 من عناصر الجيش، ثم هاجم وحدة عسكرية بالفرافرة في 20 يوليو 2014؛ مما أسفر عن مقتل 22 عنصرًا من الجيش، فيما تعد أول عملية إبادة لوحدة عسكرية مصرية كاملة بواسطة تنظيمات مسلحة داخلية.
مما سبق نجد أن للعسكريين المصريين دورًا بارزًا في مسيرة التيارات الجهادية، سواء بتطوير نظريات التغيير وتكتيكات المواجهة، أو بتدريب الأفراد ورفع مستواهم القتالي، أو بتنفيذ العمليات الخطرة التي تحتاج لمستوى عالٍ من التدريب والاحتراف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبدالمنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية المصرية، ص78، مكتبة مدبولي، ط1. نقل منيب هذا التفسير لاختيار الانقلاب العسكري كاستراتيجية للتغيير عن نبيل البرعي، ومصطفى يسري، من مؤسسي التيار الجهادي بمصر.
(2) عبود الزمر كان مقدمًا بالمخابرات الحربية، وانضم إلى مجموعة طارق الزمر عام 1978، وتعرف على محمد فرج عام1979.
(3) عبدالمنعم منيب، التنظيم والتنظير، ص11، مكتبة مدبولي ط1.
(4) جماعة الجهاد تأسست نهاية عام 1988 ببيشاور.
(5) انظر: عبدالمنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية، ص87، 88.
(6) شاركت في أحداث 1981 مجموعة سالم الرحال، ومجموعة نبيل المغربي، ومجموعة الجماعة الإسلامية بالصعيد، مع بعض أفراد من مجموعة اسماعيل طنطاوي.
(7) لمزيد من التفصيل انظر: أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، ص(68،69)، ط. دار إشبيلية.
(8) أسست جماعة الجهاد مطلع التسعينات ثلاث معسكرات لتدريب عناصرها، بالقرب من جلال آباد تحت اسم (بدر- القعقاع- القادسية).
(9) أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، ص 93.
(10) لمزيد من التفصيل عن دوره انظر: عبدالله فاضل هارون، حرب على الإسلام، ج1، ص(313-328).
(11) رائد جيش فصل من الخدمة عام 2005، شارك بالقتال في أفغانستان والعراق.
(12) حصل صالح سرية على الدكتوراه في التربية، وعمل موظفًا بمنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية.
(13) انظر بيانات المتهمين في القضية في مقال للمحامي مختار نوح، جريدة المصريون، 6-10-2009.
(14) انظر: رفاعي سرور، التصور السياسي: ص279 ، 280.
(15) فصل من الخدمة عام 2005، شارك بالقتال في أفغانستان والعراق.
(16) انظر اعترافات عضوي المعسكر المقبوض عليهما: (علي صبحي فرحات ونمر إبراهيم)، بوابة أخبار اليوم، 26/3/2016.
(17) حادثة الفرافرة الأولى.
‏١٣‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١:٢٢ م‏
مقال (لماذا الشريعة؟) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق. كتب @[100001347771646:2048:محمد وفيق زين العابدين]: قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [سورة النساء: الآيتان 60،61]. لم يكن الله عز وجل ليرتضي لعباده دينًا خاتمًا يبلى بمرور الزمن، فلا يكون قادرًا على حل مشكلاتهم أو يوقعهم في الحرج والمشقة، فقد أنزل تعالى على خاتم رسله شريعة كاملة في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر عباده بطاعتها ولزومها، واعتبر التسليم المطلق بها والانقياد التام لها وسلامة الصدر تجاهها من القلق والاضطراب من شرائط الإيمان، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65]، وجعل من استنكر أو جحد أو رفض شيئًا معلومًا منها خارجًا عنها، فحقيقة الشريعة كما يقول ابن تيمية؛ (اتِّباع الرُّسل والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرُّسل، وطاعة الرُّسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه)(1). ولو كان المُسلم حُر الإرادة يأخذ منها ما شاء ويترك منها ما شاء، لكان إحاطتها بشئون الإنسان كلها ­ في السلم والحرب، في الوفاق والمنازعة، في العبادة والمعاملة ­ ضرب من العبث، فهل تَسُنّ الدول القوانين لحمل الناس عليها أم لتخييرهم في الأخذ بها ­ ولله المثل الأعلى؟! إن غاية القوانين هي ضبط حياة الأفراد ومعاملاتهم داخل المجتمع في كل وقت، بحيث توازن بين مصالحهم جميعًا وتُحقق حد أدنى من السعادة لكل فرد فيهم، والشرع فضلًا عن سعيه لإضفاء هذه الفاعلية على العلاقات التي يخلفها النظام الاجتماعي من خلال الرقابة عليها أو إبطالها أو ترتيب النتائج عليها، يضمن لهم سعادة أبدية في حياتهم الأخروية. والفارق الجوهري بين الشرع والقانون يكمن في أن الأخير لا يعدو أن يكون جزءًا من السلوك الإنساني ­ وهذا مما لا يُجادل فيه أحد ­ ومشكلة النظام الاجتماعي متعلقة بالسلوك الإنساني في الأساس وتكمن في التوفيق بين الغايات الذاتية والغايات غير الذاتية لدى تصادمها وتعارضها، فالإنسان القانوني يسعى لحل مشكلته الاجتماعية بذات السلوك الذي تمخضت عنه المشكلة، وقد يوفق في هذا وقد لا يوفق، لكن التوفيق رهن استمرار الظروف الاجتماعية بنمط واحد، فالقانون لا يُمكن أن تستمر صلاحيته عبر الزمن إلا إذا انتقلت خلفيته الاجتماعية معه عبر الزمن(2)، وهذا مما يستحيل، ولذلك فالقانون نفسه الذي قد يصلح في حل مشكلة ما في مكان ما هو ذاته قد يتسبب في إحداث ذات المشكلة في مكان آخر نتيجة تغاير الظروف الاجتماعية. أما الشريعة فلا ينتج عنها مثل هذا التناقض لأنها خارجة في الأصل عن السلوك الإنساني، أو بعبارة أدق: السلوك الإنساني فيها مقيد، فلا يأتيها العجز من بين يديها ولا من خلفها، لأنها شريعة إلهية سماوية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، شريعة دائمة مرنة عامة تتسع لحاجات البشر في كل زمان ومكان مهما تعددت ومهما تنوعت وكيفما تطورت، لأنها من صنع خالق البشر الخبير الحكيم الذي هو صانع العباد ذاتهم وصانع سلوكهم الإنساني، فهو أدرى بهم وبأحوالهم وبما فيه صلاحهم، ولذلك نراها صلُحت لتحكم هذا السلوك وأدت فاعليتها في ضبط العلاقات الإنسانية لما يربو على ألف وثلاثمائة عام، وهو ما لم يتكرر في أي حقبة من حقب التاريخ، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون. وينتج عن هذا أن نصوص القانون قابلة للإلغاء بطبيعتها، أما نصوص الشرع فهي غير قابلة للإلغاء، وغير قابلة للتجزئة فلا يجوز لمسلم أن يقبل بتطبيق بعضها وأن يترك بعضها، لأن مصالح العباد لا زالت متضاربة، ورغبتهم في ضبطها والموازنة بينها لا تنقطع. وبرغم أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرعٍ رباني سماوي محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ لكن إدراك هذه المعاني الفارقة بين القانون الوضعي والشرع الآلهي من أهم ما يُمكن أن يُفهم به لماذا وجبت الشريعة ووجب تطبيقها، لا خيار في ذلك لحاكم ولا محكوم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [سورة الأحزاب: الآية 36]، ولا تَصالح على غير ذلك بين أفراد أي جماعة مسلمة، ومن أنكر وجوبها منهم فقد خرج عن الإسلام جملةً، وإن صلى وزكى وصام وحج وزعم أنه من المسلمين ما زعم. ولذلك جعل الله من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا كل بحسب اعتقاده في الشرع، وهذا بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل أدنى تأويل، فإما تحاكم لله واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإما تحاكم للهوى واتباع للأهواء، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص: الآية 50]. والرضاء بغير ما أنزل الله هو رضاء بالطاغوت الذي أُمر المؤمنون بأن يكفروا به، فطاغوت كل قوم ما عبدوه من دون الله أو تحاكموا إليه من دون الله أو اتبعوه على غير بصيرة من الله، ومن آمن بالله ليس له أن يُؤمن بغيره، ومن رضي بشرع الله ليس له أن يرضى بحكم ينقض حكمه ولو شرَّعته العوالم المتحضرة أجمع، أو قضت به أعلى محاكم الدنيا، إذ حكم القاضي وتشريع الهيئة الحاكمة لا يُحلُّ حرامًا، وطاعة ولي الأمر مشروطة بألا تكون بمعصية الشارع الحكيم، بل لا ولاية لمن عطل أحكام الشريعة أو شرع ما لم يأذن به الله أو استباح المُجمَع على تحريمه بغير سند شرعي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: الآية 59]، وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى: الآية 9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»(3). بل إن السياسة العادلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتطبيق الشريعة وإقامة نظم الحكم على أصولها، فكما قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين: (الأُمة الحرة هي التي تُساس بقوانين ونُظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها أو إرادة جمهورها، فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تُساس بقوانين ونُظم يُراعى فيها أصول شريعتها، وكل قوة تَضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها فهي حكومة مستبدة غير عادلة)(4). فقانون أي أُمة هو مرآة أحوالها المادية والفكرية والاجتماعية، وإذا كان من المُفترض أن يكون القانون هو مصدر سعادة كل مجتمع ونهضته ­ كما يقول فلاسفة القانون(5). فإنه لن يكون كذلك إذا لم يُحقق متطلباتهم وآمالهم الثقافية والفكرية والمادية التي تُمليها طبيعة بيئتهم الدينية والاجتماعية(6)، بل سيكون وبالًا عليهم، وسيكون مصدرًا لتعاستهم وشقاوتهم لا إسعادهم ونهضتهم، إذ كُل فرد أسير قيمه ومبادئه الدينية والاجتماعية، وهي أعلى عنده من أي تقنين وتشريع، وما يدفعه إلى احترام أي قانون عادل إلا عدالته، ولا يدفعه إلى انتهاك أي قانون ظالم إلا ظُلمه وجوره، لذا كانت ضرورة الرجوع إلى الشريعة ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمَّة فجوة بين طبيعة واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم. ولا غرابة في النتيجة المشار إليها، ففي إطار الأخلاق ذاتها ­ والمفترض أنها مبادئ عامة مثالية مجردة للسلوك الإنساني أعم من الدين ­ يذهب فلاسفة الأخلاق الوضعيون المنطقيون إلى أن السبب في تباين المجتمعات البشرية في السعادة يُعزى إلى الاختلاف في أخلاقها، ومن ثمَّ رغباتها ومن ثمَّ معتقداتها، إذ الأخلاق عندهم محاولة لتحقيق الرغبات الجماعية للجماعة وتأكيدها في نفوس الأفراد، وعلى الجانب الآخر هي محاولة الأفراد أن يجعلوا رغباتهم جزء من رغبات الجماعة، فهي عندهم في النهاية محض نزعات فردية وميول جماعية، وكلها ما هي إلا انعكاس للمعتقدات، ومن ثمَّ فالمجتمع الذي يتفق أعضاؤه على مجموعة أكبر من الرغبات من المرجح أن يكون أكثر توافقًا وسعادةً من غيره الذي تتعارض رغبات أفراده، فالمبادئ الأخلاقية في النهاية لا تنفصل عن مصلحة المجتمع وأفراده، وهذه المبادئ تعبر عن الشعور السائد إلى حد كبير في مجتمع معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة أكبر عدد ممكن، لذلك انتهى برتراند راسل ­ أحد أشهر الوضعيين المنطقيين ­ إلى أنه من الحكمة أن يعمل النظام الاجتماعي في كل جماعة على توحيد رغبات أفراده، وتثبيط رغباتهم المتضاربة المتعارضة مع المصلحة الجماعية، عن طريق التعليم والنظم الاجتماعية المصممة لهذه الغاية. إن فلاسفة القانون يقولون بأن المجتمع يعتمد ولابُد على القانون، وهذا خطأ بلا ريب، فالقانون هو الذي يعتمد على المجتمع، وعليه أن يُعبر عن المصالح والحاجات المشتركة لهذا المجتمع، وليس عن مشيئة فرد أو مجموعة أفراد يَفرضون مصالحهم الخاصة عبر قوانين يُلزمون بها باقي أفراد المجتمع بالقوة، وهذا هو الأساس الذي يستمد منه القانون شرعيته، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للشريعة التي تعلو في مصدرها ومبادئها على جميع الأفراد. فالعقول التي مُنحت للبشرية لتقودها لمعرفة ربها وللاهتداء إلى سبُل السعادة التي خطها لها، أصبحت وبالًا عليها حين حادت عن فطرتها الوظيفية، حين جحدت فضل الله تعالى عليها، وأنكرت حكمته، وبطرت حُسن تقديره، وأساءت الظن بتدبيره، فاستعاضت بقوانينه الكاملة قوانينها القاصرة، واستبدلت بشريعته المُحكمة شرائعها المُنحلة، فسبَحت بعجرفتها ضد تيار الفطرة السوية وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا، ومضت بغرورها في دروب الانسياق لِبرَك الانحراف الآسِن، فبدلت نعمة الله كُفرًا وأحلَّت بأقوامها دور البوار، وتركها الله عز وجل لزيغها حتى تعلم مآل انقلاب العقول على بارئها، وعاقبة انتكاس فطرتها، لا من جهة العاقبة الدينية أو الأخروية فحسب، بل من جهة العاقبة المادية والمَغَبَّة الدنيوية في المقام الأول، فماذا جنت البشرية من القوانين الوضعية؟! لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالًا للشك أن تطبيق هذه القوانين كان ولا زال هو أهم أسباب انتشار الجريمة وازدياد معدلاتها وتنوعها على نحو لم يكن في أسلافنا، وأن تلك القوانين لم تؤد دورها في الوفاء بمتطلبات المُتقاضين، وحل خصوماتهم، وفض نزاعاتهم، فلا هي زجرًا حققت، ولا هي قضايا أنجزت، ولا هي حقوقًا لأصحابها سلمت، بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والامتناع عن أداء الحقوق والواجبات، وزيادة البغي والعدوان، وشيوع الفقر والبُؤْس والحِرمان، وإثارة الفوضى والهمجية، وبث روح الانتقام والثأر لدى المُتخاصمين. إن أهم إفرازات الواقع ودلالاته عدم صلاحية العقل البشري لِئن يكون مصدرًا للتشريع، فالتاريخ يُثبت لنا يومًا بعد يوم أن بِنْيَة العقل ضعيفة وَهْنَة يسهُل غشها وخِداعها والاحتيال عليها، إذ يُمكن تزويد جمع من العقول بمعلومات خاطئة معيبة، أو إغوائها بضلالات فاسدة مُنحرفة، فتقع في الخطأ الفاحش بكل سهولة، وتنقاد للضلال البين بلا أدنى مُبالاة ! بل أثبت الواقع أن العقول مع اجتماعها قد تكون غير قادرة على البحث في الأدوات والأساليب والصفات وظواهر الحوادث وهيئات الناس ومظاهرهم، وعلى مقدار ما أَبْدته هذه العقول من براعة في التعامل مع كم الأحداث، فقد أَبْدت في المقابل عجزًا غير محدود في التعامل مع كيفها، وعلى قدر ما كان يُفترض أن تقوم به إذا تعاضدت مع بعضها من تفكير منطقي رشيد، فقد انزلقت في مهاوٍ وحفر التفكير العاطفي الانفعالي والخيالي الوهمي بلا أدنى حكمة أو بصيرة. ولعل هذا ما يُفسر أن واحدًا مثل إدموند هوسول الفيلسوف الألماني الشهير مؤسس علم الظاهريات، بعد أن كتب آلاف الصفحات في فلسفات العقل والمنطق والظاھريات، انطلق يُحذر أوروبا من مخاطر منهجيتها العلمية والفكرية، ويُهاجم العقل مُتسائلًا في محاضرة له عام 1935م؛ ھل استقال العقل وفقد دوره في الحياة، أم أنه خلافًا لذلك كشف عن وجهه الحقيقي الانتهازي الماكر والنفعي؟! إن مشكلة القوانين الوضعية ليست في درجة تحضُّرها ورُقيها، فمهما تفاوتت في ذلك ومهما ارتقت، فمصدرها النهائي هو العقل البشري الذي يحول قصوره دون الوصول إلى غاية الكمال التشريعي، لاستحالة خلوه من الهوى. إن صلاحية أي تشريع تُقرر على أساس صلاحية قيمه ومبادئه وتجانسها مع الواقع، فالسياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة مع البيئة التي تضبطها، فإن قامت علي عناصر متنافرة معها افتقدت الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق أهدافه المتعلقة بضبط الحياة وإسعاد الناس. وفي هذا الإطار تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع خالق العقول والأهواء عز وجل، الذي هو أعلم بأحوال عباده، وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأولى بالتطبيق، إذ لا تتحكم في سنها الآراء، ولا تعبث في وجهتها الأهواء، فلا يوجد فيها أية مبدأ معيب، أو حكم غير مصيب، والحقُ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنة بين شرعٍ رباني سماوي مُحكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني: مجموع الفتاوى، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، طبعة 1416هـ (1995م)، ج 19 ص 309. (2) يقول دياس ­ أحد فلاسفة القانون الإنكليز وأشهر أساتذتهم في جامعة كمبريدج: (فقد يكون القانون غير صالح في زمن معين، ولكنه يُعتبر صالحًا في وقت أو زمن آخر، إذا كانت خلفيته الاجتماعية قد انتقلت معه). دياس: فلسفة القانون، ترجمة هنري رياض، دار الجيل (بيروت)، الطبعة الأولى 1406هـ (1886م)، ص 83. (3) أخرجه البخاري في صحيحه (7145/الأحكام)، ومُسلم في صحيحه (1840/الإمارة) كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (4) محمد الخضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، المكتبة السلفية (القاهرة)، طبعة 1344هـ، ص 244. (5) على سبيل المثال، يقول بنتام: (يجب أن تكون وظيفة القوانين هي تحقيق أعظم قدر من السعادة لدى أكبر عدد من الناس). دياس: فلسفة القانون، مرجع سابق، ص 90. (6) يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون Gustave Le Bon: (وإذا أردنا أن نعبّر عن العوامل التي يخضع الإنسان لها في حركته تعبيرًا بسيطًا قلنا إنها ثلاثة أنواع: أولها وأشدها تأثيرًا عامل الأجداد، والثاني تأثير الوالدين، والثالث تأثير البيئة، وقد ظن بعضهم أن هذا الأخير هو أشدها فعلًا وهو في الحقيقة أضعفها، لأن البيئة وما يندرج تحتها من المؤثرات المادية والمعنوية التي تعمل في الإنسان مُدة حياته وعلى الأخص في زمن التربية لا تُؤثر فيه إلا أثرًا ضعيفًا، وإنما يعظُم أثرها إذا توالى بالتناسل زمنًا طويلًا، وعلى ذلك فالرجل ابن أمته دائمًا مهما كان عمله، ومجموع الأفكار والمشاعر التي يأتي بها أفراد كل أمة يوم يولدون هي روح تلك الأمة، وهي خفية في ماهيتها، لكنها ظاهرة ظهورًا كليًا في آثارها، لأنها هي الحاكمة في الحقيقة على تطور الأُمة). غوستاف لوبون: سر تطور الأُمم، ترجمة أحمد فتحي زغلول، تحقيق أسعد السحمراني، عدنان حسين، دار النفائس (بيروت)، الطبعة الأولى 1407هـ، ص 20،21.
مقال (لماذا الشريعة؟) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق.

كتب محمد وفيق زين العابدين:

قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [سورة النساء: الآيتان 60،61].

لم يكن الله عز وجل ليرتضي لعباده دينًا خاتمًا يبلى بمرور الزمن، فلا يكون قادرًا على حل مشكلاتهم أو يوقعهم في الحرج والمشقة، فقد أنزل تعالى على خاتم رسله شريعة كاملة في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر عباده بطاعتها ولزومها، واعتبر التسليم المطلق بها والانقياد التام لها وسلامة الصدر تجاهها من القلق والاضطراب من شرائط الإيمان، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65]، وجعل من استنكر أو جحد أو رفض شيئًا معلومًا منها خارجًا عنها، فحقيقة الشريعة كما يقول ابن تيمية؛ (اتِّباع الرُّسل والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرُّسل، وطاعة الرُّسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه)(1).

ولو كان المُسلم حُر الإرادة يأخذ منها ما شاء ويترك منها ما شاء، لكان إحاطتها بشئون الإنسان كلها ­ في السلم والحرب، في الوفاق والمنازعة، في العبادة والمعاملة ­ ضرب من العبث، فهل تَسُنّ الدول القوانين لحمل الناس عليها أم لتخييرهم في الأخذ بها ­ ولله المثل الأعلى؟!

إن غاية القوانين هي ضبط حياة الأفراد ومعاملاتهم داخل المجتمع في كل وقت، بحيث توازن بين مصالحهم جميعًا وتُحقق حد أدنى من السعادة لكل فرد فيهم، والشرع فضلًا عن سعيه لإضفاء هذه الفاعلية على العلاقات التي يخلفها النظام الاجتماعي من خلال الرقابة عليها أو إبطالها أو ترتيب النتائج عليها، يضمن لهم سعادة أبدية في حياتهم الأخروية.

والفارق الجوهري بين الشرع والقانون يكمن في أن الأخير لا يعدو أن يكون جزءًا من السلوك الإنساني ­ وهذا مما لا يُجادل فيه أحد ­ ومشكلة النظام الاجتماعي متعلقة بالسلوك الإنساني في الأساس وتكمن في التوفيق بين الغايات الذاتية والغايات غير الذاتية لدى تصادمها وتعارضها، فالإنسان القانوني يسعى لحل مشكلته الاجتماعية بذات السلوك الذي تمخضت عنه المشكلة، وقد يوفق في هذا وقد لا يوفق، لكن التوفيق رهن استمرار الظروف الاجتماعية بنمط واحد، فالقانون لا يُمكن أن تستمر صلاحيته عبر الزمن إلا إذا انتقلت خلفيته الاجتماعية معه عبر الزمن(2)، وهذا مما يستحيل، ولذلك فالقانون نفسه الذي قد يصلح في حل مشكلة ما في مكان ما هو ذاته قد يتسبب في إحداث ذات المشكلة في مكان آخر نتيجة تغاير الظروف الاجتماعية.

أما الشريعة فلا ينتج عنها مثل هذا التناقض لأنها خارجة في الأصل عن السلوك الإنساني، أو بعبارة أدق: السلوك الإنساني فيها مقيد، فلا يأتيها العجز من بين يديها ولا من خلفها، لأنها شريعة إلهية سماوية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، شريعة دائمة مرنة عامة تتسع لحاجات البشر في كل زمان ومكان مهما تعددت ومهما تنوعت وكيفما تطورت، لأنها من صنع خالق البشر الخبير الحكيم الذي هو صانع العباد ذاتهم وصانع سلوكهم الإنساني، فهو أدرى بهم وبأحوالهم وبما فيه صلاحهم، ولذلك نراها صلُحت لتحكم هذا السلوك وأدت فاعليتها في ضبط العلاقات الإنسانية لما يربو على ألف وثلاثمائة عام، وهو ما لم يتكرر في أي حقبة من حقب التاريخ، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون.

وينتج عن هذا أن نصوص القانون قابلة للإلغاء بطبيعتها، أما نصوص الشرع فهي غير قابلة للإلغاء، وغير قابلة للتجزئة فلا يجوز لمسلم أن يقبل بتطبيق بعضها وأن يترك بعضها، لأن مصالح العباد لا زالت متضاربة، ورغبتهم في ضبطها والموازنة بينها لا تنقطع.

وبرغم أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرعٍ رباني سماوي محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ لكن إدراك هذه المعاني الفارقة بين القانون الوضعي والشرع الآلهي من أهم ما يُمكن أن يُفهم به لماذا وجبت الشريعة ووجب تطبيقها، لا خيار في ذلك لحاكم ولا محكوم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [سورة الأحزاب: الآية 36]، ولا تَصالح على غير ذلك بين أفراد أي جماعة مسلمة، ومن أنكر وجوبها منهم فقد خرج عن الإسلام جملةً، وإن صلى وزكى وصام وحج وزعم أنه من المسلمين ما زعم.

ولذلك جعل الله من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا كل بحسب اعتقاده في الشرع، وهذا بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل أدنى تأويل، فإما تحاكم لله واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإما تحاكم للهوى واتباع للأهواء، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص: الآية 50].

والرضاء بغير ما أنزل الله هو رضاء بالطاغوت الذي أُمر المؤمنون بأن يكفروا به، فطاغوت كل قوم ما عبدوه من دون الله أو تحاكموا إليه من دون الله أو اتبعوه على غير بصيرة من الله، ومن آمن بالله ليس له أن يُؤمن بغيره، ومن رضي بشرع الله ليس له أن يرضى بحكم ينقض حكمه ولو شرَّعته العوالم المتحضرة أجمع، أو قضت به أعلى محاكم الدنيا، إذ حكم القاضي وتشريع الهيئة الحاكمة لا يُحلُّ حرامًا، وطاعة ولي الأمر مشروطة بألا تكون بمعصية الشارع الحكيم، بل لا ولاية لمن عطل أحكام الشريعة أو شرع ما لم يأذن به الله أو استباح المُجمَع على تحريمه بغير سند شرعي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: الآية 59]، وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى: الآية 9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»(3).

بل إن السياسة العادلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتطبيق الشريعة وإقامة نظم الحكم على أصولها، فكما قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين: (الأُمة الحرة هي التي تُساس بقوانين ونُظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها أو إرادة جمهورها، فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تُساس بقوانين ونُظم يُراعى فيها أصول شريعتها، وكل قوة تَضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها فهي حكومة مستبدة غير عادلة)(4).
فقانون أي أُمة هو مرآة أحوالها المادية والفكرية والاجتماعية، وإذا كان من المُفترض أن يكون القانون هو مصدر سعادة كل مجتمع ونهضته ­ كما يقول فلاسفة القانون(5).

فإنه لن يكون كذلك إذا لم يُحقق متطلباتهم وآمالهم الثقافية والفكرية والمادية التي تُمليها طبيعة بيئتهم الدينية والاجتماعية(6)، بل سيكون وبالًا عليهم، وسيكون مصدرًا لتعاستهم وشقاوتهم لا إسعادهم ونهضتهم، إذ كُل فرد أسير قيمه ومبادئه الدينية والاجتماعية، وهي أعلى عنده من أي تقنين وتشريع، وما يدفعه إلى احترام أي قانون عادل إلا عدالته، ولا يدفعه إلى انتهاك أي قانون ظالم إلا ظُلمه وجوره، لذا كانت ضرورة الرجوع إلى الشريعة ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمَّة فجوة بين طبيعة واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم.

ولا غرابة في النتيجة المشار إليها، ففي إطار الأخلاق ذاتها ­ والمفترض أنها مبادئ عامة مثالية مجردة للسلوك الإنساني أعم من الدين ­ يذهب فلاسفة الأخلاق الوضعيون المنطقيون إلى أن السبب في تباين المجتمعات البشرية في السعادة يُعزى إلى الاختلاف في أخلاقها، ومن ثمَّ رغباتها ومن ثمَّ معتقداتها، إذ الأخلاق عندهم محاولة لتحقيق الرغبات الجماعية للجماعة وتأكيدها في نفوس الأفراد، وعلى الجانب الآخر هي محاولة الأفراد أن يجعلوا رغباتهم جزء من رغبات الجماعة، فهي عندهم في النهاية محض نزعات فردية وميول جماعية، وكلها ما هي إلا انعكاس للمعتقدات، ومن ثمَّ فالمجتمع الذي يتفق أعضاؤه على مجموعة أكبر من الرغبات من المرجح أن يكون أكثر توافقًا وسعادةً من غيره الذي تتعارض رغبات أفراده، فالمبادئ الأخلاقية في النهاية لا تنفصل عن مصلحة المجتمع وأفراده، وهذه المبادئ تعبر عن الشعور السائد إلى حد كبير في مجتمع معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة أكبر عدد ممكن، لذلك انتهى برتراند راسل ­ أحد أشهر الوضعيين المنطقيين ­ إلى أنه من الحكمة أن يعمل النظام الاجتماعي في كل جماعة على توحيد رغبات أفراده، وتثبيط رغباتهم المتضاربة المتعارضة مع المصلحة الجماعية، عن طريق التعليم والنظم الاجتماعية المصممة لهذه الغاية.

إن فلاسفة القانون يقولون بأن المجتمع يعتمد ولابُد على القانون، وهذا خطأ بلا ريب، فالقانون هو الذي يعتمد على المجتمع، وعليه أن يُعبر عن المصالح والحاجات المشتركة لهذا المجتمع، وليس عن مشيئة فرد أو مجموعة أفراد يَفرضون مصالحهم الخاصة عبر قوانين يُلزمون بها باقي أفراد المجتمع بالقوة، وهذا هو الأساس الذي يستمد منه القانون شرعيته، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للشريعة التي تعلو في مصدرها ومبادئها على جميع الأفراد.

فالعقول التي مُنحت للبشرية لتقودها لمعرفة ربها وللاهتداء إلى سبُل السعادة التي خطها لها، أصبحت وبالًا عليها حين حادت عن فطرتها الوظيفية، حين جحدت فضل الله تعالى عليها، وأنكرت حكمته، وبطرت حُسن تقديره، وأساءت الظن بتدبيره، فاستعاضت بقوانينه الكاملة قوانينها القاصرة، واستبدلت بشريعته المُحكمة شرائعها المُنحلة، فسبَحت بعجرفتها ضد تيار الفطرة السوية وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا، ومضت بغرورها في دروب الانسياق لِبرَك الانحراف الآسِن، فبدلت نعمة الله كُفرًا وأحلَّت بأقوامها دور البوار، وتركها الله عز وجل لزيغها حتى تعلم مآل انقلاب العقول على بارئها، وعاقبة انتكاس فطرتها، لا من جهة العاقبة الدينية أو الأخروية فحسب، بل من جهة العاقبة المادية والمَغَبَّة الدنيوية في المقام الأول، فماذا جنت البشرية من القوانين الوضعية؟!

لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالًا للشك أن تطبيق هذه القوانين كان ولا زال هو أهم أسباب انتشار الجريمة وازدياد معدلاتها وتنوعها على نحو لم يكن في أسلافنا، وأن تلك القوانين لم تؤد دورها في الوفاء بمتطلبات المُتقاضين، وحل خصوماتهم، وفض نزاعاتهم، فلا هي زجرًا حققت، ولا هي قضايا أنجزت، ولا هي حقوقًا لأصحابها سلمت، بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والامتناع عن أداء الحقوق والواجبات، وزيادة البغي والعدوان، وشيوع الفقر والبُؤْس والحِرمان، وإثارة الفوضى والهمجية، وبث روح الانتقام والثأر لدى المُتخاصمين.

إن أهم إفرازات الواقع ودلالاته عدم صلاحية العقل البشري لِئن يكون مصدرًا للتشريع، فالتاريخ يُثبت لنا يومًا بعد يوم أن بِنْيَة العقل ضعيفة وَهْنَة يسهُل غشها وخِداعها والاحتيال عليها، إذ يُمكن تزويد جمع من العقول بمعلومات خاطئة معيبة، أو إغوائها بضلالات فاسدة مُنحرفة، فتقع في الخطأ الفاحش بكل سهولة، وتنقاد للضلال البين بلا أدنى مُبالاة !

بل أثبت الواقع أن العقول مع اجتماعها قد تكون غير قادرة على البحث في الأدوات والأساليب والصفات وظواهر الحوادث وهيئات الناس ومظاهرهم، وعلى مقدار ما أَبْدته هذه العقول من براعة في التعامل مع كم الأحداث، فقد أَبْدت في المقابل عجزًا غير محدود في التعامل مع كيفها، وعلى قدر ما كان يُفترض أن تقوم به إذا تعاضدت مع بعضها من تفكير منطقي رشيد، فقد انزلقت في مهاوٍ وحفر التفكير العاطفي الانفعالي والخيالي الوهمي بلا أدنى حكمة أو بصيرة.

ولعل هذا ما يُفسر أن واحدًا مثل إدموند هوسول الفيلسوف الألماني الشهير مؤسس علم الظاهريات، بعد أن كتب آلاف الصفحات في فلسفات العقل والمنطق والظاھريات، انطلق يُحذر أوروبا من مخاطر منهجيتها العلمية والفكرية، ويُهاجم العقل مُتسائلًا في محاضرة له عام 1935م؛ ھل استقال العقل وفقد دوره في الحياة، أم أنه خلافًا لذلك كشف عن وجهه الحقيقي الانتهازي الماكر والنفعي؟!

إن مشكلة القوانين الوضعية ليست في درجة تحضُّرها ورُقيها، فمهما تفاوتت في ذلك ومهما ارتقت، فمصدرها النهائي هو العقل البشري الذي يحول قصوره دون الوصول إلى غاية الكمال التشريعي، لاستحالة خلوه من الهوى.

إن صلاحية أي تشريع تُقرر على أساس صلاحية قيمه ومبادئه وتجانسها مع الواقع، فالسياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة مع البيئة التي تضبطها، فإن قامت علي عناصر متنافرة معها افتقدت الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق أهدافه المتعلقة بضبط الحياة وإسعاد الناس.

وفي هذا الإطار تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع خالق العقول والأهواء عز وجل، الذي هو أعلم بأحوال عباده، وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأولى بالتطبيق، إذ لا تتحكم في سنها الآراء، ولا تعبث في وجهتها الأهواء، فلا يوجد فيها أية مبدأ معيب، أو حكم غير مصيب، والحقُ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنة بين شرعٍ رباني سماوي مُحكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني: مجموع الفتاوى، تحقيق عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، طبعة 1416هـ (1995م)، ج 19 ص 309.
(2) يقول دياس ­ أحد فلاسفة القانون الإنكليز وأشهر أساتذتهم في جامعة كمبريدج: (فقد يكون القانون غير صالح في زمن معين، ولكنه يُعتبر صالحًا في وقت أو زمن آخر، إذا كانت خلفيته الاجتماعية قد انتقلت معه). دياس: فلسفة القانون، ترجمة هنري رياض، دار الجيل (بيروت)، الطبعة الأولى 1406هـ (1886م)، ص 83.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (7145/الأحكام)، ومُسلم في صحيحه (1840/الإمارة) كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4) محمد الخضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، المكتبة السلفية (القاهرة)، طبعة 1344هـ، ص 244.
(5) على سبيل المثال، يقول بنتام: (يجب أن تكون وظيفة القوانين هي تحقيق أعظم قدر من السعادة لدى أكبر عدد من الناس). دياس: فلسفة القانون، مرجع سابق، ص 90.
(6) يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون Gustave Le Bon: (وإذا أردنا أن نعبّر عن العوامل التي يخضع الإنسان لها في حركته تعبيرًا بسيطًا قلنا إنها ثلاثة أنواع: أولها وأشدها تأثيرًا عامل الأجداد، والثاني تأثير الوالدين، والثالث تأثير البيئة، وقد ظن بعضهم أن هذا الأخير هو أشدها فعلًا وهو في الحقيقة أضعفها، لأن البيئة وما يندرج تحتها من المؤثرات المادية والمعنوية التي تعمل في الإنسان مُدة حياته وعلى الأخص في زمن التربية لا تُؤثر فيه إلا أثرًا ضعيفًا، وإنما يعظُم أثرها إذا توالى بالتناسل زمنًا طويلًا، وعلى ذلك فالرجل ابن أمته دائمًا مهما كان عمله، ومجموع الأفكار والمشاعر التي يأتي بها أفراد كل أمة يوم يولدون هي روح تلك الأمة، وهي خفية في ماهيتها، لكنها ظاهرة ظهورًا كليًا في آثارها، لأنها هي الحاكمة في الحقيقة على تطور الأُمة). غوستاف لوبون: سر تطور الأُمم، ترجمة أحمد فتحي زغلول، تحقيق أسعد السحمراني، عدنان حسين، دار النفائس (بيروت)، الطبعة الأولى 1407هـ، ص 20،21.
‏١٢‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٢٧ م‏
مقال (حاجة الثورات والمجاهدين إلى الابتكار). [لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1] كتب @[520036614:2048:محمد إلهامي]: مما لا يأخذ حظه كثيرًا في العرض التاريخي للفتوحات الإسلامية أمر ابتكارات المجاهدين واختراعاتهم في ميدان الحرب والقتال، مع أنه من أهم الأمور التي ينبغي التعرض لها والتركيز عليها والاهتمام بها، فإن ابتكارًا واحدًا ربما غيَّر مصير المعركة، وربما كان مصير تلك المعركة هو ما تتحدد به مصائر الأمم والشعوب وخرائط الجغرافيا والتاريخ، فالمعارك هي السطر الأول والأخير في صفحة تاريخ كل أمة، فليس من أمة إلا وبدأت بحرب تأسيس أو تحرر أو استقلال، وليس من أمة إلا وختمت صفحتها بحرب سقوط وانهيار. 1. مواجهة الفيلة في القادسية كان من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة، ولم تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل، فكانت تنفر منها، وسلاح الفرسان هو السلاح الضارب في جيوش تلك الأيام، فكانت الخيل ترى تلك الكائنات الغريبة الضخمة الثقيلة فتنفر، فيتعطل سلاح الفرسان بجيش المسلمين، ولم يكن للمسلمين فيلة بالمقابل، ولا كانوا يعرفون كيف يعطلونها، فصار الأمر يمثل خللًا خطيرًا في حسابات المواجهة، فابتكرت عقولهم أربعة وسائل مبتكرة: أولًا: هجوم نوعي كان يُربط إلى الفيل تابوتان على جانبيه، يُحمل فيهما المقاتلون، وهما مرتبطان معا عبر ظهر الفيل، فحين يهجم الفيل على الجيش تَنْفِر منه الخيل والمشاة وترتبك الصفوف، فيستطيع المقاتلون على جانبي الفيل استغلال حالة الارتباك هذه ليطعنوا بالرماح تلك الجموع المتفرقة المختلة فتكون الخسارة مضاعفة: اختلال الصفوف، وخسائر في المقاتلين، ثم يأتي من خلفهم المشاة فيحصدون هذا الوضع بمزيد من إيقاع القتلى والجرحى. تفتقت عقول المجاهدين عن خطة مضادة، هجوم نوعي من فرق خاصة تهاجم الفيل من الخلف ومن الأجناب، فتكون مهمتها قطع الأحزمة التي تربط التابوتين عبر ظهر الفيل، فتسقط التوابيت بمن فيها من المقاتلين، فما إن يحدث حتى يهجم حملة الرماح على الفيلة بالطعن من بعيد بعد أن صاروا بلا مقاتلين، فيوجهونه برماحهم بعيدًا عن المسلمين. أدت هذه العمليات لاختفاء الفيلة طوال اليوم الثاني من معركة القادسية الفاصلة، فلقد قضى الفرس يومهم في إصلاح التوابيت، ثم دعم الفرس المقاتلين على الفيلة بمقاتلين إضافيين للحراسة كي لا يتكرر الهجوم النوعي السابق، لكن الأمر جاء على عكس إرادتهم، فقد عطلت القوات الإضافية مساحة حركة الفيلة ومناوراتها، ثم إن الفيل صار يستأنس بكثرة ما حوله وهو ما خفَّ من توحشه وشراسته، ثم إن مقاتلي الفيلة صاروا متوجسين يهتمون بالدفاع أكثر من الهجوم. فساهم جميع ما سبق في خفض عمل الفيلة. ثانيًا: برقعة الإبل وتلك من بنات أفكار القعقاع بن عمرو التميمي، فقد فكر في أن يصنع بسلاح الفرسان الفارسي كما فعلوا بالمسلمين، فعَمِدَ إلى إلباس عدد من الإبل براقع كبيرة تجعل منظرها جديدًا، كأنما حيوان جديد دخل المعركة، ووضع حول كل إبل مبرقعة جنودًا تحميه وتصحبه في الهجوم، فنفرت خيل الفُرْس من الإبل المبرقعة ووقع لهم مثلما وقع في اللحظات الأولى لخيل المسلمين. وبهذا حُرِم الفرس من سلاح الفرسان أمدًا. ثالثًا: فيل من الطين وهذا ابتكار لجندي من المسلمين لم نعرف اسمه، وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين، وصار يقرب فرسه منه حتى قضى الفرس معه طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه، فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه، فكان هذا مما حَثَّ خيول المسلمين على الثبات للفيلة، ونادى به الناس: إنه قاتلك (أي الفيل)، فقال لهم: لا ضير أن أُقتل ويُفتح للمسلمين. رابعًا: دور المعلومات وهو أخطر الأدوار، وقد قامت به القيادة الإسلامية، حيث نشط المسلمون في جمع المعلومات عن الفيلة ومقاتلها ممن أسلم من الفرس أو من العراب الموالين لهم، فظفروا بمعلومات ثمينة أهمها: أن الفيلة لا نفع منها إذا فقدت عيونها أو أشفارها. كما اكتشفوا أن فيلين فقط هما بمثابة القيادة التي تتبعها بقية الفيلة: الفيل الأبيض والفيل الأجرب. أرسل سعد بن أبي وقاص بالمعلومات إلى بني تميم (بقيادة: القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم) ليتولوا أمر الفيل الأبيض، وأرسل إلى حمال بن مالك (أمير المشاة) والربيل بن عمرو وهما في مقدمة بني أسد أن يتوليا أمر الفيل الأجرب. انطلق القعقاع وعاصم في فرقةٍ مهمتُها تشتيت قوات الحماية حول الفيل، ثم وضعا رمحيهما في وقت واحد في عيني الفيل، فرفع الفيل خرطومه فاستبقه القعقاع بسيفه فقطعه، فسقط على الأرض أعمى فقتل عددًا من مقاتليه، وأربك الجهة التي حوله فتسابقت إليهم كتيبة بني تميم. وانطلق حمال بن مالك والربيل بن عمرو واستطاعا ضرب خرطوم الفيل وطعن عين واحدة منه، وأصيب الربيل بضربة حطمت أنفه من سائس الفيل إلا أنه أفلت منها، غير أن النتائج التي حققاها كانت أفضل، إذ إن الفيل الأعور عرف طريق هروبه من المسلمين فانطلق إلى الخلف يدوس صفوف الفرس ويخترقها فأطاعته بقية الفيلة التي هرعت وراءه حتى خرجت من المعركة وأهلكت من كان في توابيتها. بينما ظل الفيل الذي عمي تمامًا والذي ضربه القعقاع وعمرو لا يعرف أين يذهب فصار مترددًا بين الصفين، إذا قدم على المسلمين نخسوه بالرماح وإذا قدم على الفرس نخسوه بالرماح ولا يدري كيف يتحرك(1). 2. عبور صحراء السماوة أراد أبو بكر الصديق أن يدعم الفتوحات على جبهة الروم فأرسل إلى خالد بن الوليد (قائد جبهة الفتح في فارس) أن يصطحب نصف الجيش وينطلق إلى الشام، ومع دقة الموقف في الشام قرر خالد أن يعبر إليها من طريق سريع يوفر الوقت ويُدخله إلى عمق الشام، ولم يكن أمامه إلا عبور صحراء السماوة القاحلة بين العراق والشام، فلو سلك طريق الجنوب طال عليه الوقت وربما فاتته الفرصة، ولو سلك طريق الشمال لتعرض لمواجهات مع روم وأعراب في مناطق لم تفتح بعد. فكان قراره الخطير ومغامرته الجريئة بعبور صحراء السماوة، فكيف فعل في طريق خالية من الماء والطعام تمامًا لخمسة أيام؟! قرر خالد أن يتزودوا من الماء لخمسة أيام، وأمر لكل صاحب خيل بقدر ما يسقيها، ثم أمر بتعطيش الإبل وحبسها عن الماء حتى كان آخر يوم قبل الرحيل فأطلق الإبل للماء فروت حتى امتلأت أسنمتها، ثم ربطوا أفواهها، فجعلوها كأنها مخزنهم للطعام، فإن احتاجوا ذبحوا الإبل فأكلوا منها ومزجوا ما في كروشها من الماء بالألبان في ضروعها، فكان هو طعامهم وطعام خيولهم. وفي خمسة أيام قطع الجيش المسلم الصحراء فصار في عمق الشام قريبًا من دمشق، فتحققت المفاجأة الحربية للطرفين: المسلمين فارتفعت معنوياتهم والروم فازداد اندهاشهم، ومن هناك تولى خالد قيادة فتوح الشام وبدأ مآثره الخالدة(2). 3. معركة ذات الصواري بدأ المسلمون ببناء أسطولهم في عهد عثمان رضي الله عنه، لما تحقق أن تأمين الفتوحات البرية لا يتم بغير أسطول يصد الهجمات البحرية للأسطول البيزنطي العتيد على ساحل الشام، وأسرع المسلمون ببناء أسطول في مدن الشام ومصر، ثم خاضوا أول معاركهم البحرية مع أسطول الروم العريق (34 هـ) عند ساحل أنطاليا. وكانت معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط! مع شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية؛ حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله يعرفه، والطريقة كالآتي: تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين، وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن. وكان موقع المعركة بين خلجان وشبه جزر برية مما جعل فكرة ربط السفن تحصر حركة الأسطول البيزنطي، وهكذا استطاع المسلمون فرض أسلوبهم، واستطاعوا أن يحققوا نصرًا مبهرًا غير متوقع بالأسطول الإسلامي الوليد على الأسطول البيزنطي العريق، بل وتحققت أقوى نتيجة حربية في تاريخ المعارك الإسلامية الرومية حتى تلك اللحظة؛ إذ أصيب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل. واستطاع المسلمون إخراج الأسطول البيزنطي لفترة من شرق البحر المتوسط؛ إذ اضطر الإمبراطور البيزنطي لنقل قاعدته البحرية لتكون في جزيرة صقلية(3). الخلاصة لا تشكو الأمة من ندرة في أهل البسالة والتضحية والفداء، ولكن تشكو من ندرة من يستطيعون ردم وتضييق الفجوة العلمية بيننا وبين عدونا، لا سيما وتلك الفجوة محروسة بالأنظمة المستبدة التي إن قُدِّمت لها اختراعات أو ابتكارات فأحسن ما يكون أن تهمله، وربما سجنت أو طردت صاحبه. إن الأمة تفتقر إلى الوسائل التي تجعل تضحية الفدائيين ذات ثمن وأثر ونفع، بدلًا من أن يذهبوا هكذا مجانًا. لا تزال مشكلة الطيران تمثل تحديًا ضخمًا، فكأنها لأول وهلة كمشكلة الفيلة قديمًا، ولعل من سيبتكر وسيلة لمواجهته لا يقل أجرًا عن أجداده الفاتحين الأوائل، ومثلها مشكلة الطائرات بلا طيار، وأنماط الاتصالات ونقل البيانات والتشفير، ومن وارئها تلك الصواريخ بعيدة المدى التي تصيبنا من وراء البحار ومن قواعد بحرية، وقبل أيام جاءت أخبار باصطناع جنود آليين يعملون بتقنيات الذكاء الاصطناعي.. ولا يزال مسلسل التحديات طويلًا، وهو ما سيحتاج مجهودًا عسيرًا وصبرًا وجلدًا كبيرًا. ولعل من فرص اليوم أن كثيرًا من المجهود يمكن أن يجري بعيدًا عن مواطن الخطر، فالحصول على المعلومات وتحليلها والبحث عنها يمكن أن يكون من أي مكان، بل ويمكن أن يشارك فيه أصحاب الأعذار ممن عفا الله عنهم من المشاركة بأنفسهم، فقد أوجب الله عليهم النصيحة لله ورسوله، فهم مكلفون بسائر ما يدعم الثائرين والمجاهدين، وبهذا يكتب لهم أجر الجهاد وهم في مأمنهم كما قال رسول الله عنهم: “لقد تركتم بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه”. قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: “حبسهم العذر”(4). وأما أصحاب التخصص من المهندسين والكيميائيين والمبرمجين ونحوهم، فهم أول المسؤولين الذين يتعين عليهم استعمال هذا العلم في إنقاذ هذه الأمة، فذلك دورهم الأكبر والأخطر، وهو بابهم الكبير بل لعله يكون الوحيد نحو الجنة في الآخرة وخلود الذكر الحسن في الدنيا، ويا له من شرف أن يكتب المرء اسمه في نفس السجل الذي كتب فيه اسم خالد والقعقاع والفاتحين العظام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أحسن ما رأيته في تحقيق شأن الفتوح كتب المؤرخ العسكري أحمد عادل كمال، فقد اجتهد في جمع وتحقيق المرويات حتى أخرجها صورة واضحة للمعارك الإسلامية، ولهذا أفضل في شأن المعارك العزو إلى كتبه لا إلى المصادر القديمة، وفيما نقلناه هنا من شأن القادسية، ينظر كتابه: القادسية، ط9 (بيروت: دار النفائس، 1989م)، ص122 وما بعدها. إلا أن وقعة صناعة فارس فيلا من الطين نقلناها من: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1964م)، 2/363. (2)انظر تفصيل القصة وتحديد المسار بدقة عند: أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، ط6 (بيروت: دار النفائس، 1986م)، ص321 وما بعدها. (3)ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995م)، ص217، 218؛ أرشيبالد ر. لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة: أحمد محمد عيسى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص91، 92. (4) البخاري 6 / 34 في الجهاد، باب من حبسه العذر عن الغزو، وفي المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر.
مقال (حاجة الثورات والمجاهدين إلى الابتكار).
[لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1]

كتب محمد إلهامي:
مما لا يأخذ حظه كثيرًا في العرض التاريخي للفتوحات الإسلامية أمر ابتكارات المجاهدين واختراعاتهم في ميدان الحرب والقتال، مع أنه من أهم الأمور التي ينبغي التعرض لها والتركيز عليها والاهتمام بها، فإن ابتكارًا واحدًا ربما غيَّر مصير المعركة، وربما كان مصير تلك المعركة هو ما تتحدد به مصائر الأمم والشعوب وخرائط الجغرافيا والتاريخ، فالمعارك هي السطر الأول والأخير في صفحة تاريخ كل أمة، فليس من أمة إلا وبدأت بحرب تأسيس أو تحرر أو استقلال، وليس من أمة إلا وختمت صفحتها بحرب سقوط وانهيار.

1. مواجهة الفيلة في القادسية
كان من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة، ولم تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل، فكانت تنفر منها، وسلاح الفرسان هو السلاح الضارب في جيوش تلك الأيام، فكانت الخيل ترى تلك الكائنات الغريبة الضخمة الثقيلة فتنفر، فيتعطل سلاح الفرسان بجيش المسلمين، ولم يكن للمسلمين فيلة بالمقابل، ولا كانوا يعرفون كيف يعطلونها، فصار الأمر يمثل خللًا خطيرًا في حسابات المواجهة، فابتكرت عقولهم أربعة وسائل مبتكرة:

أولًا: هجوم نوعي
كان يُربط إلى الفيل تابوتان على جانبيه، يُحمل فيهما المقاتلون، وهما مرتبطان معا عبر ظهر الفيل، فحين يهجم الفيل على الجيش تَنْفِر منه الخيل والمشاة وترتبك الصفوف، فيستطيع المقاتلون على جانبي الفيل استغلال حالة الارتباك هذه ليطعنوا بالرماح تلك الجموع المتفرقة المختلة فتكون الخسارة مضاعفة: اختلال الصفوف، وخسائر في المقاتلين، ثم يأتي من خلفهم المشاة فيحصدون هذا الوضع بمزيد من إيقاع القتلى والجرحى. تفتقت عقول المجاهدين عن خطة مضادة، هجوم نوعي من فرق خاصة تهاجم الفيل من الخلف ومن الأجناب، فتكون مهمتها قطع الأحزمة التي تربط التابوتين عبر ظهر الفيل، فتسقط التوابيت بمن فيها من المقاتلين، فما إن يحدث حتى يهجم حملة الرماح على الفيلة بالطعن من بعيد بعد أن صاروا بلا مقاتلين، فيوجهونه برماحهم بعيدًا عن المسلمين.

أدت هذه العمليات لاختفاء الفيلة طوال اليوم الثاني من معركة القادسية الفاصلة، فلقد قضى الفرس يومهم في إصلاح التوابيت، ثم دعم الفرس المقاتلين على الفيلة بمقاتلين إضافيين للحراسة كي لا يتكرر الهجوم النوعي السابق، لكن الأمر جاء على عكس إرادتهم، فقد عطلت القوات الإضافية مساحة حركة الفيلة ومناوراتها، ثم إن الفيل صار يستأنس بكثرة ما حوله وهو ما خفَّ من توحشه وشراسته، ثم إن مقاتلي الفيلة صاروا متوجسين يهتمون بالدفاع أكثر من الهجوم. فساهم جميع ما سبق في خفض عمل الفيلة.

ثانيًا: برقعة الإبل
وتلك من بنات أفكار القعقاع بن عمرو التميمي، فقد فكر في أن يصنع بسلاح الفرسان الفارسي كما فعلوا بالمسلمين، فعَمِدَ إلى إلباس عدد من الإبل براقع كبيرة تجعل منظرها جديدًا، كأنما حيوان جديد دخل المعركة، ووضع حول كل إبل مبرقعة جنودًا تحميه وتصحبه في الهجوم، فنفرت خيل الفُرْس من الإبل المبرقعة ووقع لهم مثلما وقع في اللحظات الأولى لخيل المسلمين. وبهذا حُرِم الفرس من سلاح الفرسان أمدًا.

ثالثًا: فيل من الطين
وهذا ابتكار لجندي من المسلمين لم نعرف اسمه، وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين، وصار يقرب فرسه منه حتى قضى الفرس معه طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه، فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه، فكان هذا مما حَثَّ خيول المسلمين على الثبات للفيلة، ونادى به الناس: إنه قاتلك (أي الفيل)، فقال لهم: لا ضير أن أُقتل ويُفتح للمسلمين.

رابعًا: دور المعلومات
وهو أخطر الأدوار، وقد قامت به القيادة الإسلامية، حيث نشط المسلمون في جمع المعلومات عن الفيلة ومقاتلها ممن أسلم من الفرس أو من العراب الموالين لهم، فظفروا بمعلومات ثمينة أهمها: أن الفيلة لا نفع منها إذا فقدت عيونها أو أشفارها. كما اكتشفوا أن فيلين فقط هما بمثابة القيادة التي تتبعها بقية الفيلة: الفيل الأبيض والفيل الأجرب. أرسل سعد بن أبي وقاص بالمعلومات إلى بني تميم (بقيادة: القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم) ليتولوا أمر الفيل الأبيض، وأرسل إلى حمال بن مالك (أمير المشاة) والربيل بن عمرو وهما في مقدمة بني أسد أن يتوليا أمر الفيل الأجرب.

انطلق القعقاع وعاصم في فرقةٍ مهمتُها تشتيت قوات الحماية حول الفيل، ثم وضعا رمحيهما في وقت واحد في عيني الفيل، فرفع الفيل خرطومه فاستبقه القعقاع بسيفه فقطعه، فسقط على الأرض أعمى فقتل عددًا من مقاتليه، وأربك الجهة التي حوله فتسابقت إليهم كتيبة بني تميم. وانطلق حمال بن مالك والربيل بن عمرو واستطاعا ضرب خرطوم الفيل وطعن عين واحدة منه، وأصيب الربيل بضربة حطمت أنفه من سائس الفيل إلا أنه أفلت منها، غير أن النتائج التي حققاها كانت أفضل، إذ إن الفيل الأعور عرف طريق هروبه من المسلمين فانطلق إلى الخلف يدوس صفوف الفرس ويخترقها فأطاعته بقية الفيلة التي هرعت وراءه حتى خرجت من المعركة وأهلكت من كان في توابيتها. بينما ظل الفيل الذي عمي تمامًا والذي ضربه القعقاع وعمرو لا يعرف أين يذهب فصار مترددًا بين الصفين، إذا قدم على المسلمين نخسوه بالرماح وإذا قدم على الفرس نخسوه بالرماح ولا يدري كيف يتحرك(1).

2. عبور صحراء السماوة
أراد أبو بكر الصديق أن يدعم الفتوحات على جبهة الروم فأرسل إلى خالد بن الوليد (قائد جبهة الفتح في فارس) أن يصطحب نصف الجيش وينطلق إلى الشام، ومع دقة الموقف في الشام قرر خالد أن يعبر إليها من طريق سريع يوفر الوقت ويُدخله إلى عمق الشام، ولم يكن أمامه إلا عبور صحراء السماوة القاحلة بين العراق والشام، فلو سلك طريق الجنوب طال عليه الوقت وربما فاتته الفرصة، ولو سلك طريق الشمال لتعرض لمواجهات مع روم وأعراب في مناطق لم تفتح بعد. فكان قراره الخطير ومغامرته الجريئة بعبور صحراء السماوة، فكيف فعل في طريق خالية من الماء والطعام تمامًا لخمسة أيام؟!

قرر خالد أن يتزودوا من الماء لخمسة أيام، وأمر لكل صاحب خيل بقدر ما يسقيها، ثم أمر بتعطيش الإبل وحبسها عن الماء حتى كان آخر يوم قبل الرحيل فأطلق الإبل للماء فروت حتى امتلأت أسنمتها، ثم ربطوا أفواهها، فجعلوها كأنها مخزنهم للطعام، فإن احتاجوا ذبحوا الإبل فأكلوا منها ومزجوا ما في كروشها من الماء بالألبان في ضروعها، فكان هو طعامهم وطعام خيولهم.

وفي خمسة أيام قطع الجيش المسلم الصحراء فصار في عمق الشام قريبًا من دمشق، فتحققت المفاجأة الحربية للطرفين: المسلمين فارتفعت معنوياتهم والروم فازداد اندهاشهم، ومن هناك تولى خالد قيادة فتوح الشام وبدأ مآثره الخالدة(2).

3. معركة ذات الصواري
بدأ المسلمون ببناء أسطولهم في عهد عثمان رضي الله عنه، لما تحقق أن تأمين الفتوحات البرية لا يتم بغير أسطول يصد الهجمات البحرية للأسطول البيزنطي العتيد على ساحل الشام، وأسرع المسلمون ببناء أسطول في مدن الشام ومصر، ثم خاضوا أول معاركهم البحرية مع أسطول الروم العريق (34 هـ) عند ساحل أنطاليا. وكانت معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط!

مع شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية؛ حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله يعرفه، والطريقة كالآتي: تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين، وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن.

وكان موقع المعركة بين خلجان وشبه جزر برية مما جعل فكرة ربط السفن تحصر حركة الأسطول البيزنطي، وهكذا استطاع المسلمون فرض أسلوبهم، واستطاعوا أن يحققوا نصرًا مبهرًا غير متوقع بالأسطول الإسلامي الوليد على الأسطول البيزنطي العريق، بل وتحققت أقوى نتيجة حربية في تاريخ المعارك الإسلامية الرومية حتى تلك اللحظة؛ إذ أصيب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل. واستطاع المسلمون إخراج الأسطول البيزنطي لفترة من شرق البحر المتوسط؛ إذ اضطر الإمبراطور البيزنطي لنقل قاعدته البحرية لتكون في جزيرة صقلية(3).

الخلاصة
لا تشكو الأمة من ندرة في أهل البسالة والتضحية والفداء، ولكن تشكو من ندرة من يستطيعون ردم وتضييق الفجوة العلمية بيننا وبين عدونا، لا سيما وتلك الفجوة محروسة بالأنظمة المستبدة التي إن قُدِّمت لها اختراعات أو ابتكارات فأحسن ما يكون أن تهمله، وربما سجنت أو طردت صاحبه. إن الأمة تفتقر إلى الوسائل التي تجعل تضحية الفدائيين ذات ثمن وأثر ونفع، بدلًا من أن يذهبوا هكذا مجانًا.
لا تزال مشكلة الطيران تمثل تحديًا ضخمًا، فكأنها لأول وهلة كمشكلة الفيلة قديمًا، ولعل من سيبتكر وسيلة لمواجهته لا يقل أجرًا عن أجداده الفاتحين الأوائل، ومثلها مشكلة الطائرات بلا طيار، وأنماط الاتصالات ونقل البيانات والتشفير، ومن وارئها تلك الصواريخ بعيدة المدى التي تصيبنا من وراء البحار ومن قواعد بحرية، وقبل أيام جاءت أخبار باصطناع جنود آليين يعملون بتقنيات الذكاء الاصطناعي.. ولا يزال مسلسل التحديات طويلًا، وهو ما سيحتاج مجهودًا عسيرًا وصبرًا وجلدًا كبيرًا.

ولعل من فرص اليوم أن كثيرًا من المجهود يمكن أن يجري بعيدًا عن مواطن الخطر، فالحصول على المعلومات وتحليلها والبحث عنها يمكن أن يكون من أي مكان، بل ويمكن أن يشارك فيه أصحاب الأعذار ممن عفا الله عنهم من المشاركة بأنفسهم، فقد أوجب الله عليهم النصيحة لله ورسوله، فهم مكلفون بسائر ما يدعم الثائرين والمجاهدين، وبهذا يكتب لهم أجر الجهاد وهم في مأمنهم كما قال رسول الله عنهم: “لقد تركتم بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه”. قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: “حبسهم العذر”(4).

وأما أصحاب التخصص من المهندسين والكيميائيين والمبرمجين ونحوهم، فهم أول المسؤولين الذين يتعين عليهم استعمال هذا العلم في إنقاذ هذه الأمة، فذلك دورهم الأكبر والأخطر، وهو بابهم الكبير بل لعله يكون الوحيد نحو الجنة في الآخرة وخلود الذكر الحسن في الدنيا، ويا له من شرف أن يكتب المرء اسمه في نفس السجل الذي كتب فيه اسم خالد والقعقاع والفاتحين العظام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحسن ما رأيته في تحقيق شأن الفتوح كتب المؤرخ العسكري أحمد عادل كمال، فقد اجتهد في جمع وتحقيق المرويات حتى أخرجها صورة واضحة للمعارك الإسلامية، ولهذا أفضل في شأن المعارك العزو إلى كتبه لا إلى المصادر القديمة، وفيما نقلناه هنا من شأن القادسية، ينظر كتابه: القادسية، ط9 (بيروت: دار النفائس، 1989م)، ص122 وما بعدها.
إلا أن وقعة صناعة فارس فيلا من الطين نقلناها من: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1964م)، 2/363.
(2)انظر تفصيل القصة وتحديد المسار بدقة عند: أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، ط6 (بيروت: دار النفائس، 1986م)، ص321 وما بعدها.
(3)ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995م)، ص217، 218؛ أرشيبالد ر. لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة: أحمد محمد عيسى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص91، 92.
(4) البخاري 6 / 34 في الجهاد، باب من حبسه العذر عن الغزو، وفي المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر.
‏١٠‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٤٤ م‏
مقال (عذراء ماليزيا) [لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1] كَتبت يُسرا جلال: "إن عائلتنا تعمل في صيد البحر منذ أن تركنا (أمان الله) منذ أكثر من أربعة قرون، تعلم يا سيدي؟ لم يكن أمامنا مثل كثير من العائلات المسلمة سوى النزوح جنوبًا نحو (صولو)، بعد هزيمة (راجا سليمان) أمام (ليجاسبي) الإسباني". رفع الشيخ الكبير المفترش الأرض جوز الهند عن فمه ليتمتم متنهدًا: "(راجا سليمان) رحمه الله". وبينما يرفع بصره نحو القمر في السماء راح يمسح بيده رغوة بيضاء صنعها شراب جوز الهند على شاربه، ثم رفع صوته قائلًا: "تعلم يا بني؟ (راجا سليمان) هُزم لأنه كان وحده.. منفردًا وحده في (أمان الله)، كما أن الإسبان كانوا أكثر استعدادًا من أول مرة قدموا فيها شواطئ عذراء ماليزيا الهادئة.. أقصد التي كانت هادئة". أسند الشيخ ظهره إلى حشية ملونة صنعها بيده من ألياف جوز الهند، ثم نظر في عيني الشاب واستأنف حديثه: "عندما نزل الإسبان لأول مرة خُيّل لـ(ماجلان) أنه سيتمكن بسهولة من السيطرة على الأرخبيل كاملًا وتحويل السكان إلى الكاثوليكية؛ ذلك لأنه لم يلقَ مقاومة تذكر من السكان الوثنيين الذين وعد مليكهم بتاج الجزيرة مقابل الدخول في الكاثوليكية.. أغراه بتاج من أوراق شجر الموز". ارتفعت الضحكات في الكوخ الصغير المشرف على مياه البحر، ثم استأنف الشيخ الحديث بعد أن هدأ سعاله: "فوجئ (ماجلان) بمقاومة عنيفة من السكان المسلمين، قاومه الأهالي بسهام البامبو والسيوف القصيرة.. أرادها (ماجلان) محاكم تفتيش، أضرم جنده النار في البيوت وحرقوا الأكواخ والمؤن وطاردوا النساء.. طالما حلمت -يا بني- أن أكون بين هؤلاء الأبطال من جيش (لابولابو) الذين قاوموا الأسطول الإسباني بصدور عارية وقلوب ملؤها الإيمان، طالما تخيلت (ماجلان) بصلفه وعنجهيته وهو يقول: إنني باسم المسيح أطلب منك التسليم ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد! وطالما رنت في أذني كلمات (لابولابو) الواثقة: أن الدين لله، وأن الإله الذي أعبده هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم. من أذِن لماجلان أن يتكلم باسم المسيح؟ من أخبره أن للبيض أولوية في حكم أرض الله؟ خلق الله كلهم سواء. طالما تمنيت يا (سيف الدين) أن أكون بين هؤلاء الذين غاصت سيقانهم في المياه ووقفوا بثبات الجبال الراسخات يقاتلون الإسبان، طالما ارتسم في مخيلتي رمح (لابولابو) وهو يُكبر ليضرب عنق (ماجلان) بمهارة منقطعة النظير، متفاديًا درعه الثقيل، ليتراجع (ماجلان) خطوات للوراء وتصطك ساقاه المغمورتان في الماء، ثم يعاجله (لابولابو) بضربة سيف على رأسه". هوى الشيخ بيده ليضرب الأرض في حماسة تطايرت لأجلها الرمال الناعمة.. ثم عاد فقال: "أتعلم؟ كان (لابولابو) ذكيًّا حين رفض تسليم جثمان (ماجلان) للإسبان المنهزمين الذين نجا منهم ثمانية عشر مقاتل فقط غادروا في سفينة واحدة؛ كما كان بالغ الذكاء حين طلب العون من السلاطين حوله". هز (سيف الدين) رأسه موافقًا: "نعم، كان من فضل الله على (لابولابو) أن الممالك حوله كانت لسلاطين مسلمين استجابوا لنداء الجهاد، بينما لم ينعم (راجا سليمان) -رحمه الله- بهذه المزية.. كان جدي (سليمان) منفردًا وحده في الشمال في (أمان الله) وكان الإسبان قد أصبحوا أكثر شراسة يحدوهم الانتقام، على مدى خمسين عامًا بعد هزيمة (ماجلان) في معركة (ماكنتان) جرد الإسبان أربع حملات صليبية متتابعة أبيدت جميعها؛ لأن الريح حملتهم نحو الجنوب في مناطق المسلمين الذين قاوموهم بشراسة، حيث أعلن الإسبان بصراحة هدفهم من تلك الحملات.. توسيع رقعة مملكتهم، وتنصير السكان. حاول الشيخ بصعوبة الاعتدال واقفًا، وقال وهو يشير بإصبعه نحو (سيف الدين) الجالس على الأرض: "لم يفِ الإسبان بوعدهم لسليمان.. وعده (ليجاسبي) بحسن المعاملة والإبقاء على سلطته السياسية والملكية، ثم ما لبثوا أن نقضوا العهد وقتلوه واستولوا على (أمان الله) وسموها (مانيلا)، ثم أطلقوا على ماليزيا العذراء وجزرها ال٧٠٠ اسم (الفلبين) نسبة لمليكهم (فيليب الثاني)، الذي أقام في بلادنا محاكم تفتيش تابعة لمحكمة مكسيكو في المكسيك. كان نضالًا مريرًا يا (سيف الدين)! تتبعوا المسلمين، وقضوا عليهم، وهدموا المساجد، لم يكن أمامنا سوى الاحتماء في الغابات، ولكن صدور الرجال كانت تغلي! كيف يهنأوا بعيش والمسلمون يطاردون لأجل إسلامهم؟ كانت سفن المسلمين تهاجم السفن الإسبانية وتأسر الإسبان وتبيعهم في سوق الرقيق انتقامًا لما كانوا يفعلونه بالمسلمين.. رقيق أبيض!". نهض (سيف الدين) ليساعد الشيخ على الحركة.. ووضع يده تحت ذراعه ثم سأله: "إلى أين يا سيدي؟" أجاب الشيخ: "إلى مصلاي.. ركعتان قبل الفجر يا بني، أدعو الله فيهما أن يقوي شوكة المسلمين ويهيء لهم أمر رشد ويبصرهم أن الأمريكان كالإسبان بل أسوأ.. أربعة قرون كاملة قضيناها تحت حكم الإسبان سامونا فيها سوء العذاب وقاومناهم بالنفس قبل المال.. منذ أوائل القرن السادس عشر ونحن ندافع عن ديننا حتى يئس الإسبان من السيطرة على مناطق المسلمين المورو، واستقر لهم المقام في مناطق المتنصرين الباريوز، أو الوثنيين الذين تمسكوا بوثنيتهم وتركوا الحكم للإسبان، أما المسلمون فقد كانوا تحت حكم أربع سلطنات مسلمة يحاصرهم الإسبان والوثنيون.. والحق أن المسلمين خارج بلادنا لم يتركونا وحدنا، وها أنت ترى بنفسك.. اختلطت أعراقنا بأهلنا في الشام ومصر، اللتين أرسلتا العلماء والمشايخ ليساعدونا في الحفاظ على هويتنا الإسلامية، التي هددها وجود الإنجليز في ماليزيا، والهولنديون في جزر الهند الشرقية، حتى جيراننا في بورنيو وأتشيه استمروا في إرسال الدعاة رغم التضييق، وتمكنا بفضل الله من الحفاظ على هويتنا وديننا هنا في الجنوب.. قاومنا رغم الحصار، وكل ما أرجوه من الله الآن أن يبصر أهلنا بغدر الأمريكان". سكت الشيخ برهة ثم قال بحدة: "سيف الدين! سيضيع الوقت في الحديث! تعال ساعدني لأتوضأ". مرَّ الوقت في المسجد هادئًا تغشى الناس فيه الطمأنينة، ووقف الفتى سيف الدين في المحراب إمامًا، يسري صوته عذبًا في أرجاء المكان.. تحلَّق المصلون بعد الصلاة حوله، بينما بدا الشيخ متكئًا على ذراعه في نهاية المسجد، ولكنه كان يسمع بوضوح صوت سيف الدين وهو يقصُّ: "استمرت المقاومة الإسلامية على الرغم من أن الإسبان قد ارتكبوا الجرائم والمذابح الوحشية كالتي ارتكبوها في الأندلس، ولم يستطع التفوق العددي الإسباني، ولا قوة نظامهم الحربي ولا أسلحتهم الحديثة أن تحطم مقاومة المسلمين، إذ إن الأسلحة لا تقف أمام الإيمان، والاستعداد لا يكون بالأسلحة فقط، وإنما بالروح المعنوية التي لا مصدر لها إلا الإيمان، ولا تقاتل الشعوب إلا بعقيدتها ولا تنتصر إلا بإيمانها، والمسلم يرفض الخضوع للمغتصب، ولمن لا يدين بدين الحق، مما جعل المقاومة الإسلامية عنيفة وبقيت سلطنات المسلمين مستقلة في الجنوب(1). سياسة إسبانيا في الحكم بالحديد والنار وفرض هويتهم ولغتهم على السكان =وحَّد السكان من كل الأعراق والأديان ضدهم، واعتبرهم السكان جميعًا عدوًّا مشتركًا، اشتعلت ضده الثورة مرتين، وقد سمعنا جميعنا عن انسحاب الحاكم الإسباني (جوينالدو) إلى هونج كونج عام ١٨٩٧ كنتيجة لإفراطهم في العنف، رغم نجاحهم في القضاء على الثورة الأخيرة إلا أن هناك منظمات سرية تتواصل مع الأمريكان للمساعدة في طرد الإسبان، وما أرى إلا إنهم كما قال الله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] وهذا ما أخشاه.. أن يمكن الأمريكييون من الحكم هنا وهم جزارون؛ فقد (أشرف الرئيس جاكسون بنفسه على سلخ ٨٠٠ من هنود الكريك، واقترح أن ترسَل قطع من تلك الجثث هدايا إلى السيدات الارستقراطيات في تينيسي!)(2) لقد (سلخوا المئات من فروات الرؤوس ورفعوها في دار الأوبرا ابتهاجًا!)(3)". لاحظ سيف الدين على وجوه من حوله شيئًا من الخوف، فاستدرك قائلًا: "لا أريد أن أبث الذعر في قلوبكم؛ ولكنهم ليسوا بالتأكيد الحليف المناسب، خاصة بعد ضعف مقاومة الإسبان واقتراب هزيمتهم أمام الأمريكيين؛ إن الأميريكيين كالإسبان يظنون أنفسهم حملة الحضارة ويحملون شعار (مدّنوهم بالبندقية)! ومع أن هدفهم واحد إلا إنهم كما ترون يضرب بعضهم بعضًا، همج في مطلع القرن العشرين، ويبدو أن الأمر لن…". قطع الحديث صوت أنهكه الركض: "سيدي سيف الدين.. سيدي سيف الدين". قفز صاحب الصوت وعينه فيها مخايل الفزع الظاهر أيضًا في صوته، بينما يعلو صدره ويهبط وقال: "أخبار من مانيلا.. باع الإسبان الفلبين للأمريكيين مقابل خمسة ملايين دولار فقط". استرجع سيف الدين ثم قال: "يبيعوننا كالمتاع.. إخواني! لتستمر المقاومة إذن.. لن تكون عذراء ماليزيا ولاية أميريكية، الاحتلال واحد، وسيدعم الأمريكيون النصارى ويضيقون حصارهم علينا". تمامًا كما توقع سيف الدين؛ بعد أن انتهت أمريكا من الإسبان عام ١٩٠٠ من الميلاد استدارت لتتحكم في الثوار، حاولوا تنصير المسلمين وأشعلوا حربًا عرفت بحرب الجراثيم؛ حوّلوا السكان فيها لفئران تجارب يحقنونهم بالطاعون والجدري والكوليرا بغرض الأبحاث العلمية، قتل في هذه الحرب وحدها أكثر من ألفي ضحية. واستمرت مقاومة سكان الأرخبيل للأمريكيين الذين ضموا الجنوب إلى الشمال قبل أن يمنحوا البلاد الاستقلال عام ١٩٤٦، ما أشعر سكان الجنوب المسلم بالغبن، وهم الذين تمتعوا باستقلال إداري في عهد الاحتلال الإسباني. ورغم إعلان الولايات المتحدة استقلال الفلبين؛ فقد استمرت في تولي شئون الدفاع والشئون الخارجية ليستمر تحكمها في البلاد. وعند قيام الحرب العالمية الثانية انتزعت اليابان الفلبين من أيدي الأمريكيين ليطردها السكان من البلاد في مواجهات كانت أشبه بحرب العصابات. ستة وأربعون عامًا مرت منذ بداية الاحتلال الأميريكي حتى إعلانهم الاستقلال الصوري للبلاد عام ١٩٤٦، ستة وأربعون عامًا أكسبت (سيف الدين) خبرة في جهاد اللسان وجهاد السنان معًا، تمامًا كما أكسبته غرةً بيضاء كلحيته الخفيفة. لم يكن (سيف الدين) ليترك الجهاد ضد مواطنيه صنيعة الأمريكان؛ فالشيخ الذي عركته الحياة وجاهد الأمريكان كما جاهد قبلهم الإسبان علم أن المحتل لن يتخلى عن (عذراء ماليزيا)، ولن يسمح ببقاء أية نظام في الحكم ما لم يضمن أنه قادر على التحكم فيه بصورة تامة. جلس الشيخ سيف الدين أرضًا ونظر إلى القمر في السماء، قبل أن يسدد بصره نحو الشاب الجالس أمامه ثم قال: "السماء ذاتها والقمر ذاته لم يتغير.. البحر بأمواجه كما هو.. من يصدق أن هذه السلطنة المسلمة التي حكمت هذه البلاد قد محيت من الوجود؟ إن ما حدث في عذراء ماليزيا يا (إبراهيم) ومن قبلها الأندلس ليس ببعيد عن أية دولة مسلمة تحكمها عرائس خشبية يحركها المحتل، الذي يدعي أنه وهبهم الحرية بينما يسلبهم الحياة، وها هي الحكومة النصرانية تحارب المسلمين وتتعمد تهميشهم بل وتنصيرهم بالقوة وتمنع ممارسة الشعائر الإسلامية ؛ بل ويقصرون مناصب الدولة على طلبة الإرساليات، وتشكلت الميليشيات لتطرد المسلمين من منازلهم وتملك الأرض للنصارى وتقتل السكان من المسلمين الذين وصل عدد شهدائهم إلى ثلاثين ألف شهيد، وعندما قاوم المسلمون وصفوا بالإرهابيين”. تحامل الشيخ على نفسه ووقف مشيرًا للشاب أمامه: "حان دوركم يا إبراهيم.. أكملوا ما بدأه (لابولابو) و(راجا سليمان)، ولا تنسوا أن المحتل يغير زيه ولا يغير عقيدته! لتستمر المقاومة.. {يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، ج22 ص113، ط: المكتب الإسلامي، عام 1421. (2)منير العكش، أمريكا والإبادات الجماعية، (ص81)، ط: دار رياض الريس، 1423. (3)السابق، (ص87).
مقال (عذراء ماليزيا)

[لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1]

كَتبت يُسرا جلال:

"إن عائلتنا تعمل في صيد البحر منذ أن تركنا (أمان الله) منذ أكثر من أربعة قرون، تعلم يا سيدي؟ لم يكن أمامنا مثل كثير من العائلات المسلمة سوى النزوح جنوبًا نحو (صولو)، بعد هزيمة (راجا سليمان) أمام (ليجاسبي) الإسباني".

رفع الشيخ الكبير المفترش الأرض جوز الهند عن فمه ليتمتم متنهدًا: "(راجا سليمان) رحمه الله". وبينما يرفع بصره نحو القمر في السماء راح يمسح بيده رغوة بيضاء صنعها شراب جوز الهند على شاربه، ثم رفع صوته قائلًا: "تعلم يا بني؟ (راجا سليمان) هُزم لأنه كان وحده.. منفردًا وحده في (أمان الله)، كما أن الإسبان كانوا أكثر استعدادًا من أول مرة قدموا فيها شواطئ عذراء ماليزيا الهادئة.. أقصد التي كانت هادئة".

أسند الشيخ ظهره إلى حشية ملونة صنعها بيده من ألياف جوز الهند، ثم نظر في عيني الشاب واستأنف حديثه: "عندما نزل الإسبان لأول مرة خُيّل لـ(ماجلان) أنه سيتمكن بسهولة من السيطرة على الأرخبيل كاملًا وتحويل السكان إلى الكاثوليكية؛ ذلك لأنه لم يلقَ مقاومة تذكر من السكان الوثنيين الذين وعد مليكهم بتاج الجزيرة مقابل الدخول في الكاثوليكية.. أغراه بتاج من أوراق شجر الموز".

ارتفعت الضحكات في الكوخ الصغير المشرف على مياه البحر، ثم استأنف الشيخ الحديث بعد أن هدأ سعاله: "فوجئ (ماجلان) بمقاومة عنيفة من السكان المسلمين، قاومه الأهالي بسهام البامبو والسيوف القصيرة.. أرادها (ماجلان) محاكم تفتيش، أضرم جنده النار في البيوت وحرقوا الأكواخ والمؤن وطاردوا النساء.. طالما حلمت -يا بني- أن أكون بين هؤلاء الأبطال من جيش (لابولابو) الذين قاوموا الأسطول الإسباني بصدور عارية وقلوب ملؤها الإيمان، طالما تخيلت (ماجلان) بصلفه وعنجهيته وهو يقول: إنني باسم المسيح أطلب منك التسليم ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد!

وطالما رنت في أذني كلمات (لابولابو) الواثقة: أن الدين لله، وأن الإله الذي أعبده هو إله جميع البشر على اختلاف ألوانهم.

من أذِن لماجلان أن يتكلم باسم المسيح؟ من أخبره أن للبيض أولوية في حكم أرض الله؟ خلق الله كلهم سواء. طالما تمنيت يا (سيف الدين) أن أكون بين هؤلاء الذين غاصت سيقانهم في المياه ووقفوا بثبات الجبال الراسخات يقاتلون الإسبان، طالما ارتسم في مخيلتي رمح (لابولابو) وهو يُكبر ليضرب عنق (ماجلان) بمهارة منقطعة النظير، متفاديًا درعه الثقيل، ليتراجع (ماجلان) خطوات للوراء وتصطك ساقاه المغمورتان في الماء، ثم يعاجله (لابولابو) بضربة سيف على رأسه". هوى الشيخ بيده ليضرب الأرض في حماسة تطايرت لأجلها الرمال الناعمة.. ثم عاد فقال: "أتعلم؟ كان (لابولابو) ذكيًّا حين رفض تسليم جثمان (ماجلان) للإسبان المنهزمين الذين نجا منهم ثمانية عشر مقاتل فقط غادروا في سفينة واحدة؛ كما كان بالغ الذكاء حين طلب العون من السلاطين حوله".

هز (سيف الدين) رأسه موافقًا: "نعم، كان من فضل الله على (لابولابو) أن الممالك حوله كانت لسلاطين مسلمين استجابوا لنداء الجهاد، بينما لم ينعم (راجا سليمان) -رحمه الله- بهذه المزية.. كان جدي (سليمان) منفردًا وحده في الشمال في (أمان الله) وكان الإسبان قد أصبحوا أكثر شراسة يحدوهم الانتقام، على مدى خمسين عامًا بعد هزيمة (ماجلان) في معركة (ماكنتان) جرد الإسبان أربع حملات صليبية متتابعة أبيدت جميعها؛ لأن الريح حملتهم نحو الجنوب في مناطق المسلمين الذين قاوموهم بشراسة، حيث أعلن الإسبان بصراحة هدفهم من تلك الحملات.. توسيع رقعة مملكتهم، وتنصير السكان.

حاول الشيخ بصعوبة الاعتدال واقفًا، وقال وهو يشير بإصبعه نحو (سيف الدين) الجالس على الأرض: "لم يفِ الإسبان بوعدهم لسليمان.. وعده (ليجاسبي) بحسن المعاملة والإبقاء على سلطته السياسية والملكية، ثم ما لبثوا أن نقضوا العهد وقتلوه واستولوا على (أمان الله) وسموها (مانيلا)، ثم أطلقوا على ماليزيا العذراء وجزرها ال٧٠٠ اسم (الفلبين) نسبة لمليكهم (فيليب الثاني)، الذي أقام في بلادنا محاكم تفتيش تابعة لمحكمة مكسيكو في المكسيك. كان نضالًا مريرًا يا (سيف الدين)! تتبعوا المسلمين، وقضوا عليهم، وهدموا المساجد، لم يكن أمامنا سوى الاحتماء في الغابات، ولكن صدور الرجال كانت تغلي! كيف يهنأوا بعيش والمسلمون يطاردون لأجل إسلامهم؟ كانت سفن المسلمين تهاجم السفن الإسبانية وتأسر الإسبان وتبيعهم في سوق الرقيق انتقامًا لما كانوا يفعلونه بالمسلمين.. رقيق أبيض!".

نهض (سيف الدين) ليساعد الشيخ على الحركة.. ووضع يده تحت ذراعه ثم سأله: "إلى أين يا سيدي؟" أجاب الشيخ: "إلى مصلاي.. ركعتان قبل الفجر يا بني، أدعو الله فيهما أن يقوي شوكة المسلمين ويهيء لهم أمر رشد ويبصرهم أن الأمريكان كالإسبان بل أسوأ.. أربعة قرون كاملة قضيناها تحت حكم الإسبان سامونا فيها سوء العذاب وقاومناهم بالنفس قبل المال.. منذ أوائل القرن السادس عشر ونحن ندافع عن ديننا حتى يئس الإسبان من السيطرة على مناطق المسلمين المورو، واستقر لهم المقام في مناطق المتنصرين الباريوز، أو الوثنيين الذين تمسكوا بوثنيتهم وتركوا الحكم للإسبان، أما المسلمون فقد كانوا تحت حكم أربع سلطنات مسلمة يحاصرهم الإسبان والوثنيون..

والحق أن المسلمين خارج بلادنا لم يتركونا وحدنا، وها أنت ترى بنفسك.. اختلطت أعراقنا بأهلنا في الشام ومصر، اللتين أرسلتا العلماء والمشايخ ليساعدونا في الحفاظ على هويتنا الإسلامية، التي هددها وجود الإنجليز في ماليزيا، والهولنديون في جزر الهند الشرقية، حتى جيراننا في بورنيو وأتشيه استمروا في إرسال الدعاة رغم التضييق، وتمكنا بفضل الله من الحفاظ على هويتنا وديننا هنا في الجنوب.. قاومنا رغم الحصار، وكل ما أرجوه من الله الآن أن يبصر أهلنا بغدر الأمريكان".

سكت الشيخ برهة ثم قال بحدة: "سيف الدين! سيضيع الوقت في الحديث! تعال ساعدني لأتوضأ".

مرَّ الوقت في المسجد هادئًا تغشى الناس فيه الطمأنينة، ووقف الفتى سيف الدين في المحراب إمامًا، يسري صوته عذبًا في أرجاء المكان.. تحلَّق المصلون بعد الصلاة حوله، بينما بدا الشيخ متكئًا على ذراعه في نهاية المسجد، ولكنه كان يسمع بوضوح صوت سيف الدين وهو يقصُّ: "استمرت المقاومة الإسلامية على الرغم من أن الإسبان قد ارتكبوا الجرائم والمذابح الوحشية كالتي ارتكبوها في الأندلس، ولم يستطع التفوق العددي الإسباني، ولا قوة نظامهم الحربي ولا أسلحتهم الحديثة أن تحطم مقاومة المسلمين، إذ إن الأسلحة لا تقف أمام الإيمان، والاستعداد لا يكون بالأسلحة فقط، وإنما بالروح المعنوية التي لا مصدر لها إلا الإيمان، ولا تقاتل الشعوب إلا بعقيدتها ولا تنتصر إلا بإيمانها، والمسلم يرفض الخضوع للمغتصب، ولمن لا يدين بدين الحق، مما جعل المقاومة الإسلامية عنيفة وبقيت سلطنات المسلمين مستقلة في الجنوب(1).

سياسة إسبانيا في الحكم بالحديد والنار وفرض هويتهم ولغتهم على السكان =وحَّد السكان من كل الأعراق والأديان ضدهم، واعتبرهم السكان جميعًا عدوًّا مشتركًا، اشتعلت ضده الثورة مرتين، وقد سمعنا جميعنا عن انسحاب الحاكم الإسباني (جوينالدو) إلى هونج كونج عام ١٨٩٧ كنتيجة لإفراطهم في العنف، رغم نجاحهم في القضاء على الثورة الأخيرة إلا أن هناك منظمات سرية تتواصل مع الأمريكان للمساعدة في طرد الإسبان، وما أرى إلا إنهم كما قال الله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]

وهذا ما أخشاه.. أن يمكن الأمريكييون من الحكم هنا وهم جزارون؛ فقد (أشرف الرئيس جاكسون بنفسه على سلخ ٨٠٠ من هنود الكريك، واقترح أن ترسَل قطع من تلك الجثث هدايا إلى السيدات الارستقراطيات في تينيسي!)(2) لقد (سلخوا المئات من فروات الرؤوس ورفعوها في دار الأوبرا ابتهاجًا!)(3)".

لاحظ سيف الدين على وجوه من حوله شيئًا من الخوف، فاستدرك قائلًا: "لا أريد أن أبث الذعر في قلوبكم؛ ولكنهم ليسوا بالتأكيد الحليف المناسب، خاصة بعد ضعف مقاومة الإسبان واقتراب هزيمتهم أمام الأمريكيين؛ إن الأميريكيين كالإسبان يظنون أنفسهم حملة الحضارة ويحملون شعار (مدّنوهم بالبندقية)! ومع أن هدفهم واحد إلا إنهم كما ترون يضرب بعضهم بعضًا، همج في مطلع القرن العشرين، ويبدو أن الأمر لن…".

قطع الحديث صوت أنهكه الركض: "سيدي سيف الدين.. سيدي سيف الدين". قفز صاحب الصوت وعينه فيها مخايل الفزع الظاهر أيضًا في صوته، بينما يعلو صدره ويهبط وقال: "أخبار من مانيلا.. باع الإسبان الفلبين للأمريكيين مقابل خمسة ملايين دولار فقط".

استرجع سيف الدين ثم قال: "يبيعوننا كالمتاع.. إخواني! لتستمر المقاومة إذن.. لن تكون عذراء ماليزيا ولاية أميريكية، الاحتلال واحد، وسيدعم الأمريكيون النصارى ويضيقون حصارهم علينا".

تمامًا كما توقع سيف الدين؛ بعد أن انتهت أمريكا من الإسبان عام ١٩٠٠ من الميلاد استدارت لتتحكم في الثوار، حاولوا تنصير المسلمين وأشعلوا حربًا عرفت بحرب الجراثيم؛ حوّلوا السكان فيها لفئران تجارب يحقنونهم بالطاعون والجدري والكوليرا بغرض الأبحاث العلمية، قتل في هذه الحرب وحدها أكثر من ألفي ضحية. واستمرت مقاومة سكان الأرخبيل للأمريكيين الذين ضموا الجنوب إلى الشمال قبل أن يمنحوا البلاد الاستقلال عام ١٩٤٦، ما أشعر سكان الجنوب المسلم بالغبن، وهم الذين تمتعوا باستقلال إداري في عهد الاحتلال الإسباني.

ورغم إعلان الولايات المتحدة استقلال الفلبين؛ فقد استمرت في تولي شئون الدفاع والشئون الخارجية ليستمر تحكمها في البلاد. وعند قيام الحرب العالمية الثانية انتزعت اليابان الفلبين من أيدي الأمريكيين ليطردها السكان من البلاد في مواجهات كانت أشبه بحرب العصابات.

ستة وأربعون عامًا مرت منذ بداية الاحتلال الأميريكي حتى إعلانهم الاستقلال الصوري للبلاد عام ١٩٤٦، ستة وأربعون عامًا أكسبت (سيف الدين) خبرة في جهاد اللسان وجهاد السنان معًا، تمامًا كما أكسبته غرةً بيضاء كلحيته الخفيفة. لم يكن (سيف الدين) ليترك الجهاد ضد مواطنيه صنيعة الأمريكان؛ فالشيخ الذي عركته الحياة وجاهد الأمريكان كما جاهد قبلهم الإسبان علم أن المحتل لن يتخلى عن (عذراء ماليزيا)، ولن يسمح ببقاء أية نظام في الحكم ما لم يضمن أنه قادر على التحكم فيه بصورة تامة.

جلس الشيخ سيف الدين أرضًا ونظر إلى القمر في السماء، قبل أن يسدد بصره نحو الشاب الجالس أمامه ثم قال: "السماء ذاتها والقمر ذاته لم يتغير.. البحر بأمواجه كما هو.. من يصدق أن هذه السلطنة المسلمة التي حكمت هذه البلاد قد محيت من الوجود؟ إن ما حدث في عذراء ماليزيا يا (إبراهيم) ومن قبلها الأندلس ليس ببعيد عن أية دولة مسلمة تحكمها عرائس خشبية يحركها المحتل، الذي يدعي أنه وهبهم الحرية بينما يسلبهم الحياة، وها هي الحكومة النصرانية تحارب المسلمين وتتعمد تهميشهم بل وتنصيرهم بالقوة وتمنع ممارسة الشعائر الإسلامية ؛ بل ويقصرون مناصب الدولة على طلبة الإرساليات، وتشكلت الميليشيات لتطرد المسلمين من منازلهم وتملك الأرض للنصارى وتقتل السكان من المسلمين الذين وصل عدد شهدائهم إلى ثلاثين ألف شهيد، وعندما قاوم المسلمون وصفوا بالإرهابيين”.

تحامل الشيخ على نفسه ووقف مشيرًا للشاب أمامه: "حان دوركم يا إبراهيم.. أكملوا ما بدأه (لابولابو) و(راجا سليمان)، ولا تنسوا أن المحتل يغير زيه ولا يغير عقيدته! لتستمر المقاومة.. {يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، ج22 ص113، ط: المكتب الإسلامي، عام 1421.
(2)منير العكش، أمريكا والإبادات الجماعية، (ص81)، ط: دار رياض الريس، 1423.
(3)السابق، (ص87).
‏٠٩‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٣:٥١ م‏
مقال (كيف هُزم الهنود الحمر). [لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1] كتب أ. @[534759622:2048:شعبان صوان]: لأنني أعتقد أن التاريخ مستشار يمكن الرجوع إليه في الأزمات، وليس مجرد حكواتي يسلي الناس في أوقات فراغهم الطويلة، فإن المصائب الكبرى التي تمر بها أمتنا في الفترة الأخيرة يمكننا أن نشهد مآلاتها فيما حدث لغيرنا، إذ إن الكوارث لم تقتصر على الهزائم، لا سيما أن الهزيمة العسكرية ظاهرة بشرية تمر بها كل المجتمعات، وليست دليلًا سلبيًّا إلا لو صاحبتها هزيمة الإرادة، التي وصلت اليوم حد الانجراف خلف إعلان الرئيس الأمريكي على مسمع ومرأى من عشرات القادة في العالم العربي والإسلامي أن المقاومة إرهاب، والمصادقة على ذلك عمليًّا بعد دفع إتاوة الرضوخ الباهظة من ثروة الأمة بالاصطفاف إلى جانب الأعداء التقليديين كالصهاينة في مواجهة أصحاب الحق الطبيعي، الذين كانت قضيتهم إلى وقت قريب تتذرع الأنظمة بها كونها القضية المركزية لأمة العرب، وأصبحنا نرى في الحقيقة ما لم يكن يخطر في الكوابيس أن يبرر من يدعي العروبة والإسلام هجوم الصهيوني على العرب المسلمين وإمطارهم بالقنابل على رءوسهم، في ظل سقوط إعلامي تغريبي و"إسلامي" يحتمِل أن "يسخّر الله إسرائيل لخدمة دينه"، فيكون اليهود ذوو الضمائر هم من يتصدى لهذا الجنون الوبائي. لو أن الساقطين الذين يظنون أنفسهم فلاسفة سابقي عصرهم وهم يبشرون بقبول الاحتلال والهيمنة باسم الإنسانية والتعايش وقبول الآخر وسط ما يصفونه ببحر الهمجية والتخلف والتعصب، انتقلوا من قسم الفلسفة المزيفة إلى قسم التاريخ لرأوا أنهم ظاهرة متكررة كان الاستعمار كثيرًا ما يستخدم أمثالهم في إخضاع مقاومة الشعوب الثائرة؛ ليتبين فيما بعد أن فلسفتهم لم تكن أكثر من غطاء رقيق لمصالح ارتجوا أن يحصلوا عليها من أعداء شعوبهم، فلا تحققت وعود السيد لهم ولا لشعوبهم، وكانت الطامة عندما أصبحوا أدوات هزيمة أممهم وانتصار الاستعمار عليهم وعلى شعوبهم. فالدليل واضح منذ البداية ضد من يظن نفسه فيلسوفاً سابقًا عصره ومتفوقاً على "العامة" و"الدهماء"، وهو في الحقيقة عاجز عن قراءة بديهيات السياسة والتاريخ التي يلمسها رجل الشارع بفطرته: فكيف يمكن تحقيق سلام وليس استسلامًا بين طرفين غير متكافئين في القوة؟ بل إن أحد الطرفين تضمن الدول الغربية الكبرى تفوقه النوعي على مجموع أعدائه، ومتى تنازل القوي عن مكتسباته لصالح مبادئ الحق والعدل والإنسانية؟ في تاريخ الهنود الحمر نماذج كثيرة سبقت تاريخنا في فصول سياسة "فرق تسد" الاستعمارية التي حذرونا منها صغارًا فلما كبرنا رأيناهم وهم يقعون في فخها: وصِف الجنرال جورج كروك (1828-1890) بكونه أعظم من قاتل الهنود في التاريخ الأمريكي، وشارك في الحرب الأهلية (1861-1865) في سبيل "تحرير" العبيد ثم استدار ضد الهنود لسلبهم حريتهم، وقد استخدم طريقة مبتكرة لقهر السكان الأصليين باستعمالهم ضد بعضهم البعض، واكتشف ببرود، الأثر النفسي المدمر لهذه الممارسة وقال عن ذلك: "ليس هناك أثر ضار بهم كأثر استخدام إخوتهم ضدهم، إنهم لا يقيمون وزنًا للجندي الأمريكي الذي يتفوقون عليه بسهولة وفقًا لأساليب حربهم التي يفرضونها علينا، ولكن عندما نضع في أثرهم عدوًّا من جنسهم مثابر ومراوغ وله القدرة على التخفي ولديه اطلاع على البيئة مثلهم فإن كل هذا سيحطمهم، والمسألة ليست مجرد كفاءة حليفنا الهندي في القبض عليهم بطريقة أفضل بل هناك هدف أهم وأكثر استمرارية وهو تفتيتهم وتحطيمهم"[1]، تمامًا كما يراد تحطيم مقاومة الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأيادي تنتمي لجنسهم. 1. استغلال الخلافات الداخلية: استغل الأوروبيون وخلفاؤهم الأمريكيون الخلافات الداخلية، التي كانت تحتدم بين القبائل وتمزق القبيلة الواحدة ضمن المعادلة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"[2]، فاستخدموا قبيلة ضد أخرى وزعيمًا مهادنًا ضد آخر مقاوم، وكانت هذه الانقسامات تساهم في إخضاع الأرض للغزاة ولم تعد بأية فائدة حتى على من وقف إلى جانبهم، وتم اجتياح الجميع وإيقاع الدمار بهم، ولم يكن مصير المتعاونين أفضل من المقاومين، وهذا ما حدث في فلسطين عندما خدع البريطانيون واليهود قسماً من أهلها ولعبوا على وتر الخلافات الداخلية وانقسام الأحزاب بين مجلسيين ومعارضين واستخدموا فلسطينيًّا مهادنًا للاحتلال، تحت عنوان "فصائل السلام"، ضد فلسطيني مشارك في الثورة الكبرى 1936-1939، ولعل من قاتل الثائر كان ثائرًا إلى جانبه قبل قليل، والزعيم الذي وقف ضد الثورة كان ضمن رجالها في الأمس القريب، تمامًا كما يحدث اليوم، وتمامًا كما حدث لبعض مقاتلي الهنود الذين كانوا يستديرون ضد إخوتهم وينقلبون على أعقابهم بعد ثورة أو معركة ضد العدو الأبيض، كما استُخدم الزعماء العرب من "أصدقاء" بريطانيا الحميمين في إجهاض الثورة الفلسطينية الكبرى، حتى أتت ساعة الحقيقة فجرفت النكبة الجميع بلا تمييز، وتلاحظ الدكتورة سحر الهنيدي أن سياسة الانتداب البريطاني قامت على سد الطريق أمام طموحات الفلسطينيين بوسائل، منها استغلال العداوات بين زعمائهم لإضعاف حركتهم الوطنية وتمزيقها، بتشجيع فصيل محدود على شق الصفوف بطريقة تمكن المندوب السامي من الادعاء أن القيادة الوطنية لا تمثل كل السكان، وتكاملت السياسة الصهيونية مع سياسة الانتداب وقامت بتشجيع "الحزب المعتدل"، واستغلال الضغائن والخلافات التي تمكن المندوب السامي من إثارتها بين الأحزاب[3]. 2. التفتيت وإشعال الحروب لقد تميز العالم الجديد الذي صنعه الأوروبيون في أمريكا بزيادة غير مسبوقة في درجة ممارسة العنف، التي نتجت عن التمزق الاجتماعي الذي أدى إلى العنف الفردي العشوائي، كما وصلت الحروب مستويات عالية في شدتها، وقد حارب الهنود بعضهم البعض في سبيل الحصول على أسلحة البيض التي وجهوها نحو أعدائهم، الذين كثيرًا ما كانوا من جنسهم، كما أدى الاعتماد على الأوروبيين في الحصول على وسائل المعيشة والدفاع إلى الانخراط في الحروب الأوروبية داخل أمريكا؛ حيث تعاملت أوروبا مع الهنود بمنطق بيع الولاء وشرائه، مما أدى إلى زيادة الحروب بين القبائل والتي كان الأوروبيون يحدون منها أو يغذونها[4]، حسب ظروف مصالحهم، وبهذا لم يكتفِ الأوروبيون والأمريكيون باستغلال الخلافات الداخلية بين القبائل، بل كثيرًا ما اختلقوا بينها حروبًا لأجل مكاسبهم التجارية من الرق والفراء، أو حروب وكالة ضمن الصراع الأوروبي على النفوذ في القارة، أو لقمع قبيلة متمردة أو زعيم ثائر. مما نجد له مشابهًا حديثًا في الدور الصهيوني في إشعال الخلافات والانقسامات في الشرق العربي؛ كما فعل في لبنان والسودان والعراق، أو الدور الغربي عمومًا، والذي وثقه الدكتور (جيرمي سولت) في كتابه المترجم إلى العربية (تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي)، وهناك من الغربيين من يدعي أن المجتمعات الأصلية منقسمة أصلًا ويحاول تبرئة الفاعل الغربي من جرائمه، ولكن نظرة واحدة على هذه الانقسامات لو لم يتدخل العامل الغربي -ضمن علم ما يسمى "ماذا لو؟"- لوجدنا أن الإبادة لم تكن لتحل بالهنود الحمر نتيجة خلافاتهم وحدها، ولما دمرت مجتمعاتنا في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال وأفغانستان وسوريا وليبيا واليمن وغيرها حيث حل التطفل الأجنبي، لو اقتصرت الخلافات على أهاليها، ولوجد المجال الاجتماعي الداخلي آليات لحل مشاكله ذاتيًّا بلا هذا الكم الهائل من الدمار. 3. تغيير الزعماء وصناعة العملاء: لتحقيق أهداف سياستهم، كان الأمريكيون يفضلون التعامل مع الزعماء المسالمين الذي يقبلون بالإملاءات الأمريكية، وإذا اعترضهم نفوذ أحد الزعماء المقاومين، كانوا يحاولون جهدهم تحطيم نفوذه و"تحرير" القبيلة من "طغيانه" بالإتيان بزعماء مطواعين بتركيز التعامل معهم وإهمال المقاومين، وإسباغ الهيبة عليهم أمام قومهم -فترة الحاجة إليهم فقط- واحتقار الرافضين، أو بالتعامل مع رءوس العائلات أو أفراد القبيلة بشكل مباشر لتفتيت إرادتهم الجمعية، أليست "الفردية" من مظاهر الديمقراطية؟ ونرى اليوم في بلادنا نفس طريقة الماضي في التعامل مع الزعماء الهنود المنتخبين الذين يمثلون شعوبهم ويتمسكون بحقوقها، ومحاولات الحط من شأنهم وتدمير مكانتهم وعزلهم أو قتلهم، للإتيان بعملاء مطواعين يُشترى أحدهم بزجاجة خمر للتوقيع على التنازل عن حقوق شعبه وأرضه، أو بتعيين وكلاء حكوميين- مثل المندوب السامي أو الحاكم الأمريكي في تجربتنا العربية- لتسهل السيطرة على القبيلة بواسطتهم، وإذا لم تفد كل هذه الوسائل تلجأ السلطات إلى الاغتيال، وكل هذا ليس بعيداً من تجاربنا الحديثة مع الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري عندما يقف زعيم في طريق مطامعهم. 4. إنشاء سلطات محلية للهيمنة على الأهالي ودعم استبدادها: بعد استتباب الأوضاع للاستعمار الاستيطاني في بلاد الآخرين وهزيمة مقاومة الأهالي، يعمد المستعمِر إلى السيطرة على ما تبقى منهم، بإنشاء حكومات محلية يختارها من الزعامات المتعاونة معه، والتي يوجد نموذجها في كل أشكال الاستعمار التقليدية والاستيطانية، ويسميها التعبير الماركسي طبقة (الكومبرادور)، وقد لجأ الأمريكيون إلى إنشاء الحكومات القبلية منذ سنة 1934 على أنقاض الحكومات التقليدية التي كانت تحكم الهنود، وكان هذا هو خيار الاستعمار الأوروبي في بلادنا عندما أنشأ دول التجزئة؛ ليقوم حكامها بوظائفه نفسها بعد رحيل جيوشه، وذلك بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية، ولهذا دعم الغرب ديكتاتوريات التجزئة وأمدها بالعون السياسي والاقتصادي والعسكري أيضًا، وتطلب إنشاء الحكومات الهندية الحديثة في نفس الفترة تأليفها على غرار نماذج الحضارة الغربية وضرورة موافقة وزير الداخلية الأمريكي عليها[5]. وعندما اندلعت ثورة "القوة الحمراء" سنة 1973 في الموقع الذي جرت فيه مجزرة الركبة الجريحة التي قضت على المقاومة الهندية المسلحة (1890)، وقف النظام الأمريكي إلى جانب السلطة القبلية الاستبدادية بشكل واضح[6]، فهل نحن اليوم بصدد تطور دولة التجزئة بتعميم نموذج السلطة الفلسطينية لتصبح جميع الدول العربية وكلاء للاحتلال الصهيوني تتصرف بأمره وتلاحق كل من يعاديه لتحقيق التدجين الكامل للأمة؟ 5. التخلي عن شركاء السلام وازدراؤهم: لم يكن الزعماء المسالمون بمنأى عن العدوان الأمريكي، رغم أن السلطة الأمريكية استخدمت نفوذهم في بعض المراحل لتحقيق أهدافها وأوهمتهم بالصداقة الأبدية، فربما حصل الزعيم الهندي على ميدالية تقدير من الرئيس الأمريكي نفسه، أو شهادة صداقة تثبت ولاءه (تطور الأمر في زمننا فأصبحنا نحن اليوم من يدفع للسيد ثمنًا بليونيًّا باهظًا لتفضله بقبول تبعيتنا)، ومع ذلك يُقتل التابع برصاص الجيش الأمريكي لأن ما قدمه غير كاف للجم قومه (نفس الحجة الحديثة عند الكيان الصهيوني)، أو لأن المصالح اقتضت ذلك، أو لأن الرئيس الأمريكي غير قادر على ضبط جنوده بكل أسف، وقد قُتل كثير من الزعماء المسالمين برصاص الأمريكيين. ولعل أوضح مثال على هذا قصة زعيم قبيلة الشايان "الإبريق الأسود" Black Kettle الذي قضى عمره في البحث عن السلام واتباع أوامر الرجل الأبيض وسلوك سبيل الأمان، مضحيًا بحقوق قومه وموافقًا على تقديم الأرض مقابل الحصول على السلام، فكانت النتيجة أن تعرض قومه لمذبحتين من أبشع مذابح التاريخ الأمريكي في نهير الرمل Sand Creek 1864 وواشيتا (1868)، وقُتل هو تحت سنابك الجيش الأمريكي بكل وحشية هو ومئات من أفراد قبيلته. وكم من زعيم سلام لاقى الترفع والاستكبار من الرجل الأبيض، فهذا يعرض خدمات للقتال إلى جانب الجيش فيلاقي الإعراض والرفض بازدراء، وهذا يمد يده للسلام على الجنرال الأمريكي فيرفض الجنرال مس يده (مقارنة مع مصافحة اتفاق أوسلو في البيت الأبيض)، ولعل هذه الصور تعيد إلى أذهاننا صورًا معاصرة عن كيفية معاملة الذين ساروا في درب عملية السلام والتبعية للرجل الأبيض. [1] -John D. McDermott. (1998). A Guide to the Indian Wars of the West. Lincoln: University of Nebraska Press, p. 61. [2] -Colin G. Calloway. (1995). The American Revolution in Indian Country: Crisis and Diversity in Native American Communities. Cambridge: Cambridge University Press, p. 6. [3] -سحر الهنيدي. (2003). التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي: فترة هربرت صامويل 1920-1925. (ترجمة: عبد الفتاح صبحي) بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 294-295. [4] - Colin G. Calloway, pp. 5-6. [5] -Jack Utter. (2001). American Indians: Answers to Today's Questions. Norman: University of Oklahoma Press, p. 272. [6] -Vine Deloria, JR. (1992). God Is Red: A Native View of Religion. Golden, Colorado: Fulcrum Publishing, p. 20. -Alvin M. Josephy, Jr. (1989). Now That the Buffalo's Gone. Norman: University of Oklahoma Press, pp. 244, 252-253.
مقال (كيف هُزم الهنود الحمر).
[لتحميل العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1]

كتب أ. شعبان صوان:

لأنني أعتقد أن التاريخ مستشار يمكن الرجوع إليه في الأزمات، وليس مجرد حكواتي يسلي الناس في أوقات فراغهم الطويلة، فإن المصائب الكبرى التي تمر بها أمتنا في الفترة الأخيرة يمكننا أن نشهد مآلاتها فيما حدث لغيرنا، إذ إن الكوارث لم تقتصر على الهزائم، لا سيما أن الهزيمة العسكرية ظاهرة بشرية تمر بها كل المجتمعات، وليست دليلًا سلبيًّا إلا لو صاحبتها هزيمة الإرادة، التي وصلت اليوم حد الانجراف خلف إعلان الرئيس الأمريكي على مسمع ومرأى من عشرات القادة في العالم العربي والإسلامي أن المقاومة إرهاب، والمصادقة على ذلك عمليًّا بعد دفع إتاوة الرضوخ الباهظة من ثروة الأمة بالاصطفاف إلى جانب الأعداء التقليديين كالصهاينة في مواجهة أصحاب الحق الطبيعي، الذين كانت قضيتهم إلى وقت قريب تتذرع الأنظمة بها كونها القضية المركزية لأمة العرب، وأصبحنا نرى في الحقيقة ما لم يكن يخطر في الكوابيس أن يبرر من يدعي العروبة والإسلام هجوم الصهيوني على العرب المسلمين وإمطارهم بالقنابل على رءوسهم، في ظل سقوط إعلامي تغريبي و"إسلامي" يحتمِل أن "يسخّر الله إسرائيل لخدمة دينه"، فيكون اليهود ذوو الضمائر هم من يتصدى لهذا الجنون الوبائي.
لو أن الساقطين الذين يظنون أنفسهم فلاسفة سابقي عصرهم وهم يبشرون بقبول الاحتلال والهيمنة باسم الإنسانية والتعايش وقبول الآخر وسط ما يصفونه ببحر الهمجية والتخلف والتعصب، انتقلوا من قسم الفلسفة المزيفة إلى قسم التاريخ لرأوا أنهم ظاهرة متكررة كان الاستعمار كثيرًا ما يستخدم أمثالهم في إخضاع مقاومة الشعوب الثائرة؛ ليتبين فيما بعد أن فلسفتهم لم تكن أكثر من غطاء رقيق لمصالح ارتجوا أن يحصلوا عليها من أعداء شعوبهم، فلا تحققت وعود السيد لهم ولا لشعوبهم، وكانت الطامة عندما أصبحوا أدوات هزيمة أممهم وانتصار الاستعمار عليهم وعلى شعوبهم.
فالدليل واضح منذ البداية ضد من يظن نفسه فيلسوفاً سابقًا عصره ومتفوقاً على "العامة" و"الدهماء"، وهو في الحقيقة عاجز عن قراءة بديهيات السياسة والتاريخ التي يلمسها رجل الشارع بفطرته: فكيف يمكن تحقيق سلام وليس استسلامًا بين طرفين غير متكافئين في القوة؟ بل إن أحد الطرفين تضمن الدول الغربية الكبرى تفوقه النوعي على مجموع أعدائه، ومتى تنازل القوي عن مكتسباته لصالح مبادئ الحق والعدل والإنسانية؟
في تاريخ الهنود الحمر نماذج كثيرة سبقت تاريخنا في فصول سياسة "فرق تسد" الاستعمارية التي حذرونا منها صغارًا فلما كبرنا رأيناهم وهم يقعون في فخها:
وصِف الجنرال جورج كروك (1828-1890) بكونه أعظم من قاتل الهنود في التاريخ الأمريكي، وشارك في الحرب الأهلية (1861-1865) في سبيل "تحرير" العبيد ثم استدار ضد الهنود لسلبهم حريتهم، وقد استخدم طريقة مبتكرة لقهر السكان الأصليين باستعمالهم ضد بعضهم البعض، واكتشف ببرود، الأثر النفسي المدمر لهذه الممارسة وقال عن ذلك: "ليس هناك أثر ضار بهم كأثر استخدام إخوتهم ضدهم، إنهم لا يقيمون وزنًا للجندي الأمريكي الذي يتفوقون عليه بسهولة وفقًا لأساليب حربهم التي يفرضونها علينا، ولكن عندما نضع في أثرهم عدوًّا من جنسهم مثابر ومراوغ وله القدرة على التخفي ولديه اطلاع على البيئة مثلهم فإن كل هذا سيحطمهم، والمسألة ليست مجرد كفاءة حليفنا الهندي في القبض عليهم بطريقة أفضل بل هناك هدف أهم وأكثر استمرارية وهو تفتيتهم وتحطيمهم"[1]، تمامًا كما يراد تحطيم مقاومة الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأيادي تنتمي لجنسهم.
1. استغلال الخلافات الداخلية:
استغل الأوروبيون وخلفاؤهم الأمريكيون الخلافات الداخلية، التي كانت تحتدم بين القبائل وتمزق القبيلة الواحدة ضمن المعادلة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"[2]، فاستخدموا قبيلة ضد أخرى وزعيمًا مهادنًا ضد آخر مقاوم، وكانت هذه الانقسامات تساهم في إخضاع الأرض للغزاة ولم تعد بأية فائدة حتى على من وقف إلى جانبهم، وتم اجتياح الجميع وإيقاع الدمار بهم، ولم يكن مصير المتعاونين أفضل من المقاومين، وهذا ما حدث في فلسطين عندما خدع البريطانيون واليهود قسماً من أهلها ولعبوا على وتر الخلافات الداخلية وانقسام الأحزاب بين مجلسيين ومعارضين واستخدموا فلسطينيًّا مهادنًا للاحتلال، تحت عنوان "فصائل السلام"، ضد فلسطيني مشارك في الثورة الكبرى 1936-1939، ولعل من قاتل الثائر كان ثائرًا إلى جانبه قبل قليل، والزعيم الذي وقف ضد الثورة كان ضمن رجالها في الأمس القريب، تمامًا كما يحدث اليوم، وتمامًا كما حدث لبعض مقاتلي الهنود الذين كانوا يستديرون ضد إخوتهم وينقلبون على أعقابهم بعد ثورة أو معركة ضد العدو الأبيض، كما استُخدم الزعماء العرب من "أصدقاء" بريطانيا الحميمين في إجهاض الثورة الفلسطينية الكبرى، حتى أتت ساعة الحقيقة فجرفت النكبة الجميع بلا تمييز، وتلاحظ الدكتورة سحر الهنيدي أن سياسة الانتداب البريطاني قامت على سد الطريق أمام طموحات الفلسطينيين بوسائل، منها استغلال العداوات بين زعمائهم لإضعاف حركتهم الوطنية وتمزيقها، بتشجيع فصيل محدود على شق الصفوف بطريقة تمكن المندوب السامي من الادعاء أن القيادة الوطنية لا تمثل كل السكان، وتكاملت السياسة الصهيونية مع سياسة الانتداب وقامت بتشجيع "الحزب المعتدل"، واستغلال الضغائن والخلافات التي تمكن المندوب السامي من إثارتها بين الأحزاب[3].
2. التفتيت وإشعال الحروب
لقد تميز العالم الجديد الذي صنعه الأوروبيون في أمريكا بزيادة غير مسبوقة في درجة ممارسة العنف، التي نتجت عن التمزق الاجتماعي الذي أدى إلى العنف الفردي العشوائي، كما وصلت الحروب مستويات عالية في شدتها، وقد حارب الهنود بعضهم البعض في سبيل الحصول على أسلحة البيض التي وجهوها نحو أعدائهم، الذين كثيرًا ما كانوا من جنسهم، كما أدى الاعتماد على الأوروبيين في الحصول على وسائل المعيشة والدفاع إلى الانخراط في الحروب الأوروبية داخل أمريكا؛ حيث تعاملت أوروبا مع الهنود بمنطق بيع الولاء وشرائه، مما أدى إلى زيادة الحروب بين القبائل والتي كان الأوروبيون يحدون منها أو يغذونها[4]، حسب ظروف مصالحهم، وبهذا لم يكتفِ الأوروبيون والأمريكيون باستغلال الخلافات الداخلية بين القبائل، بل كثيرًا ما اختلقوا بينها حروبًا لأجل مكاسبهم التجارية من الرق والفراء، أو حروب وكالة ضمن الصراع الأوروبي على النفوذ في القارة، أو لقمع قبيلة متمردة أو زعيم ثائر.
مما نجد له مشابهًا حديثًا في الدور الصهيوني في إشعال الخلافات والانقسامات في الشرق العربي؛ كما فعل في لبنان والسودان والعراق، أو الدور الغربي عمومًا، والذي وثقه الدكتور (جيرمي سولت) في كتابه المترجم إلى العربية (تفتيت الشرق الأوسط: تاريخ الاضطرابات التي يثيرها الغرب في العالم العربي)، وهناك من الغربيين من يدعي أن المجتمعات الأصلية منقسمة أصلًا ويحاول تبرئة الفاعل الغربي من جرائمه، ولكن نظرة واحدة على هذه الانقسامات لو لم يتدخل العامل الغربي -ضمن علم ما يسمى "ماذا لو؟"- لوجدنا أن الإبادة لم تكن لتحل بالهنود الحمر نتيجة خلافاتهم وحدها، ولما دمرت مجتمعاتنا في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال وأفغانستان وسوريا وليبيا واليمن وغيرها حيث حل التطفل الأجنبي، لو اقتصرت الخلافات على أهاليها، ولوجد المجال الاجتماعي الداخلي آليات لحل مشاكله ذاتيًّا بلا هذا الكم الهائل من الدمار.
3. تغيير الزعماء وصناعة العملاء:
لتحقيق أهداف سياستهم، كان الأمريكيون يفضلون التعامل مع الزعماء المسالمين الذي يقبلون بالإملاءات الأمريكية، وإذا اعترضهم نفوذ أحد الزعماء المقاومين، كانوا يحاولون جهدهم تحطيم نفوذه و"تحرير" القبيلة من "طغيانه" بالإتيان بزعماء مطواعين بتركيز التعامل معهم وإهمال المقاومين، وإسباغ الهيبة عليهم أمام قومهم -فترة الحاجة إليهم فقط- واحتقار الرافضين، أو بالتعامل مع رءوس العائلات أو أفراد القبيلة بشكل مباشر لتفتيت إرادتهم الجمعية، أليست "الفردية" من مظاهر الديمقراطية؟ ونرى اليوم في بلادنا نفس طريقة الماضي في التعامل مع الزعماء الهنود المنتخبين الذين يمثلون شعوبهم ويتمسكون بحقوقها، ومحاولات الحط من شأنهم وتدمير مكانتهم وعزلهم أو قتلهم، للإتيان بعملاء مطواعين يُشترى أحدهم بزجاجة خمر للتوقيع على التنازل عن حقوق شعبه وأرضه، أو بتعيين وكلاء حكوميين- مثل المندوب السامي أو الحاكم الأمريكي في تجربتنا العربية- لتسهل السيطرة على القبيلة بواسطتهم، وإذا لم تفد كل هذه الوسائل تلجأ السلطات إلى الاغتيال، وكل هذا ليس بعيداً من تجاربنا الحديثة مع الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري عندما يقف زعيم في طريق مطامعهم.
4. إنشاء سلطات محلية للهيمنة على الأهالي ودعم استبدادها:
بعد استتباب الأوضاع للاستعمار الاستيطاني في بلاد الآخرين وهزيمة مقاومة الأهالي، يعمد المستعمِر إلى السيطرة على ما تبقى منهم، بإنشاء حكومات محلية يختارها من الزعامات المتعاونة معه، والتي يوجد نموذجها في كل أشكال الاستعمار التقليدية والاستيطانية، ويسميها التعبير الماركسي طبقة (الكومبرادور)، وقد لجأ الأمريكيون إلى إنشاء الحكومات القبلية منذ سنة 1934 على أنقاض الحكومات التقليدية التي كانت تحكم الهنود، وكان هذا هو خيار الاستعمار الأوروبي في بلادنا عندما أنشأ دول التجزئة؛ ليقوم حكامها بوظائفه نفسها بعد رحيل جيوشه، وذلك بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية، ولهذا دعم الغرب ديكتاتوريات التجزئة وأمدها بالعون السياسي والاقتصادي والعسكري أيضًا، وتطلب إنشاء الحكومات الهندية الحديثة في نفس الفترة تأليفها على غرار نماذج الحضارة الغربية وضرورة موافقة وزير الداخلية الأمريكي عليها[5].
وعندما اندلعت ثورة "القوة الحمراء" سنة 1973 في الموقع الذي جرت فيه مجزرة الركبة الجريحة التي قضت على المقاومة الهندية المسلحة (1890)، وقف النظام الأمريكي إلى جانب السلطة القبلية الاستبدادية بشكل واضح[6]، فهل نحن اليوم بصدد تطور دولة التجزئة بتعميم نموذج السلطة الفلسطينية لتصبح جميع الدول العربية وكلاء للاحتلال الصهيوني تتصرف بأمره وتلاحق كل من يعاديه لتحقيق التدجين الكامل للأمة؟
5. التخلي عن شركاء السلام وازدراؤهم:
لم يكن الزعماء المسالمون بمنأى عن العدوان الأمريكي، رغم أن السلطة الأمريكية استخدمت نفوذهم في بعض المراحل لتحقيق أهدافها وأوهمتهم بالصداقة الأبدية، فربما حصل الزعيم الهندي على ميدالية تقدير من الرئيس الأمريكي نفسه، أو شهادة صداقة تثبت ولاءه (تطور الأمر في زمننا فأصبحنا نحن اليوم من يدفع للسيد ثمنًا بليونيًّا باهظًا لتفضله بقبول تبعيتنا)، ومع ذلك يُقتل التابع برصاص الجيش الأمريكي لأن ما قدمه غير كاف للجم قومه (نفس الحجة الحديثة عند الكيان الصهيوني)، أو لأن المصالح اقتضت ذلك، أو لأن الرئيس الأمريكي غير قادر على ضبط جنوده بكل أسف، وقد قُتل كثير من الزعماء المسالمين برصاص الأمريكيين.
ولعل أوضح مثال على هذا قصة زعيم قبيلة الشايان "الإبريق الأسود" Black Kettle الذي قضى عمره في البحث عن السلام واتباع أوامر الرجل الأبيض وسلوك سبيل الأمان، مضحيًا بحقوق قومه وموافقًا على تقديم الأرض مقابل الحصول على السلام، فكانت النتيجة أن تعرض قومه لمذبحتين من أبشع مذابح التاريخ الأمريكي في نهير الرمل Sand Creek 1864 وواشيتا (1868)، وقُتل هو تحت سنابك الجيش الأمريكي بكل وحشية هو ومئات من أفراد قبيلته.
وكم من زعيم سلام لاقى الترفع والاستكبار من الرجل الأبيض، فهذا يعرض خدمات للقتال إلى جانب الجيش فيلاقي الإعراض والرفض بازدراء، وهذا يمد يده للسلام على الجنرال الأمريكي فيرفض الجنرال مس يده (مقارنة مع مصافحة اتفاق أوسلو في البيت الأبيض)، ولعل هذه الصور تعيد إلى أذهاننا صورًا معاصرة عن كيفية معاملة الذين ساروا في درب عملية السلام والتبعية للرجل الأبيض.

[1] -John D. McDermott. (1998). A Guide to the Indian Wars of the West. Lincoln: University of Nebraska Press, p. 61.
[2] -Colin G. Calloway. (1995). The American Revolution in Indian Country: Crisis and Diversity in Native American Communities. Cambridge: Cambridge University Press, p. 6.
[3] -سحر الهنيدي. (2003). التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي: فترة هربرت صامويل 1920-1925. (ترجمة: عبد الفتاح صبحي) بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 294-295.
[4] - Colin G. Calloway, pp. 5-6.
[5] -Jack Utter. (2001). American Indians: Answers to Today's Questions. Norman: University of Oklahoma Press, p. 272.
[6] -Vine Deloria, JR. (1992). God Is Red: A Native View of Religion. Golden, Colorado: Fulcrum Publishing, p. 20.
-Alvin M. Josephy, Jr. (1989). Now That the Buffalo's Gone. Norman: University of Oklahoma Press, pp. 244, 252-253.
‏٠٨‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٠٩ م‏
مقال (خطة طوارئ) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق [لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1] كتب م/ @[1065146872:2048:أحمد بكر] خطة الطوارئ هي عملية موثقة لمجموعة من الإجراءات المتخذة لإعادة تشغيل العمل إلى حالته الطبيعية، بأقل الخسائر الممكنة وفي أسرع وقت نسبي. وفي مقابل خطة الطوارئ سواء للشركات أو الأفراد توجد خطة طوارئ للحكومات بدءًا من الحكومات المركزية/ الفدرالية، نزولًا إلى المقاطعات والمدن؛ بل وحتى القرى الصغيرة عندها خطة بنفس المعنى، وهو استمرارية الحياة بشكل يتيح الراحة للمواطنين. هنا نتعرض لخطة الطوارئ الشخصية للأفراد، وهم معرضون لمشاكل حياتية تؤثر بشكل أو بآخر عليها وعلى أداء الفرد ككل؛ لذا فالواجب على كل إنسان أن يضع له خطة تضمن له أن يتفادى تلك الهزات بأقل ضرر نفسي/ مادي ممكن. في مقال لبراد لوميس -الخبير التقني بشركة صن جارد- نشر على موقع مجلة فوربس، يستعرض حالة حصلت له شخصيًّا، وهي بدءه في إجراءات الطلاق مرروًا بوفاة زوجته قبل إتمامها. هذه تعتبر حالة متكاملة ككارثة تصيب الإنسان في مسار حياته الطبيعي؛ لذا يستعرض الكاتب محملًا بخبرته في مجال تقنية المعلومات كيف يمكن للإنسان وضع خطة لذلك (1). فيما يلي النقاط الأساسية لكي تساعدك في التحضير لخطة طوارئ رائعة -الخطة لا الطوارئ نفسها بالطبع- يمكن الاعتماد عليها بشرط إعدادها بشكل جيد. 1- التوثيق لكل خطوة بتفاصيلها التوثيق الكتابي هو أول وأهم خطوة في العملية كلها؛ لعدم ترك شيء للظروف أو الصدف؛ حيث إن النجاة أو تقليل المخاطر يعتمد بصورة أساسية على سرعة وحسن التصرف، الذي قد لا يتأتى للإنسان في حالة الطوارئ، وقد يؤثر على طريقة التفكير العقلانية في بعض الأحيان؛ لذا من الأهمية بمكان توثيق الخطة والتعديل عليها من فترة لأخرى، تبعًا لما يعنّ للإنسان من أفكار جديدة تساعده أكثر على تجاوز المحنة. كما أن تعميم هذه الخطة على الأقارب والأصدقاء مهم جدًّا؛ لأنه في حالة وقوع كارثة معينة قد لا تستطيع الاتصال بهم وبالتالي المخاطر ستتضاعف بالنسبة لهم؛ لعدم إبلاغهم بالتدرب والاستعداد للخطوات القادمة، ولابد بالطبع من الاحتفاظ بنسخة مطبوعة دائمًا. 2- تحديد مفهوم المخاطر المحتملة من المهم جدًّا لمعرفة كيفية مواجهة خطر ما، تحديده أولًا لكي يتسنى لك التعامل مع كل حالة تبعًا لعواقبها. فمثلًا التعامل مع خطر في حالة غزو دولتك، يختلف عن طريقة التعامل في حالة حريق المبنى الذي تعيش فيه؛ حيث إن لكل حالة طريقة تعامل مميزة تختلف عن الحالات الأخرى. ويمكن تقسيم المخاطر إلى: • مخاطر طبيعية: فيضان- زلزال- حرائق (طبيعية)- جفاف- انزلاقات أرضية...إلخ • مخاطر من صنع الإنسان: حروب- تلوث مفاجئ (غاز- إشعاع- كيميائي- بيولوجي)... إلخ 3- معرفة متى يمكنك أن تعلن أنك في حالة كارثية الأمر المهم لبدء أي إجراءات، هو معرفة متى يمكنك أن تبدأها من الأساس، قد يستمر الإنسان في حالة من الإنكار بالرغم من غرقه لأذنيه في المشاكل؛ مما يمنعه من البدء بشكل سليم في إجراءات خروجه منها وحلها؛ لذا من الضروري أن يكون للإنسان الشجاعة في البدء في حل مشكلته قبل تفاقمها للحد من الأضرار المترتبة. 4- معرفة وتحديد المصادر التي يمكن الاعتماد عليها • الوثائق الرسمية: مثل وثائق الهوية والميلاد ورخصة القيادة وجوازات السفر، ويمكن حمايتها بوضع الأصول في حافظة مضادة للماء للمحافظة عليها من التلف، بالإضافة لطبع نسخ متعددة لنفس الوثائق ووضعها مع أفراد العائلة لضمان وجود نسخ منها، مع مراعاة أخذ نسخ إلكترونية منها ورفعها في أحد مواقع التخزين السحابية (كجوجل درايف أو ميكروسوفت ون درايف). • الحالة الصحية لكل فرد في العائلة: إذا كان هناك فرد في العائلة يعاني من حالة صحية تحتاج لعناية معينة، يجب الاحتفاظ بنسخة عن حالته ويمكن حفظها بنفس الطريقة في النقطة الأولى. • الوثائق المالية والأصول: بالنسبة للوثائق، فيُحتفظ بها في نفس الحافظة وأيضا حفظها إليكترونيًّا كما سبق شرحه، مثل الرصيد البنكي، ملكية العقارات والأراضي، السندات، أما بالنسبة للمعادن الثمينة والمجوهرات أو النقود السائلة فتحفظ في صندوق آمن يسهل حمله في أي وقت. • جهات الاتصال: طباعة ورقة بأسماء وأرقام هواتف وعناوين المنزل للأقارب والأصدقاء المقربين، وبالطبع جهات الاتصال على الهاتف يتم حفظها آليا عن طريق ربطها بحساب جوجل مثلًا في حالة فقد الهاتف نفسه. • البيانات الرقمية: جميع البيانات الرقمية على أجهزة الحاسوب المختلفة (المهمة منها بالطبع، أفلام الكارتون مثلًا ليست أولوية في حالة الكارثة) يتم حفظها عن طريق شراء مساحة تخزين إضافية على أحد مواقع التخزين السحابية المشار إليها سابقًا. • الاحتفاظ في المنزل بصيدلية صغيرة لعلاج الحالات الطارئة؛ لحين الحصول على رعاية طبية احترافية (جروح قطعية- كسور- حروق- حساسية من مواد معينة) بالإضافة لكتاب للإسعافات الأولية. • الاحتفاظ بمخزون من الطعام عالي السعرات الحرارية والبروتين لمدة شهر -أسبوع بحد أدنى- ويتم تجديد الكمية قبل انتهاء تاريخ صلاحيتها، مثل (ألواح البروتين- معلبات اللحوم والتونة- زبدة الفول السوداني- بسكويت- عصائر طويلة الأمد- طعام للرضع- مكسرات- فواكه مجففة) مع مراعاة وجود حساسية معينة لدى أحد أفراد الأسرة ضد أي أطعمة. • الاحتفاظ بمستلزمات الأطفال والرضع في حالة وجودهم (مكملات غذائية- حفاضات- حليب مجفف-مستلزمات للعناية بالبشرة والحساسية). يمكن الاطلاع على المزيد في المرجع رقم 6. • الاحتفاظ بمخزون من الماء الزلال يكفي لمدة شهر بحد أدنى للاستخدام، بحيث لا يتم استخدامه للطهو أو النظافة الشخصية، والحساب هو جالون من الماء لكل شخص يوميًّا. • وسائل للعناية الشخصية بالجسم بدون استخدام الماء، (المستحضرات الكحولية مثلًا) يمكن استشارة الصيدلي في الأمر. • قناع للغازات السامة إن توفر، أو على الأقل للأتربة والغبار. • أدوات يمكن استخدامها لأغراض متعددة، ويفضل الحصول على سكين متعدد الاستعمالات -سكين الجيب السويسري كمثال- . • مصدر للإنارة والطاقة يمكن شحنه (طاقة شمسية- مولد ديزل- بطاريات قابلة لإعادة الشحن– شواحن يدوية Hand Crank Chargers). • وسيلة للاتصال لا تعتمد على مزود الخدمة في حال انقطاع الخدمة كليًّا (ووكي توكي مداه بعيد نسبيًّا). • شراء جهاز تحديد للمواقع غير مرتبط بخدمة الهاتف بالإضافة إلى خريطة ورقية مطبوعة، وتحديد مكان للتلاقي في حالة الانفصال وقت الخطر. • إبقاء مبلغ من المال يكفي لشراء الأساسيات لمدة محدودة، في حالة وجود عطل تقني في أجهزة الصرافة أو مانع يمنع البنوك من تقديم خدماتها. • وجود خزانة مضادة للنيران في المنزل، لحفظ الوثائق والنقود وغيرها، بالإضافة لحفظها في حافظة مضادة للماء كما سبق في حالة غمر الخزانة بالمياه. • الاحتفاظ بنسخة إلكترونية من جميع الوثائق السابق ذكرها على وسيط تخزين، ويفضل أن يكون مضادًّا للماء، وحفظها في الخزانة بالمنزل، مع الأخذ في الاعتبار وجوب القيام بتشفير البيانات المخزنة حتى لا يتم الاستفادة منها في حال فقدانها. • استخدام مضاد فيروسات للأجهزة، وزيادة الوعي بالأمن المعلوماتي؛ لتلافي حدوث هجوم على أجهزتك الشخصية، مما يؤدي إلى فقد أو تسريب معلومات خاصة أو مالية، وهو ما يعتبر “كارثة أو Disaster” أيضًا. • الحصول على مطفأة حريق في المطبخ على الأقل، بالإضافة لقماش مضاد للنيران للمساعدة في الإطفاء. • تركيب مستشعرات دخان للتنبيه قبل تفاقم الحريق. • أعواد ثقاب مضادة للبلل. • أغطية مقاومة للظروف الجوية القاسية، وأكياس نوم، وملابس إضافية (ملابس خارجية- ملابس داخلية- جوارب مع مراعاة الطقس في دولتك) توضع في أكياس مضادة للماء لحمايتها من البلل. • كوابل لشحن بطارية السيارة في حالة الاحتياج بالإضافة إلى جاروف لإزالة الرمل أو الثلج. 5- نقاط يجب تضمينها في خطة الطوارئ الخطوات اللاحقة هي التي تُبنى عليها خطة الطوارئ نفسها، وهي تتضمن تغيير بعض السلوكيات والعادات لزيادة الجهوزية وحسن التصرف في حالات الخطر. أمثلة على ذلك: • تحديد الأماكن التي يمكن اللجوء إليها بسرعة في حالات الخطر، وطريقة الوصول إليها، والتأكد من أن كل فرد مشمول في خطة الطوارئ يعرف أين عليه التواجد وكيفية الوصول إليها. • معرفة مخارج الطوارئ في مكان العمل/ المنزل/ المدرسة للأطفال. • معرفة مداخل ومخارج المدينة والطرق الأساسية، للوصول إلى الأماكن التي يتواجد بها الأفراد المشمولون بخطة الطوارئ؛ ليسهل الوصول إليها وعدم الاعتماد كليًّا على وسائل تقنية كخرائط جوجل مثلًا. • في حالة الطوارئ وسيلة الاتصال المفضلة طبقًا لما تذكره هيئة إدارة الطوارئ الفيدرالية الأمريكية، هي الرسائل النصية، لأنها تحتاج لقدر أقل من البيانات، وفي حالة عدم توافر الخدمة مؤقتًا فإن الرسالة يعاد إرسالها تلقائيًّا حين توافر التغطية، ويجب الاتفاق على إرسال رسالة بأقصر عدد ممكن من الحروف تحوي معلومات كافية؛ مثل: (أنا بخير في المدرسة)؛ حيث توضح الرسالة حالة الفرد ومكان تواجده ليسهل الالتقاء به. • إبقاء مكالمات الهاتف مختصرة بقدر الإمكان، مع إعطاء معلومات كاملة وصحيحة؛ للتقليل من استهلاك البطارية والضغط على شبكة مزود الخدمة، ومراعاة عدم تحميل أي فيديوهات أو ملفات كبيرة الحجم، مما يساهم في جعل شبكة مزود الخدمة أكثر كفاءة لاستخدام الآخرين للاتصال بخدمات الطوارئ. • المحافظة على عمر شحن بطارية الهاتف، بتقليل الإضاءة، وإبقاء الهاتف على وضع الطيران، وغلق جميع البرامج غير الضرورية. • التدرب على الإسعاف الأولي، ويمكن الحصول عليه في أي معهد طبي قريب. • إغلاق مصادر إمداد المنزل/ المبنى لكل من الماء والغاز الطبيعي والكهرباء؛ لمنع تفاقم مستوى الخطر، ويتطلب ذلك معرفة جيدة بالصمامات الرئيسية وليست الفرعية المغذية للمبنى ككل. • متابعة التحذيرات المختلفة من السلطات ووسائل الإعلام المحلية والأرصاد الجوية، والتسجيل في القائمة البريدية لها للحصول على التحديثات أولًا بأول. • الحفاظ على المخزون سواء من الأطعمة أو الأدوية أو المستلزمات الأخرى، والتأكد من سلامتها وحفظها بطريقة جيدة. • يمكن تسخين الطعام المعلب، بشرط إزالة الملصق وغسل العلبة وفتحها قبل التسخين، حتى لا يؤدى الغاز بداخلها إلى انفجارها. • عدم استبدال الماء الزلال بالمشروبات الغازية، أو المحتوية على كافيين، حيث إنها تزيد من قابلية نقص الماء في الجسم مما يؤدي إلى الشعور بالعطش. • في حالة نفاد كمية المياه النقية والاضطرار إلى استخدام ماء غير معلوم مدى صلاحيته للاستخدام، يمكن اتباع الطرق التالية ويفضل القيام بها جميعًا للتأكد من قتل معظم الجراثيم، بالإضافة للملوثات الأخرى كالمعادن والأملاح والكيماويات: - غلي الماء مع تركه يبرد قبل شربه، ويمكن إضافة عبوة أكسجين لتحسين الطعم. - استخدام الكلورين CI2، ويمكن عمل ذلك باستخدام المبيّض المنزلي العادي (كلوركس)، الذي يحتوي على نسبة 5.25 إلى 6% من هيبوكلورايت الصوديوم -وعدم استخدام مبيضات تحتوي على مواد معطرة أو مثبتات للون او أي منظفات إضافية- حيث تقوم باضافة 16 قطرة أو ثمن ملعقة شاي لكل جالون ماء، ثم تقلب ويترك لمدة 30 دقيقة. يجب أن تلاحظ رائحة كلور خفيفة، إذا لم توجد تعاد نفس العملية مع ترك الماء 15 دقيقة، إذا لم تشم رائحة الكلور يتم صرف الماء وعدم استخدامه. - تقطير الماء، وهي أنجع الطرق وأكثرها كفاءة، ويمكن عمل ذلك إما بجهاز يشترى، أو في حالة عدم توافره يمكن عمله بأدوات منزلية بسيطة ويوجد فيديوهات تشرح ذلك. 6- معرفة الحد الأدنى للتعافي أي ما هو الحد المقبول بالنسبة لك لكي تعلن تجاوز حالة الطوارئ وزوال الخطر، والرجوع بشكل ما إلى الحالة الطبيعية. 7- التخطيط للعودة للحالة الطبيعية بأسرع ما يمكن أهمية الأمر تكمن في إزالة الضغط النفسي والبدني معًا في ظل استمرار إعلان حالة الطوارئ كما هي الحال بالنسبة للدول، حيث إنه في ظل تخفيف أو إنهاء حالة الطوارئ الإنسان يستطيع التفكير بشكل خال من التوتر وتصبح قراراته أقل تسرعًا. 8- التدرب بشكل دوري على الخطة وتحديثها التدرب بشكل دوري ومراجعة الخطوات يؤدي إلى تعديل الخطة بشكل مستمر، يتيح قدرًا أكبر من السهولة في التنفيذ بعد اكتساب الخبرة، كما أنه يقلل من الوقت الضائع، خصوصًا في الدقائق الثمينة الأولى في حالة حدوث الطارئ. كما أنه لا بد من تنفيذ الخطة الموضوع بشكل كامل، عن طريق محاكاة الخطر؛ لضمان معرفة كل فرد مشمول بالخطة بدوره بشكل جيد، مما يرفع من الجاهزية والاستعداد. 1. Forbes, Brad Loomis, MAY 21, 2014. 2. http://www.disaster-survival-resources.com 3. https://www.ready.gov/food 4. http://www.fema.gov/ 5. http://www.operationhope.org/ 6-http://www.cdph.ca.gov/healthinfo/healthyliving/childfamily/Pages/EmergencyPreparednessInfantandYoungChildCareandFeeding.aspx 7. http://www.google.org/crisisresponse/about/index.html 8. http://www.youtube.com/fema
مقال (خطة طوارئ) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق
[لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1]

كتب م/ أحمد بكر

خطة الطوارئ هي عملية موثقة لمجموعة من الإجراءات المتخذة لإعادة تشغيل العمل إلى حالته الطبيعية، بأقل الخسائر الممكنة وفي أسرع وقت نسبي.
وفي مقابل خطة الطوارئ سواء للشركات أو الأفراد توجد خطة طوارئ للحكومات بدءًا من الحكومات المركزية/ الفدرالية، نزولًا إلى المقاطعات والمدن؛ بل وحتى القرى الصغيرة عندها خطة بنفس المعنى، وهو استمرارية الحياة بشكل يتيح الراحة للمواطنين.
هنا نتعرض لخطة الطوارئ الشخصية للأفراد، وهم معرضون لمشاكل حياتية تؤثر بشكل أو بآخر عليها وعلى أداء الفرد ككل؛ لذا فالواجب على كل إنسان أن يضع له خطة تضمن له أن يتفادى تلك الهزات بأقل ضرر نفسي/ مادي ممكن.
في مقال لبراد لوميس -الخبير التقني بشركة صن جارد- نشر على موقع مجلة فوربس، يستعرض حالة حصلت له شخصيًّا، وهي بدءه في إجراءات الطلاق مرروًا بوفاة زوجته قبل إتمامها. هذه تعتبر حالة متكاملة ككارثة تصيب الإنسان في مسار حياته الطبيعي؛ لذا يستعرض الكاتب محملًا بخبرته في مجال تقنية المعلومات كيف يمكن للإنسان وضع خطة لذلك (1).
فيما يلي النقاط الأساسية لكي تساعدك في التحضير لخطة طوارئ رائعة -الخطة لا الطوارئ نفسها بالطبع- يمكن الاعتماد عليها بشرط إعدادها بشكل جيد.
1- التوثيق لكل خطوة بتفاصيلها
التوثيق الكتابي هو أول وأهم خطوة في العملية كلها؛ لعدم ترك شيء للظروف أو الصدف؛ حيث إن النجاة أو تقليل المخاطر يعتمد بصورة أساسية على سرعة وحسن التصرف، الذي قد لا يتأتى للإنسان في حالة الطوارئ، وقد يؤثر على طريقة التفكير العقلانية في بعض الأحيان؛ لذا من الأهمية بمكان توثيق الخطة والتعديل عليها من فترة لأخرى، تبعًا لما يعنّ للإنسان من أفكار جديدة تساعده أكثر على تجاوز المحنة.
كما أن تعميم هذه الخطة على الأقارب والأصدقاء مهم جدًّا؛ لأنه في حالة وقوع كارثة معينة قد لا تستطيع الاتصال بهم وبالتالي المخاطر ستتضاعف بالنسبة لهم؛ لعدم إبلاغهم بالتدرب والاستعداد للخطوات القادمة، ولابد بالطبع من الاحتفاظ بنسخة مطبوعة دائمًا.
2- تحديد مفهوم المخاطر المحتملة
من المهم جدًّا لمعرفة كيفية مواجهة خطر ما، تحديده أولًا لكي يتسنى لك التعامل مع كل حالة تبعًا لعواقبها.
فمثلًا التعامل مع خطر في حالة غزو دولتك، يختلف عن طريقة التعامل في حالة حريق المبنى الذي تعيش فيه؛ حيث إن لكل حالة طريقة تعامل مميزة تختلف عن الحالات الأخرى.
ويمكن تقسيم المخاطر إلى:
• مخاطر طبيعية: فيضان- زلزال- حرائق (طبيعية)- جفاف- انزلاقات أرضية...إلخ
• مخاطر من صنع الإنسان: حروب- تلوث مفاجئ (غاز- إشعاع- كيميائي- بيولوجي)... إلخ
3- معرفة متى يمكنك أن تعلن أنك في حالة كارثية
الأمر المهم لبدء أي إجراءات، هو معرفة متى يمكنك أن تبدأها من الأساس، قد يستمر الإنسان في حالة من الإنكار بالرغم من غرقه لأذنيه في المشاكل؛ مما يمنعه من البدء بشكل سليم في إجراءات خروجه منها وحلها؛ لذا من الضروري أن يكون للإنسان الشجاعة في البدء في حل مشكلته قبل تفاقمها للحد من الأضرار المترتبة.
4- معرفة وتحديد المصادر التي يمكن الاعتماد عليها
• الوثائق الرسمية: مثل وثائق الهوية والميلاد ورخصة القيادة وجوازات السفر، ويمكن حمايتها بوضع الأصول في حافظة مضادة للماء للمحافظة عليها من التلف، بالإضافة لطبع نسخ متعددة لنفس الوثائق ووضعها مع أفراد العائلة لضمان وجود نسخ منها، مع مراعاة أخذ نسخ إلكترونية منها ورفعها في أحد مواقع التخزين السحابية (كجوجل درايف أو ميكروسوفت ون درايف).
• الحالة الصحية لكل فرد في العائلة: إذا كان هناك فرد في العائلة يعاني من حالة صحية تحتاج لعناية معينة، يجب الاحتفاظ بنسخة عن حالته ويمكن حفظها بنفس الطريقة في النقطة الأولى.
• الوثائق المالية والأصول: بالنسبة للوثائق، فيُحتفظ بها في نفس الحافظة وأيضا حفظها إليكترونيًّا كما سبق شرحه، مثل الرصيد البنكي، ملكية العقارات والأراضي، السندات، أما بالنسبة للمعادن الثمينة والمجوهرات أو النقود السائلة فتحفظ في صندوق آمن يسهل حمله في أي وقت.
• جهات الاتصال: طباعة ورقة بأسماء وأرقام هواتف وعناوين المنزل للأقارب والأصدقاء المقربين، وبالطبع جهات الاتصال على الهاتف يتم حفظها آليا عن طريق ربطها بحساب جوجل مثلًا في حالة فقد الهاتف نفسه.
• البيانات الرقمية: جميع البيانات الرقمية على أجهزة الحاسوب المختلفة (المهمة منها بالطبع، أفلام الكارتون مثلًا ليست أولوية في حالة الكارثة) يتم حفظها عن طريق شراء مساحة تخزين إضافية على أحد مواقع التخزين السحابية المشار إليها سابقًا.
• الاحتفاظ في المنزل بصيدلية صغيرة لعلاج الحالات الطارئة؛ لحين الحصول على رعاية طبية احترافية (جروح قطعية- كسور- حروق- حساسية من مواد معينة) بالإضافة لكتاب للإسعافات الأولية.
• الاحتفاظ بمخزون من الطعام عالي السعرات الحرارية والبروتين لمدة شهر -أسبوع بحد أدنى- ويتم تجديد الكمية قبل انتهاء تاريخ صلاحيتها، مثل (ألواح البروتين- معلبات اللحوم والتونة- زبدة الفول السوداني- بسكويت- عصائر طويلة الأمد- طعام للرضع- مكسرات- فواكه مجففة) مع مراعاة وجود حساسية معينة لدى أحد أفراد الأسرة ضد أي أطعمة.
• الاحتفاظ بمستلزمات الأطفال والرضع في حالة وجودهم (مكملات غذائية- حفاضات- حليب مجفف-مستلزمات للعناية بالبشرة والحساسية). يمكن الاطلاع على المزيد في المرجع رقم 6.
• الاحتفاظ بمخزون من الماء الزلال يكفي لمدة شهر بحد أدنى للاستخدام، بحيث لا يتم استخدامه للطهو أو النظافة الشخصية، والحساب هو جالون من الماء لكل شخص يوميًّا.
• وسائل للعناية الشخصية بالجسم بدون استخدام الماء، (المستحضرات الكحولية مثلًا) يمكن استشارة الصيدلي في الأمر.
• قناع للغازات السامة إن توفر، أو على الأقل للأتربة والغبار.
• أدوات يمكن استخدامها لأغراض متعددة، ويفضل الحصول على سكين متعدد الاستعمالات -سكين الجيب السويسري كمثال- .
• مصدر للإنارة والطاقة يمكن شحنه (طاقة شمسية- مولد ديزل- بطاريات قابلة لإعادة الشحن– شواحن يدوية Hand Crank Chargers).
• وسيلة للاتصال لا تعتمد على مزود الخدمة في حال انقطاع الخدمة كليًّا (ووكي توكي مداه بعيد نسبيًّا).
• شراء جهاز تحديد للمواقع غير مرتبط بخدمة الهاتف بالإضافة إلى خريطة ورقية مطبوعة، وتحديد مكان للتلاقي في حالة الانفصال وقت الخطر.
• إبقاء مبلغ من المال يكفي لشراء الأساسيات لمدة محدودة، في حالة وجود عطل تقني في أجهزة الصرافة أو مانع يمنع البنوك من تقديم خدماتها.
• وجود خزانة مضادة للنيران في المنزل، لحفظ الوثائق والنقود وغيرها، بالإضافة لحفظها في حافظة مضادة للماء كما سبق في حالة غمر الخزانة بالمياه.
• الاحتفاظ بنسخة إلكترونية من جميع الوثائق السابق ذكرها على وسيط تخزين، ويفضل أن يكون مضادًّا للماء، وحفظها في الخزانة بالمنزل، مع الأخذ في الاعتبار وجوب القيام بتشفير البيانات المخزنة حتى لا يتم الاستفادة منها في حال فقدانها.
• استخدام مضاد فيروسات للأجهزة، وزيادة الوعي بالأمن المعلوماتي؛ لتلافي حدوث هجوم على أجهزتك الشخصية، مما يؤدي إلى فقد أو تسريب معلومات خاصة أو مالية، وهو ما يعتبر “كارثة أو Disaster” أيضًا.
• الحصول على مطفأة حريق في المطبخ على الأقل، بالإضافة لقماش مضاد للنيران للمساعدة في الإطفاء.
• تركيب مستشعرات دخان للتنبيه قبل تفاقم الحريق.
• أعواد ثقاب مضادة للبلل.
• أغطية مقاومة للظروف الجوية القاسية، وأكياس نوم، وملابس إضافية (ملابس خارجية- ملابس داخلية- جوارب مع مراعاة الطقس في دولتك) توضع في أكياس مضادة للماء لحمايتها من البلل.
• كوابل لشحن بطارية السيارة في حالة الاحتياج بالإضافة إلى جاروف لإزالة الرمل أو الثلج.
5- نقاط يجب تضمينها في خطة الطوارئ
الخطوات اللاحقة هي التي تُبنى عليها خطة الطوارئ نفسها، وهي تتضمن تغيير بعض السلوكيات والعادات لزيادة الجهوزية وحسن التصرف في حالات الخطر. أمثلة على ذلك:
• تحديد الأماكن التي يمكن اللجوء إليها بسرعة في حالات الخطر، وطريقة الوصول إليها، والتأكد من أن كل فرد مشمول في خطة الطوارئ يعرف أين عليه التواجد وكيفية الوصول إليها.
• معرفة مخارج الطوارئ في مكان العمل/ المنزل/ المدرسة للأطفال.
• معرفة مداخل ومخارج المدينة والطرق الأساسية، للوصول إلى الأماكن التي يتواجد بها الأفراد المشمولون بخطة الطوارئ؛ ليسهل الوصول إليها وعدم الاعتماد كليًّا على وسائل تقنية كخرائط جوجل مثلًا.
• في حالة الطوارئ وسيلة الاتصال المفضلة طبقًا لما تذكره هيئة إدارة الطوارئ الفيدرالية الأمريكية، هي الرسائل النصية، لأنها تحتاج لقدر أقل من البيانات، وفي حالة عدم توافر الخدمة مؤقتًا فإن الرسالة يعاد إرسالها تلقائيًّا حين توافر التغطية، ويجب الاتفاق على إرسال رسالة بأقصر عدد ممكن من الحروف تحوي معلومات كافية؛ مثل: (أنا بخير في المدرسة)؛ حيث توضح الرسالة حالة الفرد ومكان تواجده ليسهل الالتقاء به.
• إبقاء مكالمات الهاتف مختصرة بقدر الإمكان، مع إعطاء معلومات كاملة وصحيحة؛ للتقليل من استهلاك البطارية والضغط على شبكة مزود الخدمة، ومراعاة عدم تحميل أي فيديوهات أو ملفات كبيرة الحجم، مما يساهم في جعل شبكة مزود الخدمة أكثر كفاءة لاستخدام الآخرين للاتصال بخدمات الطوارئ.
• المحافظة على عمر شحن بطارية الهاتف، بتقليل الإضاءة، وإبقاء الهاتف على وضع الطيران، وغلق جميع البرامج غير الضرورية.
• التدرب على الإسعاف الأولي، ويمكن الحصول عليه في أي معهد طبي قريب.
• إغلاق مصادر إمداد المنزل/ المبنى لكل من الماء والغاز الطبيعي والكهرباء؛ لمنع تفاقم مستوى الخطر، ويتطلب ذلك معرفة جيدة بالصمامات الرئيسية وليست الفرعية المغذية للمبنى ككل.
• متابعة التحذيرات المختلفة من السلطات ووسائل الإعلام المحلية والأرصاد الجوية، والتسجيل في القائمة البريدية لها للحصول على التحديثات أولًا بأول.
• الحفاظ على المخزون سواء من الأطعمة أو الأدوية أو المستلزمات الأخرى، والتأكد من سلامتها وحفظها بطريقة جيدة.
• يمكن تسخين الطعام المعلب، بشرط إزالة الملصق وغسل العلبة وفتحها قبل التسخين، حتى لا يؤدى الغاز بداخلها إلى انفجارها.
• عدم استبدال الماء الزلال بالمشروبات الغازية، أو المحتوية على كافيين، حيث إنها تزيد من قابلية نقص الماء في الجسم مما يؤدي إلى الشعور بالعطش.
• في حالة نفاد كمية المياه النقية والاضطرار إلى استخدام ماء غير معلوم مدى صلاحيته للاستخدام، يمكن اتباع الطرق التالية ويفضل القيام بها جميعًا للتأكد من قتل معظم الجراثيم، بالإضافة للملوثات الأخرى كالمعادن والأملاح والكيماويات:
- غلي الماء مع تركه يبرد قبل شربه، ويمكن إضافة عبوة أكسجين لتحسين الطعم.
- استخدام الكلورين CI2، ويمكن عمل ذلك باستخدام المبيّض المنزلي العادي (كلوركس)، الذي يحتوي على نسبة 5.25 إلى 6% من هيبوكلورايت الصوديوم -وعدم استخدام مبيضات تحتوي على مواد معطرة أو مثبتات للون او أي منظفات إضافية- حيث تقوم باضافة 16 قطرة أو ثمن ملعقة شاي لكل جالون ماء، ثم تقلب ويترك لمدة 30 دقيقة. يجب أن تلاحظ رائحة كلور خفيفة، إذا لم توجد تعاد نفس العملية مع ترك الماء 15 دقيقة، إذا لم تشم رائحة الكلور يتم صرف الماء وعدم استخدامه.
- تقطير الماء، وهي أنجع الطرق وأكثرها كفاءة، ويمكن عمل ذلك إما بجهاز يشترى، أو في حالة عدم توافره يمكن عمله بأدوات منزلية بسيطة ويوجد فيديوهات تشرح ذلك.
6- معرفة الحد الأدنى للتعافي
أي ما هو الحد المقبول بالنسبة لك لكي تعلن تجاوز حالة الطوارئ وزوال الخطر، والرجوع بشكل ما إلى الحالة الطبيعية.
7- التخطيط للعودة للحالة الطبيعية بأسرع ما يمكن
أهمية الأمر تكمن في إزالة الضغط النفسي والبدني معًا في ظل استمرار إعلان حالة الطوارئ كما هي الحال بالنسبة للدول، حيث إنه في ظل تخفيف أو إنهاء حالة الطوارئ الإنسان يستطيع التفكير بشكل خال من التوتر وتصبح قراراته أقل تسرعًا.
8- التدرب بشكل دوري على الخطة وتحديثها
التدرب بشكل دوري ومراجعة الخطوات يؤدي إلى تعديل الخطة بشكل مستمر، يتيح قدرًا أكبر من السهولة في التنفيذ بعد اكتساب الخبرة، كما أنه يقلل من الوقت الضائع، خصوصًا في الدقائق الثمينة الأولى في حالة حدوث الطارئ.
كما أنه لا بد من تنفيذ الخطة الموضوع بشكل كامل، عن طريق محاكاة الخطر؛ لضمان معرفة كل فرد مشمول بالخطة بدوره بشكل جيد، مما يرفع من الجاهزية والاستعداد.

1. Forbes, Brad Loomis, MAY 21, 2014.
2.
http://www.disaster-survival-resources.com/
3.
https://www.ready.gov/food
4.
http://www.fema.gov/
5.
http://www.operationhope.org/
6-
http://www.cdph.ca.gov/healthinfo/healthyliving/childfamily/Pages/EmergencyPreparednessInfantandYoungChildCareandFeeding.aspx
7.
http://www.google.org/crisisresponse/about/index.html
8.
http://www.youtube.com/fema
‏٠٧‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٣٩ م‏
مقال (دور المفكرين في إسقاط الأنظمة - آرنولد توينبي نموذجًا) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق [لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1] @[100002370332573:2048:Ahmed El Sharkawy]كتب د. أحمد الشرقاوي كانت المذابح الأرمنية المزعومة واحدة من القضايا الكبرى التي اتخذها الغرب ذريعة للمسارعة بمعدلات أكبر للتخلص من الدولة العثمانية، لأنها النسيج الأكثر حبكًا في خيوط المؤامرة، ومن جهة أخرى لأنه نسيج الدولة التي ضمت الأقليات الدينية والعرقية تحت ظلال الشريعة الإسلامية السمحة؛ فساهموا في بناء الدولة، ثم ما لبثوا أن نقضوا غزلهم من بعد قوة أنكاثًا، ليصبحوا أحد معاول الهدم فيها، واجتمعت عوامل داخلية وخارجية لتجعل من الأقليات -وعلى رأسها الأقلية الأرمنية- الورقة الرابحة في تفتيت الدولة العثمانية وتشويه سمعتها لدى الرأي العام العالمي، منذ بدايتها وحتى يومنا الحاضر. وأحاول في هذا المقال -وما بعده- إلقاء الضوء على خيوط تلك المؤامرة ضد الدولة العثمانية، والتي كانت واحدة من أسباب انهيارها. لم تحظ الكتب التي نشرت عن المسألة الأرمنية بما حظيت به أربعة منها؛ باعتبارها مصادر أساسية لشهود عيان معاصرين للأحداث، ويكاد يكون مؤلفو هذه المصادر الأربعة هم أصحاب أناجيل القضية الأرمنية، وما زالوا حتى اليوم يشكلون المصدر المعتمد لكل الكتاب حول المسألة، وصارت تعبيراتهم مسلمات تاريخية، وكلماتهم اقتباسات ثرية للخطب والشعارات التي تلهب حماس القضية وأصحابها. وقد أخضعتُ بعض هذه المؤلفات وأصحابها للبحث والتحري؛ لمعرفة دوافعهم وأيديولوجياتهم، والظروف المحيطة بهم وبمؤلفاتهم، لكن البعض الآخر ما زال يحتاج إلى البحث والتحري، بل وما زالت كلها تحتاج إلى جهود أكبر في مواصلة البحث عن العلاقات بين هذه المؤلفات، والعلاقات أيضًا بين مؤلفيها، ثم نشر هذه النتائج على نطاق واسع، يقارب -إلى حد ما- النطاق الذي انتشرت فيه هذه المؤلفات والمؤلفات الأخرى التي اعتمدت عليها بشكل رئيسي(1). وهذه الكتب ومؤلفوها كالتالي: 1) كتاب حرره ليبسوس بعنوان: "التقرير السري للدكتور جوهانس ليبسيوس عن مذابح الأرمن"، والذي طبع في باريس عام 1918(2). 2) كتاب "معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية"، وهو مجموعة شهادات جمعها السياسي البريطاني اللورد برايس عما يسمى بـ"الجينوسيد"، شرحها ونسقها وعلق عليها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، ثم قدمها اللورد برايس إلى اللورد جراي وزير الخارجية البريطاني، فقام جراي بتقديمها إلى البرلمان البريطاني. وهي مطبوعة في لندن عام 1916 باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وقد اشتهر أيضًا بعنوان "الكتاب الأزرق"(3). 3) ثم كتاب آرنولد توينبي نفسه المعنون "الفظائع ضد الأرمن؛ مقتل أمة"، والمنشور بالإنجليزية في لندن عام 1915(4). 4) وأخيرًا مذكرات السفير الأمريكي في استانبول في بدايات الحرب العالمية الأولى هنري مورجنثاو، وكتابه: "قصة السفير مورجنثاو" الذي بدأ نشره في نيويورك سنة 1918(5). واللافت للانتباه في هؤلاء الأربعة ومؤلفاتهم، بل والمثير هو العلاقة بين هؤلاء الأربعة، واشتراكهم في المصادر التي استقوا منها، واشتراكهم كذلك في الدوافع والظروف التي هُيّأت لتصنيف هذه المؤلفات. في 22 يونيو 1912 كتب توينبي في رسالة إلى والدته أنه يرغب في رؤية الأتراك يطردون من أوربا، ليس فقط لأنهم "طغاة مستبدون"، ولكن لأنهم أيضًا "كسالى وأغبياء"(6). وفي رسالة أخرى لوالدته -بعد بداية الحرب- يقول توينبي لوالدته: "لن نهدأ حتى تكون النهاية، لن نترك قطعة من تركيا إلا شظايا"(7). قال جوردون مارتل Gordon Martel عن أرنولد توينبي بأنه باحث عن الشهرة، كما كان يشترك مع لورد برايس في بغضه الشديد للأتراك. في مايو 1915 ذهب توينبي (الشاب) إلى لندن للعمل –في فترة الحرب– في القسم الذي أنشئ حديثًا وهو قسم "الدعاية" التابع لـ Wellington House، وكرس نفسه هناك مدة عامين في نشر الكتب والمقالات ضد دول المحور، وكل أعداء الحلفاء، وأصدر مجموعة من الكتب منها: - الإرهاب الألماني في بلجيكا The German Terror in Belgium - الإرهاب الألماني في فرنسا The German Terror in France - فظائع ضد الأرمن The Armenia Atrocities - موت الممرضة كافيل The Death of Nurse Cavell ووفقًا لوصف كلا من ساندر وتايلور: صار أرنولد توينبي خبيرًا في "دعاية المذابح"(8) منذ عام 1916 بدأ الشاب توينبي -وبتعليمات من لورد برايس- في جمع المعلومات المضادة لتركيا من العديد من الدول والشخصيات، وكذلك اللجان والجمعيات الأرمنية"(9). كتب توينبي إلى اللورد برايس في 11 مايو 1916 يقول: "ناقش مستر جويرز Gowers من مكتبنا (ويلنجتون هاوس) مع مستر مونتجومري Montgomery من وزارة الخارجية كيفية نشر الوثائق الأرمنية، وهم يقترحون أن تقوم أنت بإرسال هذه الوثائق إلى سير إدوارد جراي Edward Gray، وتكتب معها ملحوظة أنك قد أشرفت على إعدادها، في هذه الحالة سوف يثقون في هذه الوثائق، ويتم نشرها من قبل وزارة الخارجية كوثائق رسمية، كما لابد أن يحتوي المستند المرسل على ملحق بخطك وتوقيعك، وبهذه الطريقة سوف يتم حل مسألة النشر، لإعطاء الكتاب صبغة رسمية، وبهذه الطريقة أيضًا سوف يتم إعفاء وزير الخارجية من مسئولية وعناء دقة الأمور المذكورة في المستندات"(10). انتقل أرنولد توينبي إلى المخابرات عام 1917، لم يكن الرجل راضيًا عن أعماله تلك، وعن كونه "رجل دعاية"، ورأى نفسه شخصية كريهة وممقوتة، لأن العمل الذي قام به لم يكن عمل إنسان "محترم". هذا ما صرح به أرنولد توينبي نفسه بعد انتقاله للمخابرات، إذ أدرك أن الحكومة البريطانية نشرت "الكتاب الأزرق" لغرض معين لم يدركه في حينها، بل ويعتقد أيضًا أن اللورد برايس نفسه لم يدركه"(11). وكانت الجيوش الروسية قد ارتكبت مذابح وحشية ضد اليهود -وفق ما قاله توينبي- عند تراجعها من الحدود البولندية/ الليتوانية في ربيع عام 1915، فقام اليهود الأمريكان بعمل حملات صحفية ضخمة ضد دول الحلفاء، ودعت كلًّا من بريطانيا وفرنسا المسيحيتين "بالتصدي لوحشية حلفائهم البرابرة". وكانت بريطانيا قلقة حيال هجوم الأمريكان على الحلفاء؛ لرغبتها في إشراك أمريكا إلى جانب الحلفاء، وكسب تعاطف الرأي العام العالمي. لذا؛ فقد رأت أن تحول دفة الأحداث صوب تركيا، وترمي بمسئولية الجدال الحادث في أمريكا على كاهل الأتراك، وقد وفرت الحوادث الأرمنية دعاية مضادة لدول المحور"(12). وهو ما أكده بعض الساسة البريطانيين، إذ صرح كل من هنري هيربرت إسكويز Henry Herbert Asquith وستانلي بالدوين Stanley Baldwin في مذكرتهم المشتركة المقدمة إلى رئيس الوزراء رامزي ماكدونالد Ramsay Mac Donald بعد نهاية الحرب، بأنه لاشك في أن "الكتاب الأزرق" قد استخدم بطريقة واسعة الانتشار لصالح الدعاية لدول الحلفاء، وكان له تأثير كبير على الرأي العام، خاصة في أمريكا، وله دور كبير في قرار دخول الرئيس وودور ويلسون Woodrow Wilson الحرب"(13). وأخيرًا جاء اعتراف توينبي: - ففي كتابه "المسألة الغربية في اليونان وتركيا(14)" الذي صدر في لندن سنة 1932، ذكر توينبي أن ما كتب عن التنديد بأحداث سنة 1915 في الدولة العثمانية ضد الأرمن، هو دعاية حرب تشوبها المبالغة . - ثم ذكر توينبي مرة أخرى في مذكراته الصادرة بالإنجليزية في لندن سنة 1967 بعنوان "معارفي": أن ما سبق أن كتبته ووصف فيه أحوال الأرمن، كان دعاية حرب لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون "الطابور الخامس" لقوات الحلفاء، فقررت ترحيلهم بعيدًا عن مناطق القتال، وأن هذا الإجراء هو إجراء أمني مشروع تتخذه غيرها من الدول في مثل هذه الظروف(15). (1)أحمد عبد الوهاب الشرقاوي : أبعاد المشكلة الأرمنية ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، معهد الدراسات الآسيوية ، جامعة الزقازيق ، 2010م ، ص 612 . (2) Johannes Lepsius: Le rapport Secret du Dr. Johannes Lepsius Sur les Massacres d'Arménie, Paris, 1918. (3) James Bryce: Treatment of the Armenia in the Ottoman Empire, London, 1916. (4) Arnold Toynbee: Armenian Atrocities: Murder of Nation, London, 1915. (5) Henry Morgenthau: Ambassador Morgenthau's Story, New York, 1918. (6) Gordon Martel : The origin of the Chatham House Version, in Edward Ingram (ed): National and international Politics in the Middle East, London, 1986, P.: 71. (7) Ibid, P.: 72. (8) Michael Sanders, Philip M. Taylor: British Propaganda During the first World War, 1919 – 1918, London, 1983, P.: 145. (9) F. O. 96/205. Toynbee papers. (10) F. O. 371/3404/162647, P.: 2 - F. O. 96/205. Toynbee papers – Gurum, Op. Cit., P.: 42 – 43 – S. Sonyel, Op. Cit., P.: 147. (11) Toynbee: Acquaintances, London, 1967, P.: 149 - 152. (12) Ibid, P.: 149 – 152. (13) Toynbee Papers, Box an Armenian Memorial, 26/9/1924- Masa Andersson Noel Buxton, A life, London, 1952, P.: 81 – S. Sanyel, Op. Cit., P.: 147 – 148. (14) Arnold Toynbee: The Eastern Question in Greece and Turkey, London, 1932. (15) Arnold Toynbee: Acquaintances…, Op. Cit., P.: 81. ـــــــــــــــــــــــــــــ الموقع الإلكتروني: https://klmtuhaq.blog حسابنا على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
مقال (دور المفكرين في إسقاط الأنظمة - آرنولد توينبي نموذجًا) من العدد الأول من #مجلة_كلمة_حق
[لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1]

Ahmed El Sharkawyكتب د. أحمد الشرقاوي

كانت المذابح الأرمنية المزعومة واحدة من القضايا الكبرى التي اتخذها الغرب ذريعة للمسارعة بمعدلات أكبر للتخلص من الدولة العثمانية، لأنها النسيج الأكثر حبكًا في خيوط المؤامرة، ومن جهة أخرى لأنه نسيج الدولة التي ضمت الأقليات الدينية والعرقية تحت ظلال الشريعة الإسلامية السمحة؛ فساهموا في بناء الدولة، ثم ما لبثوا أن نقضوا غزلهم من بعد قوة أنكاثًا، ليصبحوا أحد معاول الهدم فيها، واجتمعت عوامل داخلية وخارجية لتجعل من الأقليات -وعلى رأسها الأقلية الأرمنية- الورقة الرابحة في تفتيت الدولة العثمانية وتشويه سمعتها لدى الرأي العام العالمي، منذ بدايتها وحتى يومنا الحاضر.
وأحاول في هذا المقال -وما بعده- إلقاء الضوء على خيوط تلك المؤامرة ضد الدولة العثمانية، والتي كانت واحدة من أسباب انهيارها.
لم تحظ الكتب التي نشرت عن المسألة الأرمنية بما حظيت به أربعة منها؛ باعتبارها مصادر أساسية لشهود عيان معاصرين للأحداث، ويكاد يكون مؤلفو هذه المصادر الأربعة هم أصحاب أناجيل القضية الأرمنية، وما زالوا حتى اليوم يشكلون المصدر المعتمد لكل الكتاب حول المسألة، وصارت تعبيراتهم مسلمات تاريخية، وكلماتهم اقتباسات ثرية للخطب والشعارات التي تلهب حماس القضية وأصحابها. وقد أخضعتُ بعض هذه المؤلفات وأصحابها للبحث والتحري؛ لمعرفة دوافعهم وأيديولوجياتهم، والظروف المحيطة بهم وبمؤلفاتهم، لكن البعض الآخر ما زال يحتاج إلى البحث والتحري، بل وما زالت كلها تحتاج إلى جهود أكبر في مواصلة البحث عن العلاقات بين هذه المؤلفات، والعلاقات أيضًا بين مؤلفيها، ثم نشر هذه النتائج على نطاق واسع، يقارب -إلى حد ما- النطاق الذي انتشرت فيه هذه المؤلفات والمؤلفات الأخرى التي اعتمدت عليها بشكل رئيسي(1).
وهذه الكتب ومؤلفوها كالتالي:
1) كتاب حرره ليبسوس بعنوان: "التقرير السري للدكتور جوهانس ليبسيوس عن مذابح الأرمن"، والذي طبع في باريس عام 1918(2).
2) كتاب "معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية"، وهو مجموعة شهادات جمعها السياسي البريطاني اللورد برايس عما يسمى بـ"الجينوسيد"، شرحها ونسقها وعلق عليها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، ثم قدمها اللورد برايس إلى اللورد جراي وزير الخارجية البريطاني، فقام جراي بتقديمها إلى البرلمان البريطاني. وهي مطبوعة في لندن عام 1916 باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وقد اشتهر أيضًا بعنوان "الكتاب الأزرق"(3).
3) ثم كتاب آرنولد توينبي نفسه المعنون "الفظائع ضد الأرمن؛ مقتل أمة"، والمنشور بالإنجليزية في لندن عام 1915(4).
4) وأخيرًا مذكرات السفير الأمريكي في استانبول في بدايات الحرب العالمية الأولى هنري مورجنثاو، وكتابه: "قصة السفير مورجنثاو" الذي بدأ نشره في نيويورك سنة 1918(5).
واللافت للانتباه في هؤلاء الأربعة ومؤلفاتهم، بل والمثير هو العلاقة بين هؤلاء الأربعة، واشتراكهم في المصادر التي استقوا منها، واشتراكهم كذلك في الدوافع والظروف التي هُيّأت لتصنيف هذه المؤلفات.
في 22 يونيو 1912 كتب توينبي في رسالة إلى والدته أنه يرغب في رؤية الأتراك يطردون من أوربا، ليس فقط لأنهم "طغاة مستبدون"، ولكن لأنهم أيضًا "كسالى وأغبياء"(6).
وفي رسالة أخرى لوالدته -بعد بداية الحرب- يقول توينبي لوالدته: "لن نهدأ حتى تكون النهاية، لن نترك قطعة من تركيا إلا شظايا"(7).
قال جوردون مارتل Gordon Martel عن أرنولد توينبي بأنه باحث عن الشهرة، كما كان يشترك مع لورد برايس في بغضه الشديد للأتراك.
في مايو 1915 ذهب توينبي (الشاب) إلى لندن للعمل –في فترة الحرب– في القسم الذي أنشئ حديثًا وهو قسم "الدعاية" التابع لـ Wellington House، وكرس نفسه هناك مدة عامين في نشر الكتب والمقالات ضد دول المحور، وكل أعداء الحلفاء، وأصدر مجموعة من الكتب منها:
- الإرهاب الألماني في بلجيكا The German Terror in Belgium
- الإرهاب الألماني في فرنسا The German Terror in France
- فظائع ضد الأرمن The Armenia Atrocities
- موت الممرضة كافيل The Death of Nurse Cavell
ووفقًا لوصف كلا من ساندر وتايلور: صار أرنولد توينبي خبيرًا في "دعاية المذابح"(8)
منذ عام 1916 بدأ الشاب توينبي -وبتعليمات من لورد برايس- في جمع المعلومات المضادة لتركيا من العديد من الدول والشخصيات، وكذلك اللجان والجمعيات الأرمنية"(9).
كتب توينبي إلى اللورد برايس في 11 مايو 1916 يقول: "ناقش مستر جويرز Gowers من مكتبنا (ويلنجتون هاوس) مع مستر مونتجومري Montgomery من وزارة الخارجية كيفية نشر الوثائق الأرمنية، وهم يقترحون أن تقوم أنت بإرسال هذه الوثائق إلى سير إدوارد جراي Edward Gray، وتكتب معها ملحوظة أنك قد أشرفت على إعدادها، في هذه الحالة سوف يثقون في هذه الوثائق، ويتم نشرها من قبل وزارة الخارجية كوثائق رسمية، كما لابد أن يحتوي المستند المرسل على ملحق بخطك وتوقيعك، وبهذه الطريقة سوف يتم حل مسألة النشر، لإعطاء الكتاب صبغة رسمية، وبهذه الطريقة أيضًا سوف يتم إعفاء وزير الخارجية من مسئولية وعناء دقة الأمور المذكورة في المستندات"(10).
انتقل أرنولد توينبي إلى المخابرات عام 1917، لم يكن الرجل راضيًا عن أعماله تلك، وعن كونه "رجل دعاية"، ورأى نفسه شخصية كريهة وممقوتة، لأن العمل الذي قام به لم يكن عمل إنسان "محترم". هذا ما صرح به أرنولد توينبي نفسه بعد انتقاله للمخابرات، إذ أدرك أن الحكومة البريطانية نشرت "الكتاب الأزرق" لغرض معين لم يدركه في حينها، بل ويعتقد أيضًا أن اللورد برايس نفسه لم يدركه"(11).
وكانت الجيوش الروسية قد ارتكبت مذابح وحشية ضد اليهود -وفق ما قاله توينبي- عند تراجعها من الحدود البولندية/ الليتوانية في ربيع عام 1915، فقام اليهود الأمريكان بعمل حملات صحفية ضخمة ضد دول الحلفاء، ودعت كلًّا من بريطانيا وفرنسا المسيحيتين "بالتصدي لوحشية حلفائهم البرابرة". وكانت بريطانيا قلقة حيال هجوم الأمريكان على الحلفاء؛ لرغبتها في إشراك أمريكا إلى جانب الحلفاء، وكسب تعاطف الرأي العام العالمي.
لذا؛ فقد رأت أن تحول دفة الأحداث صوب تركيا، وترمي بمسئولية الجدال الحادث في أمريكا على كاهل الأتراك، وقد وفرت الحوادث الأرمنية دعاية مضادة لدول المحور"(12).
وهو ما أكده بعض الساسة البريطانيين، إذ صرح كل من هنري هيربرت إسكويز Henry Herbert Asquith وستانلي بالدوين Stanley Baldwin في مذكرتهم المشتركة المقدمة إلى رئيس الوزراء رامزي ماكدونالد Ramsay Mac Donald بعد نهاية الحرب، بأنه لاشك في أن "الكتاب الأزرق" قد استخدم بطريقة واسعة الانتشار لصالح الدعاية لدول الحلفاء، وكان له تأثير كبير على الرأي العام، خاصة في أمريكا، وله دور كبير في قرار دخول الرئيس وودور ويلسون Woodrow Wilson الحرب"(13).
وأخيرًا جاء اعتراف توينبي:
- ففي كتابه "المسألة الغربية في اليونان وتركيا(14)" الذي صدر في لندن سنة 1932، ذكر توينبي أن ما كتب عن التنديد بأحداث سنة 1915 في الدولة العثمانية ضد الأرمن، هو دعاية حرب تشوبها المبالغة .
- ثم ذكر توينبي مرة أخرى في مذكراته الصادرة بالإنجليزية في لندن سنة 1967 بعنوان "معارفي": أن ما سبق أن كتبته ووصف فيه أحوال الأرمن، كان دعاية حرب لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون "الطابور الخامس" لقوات الحلفاء، فقررت ترحيلهم بعيدًا عن مناطق القتال، وأن هذا الإجراء هو إجراء أمني مشروع تتخذه غيرها من الدول في مثل هذه الظروف(15).

(1)أحمد عبد الوهاب الشرقاوي : أبعاد المشكلة الأرمنية ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، معهد الدراسات الآسيوية ، جامعة الزقازيق ، 2010م ، ص 612 .
(2) Johannes Lepsius: Le rapport Secret du Dr. Johannes Lepsius Sur les Massacres d'Arménie, Paris, 1918.
(3) James Bryce: Treatment of the Armenia in the Ottoman Empire, London, 1916.
(4) Arnold Toynbee: Armenian Atrocities: Murder of Nation, London, 1915.
(5) Henry Morgenthau: Ambassador Morgenthau's Story, New York, 1918.
(6) Gordon Martel : The origin of the Chatham House Version, in Edward Ingram (ed): National and international Politics in the Middle East, London, 1986, P.: 71.
(7) Ibid, P.: 72.
(8) Michael Sanders, Philip M. Taylor: British Propaganda During the first World War, 1919 – 1918, London, 1983, P.: 145.
(9) F. O. 96/205. Toynbee papers.
(10) F. O. 371/3404/162647, P.: 2 - F. O. 96/205. Toynbee papers – Gurum, Op. Cit., P.: 42 – 43 – S. Sonyel, Op. Cit., P.: 147.
(11) Toynbee: Acquaintances, London, 1967, P.: 149 - 152.
(12) Ibid, P.: 149 – 152.
(13) Toynbee Papers, Box an Armenian Memorial, 26/9/1924- Masa Andersson Noel Buxton, A life, London, 1952, P.: 81 – S. Sanyel, Op. Cit., P.: 147 – 148.
(14) Arnold Toynbee: The Eastern Question in Greece and Turkey, London, 1932.
(15) Arnold Toynbee: Acquaintances…, Op. Cit., P.: 81.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموقع الإلكتروني:
https://klmtuhaq.blog/
حسابنا على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠٦‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٤:٢٧ م‏
مقال هكذا تتم مراقبتك! من مقالات العدد الأول لـ #مجلة_كلمة_حق. لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1 كتب سامح السيد: كانت قد تسربت أنباء أن الحكومة المصرية قد بدأت في تطبيق تقنيات متقدمة في مراقبة الإنترنت، تتيح لها التتبع وتحديد الأماكن وفحص البيانات… إلخ، بصورة واسعة النطاق. هذه التقنية ستتيح للحكومة المصرية مراقبة رسائل البريد الإلكتروني، والشبكات الاجتماعية (مثل فيسبوك و تويتر) وبرامج التراسل (مثل واتساب، وفايبر، وسكايب) لحظيًّا أثناء انتقال البيانات عبر الإنترنت. الرقابة على الإنترنت قد تكون مفيدة في منع جرائم الاحتيال والقرصنة الإلكترونية؛ لكن الهدف من هذه الرقابة في مصر بالأساس هو لمراقبة أنشطة "الإسلاميين". شركة "سي إيجيبت" See Egypt التي قدمت عرضًا بالتقنية للحكومة المصرية - ولم تفصح هل تم الموافقة على العرض أم لا - هي موزع للشركة الأمريكية بلو كوت Blue Coat، والتي بدورها أكدت أن شركة سي إيجيبت لم تقم ببيع أي من منتجات شركة (بلو كوت) للحكومة المصرية تتيح لها مراقبة الشبكات الاجتماعية. سواء صحت التسريبات أم لا، فينبغي على العاقل أن يحمل أمر الأمان الرقمي على محمل الجد؛ فلن يكون هناك أي تفرقة بين الإسلاميين وغيرهم من المعارضين، خاصة وأن الحكومة المصرية تراقب الاتصالات بالفعل منذ زمن عن طريق خبراء متخصصين، ولكنها كانت مقصورة على تتبع أشخاص بأعينهم أو مجموعات بعينها. الجديد في الأمر أن التقنيات المطروحة تتيح لهم تتبع أي شخص أو مجموعة بسهولة أكثر. المشكلة أنك قد تصبح تحت المراقبة بمجرد أن تقوم بالإعجاب على منشور على الفيسبوك، أو إعادة نشر تغريدة على تويتر، حتى و لو لم تقم بأي نشاط مناهض للحكومة! نصائح الأمن الرقمي ترددت كثيرًا أثناء كتابة هذه المقالة، وإلى أي درجة من التفاصيل سأكتب، ثم استقر رأيي على كتابة النصائح الأساسية للمستخدم العادي غير المتخصص، والتي تمثل الحد الأدنى من الأمان الرقمي. وذيلت المقالة بمقالات وأدلة تفصيلية متوسعة تفيد الأشخاص الذين يمثل لهم الأمان الرقمي أهمية أكبر. أولًا: نصائح عامة 1.أعط أهمية لمسألة خصوصيتك وأمنك بصفة عامة، وأمنك الرقمي بصفة خاصة، ولا تقل: ليس لدي ما أخفيه لأنك بذلك تهدر حقك في أن يكون لك خصوصية. 2.كقاعدة عامة، لا يوجد أمان كامل على الإنترنت، وليس هناك حل سحري لمشاكل الأمن الرقمي، إنما نأخذ بالأسباب ونسدد ونقارب. و في النهاية "لا يغني حذر من قدر"، ولأن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُله، سنركز نصائحنا على ثلاثة محاور: عدم لفت الانتباه - تصعيب المراقبة - القدرة على التنصل. ثانيًا: عدم لفت الانتباه مهما سهلت التقنية على المراقبين، تظل مراقبة كل الناس عملية شاقة، وبالتالي يمكن للأجهزة الأمنية الاقتصار في عملية المراقبة على تتبع الأشخاص المشهورين ومن يتصل بهم، مراقبة مواقع مشهورة ومن يتردد عليها، مراقبة الاتصالات واصطياد كلمات معينة (سواء منطوقة أو مكتوبة). أو بعبارة أخرى: سيوفرون مجهوداتهم لمن يمثل خطورة عليهم أكثر، فإن فرغوا منهم التفتوا إلى من دونهم! وبالتالي فلنضع لأنفسنا هدفًا أن نتوه وسط هذا البحر من الناس، ولا نلفت الانتباه إلينا، والنصائح التالية تساعدنا في هذا الأمر إن شاء الله: ●اجعل من عاداتك عدم إشاعة المعلومات عنك أو عن غيرك إلا للضرورة، وليكن شعارك "المعرفة على قدر الحاجة". ●حاول تقليل الاعتماد على وسائل الاتصال في تعاملاتك قدر الإمكان، وليكن الاتصال المباشر - وجها لوجه - هو الوسيلة المفضلة لديك. ●لا تتردد على مواقع قد تراقبها الحكومة من غير تأمين الاتصال بالإنترنت (سيأتي مزيد تفصيل في الفقرة ثالثًا). ●الاتصالات عن طريق الجوال GSM أسهل في المراقبة من محادثات الإنترنت المشفرة. ●لا تثق بأحد! و احذر أن تُستدرج لأي عمل أو تفضي بأي معلومة إلا لشخص تعرفه جيدًا، وتعلم أن إطلاعه على هذه المعلومة مناسب، وهذا الاستدراج يعرف بالهندسة الاجتماعية. و من أمثلة ذلك أن يراسلك شخص للتوظف براتب أكبر بكثير جدًّا من وضع السوق. أو لمحاولة توريطك في عمل عدائي كما فعلت عناصر من شرطة كندا لتوريط مسلمين في أعمال إرهابية. وأساليب الاستدراج هذه مشهورة جدًّا في القبض على الشباب من قبل الأجهزة الأمنية. ●إذا كنت تجري مكالمة هامة، فلتكن وسط ضوضاء، ولا تصرح بأي معلومات مباشرة فيها. فهذا يصعب اصطياد الكلمات المفتاحية. ●اعمل على نشر برامج الاتصالات الآمنة، وثقافة الأمن الرقمي بين معارفك، فكلما زاد مستخدمو هذه البرامج زادت فرصة أن "تتوه" بينهم! ●لا تقبل صداقة من لا تعرفه على شبكات التواصل الاجتماعي، ولا تجعل كل منشوراتك عامة public؛ بل اقصرها على الأصدقاء فقط. ثالثًا: تصعيب المراقبة كما قلنا: المراقبة مهما كانت صعبة، ستظل ممكنة، ولكن الأمر يكمن في تصعيب الأمر على الأجهزة الأمنية، فيتحولون إلى لصيد أسهل! النصائح التالية تساعد في هذا الأمر: ●لا تستخدم عنوان بريدك email الشخصي أو عنوان بريد العمل؛ بل قم بعمل حساب مخصص للاستخدام في المهام أو المواقع التي ترغب في حفظ خصوصيتها، ولا تربط هذا الحساب باسمك الحقيقي أو برقم جوالك أو أي معلومة تدل على هويتك الحقيقية. ولا تستخدم هذا الحساب في أي موقع قد يؤدي للتعرف عليك، مثل حساب البنك مثلا. ولا تنشر أي صور أو معلومة بهذا الحساب قد تؤدي للتعرف عليك. ●إذا كان الموقع الذي تدخله يدعم الوصلات الآمنة/المشفرة https, فاستخدمها دومًا و لا تستخدم الوصلات العادية http. الفيسبوك مثلا لا يدعم إلا الوصلات المشفرة. موقع dailymotion للفيديوهات يدعم الوصلتين: لاحظ كيف يبدأ عنوان الموقع بـhttps (الوصلة الآمنة). و لاحظ وجود القفل الأخضر, و هذا يعني أن الوصلة آمنة بالفعل. إذا ظهرت علامة القفل حمراء، أو عليها علامة X فإياك أن تواصل فتح الموقع، فإن أحدًا ما يقوم بالتنصت عليه! ●تصفح الإنترنت باستخدام متصفح أكثر مناعة ضد الخروقات الأمنية، مثل فايرفوكس وكروم، ولا تستخدم إنترنت إكسبلورر. ●لدرجات أعلى من الأمان, ستحتاج للدخول على الإنترنت باستخدام شبكات "تور Tor Network"، وهي شبكة مجانية لتعمية الاتصال بالإنترنت. ويمكن الدخول على هذه الشبكة من خلال الحاسب، أو جوال "أندرويد"، أو جوال "آي أو إس" iOS. ●الدخول على الإنترنت عبر الشبكات الافتراضية Virtual Private Networks/ VPN ، مثل خدمة Freedome , وهي خدمة غير مجانية، لكن هذه الشبكة - وأشباهها - مهمة في تأمين الاتصال بالإنترنت، ويمكن استخدامها مع Tor أو بدونها (هناك تفاصيل هنا كثيرة وميزة كل واحدة منها، لكن هذه التفصيلات خارج نطاق المقالة). ●في المحادثات الصوتية لا تستخدم شبكة الجوال لأن مراقبتها أسهل بكثير، بل استخدم برامج تتيح تشفير المكالمات مثل: Linphone أو Swisscom IO التي تعمل على أندرويد و iOS أو FaceTime على أجهزة آبل. ●في الدردشة النصية، لا تستعمل الرسائل القصيرة SMS لأن مراقبتها سهلة؛ بل استعن بالبرامج التي تتيح تشفير البيانات مثل Telegram أو Wickr الذي يحوي ميزة إضافية على مجرد التشفير وهي التدمير الذاتي للرسائل، أو iMessage لأجهزة آبل. ●لا تقم أبدًا بفتح روابط تأتيك عبر بريدك الإلكتروني، خاصة إذا لم تكن تعلم من أرسلها لك. إذا ظننت أن الرابط صحيح قم بالدخول على الموقع الذي يُفترض أن الرابط قد أتاك منه واطلع على الرسالة من داخل الموقع. هذه الروابط تأتي عادة من منظمات مثل البنوك وشركات البطاقات الائتمانية والمواقع الشهيرة التي تدير بها أموالك أو بياناتك الخاصة، وتصحبك إلى مواقع شبيهة جدًّا بالمواقع التي تألفها، والهدف طبعا هو سرقة بياناتك وأموالك بمجرد إدخالك اسمك وكلمة المرور! الروابط المنتشرة على الفيسبوك مثل "تعرف على من زار بروفايلك" وأشباهها، غالبًا تكون مصائد لاختراق الحسابات. ●كن حذرًا عند تحميل البرامج أو الملفات، وسل نفسك دائمًا: هل الموقع الذي تحمل منه الملف مشهور؟ هل جربه أحد قبلك ولم يُصب بسوء؟ وطبعا لا تقم بتحميل أي شيء يأتيك عبر رابط على البريد الإلكتروني، و يمكنك الاستعانة بموقعvirustotal.com المجاني لفحص الروابط والتأكد من أنها آمنة. ●اضبط جوالك على القفل Lock إذا لم يستخدم لوقت قصير، واجعل فتح الجوال يتطلب إدخال كلمة مرور. ●قم بتحديث نظام التشغيل والبرامج التي تستخدمها باستمرار. ●راجع الصلاحيات التي تتطلبها برامج الجوال، فمثلًا: لماذا يطلب تطبيق للأحوال الجوية صلاحية للوصول لصورك على الجوال؟ لا تقم بتنصيب مثل هذه البرامج. ●استخدم كلمة مرور قوية لكل موقع على حدة، ولا تستخدم نفس كلمة المرور في أكثر من موقع، وقم بتغييرها من حين لآخر. وهذا قد يعني أن عليك استخدام برنامج لإدارة كلمات المرور مثل LastPass . رابعًا: القدرة على التنصل إذا تم اعتقالك سياسيًّا وتمت مصادرة أجهزتك، ستفيدك النصائح التالية في عدم إيجاد ذرائع لإدانتك: ●لا تقم بحفظ أي مواد قد تدينك على حاسبك أو جوالك، مثل صور المظاهرات، فيديوهات مناهضة للحكم، كتب فكرية تدعو للثورة والحرية، رسائل نصية تحتوي على مواعيد مظاهرات… إلخ. ●إذا كنت محتفظًا بالفعل بأشياء مثل التي ذكرت في النصيحة السابقة، فقم بحذفها فورا باستخدام برامج مثل Eraser. هذه البرامج تجعل عملية استعادة الملفات المحذوفة صعبة جدًّا. ●لا تحتفظ بروابط لمواقع قد تدينك في قوائمك المفضلة Bookmarks/Favorites. ●إذا كنت تتصفح الإنترنت من غير الدخول على شبكة تور، فينبغي فتح المتصفح في وضع التصفح الخفي، وهذا يسمى في متصفح كروم بـ Incognito mode، وفي متصفح فايرفوكس وإنترنت إكسبلورر بـ Private mode. هذا الوضع لا يحتفظ بسجل المواقع التي زرتها أثناء التصفح. ويمسح كل نشاطك الذي قمت به فور إغلاق المتصفح. ●إذا كنت معتادًا على تصفح الإنترنت من غير وضع التصفح الخفي، فقم بحذف كل أنشطتك السابقة من إعدادات المتصفح. ●تأكد من تعطيل "خدمات الموقع الجغرافي" location services في جوالك قبل التقاط الصور؛ لأن الصور التي تلتقط من الجوال قد تحتوي على موقع التقاطها! 3.قم بتشفير حاسبك، أو الملفات الحساسة التي تحتفظ بها باستخدام خاصية BitLocker الموجودة في نظام التشغيل ويندوز، أو باستخدام برنامج خارجي مثل TrueCrypt أو VeraCrypt. الموقع الإلكتروني: https://klmtuhaq.blog حسابنا على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
مقال هكذا تتم مراقبتك! من مقالات العدد الأول لـ #مجلة_كلمة_حق.
لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1

كتب سامح السيد:
كانت قد تسربت أنباء أن الحكومة المصرية قد بدأت في تطبيق تقنيات متقدمة في مراقبة الإنترنت، تتيح لها التتبع وتحديد الأماكن وفحص البيانات… إلخ، بصورة واسعة النطاق. هذه التقنية ستتيح للحكومة المصرية مراقبة رسائل البريد الإلكتروني، والشبكات الاجتماعية (مثل فيسبوك و تويتر) وبرامج التراسل (مثل واتساب، وفايبر، وسكايب) لحظيًّا أثناء انتقال البيانات عبر الإنترنت.
الرقابة على الإنترنت قد تكون مفيدة في منع جرائم الاحتيال والقرصنة الإلكترونية؛ لكن الهدف من هذه الرقابة في مصر بالأساس هو لمراقبة أنشطة "الإسلاميين".
شركة "سي إيجيبت" See Egypt التي قدمت عرضًا بالتقنية للحكومة المصرية - ولم تفصح هل تم الموافقة على العرض أم لا - هي موزع للشركة الأمريكية بلو كوت Blue Coat، والتي بدورها أكدت أن شركة سي إيجيبت لم تقم ببيع أي من منتجات شركة (بلو كوت) للحكومة المصرية تتيح لها مراقبة الشبكات الاجتماعية.
سواء صحت التسريبات أم لا، فينبغي على العاقل أن يحمل أمر الأمان الرقمي على محمل الجد؛ فلن يكون هناك أي تفرقة بين الإسلاميين وغيرهم من المعارضين، خاصة وأن الحكومة المصرية تراقب الاتصالات بالفعل منذ زمن عن طريق خبراء متخصصين، ولكنها كانت مقصورة على تتبع أشخاص بأعينهم أو مجموعات بعينها. الجديد في الأمر أن التقنيات المطروحة تتيح لهم تتبع أي شخص أو مجموعة بسهولة أكثر. المشكلة أنك قد تصبح تحت المراقبة بمجرد أن تقوم بالإعجاب على منشور على الفيسبوك، أو إعادة نشر تغريدة على تويتر، حتى و لو لم تقم بأي نشاط مناهض للحكومة!

نصائح الأمن الرقمي
ترددت كثيرًا أثناء كتابة هذه المقالة، وإلى أي درجة من التفاصيل سأكتب، ثم استقر رأيي على كتابة النصائح الأساسية للمستخدم العادي غير المتخصص، والتي تمثل الحد الأدنى من الأمان الرقمي. وذيلت المقالة بمقالات وأدلة تفصيلية متوسعة تفيد الأشخاص الذين يمثل لهم الأمان الرقمي أهمية أكبر.
أولًا: نصائح عامة
1.أعط أهمية لمسألة خصوصيتك وأمنك بصفة عامة، وأمنك الرقمي بصفة خاصة، ولا تقل: ليس لدي ما أخفيه لأنك بذلك تهدر حقك في أن يكون لك خصوصية.
2.كقاعدة عامة، لا يوجد أمان كامل على الإنترنت، وليس هناك حل سحري لمشاكل الأمن الرقمي، إنما نأخذ بالأسباب ونسدد ونقارب. و في النهاية "لا يغني حذر من قدر"، ولأن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جُله، سنركز نصائحنا على ثلاثة محاور: عدم لفت الانتباه - تصعيب المراقبة - القدرة على التنصل.
ثانيًا: عدم لفت الانتباه
مهما سهلت التقنية على المراقبين، تظل مراقبة كل الناس عملية شاقة، وبالتالي يمكن للأجهزة الأمنية الاقتصار في عملية المراقبة على تتبع الأشخاص المشهورين ومن يتصل بهم، مراقبة مواقع مشهورة ومن يتردد عليها، مراقبة الاتصالات واصطياد كلمات معينة (سواء منطوقة أو مكتوبة). أو بعبارة أخرى: سيوفرون مجهوداتهم لمن يمثل خطورة عليهم أكثر، فإن فرغوا منهم التفتوا إلى من دونهم! وبالتالي فلنضع لأنفسنا هدفًا أن نتوه وسط هذا البحر من الناس، ولا نلفت الانتباه إلينا، والنصائح التالية تساعدنا في هذا الأمر إن شاء الله:
●اجعل من عاداتك عدم إشاعة المعلومات عنك أو عن غيرك إلا للضرورة، وليكن شعارك "المعرفة على قدر الحاجة".
●حاول تقليل الاعتماد على وسائل الاتصال في تعاملاتك قدر الإمكان، وليكن الاتصال المباشر - وجها لوجه - هو الوسيلة المفضلة لديك.
●لا تتردد على مواقع قد تراقبها الحكومة من غير تأمين الاتصال بالإنترنت (سيأتي مزيد تفصيل في الفقرة ثالثًا).
●الاتصالات عن طريق الجوال GSM أسهل في المراقبة من محادثات الإنترنت المشفرة.
●لا تثق بأحد! و احذر أن تُستدرج لأي عمل أو تفضي بأي معلومة إلا لشخص تعرفه جيدًا، وتعلم أن إطلاعه على هذه المعلومة مناسب، وهذا الاستدراج يعرف بالهندسة الاجتماعية. و من أمثلة ذلك أن يراسلك شخص للتوظف براتب أكبر بكثير جدًّا من وضع السوق. أو لمحاولة توريطك في عمل عدائي كما فعلت عناصر من شرطة كندا لتوريط مسلمين في أعمال إرهابية. وأساليب الاستدراج هذه مشهورة جدًّا في القبض على الشباب من قبل الأجهزة الأمنية.
●إذا كنت تجري مكالمة هامة، فلتكن وسط ضوضاء، ولا تصرح بأي معلومات مباشرة فيها. فهذا يصعب اصطياد الكلمات المفتاحية.
●اعمل على نشر برامج الاتصالات الآمنة، وثقافة الأمن الرقمي بين معارفك، فكلما زاد مستخدمو هذه البرامج زادت فرصة أن "تتوه" بينهم!
●لا تقبل صداقة من لا تعرفه على شبكات التواصل الاجتماعي، ولا تجعل كل منشوراتك عامة public؛ بل اقصرها على الأصدقاء فقط.
ثالثًا: تصعيب المراقبة
كما قلنا: المراقبة مهما كانت صعبة، ستظل ممكنة، ولكن الأمر يكمن في تصعيب الأمر على الأجهزة الأمنية، فيتحولون إلى لصيد أسهل! النصائح التالية تساعد في هذا الأمر:
●لا تستخدم عنوان بريدك email الشخصي أو عنوان بريد العمل؛ بل قم بعمل حساب مخصص للاستخدام في المهام أو المواقع التي ترغب في حفظ خصوصيتها، ولا تربط هذا الحساب باسمك الحقيقي أو برقم جوالك أو أي معلومة تدل على هويتك الحقيقية. ولا تستخدم هذا الحساب في أي موقع قد يؤدي للتعرف عليك، مثل حساب البنك مثلا. ولا تنشر أي صور أو معلومة بهذا الحساب قد تؤدي للتعرف عليك.
●إذا كان الموقع الذي تدخله يدعم الوصلات الآمنة/المشفرة https, فاستخدمها دومًا و لا تستخدم الوصلات العادية http. الفيسبوك مثلا لا يدعم إلا الوصلات المشفرة. موقع dailymotion للفيديوهات يدعم الوصلتين:

لاحظ كيف يبدأ عنوان الموقع بـhttps (الوصلة الآمنة). و لاحظ وجود القفل الأخضر, و هذا يعني أن الوصلة آمنة بالفعل. إذا ظهرت علامة القفل حمراء، أو عليها علامة X فإياك أن تواصل فتح الموقع، فإن أحدًا ما يقوم بالتنصت عليه!
●تصفح الإنترنت باستخدام متصفح أكثر مناعة ضد الخروقات الأمنية، مثل فايرفوكس وكروم، ولا تستخدم إنترنت إكسبلورر.
●لدرجات أعلى من الأمان, ستحتاج للدخول على الإنترنت باستخدام شبكات "تور Tor Network"، وهي شبكة مجانية لتعمية الاتصال بالإنترنت. ويمكن الدخول على هذه الشبكة من خلال الحاسب، أو جوال "أندرويد"، أو جوال "آي أو إس" iOS.
●الدخول على الإنترنت عبر الشبكات الافتراضية Virtual Private Networks/ VPN ، مثل خدمة Freedome , وهي خدمة غير مجانية، لكن هذه الشبكة - وأشباهها - مهمة في تأمين الاتصال بالإنترنت، ويمكن استخدامها مع Tor أو بدونها (هناك تفاصيل هنا كثيرة وميزة كل واحدة منها، لكن هذه التفصيلات خارج نطاق المقالة).
●في المحادثات الصوتية لا تستخدم شبكة الجوال لأن مراقبتها أسهل بكثير، بل استخدم برامج تتيح تشفير المكالمات مثل: Linphone أو Swisscom IO التي تعمل على أندرويد و iOS أو FaceTime على أجهزة آبل.
●في الدردشة النصية، لا تستعمل الرسائل القصيرة SMS لأن مراقبتها سهلة؛ بل استعن بالبرامج التي تتيح تشفير البيانات مثل Telegram أو Wickr الذي يحوي ميزة إضافية على مجرد التشفير وهي التدمير الذاتي للرسائل، أو iMessage لأجهزة آبل.
●لا تقم أبدًا بفتح روابط تأتيك عبر بريدك الإلكتروني، خاصة إذا لم تكن تعلم من أرسلها لك. إذا ظننت أن الرابط صحيح قم بالدخول على الموقع الذي يُفترض أن الرابط قد أتاك منه واطلع على الرسالة من داخل الموقع. هذه الروابط تأتي عادة من منظمات مثل البنوك وشركات البطاقات الائتمانية والمواقع الشهيرة التي تدير بها أموالك أو بياناتك الخاصة، وتصحبك إلى مواقع شبيهة جدًّا بالمواقع التي تألفها، والهدف طبعا هو سرقة بياناتك وأموالك بمجرد إدخالك اسمك وكلمة المرور! الروابط المنتشرة على الفيسبوك مثل "تعرف على من زار بروفايلك" وأشباهها، غالبًا تكون مصائد لاختراق الحسابات.
●كن حذرًا عند تحميل البرامج أو الملفات، وسل نفسك دائمًا: هل الموقع الذي تحمل منه الملف مشهور؟ هل جربه أحد قبلك ولم يُصب بسوء؟ وطبعا لا تقم بتحميل أي شيء يأتيك عبر رابط على البريد الإلكتروني، و يمكنك الاستعانة بموقعvirustotal.com المجاني لفحص الروابط والتأكد من أنها آمنة.
●اضبط جوالك على القفل Lock إذا لم يستخدم لوقت قصير، واجعل فتح الجوال يتطلب إدخال كلمة مرور.
●قم بتحديث نظام التشغيل والبرامج التي تستخدمها باستمرار.
●راجع الصلاحيات التي تتطلبها برامج الجوال، فمثلًا: لماذا يطلب تطبيق للأحوال الجوية صلاحية للوصول لصورك على الجوال؟ لا تقم بتنصيب مثل هذه البرامج.
●استخدم كلمة مرور قوية لكل موقع على حدة، ولا تستخدم نفس كلمة المرور في أكثر من موقع، وقم بتغييرها من حين لآخر. وهذا قد يعني أن عليك استخدام برنامج لإدارة كلمات المرور مثل LastPass .
رابعًا: القدرة على التنصل
إذا تم اعتقالك سياسيًّا وتمت مصادرة أجهزتك، ستفيدك النصائح التالية في عدم إيجاد ذرائع لإدانتك:
●لا تقم بحفظ أي مواد قد تدينك على حاسبك أو جوالك، مثل صور المظاهرات، فيديوهات مناهضة للحكم، كتب فكرية تدعو للثورة والحرية، رسائل نصية تحتوي على مواعيد مظاهرات… إلخ.
●إذا كنت محتفظًا بالفعل بأشياء مثل التي ذكرت في النصيحة السابقة، فقم بحذفها فورا باستخدام برامج مثل Eraser. هذه البرامج تجعل عملية استعادة الملفات المحذوفة صعبة جدًّا.
●لا تحتفظ بروابط لمواقع قد تدينك في قوائمك المفضلة Bookmarks/Favorites.
●إذا كنت تتصفح الإنترنت من غير الدخول على شبكة تور، فينبغي فتح المتصفح في وضع التصفح الخفي، وهذا يسمى في متصفح كروم بـ Incognito mode، وفي متصفح فايرفوكس وإنترنت إكسبلورر بـ Private mode. هذا الوضع لا يحتفظ بسجل المواقع التي زرتها أثناء التصفح. ويمسح كل نشاطك الذي قمت به فور إغلاق المتصفح.
●إذا كنت معتادًا على تصفح الإنترنت من غير وضع التصفح الخفي، فقم بحذف كل أنشطتك السابقة من إعدادات المتصفح.
●تأكد من تعطيل "خدمات الموقع الجغرافي" location services في جوالك قبل التقاط الصور؛ لأن الصور التي تلتقط من الجوال قد تحتوي على موقع التقاطها!
3.قم بتشفير حاسبك، أو الملفات الحساسة التي تحتفظ بها باستخدام خاصية BitLocker الموجودة في نظام التشغيل ويندوز، أو باستخدام برنامج خارجي مثل TrueCrypt أو VeraCrypt.

الموقع الإلكتروني:
https://klmtuhaq.blog/
حسابنا على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠٥‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١:٢٩ م‏
مقال (كي لا يكون ابنك خانعًا)، من مقالات العدد الأول لـ #مجلة_كلمة_حق. لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1 كتب @[100001229772628:2048:عبد الرحمن ضاحي]: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبةً لعمر بن الخطاب رضي الله وإجلالًا له، في حين ثبت عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، ولزم مكانه، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما لك لم تفر معهم؟ فقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: "لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقة فأوسع لك"(1). النفس السوية الشجاعة التي واجه بها ابن الزبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم تكن وليدة اللحظة، بل نتجت عن عملية غرس ورعاية لمعاني الكرامة وعدم الخنوع في شخص عبدالله بن الزبير، فأثمرت ذلك الموقف الشجاع، في حين قحطت بها نفوس أقرانه من الأطفال. وعلى تلك الثمرة المنشودة يجب أن نربي أبناءنا ونغرس فيهم تلك المعاني ليستعلي بنفسه على الدنايا والسفاسف ويطالب بحقه بلا وجل أو خوف، ويرفض الظلم أينما حل ويثور عليه، وتُبنى شخصيته على المبادئ والقيم، لا ترتبط بمصالح أو أعطيات، وتتمركز شخصيته مع الحق تدور معه حيث دار بوضوح وثبات. ولكي نخرج أمثال عبدالله بن الزبير علينا: أولًا: أن نبدأ في الغرس الإيماني المبكر، والعناية بمسألتي القضاء والقدر والرزق؛ لأن أغلب من يخنع يفعل ذلك لهذين السببين، فإما خائفًا على رزقه يخشى الفقر والتضييق، أو يظن أن الخنوع سيسلم به من قضاء الله المحتوم وستأتيه السلامة، ويدحض هذا كله تربية الابن على تلك الركيزتين عن طريق الشرح المبسط لآيات القرآن مثل أواخر سورة لقمان والذاريات، وأحاديث النبي المتعلقة بذلك أيضا مثل حديث: "يا غلام إني أعلمك كلمات…". لابن عباس لما كان رديفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يمكن إعطاؤه أمثلة عملية عن طريق المواقف المفتعلة المرتب لها سلفًا، أو سرد القصص التي تغرس تلك القيم والمبادئ في نفس الولد. فقصة سيدنا ابراهيم كل مواقفها تغرس قيمة التعلق بالله وعدم إلقاء كامل الاعتماد على الأسباب المادية ونسيان مسبب الأسباب، فشجاعته بمواجهة النمرود ومحاججته له، ومن قبلها مواجهة والده بالأدب والدماثة، ومواجهة قومه بالمنطق والعقل، وبناؤه لبيت الله، وتركه لزوجه وولده في الصحراء، وخروج بئر زمزم من أجلهم، وإلقاؤه في النار التي كانت بردًا وسلامًا عليه، كل تلك المواقف تبني في ذهن الولد جسور التعلق بالله وعدم الاتكال بالكامل على الأسباب المادية؛ مما يجعله شجاعًا مقدامًا لا يهاب مواجهة الظلم، ومدركًا أنه سائر في فلك قدره الذي قدره الله له. وكي نثبت تلك الركيزتين في مكانهما الصحيح في نفس الطفل، يجب أن يكون الغرس بشكل مبكر فتكون له مثل المناعة ضد أمراض الخنوع والجبن، فكما قال الأستاذ عدنان باحارث في كتابه (مسؤولية الأب المسلم) إن الطفل يتعلم في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصوره الآباء، وإن العادات يمكن اكتسابها بسهولة كلما كانت سنه أصغر، فإن 90% من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى. (وهذا أيضًا ما أكدته الدراسات والبحوث بأن الأساس الأول للضمير الإنساني خلال السنوات القليلة الأولى من عمر الطفل)(2). ثانيًا: فإن ضمان عدم الاستبداد داخل المجتمع يأتي من إصلاح الأفراد وتربيتهم على العزة والكرامة والثقة بالنفس؛ لأن الأسرة هي المُركب الأساسي للمجتمع، ومن مجموعها تتشكل الدول والمجتمعات، وهي صمام أمان العدل؛ لأن الثورة على الظالم وإنصاف المظلوم لا يأتي إلا من شخص مستقل الشخصية شجاع لا يخشى في الله لومة لائم، وممارسة الطغيان الأسري من صياح وضرب وقمع للآراء وسلب الثقة بالنفس، يحطم فضائل النفس، ويكرس فيها الصفات السلبية، مثل الجبن والخنوع، ويغرس فيها طباع العبيد! ومن الممكن أن نستعين بالكثير من الوسائل التي تغرس في نفوس أبنائنا تلك المحامد، مثل رواية القصص التي تتحدث عن الشجاعة والإقدام، ونصرة المظلوم، وانتصار الخير على الشر لهم، والابتعاد عن قصص الرعب والتخويف، وتعليمه استقلال الشخصية وإكسابه الثقة، من خلال الاعتماد على نفسه وإسناد المهام إليه، والتجاوز عن بعض أخطائه في طريق اعتماده على نفسه، بالإضافة إلى تعويده على الشجاعة الأدبية ومواجهة الناس بالتحدث، من خلال تكليفه أمام إخوانه أو أصدقائه بإلقاء كلمة أو إدارة جلسة، وإبداء الحرص له على سماع رأيه في المواضيع المختلفة، حتى لو قال كلامًا ليس معتبرًا، كما يجب أن يتحلى الآباء أنفسهم بالشجاعة وحسن التصرف في المواقف أمام أبنائهم؛ كي يقتدوا بهم؛ فإن المواقف العملية أبلغ كثيرًا من الكلام النظري كما قيل: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل). كما يجب التوضيح للولد أن الشجاعة ليست مرادفًا للتهور؛ لكي ينضبط عنده الميزان، ويحرص على سلامته، ولا يرمي نفسه في التهلكة بدعوى الشجاعة وعدم الخنوع. وكما أشرنا أن من الأمور المعينة أيضًا على تربية الولد على معاني الكرامة والعزة، الابتعاد عن الضرب والإهانة والصياح في كل صغيرة وكبيرة، فالأبناء يتفاوتون في طرق الإرشاد، منهم من يصلحه الهجر، ومنهم من يصلحه الزجر، ومنهم من يصلحه التلميح فقط، ومنهم من يصلحه الضرب وهم قليل، ولكن كما أنها وسائل للإصلاح فيجب أن تتأطر ضمن إطار الإصلاح دون خسائر بدنية أو نفسية، "فالعقوبة في سياق التربية أشبه (بالتحويلة) نخرج فيها عن الطريق لنعود إليه بعد انتهائها، وكلما كانت التحويلة أقصر وأنجح كان ذلك أفضل)(3). فيجب أن يلجأ الوالدان لتلك الوسائل بعد استنفاذ جميع الوسائل التأديبية الأخف منها، كما يجب في حالة اللجوء إليها ألا يعاقب الولد أمام إخوانه أو أمام أشخاص آخرين، كما يجب ألا يكون بشكل مُهين وينقص من قدر الولد ويسلب منه ثقته بنفسه، وكل ذلك يستطيع المربي فعله باستحضار أن هدفه تعديل السلوك وليس التشفي. الأمر الثالث الذي نود الإشارة إليه هو التربية الفكرية السليمة، وبمعنى أدق المحافظة على الفطرة السليمة التي تميز الظلم عن العدل، وتميز بين المروءة والخسة، والحفاظ على فطرة الطفل خاصة الذي يعيش في مجتمع يئن من الاستبداد؛ فـ"ليس أشد إفسادا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردًا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة"(4). وانتكاس الفطَر التي لا تنكر منكرًا ولا تعرف معروفًا هو نفسه سبب رئيس في استبداد الحكام. وبما أن الدول المسلمة تتعرض للاستبداد على مدى مئات السنين، فقد فسدت ويا للأسف فطر الكثير، وظهر ذلك جليًّا في ثورات الربيع العربي وما تبعها من انقلابات وثورات مضادة، فيجب على الوالدين تحصين الأولاد بالتربية الفكرية السلمية التي تحفظ عليهم نقاء فطرتهم، التي هي ميزان الحق لأي إنسان سوي، عن طريق النقاش في أمور الأمة وتوعية الطفل بشكل دائم بما يجري حوله من مجريات سياسية حول العالم بالطبع بما يتناسب مع سنه، لأن بذلك تتكون عنده أرضية فكرية صلبة يستطيع من خلالها اتخاذ القرار السليم الذي يميز به الظلم من العدل، ولست أنسى مقولة صديقي إن توعية والديه له بجرائم حسني مبارك ومشاهدته الدائمة معهم للأخبار ومتابعة فساده وفساد حاشيته =كانت لها فضل كبير عليه وقت الثورة حيث إن فطرته السلمية أرشدته فلم يتأثر بفتاوي الخنوع والورع البارد التي أثنت الناس عن الخروج محاولةً شرعنة الظلم والاستبداد. من الأشياء المعينة أيضًا على التربية الفكرية السلمية توعية الولد بتاريخ أمته وحضارته العظيمة التي ينتمي إليها، وتأصيل تاريخ العداوة بين الإسلام والكفر وتوضيح أصل الصراع له، ولست أنسى قصة صديقي أيضًا الذي حكى لي تأثير المجلات الإسلامية التي كان يحضرها والده في البيت عليه، وكانت تحوي مشاهد من مذابح البوسنة والهرسك عام 1995، وكيف أن تلك المشاهد أشعلت عنده جذوة الاهتمام بالعالم الإسلامي ومعرفة تاريخ الصراع، وهذا آخر يحكي عن تأثير قصص والده عن الأندلس وسقوطها وقراءته عن محاكم التفتيش التي أقامها الأسبان للمسلمين في الأندلس، وكيف أنها كانت حافزًا كبيرًا له لمعرفة تاريخ المسلمين وتأصيل مسألة العداء بين المسلمين وغيرهم من الأمم. وهذه التوعية تمنح الابن أو البنت أيضًا مناعة من الافتتان بالغرب، عندما يعرفون تاريخهم الدموي وحقيقة تقدمهم الذي قام على نهب ثروات الأمم الأخرى وإبادتها بأبشع الطرق، هذا التقدم المتجرد من الإنسانية مع الغير. وقد يهيأ للبعض أن أبناءه قد لا يستوعبون ذلك الكلام أو أنه يفوق مرحلتهم العمرية، وبالطبع التوجيه الذي أشرت إليه لم أقصد أن يكون قبل مرحلة إدراك العالم والدول، وإدراكه لمعاني الظلم والعدل لكي يستوعب تلك الأمور، بالإضافة أن لكل مرحلة عمرية أسلوبها في توصيل المعلومات كما أشرنا، فصاحب العشر سنين يختلف عن ابن الثانية عشر، مختلف عن ابن السابعة عشر، زد على ذلك أن لكل شخصية طرقًا مفضلة في توصيل المعلومة لها، وهذه مهمة الأبوين لأنهم أدرى بما يناسب أبناءهم، والدليل الأكبر على خطأ تقديرنا لعقول ومستوى استيعاب أولانا مفاجئتهم لنا بكثير من الأسئلة التي تربكنا وتجعلنا نوقن أن الولد أذكى مما نتوقع! ختاما يقول الله عز وجل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] قال أهل التأويل: "أي لا ترضوا بأعمالهم، أو لا تميلوا لهم فتمسكم النار". وهذا يوجب على كل مسلم رزقه الله الولد أن يربيه/ يربيها على قيم العزة وعدم الخنوع، وإنكار الظلم، للنجاة من النار؛ استجابة لأمر الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج3 ص407. (2) مقال للدكتورة ليلى كمال الدين على موقع gulfkids.com. (3) عبد الكريم بكار، القواعد العشر ص111. (4) في ظلال القرآن، سيد قطب، ج1 ص73. الموقع الإلكتروني: https://klmtuhaq.blog حسابنا على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
مقال (كي لا يكون ابنك خانعًا)، من مقالات العدد الأول لـ #مجلة_كلمة_حق.
لتحميل العدد كاملًا: http://wp.me/s8R1ax-1

كتب عبد الرحمن ضاحي:
مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبةً لعمر بن الخطاب رضي الله وإجلالًا له، في حين ثبت عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، ولزم مكانه، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما لك لم تفر معهم؟ فقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: "لم أجرم فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقة فأوسع لك"(1).
النفس السوية الشجاعة التي واجه بها ابن الزبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم تكن وليدة اللحظة، بل نتجت عن عملية غرس ورعاية لمعاني الكرامة وعدم الخنوع في شخص عبدالله بن الزبير، فأثمرت ذلك الموقف الشجاع، في حين قحطت بها نفوس أقرانه من الأطفال. وعلى تلك الثمرة المنشودة يجب أن نربي أبناءنا ونغرس فيهم تلك المعاني ليستعلي بنفسه على الدنايا والسفاسف ويطالب بحقه بلا وجل أو خوف، ويرفض الظلم أينما حل ويثور عليه، وتُبنى شخصيته على المبادئ والقيم، لا ترتبط بمصالح أو أعطيات، وتتمركز شخصيته مع الحق تدور معه حيث دار بوضوح وثبات. ولكي نخرج أمثال عبدالله بن الزبير علينا:
أولًا: أن نبدأ في الغرس الإيماني المبكر، والعناية بمسألتي القضاء والقدر والرزق؛ لأن أغلب من يخنع يفعل ذلك لهذين السببين، فإما خائفًا على رزقه يخشى الفقر والتضييق، أو يظن أن الخنوع سيسلم به من قضاء الله المحتوم وستأتيه السلامة، ويدحض هذا كله تربية الابن على تلك الركيزتين عن طريق الشرح المبسط لآيات القرآن مثل أواخر سورة لقمان والذاريات، وأحاديث النبي المتعلقة بذلك أيضا مثل حديث: "يا غلام إني أعلمك كلمات…". لابن عباس لما كان رديفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يمكن إعطاؤه أمثلة عملية عن طريق المواقف المفتعلة المرتب لها سلفًا، أو سرد القصص التي تغرس تلك القيم والمبادئ في نفس الولد.
فقصة سيدنا ابراهيم كل مواقفها تغرس قيمة التعلق بالله وعدم إلقاء كامل الاعتماد على الأسباب المادية ونسيان مسبب الأسباب، فشجاعته بمواجهة النمرود ومحاججته له، ومن قبلها مواجهة والده بالأدب والدماثة، ومواجهة قومه بالمنطق والعقل، وبناؤه لبيت الله، وتركه لزوجه وولده في الصحراء، وخروج بئر زمزم من أجلهم، وإلقاؤه في النار التي كانت بردًا وسلامًا عليه، كل تلك المواقف تبني في ذهن الولد جسور التعلق بالله وعدم الاتكال بالكامل على الأسباب المادية؛ مما يجعله شجاعًا مقدامًا لا يهاب مواجهة الظلم، ومدركًا أنه سائر في فلك قدره الذي قدره الله له.
وكي نثبت تلك الركيزتين في مكانهما الصحيح في نفس الطفل، يجب أن يكون الغرس بشكل مبكر فتكون له مثل المناعة ضد أمراض الخنوع والجبن، فكما قال الأستاذ عدنان باحارث في كتابه (مسؤولية الأب المسلم) إن الطفل يتعلم في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصوره الآباء، وإن العادات يمكن اكتسابها بسهولة كلما كانت سنه أصغر، فإن 90% من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى. (وهذا أيضًا ما أكدته الدراسات والبحوث بأن الأساس الأول للضمير الإنساني خلال السنوات القليلة الأولى من عمر الطفل)(2).
ثانيًا: فإن ضمان عدم الاستبداد داخل المجتمع يأتي من إصلاح الأفراد وتربيتهم على العزة والكرامة والثقة بالنفس؛ لأن الأسرة هي المُركب الأساسي للمجتمع، ومن مجموعها تتشكل الدول والمجتمعات، وهي صمام أمان العدل؛ لأن الثورة على الظالم وإنصاف المظلوم لا يأتي إلا من شخص مستقل الشخصية شجاع لا يخشى في الله لومة لائم، وممارسة الطغيان الأسري من صياح وضرب وقمع للآراء وسلب الثقة بالنفس، يحطم فضائل النفس، ويكرس فيها الصفات السلبية، مثل الجبن والخنوع، ويغرس فيها طباع العبيد!
ومن الممكن أن نستعين بالكثير من الوسائل التي تغرس في نفوس أبنائنا تلك المحامد، مثل رواية القصص التي تتحدث عن الشجاعة والإقدام، ونصرة المظلوم، وانتصار الخير على الشر لهم، والابتعاد عن قصص الرعب والتخويف، وتعليمه استقلال الشخصية وإكسابه الثقة، من خلال الاعتماد على نفسه وإسناد المهام إليه، والتجاوز عن بعض أخطائه في طريق اعتماده على نفسه، بالإضافة إلى تعويده على الشجاعة الأدبية ومواجهة الناس بالتحدث، من خلال تكليفه أمام إخوانه أو أصدقائه بإلقاء كلمة أو إدارة جلسة، وإبداء الحرص له على سماع رأيه في المواضيع المختلفة، حتى لو قال كلامًا ليس معتبرًا، كما يجب أن يتحلى الآباء أنفسهم بالشجاعة وحسن التصرف في المواقف أمام أبنائهم؛ كي يقتدوا بهم؛ فإن المواقف العملية أبلغ كثيرًا من الكلام النظري كما قيل: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل). كما يجب التوضيح للولد أن الشجاعة ليست مرادفًا للتهور؛ لكي ينضبط عنده الميزان، ويحرص على سلامته، ولا يرمي نفسه في التهلكة بدعوى الشجاعة وعدم الخنوع.
وكما أشرنا أن من الأمور المعينة أيضًا على تربية الولد على معاني الكرامة والعزة، الابتعاد عن الضرب والإهانة والصياح في كل صغيرة وكبيرة، فالأبناء يتفاوتون في طرق الإرشاد، منهم من يصلحه الهجر، ومنهم من يصلحه الزجر، ومنهم من يصلحه التلميح فقط، ومنهم من يصلحه الضرب وهم قليل، ولكن كما أنها وسائل للإصلاح فيجب أن تتأطر ضمن إطار الإصلاح دون خسائر بدنية أو نفسية، "فالعقوبة في سياق التربية أشبه (بالتحويلة) نخرج فيها عن الطريق لنعود إليه بعد انتهائها، وكلما كانت التحويلة أقصر وأنجح كان ذلك أفضل)(3). فيجب أن يلجأ الوالدان لتلك الوسائل بعد استنفاذ جميع الوسائل التأديبية الأخف منها، كما يجب في حالة اللجوء إليها ألا يعاقب الولد أمام إخوانه أو أمام أشخاص آخرين، كما يجب ألا يكون بشكل مُهين وينقص من قدر الولد ويسلب منه ثقته بنفسه، وكل ذلك يستطيع المربي فعله باستحضار أن هدفه تعديل السلوك وليس التشفي.
الأمر الثالث الذي نود الإشارة إليه هو التربية الفكرية السليمة، وبمعنى أدق المحافظة على الفطرة السليمة التي تميز الظلم عن العدل، وتميز بين المروءة والخسة، والحفاظ على فطرة الطفل خاصة الذي يعيش في مجتمع يئن من الاستبداد؛ فـ"ليس أشد إفسادا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردًا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة"(4).
وانتكاس الفطَر التي لا تنكر منكرًا ولا تعرف معروفًا هو نفسه سبب رئيس في استبداد الحكام.
وبما أن الدول المسلمة تتعرض للاستبداد على مدى مئات السنين، فقد فسدت ويا للأسف فطر الكثير، وظهر ذلك جليًّا في ثورات الربيع العربي وما تبعها من انقلابات وثورات مضادة، فيجب على الوالدين تحصين الأولاد بالتربية الفكرية السلمية التي تحفظ عليهم نقاء فطرتهم، التي هي ميزان الحق لأي إنسان سوي، عن طريق النقاش في أمور الأمة وتوعية الطفل بشكل دائم بما يجري حوله من مجريات سياسية حول العالم بالطبع بما يتناسب مع سنه، لأن بذلك تتكون عنده أرضية فكرية صلبة يستطيع من خلالها اتخاذ القرار السليم الذي يميز به الظلم من العدل، ولست أنسى مقولة صديقي إن توعية والديه له بجرائم حسني مبارك ومشاهدته الدائمة معهم للأخبار ومتابعة فساده وفساد حاشيته =كانت لها فضل كبير عليه وقت الثورة حيث إن فطرته السلمية أرشدته فلم يتأثر بفتاوي الخنوع والورع البارد التي أثنت الناس عن الخروج محاولةً شرعنة الظلم والاستبداد.
من الأشياء المعينة أيضًا على التربية الفكرية السلمية توعية الولد بتاريخ أمته وحضارته العظيمة التي ينتمي إليها، وتأصيل تاريخ العداوة بين الإسلام والكفر وتوضيح أصل الصراع له، ولست أنسى قصة صديقي أيضًا الذي حكى لي تأثير المجلات الإسلامية التي كان يحضرها والده في البيت عليه، وكانت تحوي مشاهد من مذابح البوسنة والهرسك عام 1995، وكيف أن تلك المشاهد أشعلت عنده جذوة الاهتمام بالعالم الإسلامي ومعرفة تاريخ الصراع، وهذا آخر يحكي عن تأثير قصص والده عن الأندلس وسقوطها وقراءته عن محاكم التفتيش التي أقامها الأسبان للمسلمين في الأندلس، وكيف أنها كانت حافزًا كبيرًا له لمعرفة تاريخ المسلمين وتأصيل مسألة العداء بين المسلمين وغيرهم من الأمم. وهذه التوعية تمنح الابن أو البنت أيضًا مناعة من الافتتان بالغرب، عندما يعرفون تاريخهم الدموي وحقيقة تقدمهم الذي قام على نهب ثروات الأمم الأخرى وإبادتها بأبشع الطرق، هذا التقدم المتجرد من الإنسانية مع الغير.
وقد يهيأ للبعض أن أبناءه قد لا يستوعبون ذلك الكلام أو أنه يفوق مرحلتهم العمرية، وبالطبع التوجيه الذي أشرت إليه لم أقصد أن يكون قبل مرحلة إدراك العالم والدول، وإدراكه لمعاني الظلم والعدل لكي يستوعب تلك الأمور، بالإضافة أن لكل مرحلة عمرية أسلوبها في توصيل المعلومات كما أشرنا، فصاحب العشر سنين يختلف عن ابن الثانية عشر، مختلف عن ابن السابعة عشر، زد على ذلك أن لكل شخصية طرقًا مفضلة في توصيل المعلومة لها، وهذه مهمة الأبوين لأنهم أدرى بما يناسب أبناءهم، والدليل الأكبر على خطأ تقديرنا لعقول ومستوى استيعاب أولانا مفاجئتهم لنا بكثير من الأسئلة التي تربكنا وتجعلنا نوقن أن الولد أذكى مما نتوقع!
ختاما يقول الله عز وجل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] قال أهل التأويل: "أي لا ترضوا بأعمالهم، أو لا تميلوا لهم فتمسكم النار". وهذا يوجب على كل مسلم رزقه الله الولد أن يربيه/ يربيها على قيم العزة وعدم الخنوع، وإنكار الظلم، للنجاة من النار؛ استجابة لأمر الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج3 ص407.
(2) مقال للدكتورة ليلى كمال الدين على موقع
gulfkids.com.
(3) عبد الكريم بكار، القواعد العشر ص111.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، ج1 ص73.

الموقع الإلكتروني:
https://klmtuhaq.blog/
حسابنا على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠٤‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١:١٥ م‏
قام ‏مجلة كلمة حق‏ بتحديث حالته.
كي تصلك المجلة فور صدورها كل مرة؛ انقر على الرابط التالي، وفي أسفل الصفحة سجل بريدك الإلكتروني.

https://klmtuhaq.blog/
‏٠٢‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١٠:٥٨ ص‏
تم النشر بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏ في ‏كُتاب مجلة كلمة حق‏.
‏٠٢‏/٠٨‏/٢٠١٧ ٧:٠٤ ص‏
تم النشر بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏ في ‏كُتاب مجلة كلمة حق‏.
‏٠١‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١:٣٥ م‏
العدد الأول من مجلة (كلمة حق) بسم الله الرحمن الرحيم. القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الأول من المجلة التي طال انتظارها، مجلة (كلمة حق)، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين. لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك. لتحميل العدد الأول اضغط على الرابط التالي: http://klmtuhaq.blog/2017/08/01/1 نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمتابعة #مجلة_كلمة_حق على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq
العدد الأول من مجلة (كلمة حق)
بسم الله الرحمن الرحيم.
القراء الأعزاء والجمهور الكريم، يسعدنا أن نقدم لكم العدد الأول من المجلة التي طال انتظارها، مجلة (كلمة حق)، والتي تجمع نخبة من الكتاب والمفكرين.
لا تنسَ أن تضغط (مشاركة) لتفيد غيرك.
لتحميل العدد الأول اضغط على الرابط التالي:
http://klmtuhaq.blog/2017/08/01/1
نرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة #مجلة_كلمة_حق على تويتر:
https://twitter.com/klmtuhaq
قناتنا على تيليجرام:
https://t.me/klmtuhaq
‏٠١‏/٠٨‏/٢٠١٧ ١١:٠٧ ص‏
نجح محمد عبدالسلام فرج في ربط معظم المجموعات الجهادية بمخططه المتمثل في اغتيال السادات والسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون؛ لبث بيان يدعو الشعب لتأييد الثورة الوليدة بالتزامن مع مظاهرات يقودها الجهاديون بالميادين الرئيسية. ولم ينجح من المخطط سوى اغتيال السادات في 6 أكتوبر1981، بينما حاول عناصر الجماعة الإسلامية السيطرة على مدينة أسيوط يوم 8 أكتوبر تمهيدًا للزحف منها على بقية المحافظات، ولكن نجحت قوات الصاعقة والشرطة في السيطرة على المدينة عقب اشتباكات دامية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من مقال "دور العسكريين في التيار الجهادي المصري"، @[100013771866578:2048:Ahmed Fared Mawlana]، اقرأوه كاملًا في العدد الأول من مجلة (كلمة حق). والتي تصدر غدًا إن شاء الله. #مجلة_كلمة_حق
‏٣١‏/٠٧‏/٢٠١٧ ٣:٥٤ م‏
لا تقم أبدًا بفتح روابط تأتيك عبر بريدك الإلكتروني، خاصة إذا لم تكن تعلم من أرسلها لك. إذا ظننت أن الرابط صحيح قم بالدخول على الموقع الذي يُفترض أن الرابط قد أتاك منه واطلع على الرسالة من داخل الموقع. هذه الروابط تأتي عادة من منظمات مثل البنوك وشركات البطاقات الائتمانية والمواقع الشهيرة التي تدير بها أموالك أو بياناتك الخاصة، وتصحبك إلى مواقع شبيهة جدًّا بالمواقع التي تألفها، والهدف طبعا هو سرقة بياناتك وأموالك بمجرد إدخالك اسمك وكلمة المرور! الروابط المنتشرة على الفيسبوك مثل «تعرف على من زار بروفايلك » وأشباهها، غالبًا تكون مصائد لاختراق الحسابات! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من مقال (هكذا تتم مراقبتك)، انتظروه في العدد الأول من مجلة (كلمة حق). #مجلة_كلمة_حق
‏٢٩‏/٠٧‏/٢٠١٧ ٢:١٥ م‏
وكانت معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط! مع شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية؛ حيث يستطيع فيها المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله يعرفه، والطريقة كالآتي: تهبط مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين، وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق السفن! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من مقال: (حاجة الثورات والمجاهدين إلى الابتكار) لـ @[520036614:2048:محمد إلهامي]. انتظروه في العدد الأول من مجلة (كلمة حق) في أول أغسطس القادم. #مجلة_كلمة_حق
‏٢٧‏/٠٧‏/٢٠١٧ ٧:٣٠ م‏
تم النشر بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏ في ‏كُتاب مجلة كلمة حق‏.
‏٢٧‏/٠٧‏/٢٠١٧ ٦:٢١ م‏
ترقبوا صدور مجلة (كلمة حق) ونخبة من الكُتاب المميزين. على صفحات مجلة (كلمة حق) ستقرأون لـ: 1- @[520036614:2048:محمد إلهامي] 2- @[100001347771646:2048:محمد وفيق زين العابدين] 3- @[534759622:2048:شعبان صوان] 4- @[100004449661967:2048:د.محمد فرحات] 5- د. أحمد الشرقاوي @[100002370332573:2048:Ahmed El Sharkawy] 6- @[1065146872:2048:أحمد بكر] 7- أحمد مولانا @[100013771866578:2048:Ahmed Fared Mawlana] 7- يسرا جلال @[100002075148501:2048:Usra Galal] 8- @[618980873:2048:عمرو عادل] 9- @[100001229772628:2048:عبد الرحمن ضاحي] 10- @[100002071337719:2048:نور عبد الرحمن] وغيرهم من الكُتاب الأفاضل.. انتظرونا في الأول من أغسطس القادم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموقع الإلكتروني: https://klmtuhaq.blog حسابنا على تويتر: https://twitter.com/klmtuhaq قناتنا على تيليجرام: https://t.me/klmtuhaq #مجلة_كلمة_حق
‏٢٣‏/٠٧‏/٢٠١٧ ٥:٤٩ ص‏
تمت إضافة ‏صورة جديدة‏ بواسطة ‏مجلة كلمة حق‏ في ‏كُتاب مجلة كلمة حق‏.
‏٢٣‏/٠٧‏/٢٠١٧ ١٢:٠٢ ص‏